|
المؤلف: أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي (المتوفى: 1307هـ)
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الناشر: المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر، صَيدَا - بَيروت
عام النشر: 1412 هـ - 1992 م
عدد الأجزاء: 15
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي، وضمن خدمة مقارنة التفاسير]
ولا أعلم لهذه التفاصيل دليلاً، لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله إلا ما رواه ابن جرير في تفسيره وتفرد بروايته فقال: حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس ابن مالك يسأله عن هذه الآية فكتب إليه يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة.
قال أنس: فارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل وأخافوا السبيل وأصابوا الفرج الحرام، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده لسرقته ورجله بإخافته، ومن قتل فاقتله ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه.
وهذا مع ما فيه من النكارة الشديدة لا يدرى كيف صحته، قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره لشيء من هذه التفاصيل التي ذكرناها ما لفظه: ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره إن صح سنده ثم ذكره.
(أن يقتّلوا) التفعيل للتكثير وهو هنا باعتبار المتعلق أي ويقتلوا واحداً بعد واحد.
(أو يصلّبوا) ظاهره أنهم يصلبون أحياء حتى يموتوا لأنه أحد الأنواع التي خير الله بينها، وقال قوم الصلب إنما يكون بعد القتل ولا يجوز أن يصلب قبل القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب ويجاب بأن هذه عقوبة شرعها الله سبحانه في كتابه لعباده.
(أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف) ظاهره قطع إحدى اليدين وإحدى الرجلين من خلاف سواء كانت المقطوعة من اليدين هي اليمنى أو اليسرى، وكذلك الرجلان، ولا يعتبر إلا أن يكون القطع من خلاف إما يمنى
(3/409)
اليدين وإما يسرى الرجلين أو يسرى اليدين مع يمنى الرجلين، وقيل المراد بهذا القطع اليد اليمنى والرجل اليسرى فقط.
(أو ينفوا من الأرض) اختلف المفسرون في معناه فقال السدي هو أن يطلب بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه الحد، أو يخرج من دار الإسلام هرباً، وهو محكي عن ابن عباس وأنس ومالك والحسن البصري والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري. حكاه الرماني في كتابه عنهم.
وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد ويطلبون لتقام عليهم الحدود، وبه قال الليث بن سعد، وروي عن مالك أنه ينفى من البلد الذي أحدث فيه إلى غيره ويحبس فيه كالزاني ورجحه ابن جرير والقرطبي، وقال الكوفيون نفيهم سجنهم، فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها.
والظاهر من الآية أنه يطرد من الأرض التي وقع منه فيها ما وقع من غير سجن ولا غيره، والنفي قد يقع بمعنى الإهلاك وليس هو مراداً هنا قال مكحول أن عمر بن الخطاب أول من حبس في السجون يعني من هذه الأمة وقال: احبسه حتى أعلم منه التوبة ولا أنفيه إلى بلد آخر فيؤذيهم، وقال الكرخي ينفوا من الأرض إلى مسافة قصر فما فوقها لأن المقصود من النفي الوحشة والبعد عن الأهل والوطن، فإذا عين الإمام جهة فليس للمنفي طلب غيرها ولا يتعين الحبس.
(ذلك) إشارة إلى ما سبق ذكره من الأحكام (لهم) أي للمحاربين (خزي في الدنيا) الخزي الذل والفضيحة (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) هذا الوعيد في حق الكفار الذين نزلت الآية فيهم، وأما المسلم فإنه إذا أقيم عليه الحد في الدنيا سقطت عنه عقوبة الآخرة.
(3/410)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
(3/411)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
(إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) استثنى الله سبحانه التائبين من عموم المعاقبين بالعقوبات السابقة، والظاهر عدم الفرق بين الدماء والأموال وبين غيرها من الذنوب الموجبة للعقاب المعينة المحدودة، فلا يطالب التائب قبل القدرة بشيء من ذلك، وعليه محمل الصحابة.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يسقط القصاص وسائر حقوق الآدميين بالتوبة قبل القدرة والحق الأول، وأما التوبة بعد القدرة فلا يسقط بها العقوبة المذكورة في الآية كما يدل عليه ذكر قيد (قبل أن تقدروا عليهم).
قال القرطبي: وأجمع أهل العلم على أن السلطان وليُّ من حارب، فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة فليس إلى طالب الدم من أمر المحاربة شيء ولا يجوز عفو ولي الدم (فاعلموا أن الله غفور رحيم) بهم، عبر بذلك دون: فلا تحدوهم ليفيد أنه لا يسقط عنه بتوبته إلا حدود الله دون حقوق الآدميين، قال السيوطي: كذا ظهر لي ولم أر من تعرض له والله أعلم انتهى أي من حيث فهمه من الآية وإن كان في نفسه ظاهراً.
أخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: نزلت في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه السبيل، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد أو حارب الله ورسوله.
وعنه عند ابن جرير والطبراني في الكبير فإن جاء تائباً فدخل في الإسلام قبل منه ولم يؤخذ بما سلف.
(3/411)
وأخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أن هذه الآية نزلت في الحرورية (1).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن نفراً من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلموا واجتووا المدينة فأمرهم - صلى الله عليه وسلم - أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طلبهم كافة فأتى بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا فأنزل الله (إنما جزاء الذين يحاربون الله) الآية.
وفي مسلم عن أنس إنما سمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة.
وعن الشعبي قال: " كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب فكلم رجالاً من قريش أن يستأمنوا له علياً فأبوا، فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى علياً فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ثم قال: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر، قال: وإن كان حارثة بن بدر، قال: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائباً فهو آمن، قال: نعم، قال: فجاء به إليه وقبل ذلك منه وكتب له أماناً ".
_________
(1) طائفة من الخوارج.
(3/412)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) أي خافوا الله بترك المنهيات (وابتغوا إليه) أي اطلبوا إليه لا إلى غيره (الوسيلة) فعيلة من توسلت إليه إذا تقربت إليه، فالوسيلة القربة التي ينبغي أن تطلب، وبه قال أبو وائل والحسن ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد وروي عن ابن عباس وعطاء وعبد الله بن كثير.
(3/412)
قال ابن كثير في تفسيره: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه، والوسيلة أيضاً درجة في الجنة مختصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة " (1).
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه عشراً ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت عليه الشفاعة " (2)، وفي الباب أحاديث.
والعطف على (يا أيها الذين) يفيد أن الوسيلة غير التقوى، وقيل هي التقوى لأنها ملاك الأمر وكل الخير فتكون الجملة الثانية على هذا مفسرة للجملة الأولى، والظاهر أن الوسيلة التي هي القربة تصدق على التقوى وعلى غيرها من خصال الخير التي يتقرب بها العباد إلى ربهم، وقيل معنى الوسيلة المحبة أي تحببوا إلى الله والأول أولى.
(وجاهدوا في سبيله) من لم يقبل دينه وقبل أعداءه البارزة والكامنة (لعلكم تفلحون) أي لكي تسعدوا بالخلود في جنته لأن الفلاح اسم جامع للخلاص من كل مكروه والفوز بكل محبوب.
_________
(1) الترمذي الباب 42 من كتاب الصلاة- النسائي الباب 28 من كتاب الأذان.
(2) مسلم 384.
(3/413)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
(إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض) كلام مبتدأ مسوق لزجر الكفار وترغيب المسلمين في امتثال أوامر الله سبحانه أي لو أن لهم ما في الأرض من أصناف أموالها وذخائرها ومنافعها قاطبة، وقيل المراد لكل واحد منهم ليكون أشد تهويلاً وإن كان الظاهر من ضمير الجمع خلاف ذلك (جميعاً) تأكيد (ومثله معه) أي أن الكافر لو ملك الدنيا ودنيا أخرى مثلها معها.
(ليفتدوا به) أي ليجعلوا كلاًّ منهما فدية لأنفسهم من العذاب، وأفرد الضمير إما لكونه راجعاً إلى المذكور أو لكونه بمنزلة اسم الإشارة أي ليفتدوا بذلك (من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم) ذلك الفداء (ولهم عذاب أليم) أي لا من سبيل ولا لهم الخلاص منه بوجه من الوجوه.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " يقول الله تبارك وتعالى لأهون أهل النار عذاباً لو كانت لك الدنيا كلها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أيسر من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي ولا أدخلك النار وأدخلك الجنة فأبيت إلا الشرك "، هذا لفظ مسلم (1).
وفي رواية البخاري: يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: لقد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك أن لا تشرك بي (2).
_________
(1) مسلم 2805.
(2) البخاري 1574.
(3/414)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
(يريدون أن يخرجوا من النار) هذا استئناف بياني كأنه قيل كيف حالهم فيما هم فيه من هذا العذاب الأليم فقيل يقصدون الخروج من النار ويطلبونه أو يتمنون (وما هم بخارجين منها) أي لا يستطيعون ذلك ومحلها النصب على الحال وقيل إنها جملة اعتراضية (ولهم عذاب مقيم) أي دائم ثابت لا يزول عنهم ولا ينتقل أبداً.
أخرج مسلم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى عليه وآله وسلم قال: " يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة " (1)، قال يزيد الفقير قلت لجابر: يقول الله يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها قال اتل أول الآية إن الذين كفروا الآية، ألا إنهم الذين كفروا.
وعن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس: تزعم أن قوماً يخرجون من النار وقد قال الله تعالى وما هم بخارجين منها فقال ابن عباس: ويحك اقرأ ما فوقها هذه للكفار، قال الزمخشري في الكشاف بعد ذكره: لهذا إنه مما لفّقته المجبّرة انتهى.
ويا لله العجب من رجل لا يفرق بين أصح الصحيح وبين أكذب الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يتعرض للكلام على ما لا يعرفه ولا يدري ما هو، وقد تواترت الأحاديث تواتراً لا يخفى على من له أدنى إلمام بعلم الرواية أن عصاة الموحدين يخرجون من النار، فمن أنكر هذا فليس بأهل المناظرة لأنه أنكر ما هو من ضروريات الشريعة.
_________
(1) البخاري الباب 51 من كتاب الرقاق- الترمذي الباب التاسع والعاشر من كتاب جهنم.
(3/415)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
(3/416)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
(والسارق والسارقة فاقطعوا) لما ذكر سبحانه حكم من يأخذ المال جهاراً وهو المحارب، عقبه بذكر من يأخذ المال خفية وهو السارق، وذكر السارقة مع السارق لزيادة البيان، لأن غالب القرآن الاقتصار على الرجال في تشريع الأحكام.
وقد اختلف أئمة النحو في خبر السارق والسارقة هل هو مقدر أم فاقطعوا، فذهب إلى الأول سيبويه وقال تقديره فيما فرض عليكم أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما، وذهب المبرد والزجاج إلى الثاني، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط.
والسرقة بكسر الراء اسم الشيء المسروق، والمصدر هو السرق من سرق يسرق سرقاً، قاله الجوهري: وهو أخذ الشيء في خفية من الأعين، ومنه استرق السمع وسارقه النظر، والقطع معناه الإبانة والإزالة، وقدم السارق هنا والزانية في آية الزنا لأن الرجال إلى السرقة أميل، والنساء إلى الزنا أميل.
(أيديهما) أي يمين كل منهما من الكوع، وجمع الأيدي لكراهة الجمع بين التثنيتين، وقيل لأنه أراد يميناً من هذا ويميناً من هذه، فجمع فإنه ليس للإنسان إلا يمين واحدة وكل شيء موحّد من أعضاء الإنسان إذا ذكر مضافاً إلى اثنين فصاعداً جمع، والمراد باليد هنا اليمين قاله الحسن والشعبي والسدي، وكذلك هو في قراءة ابن مسعود فاقطعوا أيمانهما، وقيل الجارحة وحدّها عند
(3/416)
جمهور أهل اللغة من رؤوس الأصابع إلى الكوع فيجب قطعها من الكوع.
وقد بينت السنة المطهرة أن موضع القطع الرسغ، قال قوم يقطع من المرافق، وقال الخوارج من المنكب، والسرقة لا بد أن تكون ربع دينار فصاعداً ولا بد أن تكون من حرز كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة، وقد ذهب إلى اعتبار الحرز وربع الدينار الجمهور، وذهب قوم إلى التقدير بعشرة دراهم، وقال الحسن البصري: إذا جمع الثياب في البيت قطع.
وقد أطال الكلام في بحث السرقة أئمة الفقه وشراح الحديث بما لا يأتي التطويل به هنا بكثير فائدة، وأوضحت البحث في ذلك في شرحي لكتاب بلوغ المرام.
(جزاء بما كسبا) أي ذلك القطع جزاء على فعلهم (نكالاً من الله) أي عقوبة منه، تقول نكلت به إذا فعلت به ما يجب أن ينكل به عن ذلك الفعل، وعن قتادة قال: لا ترثوا لهم فيه فإنه أمر الله الذي أمر به، قال وذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: اشتدوا على الفساق واجعلوهم يداً يداً ورجلاً رجلاً.
(والله عزيز) غالب في انتقامه ممن عصاه لا يعارض في حكمه (حكيم) فيما أوجبه من قطع يد السارق.
(3/417)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
(فمن تاب من بعد ظلمه) السياق يفيد أن المراد بالظلم هنا السرقة أي فمن تاب من بعد سرقته (وأصلح) أمره ولكن اللفظ عام فيشمل السارق وغيره من المذنبين، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (فإن الله يتوب عليه) أي يغفر له ويتجاوز عنه ويقبل توبته (إن الله غفور) لمن تاب (رحيم) يرحمه.
وقد استدل بهذا عطاء وجماعة على أن القطع يسقط بالتوبة، وليس هذا
(3/417)
الاستدلال بصحيح لأن هذه الجملة الشرطية لا تفيد إلا مجرد قبول التوبة وليس فيها ما يفيد أنه لا قطع على التائب، وقد كان في زمن النبوة يأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجب عليه حد تائباً عن الذنب الذي ارتكبه طالباً لتطهيره بالحد فيحده النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال للسارق بعد قطعه " تب إلى الله " ثم قال: تاب الله عليك (1) أخرجه الدارقطني من حديث أبي هريرة.
وأخرج أحمد وغيره أن هذه الآية نزلت في المرأة التي كانت تسرق المتاع لما قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد قطعها: هل لي توبة؟ وقد ورد في السنة المطهرة ما يدل على أن الحدود إذا رفعت إلى الأئمة وجبت وامتنع إسقاطها وإن عفا عنه قبل الرفع إلى الإمام سقط القطع، وعليه الشافعي.
_________
(1) الدارقطني عن أبي هريرة.
(3/418)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
(ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض) هذا الاستفهام للإنكار مع تقرير العلم وهو كالعنوان لقوله (يعذب من يشاء) أي من كان له ملك السموات والأرض فهو قادر على هذا التعذيب الموكول إلى المشيئة والمغفرة الموكولة إليها، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به جميع الناس، وقيل الخطاب لكل فرد من الناس (ويغفر لمن يشاء) وإنما قدم التعذيب على المغفرة لأنه في مقابلة السرقة المقدمة على التوبة.
وهذه الآية فاضحة للقدرية والمعتزلة في قولهم بوجوب الرحمة للمطيع والعذاب للعاصي، لأن الآية دالة على أن التعذيب والرحمة مفوضان إلى المشيئة والوجوب ينافي ذلك (والله على كل شيء قدير) لأن الخلق كلهم عبيده وفي ملكه.
(3/418)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
(يا أيها الرسول) هذا خطاب تشريف وتكريم وتعظيم، وقد خاطبه الله عز وجل بيا أيها النبي في مواضع من كتابه، وبيا أيها الرسول في موضعين هذا أحدهما والآخر قوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك).
(لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) أي لا تهتم ولا تبال بهم فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم، والحزن خلاف السرور، وحزن الرجل بالكسر فهو حزن وحزين وأحزنه غيره، قال اليزيدي حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرىء بهما.
وفي الآية النهي له صلى الله عليه وآله وسلم عن التأثر لمسارعة الكفرة في كفرهم تأثراً بليغاً على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني وقطع له من أصله، لأن الله سبحانه قد وعده في غير موطن بالنصر عليهم، والمسارعة إلى الشيء الوقوع فيه بسرعة، والمراد هنا وقوعهم في الكفر بسرعة عند وجود فرصة، وآثر لفظ (في) على لفظ إلى للدلالة على استقرارهم فيه، والمسارعون هم اليهود، قاله ابن عباس.
(من الذين قالوا) من بيانية والجملة مبيّنة للمسارعين في الكفر، وهؤلاء الذين قالوا (آمنا بأفواههم) بألسنتهم (ولم تؤمن قلوبهم) هم
(3/419)
المنافقون، قاله ابن عباس، والمعنى أن المسارعين في الكفر طائفة من المنافقين (ومن الذين هادوا) أي وطائفة من اليهود قال الزجاج الكلام تم عند قوله هذا ثم ابتدأ الكلام بقوله:
(سمَاعون للكذب) وهذا راجع إلى الفريقين أو إلى المسارعين، واللام في قوله للكذب للتقوية أو لتضمين السماع معنى القول، وقيل معناه من الذين هادوا قوم قائلون الكذب من رؤسائهم المحرفين للتوراة (سماعون) أي لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأجل الكذب عليه (لقوم آخرين) وجهوهم عيوناً وجواسيس لهم لأجل أن يبلّغوهم ما سمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الفراء: ويجوز سماعين كما قال ملعونين أينما ثقفوا، والحاصل أن هؤلاء القوم من اليهود لهم صفتان سماع الكذب من أحبارهم ونقله إلى عوامهم، وسماع الحق منك ونقله إلى أحبارهم ليحرفوه.
(لم يأتوك) صفة لقوم أي لم يحضروا مجلسك وهم طائفة من اليهود كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكبراً وتمرداً وقيل هم جماعة من المنافقين كانوا يتجنبون مجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(ويحرّفون الكلم) الذي في التوراة كآية الرجم أي يزيلونه ويميلونه أو يتأولونه على غير تأويله والمحرفون هم اليهود، قال القسطلاني في إرشاد الساري: وقد صرح كثير بأن اليهود والنصارى بدلوا ألفاظاً كثيرة من التوراة والإنجيل وأتوا بغيرها من قبل أنفسهم، وحرفوا أيضاً كثيراً من المعاني بتأويلها على غير الوجه.
ومنهم من قال أنهم بدلوهما كليهما، ومن ثَمَّ (1) قيل بامتهانهما، وفيه نظر
_________
(1) ثم بفتح الثاء أي هنا.
(3/420)
إذ الآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منهما أشياء كثيرة لم تبدل، منها آية الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، وقصة رجم اليهوديين،، وقيل التبديل وقع في اليسير منهما، وقيل وقع في المعاني لا في الألفاظ، وفيه نظر فقد وجد في الكتابين ما لا يجوز أن يكون بهذه الألفاظ من عند الله أصلاً، وقد نقل بعضهم الإجماع على أنه لا يجوز الاشتغال بالتوراة والإنجيل ولا كتابتهما ولا نظرهما.
وعند أحمد والبزار واللفظ له من حديث جابر قال: نسخ عمر كتاباً من التوراة بالعربية فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقرأ ووجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتغير فقال له رجل من الأنصار: ويحك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا اتباعي " (1)، وروي في ذلك أحاديث أخر كلها ضعيف لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلاً.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح، ومنه لخصت ما ذكرته: والذي يظهر أن كراهة ذلك للتنزيه لا للتحريم.
والأولى في هذه المسألة التفرقة بين من لم يتمكن ويصر من الراسخين في الإيمان فلا يجوز له النظر في شيء من ذلك بخلاف الراسخ فيه ولا سيما عند الاحتياج إلى الرد على المخالف، ويدل له نقل الأئمة قديماً وحديثاً من التوراة وإلزامهم التصديق بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يستخرجونه من كتابهم.
_________
(1) أحمد بن حنبل 2/ 228.
(3/421)
وأما الاستدلال للتحريم بما ورد من غضبه - صلى الله عليه وسلم - فمردود بأنه قد يغضب من فعل المكروه ومن فعل ما هو خلاف الأولى إذا صدر ممن لا يليق به ذلك كغضبه من تطويل معاذ الصلاة بالقراءة انتهى.
أقول وقد تقدم الكلام على هذه المسئلة في سورة النساء بأطول من ذلك، وقد قال جماعة من أهل المعرفة بالتحقيق بأن التحريف الواقع في التوراة معنوي لا لفظي وإليه ذهب حَبْر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس، والشيخ ولي الله المحدث الدهلوي في الفوز الكبير وغيرهما والله سبحانه أعلم.
(من بعد) كونه موضوعاً في (مواضعه) أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها من حيث لفظه أو من حيث معناه.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما تجدون في التوراة قالوا نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع فإذا آية الرجم، قالوا: صدق، فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما (1).
وقال الحسن في الآية: إنهم يغيرون ما يسمعون من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكذب عليه، والأول أولى، وقال ابن جرير الطبري يحرفون حكم الكلم فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين به وفيه بعد.
(يقولون إن أوتيتم هذا) الإشارة إلى الكلام المحرف أي قال يهود فدك ليهود المدينة إن أوتيتم من جهة محمد بهذا الكلام الذي حرفناه أي الجلد (فخذوه) وأعملوا به (وإن لم تؤتوه) بل جاءكم بغيره وأفتاكم بخلافه (فاحذروا) من قبوله والعمل به.
_________
(1) البخاري الباب 26 من كتاب المناقب والباب 37 من كتاب الحدود.
(3/422)
(ومن يرد الله فتنته) أي ضلالته (فلن تملك له من الله شيئاً) أي فلا تستطيع دفع ذلك عنه ولا تقدر على نفعه وهدايته، وهذه الجملة مستأنفة مقّررة لما قبلها وظاهرها العموم، ويدخل فيها هؤلاء الذين سياق الكلام معهم دخولاً أولياً.
(أولئك) الإشارة إلى ما تقدم ذكرهم من الذين قالوا آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد.
(الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم) أي لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق وخبث الضلالة كما طهر قلوب المؤمنين، والجملة استئناف مبين لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم وقبح صنيعهم الموجب لها لا واقعة منه تعالى ابتداء.
وفي هذه الآية دلالة على أن الله تعالى لم يرد إسلام الكافر وأنه لم يطهر قلبه من الشكل والشرك ولو فعل ذلك لآمن، وهذه الآية من أشد الآيات على القدرية.
(لهم في الدنيا خزي) بظهور نفاق المنافقين وبضرب الجزية على الكافرين وظهور تحريفهم وكتمهم لما أنزل الله في التوراة (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) يعني الخلود في النار.
(3/423)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
(3/424)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
(سمّاعون للكذب) كرره تأكيداً لقبحه وليكون كالمقدمة لما بعده وهو (أكّالون للسحت) وهو بضم السين وسكون الحاء المال الحرام وأصله الهلاك والشدة، من سحته إذا أهلكه، ومنه:
(فيسحتكم بعذاب) ويقال للحالق اسحت أي أستأصل وسمي الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويسأصلها، وقال الفراء أصله كلب الجوع، وقيل هو الرشوة والأول أولى، والرشوة تدخل في الحرام دخولاً أولياً.
وقد فسره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضى له حاجة أو حلوان الكاهن والتعميم أولى بالصواب. قال ابن عباس أخذوا الرشوة في الحكم وقضوا بالكذب، وعن ابن مسعود قال السحت الرشوة في الدين، وقال سفيان في الحكم وعن ابن عباس قال: رشوة الحكام حرام، وهي السحت الذي ذكر الله تعالى في كتابه.
وعن علي أنه سُئِلَ عن السحت فقال: الرشى، فقيل له في الحكم قال: ذلك الكفر، وعن عمر قال: بابان من السحت يأكلهما الناس الرشى في الحكم ومهر الزانية، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريم الرشوة ما هو معروف، وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم " (1)، أخرجه الترمذي وأخرجه أبو داود عن ابن عمرو بن العاص.
(فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فيه تخيير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الحكم بينهم والإعراض عنهم، وقد استدل به على أن حكام المسلمين مخيرون بين الأمرين، وقد أجمع العلماء على أنه محب على حكام المسلمين أن
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 4969.
(3/424)
يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم.
واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم فذهب قوم إلى التخيير، وبه قال الحسن والشعبي والنخعي والزهري، وبه قال أحمد، وذهب آخرون إلى الوجوب، وقالوا إن هذه الآية منسوخة بقوله: (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله) وبه قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز والسدي وهو الصحيح من قولي الشافعي، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء وليس في هذه السورة منسوخ إلا هذا وقوله: (ولا آمّين البيت) على ما سبق.
(و) معنى (إن تعرض عنهم) إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم (فلن يضروك شيئاً) أي إذا عادوك لإعراضك عنهم فإن الله يعصمك من الناس، ولا سبيل لهم عليك لأنه سبحانه حافظك وناصرك عليهم (وإن حكمت) أي اخترت الحكم بينهم (فاحكم بينهم بالقسط) أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك (إن الله يحب المقسطين) العادلين فيما ولوا وحكموا فيه.
وعند عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " أخرجه (1) مسلم.
_________
(1) مسلم 1827.
(3/425)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
(وكيف يحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله) فيه تعجيب للنبي - صلى الله عليه وسلم - من تحكيمهم إياه مع كونهم لا يؤمنون به ولا بما جاء به مع أن ما يحكّمونه فيه موجود عندهم في التوراة كالرجم ونحوه، وإنما يأتون إليه صلى الله عليه وآله وسلم ويحكمونه طمعاً منهم في أن يوافق تحريفهم وما صنعوه بالتوراة من التغيير.
(ثم يتولون من بعد ذلك) أي من بعد تحكيمهم لك وحكمك الموافق لما في كتابهم (وما أولئك بالمؤمنين) بك أو بكتابهم كما يدعون ويزعمون لإعراضهم عنه أولاً، وعما يوافقه ثانياً، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها.
(3/425)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
(إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) استئناف يتضمن تعظيم التوراة وتفخيم شأنها وأن فيها بيان الشرائع والتبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه.
(ويحكم بها النبيون) هم أنبياء بني إسرائيل، وبه تمسك من ذهب إلى أن شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم تنسخ والمراد بالنبيين الذين بعثوا بعد موسى، وذلك أن الله بعث فيهم ألوفاً من الأنبياء ليس معهم كتاب إنما بعثوا بإقامة التوراة وأحكامها وحمل الناس عليها والجملة إما مستانفة أو حالية.
(الذين أسلموا) صفة مادحة للنبيين، وفيه إرغام لليهود المعاصرين له صلى الله عليه وآله وسلم بأن أنبياءهم كانوا يدينون بدين الإسلام الذي دان به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ الجمع تعظيماً.
قال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين لله تعالى منقادين لأمره ونهيه والعمل بكتابه.
(للذين هادوا) متعلق بيحكم والمعنى أنه يحكم بها النبيون للذين هادوا، قال الزجاج جائز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير على معنى فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا، واللام إما لبيان
(3/426)
اختصاص الحكم بهم أعم من أن يكون لهم أو عليهم كأنه قيل لأجل الذين هادوا، وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضاً بإسقاط التبعة عنه وإما للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادهم له كأنه أمر نافع للفريقين، ففيه تعريض بالمحرفين وقيل للذين هادوا عليهم.
(والربانيون) العلماء الحكماء من ولد هرون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود، وقال الحسن الفقهاء، وقال مجاهد هم فوق الأحبار، وقال الحسن الربانيون العباد والزهاد، وعن ابن عباس قال الربانيون هم المؤمنون، والأحبار هم القراء، وقد سبق تفسيره في آل عمران.
(والأحبار) العلماء مأخوذ من التحبير وهو التحسين فهم يحبّرون العلم أي يحسنونه، قال الجوهري: الحبر واحد أحبار اليهود بالفتح والكسر، والكسر أفصح، وقال الفراء إنما هو بالكسر وقال أبو عبيدة هو بالفتح.
(بما استحفظوا من كتاب الله) الباء للسببية ومن للبيان والمعنى أمروا بالحفظ أي أمرهم الأنبياء بحفظ التوراة عن التغيير والتبديل وإليه نحا الزمخشري أي يحكمون بها بسبب هذا الاستحفاظ فهم خلفاء ونواب في ذلك.
(وكانوا عليه) أي على كتاب الله وأنه حق (شهداء) أي رقباء يحمونه عن التغيير والتبديل بهذه المراقبة.
(فلا تخشوا الناس) يا رؤساء اليهود فتكتموا ما أنزلت من نعت محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرجم وغيرهما (واخشون) في كتمان ذلك.
(ولا تشتروا) أي لا تستبدلوا (بآياتي ثمناً قليلاً) من الدنيا على أن تكتموا ما أنزلت، وقال ابن زيد لا تأكلوا السحت على كتابي يعني الرشوة وقد تقدم تحقيقه.
(ومن لم يحكم بما أنزل الله) لفظ " من " من صيغ العموم فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة بل لكل من ولي الحكم وهو الأولى وبه قال السدي،
(3/427)
وقيل إنها مختصة بأهل الكتاب وقيل بالكفار مطلقاً لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبيرة وبه قال ابن عباس وقتادة والضحاك وقيل في خصوص بني قريظة والنضير، وعن البراء بن عازب قال: أنزل الله هذه الآيات الثلاث في الكفار أخرجه مسلم.
وقال ابن مسعود والحسن والنخعي: هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود وفي هذه الأمة، فكل من ارتشى وحكم بغير حكم الله فقد كفر وظلم وفسق، وهو الأولى لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقيل هو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله وقع استخفافاً أو استحلالاً أو جحداً قاله أبو السعود.
والإشارة بقوله (فأولئك) إلى (من) والجمع باعتبار معناها وكذلك ضمير الجماعة في قوله: (هم الكافرون) ذكر الكفر هنا مناسب لأنه جاء عقب قوله: (ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً) وهذا كفر فناسب ذكر الكفر هنا قاله أبو حيان، قال ابن عباس: يقول مَنْ جحد الحكم بما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق.
وعنه قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، وإنه ليس كفر ينقل من الملة بل كفر دون كفر، وقال عطاء: هم الظالمون هم الفاسقون هم الكافرون، قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم وفسق دون فسق، وعن ابن عباس قال: نزلت في اليهود خاصة، وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف.
وعن حذيفة بسند صحيح أن هذه الآيات ذكرت عنده (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، والظالمون، والفاسقون) فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة، ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن طريقهم قد الشراك، وعن ابن عباس نحوه.
(3/428)
وأقول هذه الآية وإن نزلت في اليهود لكنها ليست مختصة بهم لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكلمة (من) وقعت في معرض الشرط فتكون للعموم، فهذه الآية الكريمة متناولة لكل من لم يحكم بما أنزل الله وهو الكتاب والسنة، والمقلد لا يدعي أنه حكم بقول العالم الفلاني وهو لا يدري هل ذلك الحكم الذي حكم به هو من محض رأيه أم من المسائل التي استدل عليها بالدليل، ثم لا يدري أهو أصاب في الاستدلال أم أخطأ، وهل أخذ بالدليل القوي أم الضعيف؟.
فانظر يا مسكين ماذا صنعت بنفسك فإنك لم يكن جهلك مقصوراً عليك بل جهلت على عباد الله، فأرقت الدماء وأقمت الحدود وهتكت الحرم بما لا تدري، فقبح الله الجهل بما أنزله ولا سيما إذا جعله صاحبه شرعاً وديناً له وللمسلمين فإنه طاغوت عند التحقيق، وإن ستر من التلبيس بستر رقيق.
فيا أيها المقلد أخبرنا أي القضاة أنت من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار " (1) أخرجه أبو داود وابن ماجة عن بريدة.
فبالله عليك هل قضيت بالحق وأنت تعلم أنه الحق؟ إن قلت نعم، فأنت وسائر أهل العلم يشهدون بأنك كاذب لأنك معترف بأنك لا تعلم ما الحق، وكذلك سائر الناس يحكمون عليك بهذا من غير فرق بين مجتهد ومقلد، وإن قلت بل قضيت بما قاله إمامي، ولا تدري أحق هو أم باطل كما هو شأن كل مقلد على وجه الأرض، فأنت بإقرارك هذا أحد رجلين إما قضيت بالحق ولا تعلم أنه الحق أو قضيت بغير الحق لأن ذلك الحكم الذي
_________
(1) أبو داود الباب الثاني من كتاب الأقضية.
(3/429)
حكمت به هو لا يخلو من أحد الأمرين إما أن يكون حقاً وإما أن يكون غير حق، وعلى كلا التقديرين فأنت من قضاة النار بنص الصادق المختار.
وهذا ما أظن يتردد فيه أحد من أهل الفهم لأمرين (أحدهما) أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل القضاة ثلاثة وبين صفة كل واحد منهم ببيان يفهمه المقصر والكامل، والعالم والجاهل (الثاني) أن المقلد لا يدعي أنه يعلم ما هو حق من كلام إمامه وما هو باطل، بل يقر على نفسه أنه يقبل قول الغير ولا يطالبه بحجة، وأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته، فأفاد هذا أنه حكم بشيء لا يدري ما هو، فإن وافق الحق فهو قضى بالحق ولا يدري أنه الحق، وإن لم يوافق الحق فهو قضى بغير الحق، وهذان هما القاضيان اللذان في النار، فالقاضي المقلد على كل حال يتقلب في نار جهنم كما قال قائل.
خذا بطن هرشي أوقفاها فإنما ... كلا جانبي هرشي لهن طريق (1)
وكما تقول العرب ليس في الشر خيار، ولقد خب وخسر من لا ينجو على كل حال من النار.
فيا أيها القاضي المقلد، ما الذي أوقعك في هذه الورطة وألجأك إلى هذه العهدة التي صرت فيها على كل حال من أهل النار إذا دمت على قضائك ولم تتب فإن أهل المعاصي والبطالة على اختلاف أنواعهم، هم أرجى لله منك وأخوف له لأنهم على عزم التوبة والإقلاع، ويلومون أنفسهم على ما فرط منها بخلاف هذا القاضي المسكين فإنه ربما دعا الله في خلواته وبعد صلواته أن يديم عليه تلك العهدة ويحرسها عن الزوال حتى لا يتمكنوا من فصله ولا يقدروا على عزله، وقد يبذل في استمراره على ذلك نفائس الأموال ويدفع الرشا والبراطيل لمن كان له في أمره مدخل، فيجمع بهذا الافتعال بين خسران
_________
(1) هرشي ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة يرى منها البحر ولها طريقان فكل من سلكها كان مصيباً إهـ تاج اللغات.
(3/430)
الدنيا والآخرة وتسمح نفسه بهما جميعاً في حصول ذلك القضاء فيشتري بهما النار ولا يخرج عن هذه الأوصاف إلا القليل النادر.
والآيات الكريمة في هذا المبنى والأحاديث الصحيحة في هذا المعنى كثيرة جداً، ولو لم تكن من الزواجر عن هذا إلا هذه الآية وهذا الحديث المتقدم لكفت، فالمقلد لا يصلح للقضاء وإنما يصح قضاء من كان مجتهداً متورعاً عن أموال الناس، عادلاً في القضية حاكماً بالسوية، ويحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه ولا يحل للإمام تولية من كان كذلك، ومن كان متأهلاً للقضاء فهو على خطر عظيم وله مع الإصابة أجران ومع الخطأ أجر إن لم يأل جهداً في البحث.
ويحرم عليه الرشوة والهدية التي أهديت إليه لأجل كونه قاضياً، ولا يجوز له الحكم حال الغضب، وعليه التسوية بين الخصمين إلا إذا كان أحدهما كافراً، والسماع منهما قبل القضاء وتسهيل الحجاب بحسب الإمكان، ويجوز له اتخاذ الأعوان مع الحاجة والشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح، وحكمه ينفذ ظاهراً فقط، فمن قضي له بشيء فلا يحل له إلا إذا كان الحكم مطابقاً للواقع، هذا ما ذكره الشوكاني في (القول المفيد) والمختصر المسمى (الدرر البهية).
فإن قلت إذا كان المقلد لا يصلح للقضاء ولا يحل له أن يتولى ذلك ولا لغيره أن يوليه، فما تقول في المفتي المقلد؟.
قال: إن كنت تسأل عن القيل والقال ومذاهب الرجال فالكلام في شروط المفتي وما يعتبر فيه مبسوط في كتب الأصول والفقه، وقد أوضحها الشوكاني في إرشاد الفحول ونيل الأوطار، والحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في أعلام الموقعين عن رب العالمين بما يشفي العليل، ويروي الغليل، فإن شئت الاطلاع والاستيفاء فارجع إلى هذه الكتب يتضح لك الحق من الباطل، والخطأ من الصواب ولا تكن من الممترين.
(3/431)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
(وكتبنا عليهم فيها أن النفس) تقتل (بالنفس) إذا قتلتها (والعين) تفقأ (بالعين) (والأنف) يجدع (بالأنف) (والأذن) تقطع (بالأذن) (والسن) تقلع (بالسن) معطوف على أنزلنا التوراة.
بيَّن الله سبحانه في هذه الآية ما فرضه على بني إسرائيل من القصاص في النفس والعين والأنف والأذن والسن والجروح، وقد استدل أبو حنيفة وجماعة من أهل العلم بهذه الآية فقالوا: إنه يقتل المسلم بالذمي لأنه نفس، وقال الشافعي وجماعة من أهل العلم: إن هذه الآية خبر عن شرع من قبلنا وليس بشرع لنا، وقد قدمنا في البقرة في شرح قوله تعالى: (كتب عليكم القصاص في القتل) ما فيه كفاية.
وقد اختلف أهل العلم في شرع من قبلنا هل يلزمنا أم لا فذهب الجمهور إلى أنه يلزمنا إذا لم ينسخ وهو الحق، وقد ذكر ابن الصباغ في الشامل إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه.
قال ابن كثير في تفسيره: وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة لعموم هذه الآية الكريمة انتهى، وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في هذا في شرحه على المنتقى.
وفي هذه الآية توبيخ لليهود وتقريع لكونهم يخالفون ما كتبه الله عليهم في التوراة كما حكاه هنا ويفاضلون بين الأنفس كما سبق بيانه، وقد كانوا
(3/432)
يقيدون (1) بني النضير من بني قريظة ولا يقيدون بني قريظة من بني النضير.
والظاهر من النظم القرآني أن العين إذا فقئت حتى لم يبق فيها مجال للإدراك أنها تفقأ عين الجاني بها، والأنف إذا جدعت جميعها فإنها تجدع أنف الجاني بها، والأذن إذا قطعت جميعها فإنها تقطع أذن الجاني بها، وكذلك السن.
فأما لو كانت الجناية ذهبت ببعض إدراك العين أو ببعض الأنف أو ببعض الأذن أو ببعض السن فليس في هذه الآية ما يدل على ثبوت القصاص.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك إذا كان معلوم القدر يمكن الوقوف على حقيقته وكلامهم مدون في كتب الفروع.
والظاهر من قوله: (والسن بالسن) أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب، والأضراس والرباعيات وأنه يؤخذ بعضها ببعض، ولا فضل لبعضها على بعض وإليه ذهب أكثر أهل العلم كما قال ابن المنذر، وخالف في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن تبعه كلامهم مدون في مواطنه، ولكنه ينبغي أن يكون المأخوذ في القصاص من الجاني هو المماثل للسن المأخوذة من المجني عليه، فإذا كانت ذاهبة فما يليها.
(والجروح) يشمل الأطراف (قصاص) أي ذوات قصاص فيما يمكن أن يقتص منه وإلا فحكومة عدل، وهذا تعميم بعد التخصيص، وقد ذكر أهل العلم أنه لا قصاص في الجروح التي يخاف منها التلف، ولا فيما كان لا يعرف مقداره عمقاً أو طولاً أو عرضاً.
_________
(1) أي إذا وقع اعتداء على بني النضير من بني قريظة -وكلاهما يهود- أخذوا القود -الدية- من بني قريظة، أما أذا وقع الاعتداء من بني النضير على بني قريظة فلا قود ولا دية.
(3/433)
وقد قدر أئمة الفقه أرش جراحة بمقادير معلومة، وليس هذا موضع بيان كلامهم، ولا موضع استيفاء بيان ما ورد له أرش مقدر، وفيه دليل على أن هذا الحكم كان شرعاً في التوراة فمن قال شرع من قبلنا يلزمنا إلا ما نسخ منه بالتفصيل قال هي حجة في شرعنا، ومن أنكره قال إنها ليست بحجة.
واختار الأول ابن الحاجب وهو الحق، وذهب الأشاعرة والمعتزلة إلى المنع من ذلك وهو اختيار الآمدي وقد أوضحنا هذا في كتابنا حصول الأمول.
(فمن تصدق) من المستحقين للقصاص (به) أي بالقصاص بأن عفا عن الجاني ولم يقتص منه (فهو كفارة له) أي للمتصدق يكفر الله عنه بها ذنوبه، وهذا قول ابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص والحسن.
ويدل له ما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " ما من مسلم يصاب بشيء في جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة " (1) وعن أنس: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو وأخرجه أبو داود والنسائي.
وقيل: إن المعنى فهو كفارة للجارح فلا يؤاخذ بجنايته في الآخرة، وبه قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل لأن العفو يقوم مقام أخذ الحق منه، والأول أرجح لأن الضمير يعود على هذا التفسير الآخر إلى غير مذكور.
قال الحافظ ابن القيم: والتحقيق أن القاتل يتعلق به ثلاثة حقوق، حق لله تعالى، وحق للمقتول، وحق للولي، فإذا أسلم القاتل نفسه طوعاً واختياراً
_________
(1) الترمذي الباب الخامس من كتاب الديات.
(3/434)
إلى الولي ندماً على ما فعل خوفاً من الله وتوبة نصوحاً سقط حق الله بالتوبة، وحق الأولياء بالاستيفاء أو الصلح أو العفو، وبقي حق للمقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب ويصلح بينه وبينه انتهى.
وأما لو سلّم القاتل نفسه اختياراً من غير ندم ولا توبة أو قتل كرهاً فيسقط حق الوارث فقط ويبقى حق الله تعالى لأنه لا يسقطه إلا التوبة كما علمت، ويبقى حق المقتول أيضاً لأنه لم يصل له شيء من القاتل ويطالبه به في الآخرة، ولا يقال يعوضه الله عنه مثل ما تقدم لأنه لم يسلم نفسه تائباً، تأمل قاله سليمان الجمل، وعبارة الرملي على المنهاج: وبالقود أو العفو أو أخذ الدية لا تبقى مطالبة أخروية.
(ومن لم يحكم بما أنزل الله) قيل نزلت هذه الآية حين اصطلحوا على أن لا يقتل الشريف بالوضيع ولا الرجل بالمرأة (فأولئك هم الظالمون) ضمير الفصل مع اسم الإشارة وتعريف الخبر يستفاد منها أن الظلم الصادر منهم ظلم عظيم بالغ إلى الغاية، وذكر الظلم هنا مناسب لأنه جاء عقب أشياء مخصوصة من أمر القتل والجرح فناسب ذكر الظلم المنافي للقصاص وعدم التسوية فيه.
وهذه الآية من الأدلة على اشتراط الاجتهاد فإنه لا يحكم بما أنزل الله إلا من عرف التنزيل والتأويل.
ومما يدل على ذلك حديث معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما بعثه إلى اليمن يعني قاضياً قال " أي امتحاناً له ": كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أجتهد رأيي ولا آلو -أي لا أقصر في الاجتهاد والتحري للصواب- قال أي الراوي.
فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله
(3/435)
- صلى الله عليه وسلم - لما يرضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (1)، رواه الترمذي وأبو داود والدارمي، وهو حديث مشهور قد بين الشوكاني رحمه الله طرقه ومن خرجه في بحث مستقل.
ومعلوم أن المقلد لا يعرف كتاباً " ولا سنة " ولا رأي له بل لا يدري بأن الحكم موجود في الكتاب والسنة فيقضي، أو ليس بموجود فيجتهد رأيه، فإذا ادعى المقلد أنه يحكم برأيه فهو يعلم أنه يكذب على نفسه لاعترافه بأنه لا يعرف كتاباً ولا سنة، فإذا زعم أنه حكم برأيه فقد أقر على نفسه بأنه حكم بالطاغوت.
وقد سئل القاضي الشوكاني هل الراجح جواز قضاء المقلد أم لا فأجاب بما لفظه:
" الأوامر القرآنية ليس فيها إلا أمر الحاكم بأن يحكم بالعدل والحق وما أنزل الله وما أراه الله، ومن المعلوم لكل عارف أنه لا يعرف هذه الأمور إلا من كان مجتهداً إذ المقلد إنما هو قابل قول الغير دون حجة، وليس الطريق إلى العلم بكون الشيء حقاً أو عدلاً إلا الحجة، والمقلد لا يعقل الحجة إذا جاءته فكيف يهتدي للاحتجاج بها، وهكذا لا علم عنده بما أنزل الله إنما عنده علم بقول من قلده، فلو فرض أنه يعلم بما أنزل الله وما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علماً صحيحاً لم يكن مقلداً بل هو مجتهد ".
وهكذا لا نظر للمقلد فإن حكم بشيء فهو لم يحكم بما أراه الله بل بما أراه إمامه ولا يدري أذلك القول الذي قاله إمامه موافق للحق أم مخالف له.
وبالجملة فالقاضي هو من يقضي بين المسلمين بما جاء عن الشارع كما جاء في حديث معاذ المتقدم، وهذا الحديث وإن كان فيه مقال فقد جمع طرقه
_________
(1) أبو داود الباب 11 من كتاب الأقضية- أحمد بن حنبل 5/ 220 - 226.
(3/436)
وشواهده الحافظ ابن كثير في جزء وقال: هو حديث حسن مشهور اعتمد عليه أئمة الإسلام، وقد أخرجه أيضاً أحمد وابن عدي والطبراني والبيهقي، ولأئمة الحديث فيه كلام طويل، والحق أنه من الحسن لغيره وهو معمول به.
وقد دل هذا الحديث على أنه يجب على القاضي أن يقدم القضاء بكتاب الله تعالى، ثم إذا لم يجد فيه قضى بسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إذا لم يجد فيها اجتهد رأيه.
والمقلد لا يتمكن من القضاء بما في كتاب الله سبحانه لأنه لا يعرف الاستدلال ولا كيفيته، ولا يمكنه القضاء بما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك، ولأنه لا يميز بين الصحيح والموضوع والضعيف المعلل بأي علّة، ولا يعرف الأسباب ولا يدري بالمتقدم والمتأخر، والعام والخاص والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ، بل لا يعرف مفاهيم هذه الألفاظ ولا يتعقل معانيها فضلاً عن أن يتمكن من أن يعرف اتصاف الدليل بشيء منها.
وبالجملة فالمقلد إذا قال: صح عندي فلا عند له، وإن قال: صح شرعاً فهو لا يدري ما هو الشرع، وغاية ما يمكنه أن يقول صح هذا من قول فلان وهو لا يدري هل هو صحيح في نفس الأمر أم لا، فهو لا ريب أحد قضاة النار لأنه إما أن يصادف حكمه الحق فهو حكم بالحق ولا يعلم أنه الحق، أو يحكم بالباطل وهو لا يعلم أنه باطل وكلا الرجلين في النار كما ورد بذلك النص من المختار.
وأما قاضي الجنة فهو الذي يحكم بالحق ويعلم أنه الحق ولا شك أن من يعلم بالحق فهو مجتهد لا مقلد، هذا يعرفه كل عارف.
فإن قال المقلد: إنه يعلم أن ما حكم به من قول إمامه حق لأن كل
(3/437)
مجتهد مصيب، نقول له هل أنت مقلد في هذه المسئلة أم مجتهد؟ فإن كنت مقلداً في هذه المسئلة فقد جعلت ما هو محل النزاع دليلاً لك وهو مصادرة باطلة، فإنك لا تعلم بأنها حق في نفسها فضلاً أن تعلم بزيادة على ذلك، وإن كنت مجتهداً فيها فكيف خفي عليك أن المراد بكون كل مجتهد مصيباً هو من الصواب، لا من الإصابة كما أقر بذلك القائلون بتصويب المجتهدين وجردوه في مؤلفاتهم المعروفة الموجودة بأيدي الناس.
وإذا كان ذلك من الصواب لا من الإصابة فلا يستفاد من المسألة ما تزعمه من كونه مذهب إمامك حقاً فإنه لا ينافي الخطأ، ولهذا صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد وأخطأ فله أجر واحد " (1)، أخرجه الشيخان عن أبي هريرة وابن عمرو.
وهذا لا يخفى إلا على أعمى، وإذا لم تتعقل الفرق بين الصواب والإصابة فاستر نفسك بالسكوت ودع عنك الكلام في المباحث العلمية، وتعلم ممن يعلم حتى تذوق حلاوة العلم، فهذا حاصل ما لدي في هذه المسألة وإن كانت طويلة الذيل والخلاف فيها مدون في الأصول والفروع، ولكن السائل لم يسأل عن أقوال الرجال إنما سأل عن تحقيق الحق انتهى بكلامه في إرشاد السائل إلى دليل السائل ".
وقد حققنا ذلك المقام في كتابنا (الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة) وكشفنا القناع عن وجه التقليد والإتباع فارجع إليه، وعوّل في معرفة الحق عليه، وبالله التوفيق وهو المستعان.
_________
(1) مسلم 1716.
(3/438)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
(3/439)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
(وقفّينا على آثارهم بعيسى ابن مريم) هذا شروع في بيان حكم الإنجيل بعد بيان حكم التوراة، أي جعلنا عيسى ابن مريم يقفو آثارهم أي آثار النبيين الذين أسلموا من بني إسرائيل أو آثار من كتب عليهم تلك الأحكام، والأول أظهر لقوله في موضع آخر.
(برسلنا) يقال قفيته مثل عقبته إذا اتبعته، ثم يقال قفيته بفلان وعقبته به فيتعدى إلى الثاني بالباء؛ والمفعول الأول محذوف استغناء عنه بالظرف وهو على آثارهم؛ لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه.
(مصدقاً لما بين يديه من التوراة) وهي حال مؤكد قاله ابن عطية (وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور) أي أن الإنجيل أوتيه عيسى حال كونه مشتملاً على الهدى من الجهالة والنور من عمى البصيرة.
(ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة) أي مصدقاً وهادياً وواعظاً (للمتقين) وهذا ليس بتكرار للأول لأن في الأول إخباراً بأن عيسى مصدق لما بين يديه من التوراة، وفي الثاني إخبار بأن الإنجيل مصدق للتوراة فظهر الفرق بينهما، وإنما خص المتقين بالذكر لأنهم الذين ينتفعون بالمواعظ.
(3/439)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
(وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) هذا أمر لأهل الإنجيل وهم النصارى بأن يحكموا بما في كتابهم وهو الإنجيل فإنه قبل البعثة المحمدية حق، وأما بعدها فقد أمروا في غير موضع بأن يعملوا بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -
(3/439)
في القرآن الناسخ لجميع الكتب المنزلة.
قرىء بنصب الفعل من (ليحكم) على أن اللام لام كي، ويجزمه على أن اللام للأمر، فعلى الأول تكون اللام متعلقة بقوله وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه، وعلى الثانية هو كلام مستأنف، قال مكي: والاختيار الجزم لأن الجماعة عليه، ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله تعالى لأهل الإنجيل، وقال النحاس: والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان لأن الله تعالى لم ينزل كتاباً إلا ليُعمل بما فيه.
(ومن لم يحكم بما أنزل الله) أي بما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا) ولقوله - صلى الله عليه وسلم - " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " (1)، رواه أبو داود والدارمي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب (فأولئك هم الفاسقون) الخارجون عن الطاعة، وذكر الفسق هنا مناسب لأنه خروج عن أمر الله إذ تقدمه قوله: (وليحكم أهل الإنجيل) وهو أمر، قاله أبو حيان.
وفي هذه الآية والآيتين المتقدمتين من الوعيد والتهديد ما لا يقادر قدره، وقد تقدم أن هذه الآيات وإن نزلت في أهل الكتاب فليست مختصة بهم بل هي عامة لكل من لم يحكم بما أنزل الله اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ويدخل فيه السبب دخولاً أولياً، وفيها دلالة على اشتراط الاجتهاد في القضية وإشارة إلى ترك الحكم بالتقليد.
فإن قلت إذا كان التخاصم ببلدة لا يوجد فيها مجتهد هل يجوز للخصمين الترافع إلى من بها من القضاة المقلدين؟.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 2640.
(3/440)
قلت: إذا كان يمكن وصولهما إلى قاض مجتهد لم يجز للمقلد أن يقضي بينهما بل يرشدهما إلى القاضي المجتهد أو يرفع القضية إليه ليحكم فيها بما أنزل الله أو بما أراه الله، فإن كان الوصول إلى القاضي المجتهد متعذراً أو متعسراً فلا بأس بأن يتولى ذلك القاضي المقلد فصل خصوماتهما لكن يجب عليه أن لا يدعي علم ما ليس من شأنه، فلا يقول صح أو لم يصح شرعاً بل يقول قال إمامه كذا ويعرف الخصمين أنه لم يحكم بينهما إلا بما قاله الإمام الفلاني.
في الحقيقة هو محكّم لا حاكم، وقد ثبت التحكيم في هذه الشريعة المطهرة كما جاء ذلك في القرآن الكريم في شأن الزوجين، وأنه يوكل الأمر إلى حكم من أهل الزوج وحكم من أهل المرأة وكما في قوله تعالى: (يحكم به ذوا عدل منكم) وكما وقع في زمن النبوة والصحابة في غير قضية ومن لم يجد ماء تيمم بالتراب، والعور خير من العمى.
ولا يغتر العاقل بما يزخرفه المقلدون ويموهون به على العامة من تعظيم شأن من يقلدونه ونشر فضائله ومناقبه، والموازنة بينه وبين من يبلغ رتبة الاجتهاد في عصر هؤلاء المقلدين، فإن هذا خروج عن محل النزاع ومغالطة قبيحة، وما أسرع نفاقها (1) عند العامة لأن أفهامهم قاصرة عن إدراك الحقائق والحق عندهم يعرف بالرجال، وللأموات في صدورهم جلالة وفخامة، وطباع المقلدين قريبة من طبائعهم، فهم إلى قبول أقوالهم أقرب منهم إلى قبول أقوال العلماء المجتهدين، لأن المجتهدين قد باينوا العامة وارتفعوا إلى رتبة تضيق أذهان العامة عن تصورها.
فإذا قال المقلد مثلاً: أنا أحكم بمذهب الشافعي وهو أعلم من هذا المجتهد المعاصر لي وأعرف بالحق منه، كان العامة إلى تصديق هذه المقالة
_________
(1) رواجها.
(3/441)
والإذعان لها أسرع من السيل المنحدر وتنفعل أذهانهم لذلك أكمل انفعال.
فإذا قال المجتهد مجيباً على ذلك المقلد: إن محل النزاع هو الموازنة بيني وبينك لا بيني وبين الشافعي، فإني أعرف العدل والحق وما أنزل الله وأجتهد رأيي إذا لم أجد في كتاب الله وسنة رسوله نصاً، وأنت لا تعرف شيئاً من ذلك ولا تقدر على أن تجتهد رأيك إذ لا رأي لك ولا اجتهاد لأن اجتهاد الرأي هو إرجاع الحكم إلى الكتاب والسنة بالمقايسة أو بعلاقة يسوغها الاجتهاد، وأنت لا تعرف كتاباً ولا سنة فضلاً أن تعرف كيفية الإرجاع إليهما بوجوه مقبولة، كان هذا الجواب الذي أجابه المجتهد مع كونه حقاً بحتاً، بعيداً عن أن يفهمه العامة أو تذعن لصاحبه.
ولهذا ترى في هذه الأزمان الغريبة الشأن ما ينقله المقلد عن إمامه أوقع في النفوس مما ينقله المجتهد من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإن جاء من ذلك بالكثير الطيب.
وقد رأينا وسمعنا ما لا يشك فيه أن من علامات القيامة على أن كثيراً من المقلدين قد ينقل في حكمه أو فتواه عن مقلد مثله قد صار تحت أطباق الثرى وإمامه منه براء فيجول ويصول وينسب ذلك إلى مذهب الإمام، وينسب من يأتي بما يخالفه من كتاب أو سنة إلا الابتداع ومخالفة المذهب ومباينة أهل العلم، وهو لو ارتفعت رتبته عن هذا الحضيض قليلاً لعلم أنه المخالف لإمامه لا الموافق له.
ومن كان بهذه المنزلة فهو صاحب الجهل المركب الذي لا يستحق أنه يخاطب، بل على كل صاحب علم أن يرفع نفسه عن مجادلته ويصون شأنه عن مقاولته إلا أن يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله، وبالله التوفيق.
(3/442)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
(وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب) خطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والكتاب القرآن والتعريف للعهد والتعريف في الكتاب الثاني للجنس أي أنزلنا إليك يا محمد القرآن حال كونه متلبساً بالحق، وحال كونه مصدقا لما بين يديه من كتب الله المنزّلة لكونه مشتملاً على الدعوة إلى الله والأمر بالخير والنهي عن الشر، كما اشتملت عليه.
وأما ما يتراءى من مخالفته في بعض جزئيات الأحكام المتغيرة بسبب تغير الأعصار، فليس بمخالفة في الحقيقة، بل هي موافقة لها من حيث أن كلاًّ من تلك الأحكام حق بالإضافة إلى عصره، متضمن للحكمة التي يدور عليها أمر الشريعة، وليس في المتقدم دلالة على أبدية أحكامه المنسوخة حتى يخالفه الناسخ المتأخر، وإنما يدل على مشروعيتها مطلقاً من غير تعرض لبقائها وزوالها بل نقول هو ناطق بزوالها لما أن النطق بصحة ما ينسخها نطق بنسخها وزوالها.
(ومهيمناً علي) الضمير عائد إلى الكتاب الذي صدقه القرآن وهيمن عليه، والمهيمن الرقيب، وقيل الغالب المرتفع، وقيل الشاهد، وقيل الحافظ، وقيل المؤتمن.
قال المبرد: أصله مؤيمن أبدل من الهمزة هاء كما قيل في أرقت الماء هرقت وبه قال الزجاج وأبو علي الفارسي،، قال الجوهري: هو من آمن غيره
(3/443)
من الخوف. وأصله أأمن فهو مأأمن، يقال هيمن على الشيء يهيمن إذا كان له حافظاً فهو له مهيمن، كذا عن أبي عبيد.
وقرأ مجاهد وابن محيصن مهيمناً بفتح الميم أي هيمن عليه الله سبحانه، والمعنى على قراءة الجمهور أن القرآن صار شاهداً بصحة الكتب المنزلة ومقرراً لا فيها مما لم ينسخ، وناسخاً لا خالفه منها، ورقيباً عليها وحافظاً لا فيها من أصول الشرائع، وغالباً لها لكونه المرجع في الحكم منها والمنسوخ، ومؤتمناً عليها لكونه مشتملاً على ما هو معمول به منها وما هو متروك.
(فاحكم بينهم) أي بين أهل الكتاب عند تحاكمهم إليك، وتقديم بينهم للاعتناء ببيان تعميم الحكم لهم (بما أنزل الله) أي بما أنزله إليك في القرآن لاشتماله على جميع ما شرعه الله لعباده في جميع الكتب السابقة عليه، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لتربية الهابة والإشعار بعلة الحكم.
(ولا تتبع أهواءهم) أي أهواء أهل الملل السابقة، وقال ابن عباس: لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن (عما جاءك من الحق) أي لا تعدل أو لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً لأهوائهم أو لا تتبع أهواءهم عادلاً أو منحرفاً عن الحق.
وفيه النهي له صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يتبع أهوية أهل الكتاب ويعدل عن الحق الذي أنزله الله عليه، فإن كل ملة من الملل تهوى أن يكون الأمر على ما هم عليه وما أدركوا عليه سلفهم وإن كان باطلاً منسوخاً أو محرفاً عن الحكم الذي أنزله الله على الأنبياء كما وقع في الرجم وغيره مما حرفوه من كتب الله، والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم لكن المراد به غيره لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتبع أهواءهم.
(لكل جعلنا منكم) الخطاب للأمم الثلاثة أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليهم أجمعين، أو للناس كافة لكن للموجودين خاصة بل للماضين أيضاً بطريق التغليب على وجه التلوين والالتفات.
(3/444)
(شرعة ومنهاجاً) الشرعة والشريعة في الأصل الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين، والمنهاج الطريقة الواضحة البينة، وقال محمد بن يزيد المبرد الشريعة ابتداء الطريق والمنهاج الطريق المستمر.
ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله، وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن، وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - قال ابن عباس في الآية: سنة وسبيلاً، وقال قتادة سبيلاً وسنة، وقد وردت آيات دالة على عدم التباين في طريقة الأنبياء وعلى حصول التباين بينهم، والجمع بينها أن الأولى في أصول الدين، والثانية في فروعه وما يتعلق بظاهر العبادات والله أعلم.
(ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) بشريعة واحدة وكتاب واحد ورسول واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل (ولكن ليبلوكم) أي ولكن لم يشأ ذلك الاتحاد بل شاء الابتلاء لكم باختلاف الشرائع فيكون ليبلوكم متعلقاً بمحذوف دل عليه سياق الكلام.
(فيما آتاكم) أي فيما أنزله عليكم من الشرائع المختلفة باختلاف الأوقات والرسل هل تعملون بذلك وتذعنون له أو تتركوه وتخالفون ما اقتضته مشيئة الله وحكمته، وتميلون إلى الهوى، وتشترون الضلالة بالهدى وفيه دليل على اختلاف الشرائع هو لهذه العلة، أعني الابتلاء والامتحان لا لكون مصالح العباد مختلفة باختلاف الأوقات والأشخاص.
(فاستبقوا الخيرات) أي إذا كانت المشيئة قد قضت باختلاف الشرائع فاستبقوا إلى فعل ما أمركم بفعله وترك ما أمركم بتركه أي فابتدروها انتهازاً للفرصة وحيازة لفضل السبق والتقدم، والاستباق المسارعة.
(إلى الله) لا إلى غيره (مرجعكم جميعاً) وهذه الجملة كالعلّة لما قبلها.
(فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) من أمر الدين والدنيا فيفصل بين المحق والمبطل والطائع والعاصي بالثواب والعقاب.
(3/445)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
(3/446)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
(وأن احكم بينهم بما أنزل الله) عطف على الكتاب أي أنزلنا عليك الكتاب والحكم بما فيه، وقد استدل بهذا على نسخ التخيير المتقدم في قوله: أو أعرض عنهم وقد تقدم تفسيره.
(ولا تتّبع أهواءهم) أي فيما أمروك به، وليس في هذه الآية تكرار لما تقدم وإنما أنزلت في حكمين مختلفين، أما الآية الأولى فنزلت في شأن رجم المحصن، وأن اليهود طلبوا منه أن يجلده، وهذه الآية نزلت في شأن الدماء والديات حين تحاكموا إليه في أمر قتيل كان بينهم.
(واحذرهم أن يفتنوك) أي يضلوك ويصرفوك بسبب أهوائهم التي يريدون منك أن تعمل عليها وتؤثرها (عن بعض ما أنزل الله إليك) ولو كان أقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق (فإن تولوا) أي إن أعرضوا عن قبول حكمك بما أنزل الله عليك وأرادوا غيره.
(فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم) بالعقوبة في الدنيا (ببعض ذنوبهم) وهو ذنب التولي عنك والإعراض عما جئت به، وإنما عبر بذلك إيذاناً بأن لهم ذنوباً كثيرة، هذا مع كمال عظمة واحد من جملتها، وفي هذا الإبهام تعظيم للتولي (وإن كثيراً من الناس لفاسقون) متمردون عن قبول الحق خارجون عن الإنصاف.
(3/446)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
(أفحكم الجاهلية يبغون) الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والمعنى أيعرضون عن حكمك بما أنزل الله عليك ويتولون عنه، ويبتغون حكم الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام، وأما أهل الجاهلية وحكمهم فهو ما كانوا عليه من المفاضلة بين القتلى من بني النضير وقريظة، قال ابن عباس: هو ما كانوا عليه من الضلال والجور في الأحكام وتحريفهم إياها عما أمر الله به.
والاستفهام في (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) للإنكار أيضاً أي لا يكون أحد حكمه أحسن من حكم الله أو مساوٍ له عند أهل اليقين لا عند أهل الجهل والاهواء، وان كان ظاهر السبك غير متعرض لنفي المساواة وإنكارها.
(3/447)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) الظاهر أنه خطاب عام يعم حكمه كافة المؤمنين حقيقة، وقيل المراد بهم المنافقون، ووصفهم بالإيمان باعتبار ما كانوا يظهرونه، وقد كانوا يوالون اليهود والنصارى فنهوا عن ذلك، والأولى أن يكون خطاباً لكل من يتصف بالإيمان أعم من أن يكون ظاهراً وباطناً أو ظاهراً فقط، فيدخل المسلم والمنافق.
ويؤيد هذا قوله: (فترى الذين في قلوبهم مرض) والاعتبار بعموم اللفظ قال ابن عباس أسلم عبد الله بن أبي بن سلول ثم قال: إن بيني وبين قريظة حلفاً وإني أخاف الدوائر فارتد كافراً، وقال عبادة بن الصامت: أبرأ إلى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله فنزلت، وبهذا يتضح المراد، والمراد من النهي عن اتخاذهم أولياء أن يعاملوا معاملة الأولياء في المصادقة والمعاشرة والمناصرة.
(بعضهم أولياء بعض) المعنى أن بعض اليهود أولياء للبعض الآخر منهم وبعض النصارى أولياء للبعض الآخر منهم، وليس المراد بالبعض إحدى طائفتي اليهود والنصارى، والبعض الآخر الطائفة الأخرى، للقطع بأنهم في غاية من والعداوة والشقاق، وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت
(3/447)
النصارى ليست اليهود على شيء.
وقيل المراد أن كل واحدة من الطائفتين توالي الأخرى وتعاضدها وتناصرها على عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعداوة ما جاء به وإن كانوا في ذات بينهم متعادين متضادين.
ووجه تعليل النهي بهذه الجملة أنها تقتضي أن هذه الموالاة هي شأن هؤلاء الكفار لا شأنكم فلا تفعلوا ما هو من فعلهم فتكونوا مثلهم، ولهذا عقب هذه الجملة التعليلية بما هو كالنتيجة لها فقال:
(ومن يتولهم منكم) أي ومن يتولى اليهود والنصارى دون المؤمنين (فإنه منهم) أي فإنه من جملتهم وفي عدادهم لأنه لا يوالي أحد أحداً إلا وهو عنه راض، فإذا رضي عنه رضي دينه فصار من أهل ملته، وهو وعيد شديد، فإن المعصية الموجبة للكفر هي التي قد بلغت إلى غاية ليس وراءها غاية.
قال أبو السعود: وفيه زجر شديد للمؤمنين عن إظهار صورة الموالاة لهم وإن لم تكن موالاة في الحقيقة انتهى، وهذا تعليم من الله تعالى وتشديد عظيم في مجانبة اليهود والنصارى وكل من خالف دين الإسلام وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(إن الله لا يهدي القوم الظالين) تعليل للجملة التي قبلها أي أن وقوعهم في الكفر هو بسبب عدم هدايته سبحانه لمن ظلم نفسه بما يوجب الكفر كمن يوالي الكافرين، قال حذيفة: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر وتلا هذه الآية.
وعن أبي موسى قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن لي كاتباً نصرانياً فقال: مالك وله قاتلك الله، ألا اتخذت حنيفاً يعني مسلماً، أما سمعت قول الله وتلا هذه الآية، قلت: له دينه ولي كتابته، فقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله، قلت: إنه لا يتم أمر البصرة إلا به فقال: مات النصراني والسلام، يعني هب أنه مات فما تصنع بعده فما تعمله بعد موته فاعمله الآن، واستغن عنه بغيره من المسلمين.
(3/448)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
(3/449)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
(فترى الذين في قلوبهم مرض) الفاء للسببية والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح له، أي ما ارتكبوه من الموالاة ووقعوا فيه من الكفر هو بسبب ما في قلوبهم من مرض النفاق والشك في الدين والرؤية إما قلبية أو بصرية.
وقرئ فيرى بالتحتية، واختلف في فاعله ما هو فقيل هو الله عز وجل وقيل هو كل من يصلح منه الرؤية وقيل هو الموصول أي فيرى القوم الذين (يسارعون فيهم) أي في مودة اليهود والنصارى وموالاتهم ومناصحتهم، لأنهم كانوا أهل ثروة ويسار يخالطونهم ويغشونهم لأجل ذلك نزلت في ابن أُبَيّ المنافق وأصحابه، وجعل المسارعة في موالاتهم مسارعة فيهم للمبالغة في بيان رغبتهم في ذلك حتى كأنهم مستقرون فيهم داخلون في عدادهم.
(يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) جملة مشتملة على تعليل المسارعة في الموالاة أي أن هذه الخشية هي الحاملة لهم على المسارعة، والدائرة ما يدور من مكابرة الدهر ودوائره كالدولة التي تزول، أي يقول المنافقون إنما نخالط اليهود لأنا نخشى أن يدور علينا الدهر بمكروه وهو الهزيمة في الحرب والقحط والجدب والحوادث المخوفة.
قال ابن عباس: نخشى أن لا يتم أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيدور علينا الأمر كما كان قبل محمد، يعني نخشى أن يظفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فتكون الدولة لهم وتبطل دولته فيصيبنا منهم مكروه، وفرّق الراغب بين الدائرة والدولة بأن الدائرة هي الخط المحيط ثم عبر بها عن
(3/449)
الحادثة، وإنما يقال الداءّة في المكروه، والدولة في المحبوب.
(فعسى الله أن يأتي بالفتح) رد عليهم ودفع لما وقع لهم من الخشية، وعسى في كلام الله سبحانه وعد صادق لا يتخلف، والفتح ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الكافرين، ومنه ما وقع من قتل مقاتلة بني قريظة وسبى ذراريهم وإجلاء بني النضير، وقيل هو فتح بلاد المشركين على المسلمين وقيل فتح مكة.
(أو أمر من عنده) هو كل ما تندفع به صولة اليهود ومن معهم وتنكسر به شوكتهم وقيل هو إظهار أمر المنافقين وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أسروا في أنفسهم، وأمره بقتلهم، وقيل هو الجزية التي جعلها الله عليهم وقيل الخصب والسعة للمسلمين.
(فيصبحوا) أي المنافقون (على ما أسرّوا في أنفسهم) من النفاق الحامل لهم على الموالاة (نادمين) على ذلك لبطلان الأسباب التي تخيلوها وانكشاف خلافها.
(3/450)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
(ويقول الذين آمنوا) كلام مبتدأ مسوق لبيان ما وقع من هذه الطائفة، أي يقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود ومشيرين إلى المنافقين وقت إظهار الله تعالى نفاقهم (أهؤلاء) الهمزة للاستفهام التعجبي (الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم) بالمناصرة والمعاضدة في القتال أو يقول بعض المؤمنين لبعض مشيرين إلى المنافقين، وهذه الجملة مفسرة للقول، وجهد الإيمان أغلظها.
(حبطت أعمالهم) أي بطلت، وهو من تمام قول المؤمنين، واستظهره أبو حيان وبه قال الزمخشري أو جملة مستأنفة والقائل هو الله سبحانه والأعمال هي التي عملوها في الموالاة أو كل عمل يعملونه، وعليه جمهور المفسرين (فأصبحوا خاسرين) في الدنيا بافتضاحهم، وفي الآخرة بإحباط ثواب أعمالهم وحصلوا بالعذاب الدائم المقيم.
(3/450)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
(3/451)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) هذا شروع في بيان أحكام المرتدين بعد بيان أن موالاة الكافرين من المسلم كفر، وذلك نوع من أنواع الردة، ذكر صاحب الكشاف أن إحدى عشرة فرقة من العرب ارتدت ثلاث في زمن رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - وهم بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار، وبنو حنيفة وهم قوم مسيلمة الكذاب، وبنو أسد وهم قوم طلحة بن خويلد.
وارتد سبع فرق في خلافة أبي بكر الصديق وهم فزارة قوم عيينه بن حصن الفزاري، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاة ابن عبد ياليل، وبنو يربوع قوم مالك بن بريدة وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر، وكندة قوم الأشعث بن قيس الكندي، وبنو بكر بن وائل قوم الخطمي ابن يزيد، فكفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق، وفرقة واحدة ارتدت في زمن خلافة عمر بن الخطاب وهم غسّان قوم جبلة بن الأيْهَم، فكفى الله أمرهم على يد عمر رضي الله عنه.
(فسوف يأتي الله بقوم) المراد بالقوم الذين وعد الله سبحانه بالإتيان بهم هم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجيشه من الصحابة والتابعين الذين قاتل بهم أهل الردة، ثم كل من جاء بعدهم من المقاتلين للمرتدين في جميع الزمن، قال بعض الصحابة ما ولد بعد النبيين أفضل من أبي بكر لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة.
ولما هَمَّ أبو بكر بقتالهم كره ذلك بعض الصحابة وقال بعضهم هم أهل
(3/451)
القبلة، فتقلّد أبو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بداً من الخروج على أثره، فقال ابن مسعود: كرهنا ذلك في الابتداء ثم حمدناه في الانتهاء.
وأخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال: تليت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - قومك يا أبا موسى أهل اليمن، وفي الباب روايات (1).
وأخرج البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول (فسوف يأتي الله بقوم) الآية فقال: هؤلاء قوم من أهل اليمن ثم كندة ثم السكون ثم تجيب (2).
وعن ابن عباس هم أهل القادسية، وقال السدي نزلت في الأنصار لأنهم هم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعانوه على إظهار الدين، والأول أولى.
ثم وصف الله سبحانه هؤلاء القوم بالأوصاف العظيمة المشتملة على غاية المدح ونهاية الثناء فقال: (يحبهم ويحبونه) من كونهم (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) وهذه من صفات الذين اصطفاهم الله يعني أنهم أرقاء رحماء لأهل دينهم، أشداء أقوياء غلظاء على أعدائهم، قاله علي، قال ابن عباس: تراهم كالولد لوالده وكالعبد لسيده، وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته.
قال ابن الأنباري: أثنى الله عليهم بأنهم يتواضعون للمؤمنين إذا لقوهم، ويعنفون الكافرين إذا لقوهم، ولم يرد ذل الهوان بل الشفقة والرحمة، وإنما أتى بلفظة (على) ليدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم، والأذلة جمع
_________
(1) ابن كثير 2/ 70.
(2) ابن كثير 2/ 70.
(3/452)
ذليل لا ذلول، والأعزة جمع عزيز أي يظهرون الحنوّ والعطف والتواضع للمؤمنين، ويظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين.
(يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) عذل عاذل في نصرهم الدين أي يجمعون بين المجاهدة في سبيل الله وعدم خوف الملامة في الدين، بل هم متصلبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان من الإزراء بأهل الدين وقلب محاسنهم مساوئ ومناقبهم مثالب حسداً وبغضاً وكراهة للحق وأهله.
والإشارة بقوله: (ذلك) إلى ما تقدم من الصفات التي اختصهم الله بها (فضل الله) أي لطفه وإحسانه (يؤتيه من يشاء والله واسع) الفضل وكثير الفضائل (عليم) بمن هو أهلها.
(3/453)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
(إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) عن ابن عباس قال: تصدّق عليّ بخاتم وهو راكع فأنزل الله فيه هذه الآية، وعن علي نحوه أخرجه أبو الشيخ وابن عساكر.
قلت: لما فرغ سبحانه من بيان من لا تحل موالاته بيَّن من هو الولي الذي تجب موالاته، والمراد بالركوع الخشوع والخضوع أي وهم خاشعون خاضعون لا يتكبرون، وقيل يضعون الزكاة في مواضعها غير متكبرين على الفقراء ولا مترفعين عليهم، وقيل المراد بالركوع على المعنى الثاني ركوع الصلاة، ويدفعه عدم جواز إخراج الزكاة في تلك الحال.
(3/453)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
(3/454)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
(ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا) قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار ومن يأتي بعدهم (فإن حزب الله) أي أنصار دينه (هم الغالبون) بالحجة والبرهان فإنها مستمرة أبداً لا بالدولة والصولة، وإلا فقد غلب حزب الله غير مرة حتى في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قاله الكرخي.
وعد الله سبحانه من يتولى الله ورسوله والذين آمنوا بأنهم الغالبون لعدوهم، والحزب الصنف من الناس من قولهم حزبه كذا أي نابه، فكأن المتحزبين مجتمعون كاجتماع أهل النائبة التي تنوب، وحزب الرجل أصحابه، والحزب الورد، وفي الحديث " فمن فاته حزبه من الليل " وتحزبوا اجتمعوا، والأحزاب الطوائف.
وقد وقع ولله الحمد ما وعد الله به أولياءه وأولياء رسله وأولياء عباده المؤمنين من الغلب لعدوهم فإنهم غلبوا اليهود بالسبي والقتل والإجلاء وضرب الجزية حتى صاروا لعنهم الله أذل الطوائف الكفرية وأقلها شوكة، وما زالوا تحت كلكل المؤمنين يطحنونهم كيف شاؤوا يمتهنونهم كما يريدون من بعد البعثة الشريفة المحمدية إلى هذه الغاية.
(3/454)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً) هذا
(3/454)
النهي عن موالاة المتخذين للدين هزواً ولعباً يعم كل من حصل منه ذلك من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع المنتمين إلى الإسلام.
والبيان بقوله: (من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) لا ينافي دخول غيرهم تحت النهي إذا وجدت فيه العلة المذكورة التي هي الباعثة على النهي (والكفار) المشركين أو المنافقين (أولياء) أي أنصاراً لكم في الدين والدنيا (واتقوا الله) بترك موالاتهم وترك ما نهاكم عنه من هذا وغيره (إن كنتم مؤمنين) فإن الإيمان يقتضي ذلك.
(3/455)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
(وإذا ناديتم إلى الصلاة) النداء الدعاء برفع الصوت، وناداه مناداة ونداء صاح به، وتنادوا أي نادى بعضهم بعضاً وتنادوا أي جلسوا في النادي.
(اتخذوها هزواً ولعباً) أي اتخذوا صلاتكم وقيل الضمير للمناداة المدلول عليها بناديتم.
قيل: وليس في كتاب الله تعالى ذكر الأذان إلا في هذا الموضع، وأما قوله تعالى في سورة الجمعة إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فهو خاص بنداء الجمعة، وقد اختلف أهل العلم في كون الأذان واجباً أو غير واجب، وفي ألفاظه هو مبسوط في مواطنه (ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) الباء للسببية لأن الهزو واللعب شأن أهل السفه والخفة والطيش.
(3/455)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
(قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا) أي تكرهون من أوصافنا وأحوالنا، قرأ الجمهور بكسر القاف وقرأ بفتحها، وهاتان مفرعتان على الماضي وفيه لغتان، الفصحى نقم بفتح القاف ينقم بكسرها حكاها ثعلب، والأخرى بعكس ذلك فيهما حكاها الكسائي، ولم يقرأ قوله: (وما نقموا) إلا بالفتح وأصل نقم أن يتعدى بعلى، يقال نقمت على الرجل أنقم بالكسر فيهما فأنا ناقم
(3/455)
إذا عتبت عليه، وإنما عُدّي هنا بمن لتضمنه معنى تكرهون وتنكرون.
في الصحاح ما نقمت منه إلا الإحسان، وقال الكسائي: نقمت بالكسر لغة، ونقمت الأمر أيضاً ونقمته إذا كرهته، وانتقم الله منه أي عاقبه، والاسم منه النقمة والجمع نقمات ونقم مثل كلمة وكلمات وكلم، وإن شئت سكّنت القاف ونقلت حركتها إلى النون فقلت نقمة والجمع نقم مثل نعمة ونعم، وقيل المعنى تسخطون وقيل تنكرون أي هل تعيبون أو تسخطون أو تنكرون أو تكرهون منا.
(إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل) أي إلا ايماننا بالله وبكتبه المنزّلة وقد علمتم بأنّا على الحق، وهذا على سبيل التعجب من فعل أهل الكتاب، والاستثناء مفرغ أي ليس هذا مما ينكر أو ينقم به.
(وإن أكثركم فاسقون) بترككم للإيمان، والخروج عن امتثال أوامر الله أي ما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمردكم وخروجكم عن الإيمان.
وفيه أن المؤمنين لم يجمعوا بين الأمرين المذكورين، فإن الإيمان من جهتهم، والتمرد والخروج من الناقمين، وقيل هو على تقدير محذوف أي واعتقادنا أن أكثركم فاسقون وقيل غير ذلك.
(3/456)
خاتمة الجزء الثالث
تم الجزء الثالث بفضل الله ونعمته ويليه الجزء الرابع وأوله تفسير آيه 60 من سورة المائدة وتبدأ بقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
(3/457)
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري 1248 - 1307 هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الرابع
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
(4/1)
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
1412 هـ - 1992 م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب 8355 - تلكس LE 20437 SCS
صَيدَا - صَ. ب 221 - تلكس LE 29198
(4/2)
فتح البيان في مقاصد القرآن
(4/3)
الجزء الرابع
بسم الله الرحمن الرحيم
يبدأ من قوله تعالى سورة المائدة آية 60.
إلى قوله تعالى:
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) سورة الأعراف: 141
(4/5)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
(4/7)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
(قل هل أنبئكم بشر من ذلك) بين الله سبحانه لرسوله أن فيهم من العيب ما هو أولى بالتعييب وهو ما هم عليه من الكفر الموجب للعن الله وغضبه ومسخه، والمعنى هل أنبئكم أيها اليهود بشر من نقمكم علينا أو بشر مما تريدون بنا من المكروه أو بشر من أهل الكتاب أو بشر من دينهم.
(مثوبة عند الله) أي جزاء ثابتاً وهي مختصة بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر، ووضعت هنا موضع العقوبة على طريقة (فبشرهم بعذاب أليم) وهي منصوبة على التمييز من بشر (من لعنه الله) أي هو لعن من لعنه الله أو هو دين من لعنه الله (وغضب عليه) أي: انتقم منه لأن الغضب إرادة الإنتقام من العصاة.
(وجعل منهم القردة والخنازير) أي مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير وهم اليهود فإن الله مسخ أصحاب السبت قردة، وكفار مائدة عيسى منهم خنازير (1)، وقال ابن عباس إن الممسوخين كلاهما أصحاب السبت فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير (وعبد الطاغوت) أي: جعل منهم عبد الطاغوت بإضافة عبد إلى الطاغوت، والمعنى وجعل منهم من يبالغ في عبادة الطاغوت، لأن فعل من صيغ البالغة كحذر وفطن للتبليغ في الحذر والفطنة، وقرئ على أن عبد فعل ماض معطوف على غضب ولعن كأنه
_________
(1) رواه مسلم 4/ 2051 وأحمد 5/ 260.
(4/7)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
(والله أعلم بما كانوا يكتمون) عنك من الكفر والنفاق، وفيه وعيد شديد وهؤلاء هما المنافقون وقيل: هم اليهود الذين قالوا (آمنوا بالّذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخرهُ).
(4/8)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
(وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم) الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصلح له، والضمير في (منهم) عائد إلى المنافقين أو اليهود أو إلى الطائفتين جميعاً، وجملة يسارعون في محل النصب على الحال على أن الرؤية بصرية أو هو مفعول ثان لترى على أنها قلبية، والمسارعة في الشيء المبادرة إليه والإثم الكذب أو الشرك أو الحرام.
(والعدوان) هو الظلم المتعدي إلى الغير أو مجاوزة الحد في الذنوب (وأكلهم السّحت) هو الحرام، فعلى قول من فسر الإثم بالحرام يكون تكريره للمبالغة (لبئس ما كانوا يعملون) من المسارعة إلى الإثم والعدوان وأكل السحت وهو الرشا وما كانوا يأكلونه من غير وجهه.
(4/8)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
(لولا) أي هلا، وهي هنا للتحضيض والتوبيخ لعلمائهم وعمادهم عن تركهم النهي عن المنكر (ينهاهم الربانيون والأحبار) قال الحسن: الربانيون علماء النصارى والأحبار علماء اليهود وقيل: الكل من اليهود لأن هذه الآيات فيهم (عن قولهم الإثم) يعني الكذب (وأكلهم السحت) أي: الرشا والحرام (لبئس ما كانوا يصنعون) أي: الأحبار والرهبان إذا لم ينهوا غيرهم عن المعاصي.
وهذا فيه زيادة على قوله (لبئس ما كانوا يعملون) لأن العمل لا يبلغ درجة الصنع حتى يتدرب فيه صاحبه، ولهذا تقول العرب سيف صنيع إذا جوّد عامله عمله فالصنع هو العمل الجيد لا مطلق العمل، فوبخ سبحانه الخاصة وهم العلماء التاركون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما هو أغلظ وأشد من توبيخ فاعلي المعاصي.
(4/8)
قيل: ومن عبد الطاغوت أو معطوف على القردة والخنازير أي وجعل منهم عبد الطاغوت حملاً على لفظ من.
وقرأ ابن مسعود عبدوا الطاغوت حملاً على معناها، وقرأ ابن عباس عبد كأنه جمع عبد كما يقال سقف وسقف، ويجوز أن يكون جمع عبيد كرغيف ورغف أو جمع عابد كبازل وبزل، وقرئ عبّاد جمع عابد للمبالغة كعامل وعمال، وقرئ عُبِد على البناء للمفعول، والتقدير: وعبد الطاغوت فيهم، وقرئ عابد الطاغوت على التوحيد، وقريء عبدة وأعبد الطاغوت مثل كلب وأكلب، وقرئ وعبد عطفاً على الموصول، وهي قراءة ضعيفة جداً.
وجملة القراآت في هذه الآية أربع وعشرون منها اثنتان سبعيتان والباقية شاذة ذكرها السمين، والطاغوت: الشيطان أو الكهنة أو العجل أو الأحبار أو غيرها مما تقدم مستوفى، وجملته: أن كل من أطاع أحداً في معصية الله فقد عبده وهو الطاغوت.
(أولئك) أي الموصوفون بالصفات المتقدمة و (شر) هنا على بابه من التفضيل، والمفضل عليه فيه احتمالان (أحدهما) أنهم المؤمنون (والثاني) أنهم طائفة من الكفار.
و (مكاناً) تمييز لأن مأواهم النار وجعلت الشّرارة للمكان وهي لأهله للمبالغة، ويجوز أن يكون الإسناد مجازياً (وأضل عن سواء السبيل) أي: هم أضل من غيرهم عن الطريق المستقيم، قيل: التفضيل في الموضعين للزيادة مطلقاً أو لكونهم أشر وأضل ممن يشاركهم في أصل الشرارة والضلال.
(وإذا جاءوكم) أي منافقو اليهود (قالوا آمنا) أي: أظهروا الإسلام (وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به) جملتان حاليتان أي: جاءوكم حال كونهم قد دخلوا عندك متلبسين بالكفر وخرجوا من عندك متلبسين به، لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك بل خرجوا كما دخلوا.
(4/9)
فليفتح العلماء لهذه الآية مسامعهم ويفرجوا لها عن قلوبهم، فإنها قد جاءت بما فيه البيان الشافي لهم بأن كفهم عن المعاصي مع ترك إنكارهم على أهلها لا يسمن ولا يغني من جوع، بل هم أشدّ حالاً وأعظم وبالاً من العصاة، فرحم الله عالماً قام بما أوجبه الله عليه من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو أعظم ما افترضه الله عليه، وأوجب ما وجب عليه النهوض به.
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم وأعنّا على ذلك وقوّنا عليه، ويسره لنا وانصرنا على من تعدى حدودك وظلم عبادك أنه لا ناصر لنا سواك ولا مستعان غيرك يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين، وقد وردت أحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا حاجة لنا في بسطها هنا.
ففي الآية أيضاً ذم لعلماء المسلمين على توانيهم في النهي عن المنكرات، ولذلك قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية، وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، وفيه دلالة على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأن الله تعالى ذم الفريقين في هذه الآية.
(4/10)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
(وقالت اليهود يد الله مغلولة) أي مقبوضة عن إدرار الرزق علينا، كنوا به عن البخل، تعالى الله عن ذلك، واليد عند العرب تطلق على الجارحة ومنه قوله تعالى: (وخذ بيدك ضغثاً) وعلى النعمة يقولون: كم يد لي عند فلان، وعلى القدرة ومنه قوله تعالى: (قل إن الفضل بيد الله) وعلى التأييد ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " يد الله مع القاضي حين يقضي " وعلى الملك يقال هذه الضيعة في يد فلان أي في ملكه، ومنه قوله تعالى: (الذي بيده عقدة النكاح) أي يملك ذلك.
أما الجارحة فمنتفية في صفته عز وجل، وأما سائر المعاني التي فسرت اليد بها عند جمهور المتكلمين وأهل التأويل ففيه إشكال لأنها إذا فسرت بمعنى القدرة فقدرته واحدة، والقرآن ناطق بإثبات اليدين، وأجيب عنه بأن هذه الآية على طريق التمثيل على وفق كلامهم كقوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) والعرب تطلق غل اليد على البخل وبسطها على الجود مجازاً ولا يريدون الجارحة كما يصفون البخيل بأنه جعد الأنامل ومقبوض الكف، فمراد اليهود هنا عليهم لعائن الله أن الله بخيل، قال ابن عباس: مغلولة أي بخيلة.
وإن فسرت بالنعمة فنص القرآن ينطق باليدين، ونعمه غير محصورة، وأجيب عنه بأن هذا بحسب الجنس، ويدخل تحته أنواع كثيرة لا نهاية لها وما أبعده.
(4/11)
والجواب عن الجواب الأول أن اليد صفة قائمة بذات الله وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الإصطفاء، والذي يدل عليه أن الله تعالى أخبر عن آدم أنه خلقه بيديه على سبيل الكرامة، ولو كان معناه بقدرته أو نعمته أو ملكه لم يكن لخصوصية آدم بذلك وجه مفهوم، وامتنع كون آدم مصطفى بذلك لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات، فلا بد من إثبات صفة أخرى وراء ذلك يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الإصطفاء وبه قال أبو الحسن الأشعري على ما نقله الرازي عنه وجماعة من أهل الحديث.
والجواب عن الجواب الثاني أن الاسم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجمع ولا يؤدي عن الجنس، فثبت أن اليد صفة لله تعالى تليق بجلاله وأنها ليست بجارحة كما قالت المجسمة واليهود، ولا بنعمة وقدرة كما قالت المعتزلة.
ولما قالت اليهود ذلك أجاب سبحانه عليهم بقوله: (غلت أيديهم) هذا دعاء عليهم بالبخل، فيكون الجواب عليهم مطابقاً لما أرادوه بقولهم يد الله مغلولة، ويجوز أن يراد غل أيديهم حقيقة بالأسر في الدنيا أو العذاب في الآخرة.
ويقوي المعنى الأول أن البخل قد لزم اليهود لزوم الظل للشمس فلا ترى يهودياً وإن كان ماله غاية الكثرة إلا وهو من أبخل خلق الله، وقيل المجاز أوفق بالمقام لمطابقة ما قبله.
عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس أن ربك بخيل لا ينفق فأنزل الله هذه الآية، وعنه أنها نزلت في فنحاص اليهودي، وعن عكرمة نحوه، والمعنى: أمسكت أيديهم عن كل خير، قال الزجاج: رد الله عليهم فقال أنا الجواد الكريم وهم البخلاء وأيديهم هي الممسكة.
(4/12)
(ولعنوا بما قالوا) الباء سببية أي: أبعدوا من رحمة الله بسبب قولهم هذا فمن لعنتهم أنهم مسخوا في الدنيا قردة وخنازير، وضربت عليهم الذلة والمسكنة والجزية، وفي الآخرة لهم عذاب النار.
ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله: (بل يداه مبسوطتان) أي: بل هو في غاية ما يكون من الجود، وذكر اليدين مع كونهم لم يذكروا إلا اليد الواحدة مبالغة في الرد عليهم بإثبات ما يدل على غاية السخاء فإن نسبة الجود إلى اليدين أبلغ من نسبته إلى اليد الواحدة لإفادة الكثرة إذ غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطي بيديه.
وهذه الجملة الإضرابية معطوفة على جملة مقدرة يقتضيها المقام أي كلا ليس الأمر كذلك بل يداه مبسوطتان يعني: هو جواد كريم على سبيل الكمال، وحكى الأخفش عن ابن مسعود أنه قرأ بل يداه بسيطتان أي: منطلقتان.
ويد الله صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه فيجب علينا الإيمان بها والتسليم وإثباتها له تعالى وإمرارها كما جاءت في الكتاب والسنة بلا كيف ولا تشبيه ولا تعطيل، قال تعالى: (لما خلقت بيدي) وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن يمين الرحمن: " وكلتا يديه يمين " فالجارحة منتفية في صفته عز وجل، والجهمية أنكروها وتأولوا بالنعمة والقدرة وهم المعطلة، وهذا الإنتفاء إنما هو عند المؤمنين، وأما اليهود فإنهم مجسمة فيصح حمل اليد عندهم على الجارحة بحسب اعتقادهم الفاسد.
(ينفق كيف يشاء) جملة مستأنفة مؤكدة لكمال جوده سبحانه أي: إنفاقه على ما تقتضيه مشيئته وحكمته، فإن شاء وسع وإن شاء قتر، لا اعتراض عليه، فهو القابض الباسط فإن قبض كان ذلك لما تقتضيه حكمته الباهرة لا شيء آخر، فإن خزائن ملكه لا تفنى ومواد جوده لا تتناهى، قال تعالى: (ولو
(4/13)
بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء) وقال: (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سحّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص ما بيده، وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يرفع ويخفض " (1) أخرجه البخاري ومسلم، وفي الباب أحاديث.
(وليزيدن) اللام هي لام القسم أي والله ليزيدن (كثيراً منهم) من علماء اليهود والنصارى ورؤسائهم (ما أنزل إليك) من القرآن المشتمل على هذه الأحكام الحسنة (من ربك طغياناً) إلى طغيانهم (وكفراً) إلى كفرهم، عن قتادة قال حملهم حسد محمد - صلى الله عليه وسلم - والعرب على أن تركوا القرآن وكفروا بمحمد ودينه، وهم يجدونه مكتوباً عندهم.
(وألقينا بينهم) أي بين طوائف اليهود (العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) فإن بعضهم جبرية وبعضهم قدرية وبعضهم مرجئة وبعضهم مشبهة أو بين اليهود والنصارى فهم فرق كالملكانية والنسطورية واليعقوبية والماروانية.
لا يقال أن هذا المعنى حاصل بين السلمين أيضاً فكيف يكون عيباً عليهم لا على المسلمين لأنا نقول: إن هذه البدع والافتراق لم يكن شيء منها حاصلا بينهم في الصدر الأول، وإنما حدثت بعد عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحسن جعل ذلك عيباً عليهم في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو حيان: العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو، قاله الكرخي.
(كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله) أي: كلما جمعوا للحرب جمعاً
_________
(1) البخاري كتاب التفسير سورة 11 - مسلم الباب 37 من كتاب الزكاة.
(4/14)
وأعدوا له عدة شتت الله جمعهم، وذهب بريحهم، فلم يظفروا بطائل ولا عادوا بفائدة، بل لا يحصلون من ذلك إلا على الغلب لهم، وذلك بأن بعث الله عليهم بختنصر البابلي، ثم افسدوا فبعث عليهم طيطوس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، وهم أهل الفرس، ثم أفسدوا وقالوا يد الله مغلولة فبعث الله المسلمين، فلا تزال اليهود في ذلة أبداً، وهكذا لا يزالون يهيجون الحروب ويجمعون عليها ثم يبطل الله ذلك.
قال مجاهد: كلما مكروا مكراً في حرب محمد - صلى الله عليه وسلم - أطفأه الله تعالى، وعن السّدي قال: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرقه الله وقذف في قلوبهم الرعب، والآية مشتملة على استعارة بليغة وأسلوب بديع، وقيل: المراد بالنار هنا الغضب أي: كلما أثاروا في أنفسهم غضباً أطفاه الله بما جعله من الرعب في صدورهم والذلة والمسكنة المضروبتين عليهم قال قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس فيها وهم أبغض خلق الله إليه.
(ويسمعون في الأرض فساداً) أي يجتهدون في فعل ما فيه فساد ومن أعظمه ما يريدون من إبطال الإسلام وكيد أهله (والله لا يحب المفسدين) إن كانت اللام للجنس فهم داخلون في ذلك دخولاً أولياً، وإن كانت للعهد فوضع الظاهر موضع المضمر لبيان شدة فسادهم وكونهم لا ينفكون عنه.
(4/15)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
(4/16)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
(ولو أن أهل الكتاب) أي لو أن المتمسكين بالكتاب وهم اليهود والنصارى على أن التعريف للجنس بيان لحالهم في الآخرة (آمنوا) الإيمان الذي طلبه الله منهم، ومن أهمه الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما أمروا بذلك في كتب الله المنزلة عليهم (واتقوا) المعاصي التي من أعظمها ما هم عليه من الشرك بالله والجحود لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(لكفرنا عنهم سيئاتهم) التي اقترفوها وإن كانت كثيرة متنوعة لأن الإسلام يجبُّ ما قبله، وقيل المعنى لوسعنا عليهم في أرزاقهم (ولأدخلناهم) تكرير اللام لتأكيد الوعد (جنات النعيم) مع المسلمين يوم القيامة.
(4/16)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
(ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل) بما فيهما من الأحكام التي من جملتها الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم (وما أنزل إليهم من ربهم) أي من سائر كتب الله التي من جملتها القرآن فإنها كلها وإن نزلت على غيرهم فهي في حكم المنزلة عليهم لكونهم متعبدين بما فيها (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) ذكر فوق وتحت للمبالغة في تيسر أسباب الرزق لهم وكثرتها وتعدد أنواعها.
عن ابن عباس قال: لأكلوا من فوقهم يعني لأرسل عليهم السماء مدراراً، ومن تحت أرجلهم قال يخرج الأرض من بركتها، وعن قتادة نحوه.
(منهم أمة مقتصدة) جواب سؤال مقدر كأنه قيل هل جميعهم متصفون
(4/16)
بالأوصاف السابقة، أو البعض منهم دون بعض، فقال: منهم أمة عادلة غير غالية ولا مقصّرة، والمقتصدون منهم هم المؤمنون كعبد الله بن سلام ومن تبعه، وطائفة من النصارى قال مجاهد هم مسلمة أهل الكتاب، وعن الربيع بن أنس قال الأمة المقتصدة الذين لا هم فسقوا في الدين ولا هم غلوا، والغلو: الرغبة، والفسق: التقصير عنه، وعن السدي مقتصدة أي: مؤمنة والاقتصاد الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير.
(وكثير منهم ساء ما يعملون) وهم المصرون على الكفر المتمردون عن إجابة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإيمان بما جاء به مثل كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود.
أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديثاً قال ثم حدثهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: " تفرقت أمة موسى على اثنتين وسبعين ملة، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار، وتفرقت أمة عيسى على اثنتين وسبعين ملة، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار، وتعلو أمتي على الفريقين جميعاً بملة واحدة في الجنة واثنتان وسبعون منها في النار قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: الجماعات الجماعات " (1).
وقال يعقوب بن زيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ّ بهذا الحديث تلا فيه قرآناً قال: (ولو أن أهل الكتاب آمنوا) الآية، وتلا أيضاً (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) يعني: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره لهذا الحديث ما لفظه: وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة قد ذكرناها في موضع آخر اهـ.
_________
(1) المستدرك كتاب العلم 1/ 128.
(4/17)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
قلت: أما زيادة كونها في النار إلا واحدة فقد ضعفها جماعة من المحدثين بل قال ابن حزم إنها موضوعة.
(يا أيّها الرَّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك) العموم الكائن في: ما أنزل يفيد أنه يجب عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ جميع ما أنزله الله عليه لا يكتم منه شيئاً، وفيه دليل على أنه لم يسر إلى أحد مما يتعلق بما أنزله الله شيئاً، ولهذا ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " من زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئاً من الوحي فقد كذب ".
وفي صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة وهب بن عبد الله السّوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن فقال: " لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلاّ فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل (1) وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر ".
(وإن لم تفعل) ما أمرت به من تبليغ الجميع بل كتمت ولو بعضاً من ذلك خوفاً من أن تنال بمكروه (فما بلغت) قرأ أهل الكوفة (رسالته) بالتوحيد، وقرأ أهل المدينة وأهل الشام (رسالاته) على الجمع، قال النحاس: والجمع أبين لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئاً فشيئاً ثم يبينه اهـ.
وفيه نظر فإن نفي التبليغ عن الرسالة الواحدة أبلغ من نفيه عن
_________
(1) أي الدية يعني بيان مقادير الديات.
(4/18)
الرسالات كما ذكره علماء البيان على خلاف في ذلك، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمته ما نزل إليه وقال لهم في غير موطن هل بلغت؟ فيشهدون له بالبيان، فجزاه الله عن أمته خيراً، وحاشاه أن يكتم شيئاً مما أوحى إليه.
عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية يوم غدير خُمّ في علي بن أبي طالب، وعن ابن مسعود قال كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك إن عليّاً مولى المؤمنين (1) وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس مكذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني فأنزلت يا أيها الرسول الآية.
(والله يعصمك من الناس) إن الله سبحانه وعده بالعصمة من الناس دفعاً لما يظن أنه حامل على كتم البيان، وهو خوف لحوق الضرر من الناس وقد كان ذلك بحمد الله فإنه بين لعباد الله ما نزل إليهم على وجه التمام، ثم حمل من أَبَى من الدخول في الدين على الدخول فيه طوعاً أو كرهاً، وقتل صناديد الشرك وفرق جموعهم وبدد شملهم، وكانت كلمة الله هي العليا، وأسلم كل من نازعه ممن لم يسبق فيه السيف العذل حتى قال يوم الفتح لصناديد قريش وأكابرهم ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
وهكذا من سبقت له العناية من علماء هذه الأمة يعصمه الله من الناس إن قام ببيان حجج الله وإيضاح براهينه، وصرخ بين ظهراني من ضاد الله وعانده ومن لم يمتثل لشرعه كطوائف المبتدعة وقد رأينا من هذا في أنفسنا
_________
(1) هذا والذي قبله من دسائس الشيعة ليت المؤلف أراحنا منه.
(4/19)
وسمعنا منه في غيرنا ما يزيد المؤمن إيماناً وصلابة في دين الله وشدة شكيمة في القيام بحجة الله، وكل ما يظنه متزلزلو الأقدام ومضطربو القلوب من نزول الضرر بهم وحصول المحن عليهم، فهي خيالات مختلة وتوهمات باطلة.
فإن كلّ محنة في الظاهر هي منحة في الحقيقة، لأنها لا تأتي إلا بخير في الأولى والأخرى (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) وقصة غورث بن الحرث ثابتة في الصحيح وهي معروفة مشهورة كما تقدم (1).
فإن قلت أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته يوم أحد وقد أوذي بضروب من الأذى، فكيف يجمع بين ذلك وبين هذه الآية.
قلت المراد أنه يعصمه من القتل فلا يقدر عليه أحد ويدل له حديث جابر في الصحيحين وفيه فقال: إن هذا اخترط على سيفي، إلى قوله، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت الله، ثلاثاً، وقيل: إن هذه الآية نزلت بعد ما شج رأسه في يوم أحد، لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرس حتى نزلت فقال: انصرفوا فقد عصمني الله، رواه الحاكم بطوله.
(إن الله لا يهدي القوم الكافرين) جملة متضمنة لتعليل ما سبق من العصمة أي: إن الله لا يجعل لهم سبيلاً إلى الأضرار لك فلا تخف وبلغ ما أمرت بتبليغه، وقال ابن عباس: لا يرشد من كذبك وأعرض عنك، وقال ابن جرير الطبري: المعنى أن الله لا يرشد من حاد عن سبيل الحق وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئت به من عند الله ولم ينته فيما فرض عليه وأوجبه.
_________
(1) راجع ص 463 ج2.
(4/20)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
(4/21)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
(قل يا أهل الكتاب لستم على شيء) فيه تحقير وتقليل لما هم عليه أي: لستم على شيء يعتد به من الدين المرتضى عند الله (حتى تقيموا التوراة والإنجيل) أي: حتى تعملوا بما فيهما من أوامر الله ونواهيه التي من جملتها أمركم باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ونهيكم عن مخالفته قال أبو علي الفارسي: ويجوز أن يكون ذلك قبل النسخ لهما (1).
(وما أنزل إليكم من ربكم) قيل هو القرآن فإن إقامة الكتابين لا تصح بغير إقامته، ويجوز أن يكون المراد ما أنزل إليهم على لسان الأنبياء من غير الكتابين.
(وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً) أي كفراً إلى كفرهم وطغياناً إلى طغيانهم والمراد بالكثير منهم من لم يسلم واستمر على المعاندة، وقيل المراد به العلماء منهم وتصدير هذه الجملة بالقسم لتأكيد
_________
(1) قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء) سبب نزولها: أن اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ألست تؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها حق؟ قال: بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها، فأنا بريء من إحداثكم. فقالوا: نحن على الهدى، ونأخذ بما في أيدينا، ولا نؤمن بك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. فأما أهل الكتاب، فالمراد بهم اليهود والنصارى. وقوله: (لستم على شيء) أي: لستم على شيء من الدين الحق حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وإقامتهما: العمل بما فيهما، ومن ذلك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
(4/21)
مضمونها.
(فلا تأس على القوم الكافرين) أي دع عنك التأسف على هؤلاء فإن ضرر ذلك راجع إليهم ونازل بهم.
(4/22)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
(إن الذين آمنوا) بألسنتهم وهم المنافقون (والذين هادوا) أي دخلوا في دين اليهود وهو مبتدأ والواو لعطف الجمل أو للاستئناف (والصابئون والنصارى) معطوفان على المبتدأ، وقال الخليل وسيبويه الرفع محمول على التقديم والتأخير، والتقدير إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر والصابئون والنصارى كذلك، وقيل غير ذلك.
وفي المقام وجوه تسعة أخرى ذكرها السمين، والذي مشينا عليه أوضح وأظهر من الكل، وظاهر الإعراب يقتضي أن يقال (والصابئين) وكذا قرأ أبي وابن مسعود وابن كثير، وقرأ الجمهور بالرفع وقد تقدم الكلام على الصابئين والنصارى في سورة البقرة وهو من صبا يصبو لأنهم صبؤا إلى اتباع الهوى ويبدل من المبتدأ الذي هو الفرق الثلاثة بدل بعض قوله: (من آمن بالله) إيماناً خالصاً على الوجه المطلوب (واليوم الآخر) منهم، وحذف لكونه معلوماً عند السامعين (وعمل) عملاً (صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) أي فهو الذي لا خوف عليه ولا حزن.
هذا على كون المراد بالذين آمنوا المنافقين، وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا جميع أهل الإسلام المخلص والمنافق فالمراد بمن آمن من اتصف بالإيمان الخالص واستمر عليه ومن أحدث إيماناً خالصاً بعد نفاقه.
(4/22)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
(4/23)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
(لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل) كلام مبتدأ لبيان بعض أفعالهم الخبيثة وجناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم أي والله لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة، وقد تقدم في البقرة بيان معنى الميثاق (وأرسلنا إليهم رسلاً) ليعرفوهم بالشرائع وينذروهم (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم) جملة شرطية وقعت جواباً لسؤال ناشىء من الإخبار بإرسال الرسل كأنه قيل: ماذا فعلوا بالرسل؟ وجواب الشرط محذوف أي عصوه.
(فريقاً كذبوا) جملة مستأنفة أيضاً جواب عن سؤال ناشئ عن الجواب الأول كأنه قيل: كيف فعلوا بهم؟ فقيل فريقاً كذبوا منهم ولم يتعرضوا لهم بضرر (وفريقاً) آخر منهم (يقتلون) أي: قتلوهم ولم يكتفوا بتكذيبهم، وإنما قال: وفريقاً يقتلون لمراعاة رؤوس الأي فممن كذبوه عيسى وأمثاله من الأنبياء، وممن قتلوه زكريا ويحيى، وإنما فعلوا ذلك نقضاً للميثاق وجرأة على الله ومخالفة لأمره.
(4/23)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
(وحسبوا ألا تكون فتنة) أي حسب هؤلاء الذين أخذ الله عليهم الميثاق أن لا يقع من الله عز وجل ابتلاء واختبار بالشدائد اغتراراً بقولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وحسب بمعنى علم لأن (أن) معناها التحقيق أو حسب بمعنى الظن على أن (أن) ناصبة للفعل قال النحاس: والرفع عند النحويين في حسب
(4/23)
وأخواتها أجود، وإنما حملهم على ذلك الظن الفاسد أنهم كانوا يعتقدون أن كل رسول جاءهم بشرع آخر غير شرعهم يجب عليهم تكذيبه وقتله، فلهذا حسبوا أن لا يكون فعلهم ذلك فتنة يبتلون بها.
وقيل إنما أقدموا على ذلك لاعتقادهم أن آباءهم وأسلافهم يدفعون عنهم العذاب في الآخرة (فعموا) عن إبصار الهدى (وصموا) عن استماع الحق، وهذا إشارة إلى ما وقع من بني إسرائيل في الإبتداء من مخالفة أحكام التوراة وقتل شعيا وقيل سببه عبادتهم العجل في زمن موسى عليه السلام ولا يصح فإنها وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها في عصر موسى، ولا تعلق لها مما حكى عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاءوا إليهم بعد موسى عليه السلام.
(ثم تاب الله عليهم) حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابل دهراً طويلا تحت قهر بختنصر أسارى في غاية الذل والمهانة فكشف عنهم الذلة والقحط.
(ثم عموا وصموا) وهذه إشارة إلى ما وقع منهم بعد التوبة من قتل يحيى بن زكريا وقصدهم لقتل عيسى، وقيل: بسبب الكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
و (كثير منهم) بدل من الضمير قال الكرخي: هذا الإبدال في غاية البلاغة (والله بصير بما يعملون) من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل فيجازيهم بحسب أعمالهم، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية ولرعاية الفواصل.
(4/24)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم) هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض فضائح أهل الكتاب والقائلون بهذه المقالة هم فرقة منهم يقال لهم اليعقوبية وقيل هم الملكانية قالوا: إن الله عز وجل حل في ذات عيسى، وأن مريم ولدت إلها فرد الله عليهم بقوله: (وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم) أي والحال أن قد قال المسيح هذه المقالة فكيف يدعون الإلهية لمن يعترف على نفسه بأنه عبد مثلهم، ودلائل الحدوث ظاهرة عليه (1).
(إنه) الشأن (من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة) كلام مبتدأ يتضمن بيان أن الشرك يوجب تحريم دخول الجنة إذا مات صاحبه على شركه، وقيل هو من قول عيسى (ومأواه النار) أي مصيره إليها في الآخرة.
(وما للظالمين) أي: المشركين، فيه مراعاة معنى (من) بعد مراعاة لفظها، وفيه الإظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بوصف الظلم (من أنصار) ينصرونهم فيدخلونهم الجنة أو يخلصونهم من النار ويمنعونهم من عذاب الله، وصيغة الجمع هنا للإشعار بأن نصرة الواحد أمر غير محتاج إلى التعرض لنفيه لشدة ظهوره وإنما ينبغي التعرض لنفي نصرة الجمع.
_________
(1) روى الإمام ابن الجوزي قال محمد بن كعب: لما رفع عيسى اجتمع مئة من علماء بني إسرائيل، وانتخبوا منهم أربعة، فقال أحدهم: عيسى هو الله كان في الأرض ما بدا له، ثم صعد إلى السماء، لأنه لا يحيي الموتى ولا يبرئ الأكمه والأبرص إلا الله. وقال الثاني: ليس كذلك، لأنا قد عرفنا عيسى، وعرفنا أمه، ولكنه ابن الله. وقال الثالث: لا أقول كما قلتما، ولكن جاءت به أُمه من عمل غير صالح. فقال الرابع: لقد قلتم قبيحاً، ولكنه عبد الله ورسوله، وكلمته، فخرجوا، فاتبع كل رجل منهم عنق من الناس.
(4/25)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
(4/26)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
(لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) كلام مبتدأ أيضاً لبيان بعض مخازيهم والمراد بثالث ثلاثة واحد من ثلاثة ولهذا يضاف إلى ما بعده، ولا يجوز فيه التنوين كما قال الزجاج وغيره، وإنما ينون وينصب ما بعده إذا كان ما بعده دونه بمرتبة نحو ثالث اثنين ورابع ثلاثة، والقائل بأنه سبحانه وتعالى ثالث ثلاثة هم النصارى والمراد بالثلاثة: الله سبحانه وعيسى ومريم كما يدل عليه قوله (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين).
وهذا هو المراد بقولهم ثلاثة أقنانيم إقنيم الأب وإقنيم الابن وإقنيم روح القدس، وقد تقدم في سورة النساء كلام في هذا، وهو كلام معلوم البطلان، ولا ترى في الدنيا مقالة أشد فساداً ولا أظهر بطلاناً من مقالة النصارى.
قال الواحدي: ولا يكفر من يقول: إن الله ثالث ثلاثة ولم يرد به أنه ثالث ثلاثة آلهة لأنه ما من اثنين إلا والله ثالثهما بالعلم، ويدل عليه قوله تعالى في سورة المجادلة (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم) وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر: " ما ظنك باثنين الله ثالثهما ".
ثم رد الله سبحانه عليهم هذه الدعوى الباطلة فقال (وما من إله إلا إله واحد) أي ليس في الوجود إله لا ثاني له ولا شريك له ولا ولد له ولا صاحبة
(4/26)
له إلا الله سبحانه، وهذه الجملة حالية والمعنى قالوا تلك المقالة والحال أنه لا موجود إلا الله، و (من) في قوله: (من إله) لتأكيد الاستغراق المستفاد من النفي، قاله الزمخشري، قال السمين: ولكن لم أرهم قالوه وفيه مجال للنظر وقيل زائدة.
(وإن لم ينتهوا عما يقولون) من الكفر وهذه المقالة الخبيثة (ليمسنّ الذين كفروا منهم) من بيانية أو تبعيضية (عذاب أليم) أي: نوع شديد الألم من العذاب وجيع في الآخرة.
(4/27)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
(أفلا) الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر (يتوبون) من قولهم بالتثليث (إلى الله ويستغفرونه) فيه تعجيب من إصرارهم بمعنى الأمر أي: ليتوبوا وليستغفروه (والله غفور) لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم والواو للحال (رحيم) بهم.
(4/27)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
(ما المسيح ابن مريم إلا رسول) أي هو مقصور على الرسالة لا يجاوزها كما زعمتم وجملة (قد خلت) صفة للرسول أي: ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا (من قبله) وما وقع من المعجزات لا يوجب كونه إلهاً فقد كان لمن قبله من الرسل مثلها، فإن الله أحيا العصا في يد موسى، وخلق آدم من غير أب فكيف جعلتم إحياء عيسى للموتى ووجوده من غير أب أنه يوجب كونه إلهاً فإن كان كما تزعمون إلهاً لذلك فمن قبله من (الرسل) الذين جاءوا بمثل ما جاء به آلهة وأنتم لا تقولون بذلك.
(وأمه) عطف على المسيح أي: وما أمه إلا (صديقة) أي: صادقة فيما تقوله أو مصدّقة لا جاء به ولدها من الرسالة وذلك لا يستلزم الإلهية، لها بل هي كسائر من يتصف بهذا الوصف من النساء اللاتي يلازمن الصدق أو التصديق ويبالغن في الاتصاف به، فما رتبتهما إلا رتبة بشرين أحدهما نبي
(4/27)
والآخر صحابي، فمن أين لكم أن تصفوهما بما لا يوصف به سائر الأنبياء وخواصهم، ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى (وصدقت بكلمات ربها وكتبه).
(كانا يأكلان الطعام) استئناف يتضمن التقرير لما أشير إليه من أنهما كسائر أفراد البشر أي من كان يأكل الطعام كسائر المخلوقين فليس برب بل عبد مربوب ولدته النساء، فمتى يصلح لأن يكون رباً وأما قولكم: إنه كان يأكل الطعام بناسوته لا بلاهوته فهو كلام باطل يستلزم اختلاط الإله بغير الإله، ولو جاز اختلاط القديم بالحادث لجاز أن يكون القديم حادثاً ولو صحّ هذا في حق عيسى لصح في حق غيره من العباد.
(انظر كيف نبين لهم الآيات) أي: الدلالات الواضحات على وحدانيتنا وفيه تعجب من حال هؤلاء الذين يجعلون تلك الأوصاف مستلزمة للإلهية ويغفلون عن كونها موجودة فيمن لا يقولون بأنه إله.
(ثم انظر أنى يؤفكون) أي: يصرفون عن الحق بعد هذا البيان يقال: أفكه إذا صرفه، وكرر الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب، وجاء بثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت، وقيل: الأول أمر بالنظر في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآيات وبيانها، والثاني بالنظر في كونهم صرفوا عن تدبرها والإيمان بها.
(4/28)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
(قل أتعبدون) أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم هذا القول إلزاماً لهم وقطعاً لشبهتهم بعد تعجبه من أحوالهم أي أتعبدون (من دون الله) متجاوزين إياه (ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً) بل هو عبد مأمور، وما جرى على يده من النفع أو وقع من الضرر فهو بإقدار الله له وتمكينه منه، وأما هو، فهو يعجز عن أن يملك لنفسه شيئاً من ذلك فضلاً عن أن يملكه لغيره، ومن كان لا ينفع ولا يضر فكيف تتخذونه إلهاً وتعبدونه وأي سبب يقتضي ذلك؟ والمراد هنا المسيح عليه السلام.
وإيثار (ما) على (من) لتحقيق ما هو المراد من كونه بمعزل عن الألوهية رأساً ببيان انتظامه عليه السلام في سلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلاً، وقدم سبحانه الضر على النفع لأن دفع المفاسد أهم من جلب المصالح، وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية والإلهية حيث لا يستطيع ضراً ولا نفعاً، وصفة الرب والإله أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته، وهذا في حق عيسى النبي، فما ظنك بولي من الأولياء؟ فإنه أولى بذلك.
(و) الحال أن (الله هو السميع العليم) ومن كان كذلك فهو القادر على الضر والنفع لإحاطته بكل مسموع ومعلوم، ومن جملة ذلك مضاركم ومنافعكم، وقيل: إن الله هو المستحق للعبادة لأنه يسمع كل شيء ويعلمه وإليه ينحو كلام الزمخشري.
(4/29)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
(4/30)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
(قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) لما أبطل سبحانه جميع ما تعلقوا به من الشبه الباطلة نهاهم عن الغلو في دينهم، وهو المجاوزة للحد كإثبات الإلهية لعيسى كما يقوله النصارى أو حطه عن مرتبته العلية كما يقوله اليهود، فإن كل ذلك من الغلو المذموم وسلوك طريقة الإفراط أو التفريط واختيارهما على طريق الصواب.
و (غير) منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف أي غلواً غير غلو (الحق) وأما الغلو في الحق بإبلاغ كلية الجهد في البحث عنه واستخراج حقائقه فليس بمذموم، وقيل: إن النصب على الاستثناء المتصل وقيل على المنقطع قال قتادة: لا تغلوا أي لا تبتدعوا، عن ابن زيد قال: كان مما غلوا فيه أن دعوا لله صاحبة وولداً.
(ولا تتبعوا أهواء قوم) جمع هوى وهو ما تدعو شهوة النفس إليه، قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى الهوى في القرآن إلا وذمه، وقال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلا موضع الشر، لأنه لا يقال فلان يهوى الخير إنما يقال فلان يحب الخير ويريده، والخطاب لليهود والنصارى الذين كانوا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضلالة بأهوائهم وهو المراد بقوله (قد ضلوا من قبل) أي قبل البعثة المحمدية على صاحبها الصلاة والتحية،
(4/30)
والمراد أن أسلافهم ضلوا قبل البعثة بغلوهم في عيسى.
(وأضلوا كثيراً) من الناس إذ ذاك (وضلوا) من بعد البعثة إما بأنفسهم أو جعل ضلال من أضلوه ضلالاً لهم لكونهم سنوا لهم ذلك ونهجوه لهم، وقيل المراد بالأول كفرهم بما يقتضيه العقل وبالثاني كفرهم بما يقتضيه الشرع وقيل الأول ضلالهم عن الإنجيل، والثاني ضلالهم عن القرآن (عن سواء السبيل) أي عن طريق الحق.
(4/31)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
(لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم) أي لعنهم الله سبحانه في الزبور والإنجيل على لسان داود وعيسى بما فعلوه من المعاصي لاعتدائهم في السبت وكفرهم بعيسى، وعن أبي مالك الغفاري قال: لعنوا أي اليهود على لسان داود فجعلوا قردة وهم أصحاب أيلة، والنصارى على لسان عيسى فجعلوا خنازير، وهم أصحاب المائدة، وكانوا خمسة آلاف ليس فيهم امرأة ولا صبي والفريقان من بني إسرائيل وعن قتادة نحوه وكان داود بعد موسى وقبل عيسى.
(ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) جملة مستأنفة، والمعنى ذلك اللعن بسبب المعصية والاعتداء لا بسبب آخر، ثم بين سبحانه المعصية والاعتداء بقوله.
(4/31)
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
(كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) أسند الفعل إليهم لكون فاعله من جملتهم وإن لم يفعلوه جميعاً، والمعنى أنهم كانوا لا ينهون العاصي عن معاودة معصية قد فعلها أو تهيأ لفعلها، ويحتمل أن يكون وصفهم بأنهم قد فعلوا المنكر باعتبار حالة النزول لا حالة ترك الإنكار وبيان العصيان والاعتداء بترك التناهي عن المنكر لأن من أخل بواجب النهي عن المنكر فقد عصى الله سبحانه وتعدى حدوده.
(4/31)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم القواعد الإسلامية، وأجل الفرائض الشرعية ولهذا كان تاركه شريكاً لفاعل المعصية، ومستحقاً لغضب الله وانتقامه، كما وقع لأهل السبت فإن الله سبحانه مسخ من لم يشاركهم في الفعل ولكن ترك الإنكار عليهم كما مسخ المعتدين فصاروا جميعاً قردة وخنازير، إن في ذلك لعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ثم إن الله سبحانه قال مقبحاً لعدم التناهي عن المنكر: (لبئسما كانوا يفعلون) من تركهم الإنكار ما يجب عليهم إنكاره، واللام لام القسم.
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: (لعن الذين كفروا إلى قوله فاسقون) ثم قال: " كلا والله لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتَأطرنّهُ على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً زاد في رواية أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم " أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة وغيرهم وقد روي عن طرق كثيرة (1)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً فلا نطول بذكرها.
وعن أبي عبيدة بن الجراح يرفعه قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عبادهم فأمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار، فهم الذين كفروا من بني إسرائيل الآيات.
_________
(1) أبو داود الباب 17 من كتاب الملاحم- الترمذي كتاب التفسير سورة 5، 7.
(4/32)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
(4/33)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
(ترى كثيراً منهم) أي من اليهود مثل كعب بن الأشرف وأصحابه (يتولون الذين كفروا) أي المشركين وليسوا على دينهم.
(لبئسما قدمت) أي سولت وزينت (لهم أنفسهم) أو ما قدموه لأنفسهم ليردوا عليه يوم القيامة والمخصوص بالذم هو.
(أن سخط الله عليهم) أي موجب سخط الله عليهم على حذف مضاف أو سخط الله على حذف المبتدأ أي بما فعلوا من موالاة الكفار (وفي العذاب هم خالدون) يعني في الآخرة.
(4/33)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
(ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي) أي نبيهم محمد (وما أنزل إليه) من الكتاب (ما اتخذوهم) أي المشركين والكفار (أولياء) لأن الله سبحانه ورسوله المرسل إليهم وكتابه المنزل عليه نهوهم عن ذلك.
(ولكن كثيراً منهم فاسقون) أي خارجون عن ولاية الله وعن الإيمان به وبرسوله وبكتابه قال مجاهد هم المنافقون.
(4/33)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
(لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا) هذه جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تعداد مساوئ اليهود وهناتهم، ودخول لام القسم عليها يزيدها تأكيداً وتقريراً، وقال ابن عطية: اللام للابتداء وليس بشيء، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح له كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز، والمعنى أن اليهود والمشركين لعنهم الله أشد جميع الناس عداوة للمؤمنين وأصلبهم في ذلك.
(ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) أي أن النصارى أقرب الناس مودة للمؤمنين وصفهم بلين العريكة وسهولة قبولهم الحق، قيل مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر والأذى إلى من خالفهم في الدين بأي طريق كان مثل القتل ونهب المال أو بأنواع المكر والكيد والحيل، ومذهب النصارى خلاف اليهود فإن الإيذاء في مذهبهم حرام، فحصل الفرق بينهما.
وقيل: إن اليهود مخصوصون بالحرص الشديد على الدنيا وطلب الرياسة، ومن كان كذلك كان شديد العداوة للغير، وفي النصارى من هو معرض عن الدنيا ولذاتها وترك طلب الرياسة، ومن كان كذلك فإنه لا يحسد أحداً ولا يعاديه بل يكون لين العريكة في طلب الحق والأول أولى.
وقال مجاهد: هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله وفي لفظ إلا حدث نفسه بقتله " رواه أبو الشيخ قال ابن كثير وهو غريب جداً.
(4/34)
وعن عطاء قال: ما ذكر الله به النصارى من خير فإنما يراد به النجاشي وأصحابه، وعنه قال: هم ناس من الحبشة آمنوا إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين فذلك لهم ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(ذلك) أي كونهم أقرب مودة (بأن) الباء للسببية (منهم قسيسين) جمع قس وقسيس قاله قطرب، والقسيس العالم وأصله من قس إذا تتبع الشيء وطلبه وتقسست أصواتهم بالليل تسمعتها، والقس النميمة والقس أيضاً رئيس النصارى في الدين والعلم وجمعه قسوس أيضاً، وكذلك القسيس مثل الشر والشرير، ويقال في جمع قسيس تكسيراً قساوسة، والأصل قساسة فالمراد بالقسيسين في الآية المتبعون للعلماء والعباد وهو إما عجمي خلطته العرب بكلامها أو عربي.
(ورهباناً) جمع راهب كركبان وراكب، والفعل رهب الله يرهبه أي خافه والرهبانية والترهب التعبد في الصوامع، قال أبو عبيد: وقد يكون رهبان للواحد والجمع قال الفراء ويجمع رهبان إذا كان للمفرد رهابين كقربان وقرابين، ثم وصفهم الله بعدم الاستكبار عن قول الحق فقال: (وأنهم لا يستكبرون) بل هم متواضعون بخلاف اليهود فإنهم على ضد ذلك.
وقيل: ولم يرد به كل النصارى فإن معظم النصارى في عداوة المسلمين كاليهود بل الآية فيمن آمن منهم مثل النجاشي وأصحابه، والعموم أولى، ولا وجه لتخصيص قوم دون قوم.
والآية الكريمة ساكتة على قيد الإيمان وإنما هو مدح في مقابلة ذم اليهود، وليس بمدح على الإطلاق، وقد تقدم الفرق بين وصف اليهود بشدة الشكيمة والنصارى بلين العريكة.
وفي الآية دليل على أن العلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير، وإن كان علم القسيسين، وكذا علم الآخرة وإن كان في راهب، وكذا البراءة من الكبر وإن كانت في نصراني.
(4/35)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
(4/36)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
(وإذا سمعوا) مستأنفة قاله الجلال السيوطي أو معطوفة على (لا يستكبرون) قاله أبو السعود والضمير يعود على النصارى المتقدمين بعمومهم، وقيل هو لمن جاء من الحبشة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن عطية: لأن كل النصارى ليسوا إذا سمعوا.
(ما أنزل إلى الرسول) أي القرآن (ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) أي تمتلئ فتفيض لأن الفيض لا يكون إلا بعد الامتلاء جعل الأعين تفيض والفائض إنما هو الدمع قصداً للمبالغة كقولهم دمعت عينه، ووضع الفيض الذي ينشأ من الامتلاء موضع الامتلاء من إقامة المسبب مقام السبب ومن الأولى لابتداء الغاية والثانية بيانية أي كان ابتداء الفيض ناشئاً من معرفة الحق وكان من أجله وبسببه، ويجوز أن تكون الثانية تبعيضية، وقد أوضح أبو القاسم هذا غاية الإيضاح.
والمعنى أنهم عرفوا بعض الحق فاشتد بكاؤهم منه فكيف إذا عرفوه كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة.
عن ابن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه، وعن ابن عباس نحوه، والروايات في هذا الباب كثيرة، وهذا المقدار يكفي فليس المراد إلا بيان سبب نزول الآية، وصفهم سبحانه بسيل الدمع عند البكاء ورقة القلب عند سماع القرآن.
(يقولون) مستأنفة لا محل لها كأنه قيل فما حالهم عند سماع القرآن
(4/36)
فقال: يقولون يعني القسيسين والرهبان أو حال من أعينهم أو من فاعل عرفوا.
(ربنا آمنا) بهذا الكتاب النازل من عندك على محمد - صلى الله عليه وسلم - وبمن أنزلته عليه (فاكتبنا مع الشاهدين) على الناس يوم القيامة من أمة محمد أو مع الشاهدين بأنه حق أو مع الشاهدين بصدق محمد وأنه رسولك إلى الناس.
(4/37)
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
(وما لنا) كلام مستأنف والاستفهام للاستبعاد أي أيّ شيء حصل لنا حال كوننا (لا نؤمن بالله) على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب والمسبب جميعاً لا إلى السبب فقط مع تحقق المسبب (وما جاءنا من الحق) أي القرآن من عنده على لسان رسوله أو المراد به الباري تعالى، والمعنى أنهم استبعدوا انتفاء الإيمان منهم مع وجود المقتضى له وهو الطمع في إنعام الله، فالاستفهام والنفي متوجهان إلى القيد والمقيد جميعاً كقوله تعالى: (ما لكم لا ترجون لله وقاراً).
(ونطمع) عطف على نؤمن لا على لا نؤمن كما وقع للزمخشري إذ العطف عليه يقتضي إنكار عدم الإيمان وإنكار الطمع وليس مراداً بل المراد إنكار عدم الطمع أيضاً وجوز أبو حيان أن يكون معطوفاً على نؤمن على أنه منفي كنفي نؤمن والتقدير وما لنا لا نؤمن ولا نطمع فيكون في ذلك الإنكار لانتفاء إيمانهم وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين الإيمان والطمع في الدخول مع الصالحين انتهى، ذكر ذلك أبو البقاء باختصار ولم يطلع عليه أبو حيان فبحثه وقال لم يذكروه، قاله الكرخي.
(أن يدخلنا ربنا) الجنة (مع القوم الصالحين) أي ما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع في صحبة الصالحين يعني مع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيل مع الأنبياء والمؤمنين.
(4/37)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
(4/38)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
(فأثابهم الله بما قالوا) أي على هذا القول مخلصين له معتقدين لمضمونه (جنات تجري من تحتها الأنهار) بمجرد القول لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم فيما قالوا وهو المعرفة والبكاء واستكانة القلب (خالدين فيها) أي في الجنات (وذلك جزاء المحسنين) الموحدين المخلصين في إيمانهم.
(4/38)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
(والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) التكذيب بالآيات كفر فهو من باب عطف الخاص على العام (أولئك أصحاب الجحيم) هذا أثر الرد في حق الأعداء، والأول أثر القبول للأولياء، والجحيم النار الشديدة الاتقاد ويقال جحم فلان النار إذا شدد إيقادها ويقال أيضاً لعين الأسد جحمة لشدة اتقادها.
(4/38)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
(يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) الطيبات هي المستلذات مما أحله الله لعباده، نهى الذين آمنوا أن يحرموا على أنفسهم شيئاً منها إما لظنهم أن في ذلك طاعة لله وتقرباً اليه، وأنه من الزهد في الدنيا وقمع النفس عن شهواتها أو لقصد أن يحرموا على أنفسهم شيئاً مما أحله لهم كما يقع من كثير من العوام من قولهم حرام عليّ وحرمته على نفسي ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل تحت هذا النهي القرآني.
قال ابن جرير: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله
(4/38)
لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ولذلك رد النبي - صلى الله عليه وسلم - التبتل على عثمان بن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب الله إليه عباده وعمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنه لأمته واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون إذ كان خير الهدى هدى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فإذا كان ذلك كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء، قال فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأً، وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر على الجسم من المطاعم الرديئة لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته انتهى.
(ولا تعتدوا) على الله بتحريم طيبات ما أحل لكم أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله عليكم أي تترخصوا فتحلوا حراماً كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من حرم على نفسه شيئاً مما أحله الله له فلا يحرم عليه ولا تلزمه كفارة.
وقال أبو حنيفة وأحمد ومن تابعهما: أن من حرم شيئاً صار محرماً عليه وإذا تناوله لزمته الكفارة وهو خلاف ما في هذه الآية وخلاف ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولعله يأتي في سورة التحريم ما هو أبسط من هذا إن شاء الله تعالى، وظاهرة تحريم كل اعتداء أي مجاوزة لما شرعه الله في كل أمر من الأمور.
أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال
(4/39)
أني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوة وأني حرمت عليّ اللحم فنزلت هذه الآية وأخرجه الترمذي وقال حسن غريب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال: نزلت في رهط من الصحابة قالوا نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا: نعم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ّ: " لكني أصوم وأفطر وأقومُ وأنام وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني " (1).
وقد ثبت نحو هذا في الصحيحين وغيرهما من دون ذكر أن ذلك سبب نزول الآية، وفي الباب روايات كثيرة بهذا المعنى وكثير منها مصرح بأن ذلك سبب نزول الآية (إن الله لا يحب المعتدين) أي المجاوزين الحلال إلى الحرام.
_________
(1) ابن كثير 2/ 85 - 86.
(4/40)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
(وكلوا مما رزقكم الله) أي تمتعوا بأنواع الرزق، وإنما خص الأكل لأنه أغلب الانتفاع بالرزق (حلالاً طيباً) أي غير محرم ولا مستقذر، أو أكلاً حلالاً طيباً أو كلوا حلالاً طيباً، قال ابن المبارك: الحلال ما أخذته من وجهه، والطيب ما أغذى وأنمى، فأما الجامد كالطين والتراب وما لا يغذي فمكروه إلا على وجه التداوي.
ثم وصاهم الله تعالى بالتقوى فقال: (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) هذا تأكيد للوصية، وفي الآية دليل على أن الله عز وجل قد تكفل برزق كل أحد من عباده.
(4/40)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
(4/41)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
(لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) قد تقدم تفسير اللغو والخلاف فيه في سورة البقرة، عن سعيد بن جبير قال: هو الرجل يحلف على الحلال، وقال مجاهد: هما رجلان يتبايعان يقول أحدهما والله لا أبيعك، ويقول الآخر والله لا أشتريه بكذا، وعن النخعي قال: اللغو أن يصل كلامه بالحلف والله لتأكلن والله لتشربن ونحو هذا لا يريد به يميناً ولا يتعمد حلفاً فهو لغو اليمين ليس عليه كفارة.
قيل (في) بمعنى (من) قاله القرطبي، والإيمان جمع يمين، وفي الآية دليل على أن أيمان اللغو لا يؤاخذ الله الحالف بها ولا تجب فيها الكفارة، وقد ذهب الجمهور من الصحابة ومن بعدهم إلى أنها قول الرجل لا والله وبلى والله، في كلامه غير معتقد لليمين، وبه فسر الصحابة الآية، وهم أعرف بمعاني القرآن، قال الشافعي وذلك عند اللجاج والغضب والعجلة.
(ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) أي بما تعمدتم وقصدتم به اليمين، قاله مجاهد، وقرئ عقدتم مخففاً ومشدداً، والتشديد إما للتكثير لأن المخاطب به جماعة أو بمعنى المجرد أو لتوكيد اليمين نحو والله الذي لا إله إلا هو، وقرئ عاقدتم وهو بمعنى المجرد أو على بابه، وهذا كله مبني على أن (ما) موصول اسمي وقيل مصدرية على القراءات الثلاث، وعليه جرى أبو السعود.
والعقد على ضربين حسي كعقد الحبل، وحكمي كعقد البيع واليمين
(4/41)
والعهد، فاليمين المعقدة من عند القلب ليفعلن أو لا يفعلن في المستقبل أي ولكن يؤاخذكم بأيمانكم المعقدة الموثقة بالقصد والنية إذا حنثتم فيها، وأما اليمين الغموس فهي يمين مكر وخديعة وكذب قد باء الحالف بإثمها، وليست بمعقودة ولا كفارة فيها كما ذهب إليه الجمهور.
وقال الشافعي: هي يمين معقودة لأنها مكتسبة بالقلب معقودة بخير مقرونة باسم الله، والراجح الأول، وجميع الأحاديث الواردة في تكفير اليمين متوجهة إلى المعقودة، ولا يدل شيء منها على الغموس بل ما ورد في الغموس إلا الوعيد والترهيب، وأنها من الكبائر بل من أكبر الكبائر، وفيها نزل قوله تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً) الآية.
(فكفارته) هي مأخوذة من التكفير وهو التستير وكذلك الكفر هو الستر، والكافر هو الساتر سميت بها لأنها تستر الذنب وتغطيه، والضمير في كفارته راجع إلى الحنث الدال عليه سياق الكلام، وقيل إلى العقد لتقدم الفعل الدال عليه، وقيل إلى اليمين وإن كانت مؤنثة لأنها بمعنى الحلف، قالهما أبو البقاء وليسا بظاهرين، وقيل إن (ما) إن جعلناها موصولة اسمية، فالعبارة على حذف مضاف أي فكفارة نكثه كذا قدره الزمخشري.
(إطعام عشرة مساكين) هو أن يغديهم ويعشيهم أو يعطيهم بطريق التمليك وقيل لكل مسكين مد، ولا يتعين كونه من فقراء بلد الحالف (من أوسط ما تطعمون) المراد الوسط هنا المتوسط بين طرفي الإسراف والتقتير، وليس المراد به الأعلى كما في غير هذا الموضع أي أطعموهم من المتوسط مما تعتادون إطعام (أهليكم) ولا يجب عليكم أن تطعموهم من أعلاه ولا يجوز لكم أن تطعموهم من أدناه بل من غالب قوت بلد الحالف أي: محل الحنث، قال ابن عباس يعني من عسركم ويسركم، وظاهره أنه يجزى إطعام عشرة حتى يشبعوا.
(4/42)
وقد روي عن علي بن أبي طالب قال: لا يجزى إطعام العشرة غداء دون عشاء حتى يغديهم ويعشيهم، قال أبو عمر وهو قول أئمة الفتوى بالأمصار، وقال الحسن البصري وابن سيرين: يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزاً وسمناً أو خبزاً ولحماً قال عمر بن الخطاب وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وميمون ابن مهران وأبو مالك والضحاك والحكم ومكحول وأبو قلابة ومقاتل: يدفع إلى كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر، وروي ذلك عن علي، وقال أبو حنيفة: نصف صاع من بر، وصاع مما عداه.
وقد أخرج ابن ماجة وابن مردويه عن ابن عباس قال: كَفَّرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصاع من تمر، وكفر الناس به ومن لم يجد فنصف صاع من بر، وفي إسناده عمر الثقفي وهو مجمع على ضعفه وقال الدارقطني متروك.
(أو كسوتهم) قرئ بضم الكاف وكسرها وهما لغتان مثل أسوة وإسوة، والكسوة في الرجال تصدق على ما يكسو البدن ولو كان ثوباً واحداً، وهكذا في كسوة النساء وقيل الكسوة للنساء درع وخمار وقيل المراد بالكسوة ما تجزئ به الصلاة.
أخرج الطبراني عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: أو كسوتهم قال عباءة لكل مسكين، قال ابن كثير حديث غريب، وعن حذيفة قال: قلت يا رسول الله أو كسوتهم ما هو قال: عباءة عباءة أخرجه ابن مردويه (1)، وعن ابن عمر قال الكسوة ثوب أو إزار، وقيل قميص وعمامة.
(أو تحرير رقبة) أي إعتاق مملوك، والتحرير الإخراج من الرق،
_________
(1) مسلم 1401 - البخاري 2099.
(4/43)
ويستعمل التحرير في فك الأسير وإعفاء المجهود لعمل عن عمله، وترك إنزال الضرر به، ولأهل العلم أبحاث في الرقبة التي يجزئ في الكفارة، وظاهر هذه الآية أنها تجزئ كل رقبة على أي صفة كانت، وذهب جماعة منهم الشافعي إلى اشتراط الإيمان فيها قياساً على كفارة القتل حملاً للمطلق على المقيد جمعاً بين الدليلين، وأو للتخيير، وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث.
(فمن لم يجد) شيئاً من الأمور المذكورة (فصيام) أي فكفارته صيام (ثلاثة أيام) وقرئ متتابعات، حكي ذلك عن ابن مسعود وأُبَيّ فتكون هذه القراءة مقيدة لمطلق الصوم، وبه قال أبو حنيفة والثوري وهو أحد قولي الشافعي، وقال مالك والشافعي في قوله الآخر يجزئ التفريق، وظاهره أنه لا يشترط التتابع (1).
(ذلك) المذكور (كفارة أيمانكم إذا حلفتم) وحنثتم (واحفظوا أيمانكم) أمرهم بحفظ الأيمان وعدم المسارعة إليها أو إلى الحنث بها، وفيه النهي عن كثرة الحلف والنكث ما لم يكن على فعل بر وإصلاح بين الناس كما في سورة البقرة.
وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير " أخرجه الشيخان (2).
(كذلك) أي مثل ذلك البيان (يبين الله لكم آياته) أي جميع ما تحتاجون إليه في أمر دينكم وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز (لعلكم تشكرون) ما أنعم الله به عليكم من بيان شرائعه وإيضاح أحكامه.
_________
(1) ابن كثير 2/ 90.
(2) مسلم 1649 - البخاري 1476.
(4/44)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
(4/45)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
(يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر) خطاب لجميع المؤمنين، وقد تقدم تفسير الخمر والميسر في سورة البقرة (والأنصاب) هي الأصنام المنصوبة للعبادة، جمع نصب كجمل أو نصب بضمتين (والأزلام) قد تقدم تفسيرها في أول هذه السورة أي قداح الاستقسام (رجس) يطلق على العذرة والأقذار، قال الزجاج: الرجس اسم لكل ما استقذر من عمل قبيح يقال رجس بكسر الجيم وفتحها يرجس رجساً إذا عمل قبيحاً، وأصله من الرجس بفتح الراء وهو شدة صوت الرعد.
وفردق ابن دريد بين الرجس والرجز والركس فجعل الرجس الشر، والرجز العذاب، والركس العذرة والنتن، وهو خبر للخمر، وخبر المعطوف عليه محذوف.
(من عمل الشيطان) صفة لرجس أي كائن من عمله بسبب تحسينه لذلك وتزيينه له ودعائه إياكم إليها، وليس المراد أنها من عمل يديه، وقيل هو الذي كان عمل هذه الأمور بنفسه فاقتدى به بنو آدم.
والضمير في (فاجتنبوه) راجع إلى الرجس أو إلى المذكور أي كونوا جانباً منه (لعلكم تفلحون) أي لكي تدركوا الفلاح إذا اجتنبتم هذه المحرمات التي هي رجس.
قال في الكشاف: أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد منها تصدير الجملة بإنما، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " شارب الخمر كعابد الوثن "، ومنها أنه جعلها رجساً كما قال:
(4/45)
(فاجتنبوا الرجس من الأوثان) ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت، ومنها أنه أمر بالاجتناب ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبة ومحقة، ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال، وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمار وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلوات.
وفي هذه الآية دليل على تحريم الخمر لما تضمنه الأمر بالاجتناب من الوجوب وتحريم الصد، ولما تقرر في الشريعة من تحريم قربان الرجس فضلاً عن جعله لشراباً يشرب.
قال أهل العلم من المفسرين وغيرهم: كان تحريم الخمر بتدريج ونوازل كثيرة لأنهم كانوا قد ألفوا شربها وحببها الشيطان إلى قلوبهم، فأول ما نزل في أمرها (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) فترك عند ذلك بعض من المسلمين شربها ولم يتركه آخرون.
ثم نزل قوله تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فتركها البعض أيضاً وقالوا لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة، وشربها البعض في غير أوقات الصلاة حتى نزلت هذه الآية (إنما الخمر والميسر) فصارت حراماً عليهم حتى كان يقول بعضهم ما حرم الله شيئاً أشد من الخمر، وذلك لما فهموه من التشديد فيما تضمنته هذه الآية من الزواجر، وفيما جاءت به الأحاديث الصحيحة من الوعيد لشاربها وأنها من كبائر الذنوب.
وقد أجمع على ذلك المسلمون جميعاً لا شك فيه ولا شبهة، وأجمعوا أيضاً على تحريم بيعها والانتفاع بها ما دامت خمراً.
وكما دلت هذه الآية على تحريم الخمر دلت أيضاً على تحريم الميسر والأنصاب والأزلام، قال قتادة: الميسر هو القمار، وقال ابن عباس: كل القمار من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، وعن علي بن أبي طالب قال: النرد والشطرنج من الميسر، وعنه قال: الشطرنج ميسر الأعاجم، وقال
(4/46)
قاسم بن محمد: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر.
وعن ابن الزبير قال: يا أهل مكة بلغني عن رجال يلعبون بلعبة يقال لها نردشير، والله يقول في كتابه: (إنما الخمر والميسر) الآية إلى قوله: (فهل أنتم منتهون) وإني أحلف بالله لا أوتي بأحد يلعب بها إلا عاقبته في شعره وبشره وأعطيت سلبه من أتاني به.
عن أنس بن مالك قال: الشطرنج من النرد، وبلغنا عن ابن عباس أنه ولي مال يتيم فاحرقها، وسئل ابن عمر عن الشطرنج فقال: هي شر من النرد، وسئل أبو جعفر عنه فقال: تلك المجوسية فلا تلعبوا بها.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من لعب النردشير فقد عصى الله ورسوله " وأخرج ابن أبي الدنيا عن يحيى بن كثير قال: مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوم يلعبون بالنرد فقال: قلوب لاهية وأيد عليلة وألسنة لاغية، وقال ابن سيرين ما كان من لعب فيه قمار أو صياح أو شر فهو من الميسر، وفي الباب روايات كثيرة مشتملة على الوعيد الشديد لا نطول بذكرها.
وقد أشار سبحانه إلى ما في الخمر والميسر من المفاسد الدنيوية بقوله:
(4/47)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
(إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) ومن المفاسد الدينية بقوله: (ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة) لأن شرب الخمر يشغل عن ذكر الله وعن فعل الصلاة وكذلك القمار يشغل صاحبه عن ذكره سبحانه وعن الصلاة (فهل أنتم منتهون) فيه زجر بليغ يفيده الاستفهام الدال على التقريع والتوبيخ، ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما سمع هذا: انتهينا.
وقد وردت أحاديث كثيرة في ذم الخمر وشاربها والوعيد الشديد عليه، وأن كل مسكر حرام وهي مدونة في كتب الحديث، ورويت في سبب النزول روايات كثيرة فلا نطول المقام بذكرها فلسنا بصدد ذلك، بل نحن بصدد ما هو متعلق بالتفسير.
(4/47)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
ثم أكد الله سبحانه هذا التحريم بقوله:
(4/48)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فيما أمركم به ونهاكم عنه (واحذروا) مخالفتهما فإن هذا وإن كان أمراً مطلقاً فالمجيء به في هذا الموضع يفيد ما ذكرناه من التأكيد، وهكذا ما أفاده بقوله: (فإن توليتم) أي أعرضتم عن الامتثال (فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين) أي قد فعل الرسول ما هو الواجب عليه من البلاغ الذي فيه رشادكم وصلاحكم ولم تضروا بالمخالفة إلا أنفسكم، وفي هذا من الزجر ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه.
(4/48)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
(ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) من المطاعم التي يشتهونها، والطعم وإن كان استعماله في الأكل أكثر لكنه يجوز استعماله في الشرب، ومنه قوله تعالى: (ومن لم يطعمه فإنه مني) أباح الله لهم سبحانه في هذه الآية جميع ما طعموا كائناً ما كان مقيداً بقوله: (إذا ما اتقوا) ما هو محرم عليهم كالخمر وغيره من الكبائر وجميع المعاصي (وآمنوا) بالله ورسوله (وعملوا الصالحات) من الأعمال التي شرعها الله لهم واستمروا على عملها (ثم اتقوا) ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحاً فيما سبق (وآمنوا) بتحريمه، هذا معنى الآية.
وقيل التكرير باعتبار الحالات الثلاث: استعمال الإنسان التقوى بينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وبينه وبين الله، وقيل باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى، وقيل باعتبار ما يتقيه الإنسان فإنه ينبغي له أن يترك المحرمات توقياً من العقاب، والشبهات توقياً من الوقوع في الحرام، وبعض
(4/48)
المباحات حفظاً للنفس عن الخسة وتهذيباً لها عن دنس الطبيعة.
وقيل التكرير لمجرد التأكيد كما في قوله تعالى: (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) ونظائره (1).
وهذه الوجوه كلها مع قطع النظر عن سبب نزول الآية. أما مع النظر إلى سبب نزولها وهو أنه لما نزل تحريم الخمر قال قوم من الصحابة: كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر فنزلت، فقد قيل إن المعنى: اتقوا الشرك وآمنوا بالله ورسوله ثم اتقوا الكبائر وآمنوا أي ازدادوا إيماناً (ثم اتقوا) الصغائر، قال أبو السعود: ولا ريب في أنه لا تعلق لهذه العبارات بالمقام فأحسن التأمل انتهى.
(وأحسنوا) أي تنقلوا قال ابن جرير الطبري: الاتقاء الأول هو الاتقاء بتلقي أمر الله بالقبول والتصديق والدينونة به والعمل، والاتقاء الثاني الاتقاء بالثبات على التصديق، والاتقاء الثالث بالإحسان والتقرب بالنوافل.
قلت: والحق أنه ليس تخصيص هذه المرات بالذكر لتخصيص الحكم بها بل لبيان التعدد والتكرير بالغاً ما بلغ (والله يحب المحسنين) أي المتقربين إليه بالإيمان والأعمال الصالحة والتقوى والإحسان، وهذا ثناء ومدح لهم على الإيمان والتقوى والإحسان، لأن هذه المقامات من أشرف الدرجات وأعلاها.
_________
(1) زاد المسير/419.
(4/49)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
(4/50)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
(يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم) اللام لام القسم أي والله ليختبرنكم (الله بشيء من الصيد) لما كان الصيد أحد معايش العرب ابتلاهم الله بتحريمه مع الإحرام وفي الحرم كما ابتلى بني إسرائيل أن لا يعتدوا في السبت.
وقد اختلف العلماء في المخاطبين بهذه الآية هل هم المحلون أو المحرمون، فذهب إلى الأول مالك، وإلى الثانى ابن عباس " والراجح أن الخطاب للجميع ولا وجه لقصره على البعض دون البعض " و (من) في (من الصيد) للتبعيض وهو صيد البر قاله ابن جرير الطبري وغيره، وقيل: إن من بيانية أي شيء حقير من الصيد وتنكير شيء للتحقير، والصيد بمعنى المصيد لا بمعنى المصدر لأنه حدث.
(تناله أيديكم ورماحكم) هذه الجملة تقتضي تعميم الصيد، وأنه لا فرق بين ما يؤخذ باليد وهو ما لا يطيق الفرار من صغار الصيد كالبيض والفرخ، وبين ما تناله الرماح وهو ما يطيق الفرار من كبار الصيد مثل حمر الوحش ونحوها.
وخص الأيدي بالذكر لأنها أكثر ما يتصرف به الصايد في أخذ الصيد، وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم الآلات للصيد عند العرب، وكان ذلك الابتلاء بالحديبية سنة ست وهم محرمون بالعمرة، فكانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم.
(4/50)
(ليعلم الله من يخافه بالغيب) أي ليتميز عند الله من يخافه منكم بسبب عقابه الأخروي فإنه غائب عنكم غير حاضر، وفي البيضاوي ذكر العلم وأراد وقوع المعلوم وظهوره أو تعلق العلم، وقال السيوطي ليعلم علم ظهور للخلق.
(فمن اعتدى بعد ذلك) البيان أو النهي الذي امتحنكم الله به فاصطاده لأن الاعتداء بعد العلم بالتحريم معاندة لله سبحانه وتجرؤ عليه (فله عذاب أليم) يعني في الدنيا، قال ابن عباس: هو أن يوشع ظهره وبطنه جلداً وتسلب ثيابه، وهذا قول أكثر المفسرين في معنى هذه الآية لأنه قد سمى الجلد عذاباً وهو قوله وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وقيل المراد عذاب الدارين.
(4/51)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
(يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) نهاهم عن قتل الصيد في حال الإحرام، وفي معناه غير محلي الصيد وأنتم حرم والتصريح بقوله: (لا تقتلوا) مع كونه معلوماً مما قبله لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبه عليه، واللام في الصيد للعهد حسبما سلف.
وهذا النهي شامل لكل أحد من ذكور المسلمين وإناثهم، لأنه يقال رجل حرام وامرأة حرام والجمع حرم، وأحرم الرجل دخل في الحرم وحرام هو المحرم وإن كان في الحل، وفي حكمه من في الحرم وإن كان حلالاً كردح جمع رداح، قيل هما مرادان بالآية، وسيأتي في النهي عن قتل الصيد فلا يجوز قتل الصيد للمحرم ولا في الحرم، والمراد بالصيد كل حيوان متوحش مأكول اللحم قاله الشافعي.
وقال أبو حنيفة: سواء كان مأكولاً أو لم يكن، فيجب عنده الضمان على من قتل سبعاً أو نمراً أو نحو ذلك، واستثنى الشارع خمس فواسق فأجاز قتلهن (1).
_________
(1) في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور ".
(4/51)
(ومن قتله منكم متعمداً) هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام، والمخطئ هو الذي يقصد شيئاً فيصيب صيداً، والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه، وقد استدل ابن عباس وأحمد في رواية عنه وداود باقتصاره سبحانه على العامد بأنه لا كفارة على غيره بل لا تجب إلا عليه وحده، وبه قال سعيد بن جبير وطاوس وأبو ثور.
وقيل: إنها تلزم الكفارة المخطئ والناسي كما تلزم المتعمد، وجعلوا قيد التعمد خارجاً مخرج الغالب، وهو مروي عن عمر والحسن والنخعي والزهري، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة. وأصحابهم، وروي عن ابن عباس، وقيل: إنه يجب التكفير على العامد الناسي لإحرامه وبه قال مجاهد، قال: فإن كان ذاكراً لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها.
(فجزاء) أي فعليه جزاء (مثل ما قتل من المنعم) بيان للجزاء المماثل قيل المراد المماثلة في القيمة وقيل في الخلقة، وقد ذهب إلى الأول أبو حنيفة، وذهب إلى الثاني مالك والشافعي وأحمد والجمهور من الصحابة ومن بعدهم وهو الحق. لأن البيان للماثل بالمنعم يفيد ذلك وكذلك يفيده هدياً بالغ الكعبة.
وروي عن أبي حنيفة أنه يجوز إخراج القيمة ولو وجد المثل، وأن المحرم مخير. وللسلف في تقدير الجزاء المماثل وتقدير القيمة أقوال مبسوطة في مواطنها، وفي قراءة بإضافة جزاء، قال الواحدي: ولا ينبغي إضافة الجزاء إلى المثل لأن عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، فإنه لا جزاء عليه لما لم يقتله، وقد أجاب الناس عنها بأجوبة سديدة، ذكرها السمين.
(يحكم به) أي بالجزاء وبمثل ما قتل (ذوا عدل منكم) أي رجلان معروفان بالعدالة بين المسلمين لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به، وقد حكم ابن عباس وعمر وعلي في النعامة ببدنةٍ، وابن عباس وأبو عبيدة في بقر الوحش
(4/52)
وحماره ببقرة، وابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام لأنها تشبهه في العب أي شرب الماء بلا مص.
أقول ههنا أمران أحدهما اعتبار المماثلة والثاني حكم العدلين، والظاهر أن العدلين إذا حكما بغير المماثل لم يلزم حكمهما لأنه قال يحكم به أي بالمماثل، وحق العدالة أن لا يقع من صاحبها الحكم بغير المماثل إلا لغلط أو طروء شبهة بأن المعتبر في المماثلة هو هذا الوصف دون هذا الوصف والواقع بخلافه.
ثم الظاهر أن العدلين إذا حكما بحكم في السلف لا يكون ذلك الحكم لازماً للخلف بل تحكيم العدلين ثابت عند كل حادثة تحدث في قتل الصيد.
إذا تقرر لك هذا فاعلم أن جعل الظبي مشبهاً للشاة دون التيس مخالف للمشاهد المحسوس، فإن الظبي يشبه التيس في غالب ذاته وصفاته، ولا مشابهة بينه وبين الشاة في غالب ذاته وصفاته، وكذلك الحمامة فإنها لا تشبه الشاة في شيء من الأوصاف، وإذا صح من بعض السلف أنه حكم في شيء منها بشاة فذلك غير لازم لنا لما عرفت من أن حكم العدلين لا بد أن يكون بالمثل كما صرح به القرآن الكريم، وما أقرب ما حكم به ابن عباس وابن عمر في القطاة، فكان الأولى أن يكون الحكم في الحمامة وما يشابهها من الطيور كهذا الحكم في القطاة ويزاد قليلاً من الطعام لما هو أكبر، وينقص قليلاً لما هو أصغر، وكما قاله عمر تمرة خير من جرادة، وأقول أنا وصاع خير من حمامة.
(هدياً) منصوب على الحال أو البدل من مثل (بالغ الكعبة) صفة لهدي لأن الإضافة غير حقيقية، والمعنى أنهما إذا حكما بالجزاء فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإرسال إلى مكة والنحر هنالك والإشعار والتقليد، ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها وإنما أراد جميع الحرم فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه، ولا يجوز أن يذبح حيث كان ولا خلاف في هذا.
(أو كفارة) معطوف على محل من النعم وهو الرفع لأنه خبر مبتدأ
(4/53)
محذوف (طعام مساكين) من غالب قوت البلد ما يساوي قيمة الجزاء لكل مسكين مد (أو عدل ذلك) معطوف على طعام (صياماً) تمييز العدل، والمعنى أو قدر ذلك صياماً، والجاني مخير بين هذه الأنواع المذكورة وإليه ذهب جمهور العلماء منهم الشافعي ومالك وأبو حنيفة، وقال أحمد وزفر: إن كلمة أو للترتيب وهما روايتان عن ابن عباس.
وروي عنه أنه لا يجزئ المحرم الإطعام والصوم إلا إذا لم يجد الهدي، والعدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما المثل قاله الكسائي، وقال الفراء: عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه، وبفتح العين مثله من غير جنسه وبمثل قول الكسائي قال البصريون.
وأوجبنا ذلك عليه (ليذوق وبال أمره) فهذا علة لإيجاب الجزاء، والذوق مستعار لإدراك المشقة، ومثله (ذق إنك أنت العزيز الكريم) والوبال سوء العاقبة والمرعى الوبيل الذي يتأذى به بعد أكله، وطعام وبيل إذا كان ثقيلاً، وإنما سمى الله ذلك وبالاً لأن إخراج الجزاء ثقيل على النفس لما فيه من تنقيص المال، وثقل الصوم من حيث إن فيه إنهاك البدن.
(عفا الله عما سلف) يعني في جاهليتكم من قتلكم للصيد فلم يؤاخذكم به، وقيل عما سلف قبل التحريم ونزول الكفارة (ومن عاد) إلى ما نهيتم عنه من قتل الصيد مرة ثانية بعد هذا البيان (فينتقم الله منه) في الآخرة فيعذبه بذنبه وقيل ينتقم منه بالكفارة، قال شريح وسعيد بن جبير: يحكم عليه في أول مرة، فإذا عاد لم يحكم عليه بل يقال له اذهب ينتقم الله منك أي ذنبك أعظم من أن يكفر، والإنتقام المبالغة في العقوبة.
ولكن هذا الوعيد لا يمنع إيجاب الجزاء في المرة الثانية والثالثة، فإذا تكرر من المحرم قتل الصيد تكرر عليه الجزاء، وهذا قول الجمهور، وقد روي عن ابن عباس والنخعي وداود الظاهري أنه إذا قتل الصيد مرة ثالثة فلا جزاء عليه لأنه وعده بالإنتقام منه (والله عزيز) غالب على أمره (ذو انتقام) ممن عصاه وجاوز حدود الإسلام.
(4/54)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
(أحل لكم) الخطاب لكل مسلم أو للمحرمين خاصة (صيد البحر) هو ما يصاد فيه، والمراد بالبحر هنا كل ما يوجد فيه صيد بحري وإن كان نهراً أو غديراً فالمراد بالبحر جميع المياه العذبة والمالحة (وطعامه) هو اسم لكل ما يطعم وقد تقدم.
وقد اختلف في المراد منه هنا فقيل هو ما قذف به البحر إلى الساحل ميتاً وطفا عليه، وبه قال كثير من الصحابة والتابعين منهم أبو بكر وعمر وابن عمر وأبو أيوب وقتادة، وقيل طعامه ما ملح منه وبقي وبه قال جماعة، وروي هذا عن ابن عباس وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والسدي، وقيل طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره وبه قال قوم، وقيل المراد به ما يطعم من الصيد أي ما يحل أكله وهو السمك فقط وبه قالت الحنفية.
والمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم المأكول منه وهو السمك فيكون كالتخصيص بعد التعميم وهو تكلف ولا وجه له.
وجملة حيوان الماء على نوعين سمك وغير سمك، فالسمك جميعه حلال على اختلاف أجناسه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البحر: " هو الطهور ماؤه والحل ميتته " (1) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، لا فرق بين أن يموت بسبب أو غير سبب فيحل أكله، وبه قال الشافعي وأهل الحديث.
وما عدا السمك قسمان قسم يعيش في البر والبحر كالضفدع والسرطان فلا يحل أكلهما، وقال سفيان أرجو أن لا يكون بالسرطان بأس واختلفوا في
_________
(1) أبو داود الباب 41 من كتاب الطهارة - الترمذي الباب 52 من كتاب الطهارة.
(4/55)
الجراد فقيل هو من صيد البحر فيحل أكله للمحرم، وقال الجمهور إنه من صيد البر، ولا يحل أكله، وطير الماء من صيد البر أيضاً.
قال أحمد يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع والتمساح، وقال ابن أبي ليلى ومالك يباح كل ما في البحر، وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " طعامه ما لفظه ميتاً فهو طعامه "، وعن أبي بكر الصديق قال: صيد البحر ما تصطاده أيدينا وطعامه ما لاثه البحر، وفي لفظ طعامه كل ما فيه، وفي لفظ طعامه ميتته.
ويؤيد هذا ما في الصحيحين من حديث العنبرة التي ألقاها البحر فأكل الصحابة منها وأقرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وحديث هو الطهور ماؤه والحل ميتته، وحديث أحل لكم ميتتان ودمان.
(متاعاً لكم) أي متعتم به متاعاً، وقيل مختص بالطعام أي أحل لكم طعام البحر متاعاً وهو تكلف جاء به من قال بالقول الأخير، بل إذا كان مفعولاً له كان من الجميع أي لمن كان مقيماً منكم يأكله طرياً (وللسيارة) أي المسافرين منكم يتزودونه ويجعلونه قديداً، وقيل السيارة هم الذين يركبونه خاصة.
(وحرم عليكم صيد البر) أي ما يصاد فيه وهو ما لا يعيش إلا فيه من الوحش المأكول أن تصيدوه (ما دمتم حرماً) أي محرمين، وظاهره تحريم صيده على المحرم ولو كان الصائد حلالاً، وإليه ذهب الجمهور إن كان الحلال صاده للمحرم لا إذا لم يصده لأجله، وهو القول الراجح وبه يجمع بين الأحاديث.
وقيل إنه يحل له مطلقاً، وذهب إليه جماعة، وقيل يحرم عليه مطلقاً، وإليه ذهب آخرون، وقد بسط الشوكاني هذا في شرحه نيل الأوطار.
وقد ذكر الله تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة (أحدها) في أولها وهو قوله: (غير محلى الصيد وأنتم حرم) الثاني قوله: (لا
(4/56)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
تقتلوا الصيد وأنتم حرم) الثالث هذه الآية، وكل ذلك لتأكيد تحريم الصيد على المحرم.
(واتقوا الله) فيما نهاكم عنه فلا تستحلوا الصيد في حال الإحرام ولا في الحرم أو في جميع الجائزات والمحرمات، ثم حذرهم بقوله: (الذي إليه) لا إلى غيره (تحشرون) وفيه تشديد ومبالغة في التحذير.
(4/57)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
(جعل الله الكعبة) جعل هنا بمعنى خلق، وقيل بمعنى صير وقيل بمعنى بين وحكم، وهذا ينبغي أن يحمل على تفسير المعنى لا تفسير اللغة إذ لم ينقل أهل العربية أنها تكون بمعنى بين ولا حكم، ولكن يلزم من الجعل البيان، والأول أولى، وسميت الكعبة كعبة لأنها مربعة والتكعيب التربيع، وأكثر بيوت العرب مدورة لا مربعة وقيل سميت كعبة لنتوئها وبروزها، وكل بارز كعب مستديراً كان أو غير مستدير ومنه كعب القدم وكعوب القنا وكعب ثدي المرأة.
(البيت الحرام) عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح، قاله الزمخشري وقيل مفعول ثان لجعل، ولا وجه له، وقيل بدل وسمي بيتاً لأن له سقوفاً وجدراً، وهي حقيقة البيت وإن لم يكن به ساكن، وسمي حراماً لتحريم الله سبحانه إياه.
ومعنى كونه (قياماً للناس) أنه مدار لمعاشهم ودينهم أي يقومون فيه بما يصلح دينهم ودنياهم يأمن فيه خائفهم وينصر فيه ضعيفهم، وتربح فيه تجارتهم ويتعبد فيه متعبدهم، وقال ابن عباس: قياماً لدينهم ومعالم لحجهم،
(4/57)
وعنه قال: قياماً أن يأمن من توجه إليها، وعن ابن شهاب قال: يأمنون به من الجاهلية الأولى لا يخاف بعضهم من بعض حين يلقونهم عند البيت أو في الحرم أو في الشهر الحرام.
(والشهر الحرام) عطف على الكعبة، وهو ذو الحجة وخصه من بين الأشهر الحرم لكونه زمان تأدية الحج، وقيل هو اسم جنس المراد به الأشهر الحرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، فإنهم كانوا لا يطلبون فيها دماً ولا يقاتلون بها عدواً، ولا يهتكون فيها حرمة، فكانت من هذه الحيثية قياماً للناس (و) جعل الله (الهدي والقلائد) قياماً لمصالحهم، والمراد بالقلائد ذوات القلائد من الهدي وهي البدن، خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر، فهو من عطف الخاص على العام، قاله أبو السعود، ولا مانع من أن تراد القلائد أنفسها أي التي كانوا يقلدون بها أنفسهم يأخذونها من لحاء شجر الحرم إذا رجعوا من مكة ليأمنوا على أنفسهم من العدو.
(ذلك) الجعل المذكور، وقيل شرع الله ذلك وهو أقوى الوجوه (لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض) أي تفاصيل أمرهما ويعلم مصالحكم الدينية والدنيوية فإنها من جملة ما فيهما، فكل ما شرعه لكم فهو جلب لمصالحكم ودفع لما يضركم (وأن الله بكل شيء عليم) هذا تعميم بعد التخصيص والمعنى لا تخفى عليه خافية.
(4/58)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
(اعلموا أن الله) لمن انتهك محارمه ولم يتب عن ذلك (شديد العقاب) لأن الإيمان لا يتم إلا بحصول الرجاء والخوف (وأن الله) لمن تاب وأناب (غفور رحيم).
(4/58)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
ثم أخبرهم أن
(4/59)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
(ما على الرسول إلا البلاغ) لهم فإن لم يمتثلوا ولم يطيعوا فما ضروا إلا أنفسهم، وما جنوا إلا عليها، ولا عذر لهم في التفريط، وأما الرسول عليه الصلاة والسلام فقد فعل ما يجب عليه وقام بما أمره الله به، والبلاغ هو الإبلاغ، قاله السيوطي، وعبر القاضي كالكشاف بقوله: أتى بما أمر به من التبليغ، وذلك لقصد المبالغة والتكثير في زيادة الفعل والاستثناء مفرغ (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) لا يخفى عليه شيء من أحوالكم أي نفاقكم ووفاقكم ظاهراً وباطناً فيجازيكم به.
(4/59)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
(قل لا يستوي) في الدرجة والرتبة ولا يعتدل (الخبيث والطيب) قيل المراد بهما الحرام والحلال، وقيل المؤمن والكافر، وقيل العاصي والمطيع وقيل الرديء والجيد، والأولى أن الاعتبار بعموم اللفظ فيشمل هذه المذكورات وغيرها مما يتصف بوصف الخبث والطيب من الأشخاص والأعمال والأقوال، فالخبيث لا يساوي الطيب بحال من الأحوال.
(ولو أعجبك كثرة الخبيث) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقيل لكل مخاطب يصلح لخطابه بهذا أو المراد نفي الاستواء في كل حال ولو في حال كون الخبيث معجباً للرائي للكثرة التي فيه، فإن هذه الكثرة مع الخبث في حكم العدم، لأن خبث الشيء يبطل فائدته ويمحق بركته، ويذهب بمنفعته.
والواو إما للحال أو للعطف على مقدر أي لا يستوي الخبيث والطيب لو لم يعجبك كثرة الخبيث ولو أعجبك كقولك أحسن إلى فلان وإن أساء إليك
(4/59)
أي أحسن إليه إن لم يسئ إليك وإن أساء إليك والحاصل أن أهل الدنيا يعجبهم كثرة المال وزينة الدنيا وما عند الله خير وأبقى، وفيه إشارة إلى قلة الخير وكثرة الشر.
(فاتقوا الله) فيما أمركم به ونهاكم عنه وآثروا الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر (يا أولي الألباب) أي العقول السليمة الخالصة (لعلكم تفلحون) تفوزون وتنجون.
(4/60)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
(يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء) لا حاجة لكم بالسؤال عنها ولا هي مما يعنيكم في أمر دينكم، وفي أشياء مذاهب للنحاة.
(أحدها) أنه اسم جمع من لفظ شيء فهو مفرد لفظاً جمع معنى، وهو رأي الخليل وسيبويه.
(الثاني) وبه قال الفراء أنها جمع شيء كهين.
(الثالث) وبه قال الأخفش أنهما جمع شيء بِزِنَة فلس.
(الرابع) وهو قول الكسائي وأبى حاتم أنه جمع شيء كبيت، واعترض الناس عليه.
(الخامس) أن وزنه أفعلاء أيضاً جمع لشيء بزنة ظريف.
(إن تبد) أي إذا بدت وظهرت (لكم) وكلفتم بها (تسؤكم) أي ساءتكم لما فيها من المشقة، نهاهم الله تعالى عن كثرة مسائلهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن السؤال عما لا يعني ولا تدعو إليه حاجة قد يكون سبباً لإيجابه على السائل وعلى غيره.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال رجل: من أبي! فقال: فلان فنزلت هذه الآية لا تسألوا عن أشياء، وأخرج البخاري وغيره نحوه عن ابن عباس.
(4/60)
وقد بين هذا السائل في روايات أخر أنه عبد الله بن حذافة، وأنه قال: من أبي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أبوك حذافة.
وأخرج ابن حبان عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب فقال: " يا أيها الناس إن الله قد افترض عليكم الحج، فقام رجل فقال أكل عام يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسكت عنه فأعادها ثلاث مرات فقال لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها، ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " (1) وذلك أن هذه الآية أعني لا تسألوا عن أشياء نزلت في ذلك، وأخرجه أيضاً جماعة من أهل الحديث، وكل هؤلاء صرحوا في أحاديثهم أن الآية نزلت في ذلك.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: كانوا يسألون عن الشيء وهو لهم حلال فما زالوا يسألون حتى يحرم عليهم وإذا حرم عليهم وقعوا فيه.
وأخرج ابن المنذر وهو في مسلم عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فيحرم من أجل مسألته " (2).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها. وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها " (3)، وعن ابن عباس قال: لا تسألوا عن أشياء قال البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
_________
(1) الترمذي كتاب التفسير سورة 5 - 15 - النسائي كتاب المناسك الجزء1.
(2) البخاري كتاب الاعتصام الباب 2 - مسلم كتاب الفضائل 132 - 133.
(3) المستدرك كتاب الأطعمة 4/ 115.
(4/61)
(وإن تسألوا عنها) الضمير يعود على نوع الأشياء المنهيّ عنها لا عليها أنفسها قاله ابن عطية ونقله الواحدي عن صاحب النظم ويحتمل أن يعود عليها أنفسها قاله الزمخشري بمعناه (حين ينزل القرآن) أي مع وجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهركم ونزول الوحي عليه (تبد) أي تظهر (لكم) بما يجيب به عليكم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ينزل به الوحي فيكون ذلك سبباً للتكاليف الشاقة، وإيجاب ما لم يكن واجباً، وتحريم ما لم يكن محرماً بخلاف السؤال عنها بعد انقطاع الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا إيجاب ولا تحريم يتسبب عن السؤال.
وقد ظن بعض أهل التفسير أن الشرطية الثانية فيها إباحة السؤال مع وجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزول الوحي عليه فقال: إن الشرطية الأولى أفادت عدم جوازه فقال إن المعنى وإن تسألوا عن غيرها مما مست إليه الحاجة تبدو لكم بجواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها وجعل الضمير في عنها راجعاً إلى أشياء غير الأشياء المذكورة، وجعل ذلك كقوله: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) وهو آدم ثم قال: (ثم جعلناه نطفة) أي ابن آدم، وقد أطال سليمان الجمل الكلام على هذه الآية بذكر أقوال الكرخي والخازن والقرطبي والجرجاني لا نطول بذكرها.
(عفا الله عنها) أي عن ما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى ذلك، وقيل المعنى أن تلك الأشياء التي سألتم عنها هي مما عفا عنه ولم يوجبه عليكم فكيف تتسببون بالسؤال لإيجاب ما هو عفو من الله غير لازم، وضمير عنها عائد إلى المسألة على الأول وإلى أشياء على الثاني، على أن تكون جملة عفا الله عنها صفة ثالثة لأشياء والأول أولى، لأن الثاني يستلزم أن يكون ذلك المسؤول عنه قد شرعه الله ثم عفا عنه.
وممكن أن يقال: إن العفو بمعنى الترك أي تركها الله ولم يذكرها بشيء فلا تبحثوا عنها، وهذا معنى صحيح لا يستلزم ذلك اللازم الباطل (والله غفور حليم) جاء سبحانه بصيغة المبالغة ليدل ذلك على أنه لا يعاجل من عصاه بالعقوبة لكثرة مغفرته وسعة حلمه.
(4/62)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
(4/63)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
(قد سألها) الضمير يرجع إلى المسألة المفهومة من (لا تسألوا) لكن ليست هذه المسألة بعينها بل مثلها في كونها لا حاجة إليها ولا توجبها الضرورة الدينية قاله الزمخشري، ونحا ابن عطية منحاه، قال الشيخ ولا يتجه قولهما إلا على حذف مضاف، وقد صرح به بعض المفسرين أي سأل أمثالها أو أمثال هذه السؤالات.
(قوم من قبلكم) كما سأل قوم صالح الناقة وسأل قوم عيسى المائدة وسأل قوم موسى رؤية الله جهرة (ثم) لم يعملوا بها بل (أصبحوا بها كافرين) أي ساترين لها تاركين للعمل بها فإن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم في أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا.
ولا بد من تقييد النهي في هذه بما لا تدعو إليه حاجة كما قدمنا لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين والدنيا قد أذن الله بالسؤال عنه فقال فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال صلى الله عليه وسلم: " قاتلهم الله ألا سألوا فإنما شفاء العي السؤال " (1).
_________
(1) أبو داود كتاب الطهارة الباب 125 - أحمد بن حنبل 1/ 280.
(4/63)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
(ما جعل الله من بحيرة) هذا كلام مبتدأ يتضمن الرد على أهل الجاهلية فيما ابتدعوه وجعل ههنا بمعنى سمي كما قال تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً) ويتعدى لمفعولين أحدهما محذوف والتقدير ما سمى الله حيواناً بحيرة قاله أبو البقاء، وقال ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء: إنها تكون بمعنى شرع
(4/63)
ووضع أي ما شرع الله ولا أمر بها، وقال ابن عطية، وجعل في هذه الآية لا تكون بمعنى خلق لأن الله خلق هذه الأشياء كلها، ولا بمعنى صير لأن التصيير لا بد له من مفعول ثان فمعناه ما بين الله ولا شرع.
ومنع الشيخ هذه التقولات كلها بأن جعل لم يعد اللغويون من معانيها شرع وخرج الآية على التصيير ويكون المفعول الثاني محذوفاً أي ما صير الله بحيرة مشروعة، وقال أبو السعود: معنى ما جعل ما شرع وما وضع ولذلك عدي إلى مفعول واحد هو بحيرة وما عطف عليها، ومن مزيدة لتأكيد النفي فإن الجعل التكويني كما يجيء تارة متعدياً إلى مفعولين وأخرى إلى واحد كذلك الجعل التشريعي يجيء مرة متعدياً إلى مفعولين كما في قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس) وأخرى إلى واحد كما في الآية الكريمة انتهى.
وبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة كالنطيحة والذبيحة مأخوذة من البحر وهو شق الأذن،، قال ابن سيد الناس: البحيرة هي التي خليت بلا راع قيل هي التي يجعل درها للطّواغيت فلا يحتلبها أحد من الناس وجعل شق أذنها علامة لذلك، قاله سعيد بن المسيب.
قال الشافعي: كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت، وبه قال أبو عبيدة زاد: فلا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن مرعى ولا ماء، وإذا لقيها الضعيف لم يركبها، وقيل إن الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكراً بحروا أذنه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها وكانت حراماً على النساء لحمها ولبنها.
وقيل إذا نتجت خمسة أبطن من غير تقييد بالإناث شقوا أذنها وحرموا ركوبها ودرها وقيل غير ذلك، ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن العرب كانت تختلف أفعالها في البحيرة.
(ولا) أي وما جعل من (سائبة) أى مسيبة مخلاة وهي الناقة تسيب
(4/64)
أو البعير يسيب نذر على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله فلا يحبس عن رعي ولا ماء ولا يركبه أحد، قاله أبو عبيدة، وقيل هي التي تسيب لله فلا قيد عليها ولا راعي لها، وقيل هي التي تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر فعند ذلك لا يركب ظهرها، ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا الضيف قاله الفراء، وقيل كانوا يسيبون العبد فيذهب حيث يشاء لا يد عليه لأحد.
(ولا) أي وما جعل من (وصيلة) قيل هي ناقة ولدت أنثى بعد أنثى، وقيل هي الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، وقيل كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا فإن كان السابع ذكراً ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبح لمكانها وكان لحمها حراماً على النساء إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء.
وقيل: هي الناقة تبكر فتلد أنثى ثم تثنى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ويقولون قد وصلت أنثى بأنثى.
(ولا) جعل من (حام) هو الفحل الحامي ظهره عن أن يركب وينتفع به، وكانوا إذا ركب ولد ولد الفحل قالوا حمى ظهره فلا يركب، وقيل هو الفحل إذا نتج من صلبه عشرة قالوا حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء، وقيل هو الفحل ينتج من بين أولاده عشر إناث رواه ابن عطية وقيل هو الفحل يولد من صلبه عشرة أبطن، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وإليه مال أبو عبيدة والزجاج.
وقال الشافعي: إنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين، وقال ابن دريد: هو الفحل ينتج له سبع إناث متواليات فيحمي ظهره فيفعل به ما تقدم.
(4/65)
وقد عرفت منشأ خلاف أهل اللغة في هذه الأشياء وإنه باعتبار اختلاف مذاهب العرب وآرائهم الفاسدة فيها.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يحلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء، والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل بأنثى ثم تثنى بعد بالأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، والحامي فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً ورأيت عمراً يعني عمرو بن لحي يجر قصبه أي أمعاءه وهو أول من سيب السوائب " أخرجه الشيخان (1).
(ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) وصفهم الله سبحانه بأنهم ما قالوا ذلك إلا افتراء على الله وكذباً لا لشرع شرعه الله لهم، ولا لعقل دلهم الله عليه، وسبحان الله العظيم ما أرك عقول هؤلاء وأضعفها يفعلون هذه الأفاعيل التي هي محض الرقاعة ونفس الحمق، وهذا شأن علمائهم ورؤسائهم وكبرائهم.
(وأكثرهم) أي أراذلهم وعوامهم الذين يتبعونهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يشهد به سياق النظم (لا يعقلون) إن هذا كذب باطل وافتراء من الرؤساء على الله سبحانه حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق بأنفسهم فاستمروا في أشد التقليد، وهذا بيان لقصور عقولهم وعجزهم عن الاهتداء بأنفسهم.
_________
(1) مسلم 901 - البخاري 584.
(4/66)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
(وإذا قيل لهم) أي لعوامهم المعبر عنهم بالأكثر (تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول) أي إلى كتاب الله وسنة رسوله وحكمهما (قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) وهذه أفعال آبائهم وسننهم التي سنوها لهم، وصدق الله سبحانه حيث يقول (أو) الواو للحال دخلت عليها همزة الاستفهام للإنكار والتعجيب، وقيل للعطف على جملة مقدرة وهو الأظهر أي أحسبهم ذلك و (لو كان آباؤهم) جهلة ضالين (لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون) وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في البقرة، وقال هنا: (ما وجدنا) وهناك ما ألفينا، ولا يعلمون هنا ولا يعقلون هناك للتفنن وأساليب من التعبير، وهذا مما
استحسنه أبو حيان والسمين.
والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدى الذي يبنى قوله على الحجة والبرهان والدليل وأن آباءهم ما كانوا كذلك فكيف يصح الاقتداء بهم.
وقد صارت هذه المقالة التي قالتها الجاهلية نصب أعين المقلدة وعصاهم التي يتوكؤون عليها إن دعاهم داعي الحق وصرخ بهم صارخ الكتاب والسنة، فاحتجاجهم بمن قلدوه ممن هو مثلهم في التعبد بشرع الله مع مخالفة قوله لكتاب الله أو لسنة رسوله هو كقول هؤلاء، وليس الفرق إلا في مجرد العبارة اللفظية لا في المعنى الذي عليه تدور الإفادة والاستفادة، اللهم غفراً.
وكثيراً ما نسمع من أسراء التقليد الذين يعرفون الحق بالرجال لا بالاستدلال إذا قال لهم القائل الحق في هذه المسألة كذا أو الراجح قول فلان قالوا لست أعلم من فلان يعنون القائل من العلماء بخلاف الراجح في تلك
(4/67)
المسألة فنقول لهم نعم لست أعلم من فلان ولكن هل يجب علي اتباعه والأخذ بقوله فيقولون لا ولكن الحق لا يفوته، فنقول لهم لا يفوته وحده بخصوصية فيه أم لا يفوته ومن يشابهه من العلماء ممن بلغ إلى الرتبة التي بلغ إليها في العلم، فيقولون نعم لا يفوته هو وأشباهه ممن هو كذلك.
فيقال لهم: له من الأشباه والأنظار في علماء السلف والخلف آلاف مؤلفة بل فيهم أعداد متعددة يفضلونه ولهم في المسألة الواحدة الأقوال المتقابلة فربما كانت العين الواحدة عند بعضهم حلالاً وعند الآخر حراماً فهل تكون العين حلالاً وحراماً لكون كل واحد منهم لا يفوته الحق كما زعمتم، فإن قلتم نعم فهذا باطل ومن قال بتصويب المجتهدين إنما يجعل قول كل واحد منهم صواباً لا إصابة، وفرق بين المعنيين.
أو يقول القائل في جواب مقالتهم: فلان أعرف منك بالحق لكونه أعلم إذا كان الأسعد بالحق الأعلم، فما أحد إلا وغيره أعلم منه ففلان الذي يعنون غيره أعلم منه فهو أسعد منه بالحق فلم يكن الحق حينئذ بيده ولا بيد أتباعه.
وهذه المحاورات إنما يحتاج إليها من ابتلى بمحاورة المقصرين الذين لا يعقلون الحجج ولا يعرفون أسرار الأدلة، ولا يفهمون الحقائق، فيحتاج من ابتلي بهم وبما يرد عليه من قبلهم إلى هذه المناظرات التي لا يحتاج إلى مثلها من له أدنى تمسك بأذيال العلم، فإن كل عارف يعرف أن وظيفة المجتهد ليست قبول قول العالم المختص بمرتبة من العلم فوق مرتبته، إنما وظيفته قبول حجته فإذا لم تبرز الحجة لم يحل للمجتهد الأخذ بذلك القول الخالي عن الحجة في علمه وإن كان في الواقع وربما له حجة لم يطلع عليها العالم الآخر إلا أن مجرد هذا التجويز يجوز التمسك به في إحسان الظن بالعالم الأول وحمله على السلامة لا أنه يجوز التمسك به في أن المقالة حق يجوز التمسك بها كما يجوز التمسك بالدليل، فهو لا يقوله إلا من لا حظ له من العلم ولا نصيب له من العقل.
(4/68)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
(يا أيها الذين آمنوا عليكم) أي الزموا (أنفسكم) واحفظوها من ملابسة الذنوب والإصرار على المعاصي وقوموا بصلاحها، يقال عليك زيداً أي الزم زيداً فالنصب على الإغراء، واختلف النحاة في الضمير المتصل بها وبأخواتها نحو إليك ولديك ومكانك، والصحيح أنه في موضع جر، كما كان قبل أن تنقل الكلمة إلى الإغراء، وهذا مذهب سيبويه.
وذهب الكسائي إلى أنه منصوب المحل وفيه بعد لنصب ما بعده، وذهب الفراء إلى أنه مرفوع، وقد حققت هذه المسائل بدلائلها مبسوطة في شرح التسهيل.
(لا يضركم) ضلال (من ضل) من الناس أي أهل الكتاب وغيرهم (إذا اهتديتم) للحق أنتم في أنفسكم، وليس في الآية ما يدل على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من تركه مع كونه من أعظم الفروض الدينية فليس بمهتد، وقد قال سبحانه: (إذا اهتديتم).
وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوباً مضيقاً متحتماً، فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر والنهي أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال أو يخشى على نفسه أن يحل به ما يضره وضرراً يسوغ له معه الترك.
أخرج الترمذي وصححه وابن ماجه وابن جرير والبغوي وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية قال أية آية؟ قلت قوله: (يا أيها الذين آمنوا) الخ قال أما والله لقد سألت
(4/69)
عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم، وفي لفظ قيل يا رسول الله منا أو منهم، قال بل أجر خمسين منكم " (1).
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عامر الأشعري أنه كان فيهم أعمى فاحتبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال له: " ما حبسك؟ قال يا رسول الله قرأت هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) الآية، قال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أين ذهبتم، إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم ".
وأخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والدارقطني وأحمد وغيرهم عن قيس ابن أبي حازم قال: قام أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وإنكم تضعونها على غير مواضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب، وفي لفظ لابن جرير عنه والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله منه بعقاب " (2).
وعن ابن مسعود وسأله رجل عن قوله عليكم أنفسكم قال: إنه ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم، وعن ابن عمر أنها لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم، وعن أبي بن كعب إنما
_________
(1) الترمذي كتاب التفسير سورة 5 - 18 - ابن ماجه كتاب الفتن الباب 21.
(2) أحمد بن حنبل 1/ 5 - 7.
(4/70)
تأويلها في آخر الزمان.
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال ذكرت هذه الآية عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " لم يجئ تأويلها لا يجىء تأويلها، حتى يهبط عيسى بن مريم عليه السلام ".
قال الطبري: وأولى هذه الأقوال وأوضح التأويلات عندنا في هذه الآية ما روي عن أبي بكر الصديق وهو العمل بطاعة الله وأداء ما لزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم والله ما نزل آية أشد منها.
وعن ابن المبارك هذه الآية أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الله تعالى قال عليكم أنفسكم يعني أهل دينكم بأن يعظ بعضكم بعضاً ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والمكروهات.
وقال مجاهد وابن جبير: هي في اليهود والنصارى خذوا منهم الجزية واتركوهم.
وقال أبو السعود: ولا يتوهم أن في هذه الآية رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع استطاعتهما، كيف لا ومن جملة الاهتداء أن ينكر على المنكر حسبما تفي به الطاقة انتهى.
والأقوال والروايات في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية، ففيه ما يرشد إلى ما قدمنا من الجمع بين هذه الآية وبين الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(إلى الله مرجعكم جميعاً) أي إليه في الآخرة رجوع الطائع والعاصي والضال والمهتدي، ففي الآية اكتفاء (فينبئكم بما كنتم تعملون) أي فيخبركم بأعمالكم ويجزيكم عليها، وفي هذا وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بعمل غيره.
(4/71)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
(يا أيها الذين آمنوا) استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم أثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم (شهادة بينكم) قال مكي في كتابه المسمى بالكشف: هذه الآيات الثلاث يعني هذه واللتان بعدها عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً وتفسيراً ولم يزل العلماء يستشكلونها ويكفون عنها. قال ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد.
قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها وذلك بين من كتابه رحمه الله تعالى يعني من كتاب مكي، قال القرطبي: ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضاً، قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً انتهى.
قال السخاوي: لم أر أحداً من العلماء تخلص كلامه من أولها إلا آخرها قلت وأنا أستعين الله تعالى في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراآتها ومعرفة تأليفها، وأما بقية علومها فنسأل الله العون في تهذيبها إلا آخر ما في عبارة السمين، فارجع إليه إن شئت.
وأضاف الشهادة إلا البين توسعاً لأنها جارية بينهم، وقيل أصله شهادة ما بينكم فحذفت (ما) وأضيفت إلا الظرف كقوله تعالى: (بل مكر الليل والنهار) ومنه قوله تعالى: (هذا فراق بيني وبينك) واختلف في هذه الشهادة فقيل هي هنا بمعنى الوصية، وقيل بمعنى الحضور للوصية.
(4/72)
وقال ابن جرير الطبري: هي هنا بمعنى اليمن أي يمين ما بينكم أن يحلف اثنان، واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله حكماً يجب فيه على الشاهد يمين، واختار هذا القول القفال، وضعف ذلك ابن عطية واختار أنها هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود أي الأخبار بحق للغير على الغير.
(إذا حضر أحدكم الموت) المراد بحضور الموت حضور علاماته لأن من مات لا يمكنه الإشهاد، وتقديم المفعول للإهتمام ولإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها فإنه أدخل في تهوين أمر الموت.
(حين الوصية) بدل منه لا ظرف للموت كما توهم ولا لحضوره كما قيل، فإن في الإبدال تنبيهاً على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها.
(اثنان ذوا عدل منكم) أي من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت وأنصح له وأقرب إلى تحري ما هو أصلح له (أو آخران) كائنان (من غيركم) أي من الأجانب وقيل إن الضمير في (منكم) للمسلمين والمراد بقوله (غيركم) الكفار وهو الأنسب بسياق الآية وبه قال أبو موسى الأشعري وابن عباس وغيرهما: فيكون في الآية دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر في خصوص الوصايا كما يفيده النظم القرآني، ويشهد له السبب للنزول وسيأتي.
فإذا لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته من المسلمين فليشهد رجلان من أهل الكفر فإذا قدما وأديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدلا، وإن ما شهدا به حق فيحكم حينئذ بشهادتهما فإن عثر بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الموصي وغرم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوها.
هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره، وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى ابن يعمر وسعيد بن جبير وأبو مجلز والنخعي وشريح وعبيدة السلماني وابن
(4/73)
سيرين ومجاهد وقتادة والسدي والثوري وأبو عبيد وأحمد بن حنبل، وذهب إلى الأول أعني تفسير ضمير منكم بالقرابة أو العشيرة وتفسير غيركم بالأجانب: الزهري والحسن وعكرمة، وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء إلى أن الآية منسوخة، واحتجوا بقوله: (ممن ترضون من الشهداء) وقوله: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) والكفار ليسوا بمرضيين ولا عدول.
وخالفهم الجمهور فقالوا: الآية محكمة وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ، وأما قوله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) وقوله: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) فهما علمان في الأشخاص والأزمان والأحوال، وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين، ولا تعارض بين خاص وعام.
(إن أنتم ضربتم في الأرض) الضرب في الأرض هو السفر أي إن سافرتم فيها، قال السمين قوله: إن أنتم قيد في قوله: (أو آخران) وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب ولو جرى على لفظ إذا حضر أحدكم الموت لكان التركيب هكذا إن هو ضرب في الأرض فأصابته.
(فأصابتكم مصيبة الموت) أي فنزل بكم أسباب الموت وقاربكم الأجل وأردتم الوصية حينئذ ولم تجدوا شهوداً عليها من المسلمين فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليها ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم وبما تركتم فارتابوا في أمرهما وادعوا عليهما خيانة فالحكم فيه أنكم (تحسبونهما) وتوقفونهما، ويجوز أن يكون استئنافاً كأنهم قالوا فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة فقال تحبسونهما.
(من بعد الصلاة) إن ارتبتم في شهادتهما وهي صلاة العصر، قاله الأكثر، لكونه الوقت الذي يغضب الله على من حلف فيه فاجراً كما في الحديث الصحيح، وعدم تعيينها في الآية لتعينها عندهم للتحليف بعدها قيل وجميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويجتنبون فيه الحلف الكاذب، وقيل لكونه وقت اجتماع الناس وقعود الحكام للحكومة، وقيل لأنه وقت تصادم ملائكة
(4/74)
الليل وملائكة النهار، وقيل صلاة أهل دينهما وقيل صلاة الظهر، قاله الحسن وقيل أي صلاة كانت، قاله القرطبي.
والمراد بالحبس توقيف الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما، وفيه دليل على جواز الحبس بالمعنى العام، وعلى جواز التغليظ على الحالف بالزمان والمكان ونحوهما.
(فيقسمان) أي الشاهدان على الوصية أو الوصيان (بالله) وقد استدل بذلك ابن أبي ليلى على تحليف الشاهدين مطلقاً إذا حصلت الريبة في شهادتهما وفيه نظر، لأن تحليف الشاهدين هنا إنما هو بوقوع الدعوى عليهما بالخيانة أو نحوها.
قال الشافعي: الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم، فيحلف بعد صلاة العصر إن كان بمكة بين الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وإن كان في بيت المقدس فعند الصخرة، وفي سائر البلاد في أشرف المساجد وأعظمها بها.
(إن ارتبتم) أي شككتم أيها الورثة في قول الشاهدين وصدقهما فحلفوهما وهذا إذا كانا كافرين أما إذا كانا مسلمين فلا يمين عليهما لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع.
(لا تشتري به ثمناً) الضمير راجع إلى الله تعالى، والمعنى لا نبيع حظنا من الله تعالى وعهده بهذا العرض النذر من الدنيا فنحلف به كاذبين لأجل مال ادعيتموه علينا وعوض نأخذه أو حق نجحده، وقيل يعود إلى القسم أي لا نستبدل لصحة القسم بالله عرضاً من أعراض الدنيا وقيل يعود إلى تحريف الشهادة قاله أبو علي.
وإنما ذكر الضمير لأنها بمعنى القول أي لا نستبدل بشهادتنا ثمناً، وهذا أقوى من حيث المعنى، قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن وهذا مبني على أن
(4/75)
العروض لا تسمى ثمناً، وعند الأكثر أنها تسمى ثمناً كما تسمى مبيعاً.
(ولو كان ذا قربى) أي ولو كان المشهود له أو المقسم له ذا قرابة منا، وإنما خص القربى بالذكر لأن الميل إليهم أكثر من غيرهم، والمعنى لا نؤثر العرض الدنيوى ولا القرابة، وجواب لو محذوف لدلالة ما قبلها عليه أي ولو كان ذا قربى لا نشتري به ثمناً.
(ولا نكتم شهادة الله) معطوف على (لا نشتري) داخل معه في حكم القسم، وأصاف الشهادة إلى الله سبحانه لكونه الآمر بإقامتها والناهي عن كتمها، قال ابن زيد: لا نأخذ به رشوة (إنا إذاً) إن كتمنا الشهادة (لمن الآثمين).
أخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والنحاس والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدا فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مخوصاً بالذهب فأحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالله ما كتمتماها ولا اطلعتما ثم وجدوا الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي. وقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم وأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآية، وفي إسناده محمد بن أبي القاسم الكوفي قال الترمذي: قيل إنه صالح الحديث، وقد روى ذلك أبو داود من طريقه.
وقد روى جماعة من التابعين أن هذه القصة هي السبب في نزول الآية، وذكرها المفسرون مختصرة ومطولة في تفاسيرهم، وقال القرطبي: إنه أجمع أهل التفسير على أن هذه القصة هي سبب نزول الآية.
(4/76)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
(4/77)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
(فإن عثر) يقال عثر على كذا اطلع عليه ويقال عثرت منه على خيانة أي اطلعت وأعثرت غيري عليه ومنه قوله تعالى: (وكذلك أعثرنا عليهم) وأصل العثور الوقوع على الشيء، وقيل الهجوم على شيء لم يهجم عليه غيره وكل من اطلع على أمر كان قد خفي عليه قيل له قد عثر عليه.
والمعنى أنه إذا اطلع وظهر بعد التحليف (على أنهما) أي الشاهدين أو الوصيين على الخلاف في أن الاثنين وصيان أو شاهدان على الوصية (استحقا) أي استوجبا (إثماً) إما بكذب في الشهادة أو اليمين أو بظهور خيانة بأن وجد عندهما مثلاً ما اتهما به وادعيا أنهما ابتاعاه من الميت أو وصى لهما به.
قال أبو علي الفارسي: الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ لأن آخذه يأثم بأخذه فسمي إثماً كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة، وقال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر.
(فآخران) أي فشاهدان آخران أو فحالفان آخران من أولياء الميت (يقومان مقامهما) أي مقام الذين عثر على أنهما استحقا اثماً فيشهدان أو يحلفان على ما هو الحق وليس المراد أنهما يقومان مقامهما في أداء الشهادة التي شهدها المستحقان للإثم (من الذين استحق) قريء على البناء للمفعول وعلى الفاعل (عليهم) الوصية وهم الورثة ويبدل من آخران (الأوليان) هو على الأولى مرتفع كأنه قيل من هما فقيل هما الأوليان.
والمعنى على الأولى من الذين استحق عليهم الإثم أي جنى عليهم وهم
(4/77)
أهل الميت وعشيرته فإنهم أحق بالشهادة أو اليمين من غيرهم فالأوليان تثنية أولى.
والمعنى على الثانية من الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين لكونهما الأقربين إلى الميت، فالأوليان فاعل استحق ومفعوله أن يجردوهما للقيام بالشهادة، وقيل المفعول محذوف والتقدير من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها.
(فيقسمان بالله) أي فيحلفان على خيانة الشاهدين (لشهادتنا) أي يميننا فالمراد بالشهادة هنا اليمين كما في قوله تعالى: (فشهادة أحدهم أربع شهادات) بالله أي ليحلفان لشهادتنا على أنهما كاذبان خائنان (أحق من شهادتهما) أي أحق بالقبول من يمينهماعلى أنهما صادقان أمينان (وما اعتدينا) أي ما تجاوزنا الحق في يميننا وقولنا أن شهادتنا أحق من شهادة هذين الوصيين الخائنين (إنا إذاً لمن الظالمين) إن كنا حلفنا على باطل.
(4/78)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
(ذلك) أي البيان الذي قدمه الله سبحانه في هذه القصة وعرفنا كيف يصنع من أراد الوصية في السفر ولم يكن عنده أحد من أهله وعشيرته وعنده كفار (أدنى) أي أقرب إلى (أن يأتوا بالشهادة) أي يؤدي الشهود المتحملون للشهادة على الوصية بالشهادة (على وجهها) فلا يحرفوا ولا يبدلوا ولا يخونوا فيها، وهذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر المنفعة والفائدة في هذا الحكم الذي شرعه الله في هذا الموضع في كتابه، فالضمير في يأتوا عائد إلى شهود الوصية من الكفار، وقيل إنه راجع إلى المسلمين المخاطبين بهذا الحكم، والمراد تحذيرهم من الخيانة وأمرهم بأن يشهدوا بالحق.
(أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) أي ترد على الورثة المدعين فيحلفون على خلاف ما شهد به شهود الوصية فتفتضح حينئذ شهود الوصية
(4/78)
وهو معطوف على قوله أن يأتوا فيكون الفائدة في شرع الله سبحانه لهذا الحكم هي أحد الأمرين إما احتراز شهود الوصية عن الكذب والخيانة فيأتون بالشهادة على وجهها أو يخافون الافتضاح إذا ردت الأيمان على قرابة الميت فحلفوا بما يتضمن كذبهم أو خيانتهم فيكون ذلك سبباً لتأدية شهادة شهود الوصية على وجهها من غير كذب ولا خيانة.
وقال أبو السعود: معطوف على مقدر ينبيء عنه المقام كأنه قيل ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة أو يخافوا الافتضاح برد اليمين، فأي الخوفين وقع حصل المقصود الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها (واتقوا الله) في مخالفة أحكامه وأن تحلفوا أيماناً كاذبة أو تخونوا أمانة (واسمعوا) سمع قبول واجابة أو المواعظ والزواجر (والله لا يهدي القوم الفاسقين) الخارجين عن طاعته بأي ذنب ومنه الكذب في اليمين أو في الشهادة، وهذا تهديد وتخويف لمن خالف حكم الله وخان أمانته أو حلف يميناً كاذبة.
قال الخازن: وهذه الآية الكريمة من أصعب ما في القرآن من الآيات نظماً وإعراباً وحكماً انتهى وقد سهلنا هذا الصعب بتيسيره سبحانه وتعالى.
وحاصل ما تضمنه هذا القام من الكتاب العزيز إن من حضرته علامات الموت أشهد على وصيته عدلين من عدول المسلمين، فإن لم يجد شهوداً مسلمين وكان في سفر ووجد كفاراً جاز له أن يشهد رجلين منهم على وصيته، فإن ارتاب بهما ورثة الموصي حلفا بالله على أنهما شهدا بالحق وما كتما من الشهادة شيئاً ولا خانا مما ترك الميت شيئاً، فإن تبين بعد ذلك خلاف ما أقسما عليه في خلل في الشهادة أو ظهور شيء من تركة الميت وزعما أنه قد صار في ملكهما بوجه من الوجوه حلف رجلان من الورثة وعمل بذلك.
(4/79)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
(يوم يجمع الله الرسل) أي اسمعوا أو اذكروا أو احذروا قال الزجاج: هي متصلة بما قبلها أي اتقوا الله يوم يجمع وهو يوم القيامة، وقيل يوم يجمع الله الرسل يكون من الأحوال كذا وكذا، وهذا شروع في بيان ما جرى بينه تعالى وبين الرسل على وجه الإجمال.
فيقول لهم: (ماذا أجبتم) أي أيّ إجابة إجابتكم بها الأمم الذين بعثكم الله إليهم أو أي جواب أجابوكم به وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم في دار الدنيا إلى توحيدي وطاعتي، وتوجيه السؤال إلى الرسل لقصد توبيخ قومهم وأممهم.
(قالوا) ذكر صيغة الماضي للدلالة على التحقيق والمعنى أجابوا بقولهم: (لا علم لنا) مع أنهم عالمون بما أجابوا به عليهم وهذا تفويض منهم وإظهار للعجز وعدم القدرة ورد للأمر إلى علمه ولا سيما مع علمهم بأن السؤال سؤال توبيخ فإن تفويض الجواب إلى الله أبلغ في حصول ذلك.
قال الرازي: إن الرسل لما علموا أن الله عالم لا يجهل وحليم لا يسفه وعادل لا يظلم، علموا أن قولهم لا يفيد خيراً ولا يدفع شراً، فرأوا أن الأدب في السكوت وفي تفويض الأمر إليه وإلى عدله، فقالوا لا علم لنا انتهى، وقيل لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا، وقيل لا علم لنا بما اشتملت عليه بواطنهم، وقيل لا علم لنا كعلمك فيهم، وقيل لا علم لنا بوجه الحكمة عن سؤالك إيانا عن أمر أنت أعلم به منا.
وقيل لا حقيقة لعلمنا بعاقبة أمرهم، وقيل المعنى لا علم لنا إلا علم ما
(4/80)
أنت أعلم به منا، وقيل إنهم ذهلوا عما أجاب به قومهم لهول المحشر، عن مجاهد قال يفزعون فيقولون لا علم لنا فترد إليهم أفئدتهم فيعلمون، وعن السدي في الآية قال ذلك أنهم نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول فلما سئلوا قالوا لا علم لنا ثم نزلوا منزلاً آخر فشهدوا على قومهم، وهذا فيه ضعف ونظر، لأن الله تعالى قال في حق الأنبياء لا يحزنهم الفزع الأكبر (1).
وعن ابن عباس قال: قالوا لا علم لنا فرقاً تذهل عقولهم، ثم يرد الله إليهم عقولهم فيكونوا هم الذين يسئلون لقول الله فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين.
(إنك أنت علام الغيوب) يعني أنك تعلم ما غاب عنا من باطن الأمور، ونحن نعلم ما نشاهد ولا نعلم ما في البواطن ليس تخفى عليك خافية، وبناء فعال للتكثير، وفيه جواز إطلاق العلام على الله تعالى.
_________
(1) قال القرطبي: هذا في أكثر مواطن القيامة، ففي الخبر " إن جهنم إذا جِيءَ بها زفرت زفرة فلا يبقى نبيّ ولا صدّيق إلا جثا لركبتيه " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خوفني جبريل يوم القيامة حتى أبكاني فقلت يا جبريل ألم يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر؟ فقال لي يا محمد لتشهدنّ من هَوْل ذلك اليوم ما ينسيك المغفرة ".
(4/81)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
(إذ قال الله يا عيسى بن مريم) إذ بدل من يوم يجمع وهو تخصيص بعد التعميم، وتخصيص عيسى عليه السلام من بين الرسل لاختلاف طائفتي اليهود والنصارى فيه إفراطاً وتفريطاً هذه تجعله إلهاً، وهذه تجعله كاذباً، والماضي هنا بمعنى المضارع لأن هذا القول يقع يوم القيامة مقدمة لقوله: (أأنت قلت) قاله السمين والكرخي، وقال البيضاوي: الماضي بمعنى الآتي على حد قوله: (ونادى أصحاب الجنة).
(اذكر نعمتي عليك) بالنبوة وغيرها (وعلى والدتك) حيث أنبتها نباتاً حسناً وطهرها واصطفاها على نساء العالمين، ذكره سبحانه نعمته عليه وعلى أمه مع كونه ذاكراً لها عالماً بتفضل الله سبحانه بها لقصد تعريف الأمم بما خصهما به الله من الكرامة وميزهما به من علو المقام، أو لتأكيد الحجة وتبكيت الجاحد بأن منزلتهما عند الله هذه المنزلة، وتوبيخ من اتخذهما الهين ببيان أن ذلك الإنعام عليهما كله من عند الله سبحانه، وأنهما عبدان من جملة عباده منعم عليهما بنعم الله سبحانه ليس لهما من الأمر شيء.
(إذ أيدتك) أي قويتك من الأيد وهو القوة (بروح القدس) فيه وجهان أحدهما أنه الروح الطاهرة المقدسة التي خصه الله بها وقيل أنه جبريل عليه السلام وكان يسير معه حيث سار يعينه على الحوادث التي تقع ويلهمه
(4/82)
العارف والعلوم، وقيل إنه الكلام الذي يجيء به الأرواح، والقدس الطهر، وإضافته إليه لكونه سببه.
وجملة (تكلم الناس) مبينة لمعنى التأييد أي تكلمهم (في المهد) حال كونك صبياً (وكهلا) لا يتفاوت كلامك في الحالين بل يكون على نسق واحد بديع صادر عن كمال العقل والتدبير مع أن غيرك يتفاوت كلامه فيهما تفاوتاً بيناً، وهذه معجزة عظيمة وخاصة شريفة ليست لأحد قبله.
قال ابن عباس: أرسل الله عيسى وهو ابن ثلاثين سنة فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه إليه ثم ينزله إلى الأرض وهو في سن الكهولة.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا كان يوم القيامة يدعى بالأنبياء وأممها ثم يدعى بعيسى فيذكره نعمته عليه فيقر بها فيقول يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك الآية ثم يقول أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله فينكر أن يكون قال ذلك فيؤتى بالنصارى فيسئلون فيقولون نعم هو أمرنا بذلك فيطول شعر عيسى حتى يأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده فيجاثيهم بين يدي الله مقدار ألف عام حتى يوقع عليهم الحجة ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم إلى النار ".
(وإذ علمتك الكتاب) أي اذكر نعمتي عليك وقت تعليمي لك الكتاب أي جنس الكتاب أو المراد بالكتاب الخط (والحكمة) أي الفهم والإطلال على أسرار العلوم، وقيل جنس الحكمة وقيل هي الكلام المحكم (والتوراة والإنجيل) فعلى الأول يكون هذا من عطف الخاص على العام وتخصيصهما بالذكر لمزيد اختصاصه بهما أما التوراة فقد كان يحتج بها على اليهود في غالب ما يدور بينه وبينهم من الجدال كما هو مصرح بذلك في الإنجيل، وأما الإنجيل فلكونه نازلاً عليه من عند الله سبحانه.
(وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير) أي تصور تصويراً مثل صورة الطير
(4/83)
(بإذني) لك بذلك وتيسيري له (فتنفخ فيها) أي في الهيئة المصورة (فتكون) هذه الهيئة (طيراً) متحركاً حياً كسائر الطيور (بإذني) وكان الخلق لهذا الطير معجزة لعيسى أكرمه الله تعالى بها، وتقدم في آل عمران أنه كان صور لهم صورة الخفاش وكان ذلك بطلبهم فراجعه إن شئت.
(وتبريء الأكمه) أي تشفي الأعمى المطموس البصر (والأبرص) هو معروف ظاهر (بإذني) لك وتسهيله عليك وتيسيره لك، وقد تقدم تفسير هذا مطولاً في آل عمران فلا نعيده (وإذ تخرج الموتى) من قبورهم أحياء فيكون ذلك آية لك عظيمة، قيل أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية، وتكرير (بإذني) هنا في المواضع الأربعة بعد أربع جمل للاعتناء بأن ذلك كله من جهة الله ليس لعيسى عليه السلام فيه فعل إلا مجرد امتثاله لأمر الله سبحانه، وقال في آل عمران (بإذن الله) مرتين لأن هناك أخبار فناسب الإيجاز، وهنا مقام تذكير بالمنعمة والامتنان فناسب الإسهاب.
(وإذ كففت) معناه دفعت وصرفت ومنعت (بني إسرائيل) أي اليهود (عنك) حين هموا بقتلك (إذ جئتهم بالبينات) أي المعجزات الواضحات والدلالات الباهرات التي وضع على يديه من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير وإبراء الأسقام والخبر بكثير من الغيوب، ولا أتى عيسى بهذه الدلالات البينات قصد اليهود بقتله فخلصه الله منهم ورفعه إلى السماء.
(فقال الذين كفروا منهم) أي من اليهود (إن هذا إلا سحر مبين) أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر بين، ولا عظم ذلك في صدورهم وابتهروا منه لم يقدروا على جحده بالكلية بل نسبوه إلى السحر.
(4/84)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
(4/85)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
(وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي) الوحي في كلام العرب معناه الإلهام أي ألهمت الحواريين وقذفت في قلوبهم وقيل معناه أمرتهم على ألسنة الرسل أن يؤمنوا بي بالتوحيد والإخلاص ويؤمنوا برسالة رسولي، والحواريون هم خلص أصحاب عيسى وخواصه.
(قالوا آمنا) جملة مستأنفة كأنه قيل ماذا قالوا فقال: قالوا آمنا (واشهد) يا رب أو يا عيسى (بأننا مسلمون) أي مخلصون للإيمان، وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام لأن الإيمان من أعمال القلوب، والإسلام هو الإنقياد والخضوع في الظاهر، والمعنى أنهم آمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم.
(4/85)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
(إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم) كلام مستأنف مسوق لبيان بعض ما جرى بينه وبين قومه منقطع عما قبله كما ينبئ عنه الإظهار في موضع الإضمار (هل يستطيع ربك) الخطاب لعيسى وقرئ هل تستطيع بالفوقية ونصب ربك وبالتحتية ورفع ربك.
واستشكلت على الثانية بأنه قد وصف سبحانه الحواريين بأنهم قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون والسؤال عن استطاعته لذلك ينافي ما حكوه عن أنفسهم، وأجيب بأن هذا كان في أول معرفتهم قبل أن تستحكم معرفتهم بالله ولهذا قال عيسى في الجواب عن هذا الاستفهام الصادر منهم اتقوا الله أي لا
(4/85)
تشكوا في قدرة الله أنهم ادعوا الإيمان والإسلام دعوى باطلة، ويرده أن الحواريين هم خلصاء عيسى وأنصاره كما قال: (من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله).
وبهذا يظهر أن قول الزمخشري: إنهم ليسوا مؤمنين ليس بجيد، وكأنه خرق للإجماع قال ابن عطية: ولا خلاف أحفظه في أنهم كانوا مؤمنين، وقيل إن ذلك صدر ممن كان معهم وقيل، إنهم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه فإنهم كانوا مؤمنين عارفين بذلك، وإنما هو كقول الرجل هل يستطيع فلان أن يأتي مع علمه بأنه يستطيع ذلك ويقدر عليه، فالمعنى هل يفعل ذلك وهل يجيب إليه، وقيل: إنهم طلبوا الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام رب أرني كيف تحيي الموتى الآية، ويدل على هذا قولهم من بعد وتطمئن قلوبنا.
وأما على القراءة الأولى فالمعنى هل تستطيع أن تسأل ربك قال الزجاج: المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله، فهو من باب واسأل القرية.
عن عائشة قالت: كان الحواريون أعلم بالله من أن يقولوا هل يستطيع ربك فإنما قالوا هل تستطيع أنت ربك أن تدعوه، ويؤيد هذا ما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تستطيع ربك بالتاء يعني بالفوقية وعن ابن عباس أنه قرأها كذلك وبه قرأ علي وسعيد بن جبير ومجاهد.
(أن ينزل علينا مائدة من السماء) المائدة الخوان إذا كان عليه الطعام فإن لم يكن عليه طعام فليس بمائدة هذا هو المشهور إلا أن الراغب قال المائدة الطبق الذي عليه الطعام وتقال أيضاً للطعام إلا أن هذا مخالف لما عليه المعظم، وهذه المسألة لها نظائر في اللغة، لا يقال للخوان مائدة إلا وعليه الطعام وإلا فهو خوان، ولا يقال كاس إلا وفيها خمر وإلا فهي قدح، ولا
(4/86)
يقال ذنوب وسجل إلا وفيه ماء وإلا فهو دلو، ولا يقال جراب إلا وهو مدبوغ وإلا فهو إهاب، ولا يقال قلم إلا وهو مبري وإلا فهو أنبوب.
واختلف اللغويون في اشتقاقها فقال الزجاج: هي من ماد يميد إذا تحرك، وقال أبو عبيدة هي من ماده إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدم إليها، وبه قال قطرب وغيره وقيل فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راضية قاله أبو عبيدة وقيل غير ذلك، وأطال الكلام في تحقيقه سليمان الجمل فراجعه إن شئت.
(قال) عيسى مجيباً للحواريين (اتقوا الله) من هذا السؤال وأمثاله (إن كنتم مؤمنين) أي صادقين في إيمانكم فإن شأن المؤمن ترك الاقتراح على ربه على هذه الصفة وقيل: إنه أمرهم بالتقوى ليكون ذلك ذريعة إلى حصول ما طلبوه.
(4/87)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
(قالوا نريد أن نأكل منها) بينوا به الغرض من سؤالهم نزول المائدة أي نأكل منها فإن الجوع قد غلب علينا وقيل نأكل منها للتبرك بها لا أكل حاجة وليس سببه إزالة شبهة في قدرته تعالى على تنزيلها حتى يقدح ذلك في الإيمان.
(وتطمئن قلوبنا) بكمال قدرة الله أو بأنك مرسل إلينا من عنده أو بأن الله قد أجابنا إلى ما سألناه وإن كنا مؤمنين به من قبل، فإن انضمام علم المشاهدة إلى العلم الاستدلالي مما يوجب ازدياد الطمأنينة وقوة اليقين.
(ونعلم) علماً يقينياً (أن قد صدقتنا) في نبوتك (ونكون عليها من الشاهدين) عند من لم يحضرها من بني إسرائيل أو من سائر الناس أو من الشاهدين لله بالوحدانية أو من الحاضرين دون السامعين.
(4/87)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
ولما رأى عيسى ما حكوه عن أنفسهم من الغرض بنزول المائدة (قال عيسى ابن مريم) قيل: إنه اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وبكى ثم دعا فقال (اللهم ربنا أنزل علينا مائدة) كائنة أو نازلة (من السماء تكون لنا عيداً) أي عائدة من الله علينا أو يكون يوم نزولها لنا عيداً، وقد كان نزولها يوم الأحد وهو يوم عيد لهم، والعيد يوم السرور، وهو واحد الأعياد.
وقيل أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود فقيل ليوم الفطر والأضحى عيدان لأنهما يعودان في كل سنة قاله ثعلب، وقال الخليل: العيد كل يوم جمع كأنهم عادوا إليه، قال ابن الأنباري: النحويون يقولون لأنه يعود بالفرح والسرور، وعيد العرب لأنه يعود بالفرح والحزن وكل ما عاد إليك في وقت فهو عيد، وقال الراغب: العيد حالة تعاود الإنسان والعائدة كل نفع يرجع إلى الإنسان بشيء.
ومعنى (لأولنا وآخرنا) لمن في عصرنا ولمن يأتي بعدنا من ذرارينا وغيرهم، قال ابن عباس: معناه يأكل منها أولى الناس كما يأكل آخرهم (وآية منك) أي دلالة وحجة واضحة على كمال قدرتك وصحة إرسالك من أرسلته (وارزقنا) أي أعطنا هذه المائدة المطلوبة بينة، أو ارزقنا رزقاً نستعين به على عبادتك (وأنت خير الرازقين) بل لا رازق في الحقيقة غيرك ولا معطي سواك.
(4/88)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
فأجاب الله سبحانه سؤال عيسى عليه السلام
(4/89)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
(قال الله إني منزلها) أي المائدة (عليكم) وقد اختلف أهل العلم هل نزلت عليهم المائدة أم لا فذهب الجمهور إلى الأول وهو الحق لقوله سبحانه: (إني منزلها عليكم) ووعده الحق وهو لا يخلف الميعاد، وقال مجاهد: ما نزلت وإنما ضرب مثل ضربه الله لخلقه نهياً لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه.
وقال الحسن: وعدهم بالإجابة فلما قال: (فمن يكفر بعد) أي بعد نزولها (منكم فإني أعذبه عذاباً) أي تعذيباً قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا العذاب معجلاً في الدنيا أو مؤخراً إلى الآخرة (لا أعذبه) أي لا أعذب مثل ذلك التعذيب (أحداً من العالمين) قيل المراد عالمي زمانهم، وقيل جميع العالمين، وفي هذا من التهديد والترهيب ما لا يقادر قدره.
قيل لما سمعوا هذا الوعيد الشديد خافوا أن يكفر بعضهم فاستعفوا، وقالوا لا نريدها فلم تنزل وبه قال مجاهد والحسن، والصحيح الذي عليه جماهير الأمة ومشاهير الأئمة أنها قد نزلت.
عن ابن عباس أنه كان يحدث عن عيسى بن مريم أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم، فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير قلت لنا أن
(4/89)
أجر العامل على من عمل له، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلا أطعمنا فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء إلى قوله أحداً من العالمين، فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.
وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " نزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير " (1)، وقد روي موقوفاً على عمار قال الترمذي: والوقف أصح.
وعن ابن عباس قال: المائدة سمكة وأرغفة، وعنه قال: نزلت على عيسى والحواريين خوان عليه سمك وخبز يأكلون منه أينما تولوا إذا شاءوا، عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون.
_________
(1) الترمذي، كتاب التفسير، سورة 5 - 21.
(4/90)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
(و) اذكر (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذا القول منه سبحانه هو يوم القيامة، والنكتة توبيخ عباد المسيح وأمه من النصارى. وقال السدي وقطرب: إنه قال له هذا القول عند رفعه إلى السماء لما قالت النصارى فيه ما قالت، والأول أولى.
وقيل إذ هنا بمعنى إذا كقوله تعالى: (ولو ترى إذ فزعوا) تعبيراً عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، وقد قيل في توجيه هذا الاستفهام منه تعالى إنه لقصد التوبيخ كما سبق وقيل لقصد تعريف المسيح بأن قومه غيروا بعده وادعوا عليه ما لم يقله.
(قال سبحانك) تنزيهاً له سبحانه أي أنزهك تنزيهاً أشار به إلى أن
(4/90)
اتخاذهما إلهين تشريك لهما معك في الألوهية لا إفرادهما بذلك إذ لا شبهة في ألوهيتك وأنت منزه عن الشريك فضلاً أن يتخذ إلهان دونك على ما يشعر به ظاهر العبادة نبه عليه السعد التفتازاني.
(ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) أي ما ينبغي لي أن أدعي لنفسي ما ليس من حقها وقيل التقدير ما ليس يثبت لي بسبب حق، وقيل ما ليس مستحقاً لي، وعلى هذا الباء زائدة.
ورد ذلك إلى علمه سبحانه فقال: (إن كنت قلته فقد علمته) وهذا هو غاية الأدب وإظهار المسكنة لعظمة الله تعالى وتفويض الأمر إلى علمه، وقد علم أنه لم يقله فثبت بذلك عدم القول به، وقيل التقدير أن تصح دعواي لما ذكر، وقدره الفارسي بقوله: إن أكن الآن قلته فيما مضى فقد تبين وظهر علمك به.
(تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) هذه الجملة في حكم التعليل لما قبلها أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، وقال ابن عباس: المعنى تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وقيل تعلم ما أخفيه ولا أعلم ما تخفيه، وقيل تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد، وقيل تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في دار الآخرة وقيل تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل.
وهذا الكلام من باب المشاكلة والمقابلة والإزدواج كما هو معروف عند علماء المعاني والبيان، وعليه حام الزمخشري، والنفس عبارة عن ذات الشيء يقال نفس الشيء وذاته بمعنى واحد، وقال الزجاج: النفس عبارة عن جملة الشيء وحقيقته يقول تعلم جميع حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك، والأول أولى، وفيه دلالة على إطلاق لفظ النفس عليه سبحانه (إنك أنت علام الغيوب) تعلم ما كان وما سيكون وهذا تأكيد لما قبله.
(4/91)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
(ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) هذه الجملة مقررة لمضمون ما تقدم أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني والاستثناء مفرغ (أن اعبدوا الله ربي وربكم) هذا تفسير لمعنى ما قلت لهم أي ما أمرتهم إلا أن وحدوا الله ولا تشركوا به شيئاً (وكنت عليهم شهيداً) أي حفيظاً ورقيباً أرعى أحوالهم وأمنعهم عن مخالفة أمرك (ما دمت) أي مدة دوامي (فيهم).
(فلما توفيتني) قيل هذا يدل على أن الله سبحانه توفاه قبل أن يرفعه، وليس بشيء لأن الأخبار قد تضافرت بأنه لم يمت، وأنه باق في السماء على الحياة التي كان عليها في الدنيا حتى ينزل إلى الأرض آخر الزمان، وإنما المعنى فلما رفعتني إلى السماء وأخذتني وافياً بالرفع.
قيل الوفاة في كتاب الله سبحانه قد جاءت على ثلاثة أوجه بمعنى الموت ومنه قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) وبمعنى النوم ومنه قوله تعالى: (وهو الذي يتوفاكم بالليل) أي ينيمكم، وبمعنى الرفع ومنه (فلما توفيتني) وإذ قال الله يا عيسى إني متوفيك والتوفي يستعمل في أخذ الشيء وافياً أي كاملاً.
(كنت أنت الرقيب) أصل المراقبة المراعاة أي كنت الحافظ لهم والعالم بهم والشاهد (عليهم وأنت على كل شيء شهيد) أي شاهد لما كان وما يكون أو أنت العالم بكل شيء فلا يعزب عن عملك شيء ومنه قولي لهم وقولهم بعدي.
(4/92)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
(4/93)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
(إن تعذبهم) (1) أي من أقام على الكفر منهم (فإنهم عبادك) أي تصنع بهم ما شئت وتحكم فيهم بما تريد لا اعتراض عليك (وإن تغفر لهم) أي لمن آمن منهم (فإنك أنت العزيز) أي القادر على ذلك (الحكيم) في أفعاله، قيل: قاله على وجه الاستعطاف كما يستعطف السيد بعبده، ولهذا لم يقل إن تعذبهم فإنهم عصوك.
وقيل: قاله على وجه التسليم لأمر الله والانقياد له، ولهذا عدل عن الغفور الرحيم إلى العزيز الحكيم، قال ابن عباس: يقول عبيدك قد استوجبوا العذاب بمقالتهم وإن تغفر لهم أي من تركت منهم ومد في عمره حتى أهبط من السماء إلى الأرض لقتل الدجال فزالوا عن مقالتهم ووحدوك فإنك أنت العزيز الحكيم.
_________
(1) وقد روى أبو ذر قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيام ليلةٍ بآيةٍ يرددها: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم).
رواه أحمد في " المسند " 5/ 149 ولفظه عن أبي ذر قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) فلما أصبح قلت: يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها.
قال: " سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله عز وجل شيئاً " ورجاله ثقات، خلا جسرة بنت دجاجة العامرية، فإنه لم يوثقها سوى العجلي وابن حبان، وقال البخاري. عند جسرة عجائب. انظر " تهذيب التهذيب " 12/ 406.
(4/93)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
(قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) كعيسى في الدنيا وقيل في الآخرة والأول أولى، عن ابن عباس هذا يوم ينفع الموحدين توحيدهم، والمراد بالصادقين النبيون والمؤمنون لأن الكفار لا ينفعهم صدقهم يوم القيامة وكذا صدق إبليس بقوله: إن الله وعدكم وعد الحق لكذبه في الدنيا التي هي دار العمل.
(لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً) قد تقدم تفسيره وهذا إشارة إلى ما يحصل لهم من الثواب الدائم الذي لا انقطاع له ولا انتهاء (رضي الله عنهم) بما عملوه من الطاعات الخالصة له (ورضوا عنه) بما
(4/93)
جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال، ولا تتصوره عقولهم، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم وأعلى منازل الكرامة والرضا باب الله الأعظم ومحل استرواح العابدين، وسيأتي لهذا مزيد في سورة البينة.
(ذلك) أي ما نالوه من دخول الجنة والخلود فيها أبداً ورضوان الله عنهم (الفوز العظيم) أي: إنهم فازوا بالجنة ونجوا من النار، والفوز الظفر بالمطلوب على أتم الأحوال.
(4/94)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
(لله ملك السموات والأرض وما فيهن) جاء سبحانه بهذه الخاتمة تحقيقاً للحق وتنبيهاً على كذب النصارى، ودفعاً لما سبق من إثبات من أثبت الإلهية لعيسى عليه السلام وأمه وأخبر بأن ملك السموات والأرض له دون عيسى وأمه ودون سائر مخلوقاته.
وقيل: المعنى أن له ملك السموات والأرض وما فيها من العقلاء وغيرهم يتصرف فيها كيف يشاء إيجاداً وإعداماً وإحياء وإماتة أمراً ونهياً من غير أن يكون لشيء من الأشياء مدخل في ذلك، وهو الذي يعطي الجنات للمطيعين جعلنا الله تعالى منهم آمين (وهو على كل شيء) من المنع والإعطاء والإيجاد والإفناء (قدير) أي قادر، نسأله أن يوفقنا لمرضاته، ويجعلنا من الفائزين بجناته.
(4/94)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنعام
وهي مائة وخمس أو ست وستون آيه قال الثعلبي: هي مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة وهي (وما قدروا الله حق قدره) إلي آخر ثلاث آيات وقل تعالوا آتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر ثلاث آيات قال ابن عطية وهي الآيات المحكمات أي في هذة السورة وقال القرطبي: هي مكية إلا آيتين هما (وما قدروا الله حق قدره) نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين. وقوله تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات) نزلت في ثابت ابن قيس.
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتقديس، والأرض ترتج ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم (1).
وعن ابن عباس وعلي أنها نزلت بمكة جملة واحدة ليلاً. وفي فضائل هذه السورة روايات عن جماعة من التابعين مرفوعة وغير مرفوعة قال القرطبي: قال العلماء: هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور. وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة نها في معنى واحد من الحجة وأن تصرف ذلك بوجوه كثيرة. وعليها بنى المتكلمون أصول الدين.
_________
(1) ابن كثير 1/ 122.
(4/95)
بسم الله الرحمن الرحيم
(4/97)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
(الحمد لله) بدأ سبحانه هذه السورة بالحمد لله للدلالة على أن الحمد كله له وإن لم يحمدوه، وفيه تعليم اللفظ والمعنى مع تعريض الإستغناء ولإقامة الحجة على الذين هم بربهم يعدلون، والحمد اللغوي الوصف بالجميل ذكره الزمخشري في الفائق، وزاد صاحب المطالع وغيره كونه على جهة التعظيم والتبجيل أي ظاهراً وباطناً.
وأما الحمد الاصطلاحي فهو فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعماً، قاله الكرخي، وقد تقدم في سورة الفاتحة ما يغني عن الإعادة له هنا.
وقال أهل المعاني لفظه خبر ومعناه الأمر أي احمدوا الله، وإنما جاء بهذا النمط لأنه أبلغ في البيان من حيث إنه جمع الأمرين.
ثم وصف نفسه بأنه هو (الذي خلق السموات والأرض) إخباراً عن قدرته الكاملة الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد، فإن من اخترع ذلك وأوجده هو الحقيق بإفراده بالثناء وتخصيصه بالحمد، والخلق يكون بمعنى الإختراع وبمعنى التقدير، وقد تقدم تحقيق ذلك، وجمع السموات لتعدد طباقها وإن بعضها فوق بعض، وقدمها على الأرض لشرفها لأنها متعبد الملائكة ولم يقع فيها معصية، ولتقدمها في الوجود، قاله القاضي لقوله تعالى: (والأرض بعد ذلك دحاها) فإنه صريح في أن بسط الأرض مؤخر عن تسوية السماء.
والأرض وإن كانت سبعة عند الجمهور فليس بعضها فوق بعض بل بعضها موال لبعض وإنما خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، فالسماء بغير عمد يرونها وفيه العبر والمنافع، والأرض مسكن الخلق وفيها أيضاً ذلك.
(4/97)
وعن كعب الأحبار هذه الآية أول آية في التوراة وآخر آية فيها قوله: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً) وفي لفظ هو آخر سورة هود، وقال ابن عباس: افتتح الله الخلق بالحمد وختمه به فقال وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين.
(وجعل الظلمات والنور) ذكر سبحانه خلق الجواهر بقوله خلق السموات والأرض ثم ذكر الأعراض بقوله هذا لأن الجواهر لا تستغني عن الأعراض، واختلف أهل العلم في المعنى المراد بالظلمات والنور فقال جمهور المفسرين: المراد بالظلمات سواد الليل، وبالنور ضوء النهار وبه قال السدي، وقال الحسن: الكفر والإيمان، قال ابن عطية: وهذا خروج عن الظاهر انتهى.
وقيل المراد بهما الجهل والعلم، وقيل الجنة والنار والأولى أن يقال إن الظلمات تشمل كل ما يطلق عليه اسم الظلمة، والنور يشمل كل ما يطلق عليه اسم النور، فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات).
وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها نظيره ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الموضع المظلم يخالف كل واحد منهما صاحبه، والنور ضرب واحد لا يختلف كما تختلف الظلمات.
قال النحاس: (جعل) ههنا بمعنى خلق، وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد، وقال القرطبي: جعل هنا بمعنى خلق، لا يجوز غيره، قال ابن عطية: وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق فيكون الجمع معطوفاً على الجمع والمفرد معطوفاً على المفرد، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل، ولهذا كان النهار مسلوخاً عن الليل.
(4/98)
عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في الزنادقة قالوا إن الله لم يخلق الظلمة ولا الخنافس ولا العقارب ولا شيئاً قبيحاً، وإنما يخلق النور وكل شيء حسن فأنزلت فيهم هذه الآية وفيه أيضاً رد قول الثنوية بقدم النور والظلمة، وعن ابن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " (1) ذكره البغوي بغير سند.
(ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) " ثم " لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السموات والأرض والظلمات والنور، قاله الزمخشري، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه لا الكفر به واتخاذ شريك له.
والباء متعلقة بيعدلون والتقديم للاهتمام ورعاية الفواصل وحذف المفعول لظهوره أي يعدلون به ما لا يقدر على شيء مما يقدر عليه، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه وتعالى تلك النعم، ويكون من الكفرة الكفر.
قال علي: نزلت هذه الآية يعني الحمد لله إلى قوله يعدلون في أهل الكتاب، وقال قتادة: هم أهل الشرك وعن السدي مثله، وقال مجاهد: يعدلون أي يشركون وعن زيد قال: الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله وليس لله عدل ولا ند، وليس معه آلهة ولا اتخذ صاحبة ولا ولداً، وأصل العدل مساواة الشيء بالشيء، وقال النضر بن شميل: الباء بمعنى عن أي عن ربهم ينحرفون من العدول عن الشيء.
_________
(1) ابن كثير 2/ 122.
(4/99)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
(4/100)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
(هو الذي خلقكم من طين) في معناه قولان (أحدهما) وهو الأشهر وبه قال الجمهور أن المراد آدم عليه السلام، ومن لابتداء الغاية وأخرجه مخرج الخطاب للجميع لأنهم ولده ونسله (الثاني) أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين، وإنما ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السموات والأرض إتباعاً للعالم الأصغر بالعالم الأكبر، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث ورد جحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه.
(ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده) جاء بكلمة ثم لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت فهي للترتيب الزماني على أصلها، وقضى بمعنى أظهر، وهي صفة فعل وإن كان بمعنى كتب وقدر، فهي للترتيب في الذكر لأنها صفة ذات وذلك مقدم على خلقهم.
وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين فقيل قضى أجلاً يعني الموت وأجل مسمى القيامة والوقوف عند الله، وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك ومجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم وعطية والسدي وخصيف ومقاتل وغيرهم، وقيل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو البرزخ وهو قريب من الأول.
وقيل الأول مدة الدنيا والثاني عمر الإنسان إلى حين موته، وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد وقيل الأول قبض الأرواح في النوم، والثاني قبضها عند
(4/100)
الموت، وقيل الأول ما يعرف من أوقات الأهلة والبروج وما يشبه ذلك والثاني أجل الموت، وقيل الأول لمن مضى والثاني لمن بقي ولمن يأتي، وقيل إن الأول الأجل الذي هو محتوم، والثاني الزيادة في العمر لمن وصل رحمه فإن كان براً تقياً وصولاً لرحمه زيد في عمره وإن كان قاطعاً للرحم لم يزد له.
ويرشد إلى هذا قوله تعالى: (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في العمر وورد عنه أن دخول البلاد التي قد فشا بها الطاعون والوباء من أسباب الموت، وقال مجاهد وسعيد بن جبير: الأول أجل الدنيا، والثاني أجل الآخرة، وجاز الابتداء بالنكرة في قوله: (وأجل مسمى عنده) لأنها قد تخصصت بالصفة.
(ثم أنتم تمترون) استبعاد لصدور الشك منهم مع وجود المقتضى لعدمه أي كيف تشكون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء والانتهاء ما يذهب بذلك ويدفعه، فإن من خلقكم من طين وصيركم أحياء تعلمون وتعقلون، وخلق لكم هذه الحواس والأطراف ثم سلب ذلك عنكم فصرتم أمواتاً وعدتم إلى ما كنتم عليه من الجمادية لا يعجزه أن يبعثكم ويعيد هذه الأجسام كما كانت ويرد إليها الأرواح التي فارقتها بقدرته وبديع حكمته.
(4/101)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
(وهو الله) أي هو المعبود بحق أو المالك أو المتصرف (في السموات وفي الأرض) كما تقول زيد الخليفة في الشرق والغرب أي حاكم أو متصرف فيهما كقوله: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) وهو المعروف بالإلهية فيهما أو هو الذي يقال له الله فيهما.
قال الزجاج: هو متعلق بما تضمنه اسم الله، قال ابن عطية: هذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازاً لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى، وإيضاحه أنه أراد أن يدل على خلقه وآيات قدرته وإحاطته واستيلائه ونحو هذه
(4/101)
الصفات، فجمع هذه كلها في قوله وهو الله الذي له هذه كلها في السموات وفي الأرض. كأنه قال وهو الخالق والرازق والمحيي والمميت فيهما.
وقيل المعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض فلا تخفى عليه خافية، وقال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل فيه، قال الشيخ وما ذكره الزجاج وأوضحه ابن عطية صحيح من حيث المعنى لكن صناعة النحو لا تساعده عليه، وقال ابن جرير: هو الله في السموات، ويعلم سركم وجهركم في الأرض. والأول أولى.
وتكون جملة (يعلم سركم وجهركم) مقررة لمعنى الجملة الأولى لأن كونه سبحانه إلهاً في السماء والأرض يستلزم علمه بأسرار عباده وجهرهم وعلمه بما يكسبونه من الخير والشر، وجلب النفع ودفع الضرر، وقال السمين: في هذه الآية أقوال كثيرة لخصت جميعها في اثني عشر وجهاً ثم بينها، وذكر سليمان الجمل منها أربعة أوجه منها ما تقدم (ويعلم ما تكسبون) من خير أو شر، وهذا محمول على المكتسب لا على نفس الكسب، قاله الرازي.
(4/102)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
(وما تأتيهم) أي أهل مكة (من آية من آيات ربهم) كلام مبتدأ لبيان بعض أسباب كفرهم وتمردهم وهو الإعراض عن آيات الله التي تأتيهم بالكلية، ومن في (من آية) مزيدة للإستغراق، وفي (من آيات ربهم) تبعيضية أي ما تأتيهم آية من الآيات التي هي بعض آيات ربهم، وإضافة الآيات إلى الرب لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترؤوا عليه في حقها.
والمراد بها إما الآيات التنزيلية فإتيانها نزولها، وإما الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات فإتيانها ظهورها لهم (إلا كانوا عنها معرضين) أي كانوا لها تاركين وبها مكذبين، والإعراض ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله.
(4/102)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
(4/103)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
(فقد كذبوا) ضمنه معنى استهزؤوا فعداه بالباء والظاهر كما قال السفاقسي: أن الفاء لتعقيب الإعراض بالتكذيب فهي عاطفة على الجملة قبلها، وجعلها الزمخشري جواب شرط مقدر أي إن كانوا معرضين عن الآيات فلا تعجب فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها، وهو الحق لما جاءهم، وفيه تكلف وهذه المرتبة أزيد من الأولى لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذباً به بل قد يكون غافلاً عنه غير متعرض له، فإذا صار مكذباً فقد زاد على الإعراض قاله الكرخي.
(بالحق لما جاءهم) قيل المراد بالحق هنا القرآن وقيل محمد - صلى الله عليه وسلم - (فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون) أي سيعرفون أن هذا الشيء الذي استهزءوا به ليس بموضع للاستهزاء وذلك عند إرسال عذاب الله عليهم، كما يقال اصبر فسوف يأتيك الخبر، عند إرادة الوعيد والتهديد، وفي لفظ الإنباء ما يرشد إلى ذلك، فإنه لا يطلق إلا على خبر عظيم الوقع، وحملها على العقوبات الآجلة أو على ظهور الإسلام وعلو كلمته يأباه الآيات الآتية، قال ابن عطية: أي أنباء كونهم مستهزئين.
(4/103)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
(ألم يروا) أي أهل مكة والرؤية بصرية والهمزة للإنكار، وهذا شروع في توبيخهم ببذل النصح لهم (كم أهلكنا من قبلهم) كم استفهامية أو خبرية، ومن لابتداء الغاية و (من قرن) تمييز، ومن للبيان، والقرن يطلق على أهل كل عصر سموا بذلك لاقترانهم.
أي ألم يعرفوا بسماع الأخبار ومعاينة الآثار في أسفارهم للتجارة إلى
(4/103)
الشام في الصيف وإلى اليمن في الشتاء، كم أهلكنا من قبل خلقهم أو من قبل زمانهم أمة من الأمم الموجودة في عصر بعد عصر لتكذيبهم أنبياءهم مثل قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم الماضية والقرون الخالية.
وقيل هو عبارة عن مدة من الزمان فيكون ما في الآية على تقدير مضاف أي من أهل القرن الذين وجدوا فيه، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم " (1).
(مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) مكن له في الأرض جعل له مكاناً فيها ومكنه في الأرض أي أثبته فيها قاله الزمخشري، وقال أبو عبيدة مكناهم ومكنا لهم لغتان فصيحتان نحو نصحته ونصحت له، وبهذا قال أبو علي والجرجاني، والجملة مستأنفة كأنه وقيل: كيف ذلك؟ وقيل الجملة صفة لقرن، والأول أولى أي مكناهم تمكيناً لم نمكنه لكم.
والمعنى أنا أعطينا القرون الذين هم قبلكم ما لم نعطكم من الدنيا وطول الأعمار وقوة الأبدان والبسطة في الأجسام والسعة في الأرزاق وقد أهلكناهم جميعاً، فإهلاككم وأنتم دونهم بالأولى، ذكر معناه أبو البقاء.
وفيه التفات عن الغيبة في قوله: (ألم يروا) والالتفات له فوائد منها تطرية الكلام وصيانة السمع عن الزجر والملال لما جبلت علية النفوس من حب التنقلات والسآمة من الاستمرار على منوال واحد، هذه فائدته العامة ويختص كل موقع بنكت ولطائف باختلاف محله كما هو مقرر في علم البديع، ووجهه حث السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه وأعطاه فضل عنايته وخصصه بالمواجهة ذكره الكرخي.
(وأرسلنا السماء عليهم مدراراً) يريد المطر الكثير عبر عنه بالسماء لأنه ينزل منها، والمدرار صيغة مبالغة تدل على الكثرة كمذكار للمرأة التي كثرت
_________
(1) مسلم 2535 - البخاري 1288.
(4/104)
ولادتها للذكور ومئناث للتي تلد الإناث، يقال در اللبن يدر إذا أقبل على الحالب بكثرة أي أرسلنا المطر متتابعاً في أوقات الحاجة إليه.
(وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم) معناه من تحت أشجارهم ومنازلهم والمراد به كثرة البساتين أي أن الله وسع عليهم المنعم بعد التمكين لهم في الأرض فكفروها (فأهلكناهم) أي كل قرن من تلك القرون (بذنوبهم) ولم يغن ذلك عنهم شيئاً فسيحل بهؤلاء مثل ما حل بهم من العذاب، وهذا كما ترى آخر ما به الاستشهاد والاعتبار.
وأما قوله: (وأنشأنا من بعدهم) أي من بعد إهلاكهم (قرناً آخرين) فصاروا بدلاً من الهالكين، ففي هذا بيان لكمال قدرته سبحانه وقوة سلطانه وأنّه يهلك من يشاء ويوجد من يشاء، وأن ما ذكر من إهلاك الأمم الكثيرة لم ينقص من ملكه شيئاً بل كل ما أهلك أمة أنشأ بدلها أخرى.
وفي هذه الآية ما يوجب الاعتبار والموعظة بحال من مضى من الأمم السالفة والقرون الخالية فإنهم مع ما كانوا فيه من القوة وكثرة الأتباع وخصب العيش، أهلكوا بسبب الكفر والإثم فكيف حال من هو أضعف منهم خلقاً وأقل عدداً وعدداً، وهذا يوجب الانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة.
والقرن لفظ يقع على معان كثيرة فيطلق على الجماعة من الناس ويطلق على المدة من الزمان قيل إطلاقه على هذين بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز، والراجح الثاني لأن المجاز خير من الاشتراك، وإذا قلنا بالراجح فالأظهر أن الحقيقة هي القوم.
ثم اختلف في كمية القرن فالجمهور أنه مائة سنة وقيل مائة وعشرون وقيل ثمانون وقيل سبعون قاله الفراء وقيل ستون وقيل أربعون وقيل ثلاثون وقيل عشرون، وقيل هو المقدار الوسط من أعمار أهل ذلك الزمان واستحسن هذا بأن أهل الزمن القديم كانوا يعيشون أربعمائة سنة وثلثمائة وألفاً وأكثر وأقل.
(4/105)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
(4/106)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
(ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس) في هذه الجملة شدة صلابتهم في الكفر، وأنهم لا يؤمنون ولو أنزل الله على رسوله كتاباً مكتوباً في قرطاس أي رق أو ورق بمرأى منهم ومشاهدة، قيل هما تفسير بالأخص.
والقرطاس في اللغة أعم منهما وهو ما يكتب فيه وكسر القاف أشهر من ضمها والقرطس وزن جعفر لغة فيه، وفي القاموس مثلث القاف وكجعفر ودرهم: الكاغد، والكاغد بالدال المهملة وربما قيل بالمعجمة وهو معرب.
وفي القاموس الكاغد القرطاس، وفي السمين هو الصحيفة يكتب فيها يكون من ورق وكاغد وغيرهما ولا يقال قرطاس إلا إذا كان مكتوباً وإلا فهو طرس وكاغد (1).
(فلمسوه بأيديهم) حتى يجتمع لهم إدراك الحاستين حاسة البصر وحاسة اللمس، فهو أبلغ من عاينوه لأنه أنفى للشك لأن السحر يجري على المرئي لا
_________
(1) اختصر المؤلف رحمه الله كلام ابن قتيبة، وإليك نصه بتمامه من " غريب القرآن " 150: (ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس) أي: صحيفة، وكذلك قوله: (تجعلونه قراطيس) أي: صحفاً. قال المرار.
عفت المنازل غير مثل الأنقس ... بعد الزمان عرفته بالقرطس
فوقفت تعترف الصحيفة بعدما ... عمس الكتاب وقد يرى لم يعمس
والأنقس: جمع نقس، مثل قدح وأقدح وأقداح. أراد غير مثل النقس عرفته بالقرطاس، ثم قال: " فوقفت تعترف الصحيفة " فأعلمك أن القرطاس هو الصحيفة، ومنه يقال للرامي إذا أصاب: قرطس، إنما يراد أصاب الصحيفة.
(4/106)
على الملموس، ولأن الغالب أن اللمس بعد المعاينة.
(لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) أي لقال الكفار هذا هو السحر، ولم يعلموا بما شاهدوا ولمسوا، وإذا كان هذا حالهم في المرئي المحسوس فكيف فيما هو مجرد وحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة ملك لا يرونه ولا يحسونه، وفيه إظهار في مقام الإضمار.
(4/107)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
(وقالوا لولا أنزل عليه ملك) هذه الجملة مشتملة على نوع آخر من أنواع جحدهم لنبوته - صلى الله عليه وسلم - وكفرهم بها أي قالوا هلا أنزل علينا ملكاً نراه ويكلمنا أنه نبي حق حتى نؤمن به ونتبعه كقولهم لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً.
(ولو أنزلنا ملكاً) على الصفة التي اقترحوها بحيث يشاهدونه ويخاطبونه ويخاطبهم (لقضي الأمر) بهلاكهم أي لأهلكناهم إذا لم يؤمنوا عند نزوله ورؤيتهم له لأن مثل هذه الآية البينة وهي نزول الملك على تلك الصفة إذا لم يقع الإيمان بعدها فقد استحقوا الإهلاك والمعاجلة بالعقوبة، وهذه سنة الله في الكفار أنهم متى اقترحوا آية ثم لم يؤمنوا استوجبوا العذاب واستؤصلوا به.
(ثم لا ينظرون) أي لا يمهلون بعد نزوله ومشاهدتهم له طرفة عين لتوبة أو معذرة بل يعجل لهم العذاب، وقيل المعنى أن الله سبحانه لو أنزل ملكاً مشاهداً لم تطق قواهم البشرية أن يبقوا بعد مشاهدته أحياء بل تزهق أرواحهم عند ذلك، فيبطل ما أرسل الله له رسله وأنزل به كتبه من هذا التكليف الذي كلف به عباده ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.
(4/107)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
(ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً) أي لو جعلنا الرسول إليهم أو إلى النبي ملكاً يشاهدونه ويخاطبونه لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل، لأنهم لا
(4/107)
يستطيعون أن يروا الملك على صورته التي خلقه الله عليها إلا بعد أن يتجسم بالأجسام الكثيفة المشابهة لأجسام بني آدم، لأن كل جنس يأنس بجنسه، فلو جعل الله سبحانه الرسول إلى البشر أو الرسول إلى رسوله ملكاً مشاهداً مخاطباً لنفروا منه ولم يأنسوا به ولدخلهم الرعب وحصل معهم من الخوف ما يمنعهم من كلامه ومشاهدته، هذا أقل حال فلا يتم المصلحة من الإرسال.
ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنس كما جاء جبريل عليه السلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية الكلبي، وكما جاء الملكان إلى داود عليه السلام في صورة رجلين، وكذلك إلى إبراهيم ولوط عليهما السلام.
وعند أن يجعله الله رجلاً أي على صورة رجل من بني آدم ليسكنوا إليه ويأنسوا به سيقول الكافرون إنه ليس بملك وإنما هو بشر، ويعودون إلى مثل ما كانوا عليه.
وفي إيثار (رجلاً) على (بشراً) إيذان بأن الجعل بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة وتعيين لما يقع به التمثيل.
(وللبسنا عليهم ما يلبسون) أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم أو على غيرهم قاله أبو البقاء لأنهم إذا رأوه في صورة إنسان قالوا هذا إنسان وليس بملك، فإن استدل لهم بأنه ملك كذبوه، قال الزجاج: المعنى للبسنا على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفائهم، وكانوا يقولون لهم إنما محمد بشر وليس بينه وبينكم فرق فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم.
فأعلم الله عز وجل أنه لو نزل ملكاً في صورة رجل لوجدوا سبيلاً إلى اللبس كما يفعلون، واللبس الخلط يقال لبست عليه الأمر ألبسه لبساً أي خلطته وأصله التستر بالثوب ونحوه وفيه تأكيد لاستحالة جعل النذير ملكاً كأنه قيل لو فعلناه لفعلنا ما لا يليق بشأننا من لبس الأمر عليهم.
(4/108)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
ثم قال سبحانه مؤنساً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ومسلياً له
(4/109)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
(ولقد استهزئ برسل من قبلك) كما استهزؤوا بك يا محمد، وفيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم - ووعيد أيضاً لأهل مكة كما أشار له بقوله: (فحاق بالذين سخروا منهم) يقال حاق الشيء يحييق حيقاً وحيوقاً وحيقاناً نزل أي فنزل بهم وأحاط بهم وحل (ما كانوا به يستهزئون) وهو الحق حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء، به وقيل هو الرسول وقيل العذاب.
(4/109)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
(قل) يا محمد لهؤلاء المستهزئين (سيروا في الأرض أي سافروا فيها معتبرين ومتفكرين، وقيل هو سير الأقدام (ثم انظروا) بأعينكم آثار من كان قبلكم لتعرفوا ما حل بهم من العقوبة أو نظر فكرة وعبرة وهو بالبصيرة لا بالبصر.
(كيف كان عاقبة المكذبين) بعدما كانوا فيه من النعيم العظيم الذي يفوق ما أنتم عليه فهذه ديارهم خربة وجناتهم مغبرة وأراضيهم مكفهرة، فإذا كانت عاقبتهم هذه العاقبة فأنتم بهم لاحقون وبعد هلاكهم هالكون، والعاقبة مصدر أي منتهى الشيء وما يصير إليه والعاقبة إذا اطلقت اختصت بالثواب وبالإضافة قد تستعمل في العقوبة فصح أن تكون استعارة كقوله فبشرهم بعذاب أليم.
(4/109)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
(قل لمن ما في السموات والأرض) هذا احتجاج عليهم قاطع، وتبكيت لهم ساطع، لا يقدرون على التخلص منه أصلاً (ولمن) خبر مقدم والمبتدأ ما وهي بمعنى الذي، وجملة (قل لله) تقرير لهم وتنبيه على أنه المتعين للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتى لأحد أن يجيب بغيره كما نطق به قوله (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولُنّ الله). وإذا ثبت أن له ما في السموات والأرض إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقوبة ولكنه (كتب على نفسه الرحمة) أي: وعد بها فضلاً منه وتكرماً لا أنه مستحق عليه وذكر النفس هنا عبارة عن تأكد وعده وارتفاع الوسائط دونه. وفي الكلام ترغيب للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وتسكين خواطرهم بأنه رحيم بعباده لا يعاجلهم بالعقوبة وأنه يقبل منهم الإنابة والتوبة، ومن رحمته لهم إرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأدلة.
وقد أخرج مسلم وأحمد وغيرهما عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " خلق الله يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة منها رحمة يتراحم بها الخلق وتسعة وتسعون ليوم القيامة فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة " (1).
وثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" لما قضى الله الخلق وكتب كتاباً فوضعه عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي " (2) وقد روى من طرق أخرى بنحو هذا.
قيل معنى الجملة القسم، وعلى هذا فقوله (ليجمعنكم) جوابه لما تضمنه معنى القسم وقال الزجاج: إنها بدل من الرحمة لأنه فسره بأنه أمهلكم
_________
(1) مسلم 2753.
(2) صحيح الجامع الصغير 5090.
(4/110)
وأمد لكم في العمر والرزق مع كفركم، فهو تفسير للرحمة وقد ذكره الفراء أيضاً ورده ابن عطية وقال: هو جواب قسم محذوف أي والله ليجمعنكم.
وقيل المعنى ليجمعنكم في القبور مبعوثين أو محشورين وقيل اللام بمعنى أن أي أن يجمعكم كما في قوله تعالى: (ليسجننه) أي أن يسجنوه وقيل زائدة وقيل: إن جملة ليجمعنكم مسوقة للترهيب بعد الترغيب وللوعيد بعد الوعد، أي إن أمهلكم برحمته فهو مجازيكم يجمعكم ثم يعاقب من يستحق عقوبته من العصاة.
(إلى يوم القيامة) إلى بمعنى (في) وقيل المعنى في قبوركم إلى اليوم الذي أنكرتموه وهو يوم القيامة (لا ريب فيه) أي لا شك في اليوم أو في الجمع.
(الذين خسروا أنفسهم) أي ليجمعن المشركين الذين غبنوا أنفسهم باتخاذهم الأصنام فعرضوا أنفسهم لسخط الله وأليم عقابه فكانوا كمن خسر شيئاً، وأصل الخسار الغبن يقال خسر الرجل إذا غبن في بيعه (فهم لا يؤمنون) لما سبق عليهم القضاء بالخسران فهو الذي حملهم على الامتناع من الإيمان بحيث لا سبيل لهم إليه أصلاً.
(4/111)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
(4/112)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
(وله) أي لله (ما سكن في الليل والنهار) خص الساكن بالذكر لأن ما يتصف بالسكون أكثر مما يتصف بالحركة وقيل المعنى ما سكن فيهما أو تحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر، وهذا من جملة الاحتجاج على الكفرة قال السدي: ما سكن أي استقر وثبت، ولم يذكر الزمخشري غيره وقال تعديته بفي كما في قوله وسكنتم في مساكن الذين ظلموا ورجح هذا التفسير ابن عطية.
وقال ابن جرير: كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكن الليل والنهار، فيكون المراد منه جميع ما حصل في الأرض من الدواب والحيوانات والطير وغير ذلك مما في البر والبحر، وهذا يفيد الحصر والمعنى أن جميع الموجودات ملك لله تعالى لا لغيره (وهو السميع) لأقوالهم وأصواتهم (العليم) بسرائرهم وأحوالهم.
(4/112)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
(قل أغير الله اتخذ ولياً) الاستفهام للإنكار قال لهم ذلك لما دعوه إلى عبادة الأصنام، ولما كان الإنكار لاتخاذ غير الله ولياً لا لاتخاذ الولي مطلقاً دخلت الهمزة على المفعول لا على الفعل والمراد بالولي هنا المعبود أي كيف اتخذ غير الله معبوداً بطريق الإستقلال أو الإشتراك.
(فاطر السموات والأرض) أي خالقهما ومبدعهما (1) (وهو يطعم ولا يطعم) أي يرزق ولا يرزق وخص الإطعام دون غيره من ضروب الإنعام
_________
(1) ومنه ما روى البخاري (3/ 197) عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو
[ص:113]
ينصرانه، أو يُمَجِّسانِهِ، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها جدعاء " ورواه البخاري أيضاً (3/ 176): ومسلم في " صحيحه " (4/ 2047) بلفظ " ما من مولود إلا يولد على الفطرة " ثم يقول أبو هريرة: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ... ) الآية. ورواه أحمد في " المسند " عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه، فإذا عبر عنه لسانه. إما شاكراً، وإما كفوراً " وفي رواية لمسلم (4/ 2048) " ليس من مولود يولد إلا على هذه الفطرة، حتى يعبر عنه لسانه " وفي رواية له أيضاً " حتى يبين عنه لسانه ".
(4/112)
لأن الحاجة إليه أمس.
(قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) أمره سبحانه بعدما تقدم من نفي اتخاذ غير الله ولياً أن يقول لهم ثانياً أنه مأمور بأن يكون أول من أسلم وجهه لله من قومه وأخلص من أمته، فهو من جملة أمته من حيث إنه مرسل لنفسه يعني يحب عليه الإيمان برسالة نفسه وبما جاء من الشريعة والأحكام كما أنه مرسل لغيره وهو أول من انقاد لهذا الدين، أو المعنى أول فريق أسلم وأفرد الضمير في أسلم باعتبار لفظ من، وقيل معنى أسلم استسلم لأمر الله.
ثم نهاه عز وجل أن يكون من المشركين فقال: (ولا تكونن) أي وقيل لي ولا تكونن (من المشركين) أي في أمر من أمور الدين ومعناه أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك وقد جوز عطفه على الأمر.
(4/113)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
(قل) أي جواباً ثالثاً (إني أخاف إن عصيت ربي) أي إن عصيته بعبادة غيره أو مخالفة أمره أو نهيه، والخوف توقع المكروه وقيل هو هنا بمعنى العلم أي اني أعلم إن عصيت ربي (عذاب يوم عظيم) وهو عذاب يوم القيامة.
(4/113)
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
(من يصرف عنه) قرأ أهل الحرمين يصرف على البناء للمفعول أي من يصرف عنه العذاب، وقرأ الكوفيون على البناء للفاعل فيكون الضمير لله، ومعنى (يومئذ) يوم العذاب العظيم (فقد رحمه) أي نجاه الله وأنعم عليه وأدخله الجنة (وذلك) أي فذلك يعني صرف العذاب أو الرحمة كل منهما (الفوز المبين) أي الظاهر الواضح.
(4/113)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
(4/114)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
(وإن يمسسك الله بضر) أي ينزل الله بك ضراً من فقر أو مرض أو شدة وبيه (فلا كاشف له إلا هو) أي فلا قادر على كشفه سواه (وإن يمسسك بخير) من رخاء أو عافية ونعمة، والخير اسم جامع لكل ما ينال الإنسان من لذة وفرح وسرور ونحو ذلك (فهو على كل شيء قدير) ومن جملة ذلك المس بالخير والشر، وهذا الخطاب وإن كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو عام لكل واحد.
وعن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال لي: " يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف " (1)، أخرجه الترمذي وزاد فيه رزين تعرّف إلى الله في الرّخاء يعرفك في الشدة قال ابن الأثير: وقد جاء نحو هذا ومثله بطوله في مسند أحمد.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 7834.
(4/114)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
(وهو القاهر فوق عباده) القهر الغلبة والقاهر الغالب وأقهر الرجل إذا صار مقهوراً ذليلاً، ومن الأول قوله: (وإنا فوقهم قاهرون) ومن الثاني (فأما
(4/114)
اليتيم فلا تقهر) قيل ومعنى فوق فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم لا فوقية المكان كما تقول السلطان فوق رعيته أي بالمنزلة والرفعة، وقيل هو صفة الاستعلاء الذي تفرد به سبحانه فهو على الذات وسمى الصفات وقال ابن جرير الطبري: معنى القاهر المتعبد خلقه العالي عليهم.
وإنما قال فوق عباده لأنه تعالى وصف نفسه بقهره إياهم ومن صفة كل قاهر شيئاً أن يكون مستعلياً عليه انتهى، أي استعلاء يليق به وقيل هو القاهر مستعلياً أو غالباً ذكره أبو البقاء والمهدوي وفي القهر معنى زائدة ليس في القدرة وهو منع غيره عن بلوغ المراد (وهو الحكيم) في أمره (الخبير) بأفعال عباده.
(4/115)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
(قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم) الشيء يطلق على القديم والحادث والمحال والممكن، والمعنى أي شهيد أكبر شهادة فوضع شيء موضع شهيد، وقيل أن شيء هنا موضوع موضع اسم الله تعالى والمعنى الله أكبر شهادة أي إنفراده بالربوبية وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم فهو شهيد بيني وبينكم.
وقيل هو الجواب لأنه إذا كان الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شهادة له - صلى الله عليه وسلم - وقيل: إنه قد تم الجواب عند قوله قل الله يعني الله أكبر شهادة ثم ابتدأ فقال شهيد أي هو شهيد بيني وبينكم.
والمراد بشهادة الله إظهار المعجزة على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن حقيقة الشهادة ما بين به المدعى وهو كما يكون بالقول يكون بالفعل، ولا شك أن دلالة الفعل أقوى من دلالة القول لعروض الاحتمالات في الألفاظ دون الأفعال فإن دلالتها لا يعرض لها الاحتمال. وتكرير البين لتحقيق المقابلة.
(وأوحى إلي) أي أوحى الله إلي (هذا القرآن) الذي تلوته عليكم (لأنذركم) أي لأجل أن أخوفكم (به) وأحذركم مخالفة أمر الله وهذا بمنزلة
(4/115)
التعليل لما قبله أي نزوله على شهادة من الله بأني رسوله، وقرئ أوحى على البنائين للفاعل والمفعول قال ابن عباس: لأنذركم به يعني أهل مكة (ومن بلغ) يعني من بلغ هذا القرآن من الناس فهو له نذير أي أنذر به كل من بلغ إليه موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة إلى يوم القيامة من العرب والعجم وغيرهم من سائر الأمم.
وفي هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد كشمولها لمن قد كان موجوداً وقت النزول ما لا يحتاج معه إلى تلك الخزعبلات المذكورة في علم أصول الفقه.
وعن أنس قال: لما نزلت هذه الآية كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كسرى وقيصر والنجاشي وكل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه.
وأخرج أبو نعيم والخطيب وابن النجار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " من بلغه القرآن فكأنما شافهته به "، ثم قرأ هذه الآية، وعن محمد بن كعب القرظيّ قال: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ من بلغه القرآن حتى يفهمه ويعقله كان كمن عاين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه.
وعن مجاهد قال: لأنذركم به يعني العرب ومن بلغ يعني العجم، قال السمين فيه ثلاثة أقوال (أحدها) لأنذر الذي بلغ القرآن (والثاني) لأنذر الذي بلغ الحلم (والثالث) لأنذركم به ولينذركم الذي بلغه القرآن.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بلغوا عني ولو آية " (1) أخرجه البخاري وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
_________
(1) البخاري كتاب الأنبياء الباب 5 - الترمذي كتاب العلم الباب 12.
(4/116)
" نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى له من سامع " أخرجه الترمذي (1) وفي الباب أحاديث.
وقال ابن عباس: تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن يسمع منكم، أخرجه أبو داود موقوفاً، وقد امتثل بهذا الأمر عصابة أهل الحديث دون غيرهم كثر الله سوادهم ورفع عمادهم.
(أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها والاستفهام للتوبيخ والتقريع على قراءة من قرأ بهمزتين على الأصل أو بقلب الثانية أي لا تنبغي ولا تصح منكم هذه الشهادة لأن المعبود واحد لا تعدد فيه، وأما من قرأ على الخبر فقد حقق عليهم شركهم، وإنما قال آلهة أخرى لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث كذا قال الفراء ومثله قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى) وقال: فما بال القرون الأولى ولم يقل الأول ولا الأولين.
(قل) فأنا (لا أشهد) بما تشهدون به أن معه آلهة أخرى بل أجحد ذلك وأنكره وذلك لكون هذه الشهادة باطلة ومثله فإن شهدوا فلا تشهد معهم (قل إنما هو إله واحد) لا شريك له وبذلك أشهد، وفي (ما) وجهان أظهرهما أنها كافة والثاني أنها موصولة قال أبو البقاء وهذا الوجه أليق بما قبله، قال السمين: ولا أدري ما وجه ذلك يعني الأولى هو الوجه الأول (وأني بريء مما تشركون) به وما موصولة أو مصدرية أي من الأصنام التي تجعلونها آلهة أو من إشراككم بالله.
_________
(1) ابن ماجة كتاب المقدمة الباب 18 وكتاب المناسك الباب 76.
(4/117)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
(4/118)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
(الذين آتيناهم الكتاب) وهم علماء اليهود والنصارى الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والتعريف للجنس فيشمل التوراة والإنجيل وغيرهما (يعرفونه) أي يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال به جماعة من السلف وإليه ذهب الزجاج، وقيل يعرفون القرآن معرفة محققة بحيث لا يلتبس عليهم منه شيء وقيل يعود الضمير على التوحيد لدلالة قوله: (إنما هو إله واحد) أو على كتابهم أو على جميع ذلك وأفرد الضمير اعتباراً بالمعنى كأنه قيل يعرفون ما ذكرنا وقصصنا.
(كما يعرفون أبناءهم) بيان لتحقق تلك المعرفة وكمالها وعدم وجود شك فيها فإن معرفة الآباء للأبناء هي البالغة إلى غاية الإيقان إجمالاً وتفصيلاً (الذين خسروا أنفسهم) أي أهلكوها وغبنوها وأوبقوها في نار جهنم بأنكارهم نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل المعنى أن أولئك الذين آتاهم الله الكتاب هم الذين خسروا أنفسهم بسبب ما وقعوا فيه من البعد عن الحق وعدم العمل بالمعرفة التي ثبتت لهم.
ومعنى هذا الخسران كما قاله جمهور المفسرين أن الله جعل لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار، ذكره الكرخي (فهم) بعنادهم وتمردهم (لا يؤمنون) بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال البيضاوي: الفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم
(4/118)
فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والإنهماك في التقليد وإغفال النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان.
(4/119)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
(ومن) أي لا أحد (أظلم ممن افترى) أي اختلق فجمع بين أمرين لا يجتمعان عند عاقل افتراؤه على الله بما هو باطل غير ثابت وتكذيبه ما هو ثابت بالحجة، هذا ما جرى عليه الكشاف وغيره من جمعه بين الأمرين، أو لأن المعنى لا أحد أظلم ممن ذهب إلى أحد الأمرين فكيف بمن جمع بينهما.
(على الله كذباً) فزعم أن له شريكاً من خلقه وإلهاً يعبدونه كما قال المشركون من عباد الأصنام أو قال إن في التوراة أو الإنجيل ما لم يكن فيهما كما قالت اليهود إن عزيراً ابن الله، وقالت النصارى أن له صاحبة وولداً.
(أو كذب بآياته) التي يلزمه الإيمان بها من المعجزة الواضحة البينة، قال عكرمة: قال النضر بن عبد الدار: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى، فأنزل الله هذه الآية (إنه) الضمير للشأن (لا يفلح الظالمون) القائلون على الله الكذب والمفترون عليه الباطل.
(4/119)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
(ويوم نحشرهم جميعاً) منصوب بفعل مضمر بعده أي ويوم نحشرهم كان كيت وكيت وحذف ليكون أبلغ في التخويف أو التقدير أنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا ويوم نحشرهم، قاله محمد بن جرير وقيل التقدير أنظر كيف كذبوا وفيه بعد، وقيل اتقوا يوم نحشرهم، والأول أولى والضمير يعود على المفترين بالكذب، وقيل على الناس كلهم فيندرج هؤلاء فيهم والتوبيخ مختص بهم وقيل يعود على المشركين وأصنامهم.
(ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤهم) الاستفهام للتقريع والتوبيخ للمشركين، وأضاف الشركاء إليهم لأنها لم تكن شركاء لله في الحقيقة بل لما سموها شركاء أضيفت إليهم وهي ما كانوا يعبدونه من دون الله أو مع الله (الذين كنتم تزعمون) أي تزعمونها شركاء، ووجه التوبيخ أن معبوداتهم غابت عنهم في تلك الحال أو كانت حاضرة، ولكن لا ينتفعون بها بوجه من الوجوه فكان وجودها كعدمها.
(4/119)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
(4/120)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
(ثم لم تكن فتنتهم) أي معذرتهم قاله ابن عباس: أي التي يتوهمون أن يتخلصوا بها أو حجتهم والفتنة التجربة من فتنت الذهب إذا خلصته، قال الزجاج: فيه معنى لطيف وذلك أن الرجل يفتتن بمحبوب ثم تصيبه فيه محنة فيتبرأ منه فيقال لم تكن فتنته إلا بذلك المحبوب، فكذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام ثم لما رأوا العذاب تبرؤوا منها، وقيل المراد بالفتنة هنا جوابهم وسماه فتنة لأنه لم يكن جوابهم إلا الجحود والتبري فكان هذا الجواب فتنة لكونه كذباً.
(إلا أن قالوا) يعني المنافقين والمشركين قالوا: وهم في النار هلم فلنكذب فلعله أن ينفعنا والاستثناء مفرغ (والله ربنا ما كنا مشركين) قال القاضي: يكذبون ويحلفون عليه مع علمهم بأنه لا ينفع من فرط الحيرة والدهشة، قال الزجاج: تأويل هذه الآية أن الله عز وجل أخبر بقصص المشركين وافتتانهم، ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حين رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك، ونظير هذا في اللغة أن ترى إنساناً يحب غاوياً فإذا وقع في هلكه تبرأ منه فتقول ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأت منه انتهى.
فالمراد بالفتنة على هذا كفرهم أي لم تكن عاقبة كفرهم الذي افتخروا به وقاتلوا عليه إلا ما وقع منهم من الجحود والحلف على نفيه بقولهم والله الخ.
(4/120)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
(انظر) يا محمد بعين البصيرة والتأمل إلى حال هؤلاء المشركين (كيف
(4/120)
كذبوا على أنفسهم) بإنكار ما وقع منهم في الدنيا من الشرك واعتذارهم بالباطل، وفي البيضاوي وحمله على كذبهم في الدنيا تعسف يخل بالنظم (وضل عنهم) أي زال وذهب وتلاشى وبطل (ما كانوا يفترون) أي ما يظنونه من أن الشركاء يقربونهم إلى الله، هذا على أن ما مصدرية وهو قول ابن عطية: أي ضل عنهم افتراؤهم، وقيل هي موصولة عبارة عن الآلهة أي فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله فلم يغنِ عنهم شيئاً.
وهذا تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حالهم المختلفة، ودعواهم المتناقضة، وقيل لا يجوز أن يقع منهم كذب في الآخرة لأنها دار لا يجرى فيها غير الصدق، فالمعنى نفي شركهم عند أنفسهم وفي اعتقادهم. ويؤيد هذا قوله تعالى: (ولا يكتمون الله حديثاً).
(4/121)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
(ومنهم من) هذا كلام مبتدأ لبيان ما كان يصنعه بعض المشركين في الدنيا، والضمير عائد إلى الذين أشركوا أي وبعض الذين أشركوا (يستمع إليك) حين تتلو القرآن قال مجاهد وهم قريش وقال هنا يستمع وفي يونس (يستمعون) بالجمع لأن ما هنا في قوم قليلين فنزلوا منزلة الواحد، وما في يونس في جميع الكفار فناسب الجمع فأعيد الضمير على معنى (من) وفي الأول على لفظها وإنما لم يجمع ثم في قوله ومنهم من ينظر إليك لأن الناظرين إلى المعجزات أقل من المستمعين للقرآن.
(وجعلنا على قلوبهم أكنة) أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم، والأكنة الأغطية جمع كنان وهو الوعاء الجامع والغطاء الساتر كالأسنة والسنان كننت الشيء في كنة إذا جعلته فيها وأكننته أخفيته قال مجاهد في أكنة كالجعبة للنبل وجعل هنا للتصيير وبمعنى خلق أو ألقى، والجملة مستأنفة للإخبار بمضمونها أو حالية أي وقد جعلنا على قلوبهم أغطية كراهة (أن يفقهوه) أي القرآن أو لئلا يفقهوه.
(4/121)
(وفي آذانهم وقراً) أي صمماً وثقلاً يقال وقرت أذنه تقر أي صمت وقرئ وقر بكسر الواو أي جعل في آذانهم ما سدها عن استماع القول على التشبيه بوقر البعير والحمار وهو مقدار ما يطيق أن يحمله.
والحاصل أن المادة تدل على الثقل والرزانة ومنه الوقار للتؤدة والسكينة، وذكر الوقر والأكنة تمثيل لفرط بعدهم عن فهم الحق وسماعه كأن قلوبهم لا تعقل وأسماعهم لا تدرك قال قتادة: يسمعون بآذانهم ولا يعون منه شيئاً كمثل البهيمة التي لا تستمع النداء ولا تدري ما يقال لها.
(وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) أي بشيء من الآيات التي يرونها من المعجزات ونحوها لعنادهم وتمردهم (حتى) هي الابتدائية التي تقع بعدها الجمل والمعنى أنهم بلغوا من الكفر والعناد إلى أنهم (إذا جاءوك يجادلونك) أي مجادلين مخاصمين لا مؤمنين بها ولم يكتفوا بمجرد عدم الإيمان بل (يقول الذين كفروا إن هذا) أي ما هذا القرآن (إلا أساطير الأولين) وقيل هي الجارة والمعنى حتى وقت مجيئهم مجادلين يقولون ذلك، وهذا غاية التكذيب ونهاية العناد.
والأساطير قال الزجاج: واحدها أسطار، وقال الأخفش أسطورة، وقال أبو عبيدة: أسطارة وقال النحاس: أسطور، وقال القشيري: أسطير، وقيل هو جمع لا واحد له كعبابيد وأبابيل، وظاهر كلام الراغب أنه جمع سطر، والمعنى ما سطره الأولون في الكتب من القصص والأحاديث قال الجوهري الأساطير الأباطيل والترهات، وقال السدي أساجيع الأولين، وقال ابن عباس: أحديث الأولين، وقال قتادة: كذب الأولين وباطلهم.
(4/122)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
(4/123)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
(وهم ينهون عنه وينأون عنه) أن ينهى المشركون الناس عن الإيمان بالقرآن أو بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويبعدونهم في أنفسهم عنه، وقال ابن عباس: لا يلقونه ولا يدعون أحداً يأتيه، وعن محمد بن الحنفية قال: كفار مكة كانوا يدفعون الناس عنه ولا يجيبونه، وعن سعيد بن هلال قال: نزلت في عمومة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا عشرة فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر.
وعن ابن عباس قال: ينهون عنه الناس أن يؤمنوا به وينأون عنه أي يتباعدون بأنفسهم فلا يؤمنون، وعنه قال: نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتباعد عما جاء به وعن القاسم بن المخيمرة وعطاء نحوه والأول أولى.
(وإن) أي ما (يهلكون) بما يقع منهم من النهي والنأي (إلا أنفسهم) بتعريضها لعذاب الله وسخطه (و) الحال أنهم (ما يشعرون) بهذا البلاء الذي جلبوه على أنفسهم.
(4/123)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
(ولو ترى) الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من تتأتى منه الرؤية، وعبر عن المستقبل أي يوم القيامة بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه كما ذكره علماء المعاني (إذ وقفوا على النار) معناه حبسوا عليها يقال وقفته وقفاً ووقف وقوفاً وقيل معناه ادخلوها فيكون (على) بمعنى في، وقيل هي بمعنى الباء أي وقفوا بالنار أي بقربها معاينين لها، ومفعول ترى وجواب لو محذوف ليذهب السامع كل مذهب والتقدير لو تراهم إذ وقفوا على النار لرأيت منظراً هائلاً وحالاً
(4/123)
فظيعاً وأمراً عجيباً.
(فقالوا يا ليتنا نرد) إلى الدنيا (ولا نكذب بآيات ربنا) أي الناطقة بأحوال النار وأهوالها الآمرة باتقائها إذ هي التي تخطر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرطوا في حقها أو بجميع آياته المنتظمة لتلك الآيات انتظاماً أولياً (ونكون من المؤمنين) (1) بها والعاملين بما فيها والأفعال الثلاثة داخلة تحت التمني أي تمنوا الرد، وأن لا يكذبوا، وأن يكونوا من المؤمنين برفع الأفعال الثلاثة كما هي قراءة الكسائي وأهل المدينة، وقرئ بنصب نكذب ونكون بإضمار أن بعد الواو على جواب التمني، واختار سيبويه القطع في ولا نكذب فيكون غير داخل في التمني، والتقدير ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب أي لا نكذب رددنا أو لم نرد، قال وهو مثل دعني ولا أعود أي لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني.
واستدل أبو عمرو بن العلاء على خروجه من التمني بقوله: (وإنهم لكاذبون) لأن الكذب في التمني لا يكون، وقرأ ابن عامر ونكون بالنصب وأدخل الفعلين الأولين في التمني، وقرأ أبي ولا نكذب بآيات ربنا أبداً. وقرأ
_________
(1) إن أبا طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتباعد عما جاء به، فنزلت فيه هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول عمرو بن دينار، وعطاء بن دينار، والقاسم ابن مخيمرة. وقال مقاتل: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - سوءاً، فسألوا أبا طالب أن يدفعه إليهم، فيقتلوه، فقال: ما لي عنه صبر؛ فقالوا: ندفع إليك من شبابنا من شئت مكان ابن أخيك؛ فقال أبو طالب: حين تروح الإبل، فإن حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم، وقال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر وقر بذاك منك عيونا
وعرضت ديناً لا محالة أنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
فنزلت فيه هذه الآية.
(4/124)
هو وابن مسعود فلا نكذب بالفاء والنصب، والفاء ينصب بها في جواب التمني كما ينصب بالواو كما قال الزجاج، وقال أكثر البصريين لا يجوز الجواب إلا بالفاء.
(4/125)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
(بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) هذا إضراب عما يدل عليه التمني من الوعد بالإيمان والتصديق أي لم يكن ذلك التمني منهم عن صدق نية وخلوص اعتقاد، بل هو بسبب آخر وهو أنه بدا لهم ما كانوا يجحدون من الشرك وعرفوا أنهم هالكون بشركهم فعدلوا إلى التمني والمواعيد الكاذبة، وقيل ما كانوا يخفون من النفاق والكفر بشهادة جوارحهم عليهم.
وقيل ما كانوا يكتمون من أعمالهم القبيحة كما قال تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) وقال المبرد: بدا لهم جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه وهو مثل القول الأول، وقيل المعنى أنه ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كانوا يخفونه عنهم من أمر البعث والقيامة.
(ولو ردوا) إلى الدنيا حسبما تمنوا (لعادوا لما نهوا عنه) من القبائح التي رأسها الشرك كما عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند - عن قتادة قال: لو وصل الله لهم دنيا كدنياهم التي كانوا فيها لعادوا إلى أعمالهم السوء التي كانوا نهوا عنها، وقال ابن عباس: أخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى أي ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حيل بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا.
(وإنهم لكاذبون) أي متصفون بهذه الصفة لا ينفكون عنها بحال من الأحوال ولو شاهدوا ما شاهدوا، وقيل كاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من الصدق والإيمان.
(4/125)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
(4/126)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
(وقالوا إن) ما (هي إلا حياتنا الدنيا) أي ليس لنا غير هذه التي نحن فيها (وما نحن بمبعوثين) بعد الموت ولم يكتفوا بمجرد الإخبار بذلك حتى أبرزوها محصورة في نفي وإثبات وهي ضمير مبهم يفسره خبره أي لا يعلم ما يراد به إلا بذكر خبره وهو من الضمائر التي يفسرها ما بعدها لفظاً ورتبة، قال السمين وهذا من شدة تمردهم وعنادهم حيث يقولون هذه المقالة على تقدير أنهم رجعوا إلى الدنيا بعد مشاهدتهم للبعث.
(4/126)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
(ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) قد تقدم تفسيره أي حبسوا على ما يكون من أمر ربهم فيهم، وقيل على بمعنى عند، وقال مقاتل: عرضوا على ربهم وجواب لو محذوف أي لشاهدت أمراً عظيماً، وقيل: إنه من باب المجاز لأنه كناية عن الحبس للتوبيخ كما يوقف العبد بين يدي سيده ليعاتبه، ذكر ذلك الزمخشري.
والاستفهام في (قال أليس هذا بالحق) للتقريع والتوبيخ أي أليس هذا البعث الذي تنكرونه كائناً موجوداً وهذا الجزاء الذي تجحدونه حاضراً والجملة مستأنفة أو حالية كأنه قيل وقفوا عليه قائلاً لهم أليس الخ (قالوا بلى وربنا) اعترفوا بما أنكروا وأكدوا اعترافهم بالقسم (قال فذوقوا العذاب) الذي تشاهدونه وهو عذاب النار، وإنما خص لفظ الذوق لأنهم في حال يجدون ألم العذاب وجدان الذائق في شدة الإحساس (بما كنتم تكفرون) أي بسبب جحدكم وكفركم بالبعث بعد الموت أو بكل شيء مما أمرتم بالإيمان به في دار الدنيا.
(4/126)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
(4/127)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
(قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) هم الذين تقدم ذكرهم وحكيت أحوالهم والمراد تكذيبهم بالبعث وقيل تكذيبهم بالجزاء والأول أولى لأنهم الذين قالوا قريباً إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين، وهذا الخسران هو فوت الثواب العظيم في دار النعيم المقيم، وحصول العذاب الأليم في دركات الجحيم.
(حتى) غاية للتكذيب لا للخسران فإنه لا غاية له (إذا جاءتهم الساعة) القيامة وسميت ساعة لسرعة الحساب فيها أو لأنها تفجأ الناس (بغتة) أي فجأة في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله، يقال بغتهم الأمر يبغتهم بغتاً وبغتة، قال سيبويه: وهي مصدر ولا يجوز أن يقاس عليه فلا يقال جاء فلان سرعة والبغت والبغتة مفاجأة الشيء بسرعة من غير اعتداد له ولا جعل بال منه، حتى لو استشعر الإنسان به ثم جاء بسرعة لا يقال فيه بغتة.
والألف واللام في الساعة للغلبة كالنجم والثريا لأنها غلبت على يوم القيامة وقيل المراد بالساعة وقت مقدمات الموت فالكلام على حذف المضاف أي جاءتهم مقدمات الساعة وهي الموت وما فيه من الأهوال، وقيل وهذا التحسر وإن كان يعتريهم عند الموت لكن لما كان الموت من مبادي الساعة سمي باسمها ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: " من مات فقد قامت قيامته " والأول أظهر.
(قالوا) أي منكرو البعث وهم كفار قريش. ومن سلك سبيلهم في الكفر والاعتقاد (يا حسرتنا) أوقعوا النداء على الحسرة وليست بمنادى في الحقيقة ليدل ذلك على كثرة تحسرهم، والمعنى يا حسرتنا احضري فهذا أوانك
(4/127)
وكذا قال سيبويه في هذا النداء وأمثاله كقولهم يا للعجب ويا للرجال، وقيل هو تنبيه للناس على عظم ما يحل بهم من الحسرة كأنهم قالوا يا أيها الناس تنبهوا على ما نزل بنا من الحسرة، والحسرة الندم الشديد والتلهف والتحسر على الشيء الفائت والمراد تنبيه المخاطبين على وقوع الحسرة بهم.
(على ما فرطنا فيها) أي على تفريطنا في الساعة أي في الاعتداد لها والاحتفال بشأنها والتصديق بها، ومعنى فرطنا ضيعنا وأصله التقدم يقال فرط فلان أي تقدم وسبق إلى الماء ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " وأنا فرطكم على الحوض " (1) ومنه الفارط أي المتقدم فكأنهم أرادوا بقولهم على ما قدمنا من عجزنا عن التصديق بالساعة والاعتداد لها وقيل التفريط، التقصير في الشيء مع القدرة على فعله.
وقال ابن جرير الطبري: إن الضمير في فرطنا فيها يرجع إلى الصفقة وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر والدنيا بالآخرة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا في صفقتنا وإن لم تذكر في الكلام فهو دال عليها لأن الخسران لا يكون إلا فيها وقيل الضمير راجع إلى الحياة أي على ما فرطنا في حياتنا وقيل إلى الدنيا لأنها موضع التفريط في الأعمال الصالحة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والخطيب بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله يا حسرتنا قال: " الحسرة أن يرى أهل النار منازلهم من الجنة فتلك الحسرة ".
(وهم يحملون أوزارهم) أي يقولون تلك المقالة والحال أنهم يحملون ذنوبهم وأثقال خطاياهم. والأوزار جمع وزر، يقال وزر يزر فهو وازر وموزور، وأصله من الوزر، قال أبو عبيدة: يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيها
_________
(1) النسائي كتاب الطهارة باب 109.
(4/128)
المتاع احمل وزرك أي ثقلك ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية.
والحاصل أن هذه المادة تدل على الرزانة والعظمة والمعنى أنها لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها.
(على ظهورهم) جعلها محمولة على الظهور تمثيل ومجاز عما يقاسونه من شدة العذاب وقيل المعنى أوزارهم لا تزايلهم، وقيل خص الظهر لأنه يطيق من الحمل ما لا يطيقه من سائر الأعضاء كالرأس والكاهل (ألا ساء ما يزرون) أي بئس ما يحملون، وقال قتادة يعملون وقال ابن عباس بئس الحمل حملوا.
(4/129)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
(وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو) أي وما متاع الدنيا على حذف مضاف أو ما الدنيا من حيث هي إلا باطل وغرور لا بقاء بها، والقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم إن هي إلا حياتنا الدنيا واللعب معروف وكذلك اللهو، وكل ما يشغلك فقد ألهاك، وقيل أصله الصرف عن الشيء ورد بأن اللهو بمعنى الصرف لامه ياء يقال لهيت عنه ولام اللهو واو يقال لهوت بكذا قال: ابن عباس يريد حياة أهل الشرك والنفاق، وقيل هذا عام في حياة المؤمن والكافر.
وقيل: إن أمر الدنيا والعمل لها لعب ولهو فأما فعل الخير والعمل الصالح فهو من فعل الآخرة وإن كان وقوعه في الدنيا، وقيل غير ذلك، والأول أولى وقيل اللعب ما يشغل النفس عما تنتفع به، واللهو صرفها عن الجد إلى الهزل.
(وللدار الآخرة) يعني الجنة التي هي محل الحياة الأخرى، وقرئ ولدار الآخرة بالإضافة وفيه تأويلات ذكرهما السمين، واللام فيه لام القسم وسميت آخرة لتأخرها عن الدنيا أي هي (خير) من الحياة الدنيا لأن منافعها خالصة عن المضار، ولذاتها غير متعقب: للآلام، بل مستمرة على الدوام (للذين يتقون) الشرك واللعب واللهو أو المعاصي، وفيه دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو (أفلا تعقلون) أن الآخرة خير من الدنيا فتعملون لها.
(4/129)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
(قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) هذا الكلام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وإله وسلم عما ناله من الغم والحزن بتكذيب الكفار له، ودخول قد للتكثير فإنها قد تأتي لإفادته كما تأتي رب. والضمير في أنه للشأن.
(فإنهم) الفاء للتعليل (لا يكذبونك) في السر لعلمهم أنك صادق.
وقرئ مشدداً ومخففاً، ومعنى المشدد لا ينسبونك إلى الكذب ولا يردون عليك ما قلته في السر، لأنهم عرفوا أنك صادق، ومعنى المخفف أنهم لا يجدونك كذاباً يقال أكذبته وجدته كذاباً وأبخلته وجدته بخيلاً، وحكى الكسائي عن العرب أكذبت الرجل أخبرت أنه جاء بالكذب، وكذبته أخبرت أنه كاذب.
وقال الزجاج: كذبته إذا قلت له كذبت، وأكذبته إذا أردت أن ما جاء به كذب.
والمعنى أن تكذيبهم ليس يرجع إليك فإنهم يعترفون لك بالصدق ولكن تكذيبهم راجع إلى ما جئت به ولهذا قال: (ولكن الظالمين) وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التوبيخ لهم والإزراء عليهم، ووصفهم بالظلم لبيان أن هذا الذي وقع منهم ظلم بين (بآيات الله) أي القرآن (يجحدون) في العلانية، كما قال تعالى (وجحدوا بها واستيقنته أنفسهم ظلما وعلوا) قال قتادة يعلمون أنك رسول الله ويجحدون.
وعن أبي يزيد المدني أن أبا جهل قال: والله إني لأعلم أنه صادق، ولكن متى كنا تبعا لبني عبد مناف. والجحد والجحود نفي ما في القلب إثباته أو إثبات مت في القلب نفيه، وقيل الجحد إنكار المعرفة، فليس مرادفا للنفي من كل وجه
(4/130)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
(4/131)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
(ولقد كذبت رسل من قبلك) هذا من جملة التسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك لأن عموم البلوى مما يهون أمرها بعض تهوين وتصدير الكلمة بالقسم لتأكيد التسلية أي: إن هذا الذي وقع من هؤلاء إليك ليس هو بأول ما صنعه الكفار مع من أرسله الله إليهم، بل قد وقع التكذيب لكثير من الرسل المرسلين من قبلك.
(فصبروا على ما كذبوا به) أي على تكذيب قومهم إياهم (وأوذوا) أي وصبروا على أذاهم (حتى أتاهم نصرنا) بإهلاك من كذبهم، والظاهر أن هذه الغاية متعلقة بقوله فصبروا أي كان غاية صبرهم نصر الله إياهم.
وفيه التفات من ضمير الغيبة إلى التكلم إذ قبله بآيات الله فلو جاء على ذلك لقيل نصره وفائدة الالتفات إسناد النصر إلى المتكلم المشعر بالعظمة أي فاقتد بهم ولا تحزن، واصبر كما صبروا حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم فإنا لا نخلف الميعاد، ولكل أجل كتاب [إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا] [ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون] [كتب الله لأغلبن أنا ورسلي].
(ولا مبدل لكلمات الله) بل وعده كائن وأنت منصور على المكذبين ظاهر عليهم وقد كان ذلك ولله الحمد (ولقد جاءك من نبأ المرسلين) ما
(4/131)
جاءك من تجرئ قومهم عليهم في الابتداء وتكذيبهم لهم ثم نصرهم عليهم في الانتهاء وأنت ستكون عاقبة هؤلاء المكذبين لك كعاقبة المكذبين للرسل فيرجعون إليك ويدخلون في الدين الذي تدعوهم إليه طوعاً أو كرهاً.
وهذه جملة قسمية جيء بها لتحقيق ما منحوا من النصر، وتأكيد ما في ضمنه من الوعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لتقرير جميع ما ذكر من تكذيب الأمم وما ترتب عليه من الأمور، قال الأخفش: من هنا صلة أي زائدة، وقال غيره بل هي للتبعيض لأن الواصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قصص بعض الأنبياء وأخبارهم، وسيبويه لا يجيز زيادتها في الواجب.
(4/132)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
(وإن كان كبر عليك إعراضهم) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبر عليه إعراض قومه ويتعاظمه ويحزن له، فبين له الله سبحانه أن هذا الذي وقع منهم من توليهم عن الإجابة له والإعراض عما دعا إليه هو كائن لا محالة لما سبق في علم الله عز وجل، وليس في استطاعته وقدرته إصلاحهم وإجابتهم قبل أن يأذن الله بذلك.
ثم علق ذلك بما هو محال فقال: (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض) فتأتيهم بآية منه (أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية) منها فافعل، ولكنك لا تستطيع ذلك فدع الحزن ولا تذهب نفسك عليهم حسرات وما أنت عليهم بمصيطر، والنفق السرب والمنفذ ومنه النافقاء لجحر اليربوع ومنه المنافق وقد تقدم في البقرة ما يغني عن الإعادة، والسلم الدرج الذي يرتقي عليه وهو مذكر لا يؤنث وقال الفراء أنه يؤنث قال الزجاج: وهو مشتق من السلامة لأنه يسلك به إلى موضع الأمن وقيل المصعد وقيل السبب.
ثم قيل: إن الخطاب وإن كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالمراد به أمته لأنها كانت تضيق صدورهم بتمرد الكفرة وتصميمهم على كفرهم، ولا يشعرون أن لله
(4/132)
سبحانه في ذلك حكمة لا تبلغها العقول ولا تدركها الأفهام، فإن الله سبحانه لو جاء لرسوله- صلى الله عليه وسلم - بآية تضطرهم إلى الإيمان لم يبق للتكليف الذي هو الابتلاء والامتحان معنى (1).
ولهذا قال: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) ولكنه لم يشأ ذلك ولله الحكمة البالغة (فلا تكونن من الجاهلين) فإن شدة الحرص والحزن لإعراض الكفار عن الإجابة قبل أن يأذن الله بذلك هو صنيع أهل الجهل ولست منهم فدع الأمور مفوضة إلى عالم الغيب والشهادة فهو أعلم بما فيه المصلحة، ولا تحزن لعدم حصول ما يطلبونه من الآيات التي لو بدا لهم بعضها لكان إيمانهم بها اضطراراً لخروجه عن الحكمة التشريعية المؤسسة على الاختيار، وإنما نهاه عن هذه وغلظ له الخطاب تبعيداً له عن هذه الحالة.
_________
(1) روى البخاري في " صحيحه " (6/ 456) و (7/ 126) و (12/ 281) عن خباب بن الأرتّ رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: " كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ".
(4/133)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
(إنما يستجيب) لك إلى ما تدعو إليه (الذين يسمعون) سماع تفهم بما تقتضيه العقول وتوجبه الأفهام، وهؤلاء ليسوا كذلك بل هم بمنزلة الموتى لا يسمعون ولا يعقلون لما جعلنا على قلوبهم من الأكنة وفي آذانهم من الوقر، ولهذا قال: (والموتى) شبههم بالأموات بجامع أنهم جميعاً لا يفهمون الصواب ولا يعقلون الحق (يبعثهم الله) يوم القيامة أي: إن هؤلاء لا يلجئهم الله إلى الإيمان وإن كان قادراً على ذلك كما يقدر على بعثه الموتى للحساب (ثم إليه ترجعون) فيجازي كلاًّ بما يليق به كما تقتضيه حكمته البالغة.
(4/133)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
(4/134)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
(وقالوا لولا نزّل عليه آية من ربه) هذا كان منهم تعنتاً ومكابرة حيث لم يعتدوا بما قد أنزله الله على رسوله من الآيات البينات التي من جملتها القرآن، وقد علموا أنهم قد عجزوا عن أن يأتوا بسورة مثله، ومرادهم بالآية هنا هي التي تضطرهم إلى الإيمان كنزول الملائكة بمرأى منهم ومسمع أو نتق الجبل كما وقع لبني إسرائيل فأمره الله سبحانه أن يجيبهم فقال.
(قل إن الله قادر على أن ينزل) على رسوله (آية) تضطرهم إلى الإيمان ولكنه ما نزل ذلك لتظهر فائدة التكليف الذي هو الابتلاء والامتحان وأيضاً لو أنزل آية كما طلبوا لم يمهلهم بعد نزولها بل سيعاجلهم بالعقوبة إذا لم يؤمنوا قال الزجاج: طلبوا أن يجمعهم على الهدى (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أن الله قادر على ذلك وأنه تركه لحكمة بالغة لا تبلغها عقولهم، وأن نزولها بلاء عليهم لعدم نفعهم ووجوب هلاكهم إن جحدوا كما هو سنة الله.
(4/134)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
(وما من دابة) تقع على المذكر والمؤنث من دب يدب فهو داب إذا مشى مشياً فيه تقارب خطو وقد تقدم بيان ذلك في البقرة، وهذا كلام مستأنف مسوق لبيان كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه قادر على تنزيل الآية، وإنما لم ينزلها محافظة على الحكم البالغة (في الأرض) إنما خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء وإن كان ما في السماء مخلوقاً له لأن الاحتجاج بالمشاهد أظهر وأولى مما لا يشاهد.
(ولا طائر يطير) يقال طار إذا أسرع قال أهل العلم جميع ما خلق الله
(4/134)
لا يخرج عن هاتين الحالتين إما أن يدب على الأرض أو يطير في الهواء حتى ألحقوا حيوان الماء بالطير، لأن الحيتان تسبح في الماء كما أن الطير يسبح في الهواء، وذكر (بجناحية) لدفع الإبهام لأن العرب تستعمل الطيران لغير الطير كقولهم طر في حاجتي أي أسرع.
وقيل إن اعتدال الطائر بين الجناحين يعينه على الطيران ومع عدم الاعتدال يميل فأعلمنا سبحانه أن الطيران بالجناحين، وقيل ذكر الجناحين للتأكيد كضرب بيده وأبصر بعينيه ونحو ذلك، والجناح أحد ناحيتي الطير الذي يتمكن به من الطيران في الهواء وأصله الميل إلى ناحية من النواحي، والمعنى ما من دابة من الدواب التي تدب في أي مكان من أمكنة الأرض ولا طائر يطير في أي ناحية من نواحيها.
(إلا أمم أمثالكم) أي طوائف متخالفة وجماعات كل أمة منها مثلكم خلقهم الله كما خلقكم ورزقهم كما رزقكم، داخلة تحت علمه وتقديره وإحاطته بكل شيء وقيل أمثالكم في ذكر الله والدلالة عليه، وقيل أمثالكم في كونهم محشورين، روي ذلك عن أبي هريرة.
وقال سفيان ابن عيينة: أي ما من صنف من الدواب والطير إلا في الناس شبه منه فمنهم من يعدو كالأسد، ومنهم من يشره كالخنزير، ومنهم من يعوي كالكلب، ومنهم من يزهو كالطاووس، وقيل أمثالكم في أن لها أسماء تعرف بها قاله مجاهد، وقال الزجاج: أمثالكم في الخلق والرزق والموت والبعث والاقتصاص والأولى أن تحمل المماثلة على كل ما يمكن وجود شبه فيه كائناً ما كان.
وعن قتادة قال: الطير أمة والأنس أمة والجن أمة، وعن السدي قال: خلق أمثالكم وعن ابن جريج قال الذرة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من
(4/135)
الدواب، ويدل على أن كل جنس من الدواب أمة ما روى عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم "، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي (1).
(ما فرطنا) أي ما أغفلنا ولا أهملنا ولا ضيعنا (في الكتاب من) مزيدة لاستغراق (شيء) والجملة اعتراضية مقررة لمضمون ما قبلها، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ فإن الله أثبت فيه جميع الحوادث، وعلى هذا فالعموم ظاهر، وقيل المراد به القرآن أي ما تركنا في القرآن من شيء من أمر الدين إما تفصيلاً أو إجمالاً، ومثله قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) وقال: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم).
ومن جملة ما أجمله في الكتاب العزيز قوله: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فأمر في هذه الآية باتباع ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل حكم سنه الرسول لأمته قد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز بهذه الآية وبنحو قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) وبقوله: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
(ثم إلى ربهم يحشرون) يعني الأمم المذكورة من الدواب والطير، وضميرها بصيغة جمع العقلاء لإجرائها مجراهم في وجوه المماثلة السابقة، وفيه دلالة على أنها تحشر كما يحشر بنو آدم وقد ذهب إلى هذا جمع من العلماء ومنهم أبو ذر وأبو هريرة والحسن وغيرهم، وذهب ابن عباس إلى أن حشرها موتها وبه قال الضحاك والأول أرجح للآية ولما صح في السنة المطهرة من أنه يقاد
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 5197.
(4/136)
يوم القيامة للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ولقول الله تعالى: (وإذا الوحوش حشرت).
وذهبت طائفة من العلماء إلى أن المراد بالحشر المذكور في الآية حشر الكفار، وما تخلل كلام معترض قالوا وأما الحديث فالمقصود به التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص، واستدلوا أيضاً بأن في هذا الحديث خارج الصحيح عن بعض الرواة زيادة ولفظه " حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء وللحجر لما ركب على الحجر وللعود لما خدش العود " قالوا والجمادات لا يعقل خطابها ولا ثوابها ولا عقابها.
وعن أبي هريرة قال: ما من دابة ولا طائر إلا سيحشر إلى يوم القيامة ثم يقتص لبعضها من بعض حتى يقتص للجلحاء منِ ذات القرن ثم يقال لها كوني تراباً فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً وإن شئتم فاقرأوا (ما من دابة في الأرض) الآية وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء " (1).
_________
(1) الطبري 11/ 347، والحاكم 2/ 316 وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وأورده ابن كثير في " تفسيره " 2/ 131 ثم قال: وقد روي هذا مرفوعاً في حديث الصور، وخرجه السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 11 وزاد نسبته لأبي عبيد وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وروى مسلم في " صحيحه " 4/ 1997 عن أبي هريرة مرفوعاً " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة
الجلحاء من الشاة القرناء " والجلحاء: الشاة إذا لم تكن ذات قرن، والقرناء: الشاة الكبيرة القرن.
(4/137)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
(4/138)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
(والذين كذبوا بآياتنا) أي القرآن (صم وبكم) أي لا يسمعون بأسماعهم ولا ينطقون بألسنتهم، نزلهم بمنزلة من لا يسمع ولا ينطق لعدم قبولهم لما ينبغي قبوله من الحجج الواضحة والدلائل الصحيحة، وقال أبو علي: يجوز أن يكون صممهم وبكمهم في الآخرة.
(في الظلمات) أي في ظلمات الكفر والجهل والحيرة والعناد والتقليد لا يهتدون لشيء مما فيه صلاحهم، والمعنى كائنين في الظلمات التي تمنع من إبصار المبصرات فضموا إلى الصمم والبكم عدم الانتفاع بالأبصار لتراكم الظلمة عليهم فكانت حواسهم كالمسلوبة التي لا ينتفع بها بحال، وقد تقدم في البقرة تحقيق المقام بما يغني عن الإعادة.
ثم بين الله سبحانه أن الأمر بيده ما شاء فعل فقال: (من يشاءِ الله يضلله) أي أضله عن الإيمان (ومن يشاء) أن يهديه (يجعله على صراط مستقيم) أي على دين الإسلام لا يذهب به إلى غير الحق ولا يمشي فيه إلا إلى صوب الاستقامة، وفيه دليل على أن الهادي والمضل هو الله تعالى، وهذا عدل منه لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون.
(4/138)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
(قل أرءيتكم) التاء هي الفاعل والكاف والميم عند البصريين للخطاب ولا حظَّ لهما في الإعراب وهو اختيار الزجاج وقال الكسائي: إن الفاعل هو التاء وإن أداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول، وقال الفراء في موضع الفاعل والجملة استفهامية، والمعنى عند الكسائي أرأيتم أنفسكم، ورجح
(4/138)
صاحب الكشاف المذهب الأول، والمعنى أخبروني عن حالتكم العجيبة.
واستعمال أرأيت في الأخبار مجاز، ووجه المجاز أنه لما كان العلم بالشيء سبباً للإخبار عنه أو الإبصار به طريقاً إلى الإحاطة به علماً وإلى صحة الإخبار عنه استعملت الصيغة التي لطلب العلم أو لطلب الإبصار في طلب الخبر لاشتراكهما في الطلب ففيه مجازان. استعمال رأى التي بمعنى علم أو أبصر في الإخبار، واستعمال الهمزة التي هي لطلب الرؤية في طلب الإخبار، قاله الشهاب.
وقد أطال السمين في بيان تركيب هذه الكلمة ومذاهب النحاة فيها إطالة كثيرة لا فائدة من ذكره ههنا.
(إن أتاكم) كما أتى غيركم من الأمم (عذاب الله) من الغرق والخسف والمسخ والصواعق ونحو ذلك من العذاب قبل الموت (أو أتتكم الساعة) أي القيامة وقد ذكر سليمان الجمل في جواب هذا الشرط خمسة أوجه منها أنه محذوف تقديره فمن تدعون أو فأخبروني عنه أو فادعوه أو دعوتم الله، ودل عليه قوله: (أغير الله تدعون) هذا على طريقة التبكيت والتوبيخ أي أتدعون غير الله في هذه الحالة من الأصنام التي تعبدونها أم تدعون الله سبحانه لكشف ما حل بكم، قاله أبو حيان (إن كنتم صادقين) في دعواكم أن الأصنام تضر وتنفع وأنها آلهة كما تزعمون، وهذا تأكيد لذلك التوبيخ.
(4/139)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
(4/140)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
(بل إياه تدعون) أي لا تدعون غيره بل إياه تخصون بالدعاء في كشف ما نزل بكم (فيكشف) عنكم (ما تدعون إليه) أي إلى كشفه من الضر ونحوه (إن شاء) أن يكشفه عنكم لا إذا لم يشأ ذلك (وتنسون) عند أن يأتيكم العذاب (ما تشركون) به تعالى أي ما تجعلونه شريكاً له من الأصنام ونحوها فلا تدعونها ولا ترجون كشف ما بكم منها بل تعرضون عنها إعراض الناسي، قاله الحسن وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى وتتركون ما تشركون.
(4/140)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
(ولقد أرسلنا) كلام مبتدأ مسوق لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم (إلى أمم) كائنة (من قبلك) رسلاً فكذبوهم.
(فأخذناهم) أي عاقبناهم (بالبأساء والضراء) أي البؤس والضرر قال سعيد بن جبير: خوف السلطان وغلاء السعر، وقيل شدة الجوع، وقيل المكروه، وقيل الفقر الشديد، وأصله من البؤس وهو الشدة وقيل البأساء المصائب في الأموال، والضراء المصائب في الأبدان من الأمراض والأوجاع والزمانة، وبه قال الأكثر وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما على أفعل كما هو القياس، فإنه لم يقل أضرر ولا أبأس صفة بل للتفضيل قاله الشهاب (لعلهم يتضرعون) أي يدعون الله بضراعة وهي الذل يقال ضرع فهو ضارع، وهذا الترجي بحسب عقول البشر.
(4/140)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
(فلولا) أي فهلا (إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) لكنهم لم يتضرعوا مع قيام المقتضى له وهو الباساء والضراء، وهذا عتاب لهم على ترك الدعاء في كل الأحوال حتى عند نزول العذاب بهم لشدة تمردهم وغلوهم في الكفر، ويجوز أن يكون المعنى أنهم تضرعوا عند أن نزل بهم العذاب وذلك تضرع ضروري لم يصدر عن إخلاص فهو غير نافع لصاحبه، والأول أولى كما يدل عليه.
(ولكن قست) أي صلبت وغلظت فلم تضرع ولم تخشع (قلوبهم) واستمرت على ما هي عليه من القساوة ولم تلن للإيمان، وهذا استدراك وقع بين الضدين قال أبو السعود: فهذا من أحسن مواقع الاستدراك.
(وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) أي أغواهم بالتصميم على الكفر والاستمرار على المعاصي، والجملة استئنافية أخبر تعالى عنهم بذلك أو داخلة في حيز الاستدراك وهو الظاهر، وهذا رأي الزمخشري فإنه قال: لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا قسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم.
(4/141)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
(فلما نسوا ما ذكروا به) أي تركوا ما وعظوا به وأعرضوا عنه لأن النسيان لو كان على حقيقته لم يؤاخذوا به إذ ليس هو من فعلهم، وبه قال ابن عباس وأبو علي الفارسي، قال ابن جريج: ما دعاهم الله إليه ورسله أبوه وردوه عليهم، والمعنى أنهم لما تركوا الاتعاظ بما ذكروا به من البأساء والضراء وأعرضوا عن ذلك (فتحنا) بالتخفيف والتشديد سبعيتان (عليهم أبواب كل شيء) أي استدرجناهم بفتح أبواب كل نوع من أنواع الخير عليهم، وبدلنا مكان البأساء الرخاء والسعة في الرزق والعيش، ومكان الضراء الصحة والسلامة في الأبدان والأجسام، قال مجاهد: يعني رخاء الدنيا وشرها، ونحوه عن قتادة.
(حتى إذا فرحوا بما أوتوا) من الخير والرزق على أنواعه والسعة والرخاء
(4/141)
والمعيشة والصحة وأعجبوا بذلك وظنوا أنهم إنما أعطوه لكون كفرهم الذي هم عليه حقاً وصواباً. وهذا فرح بطر وأشر كما فرح قارون لما أوتي من الدنيا (أخذناهم بغتة) وهم غير مترقبين لذلك والبغتة الأخذ على غرة من غير تقدمة أمارة وهي مصدر في موضع الحال لا يقاس عليه غيره عند سيبويه.
قال محمد بن النصر الحارثي: أمهلوا عشرين سنة ولا يخفى أن هذا مخالف لمعنى البغتة لغة ومحتاج إلى نقل عن الشارع، وإلا فهو كلام لا طائل تحته، قال الحسن مكر بالقوم ورب الكعبة، وقال أهل المعاني: إنما أخذوا في حال الرخاء والسلامة ليكون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من حال العافية والتصرف في ضروب اللذة فأخذناهم في آمن ما كانوا، وأعجب ما كانت الدنيا إليهم.
(فإذا) هي الفجائية قال سيبويه إنها ظرف مكان، وقال جماعة منهم الراسي إنها ظرف زمان ومذهب الكوفيين أنها حرف (هم مبلسون) أي مهلكون في مكان إقامتهم أو في زمانها قاله السدي، والمبلس الحزين الآيس من الخير لشدة ما نزل به من سوء الحال ومن ذلك اشتق اسم إبليس يقال أبلس الرجل إذا سكت وأبلست الناقة إذا لم ترع.
والمعنى فإذا هم محزونون متحيرون آيسون من الفرح، قال ابن زيد: المبلس المجهود الكروب الذي قد نزل به الشر الذي لا يدفعه، والمبلس أشد من المستكين وقال الفراء: هو اليائس المنقطع رجاؤه، وقال أبو عبيدة: هو النادم الحزين، والإبلاس هو الإطراق من الحزن والندم.
وعن عقب: بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج " (1) ثم تلا يعني هذه الآية ذكره البغوي بلا سند، وأسنده الطبري وغيره.
_________
(1) أحمد بن حنبل 4/ 145.
(4/142)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
(4/143)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
(فقطع) بالبناء للمفعول وللفاعل وهو الله سبحانه وفيه التفات إلى غيبة (دابر القوم الذين ظلموا) الدابر الآخر يقال دبر القوم يدبرهم دابراً إذا كان آخرهم في المجيء قاله أبو عبيد، ومنه التدبير لأنه إحكام عواقب الأمور، والمعنى أنه قطع آخرهم أي استؤصلوا جميعاً حتى آخرهم فلم يبق منهم باقية قال قطرب يعني أنهم استؤصلوا وأهلكوا، وقيل الدابر الأصل يقال قطع الله دابره أي أصله، قاله الأصمعي.
(والحمد لله رب العالمين) على نصر الرسل وإهلاك الكافرين قال الزجاج: حمد نفسه على أن قطع دابرهم واستأصل شأفتهم، وفيه تعليم للمؤمنين كيف يحمدونه عند نزول المنعم التي من أجلها إهلاك الظلمة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون فإنهم أشد على عباد الله من كل شديد، اللهم أرح عبادك المؤمنين من ظلم الظالمين واقطع دابرهم وأبدلهم بالعدل الشامل لهم آمين.
(4/143)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
(قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم) هذا تكرير للتوبيخ لقصد تأكيد الحجة عليهم، ووحد السمع لأنه مصدر يدل على الجمع بخلاف البصر فلهذا جمعه، والختم الطبع، وقد تقدم تحقيقه في البقرة والمراد أخذ المعاني القائمة بهذه الجوارح أو أخذ الجوارح أنفسها.
(من إله غير الله يأتيكم به) الاستفهام للتوبيخ ووحد الضمير في (به)
(4/143)
مع أن المرجع متعدد على معنى فمن يأتيكم بذلك المأخوذ، وقيل الضمير راجع إلى أخذ هذه المذكورة وقيل إن الضمير بمنزلة اسم الإشارة أي من يأتيكم بذلك المذكور.
(انظر كيف نصرف الآيات) أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنظر في تصريف الآيات الباهرات وعدم قبولهم لها تعجيباً له من ذلك، ويدخل معه غيره، والتصريف المجيء بها على جهات مختلفة من أسلوب إلى أسلوب، تارة إنذار، وتارة إعذار، وتارة ترغيب، وتارة ترهيب (ثم هم يصدفون) أي يعرضون قاله مجاهد، يقال صدف عن الشيء إذا أعرض عنه صدفاً وصدوفاً. وقال ابن عباس: يعدلون عنها مكذبين لها، وهو محط التعجيب والعمدة فيه.
(4/144)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
(قل أرأيتكم) أي أخبروني (إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة) تنازع أرأيت وأتاكم في عذاب الله فاعملنا الثاني وأضمرنا في الأول والمفعول الثاني جملة الاستفهام، وقد تقدم تفسير البغتة قريباً أنها الفجاءة قال الكسائي: بغتهم يبغتهم بغتاً وبغتة إذا أتاهم فجأة أي من دون تقديم مقدمات تدل على العذاب، والجهرة أن يأتي العذاب بعد ظهور مقدمات تدل عليه، هذا ما جرى عليه القاضي، وقيل البغتة إتيان العذاب ليلاً، والجهرة إتيان العذاب نهاراً كما في قوله تعالى (بياتاً أو نهاراً) وبه قال الحسن والأول أولى.
(هل يهلك إلا القوم الظالمون) الاستفهام للنفي أي ما يهلك هلاك تعذيب وغضب وسخط إلا المشركون، وقال الزجاج: معناه هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم والاستثناء مفرغ.
(4/144)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
(4/145)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
(وما نرسل المرسلين) كلام مبتدأ لبيان الغرض من إرسال الرسل (إلا مبشرين) لمن أطاعهم بما أعد الله له من الجزاء العظيم (ومنذرين) لمن عصاهم بما له عند الله من العذاب الوبيل، وقيل مبشرين في الدنيا بسعة الرزق، وفي الآخرة بالثواب، ومنذرين مخوفين بالعقاب، وهما حالان مقدرتان أي ما نرسلهم إلا مقدرين تبشيرهم وإنذارهم.
(فمن آمن) بما جاءت به الرسل (وأصلح) حال نفسه بفعل ما يدعونه إليه (فلا خوف عليهم) بوجه من الوجوه بلحوق العذاب (ولا هم يحزنون) بحال من الأحوال بفوات الثواب، وهذا حال من آمن وأصلح وأما حال المكذبين فبينه بقوله:
(4/145)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
(والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب) أي يصيبهم (بما كانوا يفسقون) أي بسبب فسقهم وخروجهم عن التصديق والطاعة، وقال ابن زيد: كل فسق في القرآن فمعناه الكذب.
(4/145)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
(قل لا أقول لكم عندي خزائن الله) أمره الله سبحانه بأن يخبرهم لما كثر اقتراحهم عليه وتعنتهم بإنزال الآيات التي تضطرهم إلى الإيمان أنه لم يكن عنده خزائن الله حتى يأتيهم بما اقترحوه من الآيات، والمراد خزائن قدرته التي تشتمل على كل شيء من الأشياء، والخزائن جمع خزانة وهي اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء أحرزه بحيث لا تناله الأيدي.
(و) أمره أن يقول لهم أيضاً (لا) أدعي أني (أعلم الغيب) من
(4/145)
أفعاله حتى أخبركم به وأعرفكم بما سيكون في مستقبل الدهر (ولا أقول لكم إني ملك) من الملائكة حتى تكلفوني من الأفعال الخارقة للعادة ما لا يطيقه البشر كالرقي في السماء أو حتى تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحاً في أمري.
والمعنى أني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة حتى تقترحوا عليّ ما هو من آثارها وأحكامها وتجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك دليلاً على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة التي لا تعلق لها بشيء مما ذكر قطعاً، بل إنما هي عبارة عن تلقي الوحي من جهة الله تعالى والعمل بمقتضاه فحسب كما سيأتي.
وليس في هذا ما يدل على أن الملائكة أفضل من الأنبياء، وقد اشتغل بهذه المفاضلة قوم من أهل العلم ولا يترتب على ذلك فائدة دينية ولا دنيوية، بل الكلام في مثل هذا من الاشتغال بما لا يعني ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
(إن أتبع إلا ما يوحى إليّ) وقد تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الأنبياء عملاً بما يفيده القصر في هذه الآية والمسألة مدونة في الأصول والأدلة عليها معروفة، وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " أوتيت القرآن ومثله معه " (1).
(قل هل يستوي الأعمى والبصير) هذا الاستفهام للإنكار والمراد أنه لا يستوي الضال والمهتدي أو المسلم والكافر أو العالم والجاهل أو من اتبع ما أوحي إليه ومن لم يتبعه، والكلام تمثيل، قال قتادة الأعمى الكافر الذي عمي عن حق الله وأمره ونعمه عليه، والبصير العبد المؤمن الذي أبصر بصراً نافعاً فوحد الله وحده وعمل بطاعة ربه وانتفع بما آتاه الله.
(أفلا تتفكرون) في ذلك الكلام الحق حتى تعرفوا عدم الاستواء بينهما فإنه لا يلتبس على من له أدنى عقل وأقل تفكر.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 2640.
(4/146)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
(4/147)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
(وأنذر) الإنذار الإعلام مع تخويف. والضمير في (به) راجع إلى ما يوحى وقيل إلى الله وقيل إلى اليوم الآخر، وخص (الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم) لأن الإنذار يؤثر فيهم لما حل بهم من الخوف بخلاف من لا يخاف الحشر من طوائف الكفر لجحوده به وإنكاره له، فإنه لا يؤثر فيه ذلك.
وقيل ومعنى يخافون يعلمون ويتيقنون أنهم محشورون فيشمل كل من آمن بالبعث من المسلمين وأهل الذمة وبعض المشركين. وقيل معنى الخوف على حقيقته والمعنى أنه ينذر به من يظهر عليه الخوف من الحشر عند أن يسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكره وإن لم يكن مصدقاً به في الأصل لكنه يخاف أن يصح ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن من كان كذلك يكون الموعظة فيه أنجع والتذكير له أنفع.
(ليس لهم من دونه ولي) أي حال كونهم لا ولي لهم يواليهم ولا نصير يناصرهم (ولا شفيع) يشفع لهم من دون الله وفيه رد على من زعم من الكفار المعترفين بالحشر أن آباءهم يشفعون لهم وهم أهل الكتاب أو أن أصنامهم تشفع لهم وهم المشركون أو أن المشايخ يشفعون لمريديهم وهم المتصوفة لأن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله لقوله عز وجل: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) عن ابن مسعود قال مر الملأ من قريش على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك، أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا أنحن نكون
(4/147)
تبعاً لهؤلاء، اطردهم عنا فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فأنزل الله فيهم (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى قوله من الظالمين) وقد أخرج هذا السبب مطولاً ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة (لعلهم يتقون) ما نهيتهم عنه فيدخلون في زمرة أهل التقوى.
(4/148)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) الدعاء العبادة مطلقاً وقيل المحافظة على صلاة الجماعة، وقال ابن عباس: الصلاة المكتوبة، وقال مجاهد: هي الصبح والعصر، وقال سفيان: أي أهل الفقه، وقيل الذكر وقراءة القرآن وقيل المراد بالدعاء لله بجلب النفع ودفع الضرر، وقيل المراد بذكر الغداة والعشي الدوام على ذلك والاستمرار وقيل الصلوات الخمس وقيل هو على ظاهره أي لا تبعدهم عن مجلسك لأجل ضعفهم وفقرهم.
(يريدون وجهه) أي يتوجهون بذلك إليه لا إلى غيره والوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته وتقييده به لتأكيد عليته للنهي، فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد.
(ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء) هذا كلام معترض بين النهي وجوابه متضمن لنفي الحامل على الطرد أي حساب هؤلاء الذين أردت أن تطردهم موافقة لمن طلب ذلك منك هو على أنفسهم ما عليك منه شيء وحسابك على نفسك ما عليهم منه شيء فعلام تطردهم.
هذا على فرض صحة وصف من وصفهم بقوله: (ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) وطعن عندك في دينهم وحسبهم، فكيف وقد زكاهم الله عز وجل بالعبادة والاخلاص وهذا هو مثل قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) وقوله: (وأن ليس للإنسان إلا مع سعى) وقوله (إن حسابهم إلا على ربي).
(فتطردهم) هو من تمام الاعتراض أي إذا كان الأمر كذلك فاقبل
(4/148)
عليهم وجالسهم ولا تطردهم مراعاة لحق من ليس على مثل حالهم في الدين والفضل (فتكون) جواب للنهي أي فإن فعلت ذلك كنت (من الظالمين) وحاشاه عن وقوع ذلك وإنما هو من باب التعريض لئلا يفعل ذلك غيره - صلى الله عليه وسلم - من أهل الإسلام كقوله تعالى: (لئن اشركت ليحبطن عملك).
أخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد نزلت هذه الآية في ستة أنا وعبد الله بن مسعود وبلال ورجل من هذيل ورجلين لست اسميهما فقال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - اطرد هؤلاء عنك لا يجترئون علينا، فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله هذه الآية، وقد روي في بيان السبب روايات موافقة لما ذكرنا في المعنى.
(4/149)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
(وكذلك) أي مثل تلك الفتن العظيمة (فتنا بعضهم ببعض) أي ببعض الناس وابتلينا الغني بالفقير، والفقير بالغني، والشريف بالوضيع، فكل أحد مبتلى بضده، والفتنة الاختبار أي عاملناهم معاملة المختبرين (ليقولوا) اللام للصيرورة كقوله لدوا للموت وابنوا للخراب، وقوله [ليكون لهم عدواً وحزناً] وقيل: إنها لام كي وهو أظهر، وعليه أكثر المعربين والتقدير ومثل ذلك الفتون فتناً ليقول البعض الأول مشيراً إلى البعض الثاني.
(أهؤلاء) الذين (من الله عليهم من بيننا) أي إكرمهم بإصابة الحق دوننا قال النحاس: وهذا من المشكل لأنه يقال كيف فتنوا ليقولوا هذا القول وهو إن كان على طريقة الإنكار فهو كفر، وأجاب بجوابين الأول أن ذلك واقع منهم على طريقة الاستفهام لا على سبيل الإنكار والثاني أنهم لما اختبروا بهذا كان عاقبة هذا القول منهم كقوله (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً) قال ابن عباس: قالوا ذلك استهزاء وسخرية وقال ابن جرير: لو كان لهم كرامة على الله ما أصابهم هذا الجهد.
(أليس الله بأعلم) هذا الاستفهام للتقرير والمعنى أن مرجع الاستحقاق لنعم الله سبحانه هو الشكر وهو أعلم (بالشاكرين) له فما بالكم تعترضون بالجهل وتنكرون الفضل.
(4/149)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
(4/150)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
(وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا) هم الذين نهاه الله عن طردهم وهم المستضعفون من المؤمنين (فقل سلام عليكم) أمره الله بأن يقول لهم هذا القول تطييباً لخاطرهم وإكراماً لهم، والسلام والسلامة بمعنى واحد فالمعنى سلمكم الله وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لأنه دعاء والدعاء من المسوغات، قاله السمين.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقيل إن هذا السلام هو من جهة الله أي: أبلغهم منا السلام، عن ماهان قال: أتى قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا إنا أصبنا ذنوباً عظاماً فما رد عليهم شيئاً فانصرفوا فأنزل الله هذه الآية فدعاهم فقرأها عليهم (1). وقيل: إن الآية على إطلاقها في كل مؤمن لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(كتب ربكم على نفسه الرحمة) أي أوجب ذلك إيجاب فضل وإحسان وقيل كتب ذلك في اللوح المحفوظ قيل هذا من جملة ما أمره الله سبحانه بإبلاغه إلى أولئك الذين أمره بإبلاغ السلام إليهم تبشيراً بسعة مغفرة الله
_________
(1) رواه الطبري في تفسيره 11/ 390/391 من طريق مجمع بن صمعان قال سمعت ماهان.
وذكره السيوطي في الدر المنثور وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد.
وماهان عابد ثقة قتله الحجاج سنة 83 هجرية.
(4/150)
وعظم رحمته لأنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
(أنه) أي الشأن (من عمل منكم سوءاً بجهالة) قيل المعنى أنه فعل فعل الجاهلين لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة مع علمه بذلك أو ظنه فقد فعل فِعْلَ أهل الجهل والسفه لا فعل أهل الحكمة والتدبير، وقيل المعنى أنه عمل ذلك وهو جاهل لما يتعلق به من المضرة والعقاب وما فاته من الثواب فتكون فائدة التقييد بالجهالة الإيذان بأن المؤمن لا يباشر ما يعلم أنه يؤدي إلى الضرر، قال مجاهد: كل من عمل ذنباً أو خطيئة فهو بها جاهل.
(ثم تاب من بعده) أي من بعد عمله وارتكابه ذلك السوء (وأصلح) ما أفسده بالمعصية في المستقبل فراجع بالصواب وأخلص التوبة وعمل الطاعة (فإنه) أي فأمره أو فله أن الله (غفور رحيم) واختار الأول سيبويه والثاني أبو حاتم.
(4/151)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
(وكذلك) أي مثل ذلك التفصيل (نفصل الآيات) أي أدلة حججنا وبراهيننا في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل، والتفصيل بالتبيين وقيل: إن الله فصل لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين وبين لهم حكم كل طائفة (ولتستبين) الخطاب على الفوقية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي: لتستبين يا محمد (سبيل المجرمين) وأما على التحتية فالفعل مسند إلى سبيل، وإذا استبان سبيل المجرمين فقد استبان سبيل المؤمنين قال ابن زيد: هم الذين يأمرونك بطرد هؤلاء.
(4/151)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
(4/152)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
(قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون) أمره سبحانه أن يعود إلى مخاطبة الكفار ويخبرهم بأنه نهى عن عبادة ما يدعونه ويعبدونه (من دون الله قل لا اتبع أهواءكم) أمره سبحانه بأن يقول لهم لا أسلك المسلك الذي سلكتموه في دينكم من اتباع الأهواء والمشي على ما توجبه المقاصد الفاسدة التي يتسبب عنها الوقوع في الضلال، كرر الأمر مع قرب العهد اعتناء بالمأمور به وإيذاناً باختلاف القولين من حيث أن الأول حكاية لما هو من جهته تعالى وهو النهي، والثاني حكاية لما هو من جهته عليه السلام وهو الانتهاء عما ذكر من عبادة ما يعبدونه.
(قد ضللت إذاً) أي إن اتبعت أهواءكم فيما طلبتموه من عبادة معبوداتكم وطرد من أردتم طرده، قال الجوهري: الضلال والضلالة ضد الرشاد وقد ضللت أضل، قال الله تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي) قال فهذه يعني المفتوحة لغة نجد وهي الفصيحة وأهل العالية تقول ضللت بالكسر أضل انتهى.
(وما أنا من المهتدين) إن فعلت ذلك، وهذه الجملة الإسمية معطوفة على الجملة التي قبلها والمجيء بها إسمية عقب تلك الفعلية للدلالة على الدوام والثبات.
(4/152)
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
(قل إني على بينة) هي الحجة والبرهان أي: إني على برهان (من ربي) ويقين لا على هوى وشك، وقال أبو عمران الجوني: على ثقة وقيل على بيان
(4/152)
وبصيرة، وهذا تحقيق للحق الذي هو عليه إثر إبطال الباطل الذي هم عليه، أمره الله سبحانه بأن يبين لهم أن ما هو عليه من عبادة ربه هو عن حجة برهانية يقينية لا كما هم عليه من إتباع الشبه الداحضة والشكوك الفاسدة التي لا مستند لها إلا مجرد الأهوية الباطلة.
(وكذبتم به) أي بالرب أو بالعذاب أو بالقرآن أو بالبينة، وتذكير الضمير باعتبار المعنى، وهذه الجملة إما حالية بتقدير قد أي والحال أن قد كذبتم به أو جملة مستأنفة مبنية لما هم عليه من التكذيب بما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحجج الواضحة والبراهين البينة.
(ما عندي ما تستعجلون به) أخبرهم بأنه لم يكن عنده ما يتعجلون به من العذاب فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء نحو قولهم:
(أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً) وقولهم: (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) وقولهم: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) وقيل كانوا يستعجلون بالآيات التي اقترحوها وطلبوها وقيل كانوا يستعجلون بقيام الساعة ومنه قوله تعالى: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها).
(إن) أي ما (الحكم) في شيء (إلا لله) سبحانه وحده ليس معه حاكم، ومن ذلك ما تستعجلون به من العذاب أو الآيات المقترحة والمراد الحكم الفاصل بين الحق والباطل (يقص) هو من القصص أي يقص القصص (الحق) أو من قص أثره أي يتبع الحق فيما يحكم به، وقرئ يقضي بالضاد المعجمة والياء من القضاء أي يقضي القضاء الحق بين عباده (وهو خير الفاصلين) بين الحق والباطل بما يقضي به بين عباده ويفصله لهم في كتابه.
(4/153)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم:
(4/154)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
(قل لو أن عندي ما تستعجلون به) الاستعجال المطالبة بالشيء قبل وقته فلذلك كانت العجلة مذمومة، والإسراع تقديم الشيء في وقته فلذلك كانت السرعة محمودة والمعنى ما تطلبون تعجيله بأن يكون إنزاله بكم مقدور إليّ وفي وسعي.
(لقضي الأمر بيني وبينكم) أي لقضى الله الأمر بيننا بأن ينزله الله سبحانه بكم بسؤالي له وطلبي ذلك أو لو كان العذاب عندي وفي قبضتي لأنزلته بكم وعند ذلك يقضى الأمر بيني وبينكم (والله أعلم بالظالمين) وبالوقت الذي ينزل فيه عذابهم وبما يقتضيه مشيئته من تأخيره استدراجاً لهم وإعذاراً إليهم.
(4/154)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
(وعنده مفاتح الغيب) جمع مفتح بالفتح وهو المخزن أي عنده مخازن الغيب،، جعل للأمور الغيبية مخازن يخزن فيها على طريق الإستعارة أو جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح جعل للأمور الغيبية مفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن منها على طريق الإستعارة أيضاً، ويؤيد أنها جمع مفتح بالكسر قراءة ابن السميقع (وعنده مفاتيح الغيب) فإنها جمع مفتاح والمعنى أن عنده خاصة مخازن الغيب أو المفاتح التي يتوصل بها إلى المخازن.
(لا يعلمها إلا هو) جملة مؤكدة لمضمون الجملة الأولى وأنه لا علم لأحد من خلقه بشيء من الأمور الغيبية التي استأثر الله بعلمها، وهذا بيان لاختصاص المقدورات الغيبية به تعالى من حيث العلم إثر بيان اختصاص كلها
(4/154)
من حيث القدرة، ويندرج تحت هذه الآية علم ما يستعجله الكفار من العذاب كما يرشد إليه السياق إندراجاً أولياً.
وفي هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من المدعين ما ليس من شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم ولا يحيط به علمهم، ولقد ابتلى الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة والأنواع المخذولة ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: " من أتى كاهناً أو منجماً فقد كفر بما أنزل على محمد " (1).
قال ابن مسعود: أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب. وقال ابن عباس: إنها الأقدار والأرزاق وقال الضحاك: خزائن الأرض وعلم نزول العذاب، وقال عطاء: هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب، وقيل هو انقضاء الآجال وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم، وقيل هو علم ما لم يكن بعد أن يكون إذ يكون كيف يكون وما لا يكون إن لو كان كيف يكون، واللفظ أوسع من ذلك ويدخل فيه ما ذكروه دخولاً أولياً.
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ولا يدري أحد متى يجيء المطر " (2)، أخرجه البخاري وله ألفاظ وفي رواية ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله.
(ويعلم ما في البر والبحر) خصهما بالذكر لأنهما من أعظم مخلوقات الله أي يعلم ما فيهما من حيوان وجماد علماً مفصلاً لا يخفى عليه منه شيء أو
_________
(1) أبو داود كتاب الطب باب 21.
(2) صحيح الجامع الصغير 5760.
(4/155)
خصهما لكونهما أكثر ما يشاهده الناس ويتطلعون لعلم ما فيهما، وعلى هذا هو بيان لتعلق علمه بالمشاهدات إثر بيان تعلقه بالمغيبات، قال مجاهد: البر المفاوز والقفار، والبحر القرى والأمصار لا يحدث فيهما شيء إلا وهو يعلمه.
وقال الجمهور: هو البر والبحر المعروفان لأن جميع الأرض إما بر، وإما بحر وفي كل واحد منهما من عجائب وغرائب ما يدل على عظيم قدرته وسعة علمه.
(وما تسقط من ورقة) أي من ورق الشجر وما يبقى عليه وهو تخصيص بعد التعميم (إلا يعلمها) ويعلم زمان سقوطها ومكانه وقيل المراد بالورقة ما يكتب فيه الآجال والأرزاق، وحكى النقاش عن جعفر بن محمد أن الورقة يراد بها هنا السقط من أولاد بني آدم، قال ابن عطية: هذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن جعفر بن محمد ولا ينبغي أن يلتفت إليه.
(ولا حبة) كائنة (في ظلمات الأرض) أي في الأمكنة المظلمة وقيل في بطن الأرض قبل أن ينبت، وقيل هي الحبة في الصخرة التي في أسفل الأرضين (ولا رطب ولا يابس) بنوع دون نوع (إلا في كتاب مبين) هو اللوح المحفوظ فتكون هذه الجملة بدل اشتمال من (إلا يعلمها) وقيل هو عبارة عن علمه فتكون هذه الجملة بدل كل من تلك الجملة قاله الخطيب.
وقال الزمخشري: هو كالتكرير لقوله: (إلا يعلمها) لأن معناهما واحد، قال الشيخ ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد، وحسن كونه فاصلاً.
(4/156)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
(4/157)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
(وهو الذي يتوفاكم) ينيمكم (بالليل) فيقبض فيه نفوسكم التي بها تميزون، وليس ذلك موتاً حقيقة فهو مثل قوله: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) والتوفي استيفاء الشيء وتوفيت الشيء واستوفيته إذا أخذته أجمع، قيل إن في الجسد روحين، روح الحياة وهي لا تخرج إلا بالموت وروح التمييز وهي تخرج بالنوم فتفارق الجسد فتطوف بالعالم وترى المنامات ثم ترجع إلى الجسد عند تيقظه. وقيل غير ذلك، والأولى أن هذا الأمر لا يعرفه إلا الله سبحانه.
وقد أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " مع كل إنسان ملك إذا نام يأخذ نفسه، فإذا أذن الله في قبض روحه قبضها وإلا ردها إليه فذلك قوله تعالى يتوفاكم بالليل " (1).
(ويعلم ما جرحتم بالنهار) أي ما كسبتم بجوارحكم من الخير والشر، والتقييد بالظرفين جرى على الغالب إذ الغالب أن النوم في الليل والكسب في النهار (ثم يبعثكم فيه) أي في النهار يعني اليقظة برد أرواحكم، قال القاضي: أطلق البعث ترشيحاً للتوفي، وقيل يبعثكم من القبور فيه أي في شأن ذلك الذي قطعتم فيه أعماركم من النوم بالليل والكسب بالنهار.
وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير هو الذي يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم بالنهار ويعلم ما جرحتم فيه، وقيل ثم يبعثكم فيه أي في المنام، ومعنى
_________
(1) ابن كثير 2/ 138.
(4/157)
الآية أن إمهاله تعالى للكفار ليس للغفلة عن كفرهم فإنه عالم بذلك ولكن:
(ليقضى أجل مسمى) أي معين لكل فرد من أفراد العباد من حياة ورزق، وقال مجاهد هو الموت (ثم إليه مرجعكم) أي رجوعكم بعد الموت (ثم ينبئكم بما كنتم تعملون) فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
(4/158)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
(وهو القاهر فوق عباده) قيل المراد فوقية القدرة والرتبة كما يقال السلطان فوق الرعية أي العالي عليهم بقدرته لأن كل من قهر شيئاً وغلبه فهو مستعل عليه بالقهر، والمعنى أنه هو الغالب المتصرف في أمورهم لا غيره يفعل بهم ما يشاء إيجاداً وإعداماً وإحياء وإماتة وإثابة وتعذيباً إلى غير ذلك، وقيل هو صفة لله تعالى وهذا هو مذهب سلف الأمة وأئمتها يمرونها كما جاءت من غير تكييف ولا تأويل ولا تعطيل أي فوقية تليق بحاله وهو الحق، وقد تقدم بيانه في أول السورة.
(ويرسل عليكم حفظة) أي ملائكة جعلهم الله حافظين لكم، ومنه قوله تعالى: (وإن عليكم لحافظين) والمعنى أنه يرسل عليكم من يحفظكم من الآفات ويحفظ أعمالكم، قال السدي: هم المعقبات من الملائكة يحفظونه ويحفظون عمله، والحفظة جمع حافظ مثل كتبة جمع كاتب، وعليكم متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستعلاء وتقديمه على حفظة ليفيد العناية بشأنه وأنه أمر حقيق بذلك، وقيل هو متعلق بحفظة.
(حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) يحتمل أن تكون حتى للغاية ويحتمل أن تكون للابتداء، والمراد بمجيء الموت مجيء علامته، والرسل هم أعوان ملك الموت من الملائكة؛ قاله ابن عباس، ومعنى توفته استوفت روحه وقيل المراد ملك الموت وحده، وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له.
(وهم لا يفرطون) أي لا يقصرون ولا يضيعون وأصله من التقدم، وقال أبو عبيدة: لا يتوانون وقرئ لا يفرطون بالتخفيف أي لا يجاوزون الحد فيما أمروا به من الإكرام والإهانة.
(4/158)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
(4/159)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
(ثم ردوا) الضمير راجع إلى أحد لأنه في معنى الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، والسر في الإفراد أولاً والجمع ثانياً وقوع التوفي على الإنفراد، والرد على الاجتماع أي ردوا بعد الحشر.
(إلى الله) أي إلى حكمه وجزائه وبه قال جمهور المفسرين، ويحتمل أن يكون هذا الرد إلى الله بعد الموت فقد ورد في السنة المطهرة ما يفيد أن الملائكة يصعدون بأرواح الموتى من سماء إلى سماء حتى تنتهي بها إلى السماء السابعة، وفي رواية إلى السماء التي فيها الله، ثم ترد إلى عليين أو سجين.
وفي الآية دليل على علوه تعالى من خلقه والله أعلم، وقيل ردوا أي الخلق أو الملائكة قال الكلبي: يقبض ملك الموت الروح من الجسد ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة أو العذاب ويصعدون بها إلى السماء حكاه القرطبي.
(مولاهم) مالكهم الذي يلي أمورهم أو خالقهم ومعبودهم (الحق) صفة لاسم الله وقرئ الحق بالنصب على إضمار فعل أي أعني أو أمدح أو على المصدر، وإنما قال ذلك لأنهم كانوا في الدنيا تحت أيدي موال بالباطل، والله مولاهم وسيدهم بالحق.
(ألا له الحكم) أي لا حكم إلا له لا لغيره لا بحسب الظاهر ولا بحسب الحقيقة (وهو أسرع الحاسبين) لكونه لا يحتاج إلى ما يحتاجون إليه من الفكر والروية والتدبر.
(4/159)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
(قل) توبيخاً وتقريراً لهم بانحطاط شركائهم عن رتبة الإلهية (من ينجيكم من ظلمات البر والبحر) المراد بظلماتهما شدائدهما الهائلة التي تبطل الحواس وتدهش العقول ولذلك استعير لهما الظلمات المبطلة لحاسة البصر، قال النحاس: والعرب تقول يوم مظلم إذا كان شديداً فإذا عظمت ذلك قالت يوم ذو كوكب أي اشتدت ظلمته حتى صار كالليل في ظلمته وفي ظهور الكواكب فيه لأنها لا تظهر إلا في الظلمة وقيل حمله على الحقيقة أولى.
فظلمة البر هي ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب فيحصل من ذلك الخوف الشديد لعدم الاهتداء إلى طريق الصواب. وظلمة البحر ما اجتمع فيه من ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الرياح العاصفة والأمواج الهائلة فيحصل من ذلك أيضاً الخوف الشديد من الوقوع في الهلاك، فالمقصود أنه عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان فيها إلا إلى الله تعالى لأنه هو القادر على كشف الكروب وإزالة الشدائد وهو المراد من قوله:
(تدعونه تضرعاً وخفية) أي حال دعائكم له دعاء تضرع وخفية أو متضرعين ومخفين والمراد بالتضرع هنا دعاء الجهر قائلين (لئن أنجانا من هذه) الشدة التي نزلت بنا وهي الظلمات المذكورة (لنكونن من الشاكرين) له على ما أنعم به علينا من تخليصنا من هذه الشدائد، قال ابن عباس: أي من كرب البر والبحر، وإذا ضل الرجل الطريق دعا الله لئن أنجانا الآية.
(4/160)
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
(4/161)
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
(قل الله ينجيكم) قرئ مشدداً ومخففاً وقراءة التشديد تفيد التكثير وقيل معناهما واحد والضمير في (منها) راجع إلى الظلمات (ومن كل كرب) بإعادة الجار وهو واجب عند البصريين، والكرب الغم الشديد يأخذ النفس ومنه رجل مكروب.
(ثم أنتم) بعد أن أحسن الله إليكم بالخلاص من الشدائد وذهاب الكروب (تشركون) بعبادته تعالى شركاء لا ينفعونكم ولا يضرونكم ولا يقدرون على تخليصكم من كل ما ينزل بكم، فكيف وضعتم هذا الشرك، وضع ما وعدتم به عن أنفسكم من الشكر.
(4/161)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
(قل) أمره الله سبحانه أن يقول لهم (هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً) أي الذي قدر على إنجائكم من تلك الشدائد ودفع عنكم تلك الكروب قادر على أن يعيدكم في شدة ومحنة وكرب يبعث عذابه عليكم من كل جانب (من فوقكم) كالمطر والصواعق والقذف والحجارة والريح والطوفان (أو من تحت أرجلكم) كالخسف والرجفة والزلازل والغرق وقيل من فوقكم يعني أمراء الظلمة وأئمة السوء ومن تحت أرجلكم السفلة وعبيد السوء قاله ابن عباس، وعن الضحاك نحوه.
(أو يلبسكم شيعاً) من لبس الأمر إذا خلطه وقرئ بضم الياء أي يجعل ذلك لباساً لكم قيل والأصل أو يلبس عليكم أمركم فحذف أحد المفعولين مع حرف الجر كما في قوله تعالى: (وإذا كالوهم أو وزنوهم
(4/161)
يخسرون) والمعنى يجعلكم مختلطي الأهواء مختلفي النحل متفرقي الآراء وقيل يجعلكم فرقاً يقاتل بعضكم بعضاً.
والشيع جمع شيعة أي الفرق وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة وأشياع، وأصله من التشيع وفي القاموس شيعة الرجل بالكسر أتباعه وأنصاره والفرقة على حده وتقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا (1) وأهل بيته حتى صار اسماً لهم خاصة، والجمع أشياع وشيع كعقب انتهى قال مجاهد يعني أهواء متفرقة وهو ما كان فيهم من الفتن والاختلاف.
(ويذيق بعضكم بأس بعض) أي يصيب بعضكم بشدة بعض من قتل وأسر ونهب، وقال ابن زيد: هو الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف والأهواء وسفك بعضهم دماء بعض (انظر كيف نصرف الآيات) أي نبين لهم الحجج والدلالات من وجوه مختلفة (لعلهم يفقهون) الحقيقة فيعودون إلى الحق الذي بيناه لهم ببيانات مختلفة متنوعة.
أخرج البخاري وغيره عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعوذ بوجهك (أو من تحت أرجلكم) قال أعوذ بوجهك (أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض) قال هذا أهون أو أيسر " (2).
وأخرج أحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم في حديث طويل عن ثوبان وفيه: " وسألته أن لا يسلط عليهم عدواً
_________
(1) أي مع الغلو فيه.
(2) ابن كثير 2/ 139.
(4/162)
من غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها " (1).
وأخرج مسلم وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل ذات يوم من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلاً ثم انصرف إلينا فقال: " سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة (2) فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها " (3).
وأخرج أحمد والترمذي وحسّنه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أما إنها كائنة- ولم يأت تأويلها بعد " (4). والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية.
_________
(1) ابن كثير 2/ 140.
(2) أي بالقحط.
(3) ابن كثير 2/ 140.
(4) ابن كثير 2/ 140.
(4/163)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
(وكذب به) الضمير راجع إلى القرآن أو إلى الوعيد المتضمن في هذه الآيات المتقدمة أو إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وفيه بعد، لأنه خوطب بالكاف عقيبه وادعاء الالتفات فيه أبعد، أو إلى العذاب، قاله الزمخشري: (قومك) المكذبون هم قريش وقيل كل معاند أي كذبوا به (وهو الحق) أي في كونه كتاباً منزلاً من عند الله أو لأنه واقع لا محالة.
(قل لست عليكم بوكيل) أي بحفيظ على أعمالكم حتى أجازيكم عليها قيل وهذه الآية منسوخة بآية القتال وقيل ليست بمنسوخة إذ لم يكن أيمانهم في وسعه.
(4/163)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
(4/164)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
(لكل نبأ مستقر) أي لكل شيء وقت يقع فيه والنبأ الشيء الذي ينبأ عنه، وقيل المعنى لكل عمل جزاء، وقال ابن عباس: لكل نبأ حقيقة قال الزجاج: يجوز أن يكون وعيداً لهم بما ينزل بهم في الدنيا، وقال الحسن: هذا وعيد من الله للكفار لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث، قال السدي: فكان نبأ القوم استقر يوم بدر بما كان يعدهم من العذاب.
(وسوف تعلمون) ذلك في الدنيا بحصوله ونزوله بكم، وقد علموا يوم بدر بحصول ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوعدهم به أو في الآخرة أو فيهما معاً، وسوف للتأكيد كما في قوله تعالى: (ولتعلمن نبأه بعد حين).
(4/164)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
(وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح له، والخوض أصله في اللغة هو الشروع في الماء والعبور فيه ثم استعمل في غمرات الأشياء التي هي مجاهل شبهها بغمرات الماء فاستعير من المحسوس للمعقول، وقيل هو مأخوذ من الخلط وكل شيء خضته فقد خلطته، ومنه خاض الماء بالعسل خلطه والمعنى وإذا رأيت الذين يخوضون في القرآن بالتكذيب والرد والاستهزاء.
(فأعرض عنهم) أي فدعهم ولا تقعد معهم بسماع مثل هذا المنكر العظيم (حتى يخوضوا في حديث غيره) أي مغاير له، الضمير للآيات والتذكير باعتبار كونها قرآنا أو باعتبار كونها حديثاً فإن وصف الحديث بمغايرتها
(4/164)
يشير إلى اعتبارها بعنوان الحديثية، أمره الله سبحانه بالإعراض عن أهل المجالس التي يستهان فيها بآيات الله إلى غاية هي الخوض في غير ذلك.
وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وتقليداتهم الفاسدة وبدعهم الكاسدة، فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم وذلك يسير عليه غير عسير، وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزهه عما يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر.
وقد شاهدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر، وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا عليه وبلغت إليه طاقتنا، ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرمات، ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة، فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ما هو من البطلان بأوضح مكان، فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه فيعمل بذلك مدة عمره ويلقى الله به معتقداً أنه من الحق وهو من أبطل الباطل وأنكر المنكر.
قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والفرقة وأخبرهم إنما أهلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله، وعن أبي جعفر قال: لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله، وعن محمد بن علي قال: إن أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله.
وقال مقاتل: كان المشركون بمكة إذا سمعوا القرآن من أصحاب النبي
(4/165)
- صلى الله عليه وسلم - خاضوا واستهزؤوا فقال المسلمون: لا يصلح لنا مجالستهم، نخاف أن نخرج حين نسمع قولهم ونجالسهم فأنزل الله هذه الآية، وقال السدي: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف ولا يصح.
(وإما ينسينك الشيطان) فقعدت معهم (فلا تقعد بعد الذكرى) أي إذا ذكرت فقم عنهم ولا تقعد (مع القوم الظالمين) أي المشركين، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر نعياً عليهم أنهم بذلك الخوض واضعون للتكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم راسخون في ذلك.
قال مجاهد: نهى محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقعد معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر فليقم وذلك قول الله يعني هذه الآية، وعن ابن سيرين: أنه كان يرى أن هذه الآية نزلت في أهل الأهواء.
وقرئ بتشديد السين والمعنى إن أنساك الشيطان أن تقوم عنهم فلا تقعد إذا ذكرت مع الذين ظلموا أنفسهم بالاستهزاء بالآيات والتكذيب بها، قيل وهذا الخطاب وإن كان ظاهره للنبي - صلى الله عليه وسلم - فالمراد التعريض لأمته لتنزهه عن أن ينسيه الشيطان، وقيل لا وجه لهذا فالنسيان جائز عليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني، ونحو ذلك.
(4/166)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
(وما على الذين يتقون) مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله (من حسابهم) أي الكفار (من شيء) وقيل المعنى ما على الذين يتقون ما يقع منهم من الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شيء، وعلى هذا التفسير ففي الآية الترخيص للمتقين في مجالسة الكفار إذا اضطروا إلى ذلك.
قيل: وهذا الترخيص كان في أول الإسلام، وأن الوقت وقت تقية ثم نزل قوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) فنسخ ذلك، والحق أنها محكمة بإجماع أهل العلم خلافاً للكلبي كما تقدم في سورة النساء.
عن عمر بن عبد العزيز: أنه أُتِيَ بقوم قعدوا على شراب معهم رجل صائم فضربه وقال: لا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره وقيل مجالستهم مباحة بشرط الوعظ والنهي عن المنكر.
(ولكن ذكرى) قال الكسائي: المعنى ولكن هذه ذكرى، والمعنى على الاستدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم الذكرى للكافرين بالموعظة والبيان لهم بأن ذلك لا يجوز، أما على التفسير الأول فلأن مجرد اتقاء مجالس هؤلاء الذين يخوضون في آيات الله لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما على التفسير الثاني فالترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير، وفيه وجوه أخرى.
(لعلهم يتقون) الخوض في آيات الله إذا وقعت منكم الذكرى لهم، وأما جعل الضمير للمتقين فبعيد جداً.
(4/167)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
(وذر الذين اتخذوا دينهم) أي اترك هؤلاء الذين اتخذوا الدين الذي كان يحق عليهم العمل به والدخول فيه ودعوا إليه وهو دين الإسلام (لعباً ولهواً) حيث سخروا به واستهزؤوا فيه، فلا تعلق قلبك بهم فإنهم أهل تعنت وإن كنت مأموراً بإبلاغهم الحجة، وقيل هذه الآية منسوخة بآية القتال، وقيل المعنى أنهم اتخذوا دينهم الذي هم عليه لعباً ولهواً كما في فعلهم بالأنعام من تلك الجهالات والضلالات المتقدم ذكرها.
وقيل المراد بالدين هنا العيد أي اتخذوا عيدهم لعباً ولهواً قال قتادة أي أكلاً وشرباً وكذا من جعل طريقته الخمر والزمر والرقص ونحوه، وفي البيضاوي بنوا أمر دينهم على التشهي وتدينوا بما لا يعود عليهم بنفع عاجلاً وآجلاً كعبادة الصنم وتحريم البحائر والسوائب، والمعنى أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم، وقال مجاهد: هو مثل قوله: (ذرني ومن خلقت وحيداً) يعني أنه للتهديد، وعلى هذا تكون الآية محكمة.
(وغرتهم الحياة الدنيا) حتى آثروها على الآخرة وأنكروا البعث وقالوا [إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمعوثين] (وذكر به) أي بالقرآن أو بالحساب أي لـ (أن) لا (تبسل نفس) الإبسال تسليم المرء نفسه للهلاك ومنه أبسلت ولدي أي رهنته في الدم، لأن عاقبته ذلك الهلاك، وأصل الإبسال والبسل في اللغة التحريم والمنع، يقال هذا عليك بسل أي حرام ممنوع، ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه أو لأنه ممتنع، والباسل الشجاع لامتناعه
(4/168)
من قرنه، وهذا بسيل عليك أي ممنوع.
قال أبو عبيد: المتبسل الذي يسلم نفسه على الموت أو الضرب وإن استبسل أي أن يطرح نفسه في الحرب ويريد أن يقتل، فالمعنى وذكر به خشية أو مخافة أو كراهة أن تهلك نفس (بما كسبت) أي ترتهن وتسلم للهلكة وتحبس في جهنم وتحرم من الثواب بسبب ما كسبت من الآثام.
وعن ابن عباس: أن تبسل أن تفضح وأبسلوا فضحوا وقال قتادة: تحبس في جهنم وقال الضحاك: تحرق بالنار وقال ابن زيد: تؤخذ به.
(ليس لها) أي لتلك النفس التي هلكت (من دون الله) من لابتداء الغاية وقيل: إنها زائدة نقله ابن عطية وليس بشيء، والأول أظهر (ولي) قريب ناصر يلي أمرها (ولا شفيع) يشفع في الآخرة ويمنع عنها العذاب.
(وإن تعدل كل عدل) العدل هنا الفدية والمعنى وإن بذلت تلك النفس التي سلمت للهلاك كل فدية (لا يؤخذ منها) ذلك العدل حتى تنجو به من الهلاك (أولئك) أي المتخذون دينهم لعباً ولهواً وهو مبتدأ، وخبره (الذين أبسلوا) أي أسلموا للهلاك (بما كسبوا) أي بجرائرهم.
وجملة (لهم شراب من حميم) مستأنفة كأنه قيل كيف هؤلاء فقيل لهم شراب، الآية وهو الماء الحار البالغ نهاية الحرارة ومثله قوله تعالى: (يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم) وهو هنا شراب يشربونه فيقطع أمعاءهم (وعذاب أليم) مؤلم (بما كانوا يكفرون) أي بسبب كفرهم.
(4/169)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
(4/170)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
(قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا) أمره الله سبحانه بأن يقول لهم هذه المقالة، والاستفهام للتوبيخ أي كيف ندعو من دون الله أصناماً لا تنفعنا بوجه من الوجوه إن أردنا منها نفعاً، ولا نخشى ضرها بوجه من الوجوه، ومن كان هكذا فلا يستحق للعبادة.
(ونرد على أعقابنا) جمع عقب أي كيف ندعو من كان كذلك ونرجع إلى الضلالة التي أخرجنا الله منها، قال أبو عبيدة: يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها قد رد على عقبيه، وقال المبرد: تعقب بالشر بعد الخير، وأصله من المعاقبة والعقبى وهما ما كان تالياً للشيء واجباً أن يتبعه، ومنه (والعاقبة للمتقين) ومنه عقب الرجل ومنه العقوبة لأنها تالية للذنب.
(بعد إذ هدانا الله) إلى دين الإسلام والتوحيد (كالذي استهوته الشياطين في الأرض) هوى يهوى إلى الشيء أسرع إليه، قال الزجاج: هو من هوى النفس أي زين له الشيطان هواه واستهوته الشياطين هوت به أي نرد حال كوننا مشبهين للذي استهوته الشياطين، أي ذهبت به مردة الجن فألقته في هوية من الأرض بعد أن كان بين الإنس، وعلى هذا أصله من الهوى وهو النزول من أعلى إلى أسفل.
(حيران) أي حال كونه متحيراً تائهاً لا يدري كيف يصنع، والحيران
(4/170)
هو الذي لا يهتدي لجهة، وقد يقال حار يحار حيرة وحيرورة إذا تردد وبه سمي الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائراً.
(له أصحاب يدعونه إلى الهدى) صفة لحيران أو حال أي له رفقة يقولون له (ائتنا) فلا يجيبهم ولا يهتدي بهديهم وبقي حيران لا يدري أين يذهب.
(قل) أمره سبحانه بأن يقول لهم (إن هدى الله) أي دينه الذي ارتضاه لعباده (هو الهدى) وما عداه باطل (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه).
(وأمرنا لنسلم) هي لام العلة والمعلل هو الأمر أي أمرنا لأجل أن نسلم، قاله الزمخشري وقال الفراء: أمرنا بأن نسلم لأن العرب تقول أمرتك لتذهب وبأن تذهب بمعنى، وقال النحاس: سمعت ابن كيسان يقول هي لام الخفض وقيل زائدة.
(لرب العالمين) لأنه هو الذي يستحق العبادة لا غيره
(4/171)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
(و) أمرنا (أن أقيموا الصلاة) ويجوز أن يكون عطفاً على يدعونه أي يدعونه إلى الهدى ويدعونه أن أقيموا (واتقوه) لأن فيهما ما يقرب إليه.
(وهو الذي إليه تحشرون) يوم القيامة فكيف تخالفون أمره مستأنفة موجبة لامتثال ما أمر به من الأمور الثلاثة.
(4/171)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
(وهو الذي خلق السموات والأرض) خلقاً (بالحق) أو حال كون الخلق بالحق فكيف تعبدون الأصنام المخلوقة أو إظهاراً للحق، وعلى هذا الباء بمعنى اللام وقيل كل ذلك بالحق وقيل خلقهما بكلامه الحق، وهو قوله كن وقيل بالحكمة أو محقاً لا هازلاً ولا عبثاً.
(و) اذكروا أو اتقوا (يوم يقول) للسموات والأرض (كن) والمراد بالقول المذكور حقيقته أو المراد به التمثيل والتشبيه تقريباً للعقول، لأن سرعة قدرته تعالى أقل زمناً من زمن النطق بكن والأول أولى (فيكون) تام وفي فاعله أوجه.
(أحدها) أنه ضمير جميع ما يخلقه الله تعالى يوم القيامة.
(الثاني) أنه ضمير الصور المنفوخ فيه ودل عليه يوم ينفخ في الصور.
(الثالث) أنه ضمير اليوم أي فيكون ذلك اليوم العظيم.
(الرابع) أن الفاعل هو (قوله) و (الحق) صفته أي فيوجد قوله الحق ويكون الكلام على هذا قد تم على الحق.
والمعنى قوله للشيء إذا أراده كن فيكون حق وصدق، وقيل المعنى لا يكون شيء من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب، وقيل المعنى وأمره المتعلق بالأشياء الحق أي المشهود له بأنه حق وقيل المعنى قوله المتصف بالحق كائن يوم يقول، الآية وقرئ فنكون بالنون وهو إشارة إلى
(4/172)
سرعة الحساب وقرئ بالتحتية وهو الصواب.
(وله الملك يوم ينفخ في الصور) أي له الملك في هذا اليوم وقيل هو بدل من اليوم الأول أخبر عن ملكه يومئذ وإن كان الملك له خالصاً في كل وقت في الدنيا والآخرة لأنه لا منازع له يومئذ يدعى الملك، والصور قرن ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء والثانية للإنشاء، وهو لغة أهل اليمن، وكذا قال الجوهري: أن الصور القرن أي المستطيل وفيه جميع الأرواح وفيه ثقب بعددها فإذا نفخ خرجت كل روح من ثقبها ووصلت لجسدها فتحله الحياة.
قال مجاهد: الصور كهيئة البوق وقرئ الصور جمع صورة والمراد الخلق وبه قال الحسن ومقاتل قال أبو عبيدة: وهذا وإن كان محتملاً يرد بما في الكتاب والسنة قال الله تعالى: (ثم نفخ فيه أخرى).
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وعبد بن حميد وابن المبارك عن عبد الله ابن عمرو قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصور فقال: " قرن ينفخ فيه " (1)، وأجمع عليه أهل السنة، والأحاديث الواردة في كيفية النفخ ثابتة في كتب الحديث لا حاجة لنا إلى إيرادها ههنا.
(عالم الغيب والشهادة) صفة للذي خلق السموات والأرض أو هو يعلم ما غاب من عباده وما يشاهدونه فلا يغيب عن علمه شيء (وهو الحكيم) في جميع ما يصدر عنه (الخبير) بكل شيء.
_________
(1) رواه الإمام أحمد في " المسند " 10/ 10، 11، والترمذي: 3/ 295، وصححه، وأبو داود في " سننه " 4/ 326، ورواه الحاكم في " المستدرك " 2/ 436، 506 و 4/ 560، وصححه ووافقه الذهبي.
(4/173)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
(4/174)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
(وإذا قال إبراهيم لأبيه آزر) اختلف أهل العلم في لفظة آزر، قال الجوهري آزر اسم أعجمي وهو مشتق من آزر فلان فلاناً إذا عاونه فهو موازر قومه على عبادة الأصنام، وقال ابن فارس: أنه مشتق من القوة قال الجويني: في النكت من التفسير أنه ليس بين الناس اختلاف في أن اسم والد إبراهيم تارخ ضبطه بعضهم بالحاء المهملة وبعضهم بالخاء المعجمة، والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر، وقد تعقب في دعوى الاتفاق بما روي عن ابن اسحق والضحاك والكلبي أنه كان له اسمان آزر وتارخ وقال مقاتل: آزر لقب وتارخ اسم.
وقال البخاري في تاريخه الكبير: إبراهيم بن آزر وهو في التوراة تارخ والله سماه آزر، وإن كان عند النسابين والمؤرخين اسمه تارخ ليعرف بذلك وكان من كوثى وهي قرية من سواد الكوفة.
وقال سليمان التيمي: إن آزر سب وعتب ومعناه في كلامهم المعوج، وقال الضحاك: معنى آزر الشيخ الهرم بالفارسية، وهذا على مذهب من يجوز أن في القرآن ألفاظاً قليلة فارسية، وقال الفراء: هي صفة ذم بلغتهم كأنه قال يا مخطئ وروى مثله عن الزجاج وعن السدي قال اسم أبيه تارخ واسم الصنم آزر.
وقال ابن عباس: الآزر الصنم وأبو إبراهيم اسمه يازر، وأمه اسمها مثلى، وامرأته اسمها سارة وسريته أم إسمعيل اسمها هاجر، وقال سعيد بن
(4/174)
المسيب ومجاهد: إما للتعيير له لكونه معبوده أو على حذف مضاف أي قال لأبيه عابد آزر أو أتعبد آزر على حذف الفعل.
والصحيح أن آزر اسم لأبي إبراهيم لأن الله سماه به وعليه جرى جمهور المفسرين، وما نقل عن النسابين والمؤرخين أن اسمه تارخ ففيه نظر، لأنهم إنما نقلوه من أهل الكتاب ولا عبرة بنقلهم.
وقد أخرج البخاري في أفراده من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة " (1)، الحديث وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - آزر أيضاً ولا قول لأحد مع قول الله تعالى ورسوله كائناً من كان.
والمعنى أذكر إذ قال إبراهيم لآزر (أتتخذ أصناماً) جمع صنم وهو والتمثال والوثن بمعنى، وهو الذي يتخذ من خشب أو حجارة أو حديد أو ذهب أو فضة على صورة الإنسان أي أتجعلها (آلهة) لك تعبدها من دون الله الذي خلقك ورزقك (إني أراك) الرؤية إما علمية وإما بصرية، والجملة تعليل للإنكار والتوبيخ (وقومك) المتبعين لك في عبادة الأصنام (في ضلال) عن طريق الحق (مبين) واضح بين لأن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 8014.
(4/175)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
(وكذلك) أي مثل تلك الإراءة (نري إبراهيم) والجملة معترضة قيل كانت هذه الرؤية بعين البصر، وقيل بعين البصيرة ومعنى نرى أريناه حكاية حال ماضية أي أريناه ذلك، وقد كان آزر وقومه يعبدون الأصنام والكواكب والشمس والقمر، فأراد أن ينبههم على الخطأ وقيل: إنه ولد في سرب وجعل رزقه في أطراف أصابعه فكان يمصها، وسبب جعله في السرب أن النمرود رأى رؤيا أن ملكه يذهب على يد مولود فأمر بقتل كل مولود.
(ملكوت السموات والأرض) أي ملكهما وزيدت التاء والواو للمبالغة
(4/175)
في الصفة ومثله الرغبوت والرهبوت، مبالغة في الرغبة والرهبة قيل أراد بملكوتهما ما فيهما من الخلق، وقيل عجائبهما وبدائعهما وقيل آياتهما، وقيل كشف الله عن ذلك حتى رأى إلى العرش وإلى أسفل الأرضين، وقيل رأى من ملكوتهما ما قصه الله في هذه الآية.
قال ابن عباس: كشف ما بين السموات حتى نظر إليهن على صخرة والصخرة على حوت وهو الحوت الذي منه طعام الناس، والحوت في سلسلة والسلسة في خاتم العزة (1).
وقال مجاهد: سلطانهما، وقيل المراد بملكوتهما الربوبية والإلهية أي نريه ذلك ونوفقه لمعرفته بطريق الاستدلال التي سلكها، قال قتادة: ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار.
وهذه الأقوال لا تقتضي أن تكون الإراءة بصرية إذ ليس المراد بإراءة ما ذكر من الأمور الحسية مجرد تمكينه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها، بل إطلاعه على حقائقها وتعريفها من حيث دلالتها على شؤونه عز وجل، ولا ريب في أن ذلك ليس مما يدرك حساً كما ينبىء عنه اسم الإشارة المفصح عن كون المشار إليه أمراً بديعاً فإن الإراءة البصرية المعتادة بمعزل من تلك المثابة.
(وليكون من الموقنين) أي ليستدل به ويكون من أهل اليقين عياناً كما أيقن بياناً واليقين عبارة عن علم يحصل بسبب التأمل بعد زوال الشبهة، قال ابن عباس: جلالَهُ الأمر سراً وعلانية فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق، أو المعنى أريناه ذلك ليكون ممن يوقن علم كل شيء حساً وخبراً.
_________
(1) هذا لا يصح لأنه من عالم الغيب والغيب نقف فيه عند خبر المعصوم.
(4/176)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
(4/177)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
(فلما جن عليه) أي ستره (الليل) بظلمته ومنه الجنة والمجن والجن كله من الستر أي واذكر إذ جن الليل، يقال جن الليل وأجن إذا أظلم وغطى كل شيء وهذه قصة أخرى غير قصة عرض الملكوت عليه (رأى كوكباً) قيل رأى من شق الصخرة الموضوعة على رأس السرب الذي كان فيه، وقيل رآه لما أخرجه أبوه من السرب وكان وقت غيبوبة الشمس، وقيل رأى المشتري وقيل الزهرة.
(قال هذا ربي) جملة مستأنفة كأنه قيل فماذا قال عند رؤية الكوكب قيل وكان هذا منه عند قصور النظر لأنه في زمن الطفولية وقيل كان بعد بلوغ إبراهيم، وعليه جمهور المحققين.
ثم اختلف في تأويل هذه الآية فقيل أراد قيام الحجة على قومه كالحاكي لما هو عندهم وما يعتقدونه لأجل إلزامهم، وقيل معناه أهذا ربي؟ أنكر أن يكون مثل هذا رباً، ومثله قوله تعالى: (أفإن مت فهم الخالدون) أي أفهم الخالدون؟ وقيل المعنى وأنتم تقولون هذا ربي فأضمر القول وقيل المعنى على حذف مضاف أي هذا دليل ربي.
(فلما أفل) أي غرب وغاب، والأفول غيبة النيرات (قال) إبراهيم (لا أحب الآفلين) يعني لا أحب رباً يغيب ويطلع فإن الغروب تغير من حال إلى حال، وهو دليل الحدوث فلم ينجع فيهم ذلك.
(4/177)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
(فلما رأى القمر بازغاً) أي طالعاً منتشر الضوء يقال بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع، والبزغ الشق كأنه يشق بنوره الظلمة (قال) لهم أ (هذا ربي) بزعمكم وقد تقدم الكلام فيه.
(فلما أفل) أي غاب (قال لئن لم يهدني ربي) أي لئن لم يثبتني على الهداية ويوفقني للحجة، وليس المراد أنه لم يكن مهتدياً لأن الأنبياء لم يزالوا على الهداية من أول الفطرة، وفي الآية دليل على أن الهداية من الله تعالى لأن إبراهيم أضاف الهداية إليه سبحانه وتعالى (لأكونن من القوم الضالين) الذين لا يهتدون للحق فيظلمون أنفسهم ويحرمونها حظها من الخير.
(4/178)
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
(فلما رأى الشمس بازغة) الرؤية بصرية (قال هذا ربي) وإنما قال هذا مع كون الشمس مؤنثة لأن مراده هذا الطالع قاله الكسائي والأخفش، وقيل هذا الضوء وقيل الشخص وقيل لأن تأنيث الشمس غير حقيقي (هذا أكبر) أي مما تقدمه من الكوكب والقمر، وقيل أكبر جرماً وضوءاً ونفعاً فسعة جرم الشمس مائة وعشرون سنة كما قاله الغزالي.
(فلما أفلت) أي غابت الشمس وقويت عليهم الحجة ولم يرجعوا (قال يا قوم إني بريء مما تشركون) أي من الأشياء التي تجعلونها شركاء لله وتعبدونها من الأصنام والأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث، قال بهذا لما ظهر له أن هذه الأشياء مخلوقة لا تنفع ولا تضر مستدلاً على ذلك بأفولها الذي هو دليل حدوثها.
(4/178)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
(4/179)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
(إني وجهت وجهي) أي قصدت بعبادتي وتوحيدي الله عز وجل، وذكر الوجه لأنه العضو الذي يعرف به الشخص، أو لأنه يطلق على الشخص كله كما تقدم (للذي فطر السموات والأرض) أي خلقهما وابتدعهما (حنيفاً) أي مائلاً إلى الدين الحق (وما أنا من المشركين) به، تبرأ من الشرك الذي كان عليه قومه.
(4/179)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
(وحاجه قومه) أي وقعت منهم المحاججة له في توحيده بما يدل على ما يدعونه من أن ما يشركون به ويعبدونه من الأصنام آلهة فأجاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام بما حكاه الله عنه أنه (قال أتحاجوني في الله) أي في كونه لا شريك له ولا ند له ولا ضد (وقد هدانِ) إلى توحيده وأنتم تريدون أن أكون مثلكم في الضلالة والجهالة وعدم الهداية.
(ولا أخاف ما تشركون به) قال هذا لما خوفوه من آلهتهم بأنها ستغضب عليه وتصيبه بمكروه أي: إني لا أخاف ما هو مخلوق من مخلوقات الله لا يضر ولا ينفع، وإنما يكون الخوف ممن يقدر على النفع والضرر، والضمير في به يجوز رجوعه إلى الله وإلى معبوداتهم المدلول عليها بما في ما تشركون به.
(إلا أن يشاء ربي شيئاً) أي إلا وقت مشيئة ربي بأن يلحقني شيئاً من الضرر بذنب عملته فالأمر إليه وذلك منه لا من معبوداتكم الباطلة التي لا تضر ولا تنفع، والمعنى على نفي حصول ضرر من معبوداتهم على كل حال،
(4/179)
وإثبات الضرر والنفع لله سبحانه وصدورهما حسب مشيئته، والاستثناء على هذا متصل لأنه من جنس الأول والمستثنى منه الزمان كما أشار إلى ذلك في الكشاف، وقيل منقطع بمعنى لكن وعليه جرى ابن عطية والحوفي وهو أحد قولي أبي البقاء والكواشي، وإليه نحا السيوطي، قال الحوفي تقديره لكن مشيئة الله إياي بضر أخافها.
ثم علل ذلك بقوله (وسع ربى كل شيء علماً) يعني أن علمه محيط بكل شيء فلا يخرج شيء عن علمه قال أبو البقاء: لأن ما يسع الشيء فقد أحاط به، والعالم بالشيء محيط بعلمه فإذا شاء الخير كان حسب مشيئته، وإذا شاء إنزال شر بي كان حسب مشيئته ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ثم قال لهم مكملاً للحجة عليهم ودافعاً لما خوفوه به (أفلا تتذكرون) أي تعتبرون أن هذه الأصنام جمادات لا تضر ولا تنفع، وأن النافع الضار هو الذي خلق السموات والأرض ومن فيهما.
(4/180)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
(وكيف أخاف ما أشركتم) أي كيف أخاف ما لا يضر ولا ينفع ولا يخلق ولا يرزق ولا يبصر ولا يسمع ولا يقدر شيئاً استئناف مسوق لنفي الخوف عنه بالطريق الإلزامي بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الأمر بقوله سابقاً ولا أخاف ما تشركون به.
(ولا تخافون أنكم أشركتم بالله) أي والحال أنكم لا تخافون ما صدر منكم من الشرك بالله وهو الضار النافع الخالق الرازق، أورد عليهم هذا الكلام الإلزامي الذي لا يجدون عنه مخلصاً ولا متحولاً، والاستفهام للإنكار عليهم والتقريع لهم.
(ما لم ينزل به عليكم سلطاناً) أي ما ليس لكم فيه حجة وبرهان يعني لا تخافون أنكم جعلتم الأشياء التي لم ينزل بها عليكم سلطاناً شركاء لله، والمعنى أن الله سبحانه لم يأذن بجعلها شركاء له ولا نزل عليهم بإشراكها حجة يحتجون بها، فكيف عبدوها واتخذوها آلهة وجعلوها شركاء الله سبحانه.
(فأي الفريقين أحق بالأمن) المراد فريق المؤمنين وفريق المشركين أي إذا كان الأمر على ما تقدم من أن معبودي هو الله المتصف بتلك الصفات، ومعبودكم هي تلك المخلوقات والجمادات، فكيف تخوفوني بها وكيف أخافها وهي بهذه المنزلة، ولا تخافون من إشراككم بالله سبحانه، وبعد هذا فأخبروني أي الفريقين أحق بالأمن من العذاب وعدم الخوف في يوم القيامة الموحد أم المشرك، ولم يقل أينا أحق أنا أم أنتم احترازاً عن تزكية نفسه، والمراد من الأحق الحقيق.
(إن كنتم تعلمون) بحقيقة الحال وتعرفون البراهين الصحيحة وتميزونها عن الشبه الباطلة، ثم قال الله سبحانه قاضياً بينهم ومبيناً لهم:
(4/181)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
(4/182)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) أي هم الأحق بالأمن من الذين أشركوا، وقيل من تمام قول إبراهيم، وقيل هو من قول قوم إبراهيم، أقوال للعلماء وعليها تترتب الأعاريب التي ذكرها السمين في هذا المقام لا نطول بذكرها، والمعنى لم يخلطوه بظلم والمراد بالظلم الشرك وقد فسره به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وحذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي وأبي بن كعب وابن عباس.
وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ذلك، ويغني عن الجميع في تفسير الآية ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " (1).
والعجب من صاحب الكشاف حيث يقول في تفسير هذه الآية وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس، وهو لا يدري أن الصادق المصدوق قد فسرها بهذا، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
وفي زاده على البيضاوي وذهب المعتزلة إلى أن المراد بالظلم في الآية المعصية لا الشرك بناء على أن خلط أحد الشيئين بالآخر يقتضي اجتماعهما ولا
_________
(1) ابن كثير 2/ 152 - 153.
(4/182)
يتصور خلط الإيمان بالشرك لأنهما ضدان لا يجتمعان، وهذه الشبهة ترد عليهم بأن يقال كما أن الإيمان لا يجامع الكفر فكذلك المعصية لا تجامع الإيمان عندكم لكونه إسماً لفعل الطاعات واجتناب المعاصي، فلا يكون مرتكب الكبيرة مؤمناً عندكم انتهى.
والإشارة بقوله: (أولئك) إلى الموصول المتصف بما ذكر (لهم الأمن) يوم القيامة من عذاب النار، وفي الآية دليل على أن من مات لا يشرك بالله شيئاً كانت عاقبته الأمن من عذاب النار، والجملة وقدت خبراً عن اسم الإشارة هذا أوضح ما قيل مع احتمال غيره من الوجوه (وهم مهتدون) إلى الحق ثابتون عليه، وغيرهم على ضلال وجهل.
والإشارة بقوله:
(4/183)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
(وتلك حجتنا) إلى ما تقدم من الحجج التي أوردها إبراهيم عليهم، أي تلك البراهين التي جرت بين إبراهيم وبين قومه من قوله: (فلما جن عليه الليل) أو من قوله: (أتحاجوني) إلى قوله: (وهم مهتدون) وقال السمين من قوله: (وكذلك نرى إبراهيم) إلى قوله وما أنا من المشركين.
(آتيناها إبراهيم) أي أعطيناها إياه وأرشدناه إليها حجة (على قومه نرفع درجات من نشاء) بالهداية والعلم والفهم والعقل والفضيلة والإرشاد إلى الحق وتلقين الحجة أو بما هو أعم من ذلك، وفيه نقض قول المعتزلة في الأصلح قال الضحاك: إن للعلماء درجات كدرجات الشهداء (إن ربك حكيم) في كل ما يصدر عنه (عليم) بحال عباده أن منهم من يستحق الرفع ومنهم من لا يستحقه، خطاب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم على ما قاله السمين وأبو حيان.
(4/183)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
(4/184)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
(ووهبنا له إسحق) إبناً لصلبه (ويعقوب) ولد الولد أي وهبنا له ذلك جزاء على الاحتجاج في الدين وبذل النفس فيه، والمقصود من تلاوة هذه المنعم على محمد صلى الله عليه وآله وسلم تشريفه لأن شرف الوالد يسري إلى الولد، وجملة ما ذكر في هذه الآية ثمانية عشر رسولاً وبقي سبعة وهم آدم وإدريس وشعيب وصالح وهود وذو الكفل ومحمد فهؤلاء الخمسة والعشرون رسولاً هم الذين يجب الإيمان بهم تفصيلاً.
(كلا) أي كل واحد منهما (هدينا) إلى سبيل الرشاد وطريق الحق والصواب الذي أوتيه إبراهيم فإنهما مقتديان به (ونوحاً هدينا) بين آدم ونوح ألف ومائة سنة، وعاش آدم تسعمائة وستين سنة ونوح ابن لمك وكان بين إدريس ونوح ألف سنة، وإبراهيم ولد على رأس ألفي سنة من آدم وبينه وبين نوح عشرة قرون، وعاش إبراهيم مائة وخمساً وسبعين سنة، وولده إسمعيل عاش مائة وثلاثين سنة، وكان له حين مات أبوه تسع وثمانون سنة. وأخوه إسحق ولد بعده بأربع عشرة سنة وعاش مائة وثمانين سنة.
ويعقوب بن إسحاق عاش مائة وسبعاً واربعين، ويوسف بن يعقوب عاش مائة وعشرين سنة، وبينه وبين موسى أربعمائة سنة، وبين موسى وإبراهيم خمسمائة وخمس وستون سنة، وعاش موسى مائة وعشرين سنة، وبين موسى وداود خمسمائة وتسع وستون سنة وعاش مائة سنة، وولده
(4/184)
سليمان عاش نيفاً وخمسين سنة، وبينه وبين مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ألف وسبعمائة سنة.
وأيوب عاش ثلاثاً وستين سنة وكانت مدة بلائه سبع سنين، ويونس هو ابن متى وهي أمه ذكره السيوطي في التحبير في علم التفسير.
(من قبل) أي من قبل إبراهيم بعشرة قرون، وأرشدناه للحق والصواب ومننا عليه بالهداية (ومن ذريته) أي من ذرية إبراهيم لأن مساق النظم الكريم لبيان شؤونه العظيمة من إيتاء الحجة ورفع الدرجات وهبة الأولاد الأنبياء وإبقاء هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة، كل ذلك لإلزام من ينتمي إلى ملته عليه السلام من المشركين واليهود.
وقال الفراء: من ذرية نوح واختاره ابن جرير والطبري والقشيري وابن عطية وجمهور المفسرين لأنه أقرب، ولأن يونس ولوطاً ليسا من ذرية إبراهيم، فلو كان الضمير له لاختص بالمعدودين في هذه الآية والتي بعدها، وأما المذكورون في الآية الثالثة فعطف على نوحاً وقال الزجاج: كلا القولين جائز لأن ذكرهما جميعاً قد جرى.
(داود) هو ابن ميشا وكان ممن آتاه الله الملك والنبوة (وسليمان) كذلك وهو ابن داود (وأيوب) هو ابن اموص بن رازخ بن روم بن عيص بن إسحق بن إبراهيم (ويوسف) هو ابن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم (وموسى) هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب (وهرون) هو أخو موسى وكان أكبر منه بسنة، وإنما عد الله سبحانه هداية هؤلاء الأنبياء من النعم التي عددها إبراهيم لأن شرف الأبناء متصل بالآباء.
(وكذلك) الجزاء (نجزي المحسنين)
(4/185)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
(وزكريا) هو ابن آدن بن بركيا (ويحيى) هو ابن زكريا (وعيسى) هو ابن مريم بنت عمران (وإلياس) هو إدريس قاله ابن مسعود، وقال محمد بن إسحق: هو إلياس بن سنا بن
(4/185)
فنحاص ابن العيزار بن هرون بن عمران، وهذا هو الصحيح لأن أهل الأنساب قالوا إن إدريس جد نوح ولأن الله نسب إلياس في هذه الآية إلى نوح وجعله من ذريته، وقال الضحاك: إلياس من ولد إسمعيل.
وقال القتيبي: هو من سبط يوشع بن نون، قال محمد بن كعب: الخال والد، والعم والد نسب الله عيسى إلى أخواله فقال: (ومن ذريته) حتى بلغ إلى قوله زكريا ويحيى وعيسى.
أخرج أبو الشيخ والحاكم والبيهقي عن عبد الملك بن عمير قال: دخل يحيى بن يعمر على الحجاج فذكر الحسين رضي الله عنه فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يحيى: كذبت فقال: لتأتيني على ما قلت ببينة فتلا (ومن ذريته إلى قوله وعيسى) فأخبر الله أن عيسى من ذرية آدم بأمه فقال صدقت، وقد رويت هذه القضية بألفاظ وطرق، وفيه دليل على أن النسب يثبت من قبل الأم أيضاً لأنه جعله من ذرية نوح وهو لا يتصل به إلا بالأم.
(كل من الصالحين) أي كل من ذكرنا وسمينا من أهل الصلاح
(4/186)
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
(وإسمعيل) هو ابن إبراهيم، وإنما أخر ذكره إلى هنا لأنه ذكر إسحق وذكر أولاده من بعده على نسق واحد.
(واليسع) هو ابن أخطوب بن العجوز وقد توهم قوم أن اليسع هو إلياس وهو وهم فإن الله أفرد كل واحد منهما، وقال وهب اليسع صاحب إلياس وكانا قبل يحيى وعيسى وزكريا وقيل اليسع هو الخضر (ويونس) هو ابن متى (ولوطاً) هو ابن هاران أخي إبراهيم (وكُلّا فضلنا على العالمين) أي وكل واحد فضلناه بالنبوة على عالمي زمانه، والجملة معترضة.
ويستدل بهذه الآية من يقول: إن الأنبياء أفضل من الملائكة لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله فيدخل فيه الملك، وقد ذكر سبحانه هنا ثمانية عشر نبياً من غير ترتيب لا بحسب الفضل ولا بحسب الزمان لأن الواو لا تقتضي الترتيب.
(4/186)
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
(4/187)
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
(ومن آبائهم) من للتبعيض لأن من آباء بعضهم من لم يكن مسلماً (وذرياتهم) أي بعضهم لأن عيسى ويحيى لم يكن لهما ولد وكان في ذرية بعضهم من هو كافر كابن نوح.
(وإخوانهم واجتبيناهم) أي اخترناهم، الاجتباء الاصطفاء أو التخليص أو الاختيار مشتق من جبيت الماء في الحوض أي جمعته، فالاجتباء ضم الذي تجتبيه إلى خاصتك، والجابية الحوض (وهديناهم) أي أرشدناهم (إلى صراط مستقيم) أي إلى دين الحق.
(4/187)
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)
(ذلك) الهداية والتفضيل والاجتباء المفهومة من الأفعال السابقة (هدى الله يهدي به) الله (من يشاء من عباده) وهم الذين وفقهم للخير واتباع الحق.
(ولو اشركوا) أي هؤلاء المذكورون بعبادة غير الله (لحبط عنهم) الحبوط البطلان والذهاب، وقد تقدم تحقيقه في البقرة (ما كانوا يعملون) من الطاعات قبل ذلك لأن الله لا يقبل مع الشرك من الأعمال شيئاً.
(4/187)
أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
(أولئك) أي الأنبياء المذكورون سابقاً (الذين آتيناهم الكتاب) أي جنس الكتاب ليصدق على كل ما أنزل على هؤلاء المذكورين، وليس لكل
(4/187)
منهم كتاب فالمراد بإيتاء الكتاب لكل منهم تفهيم ما فيه أعم من أن يكون ذلك بالإنزال عليه ابتداء أو بوراثة من قبله (والحكم) العلم (والنبوة) الرسالة أو ما هو أعم من ذلك (فإن يكفر بها) الضمير راجع إلى الحكم والنبوة والكتاب أو للنبوة فقط.
و (هؤلاء) إشارة إلى كفار قريش بمكة المعاندين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (فقد وكلنا بها قوماً) أي أرصدنا لها وأعددنا وألزمنا بالإيمان بها قوماً.
(ليسوا بها بكافرين) وهم المهاجرون والأنصار، والباء زائدة، قال ابن عباس: فإن يكفر أهل مكة بالقرآن فقد وكلنا به أهل المدينة والأنصار، وقال قتادة: هم الأنبياء الثمانية عشر، وقال أبو رجاء العطاردي: هم الملائكة، وفيه بعد، لأن اسم القوم لا ينطبق إلا على بني آدم، وقيل هم الفرس، قال ابن زيد: كل من لم يكفر فهو منهم سواء كان ملكاً أو نبياً أو من الصحابة أو التابعين، والأولى أن المراد بهم الأنبياء المذكورون سابقاً لقوله فيما بعد:
(4/188)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
(أولئك الذين هدى الله) فإن الإشارة إلى الأنبياء المذكورين لا إلى المهاجرين والأنصار إذ لا يصح أن يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهداهم وتقديم (فبهداهم) على الفعل أي (اقتده) يفيد تخصيص هداهم بالاقتداء، قرىء اقتده بهاء السكت وقفاً ووصلاً، وهي حرف تجتلب للإستراحة عند الوقف فثبوتها وقفاً لا إشكال فيه، وأما ثبوتها وصلاً فاجراء له مجرى الوقف، وفي قراءة بحذفها وصلاً لحمزة والكسائي.
والاقتداء طلب موافقة الغير في فعله، وقيل المعنى اصبر كما صبروا، وقيل اقتد بهم في التوحيد وإن كانت جزئيات الشرائع مختلفة، وقيل في جميع الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية، والصفات الرفيعة الكاملة، وفيها دلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - مأمور بالاقتداء بمن قبله من الأنبياء فيما لم يرد عليه فيه نص.
(4/188)
أخرج البخاري والنسائي وغيرهما عن ابن عباس قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بهداهم وكان يسجد في (ص) ولفظ ابن أبي حاتم عن مجاهد سألت ابن عباس عن السجدة التي في (ص) فقرأ هذه الآية وقال: أمر نبيكم أن يقتدى بداود عليه السلام (1).
وقد احتج أهل العلم بهذه الآية على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من جميع الأنبياء لما اجتمع فيه من هذه الخصال التي كانت متفرقة في جميعهم.
(قل لا أسألكم عليه) أي على القرآن أو على التبليغ، فإن سياق الكلام يدل عليهما وإن لم يجر لهما ذكر (أجراً) عوضاً من جهتكم، قال ابن عباس: قل لهم يا محمد لا أسألكم على ما أدعوكم إليه عرضاً من عروض الدنيا وكان ذلك من جملة هداهم.
(إن هو) أي ما القرآن (إلا ذكر للعالمين) أي موعظة وتذكير للخلق كافة الموجودين عند نزوله ومن سيوجد من بعد، وفيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مبعوثاً إلى جميع الخلق من الجن والإنس وأن دعوته عمت جميع الخلائق.
_________
(1) وسيأتي تفصيله في تفسير سورة ص إن شاء الله.
(4/189)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
(4/190)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
(وما قدروا الله حق قدره) قدرت الشيء وقدرته عرفت مقداره وأصله الستر ثم استعمل في معرفة الشيء أي لم يعرفوه حق معرفته حيث أنكروا إرساله للرسل وإنزاله للكتب قاله الأخفش، وقيل المعنى وما قدروا نعم الله حق تقديرها، قال ابن عباس: هم الكفار لم يؤمنوا بقدرة الله، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير قد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره، وقال مجاهد: قالها مشركو العرب، وعنه قال ما عظموا الله حق عظمته، وقال أبو العالية: ما وصفوا الله حق صفته، ويصح جميع ذلك في معناه (1).
(إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) قال ابن عباس: قالت اليهود
_________
(1) وروي أن مالك بن الصيف رأس اليهود، أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ " قال: نعم، قال: " فأنت الحبر السمين ". فغضب، ثم قال: (ما أنزل الله على بشر من شي) فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس؛ وكذلك قال سعيد بن جبير، وعكرمة: نزلت في مالك بن الصيف.
رجح هذا القول ابن كثير، وقال: إنه الأصح، لأن الآية مكية، واليهود ينكرون إنزال الكتب من السماء، وقريش والعرب قاطبة كانوا يبعدون إرسال رسول من البشر كما قال:. (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس) [يونس: 2]. وقال تعالى:. (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً) [الإسراء: 94، 95].
(4/190)
يا محمد أأنزل الله عليك كتاباً قال: نعم قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً، وعن السدي قاله فنحاص اليهودي فنزلت، وعن عكرمة قال: نزلت في مالك بن الصيف وعن سعيد بن جبير نحوه، ولكن بأطول منه، والمعنى الذين قالوا ذلك ما قدروا الله حق قدره ولا عرفوه حق معرفته، إذ لو عرفوه لما قالوا هذه المقالة.
ولما وقع منهم هذا الإنكار وهم من اليهود أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يورد عليهم حجة لا يطيقون دفعها فقال: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى).
وهم يعترفون بذلك ويذعنون له، وكان في هذا من التبكيت لهم والتقريع ما لا يقادر قدره مع إلجائهم إلى الإعتراف بما أنكروه من وقوع إنزال الله على البشر وهم الأنبياء عليهم السلام، فبطل جحدهم وتبين فساد إنكارهم، وقيل: إن القائلين بهذه المقالة هم كفار قريش فيكون إلزامهم بإنزال الله الكتاب على موسى من جهة أنهم يعترفون بذلك ويعلمونه بالأخبار من اليهود وقد كانوا يصدقونهم.
(نوراً وهدى للناس) أي التوراة ضياء من ظلمة الضلالة، وبيان يفرق بين الحق والباطل من دينهم، وذلك قبل أن تغير وتبدل (تجعلونه) بالتاء والياء أي الكتاب الذي جاء به موسى في (قراطيس) أو ذا قراطيس أو نزلوه منزلة القراطيس، وقد تقدم تفسير القرطاس أي يضعونه فيها ويكتبونه مقطعاً وورقات مفرقة ليتم لهم ما يريدونه من التحريف والتبديل والإبداء والإخفاء وكتم صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - المذكورة فيه، وهذا ذم لهم قال مجاهد هم اليهود.
(تبدونها) أي القراطيس المكتوبة (وتخفون كثيراً) مما كتبوه في القراطيس ومما أخفوه أيضاً آية الرجم، وكانت مكتوبة عندهم في التوراة.
(4/191)
(وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم) الخطاب لليهود ويحتمل أن تكون هذه الجملة استئنافية مقررة لما قبلها والذي علموه هو الذي أخبرهم به نبينا - صلى الله عليه وسلم - من الأمور التي أوحى الله إليه بها فإنها اشتملت على ما لم يعلموه من كتبهم ولا على لسان أنبيائهم ولا علمه أنبياؤهم، ويجوز أن تكون " ما " في ما لم تعلموا عبارة عما علموه من التوراة فيكون ذلك على وجه المن عليهم بإنزال التوراة.
وقيل الخطاب للمشركين من قريش وغيرهم فتكون " ما " عبارة عما علموه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الحسن: جعل لهم علم ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فضيعوه ولم ينتفعوا به، وقال مجاهد: هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علمهم على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، والأول أولى، وقال قتادة: هم اليهود آتاهم علماً فلم يقتدوا به ولم يأخذوا به، ولم يعملوا، فذمهم الله في علمهم ذلك.
ثم أمر الله رسوله بأن يجيب عن ذلك الإلزام الذي ألزمهم به حيث قال: من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فقال: (قل) أنزله (الله) فإنهم لا يقدرون أن يناكروك، وقيل قل أنت الله الذي أنزله، والأول أولى.
(ثم ذرهم في خوضهم) أي في باطلهم وكفرهم بالله حال كونهم (يلعبون) أي يصنعون صنع الصبيان الذين يلعبون، وقيل معناه يسخرون ويستهزئون، وفيه وعيد وتهديد بالمشركين وقيل هذا منسوخ بآية السيف، وفيه بعد ظاهر.
(4/192)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
(وهذا كتاب أنزلناه) هذا من جملة الرد عليهم في قولهم: (ما أنزل الله على بشر من شيء) أخبرهم بأن الله أنزل التوراة وعقبه بقوله: (وهذا كتاب) أنزله الله من عنده على محمد - صلى الله عليه وسلم - فكيف تقولون ما أنزل الله على بشر
(4/192)
من شيء (مبارك) كثير البركة والخير دائم النفع، وأصل البركة النماء والزيادة (مصدق) أي كثير التصديق (الذي بين يديه) أي ما أنزله الله من الكتب من السماء على الأنبياء من قبله كالتوراة والإنجيل، فإنه يوافقها في الدعوة إلى الله وإلى توحيده وإن خالفها في بعض الأحكام.
(ولتنذر أم القرى) خصها وهي مكة لكونها أعظم القرى شأناً، ولكونها أول بيت وضع للناس، ولكونها قبلة هذه الأمة ومحل حجهم، قال قتادة: بلغني أن الأرض دحيت من مكة ولهذا سميت بأم القرى وقيل لأنها سرة الأرض، والمراد بإنذارها إنذار أهلها وهو مستتبع لإنذار سائر أهل الأرض فهو على تقدير مضاف محذوف.
(ومن حولها) يعني جميع البلاد والقرى شرقاً وغرباً، وفيه دليل على عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل الأرض كافة.
(والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به) أي أن من حق من صدق بالدار الآخرة أن يؤمن بهذا الكتاب ويصدقه ويعمل بما فيه، لأن التصديق بالآخرة يوجب قبول من دعا الناس إلى ما ينال به خيرها ويندفع بها ضرها.
(وهم على صلاتهم يحافظون) خص المحافظة على الصلاة من بين سائر الواجبات لكونها عمادها وبمنزلة الرأس لها، وكونها أشرف العبادات بعد الإيمان بالله تعالى، فإذا كان العبد محافظاً عليها حافظ على جميع العبادات والطاعات، والمعنى يداومون عليها في أوقاتها، والحاصل أن الإيمان بالآخرة يحمل على الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يحمل على المحافظة على الصلاة.
(4/193)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
(ومن أظلم) هذه الجملة مقررة لمضمون ما تقدم من الاحتجاج عليهم بأن الله أنزل الكتب على رسله أي كيف تقولون ما أنزل الله على بشر من شيء وذلك يستلزم تكذيب الأنبياء عليهم السلام، ولا أحد أظلم وأعظم خطأً وأجهل فعلاً (ممن افترى على الله كذباً) فزعم أنه نبي وليس بنبي (أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء) عطف خاص على عام، قاله أبو حيان أو عطف تفسير.
والأحسن أنه من عطف المغاير باعتبار العنوان وتكون أو للتنويع، وقد صان الله أنبياءه عما يزعمون عليهم، وإنما هذا شأن الكذابين رؤوس الضلال كمسيلمة الكذاب، ادعى النبوة باليمامة من اليمن، والأسود العنسي صاحب صنعاء وسجاح.
قال شرحبيل بن سعد: نزلت في عبد الله بن أبي سرح لما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة فر إلى عثمان أخيه من الرضاعة فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة ثم استأمن له، وقال ابن جريج: نزلت في مسيلمة الكذاب من ثمامة ونحوه ممن دعا إلى مثل ما دعا إليه، وقيل في مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة وكان صاحب نير نجات وكهانة وسجع ادعى النبوة في اليمن.
عن عكرمة قال: لما نزلت (والمرسلات عرفاً) قال النضر وهو من بني
(4/194)
عبد الدار والطاحنات طحناً والعاجنات عجناً قولاً كثيراً فأنزل الله هذه الآية.
(ومن قال سأنزل) معطوف على من افترى أي ومن أظلم ممن افترى أو ممن قال أوحي إلي وممن قال سأنزل أي سآتي وأنظم وأجمع وأتكلم (مثل ما أنزل الله) وهم القائلون لو نشاء لقلنا مثل هذا، وقيل هو عبد الله ابن أبي سرح فإنه كان يكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأملى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ثم أنشأناه خلقاً آخر) فقال عبد الله: (فتبارك الله أحسن الخالقين) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هكذا أنزل، فشك عبد الله حينئذ وقال لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال، ثم ارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، ثم أسلم يوم الفتح كما هو معروف.
قال أهل العلم: وقد دخل في حكم هذه الآية كل من افترى على الله كذباً في ذلك الزمان وبعده لأنه لا يمنع خصوص السبي من عموم الحكم.
(ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت) الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو
لكل من يصلح له، والمراد كل ظالم ويدخل فيه الجاحدون لما أنزل الله والمدعون للنبوات افتراء على الله دخولاً أولياً وجواب لو محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً، والغمرات جمع غمرة وهي الشدة، وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها، ومنه غمرة الماء، ثم استعملت في الشدائد ومنه غمرة الحرب قال الجوهري: والغمرة الشدة والجمع غمر مثل نوبة ونوب، قال ابن عباس: غمرات الموت سكراته.
(والملائكة باسطوا أيديهم) بقبض أرواح الكفار كالمتقاضي الملظ الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة من غير إمهال وتنفيس، قال ابن عباس: هذا ملك الموت عليه السلام، وقيل باسطوا أيديهم للعذاب وفي أيديهم مطارق الحديد، قاله الضحاك ومثله قوله تعالى: (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم).
(4/195)
(أخرجوا أنفسكم) أي قائلين لهم تعنيفاً أخرجوا أنفسكم من هذه الغمرات التي وقعتم فيها أو أخرجوا أنفسكم من الدنيا وخلصوها من العذاب أو أخرجوا أنفسكم من أجسادكم وسلموها إلينا لنقبضها.
(اليوم) أي اليوم الذي تقبض فيه أرواحكم أو أرادوا باليوم الوقت الذي يعذبون فيه الذي مبدؤه عذاب القبر.
(تجزون عذاب الهون) أي الهوان الذي تصبرون به في إهانة وذلة بعدما كنتم فيه من الكبر والتعاظم.
(بما كنتم تقولون على الله غير الحق) أي بسبب قولكم هذا من إنكار إنزال الله كتبه على رسله والإشراك به.
(وكنتم عن آياته تستكبرون) أي عن التصديق لها والعمل بها فكان ما جوزيتم به عذاب الهون جزاء وفاقاً.
(4/196)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
(4/197)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
(و) يقال لهم إذا بعثوا، والقائلون هم الملائكة وقيل هو قول الله تعالى: (لقد جئتمونا فرادى) قرئ بالتنوين وهي لغة بني تميم وبألف التأنيث للجمع وهو جمع فرد وفريد قاله الفراء، وقال ابن قتيبة: هو جمع فردان كسكران وسكارى، وقال الراغب: جمع فريد كأسير وأسارى، وقيل هو اسم جمع لأن فرداً لا يجمع على فرادى والمعنى جئتمونا منفردين واحداً واحداً كل واحد منفرد عن أهله وماله وولده وما كان يعبده من دون الله فلم ينتفع بشيء من ذلك.
قال سعيد بن جبير: كيوم ولد يرد عليه كل شيء نقص منه يوم ولد، وعن عكرمة قال: قال النضر بن الحرث سوف تشفع لي اللات والعزى فنزلت هذه الآية.
(كما خلقناكم أول مرة) أي على الصفة التي كنتم عليها عند خروجكم من بطون أمهاتكم حفاة عراة غًرْلاً يعني: خلقاً كما ولدتكم أمهاتكم في أول مرة في الدنيا ولا شيء عليكم ولا معكم.
(وتركتم ما خولناكم) أي ما أعطيناكم من المال والولد والخدم في الدنيا، والخول ما أعطاه الله للإنسان من متاع الدنيا (وراء ظهوركم) أي تركتم ذلك خلفكم لم تأتونا بشيء منه ولا انتفعتم به بوجه من الوجوه.
(4/197)
(وما نرى معكم شفعاءكم الذين) عبدتموهم وقلتم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى و (زعمتم أنهم فيكم شركاء) لله يستحقون منكم العبادة كما يستحقها فإذا كان يوم القيامة وبخ الله المشركين وقرعهم بهذه الآية.
ثم قال: (لقد تقطع بينكم) أي ما بينكم من الوصل وتواصلكم في الدنيا كما يدل عليه (وما نرى معكم شفعاءكم) وقيل لقد تقطع الأمر بينكم، وقرأ ابن مسعود لقد تقطع ما بينكم وقرئ بينكم برفع النون ومعناه وصلكم والبين من الأضداد يكون وصلاً ويكون هجراً (وضل عنكم ما كنتم تزعمون) في الدنيا من الشركاء والشرك وحيل بينكم وبينهم.
(4/198)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
(إن الله فالق الحب) هذا شروع في تعداد عجائب صنعه تعالى، وذكر ما يعجز آلهتهم عن أدنى شيء منه والفلق الشق أي هو سبحانه شاق الحب فيخرج منه النبات (و) فالق (النوى) فيخرج منه الشجر الصاعد في الهواء، وقيل معناه الشق الذي فيه من أصل الخلقة وقيل معنى فالق خالق، وبه قال ابن عباس والضحاك ومقاتل، قال الواحدي: ذهبوا بفالق مذهب فاطر، وأنكر الطبري هذا وقال لا يعرف في كلام العرب فلق الله الشيء بمعنى خلق، ونقل الأزهري عن الزجاج جوازه والأول أولى.
والحب هو الذي ليس فيه نوى كالحنطة والشعير والأرز وما أشبه ذلك، والنوى جمع نواة يطلق على كل ما فيه عجم كالتمر والمشمش والخوخ، والمعنى أنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مر عليها زمان أظهر الله منهما ورقاً أخضر، ثم يخرج من ذلك الورق سنبلة يكون فيها الحب، ويظهر من النواة شجرة صاعدة في الهواء وعروقاً ضاربة في الأرض، فسبحان من أوجد جميع الأشياء بقدرته وإبداعه وخلقه، وتبارك الله أحسن الخالقين.
(يخرج الحي من الميت) هذه الجملة خبر بعد خبر، وقيل هي جملة
(4/198)
مفسرة لما قبلها لأن معناها معناه، والأول أولى فإن معنى ذلك يخرج الحيوان من مثل النطفة والبيضة وهي ميتة (و) معنى (مخرج الميت من الحي) مخرج النطفة والبيضة وهي ميتة من الحي، وهذا قول الكلبي ومقاتل، وهذا عطف جملة إسمية على فعلية ولا ضير في ذلك.
قال قتادة: يخرج النخلة من النواة والسنبلة من الحبة، ويخرج النواة من النخلة والحبة من السنبلة وقال مجاهد: الناس الأحياء تخرج من النطف والنطفة ميتة تخرج من الناس الأحياء، قال الطبري: من الأنعام والنبات كذلك أيضاً، وقال ابن عباس: يخرج المؤمن من الكافر، وبالعكس وبه قال الحسن، وقيل الطائع من العاصي وبالعكس، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع بل اللفظ أوسع من ذلك، وقيل المراد من الحي ما ينمو من الحيوان والنبات وإن لم يكن فيه روح، والميت ما لا ينمو كالنطفة والحبة ولو كان أصل حيوان.
(ذلكم) الإشارة إلى صانع ذلك الصنع العجيب المذكور سابقاً و (الله) خبره، والمعنى أن صانع هذا الصنع العجيب هو المستجمع لكل كمال والمفضل بكل أفضال، والمستحق لكل حمد وإجلال.
(فأنى تؤفكون) أي فكيف تصرفون عن الإيمان مع قيام البرهان وعن الحق مع ما ترون من بديع صنعه وكمال قدرته، قال ابن عباس: فكيف تكذبون، وقال الحسن: أنى تصرفون، وفيه دليل أيضاً على صحة البعث بعد الموت لأن القادر على إخراج البدن من النطفة قادر على إخراجه من التراب للحساب.
(4/199)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
(4/200)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
(فالق الإصباح) بكسر الهمزة مصدر أصبح وبه قال الجمهور، والظاهر أن الإصباح في الأصل مصدر سمي به الصبح وبفتحها جمع صبح، والصبح والصباح أول النهار، وكذا الإصباح قاله الزجاج والليث، والمعنى أنه شاق عمود الضياء عن ظلام الليل وسواده أو يكون المعنى فالق ظلمة الإصباح وهي الغبش في آخر الليل الذي يلي الصبح، قاله الكشاف، أو فالق عمود الفجر إذا انصدع عن بياض النهار لأنه يبدو مختلطاً بالظلمة ثم يصير أبيض خالصاً، وقيل المعنى خالق الإصباح والصبح هو الضوء الذي يبدو أول النهار، قال ابن عباس: خلق الليل والنهار ويعني بالإصباح ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل، وقال إضاءة الفجر وقال قتادة فالق الصبح.
(وجعل الليل سكناً) السكن محل السكون من سكن إليه إذا اطمأن إليه واستراح به، لأنه يسكن فيه الناس عن الحركة في معاشهم ويستريحون من التعب والنصب، قال قتادة: سكن فيه كل طير ودابة (والشمس والقمر حسباناً) أي الشمس والقمر مجعولان حسباناً معيناً قال الأخفش: الحسبان جمع حساب مثل شهبان وشهاب، وقال يعقوب، حسبان مصدر حسبت الشيء أحسبه حسباً وحسباناً والحساب الإسم، وقيل الحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح والحسبان بالكسر مصدر حسب.
والمعنى جعلهما محل حساب يتعلق به مصالح العباد وسيرهما على تقدير لا يزيد ولا ينقص ليدل عباده بذلك على عظيم قدرته وبديع صنعه، وقيل الحسبان الضياء وفي لغة أن الحسبان النار، ومنه قوله تعالى: (يرسل عليها حسباناً من السماء) وقال ابن عباس: يعني عدد الأيام والشهور والسنين، وقال
(4/200)
الكلبي: منازلهما بحساب لا يجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصاها لأن حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما.
(ذلك) الجعل المدلول عليه يجعل (تقدير العزيز) القاهر الغالب (العليم) كثير العلم ومن جملة معلوماته تسييرهما على هذا التدبير المحكم.
(4/201)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
(وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) أي خلقها للاهتداء بها في ظلمات الليل عند المسير في البحر والبر، وإضافة الظلمات إلى البر والبحر لكونها ملابسة لهما أو المراد بالظلمات اشتباه طرقهما التي لا يهتدى فيها إلا بالنجوم، وهذه إحدى منافع النجوم التي خلقها الله لها ومنها ما ذكره الله في قوله: (وحفظاً من كل شيطان مارد) (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين) ومن زعم غير هذه الفوائد فقد أعظم على الله الفرية.
وقيل يستدلون بها أيضاً على القبلة على ما يريدون في النهار بحركة الشمس، وفي الليل بحركة الكواكب، وعن عمر بن الخطاب قال: تعلموا من النجوم ما تهتدون به في بركم وبحركم ثم أمسكوا فإنها والله ما خلقت إلا زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها، وعن قتادة نحوه.
وأخرج ابن مردويه والخطيب عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا " (1)، وقد ورد في استحباب مراعاة الشمس والقمر لذكر الله سبحانه لا لغير ذلك أحاديث منها عند الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أحب عباد الله إلى الله الذين يراعون الشمس والقمر لذكر الله "، وعند ابن شاهين والطبراني والخطيب وأحمد عن ابن أبي أوفى وأبي الدرداء وأبي هريرة نحوه.
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 2455.
(4/201)
وأخرج الحاكم في تاريخه والديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاثة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: التاجر الأمين والإمام المقتصد، وراعي الشمس بالنهار " (1)، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن سلمان الفارسي قال: سبعة في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله فذكر منهم الرجل الذي يراعي الشمس لمواقيت الصلاة.
فهذه الأحاديث مقيدة بكون المراعاة لذكر الله والصلاة لا لغير ذلك، وقد جعل الله انقضاء وقت صلاة الفجر طلوع الشمس وأول صلاة الظهر زوالها، ووقت العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية، ووقت المغرب غروب الشمس، وورد في صلاة العشاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوقت مغيب القمر ليلة ثالث عشر، وبهما يعرف أوائل الشهور وأوساطها وأواخرها، فمن راعى الشمس والقمر لهذه الأمور فهو الذي أراده - صلى الله عليه وسلم - ومن راعاهما لغير ذلك فهو غير مراد بما ورد.
وهكذا النجوم ورد النهي عن النظر فيها كما أخرجه ابن مردويه والخطيب عن علي قال: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النظر في النجوم، وعن أبي هريرة عندهما وعند المرهبي مثله مرفوعاً، وأخرج الخطيب عن عائشة مرفوعاً مثله.
وأخرج الطبراني والخطيب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا " (2)، وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر، زاد
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 2611.
(2) صحيح الجامع الصغير 559.
(4/202)
ما زاد " (1).
فهذه الأحاديث محمولة على النظر فيها لا عدا الاهتداء والتفكر والاعتبار وما ورد في جواز النظر في النجوم فهو مقيد بالاهتداء والتفكر والاعتبار كما يدل عليه حديث ابن عمر السابق، وعليه يحمل ما روي عن عكرمة أنه سأل رجلاً عن حساب النجوم، فجعل الرجل يتحرج أن يخبره فقال: سمعت ابن عباس يقول علم عجز الناس عنه ووددت أني علمته.
وقد أخرج أبو داود والخطيب عن سمرة بن جندب أنه خطب فذكر حديثاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أما بعد فإن ناساً يزعمون أن كسوف هذه الشمس وكسوف هذا القمر، وزوال هذه النجوم عن مواضعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض، وأنهم قد كذبوا، ولكنها آيات من آيات الله يعبر بها عباده لينظر ما يحدث لهم من توبة " (2).
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما في كسوف الشمس والقمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن يخوف الله بهما عباده ".
(قد فصلنا الآيات) أي بيناها بياناً مفصلاً ليكون أبلغ في الاعتبار (لقوم يعلمون) إن ذلك مما يستدل به على وجود الصانع المختار وكمال قدرته وعظمته وبديع صنعته وعلمه وحكمته.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 595.
(2) أحمد بن حنبل 5/ 16.
(4/203)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
(وهو الذي أنشاكم من نفس واحدة) أي آدم عليه السلام كما تقدم، وهذا نوع آخر من بديع خلقه الدال على كمال قدرته، أخرج ابن مردويه عن أبي أمامة مرفوعاً أن الله نصب آدم بين يديه ثم ضرب كتفه اليسرى فخرجت ذريته من صلبه حتى ملأ الأرض، فهذا الحديث هو بمعنى ما في هذه الآية.
(فمستقر) قرئ بكسر القاف وبفتحها أي فمنكم قار في الأرحام أو فلكم مقر، التقدير الأول على القراءة الأولى، والثاني على الثانية وقيل أي فمنكم مستقر على الأرض، أو فلكم مستقر على ظهرها (و) منكم (مستودع) في الرحم أو في باطن الأرض أو في أصلاب الرجال والدواب.
قال ابن عباس: المستقر في أرحام الأمهات، والمستودع في أصلاب الآباء، ثم قرأ (ونقر في الأرحام ما نشاء) وروي عنه أنه قال بالعكس، يعني أن المستقر صلب الأب، والمستودع رحم الأم، وقال ابن مسعود: بالمستقر في الرحم إلى أن يولد، والمستودع في القبر إلى أن يبعث.
وقال مجاهد: المستقر على ظهر الأرض في الدنيا، والمستودع عند الله في الآخرة، وقال الحسن: المستقر في القبر، والمستودع في الدنيا، وقيل المستقر في الرحم والمستودع في الأرض.
قال القرطبي: وأكثر أهل التفسير يقولون المستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب، والفرق بينهما أن المستقر أقرب إلى الثبات من
(4/204)
المستودع، لأن المستقر من القرار والمستودع معرض للرد.
وجعل الحصول في الرحم استقراراً، وفي الصلب استيداعاً لأن النطفة تبقى في صلب الآباء زماناً قصيراً والجنين يبقى في بطن الأم زماناً طويلاً، فكلما كان المكث في بطن الأم أكثر من المكث في صلب الأب حمل المستقر على الرحم والمستودع علي الصلب.
وقيل المستقر من خلق، والمستودع من لم يخلق، وقيل المستودع في القبر والمستقر إما في الجنة أو النار لأن المقام فيهما يقتضي الخلود والتأييد، وقيل الاستيداع إشارة إلى كونهم في القبور إلى المبعث، ومما يدل على تفسير المستقر بالكون على الأرض قول الله تعالى: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين).
(قد فصلنا الآيات) أي بينا الدلائل الدالة على التوحيد والبراهين الواضحة والحجج النيرة (لقوم يفقهون) غوامض الدقائق، ذكر سبحانه ههنا يفقهون وفيما قبله (يعلمون) لأن في إنشاء الأنفس من نفس واحدة وجعل بعضها مستقراً وبعضها مستودعاً من الغموض والدقة ما ليس في خلق النجوم للاهتداء فناسبه ذكر الفقه لإشعاره بمزيد تحقيق وإمعان فكر، وتدقيق نظر.
(4/205)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
(4/206)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
(وهو الذي أنزل من السماء ماء) هذا نوع آخر من عجائب مخلوقاته، والماء هو ماء المطر قيل ينزل المطر من السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض.
(فأخرجنا به) فيه التفات من الغيبة إلى التكلم إظهاراً للعناية بشأن هذا المخلوق وما ترتب عليه، والضمير في به عائد إلى الماء أي بسببه، فالسبب واحد والمسببات كثيرة (نبات كل شيء) يعني كل صنف من أصناف النبات المختلفة، وقيل المعنى رزق كل شيء من الأنعام والبهائم والطير والوحوش وبني آدم وأقواتهم، والأول أولى.
ثم فصل هذا الإجمال فقال: (فأخرجنا منه خضراً) قال الأخفش: أي أخضر، والخضر رطب البقول، وهو ما يتشعب من الأغصان الخارجة من الحبة، وقيل يريد القمح والشعير والذرة والأرز وسائر الحبوب وجميع الزروع والبقول.
(نخرج منه حباً متراكباً) أي نخرج من تلك الأغصان الخضر حباً مركباً بعضه على بعض كما في السنابل، قال السدي: أي سنبل القمح والشعير والأرز والذرة وسائر الحبوب، وفي تقديم الزرع على النخل دليل على الأفضلية ولأن حاجة الناس إليه أكثر، لأنه القوت المألوف، والتعبير بالمضارع مع أن
(4/206)
المقام للماضي لاستحضار الصورة الغريبة.
(ومن النخل) اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث قال تعالى: (كأنهم أعجاز نخل خاوية) وقال تعالى: (كأنهم أعجاز نخل منقعر).
(من طلعها قنوان) قرئ بكسر القاف وفتحها باعتبار إختلاف اللغتين لغة قيس ولغة أهل الحجاز، والطلع الكفري قبل أن ينشق عن الإغريض، والإغريض يسمى طلعاً أيضاً وهو ما يكون في قلب الطلع، والطلع أول ما يبدو ويخرج من ثمر النخل كالكيزان يكون فيه العذق فإذا شق عنه كيزانه يسمى عذقاً، وهو القنو، وجمعه قنوان مثل صنو وصنوان، والفرق بين جمعه وتثنيته أن المثنى مكسور النون، والجمع على ما يقتضيه الإعراب، والقنو العذق، والمعنى أن القنوان أصله من الطلع والعذق هو عنقود النخل، وقيل القنوان الجمار أو العراجين.
(دانية) قريبة ينالها القائم والقاعد، وقال مجاهد: متدلية، وقال الضحاك: قصار ملتصقة بالأرض أي دانية في المجتنى لانحنائها بثقل حملها أو لقصر ساقها قال الزجاج: المعنى منها دانية ومنها بعيدة فحذف ومثله (سرابيل تقيكم الحر) وخص الدانية بالذكر لأن الغرض من الآية بيان القدر والامتنان وذلك فيما يقرب تناوله أكثر.
وقال ابن عباس: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض، وعنه قنوان الكبائس والدانية المنصوبة، وقال أيضاً تهدل العذوق من الطلع، وذكر الطلع مع النخل لأنه طعام وإدام دون سائر الأكمام، وتقديم النبات لتقدم القوت على الفاكهة.
(وجنات) أي ولهم جنات، قاله النحاس وأجازه سيبويه والكسائي والفراء، وأما على النصب فالتقدير وأخرجنا به جنات أي بساتين كائنة (من
(4/207)
أعناب والزيتون والرمان) أي وأخرجنا شجرهما (مشتبهاً وغير متشابه) أي كل واحد منهما يشبه بعضه بعضاً في بعض أوصافه، ولا يشبهه في البعض الآخر.
وقيل أن أحدهما يشبه الآخر في الورق باعتبار اشتماله على جميع الغصن وباعتبار حجمه، ولا يشبه أحدهما الآخر في الطعم، قال قتادة: متشابهاً ورقه مختلفاً ثمره لأن ورق الزيتون يشبه ورق الرمان، يقال مشتبه ومتشابه بمعنى كما يقال اشتبه وتشابه كذلك.
وذكر سبحانه في هذه الآية أربعة أنواع من الشجر بعد ذكر الزرع لأن الزرع غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مقدم على الفواكه، وإنما قدم النخلة على غيرها لأن ثمرتها تجري مجرى الغذاء وفيها من المنافع والخواص ما ليس في غيرها من الأشجار، وإنما ذكر العنب عقب النخلة لأنها من أشرف أنواع الفواكه، ثم ذكر عقبه الزيتون لما فيه من البركة والمنافع الكثيرة في الأكل وسائر وجوه الاستعمال، ثم ذكر عقبه الرمان لما فيه من الفوائد العظيمة لأنه فاكهة ودواء وقيل خص الزيتون والرمان لقرب منابتهما من العرب كما في قول الله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت).
(أنظروا إلى ثمره) أي ثمر كل واحد مما ذكر يعني رطبه وعنبه، قاله محمد بن كعب القرظي قرئ ثمره بفتح الثاء والميم وبضمهما وهو جمع ثمرة كشجرة وشجر، وخشبة وخشب (إذا أثمر) أي إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضعيفاً لا ينتفع به (وينعه) عن البراء قال: نضجه أي إدراكه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع.
أمرهم الله سبحانه بأن ينظروا نظر اعتبار إلى ثمره إذا أثمر وإلى ينعه إذا ينع كيف أخرج هذه الثمرة اللطيفة من هذه الشجرة الكثيفة ونقلها من حال
(4/208)
إلى حال، والثمر في اللغة جناء الشجر واليانع الناضج الذي قد أدرك وحان قطافه، قال ابن الأنباري: الينع جمع يانع كركب وراكب وقال الفراء: أينع أحمر.
(إن في ذلكم) الإشارة إلى ما تقدم ذكره مجملاً ومفصلاً (لآيات) أي لآيات عظيمة أو كثيرة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته، فإن حدوث هاتيك الأجناس المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحد وانتقالها من حال إلى حال على نمط بديع يحار في فهمها الألباب، لا يكاد يكون إلا بإحداث صانع يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته من الوجوه الممكنة على غيره ولا يعوقه عن ذلك ضد يناويه أو ند يقاويه.
(لقوم يؤمنون) بالله استدلالاً بما يشاهدونه من عجائب مخلوقاته التي قصها عليهم، وقيل معنى يؤمنون يصدقون يعني أن الذي يقدر على ذلك قادر على أن يحيي الموتى ولبعثهم.
(4/209)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
(وجعلوا لله شركاء الجن) هذا كلام يتضمن ذكر نوع آخر من جهالاتهم وضلالاتهم، والمعنى أنهم جعلوا شركاء لله فعبدوهم كما عبدوه وعظموهم كما عظموه، قال الحسن: أي أطاعوا الجن في عبادة الأوثان، وقال الزجاج: أطاعوهم فيما سولت لهم من شركهم، وقيل المراد بالجن ههنا الملائكة لاجتنابهم أي استتارهم وهم الذين قالوا الملائكة بنات الله.
وقيل نزلت في الزنادقة الذين قالوا أن الله تعالى وإبليس إخوان، فالله خالق الناس والدواب، وإبليس خالق الحيات والسباع والعقارب، روى ذلك عن الكلبي نقله ابن الجوزي عن ابن السائب والرازي عن ابن عباس، ويقرب من هذا قول المجوس فإنهم قالوا للعالم صانعان هما الرب سبحانه والشيطان وهكذا القائلون إن كل خير من النور وكل شر من الظلمة وهم المانوية.
(4/209)
ومعنى (وخلقهم) قد علموا أن الله خلقهم وخلق ما جعلوه شريكاً لله وهذا كالدليل القاطع على أن المخلوق لا يكون شريكاً لله، وكل ما في الكون محدث مخلوق فامتنع أن يكون شريكاً له في ملكه.
(وخرقوا) بالتشديد على التكثير لأن المشركين ادعوا أن الملائكة بنات الله والنصارى ادعوا أن المسيح ابن الله، واليهود ادعوا أن عزيراً ابن الله فكثر ذلك من كفرهم فشدد الفعل لمطابقة المعنى، وقرئ بالتخفيف، وقرئ وحرفوا من التحريف أي زوروا قال أهل اللغة معنى خرقوا اختلقوا وافتعلوا وكذبوا، يقال اختلق الإفك واخترقه وخرقه، وأصله من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا.
(له بنين وبنات) كائنين (بغير علم) بل قالوا ذلك عن جهل خالص، وقيل بغير علم بحقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب بل رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وإنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره.
ثم بعد حكاية هذا الضلال البين والبهت الفظيع من جعل الجن شركاء لله، وإثبات بنين وبنات له، نزه الله نفسه عن هذه الأقاويل الفاسدة فقال: (سبحانه) وقد تقدم الكلام في معنى سبحانه وفيه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بجلاله (و) معنى (تعالى عما يصفون) تباعد وارتفع عن قولهم الباطل الذي وصفوه به.
(4/210)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
(4/211)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
(بديع السموات والأرض) أي مبتدعهما وقد جاء البديع بمعنى المبدع كالسميع بمعنى المسمع كثيراً، وقيل الأصل بديع سمواته وأرضه والإبداع عبارة عن تكوين الشيء على غير مثال سابق، والاستفهام في (أنى يكون له ولد) للإنكار والاستبعاد أي من كان هذا وصفه وهو أنه خالقهما ومبدع ما فيهما فكيف يكون له ولد، وهو من جملة مخلوقاته وكيف يتخذ ما يخلقه ولداً ثم بالغ في نفي الولد فقال:
(ولم تكن له صاحبة) أي والحال أنه لم تكن له صاحبة، والصاحبة إذا لم توجد استحال وجود الولد (وخلق كل شيء) جملة مقررة لما قبلها لأن من كان خالقاً لكل شيء استحال منه أن يتخذ بعض مخلوقاته ولداً، وهذه الآية حجة قاطعة على فساد قول النصارى (وهو بكل شيء عليم) لا يخفى عليه من مخلوقاته خافية.
(4/211)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
(ذلكم) أي المتصف بالأوصاف السابقة (الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء) أي مما سيكون كما خلق في الماضي فلا تكرار، يعني من كانت هذه صفاته فهو الحقيق بالعبادة (فاعبدوه) ولا تعبدوا غيره ممن ليس له من هذه الصفات العظيمة شيء (وهو على كل شيء وكيل) أي رقيب حفيظ.
(4/211)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
(لا تدركه) أي لا تراه (الأبصار) جمع بصر وهو حاسة النظر أي القوة الباصرة، وقد يقال للعين من حيث إنها محلها أي الحاسة، وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إليه والإحاطة به، قال الزجاج: أي لا يبلغ كنه حقيقته،
(4/211)
فالأبصار ترى الباري عز اسمه ولا تحيط به كما أن القلوب تعرفه ولا تحيط به، قال سعيد بن المسيب: لا تحيط به الأبصار، وقال ابن عباس: كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به، فالمنفى هو هذا الإدراك لا مجرد الرؤية فقد ثبتت الأحاديث المتواترة تواتراً لا شك فيه ولا شبهة ولا يجهله إلا من يجهل السنة المطهرة جهلاً عظيماً.
والحاصل أنه لا متمسك فيه لمنكري الرؤية على الإطلاق.
وأيضاً قد تقرر في علم البيان والميزان أن رفع الإيجاب الكلي سلب جزئي فالمعنى لا تدركه بعض الأبصار، وهي أبصار الكفار، هذا على تسليم أن نفي الإدراك يستلزم نفي الرؤية الخاصة، والآية من سلب العموم لا من عموم السلب، والأول يخلفه الجزئية، والتقدير لا تدركه كل الأبصار بل بعضها وهي أبصار المؤمنين، والمصير إلى أحد الوجهين متعين لما عرفناك من تواتر الرؤية في الآخرة واعتضادها بقوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).
وقد تشبث قوم من أهل البدع وهم الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بظاهر هذه الآية ولا يستتب ذلك كما تقدمت الإشارة إليه، على أن مورد الآية التمدح وهو يوجب ثبوت الرؤية إذ نفى إدراك ما تستحيل رؤيته لا تمدح فيه، لأن كل ما لا يرى لا يدرك وإنما التمدح بنفي الإدراك مع تحقق الرؤية فكانت الحجة لنا عليهم، ولو أمعنوا النظر فيها لاغتنموا التقصي عن عهدتها، ومن ينفي الرؤية يلزمه نفي كونه تعالى معلوماً موجوداً، والكلام في ذلك يطول جداً.
وقد أطال الواحد المتكلم الحافظ ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح في إثبات الرؤية ورد المنكرين لها. والشوكاني في البغية في مسألة الرؤية بما لا
(4/212)
مزيد عليه، وعن ابن عباس ذلك نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء، وفي لفظ إنما ذلك إذا تجلى بكيفيته لم يقم له بصر، وقال أيضاً لا يحيط بصر أحد بالله، وقال الحسن: لا تدركه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة، وعن إسمعيل ابن علبة مثله.
(وهو يدرك الأبصار) أي يحيط بها ويبلغ كنهها لا يخفى عليه منها خافية أو يراها ولا تراه ولا يجوز في غيره أن يدرك البصر وهو لا يدركه، وخص الأبصار ليجانس ما قبله.
قال الزجاج: في هذا دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه انتهى.
(وهو اللطيف) أي الرفيق بعباده يقال لطف فلان بفلان أي رفق به.
واللطف في العمل الرفق فيه واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة، وألطفه بكذا إذا برَّه، والملاطفة المبارَّة هكذا قال الجوهري وابن فارس، و (الخبير) المختبر لكل شيء بحيث لا يخفى عليه شيء، ويجوز أن يكون هذا من باب اللف والنشر المرتب أي لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير فيكون اللطيف مستعاراً من مقابل الكثيف، وهو الذي لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها قاله البيضاوي والأول أولى.
(4/213)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)
(4/214)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
(قد جاءكم بصائر من ربكم) البصائر جمع بصيرة وهي في الأصل نور القلب الذي تبصر به النفس أي الروح كما أن البصر هو النور الذي تبصر به العين، والمراد بها هنا الحجة البينة والبرهان الواضح، وإطلاق البصائر عليها مجاز من إطلاق اسم المسبب على السبب، وهذا الكلام استئناف وارد على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قال في آخره: (وما أنا عليكم بحفيظ)، ووصف البصائر بالمجيء تفخيماً لشأنها وجعلها بمنزلة الغائب المتوقع مجيئه كما يقال جاءت العافية وانصرف المرض وأقبلت السعود وأدبرت النحوس.
(فمن أبصر فلنفسه) أي فمن تعقل الحجة وعرفها وأذعن لها فنفع ذلك لنفسه، لأنه ينجو بهذا الإبصار من عذاب النار (ومن عمي) عن الحجة ولم يتعقلها ولا أذعن لها (فعليها) أي فضرر ذلك على نفسه، لأنه يتعرض لغضب الله في الدنيا ويكون مصيره إلى النار، قال قتادة: فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فعليها.
(وما أنا عليكم بحفيظ) أحصي عليكم أعمالكم، وإنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي وهو الحفيظ عليكم، قال الزجاج: نزل هذا قبل فرض القتال ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان.
(4/214)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
(وكذلك نصرف الآيات) أي مثل ذلك التصريف البديع نصرفها في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه ليعتبروا (وليقولوا درست) أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست أو ليقولوا درست صرفناها، وعلى هذا تكون اللام
(4/214)
للعاقبة أو للصيرورة، والمعنى ومثل ذلك التصريف نصرف الآيات وليقولوا درست فإنه لا احتفال بقولهم ولا اعتداد بهم، فيكون معناه الوعيد والتهديد لهم وعدم الإكتراث بقولهم، وقد أشار إلى مثل هذا الزجاج.
وقال النحاس: وفي المعنى قول آخر حسن وهو أن يكون معنى نصرف الآيات نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا فيذكرون الأول بالآخر، فهذا حقيقته، والذي قاله الزجاج مجاز، والجمهور على كسر اللام وهي لام كي، وجوز أبو البقاء فيها الوجهين.
وفي درست قراآت دارست كفاعلت ودرست كفرحت ودرست كضربت، فعلى الأولى المعنى دارست أهل الكتاب ودارسوك أي ذاكرتهم وذاكروك، ويدل على هذا ما وقع في الكتاب العزيز من إخبار الله عنهم بقوله: (وأعانه عليه قوم آخرون) أي أعان اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم - على القرآن ومثله قولهم [أساطيرالأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلاً]، وقولهم [إنما يعلمه بشر].
والمعنى على الثانية قدمت هذه الآيات وعفت وانقطعت وهو كقولهم أساطير الأولين، وعلى الثالثة مثل المعنى على الأول قال الأخفش: هي بمعنى دارست إلا أنه أبلغ، وقرأ المبرد: وليقولوا بإسكان اللام فيكون بمعنى التهديد أي وليقولوا ما شاءوا فإن الحق بين.
وهذا اللفظ أصله درس يدرس دراسة فهو من الدرس وهو القراءة وقيل من درسته أي ذللته بكثرة القراءة، وأصله درس الطعام أي داسه والدياس الدراس بلغة أهل الشام، وقيل أصله من درست الثوب أدرسه درساً أي أخلقته ودرست المرأة درساً أي حاضت، ويقال: إن فرج المرأة يكنى أبا دراس وهو من الحيض، والدرس أيضاً الطريق الخفي، وحكى الأصمعي بعير لم يدرس أي لم يركب.
(4/215)
وقرأ جمع من الصحابة درس أي محمد الآيات وقريء درست أي الآيات على البناء للمفعول ودارست أي اليهود محمداً، قال ابن عباس: درست قرأت وتعلمت ودارست خاصمت جادلت تلوت.
(ولنبينه) اللام فيه لام كي أي نصرف الآيات لكي نبينه، والضمير راجع إلى الآيات لأنها في معنى القرآن أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه معلوم من السياق أو إلى التبيين المدلول عليه بالفعل (لقوم يعلمون) الحق من الباطل، قال ابن عباس: يريد أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد وقيل المعنى نصرف الآيات ليسعد بها قوم ويشقى بها آخرون، فمن أعرض عنها وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - درست فهو شقي، ومن تبين له الحق وفهم معناها وعمل بها فهو سعيد، وفي هذا دليل قاطع على أن الله جعل تصريف الآيات سبباً لضلالة قوم وشقاوتهم وسعادة قوم وهدايتهم.
(4/216)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)
(اتبع ما أوحي إليك من ربك) أمره الله باتباع ما أوحي إليه وأن لا يشغل خاطره بهم بل يشتغل باتباع ما أمره الله.
وجملة (لا إله إلا هو) معترضة لقصد تأكيد إيجاب الإتباع، ثم أمره الله بالإعراض عنهم بعد أمره باتباع ما أوحي إليه فقال: (وأعرض عن المشركين) أي لا تلتفت إلى رأيهم ولا تحتفل بأقوالهم الباطلة التي من جملتها ما حكي عنهم آنفاً، وعلى هذا لا يجري فيها النسخ لأن المراد منه في الحال لا الدوام، وقيل هذا قبل نزول آية السيف قال السدي: هذا منسوخ نسخه القتال (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) والأول هو الأولى.
(4/216)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
(4/217)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
(ولو شاء الله) عدم إشراكهم (ما أشركوا) أي لجعلهم مؤمنين وفيه أن الشرك بمشيئة الله سبحانه خلافاً للمعتزلة، والكلام في تقرير هذا على الوجه الذي يتعرف به أهل علم الكلام والميزان معروف فلا نطيل بإيراده، قال ابن عباس: يقول الله لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين (وما جعلناك عليهم حفيظاً) أي رقيباً تمنعهم منا ومراعياً لأعمالهم مأخوذاً بإجرامهم (وما أنت عليهم بوكيل) أي قيم بما فيه نفعهم فتجلبه إليهم ليس عليك إلا إبلاغ الرسالة، قال قتادة: الوكيل الحفيظ.
(4/217)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) الموصول عبارة عن الآلهة التي كانت تعبدها الكفار، والمعنى لا تسب يا محمد آلهة هؤلاء الكفار التي يدعونها من دون الله فيتسبي عن ذلك سبهم لله عدواناً وتجاوزاً عن الحق وجهلاً منهم.
وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق والناهي عن الباطل إذا خشي أن يتسبي عن ذلك ما هو أشد منه من انتهاك حرم، ومخالفة حق ووقوع في باطل أشد، كان الترك أولى به بل كان واجباً عليه.
وما أنفع هذه الآية وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله المتصدين لبيانها للناس إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه وتركوا غيره من المعروف، وإذا نهاهم عن منكر فعلوه وفعلوا غيره من المنكرات عناداً للحق وبغضاً لاتباع المحقين، وجرأة على الله سبحانه، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة وجعل المخالفة لها والتجني على أهلها ديدنه وهجيراه كما يشاهد ذلك
(4/217)
في أهل البدع الذين إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل، وإذا أرشدوا إلى السنة قابلوها بما لديهم من البدعة.
فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين المتهاونون بالشرائع وهم أشر من الزنادقة لأنهم يحتجون بالباطل وينتمون إلى البدع، ويتظهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام وتحاماهم أهله، وقد ينفق كيدهم ويتم باطلهم وكفرهم نادراً على ضعيف من ضعفاء المسلمين مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل.
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة غير منسوخة وهي أصل أصيل في سد الذرائع وقطع التطرق إلى الشبه، وقرئ عدوا بالضم وعدوا بالفتح ومعناهما واحد أي ظلماً وعدواناً، وعن ابن عباس قال: قالوا يا محمد- صلى الله عليه وسلم - لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم فيسبوا الله عدواً بغير علم.
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ملعون من سب والديه، قالوا يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه " (1).
(كذلك) أي مثل ذلك التزيين (زينا لكل أمة) من أمر الكفار (عملهم) من الخير والشر والطاعة والمعصية بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقاً وتخذيلاً، وفي هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة حيث قالوا: لا يحسن من الله خلق الكفر وتزيينه.
(ثم إلى ربهم مرجعهم) أي مصيرهم (فينبئهم بما كانوا يعملون) في الدنيا من المعاصي التي لم ينتهوا عنها ولا قبلوا من الأنبياء ما أرسلهم الله به إليهم وما تضمنته كتبه المنزلة عليهم.
_________
(1) البخاري كتاب الكسوف الباب 6.
(4/218)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
(4/219)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
(وأقسموا بالله) أي الكفار مطلقاً أو كفار قريش (جهد أيمانهم) أشدها أي أقسموا أشد أيمانهم التي بلغتها قدرتهم، وقد كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، فلهذا أقسموا به والجهد بفتح الجيم المشقة وبضمها الطاقة ومن أهل اللغة من يجعلهما بمعنى واحد.
والمعنى أنهم اقترحوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وأقسموا (لئن جاءتهم آية) أي هذه الآية التي اقترحوها كما جاءت من قبلهم وهذا إخبار عنهم من الله لا حكاية لقولهم وإلا لقيل لئن جاءتنا قاله أبو حيان (ليؤمنن بها) وليس غرضهم بذلك الإيمان بل معظم قصدهم التهكم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتلاعب بآيات الله وعدم الاعتداد بما شاهدوا منها فأمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بقوله:
(قل إنما الآيات) أي هذه الآية التي يقترحونها وغيرها (عند الله) وليس عندي من ذلك لشيء، فهو سبحانه إن أراد إنزالها أنزلها، وإن أراد أن لا ينزلها لم ينزلها لأن المعجزات الدالة على النبوات شرطها أن لا يقدر على تحصيلها أحد إلا الله تعالى.
(وما يشعركم) أي وما يدريكم يعني أنتم لا تدرون ذلك، قال مجاهد وابن زيد: المخاطب بهذا المشركون، وقال الفراء وغيره: الخطاب للمؤمنين لأن المؤمنين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون فقال الله: وما يشعركم (أنها) قرئ بفتح الهمزة قال الخليل: أنها بمعنى لعلها وفي التنزيل (وما يدريك لعله يزكى) أي أنه يزكى، وحكى عن العرب ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً أي لعلك، وقد وردت أن في كلام العرب كثيراً
(4/219)
بمعنى لعل.
(إذا جاءت لا يؤمنون) قال الكسائي والفراء: أن لا زائدة والمعنى وما يشعركم أنها أي الآيات إذا جاءت يؤمنون فزيدت لا كما زيدت في قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) وفي قوله: (ما منعك أن لا تسجد) وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة لا وقالوا هو خطأ وغلط، وذكر النحاس وغيره أن في الكلام حذفاً والتقدير أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون ثم حذف هذا المقدر لعلم السامع.
(4/220)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
(ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) قيل يعني يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر، والتقلب هو تحويل الشيء وتحريكه عن وجهه إلى وجه آخر، وقيل في الكلام تقديم وتأخير والتقدير أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ونذرهم.
(كما لم يؤمنوا به) في الدنيا (أول مرة) يعني الآيات التي جاء بها موسى وغيره من الأنبياء أو جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المعجزات الباهرات.
وقال ابن عباس: يعني لو ردوا من الآخرة إلى الدنيا نقلب أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان فلا يؤمنون به كما لم يؤمنوا به أول مرة قبل مماتهم (ونذرهم) أي نمهلهم ولا نعاقبهم في الدنيا، فعلى هذا بعض الآيات في الآخرة وبعضها في الدنيا وقيل المعنى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الدنيا أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية كما حلنا بينهم وبين ما دعوتهم إليه أول مرة عند ظهور المعجزة.
(في طغيانهم يعمهون) أي يتحيرون يقال عمه في طغيانه عمها من باب تعب إذا تردد متحيراً مأخوذ من قولهم أرض عمهاء إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة فهو عمه وأعمه، قال ابن عباس: لما جحد المشركون ما أنزل الله لم يثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر.
(4/220)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
(4/221)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
(ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة) أي لو آتيناهم ما طلبوه لا يؤمنون كما اقترحوه بقولهم لولا أنزل عليه ملك (وكلمهم الموتى) الذين يعرفونهم بعد إحيائنا لهم (وحشرنا عليهم كل شيء) مما سألوه من الآيات وأصناف المخلوقات كالسباع والطيور، والحشر الجمع (قبلاً) أي كفلاء وضمناء بما جئناهم به من الآيات البينات أو حال كون الكفار معاينين رائين للآيات والأصناف.
قرئ قبلاً بضم القاف وقبلاً بكسرها أي مقابلة، قال المبرد: قبلاً بمعنى ناحية كما تقول لي قبل فلان مال، وبه قال أبو زيد وجماعة من أهل اللغة وعلى الأول ورد قوله تعالى: (أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً) أي يضمنون كذا قال الفراء وقال الأخفش: هو بمعنى قبيل قبيل أي جماعة جماعة.
وحكى أبو زيد: لقيت فلاناً قبلاً ومقابلة وقبلاً كلها واحد بمعنى المواجهة فيكون على هذا الضم كالكسر وتستوي القراءتان، وهو قول أبي عبيدة والفراء والزجاج، ونقله الواحدي أيضاً عن جميع أهل اللغة، قال ابن عباس: قبلاً معاينة، وقال قتادة: فعاينوا ذلك معاينة، وقال مجاهد: قبلاً أفواجاً، وقيل القبيل الكفيل بصحة ما تقول.
(ما كانوا ليؤمنوا) أي أهل الشقاء لما سبق في علم الله، واللام لام الجحود (إلا أن يشاء الله) أيمانهم أي إيمان أهل السعادة والذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان فإن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن،
(4/221)
والاستثناء مفرغ، وبه قال ابن عباس وصححه الطبري، وقال أبو البقاء والحوفي الاستثناء منقطع وتبعه السيوطي لأن المشيئة ليست من جنس إرادتهم.
واستبعده أبو حيان وجرى على أنه متصل وكذلك البيضاوي وكثير من المعربين كالسفاقسي قالوا: والمعنى ما كانوا ليؤمنوا في حال من الأحوال إلا في حال مشيئته أو في سائر الأزمان إلا في زمن مشيئته، وقيل هو استثناء من علة عامة أي ما كانوا ليؤمنوا لشيء من الأشياء إلا لمشيئة الله الإيمان وهو الأولى كما تقدم، وفي هذا رد على القدرية والمعتزلة في قولهم إن الله أراد الإيمان من جميع الكفار.
(ولكن أكثرهم يجهلون) جهلاً يحول بينهم وبين درك الحق والوصول إلى الصواب، وقال البيضاوي: أي يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعاً في إيمانهم انتهى.
(4/222)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
(وكذلك) أي مثل هذا الجعل (جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن) هذا الكلام استئناف مسوق لتسلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفع ما حصل معه من الحزن بعدم إيمانهم، والمعنى كما ابتليناك بهؤلاء فقد ابتلينا الأنبياء من قبلك بقوم من الكفار فجعلنا لكل واحد منهم عدواً من كفار زمنهم وأن ذلك ليس مختصاً بك، والمراد بالشياطين المردة من الفريقين، والشيطان كل عات متمرد من الجن والإنس، وبه قال ابن عباس ومجاهد وقتادة.
قالوا وشياطين الإنس أشد تمرداً من شياطين الجن، وبه قال مالك بن دينار والإضافة بيانية أو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والأصل الإنس والجن الشياطين، قال ابن عباس: إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم فيلتقي شيطان الإنس وشيطان الجن فيقول هذا لهذا أضلله بكذا وأضلله بكذا، وعنه قال الجن هم الجان وليسوا شياطين، والشياطين ولد
(4/222)
إبليس وهم لا يموتون إلا مع إبليس، والجن يموتون، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر.
وقال ابن مسعود: الكهنة هم شياطين الإنس، وقيل الكل من ولد إبليس وأضيف الشياطين إلى الإنس على معنى أنهم يغوونهم ويضلونهم، وبهذا قال عكرمة والضحاك والكلبي والسدي.
(يوحي بعضهم إلى بعض) أي حال كونهم يوسوس بعضهم لبعض، وقيل: إن الجملة مستأنفة لبيان حال العدو، وسمي وحياً لأنه إنما يكون خفية بينهم وجعل تمويههم (زخرف القول) لتزيينهم إياه والمزخرف المزين وزخارف الماء طرائقه، والزخرف هو الباطل من الكلام الذي قد زين ووشي بالكذب وكل شيء حسن مموه فهو زخرف يغرونهم بذلك (غروراً) هو الباطل.
قال ابن عباس: شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، فإن الله يقول (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) ويحسن بعضهم لبعض القول ليتبعوهم في فتنتهم.
وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس، قال يا نبي الله وهل للإنس شياطين قال نعم شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً " (1).
(ولو شاء ربك ما فعلوه) الضمير يرجع إلى ما ذكر سابقاً من الأمور التي جرت من الكفار في زمنه وزمن الأنبياء قبله أي لو شاء ربك عدم وقوع ما تقدم ذكره ما فعلوه وأوقعوه، وقيل ما فعلوا الإيحاء المدلول عليه بالفعل (فذرهم) أي دع الكفار واتركهم، وهذا الأمر للتهديد كقوله ذرني ومن خلقت وحيداً.
(وما يفترون) إن كانت " ما " مصدرية فالتقدير اتركهم وإفتراءهم وإن كانت موصولة فالتقدير اتركهم والذي يفترونه، وهذا قبل الأمر بالقتال.
_________
(1) النسائي، كتاب الإستعاذة، باب 48 - أحمد بن حنبل 5/ 178 - 265.
(4/223)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
(4/224)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
(ولتصغى) اللام لام كي وقيل اللام للأمر وهو غلط فإنها لو كانت لام الأمر جزمت الفعل، والإصغاء الميل يقال صغوت أصغو وصغيت أصغي ويقال أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض، ويقال صغت النجوم إذا مالت للغروب وأصغت الناقة إذا مالت برأسها.
والضمير في (إليه) لزخرف القول أو لما ذكر سابقاً من زخرف القول وغيره أي أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم ولتصغي إليه (أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) من الكفار والمعنى أن قلوب الكفار تميل إلى زخرف القول وباطله وتحبه وترضى به، وهو قوله (وليرضوه) لأنفسهم بعد الإصغاء إليه (وليقترفوا ما هم مقترفون) من الآثام والإقتراف والاكتساب، يقال خرج ليقترف لأهله أي ليكتسب لهم، وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه، وقرفه إذا رماه بالرمية واقترف كذب، وأصله اقتطاع قطعة من الشيء أي ليكتسبوا من الأعمال الخبيثة ما هم مكتسبون.
وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة لأنه أولاً يكون الخداع فيكون الميل فيكون الرضا فيكون الفعل أي الإقتراف، فكل واحد مسبي عما قبله قاله أبو حيان.
(4/224)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
(أفغير الله) كلام مستأنف وارد على إرادة القول والاستفهام للإنكار أي قل لهم يا محمد كيف أضل وأميل إلى زخارف الشياطين و (ابتغي) غير الله حكماً هو أبلغ من الحاكم كما تقرر في مثل هذه الصفة المشتقة، أمره الله سبحانه وتعالى أن ينكر عليهم ما طلبوه منه من أن يجعل بينهم وبينه حكماً من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى فيما اختلفوا فيه وإن الله هو الحكم العدل بينه وبينهم.
(وهو الذي أنزل إليكم الكتاب) أي القرآن (مفصلاً) مبيناً واضحاً مستوفياً لكل قضية على التفصيل (والذين آتيناهم الكتاب) أي المعهود إنزاله من التوراة والإنجيل والزبور، أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن أهل الكتاب وإن أظهروا الجحود والمكابرة فإنهم (يعلمون أنه) أي القرآن (منزل من ربك) أي من عند الله مما دلتهم عليه كتب الله المنزلة كالتوراة والإنجيل من أنه رسول الله وأنه خاتم الأنبياء (بالحق) حال أي متلبساً بالحق الذي لا شك فيه ولا شبهة (فلا تكونن من الممترين) الشاكين فيه.
نهاه الله عن أن يكون من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون بأن القرآن منزل من عند الله بالحق، وبه قال الزمخشري: أو نهاه عن مطلق الإمتراء ويكون ذلك تعريضاً لأمته عن أن يمتري أحد منهم، أو الخطاب لكل من يصلح له أي فلا يكونن أحد من الناس من الممترين، ولا يقدح في ذلك كون الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن خطابه خطاب لأمته.
(4/225)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
(وتمت كلمة ربك) قرأ أهل الكوفة كلمة بالتوحيد والباقون بالجمع والمراد العبارات أو متعلقاتها من الوعد والوعيد، والمعنى أن الله قد أتم وعده ووعيده فظهر الحق وانطمس الباطل، وقيل المراد بالكلمة أو الكلمات القرآن أي لا أحد يقدر على تحريفه كما فعل بالتوراة فيكون هذا ضماناً له من الله بالحفظ أو لا نبي ولا كتاب بعده ينسخه، ومعنى تمت بلغت الغاية، وعن أنس
(4/225)
مرفوعاً قال: [لا إله إلا الله] أخرجه ابن مردويه وابن النجار.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة ولكل قوم صنم يعبدونه فجعل يأتيها صنماً صنماً ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره فكلما طعن صنماً اتبعه ضرباً بالقوس حتى يكسروه ويطرحوه خارجاً من المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: وتمت كلمات ربك الآية.
(صدقاً وعدلاً) أي تمام صدق وعدل، قال أبو البقاء والطبري النصب على التمييز وتبعهما السيوطي، وقال ابن عطية: هو غير صواب وليس في ذلك إبهام وأعربه الكواشي حالاً من ربك أو مفعولاً له، قال قتادة: صدقاً فيما وعد وعدلاً فيما حكم، وقيل صدقاً فيما أخبر عن القرون الماضية والأمم الخالية، وعما هو كائن إلى قيام الساعة وعدلاً فيما حكم من الأمر والنهي والحلال والحرام وسائر الأحكام.
(لا مبدل لكلماته) لا خلف فيها ولا مغير لما حكم به لما وصفها بالتمام وهو في كلامه تعالى يقتضي عدم قبول النقص والتغير، قال محمد بن كعب القرظي: لا تبديل لشيء قاله في الدنيا والأخرة كقوله: (ما يبدل القول لدي) وفيه دليل على أن السعيد لا ينقلب شقياً ولا الشقي ينقلب سعيداً فالسعيد من سعد من الأزل والشقي من شقي في الأزل (وهو السميع) لكل مسموع (العليم) بكل معلوم ومنه قول المتحاكمين.
(4/226)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
(4/227)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
(وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) أخبره الله سبحانه بأنه إذا رام طاعة أكثر من فيها أضلوه لأن الحق لا يكون إلا بيد الأقلين وهم الطائفة التي لا تزال على الحق ولا يضرها خلاف من خالفها كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل المراد بالأكثر الكفار وبالأرض مكة أي أكثر أهل مكة.
(إن يتبعون إلا الظن) أي ما يتبعون إلا الظن الذي لا أصل له وهو ظنهم أن معبوداتهم تستحق العبادة وأنها تقربهم إلى الله (وإن هم إلا يخرصون) أي يحدسون ويقدرون، وأصل الخرص القطع ومنه خرص النخل يخرص إذا حرزه ليأخذ منه الزكاة فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به إذ لا يقين منه أي إذا كان هذا حال أكثر من في الأرض فالعلم الحقيقي هو عند الله فاتبع ما أمرك به ودع عنك طاعة غيره.
(4/227)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
(إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) أي بمن يهتدي إليه، قال بعض أهل العلم: إن أعلم في الموضعين بمعنى يعلم والوجه في هذا التأويل إن أفعل التفضيل لا ينصب الإسم الظاهر فتكون من منصوبة بالفعل الذي جعل أفعل التفضيل نائباً عنه، وقيل إن أفعل على بابه، والنصب بفعل مقدَّر، وقيل: إنها منصوبة بأفعل، أي إن ربك أعلم أيَّ الناس يضلُّ عن سبيله.
(4/227)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
(فكلوا) في هذه الفاء وجهان (أحدهما) أنها جواب شرط مقدر قاله
(4/227)
الزمخشري (والثاني) أنها عاطفة على محذوف، قاله الواحدي وهو الظاهر (مما ذكر اسم الله عليه) عند ذبحه، لما تقدم ذكر ما يصنعه الكفار في الأنعام من تلك السنن الجاهلية أمر الله المسلمين بأن يأكلوا مما ذكر الاسم الشريف عليه.
وقيل إنها نزلت في سبب خاص كما أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: (إنكم لمشركون) ولكن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل ما ذكر الذابح عليه اسم الله حل إن كان مما أباح الله أكله وقال عطاء في هذه الآية الأمر بذكر الله على الشراب والذبح وكل مطعوم.
والشرط في (إن كنتم) للتهييج والإلهاب (بآياته مؤمنين) أي بأحكامه من الأوامر والنواهي التي من جملتها الأمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه لا مما ذكر عليه اسم غيره فقط أو مع اسمه تعالى أو مات حتف أنفه، وهذا يدل على أن الخطاب للمسلمين وقيل كانوا يحرمون أصنافاً من النعم ويحلون الميتة فقيل أحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله، وعلى هذا الخطاب للمشركين والأول أولى.
(4/228)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
(وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) الاستفهام للإنكار أي ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه بعد أن أذن لكم بذلك، وفيه تأكيد في إباحة ما ذبح على اسم الله دون غيره (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) أي والحال أنه قد بين لكم بياناً مفصلاً يدفع الشك ويزيل الشبهة بقوله: (قل لا أجد فيما أوحي إلى محرماً) الآية وقال السيوطي يعني آية (حرمت عليكم الميتة) أي آية المائدة.
وحينئذ في المقام إشكال أورده الرازي وحاصله أن سورة الأنعام مكية
(4/228)
وسورة المائدة مدنية من آخر القرآن نزولاً بالمدينة، وقوله: (وقد فصل لكم) يقتضي أن ذلك التفصيل قد تقدم على هذا المحل، والمدني متأخر عن المكي، فيمتنع كونها متقدمة ثم قال: بل الأولى أن يقال هو قوله بعد هذه الآية: (قل لا أجد) وهذه وإن كانت مذكورة بعدها بقليل إلا أن هذا القدر من التأخر لا يمنع أن يكون هو المراد انتهى.
قلت وذكر المفسرون وجهاً آخر وهو أن الله علم أن سورة المائدة متقدمة على سورة الأنعام في الترتيب لا في النزول فبهذا الاعتبار حسنت الحوالة على ما في المائدة بقوله: (وقد فصل لكم) باعتبار تقدمه في الترتيب وإن كان متأخراً في النزول والله أعلم.
ثم استثنى فقال: (إلا ما اضطررتم إليه) من جميع ما حرمه عليكم فإن الضرورة تحلل الحرام وقد تقدم تحقيقه في البقرة قال قتادة: ما اضطررتم إليه من الميتة والدم ولحم الخنزير والاستثناء كما قال الحوفي منقطع، وبه قال التفتازاني، وقال أبو البقاء: متصل من طريق المعنى لأنه وبخهم بترك الأكل مما سمي عليه، وذلك يتضمن إباحة الأكل مطلقاً، وحاصله أن الاستثناء من الجنس فهو متصل، وقال زكريا فيه: إنه لا يكون حينئذ استثناء متصلاً بل هو استثناء مفرغ من الظرف العام المقدر.
(وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم) هم الكفار الذين كانوا يحرمون البحيرة السائبة ونحوهما فإنهم بهذه الأفعال المبنية على الجهل كانوا يضلون الناس فيتبعونهم ولا يعلمون أن ذلك جهل وضلالة لا يرجع إلى شيء من العلم، قال سعيد بن جبير: يعني من مشركي العرب ليضلون في أمر الذبائح (إن ربك هو أعلم بالمعتدين) أي بمن تعدى حدوده فأحل ما حرم وحرم ما أحل الله فيجازيهم على سوء صنيعهم.
(4/229)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
(4/230)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
(وذروا ظاهر الإثم وباطنه) الظاهر ما كان يظهر كأفعال الجوارح، والباطن ما كان لا يظهر كأفعال القلب، وقيل ما أعلنتم وما أسررتم، وقيل الزنا الظاهر والزنا المكتوم، وقال ابن عباس: الظاهر نكاح الأمهات والبنات، والباطن هو الزنا، وقال سعيد بن جبير: الظاهر منه لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء وحرمت عليكم أمهاتكم الآية، والباطن الزنا، وقال قتادة: علانيته وسره.
وقال السدي: الظاهر الزواني في الحوانيت، وهن صواحب الرايات، والباطن المرأة يتخذها الرجل صديقة فيأتيها سراً، وقال ابن زيد: ظاهر الإثم التجرد من الثياب والتعري في الطواف، والباطن الزنا، وقيل هذا النهي عام في جميع المحرمات التي نهى الله عنها وهو الأولى، فإن الاعتبار بعموم اللفظ دون خصوص السبب، وبه قال ابن الإنباري، وإنما أضاف الظاهر والباطن إلى الإثم لأنه يتسبب عنهما.
(إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون) توعد الكاسبين للإثم بالجزاء بسبي افترائهم على الله سبحانه.
(4/230)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
(ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) نهى الله سبحانه عن أكل ما لم يذكر اسمه الشريف عليه بعد أن أمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، وفيه دليل على تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وقد اختلف أهل العلم في ذلك فذهب ابن عمر ونافع مولاه والشعبي وابن سيرين وهو رواية عن مالك وأحمد
(4/230)
ابن حنبل وبه قال أبو ثور وداود الظاهري أن ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح حرام من غير فرق بين العامد والناسي لهذه الآية، ولقوله تعالى في آية الصيد: (فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) ويزيد هذا الاستدلال تأكيداً قوله سبحانه في هذه الآية (وإنه لفسق).
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتسمية في الصيد وغيره، وذهب الشافعي وأصحابه وهو رواية عن مالك وعن أحمد أن التسمية مستحبة لا واجبة وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء بن أبي رياح، وحمل الشافعي الآية على من ذبح لغير الله، وهو تخصيص للآية بغير مخصص، وقد روى أبو داود في المراسيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ذبيحة المسلم حلال ذكر الله أو لم يذكر " (1) وليس في هذا المرسل ما يصلح لتخصيص الآية.
نعم حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن قوماً يأتوننا بلحمان لا ندري ذكر اسم الله عليه أم لا فقال: " سموا أنتم وكلوا " (2)، يفيد أن التسمية عند الأكل يجزى مع التباس وقوعها عند الذبح، وذهب مالك وأحمد في المشهور عنهما وأبو حنيفة وأصحابه وإسحق بن راهويه أن التسمية إن تركت نسياناً لم يضر، وإن تركت عمداً لم يحل أكل الذبيحة، وهو مروي عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء وطاووس والحسن البصري وأبى مالك وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة.
واستدلوا بما أخرجه البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " المسلم إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله " (3)، وهذا الحديث رفعه خطأ، وإنما هو من قول ابن عباس.
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 3039.
(2) ابن كثير 2/ 169.
(3) ابن كثير 2/ 170.
(4/231)
نعم يمكن الاستدلال لهذا المذهب بمثل قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا) كما سبق تقريره بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ".
أما حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن عدي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت الرجل هنا يذبح وينسى أن يسمي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اسم الله على كل مسلم " (1)، فهو حديث ضعيف قد ضعفه البيهقي وغيره.
وقال ابن عباس الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها، وقال عطاء إنها في تحريم الذبائح كانوا يذبحونها على اسم الأصنام.
(و) الضمير في (إنه لفسق) يرجع إلى " ما " بتقدير مضاف ويجوز أن يرجع إلى مصدر تأكلوا، وقد تقدم تحقيق الفسق، والواو للاستئناف أو للحال، وقد استدل من حمل هذه الآية على ما ذبح لغير الله بقوله: (وإنه لفسق) ووجه الاستدلال أن الترك لا يكون فسقاً بل الفسق الذبح لغير الله، ويجاب عنه بأن إطلاق اسم الفسق على تارك ما فرضه الله عليه غير ممتنع شرعاً.
(وإن الشياطين) أي إبليس وجنوده (ليوحون إلى أوليائهم) أي يوسوسون لهم بالوساوس المخالفة للحق المباينة للصواب (ليجادلوكم) أي قاصدين بذلك أن يجادلكم هؤلاء الأولياء بما يوسوسون لهم (وإن أطعتموهم) فيما يأمرونكم به وينهونكم عنه (إنكم لمشركون) مثلهم، قال الزجاج: فيه دليل على أن كل من أحل شيئاً مما حرم الله أو حرم شيئاً مما أحل الله فهو مشرك وإنما سمي مشركاً لأنه أثبت. حاكماً غير الله.
_________
(1) ابن كثير 2/ 169.
(4/232)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
(4/233)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
(أو) الهمزة للإنكار والواو للعطف (من كان ميتاً فأحييناه) المراد بالميت هنا الكافر أحياه الله بالإسلام والهدى، وقيل معناه كان ميتاً حين كان نطفة فأحياه بنفخ الروح فيه، والأول أولى لأن السياق يشعر بذلك لكونه في تنفير المسلمين عن اتباع المشركين، وكثيراً ما تستعار الحياة للهداية وللعلم، والموت للكفر والجهل.
(وجعلنا له نوراً) النور عبارة عن الهداية والإيمان، وقيل هو القرآن وقيل الحكمة، وقيل هو النور المذكور في قوله تعالى: (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) وقيل المراد به اليقين (يمشي) أي يستضيء (به في الناس) ويهتدي إلى قصد السبيل، والضمير في به راجع إلى النور (كمن مثله) أي صفته (في الظلمات) أي لا يستويان.
وقيل مثل زائدة، والمعنى كمن في الظلمات كما تقول أنا أكرم من مثلك أي منك، ومثله فجزاء مثل ما قتل من النعم وليس كمثله شيء وقيل المعنى كمن مثله مثل من هو في الظلمات، والمعنى كمن هو خابط في ظلمة الكفر وظلمة الجهالة وظلمة عمى البصيرة.
و (ليس بخارج منها) في محل نصب على الحال أي حال كونه ليس بخارج من تلك الظلمات بحال من الأحوال، وقيل المراد بهما حمزة وأبو جهل قاله ابن عباس، وعن زيد بن أسلم في الآية قال: نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل بن هشام كانا ميتين في ضلالتهما فأحيا الله عمر بالإسلام وأعزه وأقر أبا جهل في ضلالته وموته، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا
(4/233)
فقال: " اللهم أعز الإسلام بأبي جهل أو بعمر " (1).
قال عكرمة والكلبي: نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل، وقال مقاتل: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل، والحق أن الآية عامة في حق كل مؤمن وكافر، وبه قال الحسن.
(كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) المزين هو الله سبحانه ويدل عليه قوله: (زينا لهم أعمالهم) ولأن حصول الفعل يتوقف على حصول الدواعي وحصولها لا يكون إلا بخلق الله، فدل ذلك على أن المزين هو الله سبحانه، وقالت المعتزلة: المزين هو الشيطان ويرده ما تقدم.
_________
(1) المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/ 83.
(4/234)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
(وكذلك) أي مثل ذلك الجعل بمكة (جعلنا في كل قرية أكابر) الأكابر جمع أكبر قيل هم الرؤساء والعظماء وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد والغدر وترويج الباطل بين الناس من غيرهم، وإنما حصل ذلك لأجل رياستهم، وذلك سنة الله أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءها وجعل فساقها أكابر (مجرميها) قال الواحدي في الآية تقديم وتأخير أي مجرميها أكابر، وإنما جعل المجرمين أكابر لأن ما فيهم من السعة أدعى لهم إلى المكر والكفر.
(ليمكروا فيها) بالصد عن الإيمان، واللام على ظاهرها أو للعاقبة أو للعلة مجازاً، قال أبو عبيدة: المكر الخديعة والغدر والحيلة والفجور، وزاد بعضهم الغيبة والنميمة والأيمان الكاذبة وترويج الباطل، قال ابن عباس: ليقولوا فيها الكذب، عن عكرمة قال: نزلت في المستهزئين، وقيل المعنى ليتجبروا على الناس فيها ويعملوا بالمعاصي، دليله (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض).
(وما يمكرون إلا بأنفسهم) المكر الحيلة في مخالفة الاستقامة وأصله الفتل، فالماكر يفتل عن الاستقامة أي يصرف عنها أي ما يحيق هذا المكر إلا بهم لأن وبال مكرهم عائد عليهم (وما يشعرون) بذلك لفرط جهلهم.
(4/234)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
(4/235)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
(وإذا جاءتهم آية) من الآيات أي حجة بينة ودلالة واضحة على صدق محمد- صلى الله عليه وسلم - والمعنى إذا جاءت الأكابر آية (قالوا) هذه المقالة (لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله) وإنما قالوها حسداً منهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل المعنى إذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا لن نصدقك حتى يأتينا جبريل ويخبرنا بصدقك يريدون أنهم لا يؤمنون حتى يكونوا أنبياء متبوعين لا تابعين.
وهذا نوع عجيب من جهالاتهم الغريبة وعجرفتهم العجيبة ونظيره (يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة) قال بعضهم يسن الوقف هنا ويستجاب الدعاء بين هاتين الجلالتين (قلت) لعل هذا من التجارب دون المأثورات.
فأجاب الله عنهم بقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) أي أن الله أعلم بمن يستحق أن يجعله رسولاً ويكون موضعاً لها وأميناً عليها، وقد اختار أن يجعلها في محمد - صلى الله عليه وسلم - صفيه وحبيبه، فدعوا طلب ما ليس من شأنكم، عن ابن جريج قال: قالوا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه من الحق: لو كان هذا حقاً لكان فينا من هو أحق أن يؤتى به من محمد، [وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم].
ثم توعدهم بقوله: (سيصيب الذين أجرموا صغار) أي ذل وهوان،
(4/235)
وأصله من الصغر كان الذل يصغر إلى المرء نفسه، وقيل الصغار هو الرضاء بالذل، روي ذلك عن ابن السكيت.
(عند الله) أي في الآخرة يوم القيامة وقيل في الدنيا (وعذاب شديد) في الآخرة أو في الدارين من القتل والأسر وعذاب النار (بما كانوا يمكرون) أي بسبب مكرهم وحسدهم.
(4/236)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) الشرح الشق وأصله التوسعة وشرحت الأمر بينته وأوضحته، والمعنى من يرد الله هدايته للحق يوسع صدره حتى يقبله بصدر منشرح.
أخرج ابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن أبي جعفر المدايني رجل من بني هاشم، وليس هو محمد بن علي، قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية وقالوا كيف شرح صدره يا رسول الله قال: نور يقذف فيه فينشرح صدره له وينفسح له، قالوا فهل لذلك من أمارة يعرف بها قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت " (1)، وقد روي بطرق يقوي بعضها بعضاً والمتصل يقوي المرسل، فالمصير إلى هذا التفسير النبوي متعين.
(ومن يرد أن يضله) يصرف اختياره إليه (يجعل صدره ضيقاً) بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يكاد يدخله الإيمان، جعل بمعنى صير أو خلق أو سمى، وهذا الثالث ذهب إليه الفارسي وغيره من معتزلة النحاة، وضيقاً بالتشديد وقرئ بالتخفيف مثل هين ولين، وهما لغتان.
(حرجاً) بالفتح جمع حرجة وهي شدة الضيق والحرجة الفيضة والجمع حريج وحرجات، ومنه فلان يتحرج أي يضيق على نفسه، وبالكسر معناه الضيق، كرر المعنى تأكيداً وحسن ذلك اختلاف اللفظ، وقال الجوهري: مكان
_________
(1) ابن كثير 2/ 174.
(4/236)
حرج أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية، والحرج الإثم وقال الزجاج: الحرج أضيق الضيق فالمعنى يجعل صدره ضيقاً حتى لا يدخله الإيمان.
وقال الكلبي: ليس للخير فيه منفذ، وقال ابن عباس: إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه، وإذا سمع ذكر الأصنام ارتاح إلى ذلك، وفي الآية دليل على أن جميع الأشياء بمشيئة الله وإرادته حتى إيمان المؤمن وكفر الكافر.
(كأنما يصعد في السماء) قرئ بالتخفيف من الصعود شبه الكافر في ثقل الإيمان عليه بمن يتكلف ما لا يطيقه كصعود السماء، وقرئ يصاعد، وأصله يتصاعد وقرئ يصعد بالتشديد وأصله يتصعد ومعناه يتكلف ما لا يطيق مرة بعد مرة كما يتكلف من يريد الصعود إلى السماء المظلة أو إلى مكان مرتفع وعر كالعقبة، وقيل المعنى على جميع القراآت كاد قلبه يصعد إلى السماء نبواً عن الإسلام وتكبراً، وقيل ضاق عليه المذهب فلم يجد إلا أن يصعد إلى السماء، وليس يقدر على ذلك.
وقيل هو المشقة وصعوبة الأمر، وقال ابن عباس: كما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء كذلك لا يقدر على أن يدخل الإيمان والتوحيد قلبه حتى يدخله الله في قلبه، ومن أراد أن يضله يضيق عليه حتى يجعل الإسلام عنه ضيقاً والإسلام واسع، وذلك حيث يقول: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) يقول ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق.
(كذلك) أي مثل ذلك الجعل الذي هو جعل الصدر ضيقاً حرجاً (يجعل الله الرجس) هو في اللغة النتن وقيل هو العذاب، وقيل هو الشيطان يسلطه الله (على الذين لا يؤمنون) قاله ابن عباس: وقيل هو ما لا خير فيه، قاله مجاهد، والمعنى الأول هو المشهور في لغة العرب وهو مستعار لما يحل بهم من العقوبة، ويصدق على جميع المعاني المذكورة، وقال الزجاج: الرجس في الدنيا اللعنة وفي الآخرة العذاب.
(4/237)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
(4/238)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
(وهذا) أي ما أنت عليه يا محمد ومن معك من المؤمنين (صراط ربك) أي دينه (مستقيماً) لا اعوجاج فيه، وقال ابن مسعود: يعني القرآن لأنه يؤدي من تبعه وعمل به إلى طريق الاستقامة والسداد، وقيل الإشارة إلى ما تقدم مما يدل على التوفيق والخذلان، أي هذا هو عادة الله في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
(قد فصلنا الآيات) أي بيناها وأوضحناها (لقوم يذكرون) أي لمن يذكر ما فيها ويتفهم معانيها وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن تبعهم بإحسان.
(4/238)
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
(لهم دار السلام) أي لهؤلاء المتذكرين الجنة لأنها دار السلام من كل مكروه، وبه قال جمهور المفسرين، أو دار الرب السلام مدخرة لهم (عند ربهم) يوصلهم إليها، قال قتادة: دار السلام الجنة، وقال جابر بن زيد: السلام هو الله وقال السدي والحسن: الله هو السلام وداره الجنة، وقيل المراد بالسلام التحية أي دارها وهي الجنة والمعنى متقارب.
(وهو وليهم) أي ناصرهم ومتولي إيصال الخير إليهم (بما كانوا يعملون) أي بسبب أعمالهم الصالحة التي كانوا يتقربون بها إليه في الدنيا.
(4/238)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
(و) اذكر (يوم نحشرهم) أي الخلق (جميعاً) في القيامة أو المعنى يوم الحشر نقول: (يا معشر الجن) المراد بهم الشياطين والمعشر الجماعة والجمع معاشر (قد استكثرتم من الإنس) أي من الاستمتاع بهم كقوله (ربنا استمتع
(4/238)
بعضنا ببعض) وقيل استكثرتم من إغوائهم وإضلالهم حتى صاروا في حكم الأتباع لكم فحشرناهم معكم، ومثله قولهم استكثر الأمير من الجنود، والمراد التوبيخ والتقريع، وعلى الأول فالمراد بالاستمتاع التلذذ من الجن بطاعة الإنس لهم ودخولهم فيما يريدون منهم.
(وقال أولياؤهم من الإنس) لعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين وهم الإنس دون المضلين وهم الجن للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً.
(ربنا استمتع بعضنا ببعض) أما استمتاع الجن بالإنس فهو ما تقدم من تلذذهم باتباعهم لهم، وأما استمتاع الإنس بالجن فحيث قبلوا منهم تحسين المعاصي فوقعوا فيها وتلذذوا بها، فذلك هو استلذاذهم بالجن.
وقيل استمتاع الإنس بالجن أنه كان إذا مر الرجل بواد في سفره وخاف على نفسه قال: أعوذ برب هذا الوادي من جميع ما أحذر، يعني ربه من الجن، ومنه قوله تعالى: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً) وقيل استمتاع الجن بالإنس أنهم كانوا يصدقونهم فيما يقولون من الأخبار الغيبية الباطلة، واستمتاع الإنس بالجن أنهم كانوا يتلذذون بما يلقونه إليهم من الأكاذيب والأراجيف والسحر وينالون بذلك شيئاً من حظوظ الدنيا كالكهان.
(وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا) أي يوم القيامة اعترافاً منهم بالوصول إلى ما وعدهم الله به مما كانوا يكذبون به، قال الحسن والسدي: الأجل الموت، وقيل هو وقت البعث والحساب يوم القيامة، وهذا تحسر منهم على حالهم أي أن ذلك الاستمتاع كان إلى أجل معين محدود، ثم ذهب وبقيت الحسرة والندامة.
ولما قالوا هذه المقالة أجاب الله عليهم و (قال النار مثواكم) أي موضع مقركم ومقامكم، والمثوى المقام، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر (خالدين فيها) أي مقيمين في نار جهنم أبداً (إلا ما شاء الله) المعنى الذي تقتضيه لغة
(4/239)
العرب في التركيب أنهم يخلدون في النار في كل الأوقات إلا في الوقت الذي يشاء الله عدم بقائهم فيها، وعليه جرى السيوطي تبعاً لشيخه المحلي في سورة الصافات، وهو مخالف في ذلك لقوله تعالى: (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها).
والعجب منه أنه اختار هذا التفسير مع أنه في كتابه الدر المنثور قال: إن السلف على أن الكفار لا يخرجون من النار أصلاً، قاله القاري، وقال الزجاج: إن الاستثناء يرجع إلى يوم القيامة أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في الحساب إلى حين دخولهم إلى النار، وهو تعسف لأن الاستثناء هو من الخلود الدائم ولا يصدق على من لم يدخل النار. وقيل الاستثناء راجع إلى النار أي إلا ما شاء الله من تعذيبهم بغيرها في بعض الأوقات كالزمهرير، وبه فسر النسفي والشهاب وزاده الآية.
وقيل الاستثناء لأهل الإيمان و (ما) بمعنى من أي إلا من شاء الله إيمانه فإنه لا يدخل النار، وبه قال ابن عباس كما حكاه الجمهور، وبه قال الكرخي، وقيل المعنى إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب.
وكل هذه التأويلات متكلفة والذي ألجأ إليها ما ورد في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من خلود الكفار في النار أبداً، ولكن لا تعارض بين عام وخاص لا سيما بعد وروده في القرآن مكرراً كما سيأتي في سورة هود (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) ولعله يأتي هنالك إن شاء الله تعالى زيادة تحقيق.
قال ابن عباس: في هذه الآية إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه أن لا ينزل لهم جنة ولا ناراً، وقد أوضح المقام الحافظ ابن القيم رحمه الله في كتابه حادي الأرواح فليرجع إليه.
(إن ربك حكيم) أي في تدبير خلقه وتصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال وغير ذلك من أفعاله (عليم) بعواقب أمور خلقه وما هم إليه صائرون.
(4/240)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
(4/241)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
(وكذلك) أي مثل ما جعلنا ما بين الجن والإنس ما سلف (نولي بعض الظالمين بعضاً) أي نجعل بعضهم يتولى البعض فيكونون بعضهم أولياء بعض ثم يتبرأ بعضهم من البعض، فمعنى نولي على هذا نجعله ولياً له، وقال عبد الرحمن ابن زيد: معناه نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس، وروي عنه أنه فسر هذه الآية بأن المعنى نسلط بعض الظلمة على بعض فنهلكه ونذله فيكون في الآية على هذا تهديد للظلمة بأن من لم يمتنع من ظلمه منهم سلط الله عليه ظالماً آخر.
وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم فقف وانظر متعجباً وقيل معنى نولي نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر، وقال قتادة: المعنى المؤمن ولي المؤمن حيث كان وأين كان، والكافر ولي الكافر حيث كان وأين كان، وقال ابن عباس في الآية: أن الله إذا أراد بقوم خيراً ولي عليهم خيارهم وإذا أراد بقوم شراً ولى عليهم شرارهم.
(بما كانوا يكسبون) الباء للسببية أي بسبب كسبهم الذنوب ولينا بعضهم بعضاً قال قتادة: يولي الله بعض الظالمين بعضاً في الدنيا، ويتبع بعضهم بعضاً في النار من الموالاة، وقال الأعمش سمعتهم يقولون إذا فسد الزمان أمر عليهم شرارهم.
(4/241)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
(يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) أي يوم نحشرهم لنقول لهم ألم يأتكم، وهو شروع في حكاية ما سيكون في الحشر من توبيخ المعشرين بما يتعلق بخاصة أنفسهم إثر حكاية توبيخ الجن بإغواء الإنس وإضلالهم إياهم.
(4/241)
وظاهره أن الله يبعث في الدنيا إلى الجن رسلاً منهم كما يبعث إلى الإنس رسلاً منهم، وبه قال الضحاك، وقيل معنى منكم أي ممن هو مجانس لكم في الخلق والتكليف والقصد بالمخاطبة فإن الجن والإنس متحدون في ذلك وإن كان الرسل من الإنس خاصة فهم من جنس الجن من تلك الحيثية، وبه قال أكثر أهل العلم وابن عباس.
وقيل: إنه من باب تغليب الإنس على الجن كما يغلب الذكر على الأنثى، وبه قال الفراء والزجاج، وقيل المراد بالرسل إلى الجن ههنا النذر منهم كما في قوله (ولوا إلى قومهم منذرين) عن مجاهد قال: ليس في الجن رسل إنما الرسالة في الإنس، والنذارة في الجن، ونحو ذلك قال ابن جريج وأبو عبيدة، وقيل التقدير رسل من أحدكم يعني من جنس الإنس.
والحاصل أن الخطاب للإنس وإن تناولهما اللفظ فالمراد أحدهما كقوله تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) وإنما يخرج من الملح دون العذب، وقال تعالى: (وجعل القمر فيهن نوراً) وإنما هو في سماء واحدة.
(يقصون عليكم آياتي) أي يقرأون كتبي الدالة على توحيدي وتصديق رسلي ويتلونها مع التوضيح والتبيين، والقاص من يأتي بالقصة، وقد تقدم بيان معنى القص (وينذرونكم لقاء يومكم هذا) وهو يوم القيامة، يقول الله ذلك لهم تقريعاً وتوبيخاً.
(قالوا) أي كفار الإنس والجن (شهدنا على أنفسنا) هذا إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم بإرسال رسله إليهم، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر (وغرتهم الحياة الدنيا) جملة معترضة أي لذاتها ومالوا إليها فكانت عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة عليهم بالكفر.
(4/242)
(وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين) هذه شهادة أخرى منهم على أنفسهم بالكفر في الدنيا بالرسل المرسلين إليهم والآيات التي جاؤوا بها، وقد تقدم ما يفيد أن مثل هذه الآية المصرحة بإقرارهم بالكفر على أنفسهم ومثل قولهم: (والله ربنا ما كنا مشركين) محمول على أنهم يقرون في بعض مواطن يوم القيامة، وينكرون في بعض آخر، لطول ذلك اليوم واضطراب القلوب فيه، وطيشان العقول وانغلاق الأفهام وتبلد الأذهان.
(4/243)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
(ذلك) إشارة إلى شهادتهم على أنفسهم أو إلى إرسال الرسل إليهم (أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) المعنى أن الله أرسل الرسل إلى عباده، لأنه لم يهلك من عصاه بالكفر من القرى والحال أنهم غافلون عن الأعذار والإنذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب، بل إنما يهلكهم بعد إرسال الرسل إليهم وارتفاع الغفلة عنهم بإنذار الأنبياء لهم كقوله: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً).
وقيل المعنى ما كان الله مهلك أهل القرى بظلم منه فهو سبحانه يتعالى عن الظلم، بل إنما يهلكهم بعد أن يستحقوا ذلك وترتفع الغفلة عنهم بإرسال الأنبياء وقيل المعنى أن الله لا يهلك أهل القرى بسبب ظلم من يظلم منهم مع كون الآخرين غافلين عن ذلك فهو مثل قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
(4/243)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
(4/244)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
(ولكل) من الجن والإنس، وقيل من المؤمنين خاصة، وقيل من الكفار خاصة لأنها جاءت عقيب خطاب الكفار إلا أنه يبعده قوله: (درجات) أي متفاوتة، وقد يقال أن المراد بها هنا المراتب وإن غلب استعمالها في الخير (مما عملوا) فيجازيهم بأعمالهم كما قال في آية أخرى (ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون).
وفيه دليل على أن المطيع من الجن في الجنة والعاصي في النار، قال الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، وعن ليث ابن أبي سليم قال: مسلمو الجن لا يدخلون الجنة ولا النار، وذلك أن الله أخرج أباهم من الجنة فلا يعيده ولا يعيد ولده.
وعن ابن عباس قال: الخلق أربعة فخلق في الجنة كلهم وخلق في النار كلهم وخلقان في الجنة والنار، فأما الذين في الجنة كلهم فالملائكة، وأما الذين في النار كلهم فالشياطين، وأما الذين في الجنة والنار فالإنس والجن لهم الثواب وعليهم العقاب (وما ربك بغافل عما يعملون) من أعمال الخير والشر والغفلة ذهاب الشيء عنك لاشتغالك بغيره، قيل هذا مختص بأهل الكفر والمعاصي، ففيه وعيد وتهديد لهم، والأولى شموله لكل المعلومات على التفصيل التام.
(4/244)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
(وربك الغني) عن خلقه لا يحتاج إليهم ولا إلى عبادتهم لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم ومع كونه غنياً عنهم فهو (ذو الرحمة) لا يكون غناؤه
(4/244)
عنهم مانعاً من رحمته لهم، وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام، فإن الرحمة لهم مع الغنى عنهم هي غاية التفضل والتطول، ومن جملة رحمته إرسال الرسل للخلق وإبقاؤهم بلا استئصال بالهلاك فهذا الوصف يناسب سابق الكلام ولا حقه.
(إن يشا يذهبكم) أيها العباد العصاة فيستأصلكم بالعذاب المفضي إلى الهلاك، وقيل الخطاب لأهل مكة ففيه وعيد وتهديد لهم، والعموم أولى ويدخل فيه أهل مكة دخولاً أولياً (ويستخلف) أي ينشئ ويوجد (من بعدكم) أي بعد إهلاككم (ما يشاء) من خلقه ممن هم أطوع له وأسرع إلى امتثال أحكامه منكم (كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) أي من نسل قوم لم يكونوا على مثل صفتكم بل كانوا طائعين، قيل هم أهل سفينة نوح وذريتهم من بعدهم من القرون إلى زمنكم.
قال الواحدي والزمخشري: ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فلم يهلكهم ولا استخلف غيرهم رحمة لهم ولطفاً بهم، وقال الرازي: المراد منه خلق ثالث أو رابع، واختلفوا فيه فقيل خلقاً آخر من أمثال الجن والإنس.
قال القاضي: وهو الوجه الأقرب فكأنه نبه أن قدرته ليست مقصورة على جنس دون جنس، وقال الطبري: المعنى كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلكم، (والذرية الأصل) والنسل قاله أبان ابن عثمان.
(4/245)
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
(إنما توعدون) من مجيء الساعة والبعث والحساب والمجازاة (لآت) لا محالة عن قريب فإن الله لا يخلف الميعاد (وما أنتم بمعجزين) أي بفائتين عما هو نازل بكم وواقع عليكم، يقال أعجزني فلان أي فاتني وغلبني، وقال ابن عباس: أي سابقين، وقيل هاربين منه وهو مدرككم لا محالة.
والمراد بيان دوام انتفاء الإعجاز لا بيان انتفاء دوامه فإن الجملة الاسمية كما تدل على دوام الثبوت كذلك تدل بمعونة المقام إذا دخل عليها حرف النفي على دوام الانتفاء لا على انتفاء الدوام كما حقق في موضعه قاله الكرخي.
(4/245)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
(قل يا قوم) من كفار قريش (اعملوا على مكانتكم) المكانة الطريقة أي اثبتوا على ما أنتم عليه فإني غير مبال بكم ولا مكترث بكفركم، وقيل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى قدرتكم واستطاعتكم وإمكانكم، قاله الزجاج، وقال ابن عباس: على ناحيتكم وجهتكم.
والمقصود من هذا الأمر الوعيد والتهديد والمبالغة في الزجر عما هم عليه، فهو كقوله:
(اعملوا ما شئتم) فلا يرد ما يقال كيف يأمركم بالثبات على الكفر.
(إني عامل) على مكانتي أي ثابت على ما أنا عليه (فسوف) لتأكيد مضمون الجملة وهذه الجملة تعليل لما قبلها.
(تعلمون) أي تعرفون عند نزول العذاب بكم أو غداً يوم القيامة.
(من تكون له عاقبة الدار) وهي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها أي من له النصر في دار الدنيا ومن له وراثة الأرض ومن له الدار الآخرة، ومن هو على الحق ومن هو على الباطل، نحن أم أنتم، وفيه مع الإنذار إنصاف في المقال وتنبيه على كمال وثوق المنذر بأمره.
(4/246)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
(وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً) هذا بيان نوع آخر من أنواع كفرهم وجهلهم وإيثارهم لآلهتهم على الله سبحانه أي جعلوا لله سبحانه مما خلق من حرثهم ونتاج دوابهم وهي الإبل والبقر والغنم نصيباً ولآلهتهم نصيباً من ذلك أي قسماً يصرفونه في سدنتها والقائمين بخدمتها، فإذا ذهب ما لآلهتهم بأنفاقه في ذلك عوضوا عنه ما جعلوه لله قالوا الله غني عن ذلك.
وعن ابن عباس قال: جعلوا لله من ثمارهم ومائهم نصيباً وللشيطان والأوثان نصيباً فإن سقط من ثمره ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه وإن سقط مما جعلوه للشيطان في نصيب الله ردوه إلى نصيب الشيطان، وإن انفجر من سقي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه وإن انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله نزحوه، فهذا ما جعلوا لله من الحرث وسقي الماء وأما ما جعلوه للشيطان من الأنعام فهو قول الله (ما جعل الله من بحيرة) الآية.
وقال مجاهد: جعلوا لله جزءاً ولشركائهم جزءاً فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه وقالوا الله عن هذا غني، وما ذهبت به الريح من أجزاء أوثانهم إلى جزء الله أخذوه، والأنعام التي سمى الله البحيرة والسائبة.
(فقالوا هذا لله بزعمهم) الزعم الكذب وقرئ بضم الزاي وبفتحها وهما لغتان وإنما نسبوا للكذب في هذه المقالة مع أن كل شيء لله لأن هذا الجعل لم يأمرهم الله به فهو مجرد اختراع منهم، قال الأزهري: وأكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه ولا يتحقق قال بعضهم هو كناية عن الكذب.
(4/247)
وقال المرزوقي: أكثر ما يستعمل فيما كان باطلاً أو فيه ارتياب، وقال ابن القوطية: زعم زعماً قال خبراً لا يدري أحق هو أو باطل، قال الخطابي: ولهذا قيل: زعموا مطية الكذب وزعم غير مزعم، قال غير مقول صالح وادعى ما لا يمكن.
(وهذا لشركائنا) أي الأصنام (فما كان لشركائهم) أي ما جعلوه لها من الحرث والأنعام (فلا يصل إلى الله) أي إلى المصارف التي شرع الله الصرف فيها كالصدقة وصلة الرحم وقراء الضيف (وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم) أي يجعلونه لآلهتهم وينفقونه في مصالحها (ساء ما يحكمون) أي حكمهم في إيثارهم آلهتهم على الله سبحانه ورجحان جانب الأصنام على جانب الله تعالى في الرعاية والحفاظة، وهذا سفه منهم.
وقيل معنى الآية أنهم كانوا إذا ذبحوا ما جعلوه لله ذكروا عليه اسم أصنامهم، وإذا ذبحوا ما لأصنامهم لم يذكروا عليه اسم الله فهذا معنى الوصول إلى الله والوصول إلى شركائهم (1).
_________
(1) وكانوا إذا زكا ما لله، ولم يزك ما لشركائهم، ردوا الزاكي على أصنامهم، وقالوا: هذه أحوج، والله غني؛ وإذا زكا ما للأصنام، ولم يترك ما لله، أقروه على ما به.
قال المفسرون: وكانوا يصرفون ما جعلوا لله إلى الضيفان والمساكين. فمعنى قوله:
(فلا يصل إلى الله) أي: إلى هؤلاء ويصرفون نصيب آلهتهم في الزرع إلى النفقة على خُدامها. نصيبها في الأنعام، ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه كان للنفقة عليها أيضاً والثاني: أنهم كانوا يتقربون به، فيذبحونه لها.
والثالث: أنه البحيرة، والسائبة- والوصيلة، والحام.
(4/248)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
(4/249)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
(وكذلك) أي ومثل ذلك التزيين الذي زينه الشيطان لهم في قسمة أموالهم بين الله وبين شركائهم (زين لكثير من المشركين قتل أولادهم) قال الفراء والزجاج: (شركاؤهم) ههنا هم الذين كانوا يخدمون الأوثان وقيل هم الغواة من الناس، وقيل هم الشياطين، وأشار بهذا إلى الوأد وهو دفن البنات مخافة السباء والحاجة، وقيل كان الرجل يحلف بالله لئن ولد له كذا من المذكور لينحرن أحدهم كما فعله عبد المطلب.
قرئ زين بالبناء للفاعل ونصب قتل ورفع شركاؤهم على أنه فاعل زين، وقرئ بضم الزاي، ورفع قتل وخفض أولاد ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دل عليه زين كأنه لما قيل زين لهم الخ قيل من زينه فقيل زينه شركاؤهم وقرئ بضم الزاي ورفع قتل ونصب أولاد وخفض شركاؤهم بإضافة القتل إليه مفصولاً بين المصدر وما هو مضاف إليه بالمفعول.
قال النحاس: إن هذه القراءة لا تجوز في كلام ولا في شعر وهي بعيدة، وفي القرآن أبعد، وقال ابن حمدان النحوي: هي زلة عالم لم يجز اتباعه، وقال قوم ممن انتصر لهذه القراءة إنها إذا ثبتت بالتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي فصيحة لا قبيحة، قالوا وقد ورد ذلك في كلام العرب وفي مصحف عثمان شركائهم بالياء.
(4/249)
قلت دعوى التواتر باطلة بإجماع القراء المعتبرين كما بين الشوكاني ذلك في رسالة مستقلة فمن قرأ بما يخالف الوجه النحوي فهو رد عليه، ولا يصح الاستدلال لصحة هذه القراءة بما ورد من الفصل في النظم، فإن ضرورة الشعر لا يقاس عليها.
وفي الآية قراءة رابعة وهي جر الأولاد والشركاء، ووجه ذلك أن الشركاء بدل من الأولاد لكونهم شركاءهم في النسب والميراث.
(ليردوهم) من الإرداء وهو الإهلاك أي فعلوا ذلك التزيين لإهلاكهم (وليلبسوا عليهم دينهم) أي يخلطوه عليهم، قال ابن عباس: ليدخلوا عليهم الشك في دينهم، وكانوا على دين إسمعيل فرجعوا عنه بتلبيس الشياطين (ولو شاء الله) عدم فعلهم (ما فعلوه) أي ذلك الفعل الذي زين لهم من تحريم الحرث والأنعام وقتل الأولاد، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وإذا كان ذلك بمشيئة الله (فذرهم وما يفترون) أي فدعهم وافتراءهم فذلك لا يضر، والفاء فاء الفصيحة.
(4/250)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
(وقالوا هذه أنعام وحرث حجر) هذا بيان نوع آخر من جهالاتهم وضلالاتهم، وهذه إشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم، والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله: (أنعام) فهو وحرث خبر عن اسم الإشارة، والحجر بكسر أوله وسكون ثانيه، وقرئ بضم الحاء والجيم وبفتح الحاء وإسكان الجيم، وقرئ حرج بتقديم الراء على الجيم من الحرج وهو الضيق، والحجر على اختلاف القراآت فيه هو مصدر بمعنى محجور كذبح وطحن بمعنى مذبوح ومطحون، يستوي فيه الواحد والكثير، والمذكر والمؤنث وأصله المنع، فمعنى الآية هذه أنعام وحرث ممنوعة يعنون أنها لأصنامهم، قال مجاهد: يعني بالأنعام البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، قال ابن عباس: الحجر ما حرموا من الوصيلة وقال قتادة والسدي حجر أي حرام.
(4/250)
(لا يطعمها إلا من نشاء) وهم خدام الأصنام والرجال دون النساء (بزعمهم) لا حجة لهم فيه فجعلوا نصيب الآلهة أقساماً ثلاثة الأول ما ذكره بقوله حجر، والثاني ما ذكره بقوله: (وأنعام حرمت ظهورها) أي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، حموا ظهورها عن الركوب وقيل: إن هذا القسم أيضاً مما جعلوه لآلهتهم (و) القسم الثالث (أنعام لا يذكرون اسم الله عليها) عند الذبح وهي ما ذبحوا لآلهتهم فإنهم يذبحونها باسم أصنامهم لا باسم الله وقيل: إن المراد لا يحجون عليها ولا يركبونها لفعل الخير.
(افتراء عليه) أي اختلاقاً وكذباً على الله سبحانه، نصب على العلة والجار متعلق به والتقدير قالوا ما تقدم لأجل الافتراء على الباري، وهو مذهب سيبويه، وهذا أظهر، وقال الزجاج: هو مصدر على غير المصدر لأن قوله المحكى عنهم افتراء فهو نظير قعد القرفصاء، وقيل: إنه مصدر عامله من لفظه مقدر أي افتروا ذلك افتراء، وقيل قالوا ذلك حال افترائهم وهي تشبه الحال المؤكدة.
(سيجزيهم بما كانوا يفترون) أي بافترائهم أو بالذي يفترونه، وفيه وعيد وتهديد لهم.
(4/251)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
ثم بين الله سبحانه نوعاً آخر من جهالاتهم فقال:
(4/252)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
(وقالوا ما في بطون هذه الأنعام) يعنون أجنة البحائر والسوائب وقيل هو اللبن (خالصة لذكورنا) أي حلال لهم، والهاء في خالصة للمبالغة في الخلوص كعلامة ونسابة، قاله الكسائي والأخفش، وقال الفراء: تأنيثها لتأنيث الأنعام ورد بأن ما في بطون الأنعام غير الأنعام، وتعقب هذا الرد بأن ما في بطونهما أنعام وهي الأجنة، " وما " عبارة عنها فيكون تأنيث خالصة باعتبار المعنى.
(ومحرم على) جنس (أزواجنا) وهي النساء فيدخل في ذلك البنات والأخوات ونحوهن وتذكير محرم باعتبار لفظ ما (وإن يكن) أي الذي في بطون الأنعام (ميتة فهم فيه) أي في الذي في البطون (شركاء) يأكل منه الذكور والإناث (سيجزيهم) الله (وصفهم) أي بوصفهم الكذب على الله، وقيل المعنى سيجزيهم جزاء وصفهم (إنه حكيم عليم) فلأجل حكمته وعلمه لا يترك جزاءهم الذي هو من مقتضيات الحكمة.
ثم بين الله سبحانه نوعاً آخر من جهالاتهم فقال:
(4/252)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
(قد خسر الذين قتلوا أولادهم) أي بناتهم بالوأد الذي كانوا يفعلونه (سفهاً) أي لأجل السفه وهو الطيش والخفة لا لحجة عقلية ولا شرعية، قال عكرمة: نزلت فيمن كان يئد البنات من مضر وربيعة وقال قتادة: هذا صنع أهل الجاهلية، وكان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة ويغذو كلبه (بغير علم) يهتدون به (وحرموا ما رزقهم الله) من الأنعام التي سموها بحائر وسوائب (افتراء على الله) أي للافتراء عليه أو افتروا افتراء عليه.
(4/252)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
(قد ضلوا) عن طريق الصواب والرشاد بهذه الأفعال (وما كانوا مهتدين) إلى الحق ولا هم من أهل الاستعداد لذلك، قال ابن عباس: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام (قد خسر الذين) الآية أخرجه البخاري.
(وهو الذي أنشأ) أي خلق (جنات) بساتين، وهذا تذكير لهم ببديع قدرة الله وعظيم صنعه (معروشات) مرفوعات ممسوكات على الأعمدة (وغير معروشات) غير مرفوعات عليها، وقيل المعروشات ما انبسط على وجه الأرض مما يعرش مثل الكرم والقرع والبطيخ، وغير العروشات ما قام على ساق مثل النخل والزرع وسائر الأشجار.
وقال الضحاك: كلاهما في الكرم خاصة لأن منه ما يعرش ومنه ما لا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطاً، وقيل العروشات ما أنبته الناس وغرسوه، وغير العروشات ما نبت في البراري والجبال من الثمار، قاله ابن عباس، وقال قتادة: معروشات بالعيدان والقصب، وغير معروشات الضاحي، وأصل العرش في اللغة شيء مسقف يجعل عليه الكرم وجمعه عروش يقال عرشت الكرم أعرشه عرشاً وعرشته تعريشاً إذا جعلته كهيئة السقف، واعترش العنب العريش إذ علاه وركبه.
(و) أنشأ (النخل والزرع) وهو جميع الحبوب التي تقتات وتدخر، وخصهما بالذكر مع دخولهما في الجنات لما فيهما من الفضيلة على سائر ما ينبت في الجنات حال كونه (مختلفاً أكله) أي أكل كل واحد منهما في الطعم والجودة
(4/253)
والرداءة، والمراد بالأكل المأكول أي مختلف المأكول من كل منهما في الهيئة والطعم.
قال الزجاج: وهذه مسألة مشكلة في النحو، يعني انتصاب مختلفاً على الحال لأنه يقال قد أنشاها ولم يختلف أكلها، فالجواب أن الله سبحانه أنشأها مقدراً فيها الاختلاف، وهذه هي الحال المقدرة المشهورة عند النحاة المدونه في كتب النحو، وقال مختلفاً أكله ولم يقل أكلهما اكتفاء بإعادة الذكر على أحدهما كقوله: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها) أو الضمير بمنزلة اسم الإشارة أي أكل ذلك.
(و) أنشأ (الزيتون والرمان) حال كونهما (متشابها) ورقهما في المنظر (وغير متشابه) في المطعم وقد تقدم الكلام على تفسير هذا (كلوا من ثمره) أي من ثمر كل واحد منهما أو من ثمر ذلك (إذا أثمر) أي إذا حصل فيه الثمر وإن لم يدرك ويبلغ حد الحصاد، وهذا أمر إباحة وبه تمسك بعضهم فقال الأمر قد يرد لغير الوجوب، لأن هذه الصيغة مفيدة لدفع الحرج وقيل المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الواجب، وقيل المعنى ليعلم أن المقصود من خلق هذه الأشياء هو الأكل، وقيل ليعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر ولا يتوهم إنه لا يباح إلا إذا أدرك.
(وآتوا حقه يوم حصاده) أي جذاذه وقطعه، قرئ بفتح الحاء وكسرها وهما لغتان في المصدر كقولهم جذاذ وجذاذ وقطاف وقطاف، قال سيبويه: جاءوا بالمصدر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال، وربما قالوا فيه فعال يعني أن هذا مصدر خاص دال على معنى زائد على مطلق المصدر، فإن المصدر الأصلي إنما هو الحصد، والحصد ليس فيه دلالة على انتهاء زمان ولا عدمها بخلاف الحصاد والحصاد.
وقد اختلف أهل العلم هل الآية محكمة أو منسوخة أو محمولة على
(4/254)
الندب، فذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير إلى أنها محكمة، وأنه يجب على المالك يوم الحصاد أن يعطي من حضر من المساكين القبضة والضغث ونحوهما، وذهب أنس بن مالك وابن عباس ومحمد بن الحنفية والحسن والنخعي وطاووس وأبو الشعثاء وقتادة والضحاك وابن جريج وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب إلى أنها منسوخة بالزكاة، واختاره ابن جرير.
ويؤيده أن هذه الآية مكية، وآية الزكاة مدنية في السنة الثانية بعد الهجرة، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف، قال ابن عباس: نسخت آية الزكاة كل صدقة في القرآن.
وقالت طائفة من العلماء أن الآية محمولة على الندب لا على الوجوب، وأخرج ابن المنذر والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية قال: " ما سقط من السنبل " وقال ابن عمر كانوا يعطون من اعتراهم شيئاً سوى الصدقة، وعن مجاهد قال: إذا حصدت فحضرك المساكين فأطرح لهم من السنبل.
وقال ميمون بن مهران ويزيد بن الأصم: كان أهل المدينة إذا صرموا النخل يجيئون بالعذق فيضعونه في المسجد فيجيء السائل فيضربه بالعصا فيسقط منه فهو قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده) وقال حماد بن أبي سليمان في الآية: كانوا يطعمون منه رطباً، وأخرج أحمد وأبو داود في سننه من حديث جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من كل حادي عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين وإسناده جيد، وقال ابن عباس: أيضاً نسخها العشر ونصف العشر وعن السدي نحوه، وقال الشعبي: إن في المال حقاً سوى الزكاة وعن أبي العالية قال ما كانوا يعطون شيئاً سوى الزكاة.
وقال علي بن الحسن وعطاء ومجاهد وحماد: هو إطعام من حضر وترك ما سقط من الزرع والتمر، وقال سعيد بن جبير: كان هذا حقاً يؤمر بإخراجه في
(4/255)
ابتداء الإسلام ثم صار منسوخاً بإيجاب العشر، واختاره الطبري وصححه واختار الأول الواحدي والرازي، وقيل المعنى وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التصفية.
ثم إنهم تبادروا وأسرفوا فأنزل الله (ولا تسرفوا) أي في التصدق بإعطاء كله، وأصل الإسراف في اللغة الخطأ والإسراف في النفقة التبذير، وقال سفيان: ما أنفقت في غير طاعة الله فهو سرف وإن كان قليلاً، قال السدي: معناه لا تعطوا أموالكم وتقعدوا فقراء.
قال الزجاج: وعلى هذا لو أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئاً فقد أسرف، لأنه قد صح في الحديث ابدأ بمن تعول، وقال سعيد بن المسيب: معناه لا تمنعوا الصدقة أي لا تجاوزوا الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة.
وعلى هذين القولين المراد بالإسراف مجاوزة الحد إلا أن الأول في البذل والإعطاء، والثاني في الإمساك والبخل، وقال مقاتل: معناه لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام، وقال الزهري: لا تنفقوا في معصية الله، وقال ابن زيد: هو خطاب للولاة يقول لهم لا تأخذوا فوق حقكم من رب المال، وقيل المعنى لا تأخذوا الشيء بغير حقه وتضعونه في غير مستحقه.
(إنه لا يحب المسرفين) اعتراض وفيه وعيد وزجر عن الإسراف في كل شيء لأن من لا يحبه الله فهو من أهل النار، وعن ابن جريج قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جد نخلا فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليس له تمرة فأنزل الله هذه الآية وعن مجاهد قال: لو أنفقت مثل أبي قيس ذهباً في طاعة الله لم يكن إسرافاً ولو أنفقت صاعاً في معصية الله كان إسرافاً، وللسلف في هذا مقالات طويلة.
(4/256)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
(و) أنشأ لكم (من الأنعام) شروع في تفصيل حال الأنعام وإبطال ما تقولوا في شأنها بالتحريم والتحليل (حمولة وفرشاً) الحمولة هي كل ما يحمل عليها واختصت بالإبل فهي فعولة بمعنى فاعلة، والفرش ما يتخذ من الوبر والصوف والشعر فراشاً يفرشه الناس، وقيل الحمولة الإبل، والفرش الغنم، وقيل هي كل ما حمل عليه من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، والفرش الغنم، وهذا لا يتم إلا على فرض صحة إطلاق اسم الأنعام على جميع هذه المذكورات.
قال ابن مسعود: الفرش صغار الإبل التي لا تحمل، وبه قال ابن عباس: وزاد الحمولة ما حمل عليه والفرش ما أكل منه، قال أبو العالية: الفرش الضأن والمعز قيل سمي فرشاً لأنه يفرش للذبح ولأنه قريب من الأرض لصغره، قال الزجاج: أجمع أهل اللغة على أن الفرش صغار الإبل، قال أبو زيد: يحتمل أن يكون تسمية بالمصدر لأن الفرش في الأصل مصدر والفرش لفظ مشترك بين معان كثيرة منها ما تقدم ومنها متاع البيت والفضاء الواسع واتساع خف البعير قليلاً والأرض الملساء ونبات يلتصق بالأرض.
(كلوا مما رزقكم الله) من الثمار والزرع والأنعام وأحلها لكم (ولا تتبعوا خطوات الشيطان) أي طرقه وآثاره كما فعل المشركون وأهل الجاهلية من تحريم ما لم يحرمه الله وتحليل ما لم يحلله (إنه) أي الشيطان (لكم عدو مبين) مظهر للعداوة ومكاشف بها.
(4/257)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
ثم بين الحمولة والفرش فقال: (ثمانية أزواج) اختلف في انتصاب ثمانية على ماذا قال الكسائي بفعل مضمر أي وأنشأ ثمانية أصناف، وقال الأخفش سعيد: هو منصوب على البدل من حمولة وفرشاً، وقال الأخفش: على هو منصوب بكلوا أي كلوا لحم ثمانية، وقيل منصوب على أنه بدل من ما في (مما رزقكم الله).
والزوج خلاف الفرد يقال: زوج أو فرد كما يقال شفع أو وتر، يعني ثمانية أفراد، وإنما سمي الفرد زوجاً في هذه الآية لأن كل واحد من الذكر والأنثى زوج بالنسبة إلى الآخر، ويقع لفظ الزوج على الواحد فيقال هما زوج وهو زوج وتقول اشتريت زوجي حمام أي ذكراً وانثى والحاصل أن الواحد إذا كان منفرداً سواء كان ذكراً أو أنثى قيل له فرد، وإن كان الذكر مع أنثى من جنسه قيل لهما زوج ولكل واحد منهما على إنفراده زوج، ويقال لهما أيضاً زوجان ومنه قوله تعالى: (وجعل منه الزوجين الذكر والأنثى).
(من الضأن) أي ذوات الصوف من الغنم وهو جمع ضائن ويقال للأنثى ضائنة والجمع ضوائن، وقيل هو جمع لا واحد، وقيل اسم جمع، وقيل في جمعه ضئين كعبد وعبيد، قال النحاس: الأكثر في كلام العرب المعز والضأن بالإسكان.
(اثنين) أي الذكر والأنثى يعني الكبش والنعجة (ومن المعز اثنين) أي الذكر والأنثى يعني التيس والعنز، فالتيس للذكر والعنز للأنثى إذا أتى عليها حول والمعز من الغنم خلاف الضأن وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار، وهو اسم جنس لا واحد من لفظه، وواحد المعز ماعز مثل صحب
(4/258)
وصاحب، وركب وراكب، وتجر وتاجر، والجمع معزى والأنثى ماعزة، واثنين بدل من ثمانية أزواج صرح به أبو البقاء، وهو ظاهر قول الزمخشري.
والمراد من هذه الآية أن الله سبحانه بين حال الأنعام وتفاصيلها إلى الأقسام المذكورة توضيحاً للامتنان بها على عباده، ودفعاً لما كانت الجاهلية تزعمه من تحليل بعضها وتحريم بعض، تقولاً على الله سبحانه وافتراء عليه.
عن ابن عباس قال: الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعز، أخرجه البيهقي وابن جرير وغيرهما، وليت شعري ما فائدة نقل هذا الكلام عن ابن عباس من مثل هؤلاء الأئمة فإنه لا يتعلق به فائدة، وكون الأزواج الثمانية هي المذكورة هو هكذا في الآية مصرحاً به تصريحاً لا لبس فيه.
قال أبو السعود: وهذه الأزواج الأربعة تفصيل للفرش، ولعل تقديمها في التفصيل مع تأخر أصلها في الإجمال لكون هذين النوعين عرضة للأكل الذي هو معظم ما يتعلق به الحل والحرمة وهو السر في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى: (كلوا مما رزقكم الله) من غير تعرض للانتفاع بالحمل والركوب وغير ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتها.
(قل) يا محمد لمن حرم ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى ونسب ذلك إلى الله (آلذكرين حرم أم الأنثيين) منهما (أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) منهما المراد بالذكرين الكبش والتيس، وبالأنثيين النعجة والعنز، وانتصاب الذكرين بحرم، والأنثيين معطوف عليه منصوب بناصبه والهمزة للإنكار، والمعنى الإنكار على المشركين في أمر البحيرة وما ذكر معها، وقولهم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، أي قل لهم إن كان حرم المذكور، فكل ذكر حرام وإن كان حرم الإناث فكل أنثى حرام وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين يعني من الضأن والمعز فكل مولود حرام ذكراً كان أو أنثى وكلها مولود فيستلزم أن كلها حرام.
(نبئوني) أي أخبروني (بعلم) لا بجهل عن كيفية تحريم ذلك وفسروا
(4/259)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
لي ما حرمتم والمراد من هذا التبكيت لهم والتعجيز وإلزام الحجة لأنه يعلم أنه لا علم عندهم (إن كنتم صادقين) في أن الله حرم ذلك عليكم.
وهكذا الكلام في قوله: (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين) هذه أربعة أزواج أخر بقية الثمانية، قال الشوكاني: وينبغي أن ينظر في وجه تقديم المعز والضأن على الإبل والبقر مع كون الإبل والبقر أكثر نفعاً وأكبر أجساماً وأعود فائدة لا سيما في الحمولة والفرش اللذين وقع الإبدال منهما على ما هو الوجه الأوضح في إعراب ثمانية.
(قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين) قال ليث بن أبي سليم: الجاموس والبختي من الأزواج الثمانية.
وفي هاتين الآيتين تقريع وتوبيخ من الله لأهل الجاهلية بتحريمهم ما لم يحرمه الله، وذكر الرازي وجهين آخرين في معنى هذه الآية ونسبهما إلى نفسه فقال: إن هذا الكلام ما ورد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم بل هو استفهام على سبيل الإنكار، يعني أنكم لا تقرون بنبوة نبي ولا تعترفون بشريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وهذا يحرم.
والوجه الثاني أنكم حكمتم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام مخصوصاً بالإبل فالله تعالى بين أن النعم عبارة عن هذه الأنواع الأربعة، وهي الضأن والمعز والبقر والإبل، فَلِمَ لم تحكموا بهذه الأحكام في هذه الأنواع الثلاثة وهي
(4/260)
الضأن والمعز والبقر فكيف خصصتم الإبل بهذا الحكم دون هذه الأنواع الثلاثة انتهى؟.
(أم) هي المنقطعة بمعنى بل، والاستفهام للإنكار أي بل (كنتم شهداء) حاضرين مشاهدين (إذ) أي وقت أن (وصاكم الله) في زعمكم (بهذا) التحريم والمراد التبكيت والإلزام بالحجة كما سلف قبله (فمن) أي لا أحد (أظلم ممن افترى على الله كذباً) فحرم شيئاً لم يحرمه الله ونسب ذلك إليه افتراء عليه كما فعله كبراء المشركين (ليضل) اللام للعلة أي لأجل أن يضل (الناس بغير علم) أي بجهل أو افتراء عليه جاهلاً بصدور التحريم، وإنما وصفوا بعدم العلم بذلك مع أنهم عالمون بعدم صدوره عنه إيذاناً بخروجهم في الظلم عن حدود النهايات.
(إن الله لا يهدي القوم الظالمين) على العموم وهؤلاء المذكورون في السياق داخلون في ذلك دخولاً أولياً، ويدخل في هذا الوعيد كل من كان على طريقهم أو ابتدع شيئاً لم يأمر الله به ولا رسوله ونسب ذلك إلى الله، لأن اللفظ عام فلا وجه للتخصيص، فكل من أدخل في دين الله ما ليس فيه فهو داخل في هذا الوعيد.
(4/261)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
(قل لا أجد فيما أوحي إلي) أي القرآن وفيه إيذان بأن مناط الحل والحرمة هو النقل لا محض العقل، ومعنى (محرماً على طاعم) أي أيُّ طاعم كان من ذكر أو أنثى، فهذا رد لقولهم: (ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا).
وفي (يطعمه) زيادة تأكيد وتقرير لما قبله، قال طاووس: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء ويحلون أشياء فنزلت هذه الآية، وقال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، ثم تلا هذه الآية وقال: ما خلا هذا فهو حلال، وعن الشعبي أنه سئل عن لحم الفيل والأسد فتلا هذه الآية.
والمعنى أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحي إليه محرماً غير هذه المذكورات، فدل ذلك على انحصار المحرمات فيها لولا أنها مكية، وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة وزيد فيها على هذه المحرمات المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير وتحريم الحمر الأهلية والكلاب ونحو ذلك وأحاديثها مستوفاة في كتب الحديث.
وبالجملة فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات كما يدل عليه السياق ويفيده الإستثناء فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب أو
(4/262)
السنة مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات، وإن كان هذا العموم هو بالنسبة إلى كل شيء حرمه الله من حيوان وغيره فإنه يضم إليه كل ما ورد بعده مما فيه تحريم شيء من الأشياء.
وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية، وروي ذلك عن مالك وهو قول ساقط ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه لإهمال غيرها مما نزل بعدها من القرآن وإهمال ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله بعد نزول هذه الآية بلا سبب يقتضي ذلك ولا موجب يوجبه.
أخرج البخاري وأبو داود وابن المنذر عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن أبى ذلك البحر ابن عباس وقرأ (قل لا أجد) الآية.
وأقول وإن أبى ذلك البحر ابن عباس فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتمسك بقول صحابي في مقابلة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف.
(إلا) منقطع قاله المكي والسيوطي، وظاهر كلام الزمخشري أنه متصل، وإليه نحا السمين (أن يكون) ذلك الشيء المحرم أو ذلك الطعام أو العين أو الجثة أو النفس (ميتة) وقرئ يكون بالتحتية والفوقية، وميتة بالرفع على أن كان تامة والمراد بالميتة هنا ما مات بنفسه لأجل عطف قوله (أو فسقاً) فإنه من أفراد الميتة شرعاً.
وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه
(4/263)
عن ابن عباس أن شاة لسودة بنت زمعة ماتت فقالت يا رسول الله ماتت فلانة تعني الشاة فقال: فلولا أخذتم مسكها (1) قالت: يا رسول الله أنأخذ مسك شاة قد ماتت فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قل لا أجد) الآية وأنتم لا تطعمونه وإنما تدبغونه حتى تستنفعوا به، الحديث، ومثل هذا حديث شاة ميمونة ومثله حديث " إنما حرم من الميتة أكلها " وهما في الصحيح (2).
(أو دماً مسفوحاً) أي جارياً سائلاً مصبوباً وغير المسفوح معفو عنه كالدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح ومنه الكبد والطحال، وهكذا ما يتلطخ به اللحم من الدم، وقد حكى القرطبي الإجماع على هذا، والسفح الصب وقيل السيلان وهو قريب من الأول، وسفح يستعمل قاصراً ومتعدياً، يقال سفح زيد دمعه ودمه أي إهراقه، وسفح هو إلا أن الفرق بينهما وقع باختلاف المصدر ففي المتعدي، يقال سفح وفي اللازم يقال سفوح، ومن المتعدي قوله تعالى: (أو دماً مسفوحاً) فإن اسم المفعول التام لا يبنى إلا من متعد، ومن اللازم ما أنشده أبو عبيدة لكثير عزة.
أقول ودمعي واكف عند رسمها ... عليك سلام الله والدمع يسفح
قال ابن عباس: مسفوحاً أي مهراقاً، كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا أو أو دجوا الدابة وأخذوا الدم فأكلوه قال هو دم مسفوح، ومسفوحاً على قراءة العامة معطوف على ميتة وقيل معطوف على المستثنى وهو أن يكون.
_________
(1) جلدها.
(2) روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي ثعلبة قال. " حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأهلية " وزاد أحمد " ولحم كل ذي ناب من السباع " وقد صح النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية من حديث البراء بن عازب، وابن عمر، وأبي هريرة، وزاهر الأسلمي، وابن أبي أوفى. وروى الجماعة إلا البخاري والترمذي عن ابن عباس قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير " وروى مسلم في " صحيحه " 3/ 1534 عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كل ذي ناب من السباع حرام ". ابن كثير، 2/ 184.
(4/264)
(أو لحم خنزير) ظاهر تخصيص اللحم أنه لا يحرم الانتفاع منه بما عدا اللحم، والضمير في (فإنه) راجع إلى الخنزير أو اللحم لأنه المحدث عنه وإن كان غيره من باقي أجزائه أولى بالتحريم، فلذلك خص اللحم بالذكر لكونه معظم المقصود من الحيوان فغيره أولى (رجس) أي نجس، وقد تقدم تحقيقه (أو فسقاً) عطف على لحم خنزير، وما بينهما اعتراض مقرر لحرمته (أهل لغير الله به) صفة فسقاً أي ذبح على الأصنام، ورفع الصوت على ذبحه باسم غير الله، وسمي فسقاً لتوغله في باب الفسق.
وقيل يجوز أن يكون فسقاً مفعولاً له لأهل أي أهل به لغير الله فسقاً على عطف أهل على يكون وهو تكلف لا حاجة إليه، وقيل ذا فسق أي معصية فهذا من قبيل المبالغة على حد زيد عدل، وفي زاده جعل العين المحرمة عين الفسق مبالغة في كون تناولها فسقاً، وقيل إنه منصوب عطفاً على محل المستثنى أي إلا أن يكون ميتة أو إلا فسقاً.
(فمن اضطر) أي فمن أصابته ضرورة داعية إلى أكل شيء مما ذكر حال كونه (غير باغ) على مضطر آخر مثله تارك لمواساته أو على المسلمين (ولا عاد) متجاوز قدر حاجته من تناوله أو عليهم بقطع الطريق (فإن ربك غفور رحيم) أي كثير المغفرة والرحمة فلا يؤاخذ المضطر بما دعت إليه ضرورته، وقد تقدم تفسيره في البقرة فلا نعيده.
(4/265)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
(4/266)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
(وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) قدم الظرف على الفعل للدلالة على أن هذا التحريم مختص بهم لا يجاوزهم إلى غيرهم وهم اليهود، ذكر الله ما حرمه عليهم عقب ذكر ما حرمه على المسلمين، والظفر واحد الأظفار، ويجمع أيضاً على أظافير، وزاد الفراء في جمع ظفر أظافر وأظافرة، وذو الظفر ما له أصبع من دابة أو طائر، ويدخل فيه الحافر والخف والمخلب، فيتناول الإبل والبقر والغنم والنعام والأوز والبط، وكل ما له مخلب من الطير وحافر من الدواب، وتسمية الحافر والخف ظفراً مجاز.
والأولى حمل الظفر على ما يصدق عليه اسم الظفر في لغة العرب لأن هذا التعميم يأباه ما سيأتي من قوله: (ومن البقر والغنم) فإن كان في لغة العرب بحيث يقال على البقر والغنم كان ذكرهما من بعد تخصيصاً آخر، حرم الله ذلك عليهم عقوبة لهم على ما وقعوا فيه من الظلم كما قال تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم).
عن ابن عباس قال: هو الذي ليس بمنفرج الأصابع من البهائم والطير يعني مشقوقها كالبعير والنعامة ونحو ذلك من الدواب، وقال مجاهد: هو كل شيء لم ينفرج قوائمه من البهائم، وما انفرج أكلته اليهود، قال انفرجت قوائم الدجاج والعصافير فيهود تأكله، ولم ينفرج خف البعير ولا النعامة ولا قائمة الوزينة فلا تأكلها اليهود ولا تأكل حمار الوحش، وفي الظفر لغات خمس ذكرها السمين أعلاها بضم الظاء والفاء وهي قراءة العامة.
(4/266)
(ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما) لا غير هذا المذكورات كلحمها والشحوم يدخل فيها الثروب وشحم الكلية وقيل الثروب جمع ثرب وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش والأمعاء كما في القاموس، والمراد بها هنا ما على الكرش فقط كما فسر به القرطبي، ولا يراد ما على الأمعاء وتفسيره بما على الأمعاء نظراً لمعناها اللغوي.
(إلا ما حملت ظهورهما) أي ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما من الشحم، استثنى الله سبحانه من الشحوم هذا الشحم فإنه لم يحرمه عليهم، وقال السدي وأبو صالح: الإلية مما حملت ظهورهما وهذا مختص بالغنم لأن البقر ليس لها إلية.
(أو) حملت (الحوايا) أي الأمعاء وهي المباعر التي يجتمع فيها البعر، فما حملته هذه من الشحم غير حرام عليهم، وبه قال جمهور المفسرين وهو قول ابن عباس، وواحدها حاوية مثل ضاربة وضوارب وقيل: واحدهما حاوِياء، مثل قاصعاء وقواصع وقيل حوية كسفينة وسفائن، قال الفارسي: يصح أن يكون جمعاً لكل من الثلاثة، وقال أبو عبيدة: الحوايا ما تحوي من البطن أي استدار وهي متحوية أي مستديرة وقيل الحوايا خزائن اللبن وهي تتصل بالمباعر وقيل الأمعاء التي عليها الشحوم.
(أو ما اختلط بعظم) فإنه غير محرم، قال الكسائي والفراء وثعلب معطوف على ما في (ما حملت) وقيل على الشحوم ولا وجه لهذا التكلف ولا موجب له، لأنه يكون المعنى أن الله حرم عليهم إحدى هذه المذكورات، والمراد بما اختلط ما لصق بالعظام من الشحوم في جميع مواضع الحيوان من الجنب والرأس والعين، ومنه الإلية فإنها لاصقة بعجب الذنب.
عن ابن عباس قال: ما اختلط من شحم الإلية بالعصعص فهو حلال،
(4/267)
وكل شحم القوائم والجنب والرأس والعين والأذن يقولون قد اختلط ذلك بعظم فهو حلال لهم، إنما حرم عليهم الثرب وشحم الكلية.
(ذلك) التحريم المدلول عليه بحرمنا، وقيل الإشارة إلى الجزاء المدلول عليه بقوله (جزيناهم) وهو تحريم ما حرمه الله عليهم (ببغيهم) أي بسبب بغيهم وظلمهم كما سبق في سورة النساء من قوله (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله) إلى أن قال (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات) فكانوا كلما ارتكبوا معصية من هذه المعاصي عوقبوا بتحريم شيء مما أحلهم، وهم ينكرون ذلك ويدعون أنها لم تزل محرمة على الأمم قبلهم.
(وإنا لصادقون) في كل ما نخبر به، ومن جملة ذلك هذا الخبر وهو موجود عندهم في التوراة ونصها حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، وكل دابة ليست مشقوقة الحافر وكل حوت ليس فيه شقاشق أي بياض انتهى.
(4/268)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
(فإن كذبوك) أي اليهود فيما وصفت من تحريم الله عليهم تلك الأشياء وقيل الضمير يعود إلى المشركين الذين قسموا الأنعام إلى تلك الأقسام وحللوا بعضها وحرموا بعضها (فقل ربكم ذو رحمة واسعة) للمطيعين، ومن رحمته حلمه عنكم وعدم معالجته لكم بالعقوبة في الدنيا فلا تغتروا بذلك فإنه إمهال لا إهمال، وفيه أيضاً تلطف بدعائهم إلى الإيمان وهو وإن أمهلكم ورحمكم فإنه (ولا يرد بأسه) أي عذابه ونقمته (عن القوم المجرمين) إذا أنزله بهم واستحقوا المعالجة بالعقوبة.
وقيل المراد لا يرد بأسه في الآخرة والأول أولى، فإنه سبحانه قد عاجلهم بعقوبات منها تحريم الطيبات عليهم في الدنيا، والمجرمون هم اليهود أو الكفار، وإنما قال ذلك نفياً للاغترار بسعة رحمته في الاجتراء على معصيته، ولئلا يغتروا برجاء رحمته عن خوف نقمته، وذلك أبلغ في التهديد.
(4/268)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
(4/269)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
(سيقول الذين أشركوا) أخبر الله عن المشركين أنهم سيقولون هذه المقالة وقد وقع مقتضاه كما حكى عنهم في سورة النحل بقوله تعالى: (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا) الخ وهم كفار قريش أو جميع المشركين يريدون أنه (لو شاء الله) عدم شركهم وعدم تحريمهم.
(ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) أي ما أشركوا هم ولا آباؤهم ولا حرموا شيئاً من الأنعام كالبحيرة ونحوها، وظنوا أن هذا القول يخلصهم عن الحجة التي ألزمهم بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن ما فعلوه حق، ولو لم يكن حقاً لأرسل الله إلى آبائهم الذين ماتوا على الشرك وعلى تحريم ما لم يحرمه الله رسلاً يأمرونهم بترك الشرك وبترك التحريم لما لم يحرمه الله والتحليل لما لم يحلله.
(كذلك) أي مثل ما كذب هؤلاء (كذب الذين من قبلهم) من كفار الأمم الخالية ومن المشركين أنبياء الله (حتى ذاقوا بأسنا) أي استمروا على التكذيب حتى ذاقوا عذابنا الذي أنزلناه بهم، وقد تمسك القدرية والمعتزلة بهذه الآية ولا دليل لهم في ذلك على مذهب الجبر والاعتزال، لأن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته ولا يلزم من ثبوت المشيئة دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام.
(قل هل عندكم من علم) أمره الله أن يقول لهم هل عندكم دليل صحيح يعد من العلم النافع وحجة وكتاب يوجب اليقين بأن الله راض بذلك
(4/269)
(فتخرجوه لنا) لننظر فيه ونتدبره، والمقصود من هذا التبكيت لهم لأنه قد علم أنه لا علم عندهم يصلح للحجة ويقوم به البرهان.
ثم أوضح لهم أنهم ليسوا على شيء من العلم فقال: (إن تتبعون إلا الظن) الذي هو محل الخطأ ومكان الجهل (وإن أنتم إلا تخرصون) أي تتوهمون مجرد توهم فقط كما يتوهم الخارص وتقولون على الله الباطل وقد سبق تحقيقه.
(4/270)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
(قل فلله الحجة البالغة) على الناس أي التي تنقطع عندها معاذيرهم وتبطل شبههم وظنونهم وتوهماتهم، والمراد بها الكتب المنزلة والرسل المرسلة، وما جاؤوا به من المعجزات، قال الربيع بن أنس: لا حجة لأحد عصى الله أو أشرك به على الله، بل له الحجة التامة على عباده، وقال عكرمة: الحجة السلطان.
(فلو شاء) هدايتكم جميعاً إلى الحجة البالغة (لهداكم أجمعين) ولكنه لم يشأ ذلك ومثله قوله: (ولو شاء الله ما أشركوا، وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) ومثله كثير فالمنتفى في الخارج مشيئة هداية الكل، وإلا فقد هدى بعضهم.
وعن ابن عباس أنه قيل له: إن أناساً يقولون ليس الشر بقدر، فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية والعجز والكيس من القدر، وقال علي بن زيد انقطعت حجة القدرية عند هذه الآية قل فلله الحجة إلى قوله أجمعين.
(4/270)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
(4/271)
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
(قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا) أمره الله سبحانه أن يقول لهؤلاء المشركين هاتوهم وأحضروهم، قال السدي: أروني شهداءكم وهلم اسم فعل يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع عند أهل الحجاز وأهل نجد يقولون هلما هلمي هلموا فينطقون به كما ينطقون بسائر الأفعال وبلغة أهل الحجاز نزل القرآن ومنه قوله تعالى: (والقائلين لإخوانهم هلم إلينا) والأصل عند الخليل ها ضمت إليها لم.
وقال غيره أصلها هل زيدت عليه الميم، وفي كتاب العين للخليل أن أصلها هل أؤم أي هل أقصدك، ثم كثر استعمالهم لها، وهذا أيضاً من باب التبكيت لهم حيث يأمرهم بإحضار الشهود على أن الله حرم تلك الأشياء مع علمه أنه لا شهود لهم لتلزمهم الحجة، ويظهر ضلالهم، وأنه لا متمسك لهم سوى تقليدهم، ولذلك قيد الشهداء بالإضافة إليهم الدالة على أنهم شهداء معروفون بالشهادة لهم وهم قدوتهم الذين ينصرون قولهم.
(فإن شهدوا) لهم بغير علم بل مجازفة وتعصباً (فلا تشهد معهم) أي فلا تصدقهم ولا تسلم لهم (ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا) فإنهم رأس المكذبين بها (و) لا تتبع أهواء (الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون) أي يجعلون له عدلاً من مخلوقاته كالأوثان ويشركون.
(4/271)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
(قل تعالوا) أي تقدموا، قال ابن الشجري: إن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعداً فقيل له: تعال أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم، واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي، وهكذا، قال الزمخشري في الكشاف إنه من الخاص الذي صار عاماً وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عم.
(أتل ما حرم ربكم) أتل جواب الأمر، وما موصولة في محل نصب به والمراد من تلاوة ما حرم الله تلاوة الآيات المشتملة عليه، ويجوز أن يكون (ما) مصدرية أي أتل تحريم ربكم والمعنى ما اشتمل على التحريم، قيل ويجوز أن تكون (ما) استفهامية أي أتل أي شيء حرم ربكم؟ على جعل التلاوة بمعنى القول وهو ضعيف جداً، (عليكم) إن تعلق بأتل فالمعنى أتل عليكم الذي حرم ربكم وهو اختيار الكوفيين، وإن تعلق بحرم فالمعنى أتل الذي حرم ربكم عليكم وهو اختيار البصريين، وهذا أولى لأن المقام مقام بيان ما هو محرم عليهم لا مقام بيان ما هو محرم مطلقاً.
(أن لا تشركوا به شيئاً) إن مفسرة لفعل التلاوة المعلق بما حرم ولا ناهية وهذا وجه ظاهر لأمور من جملتها أن في إخراج المفسر على صورة النهي مبالغة في بيان التحريم وهو اختيار الفراء، وقيل (أن) ناصبة ومحلها النصب بعليكم على أنه للإغراء، وقيل النصب على البدلية مما حرم، والمعنى على الإغراء الزموا نفي الإشراك وعدمه.
وهذا وإن كان ذكره جماعة كما نقله ابن الأنباري ضعيف لتفكيك
(4/272)
التركيب عن ظاهره ولأنه لا يتبادر إلى الذهن، وقيل التقدير لئلا تشركوا وهذا منقول عن أبي اسحق وقيل تقديره أوصيكم أن لا تشركوا وهو أيضاً مذهب أبي اسحق، وقيل (إن) في محل رفع أي المحرم أن لا تشركوا وهذا يحوج إلى زيادة لا لئلا يفسد المعنى، وقيل تقديره عليكم عدم الإشراك وهو مذهب أبي بكر بن الأنباري، وقيل استقر عليكم عدم الإشراك وهو ظاهر قول ابن الأنباري.
وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث، ثم تلا (قل تعالوا) إلى ثلاث آيات، ثم قال فمن وفى بهن فأجره على الله ومن انتقص منهم شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه " (1).
وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن المنذر عن كعب الأحبار قال: أول ما أنزل في التوراة عشر آيات وهي العشر التي أنزلت من آخر الأنعام (قل تعالوا) إلى آخرها.
وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله ابن عدي بن الخيار قال: سمع كعب رجلاً يقرأ (قل تعالوا) الخ فقال كعب والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر الآيات انتهى.
قلت هي الوصايا العشر التي في التوراة، أولها أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك إله غيري، ومنها أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تقتل لا تزن لا تسرق لا تشهد على قريبك شهادة زور، ولا تشته بنت قريبك ولا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيء مما لقريبك.
_________
(1) ابن كثير، 2/ 187.
(4/273)
فلعل مراد كعب الأحبار هذا، ولليهود بهذه الوصايا عناية عظيمة، وقد كتبها أهل الزبور في آخر زبورهم، وأهل الإنجيل في أول إنجيلهم، وهي مكتوبة في لوحين وقد تركنا منها ما يتعلق بالسبت، قال أبو السعود: وهذه الأحكام العشرة لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار.
(و) أحسنوا (بالوالدين إحساناً) هو البر بهما وامتثال أمرهما ونهيهما، وقد تقدم الكلام على هذا، ولما كان إيجاب الإحسان تحريماً لترك الإحسان ذكر في المحرمات وكذا حكم ما بعده من الأوامر.
(ولا تقتلوا أولادكم) لما ذكر حق الوالدين على الأولاد، ذكر حق الأولاد عليهما وهو أن لا يقتلوهم (من) أجل (إملاق) هو الفقر فقد كانت الجاهلية تفعل ذلك بالذكور والإناث خشية الإملاق، وتفعله بالإناث خاصة خشية العار، وحكى النقاش عن مؤرخ أن الإملاق الجوع بلغة لخم.
وذكر منذر بن سعيد البلوطي أن الإملاق الإنفاق يقال أملق ماله بمعنى أنفقه، وقيل الإملاق الإسراف يقال أملق أي أسرف في نفسه، قاله محمد بن نعيم اليزيدي، والإملاق الإفساد أيضاً قاله شمر، يقال أملق ما عنده الدهر أي أفسده، وقال قتادة: الإملاق الفاقة، يقال أملق افتقر واحتاج، وهو الذي أطبق عليه أئمة اللغة والتفسير ههنا.
وقال هنا من " إملاق " وفي الإسراء " خشية إملاق " قال بعضهم لأن هذا في الفقر الناجز فيكون خطاباً للآباء الفقراء، وما في الإسراء في المتوقع فيكون خطاباً للآباء الأغنياء فلعلهم كان فقراؤهم يقتلون أولادهم وأغنياؤهم كذلك، وقيل هذا التقديم للتفنن في البلاغة والأول أولى لأن إفادة معنى جديد أولى من إدعاء كون الآيتين بمعنى واحد للتأكيد.
(نحن نرزقكم وإياهم) هذا تعليل للنهي قبله، وكان ظاهر السياق أن يقدم ويقال نحن نرزقهم وإياكم كما في آية الإسراء لأن الكلام في الأولاد، ولكن قدم هنا خطاب الآباء ليكون كالدليل على ما بعده.
(4/274)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
(ولا تقربوا الفواحش) أي المعاصي ومنه ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة، والأولى حمل لفظ الفواحش على العموم في جميع المحرمات والمنهيات فيدخل فيه الزنا وغيره، ولا وجه لتخصيصه بنوع من الفواحش وإن كان السبي خاصاً فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(ما ظهر) أي ما أعلن به (منها) واطلع عليه الناس (وما بطن) ما أسر ولم يطلع عليه إلا الله أي علانيتها وسرها، قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأساً في السر ويستقبحونه بالعلانية فحرم الله الزنا في السر والعلانية.
(ولا تقتلوا النفس) اللام للجنس أي لا تقتلوا شيئاً من الأنفس (التي حرم الله) قتلها (إلا بالحق) أي إلا بما يوجبه الحق والاستثناء مفرغ أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا في حال الحق أو لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق، ومن الحق قتلها قصاصاً وقتلها بسبب زنا المحصن، وقتلها بسبب الردة ونحو ذلك من الأسباب التي ورد الشرع بها، وإنما أفرد قتل النفس بالذكر تعظيماً لأمر القتل وأنه من أعظم الفواحش والكبائر.
(ذلكم) إشارة إلى جميع ما تقدم مما تلاه عليهم قاله أبو حيان.
إلى الأمور الخمسة (وصاكم) أي أمركم (به) وأوجبه عليكم وفيه من
(4/275)
اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له تعالى ما لا يخفى من الإحسان.
ولما كان العقل هو مناط التكليف قال: (لعلكم تعقلون) أي لكي تفهموا ما في هذه التكاليف من الفوائد النافعة في الدين والدنيا فتعملوا بها.
(4/276)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
(ولا تقربوا مال الميتيم) أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه (إلا بالتي) أي الخصلة التي (هي أحسن) من غيرها وهي ما فيه صلاحه وحفظه وتنميته وتثميره وتحصيل الربح له فيشمل كل وجه من الوجوه التي فيها نفع لليتيم وزيادة في ماله، والاستثناء مفرغ، وقيل المراد بالتي هي أحسن التجارة.
(حتى) أي إلى غاية هي أن (يبلغ) اليتيم (أشده) فإن بلغ ذلك فادفعوا إليه ماله وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه وقيل بالعكس وقيل هو اسم مفرد لفظاً ومعنى، وقيل هو جمع، وعلى هذا فمفرده شدة كنعمة أو شد كفلس وأفلس أو شد كصر وأصر، أقوال ثلاثة في مفرده وأصله من شد النهار أي ارتفع قال سيبويه واحده شدة.
قال الجوهري: وهو حسن في المعنى لأنه يقال أبلغ الكلام شدته، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل، وقيل الأشد استحكام قوة الشباب والسن حتى يتناهى في الشباب إلى حد الرجال.
واختلف أهل العلم في الأشد فقال أهل المدينة بلوغه وإيناس رشده، وقال عبد الرحمن بن زيد: هو البلوغ، وقيل إنه انتهاء الكهولة، والأولى في تحقيقه أنه البلوغ إلى سن التكليف مع إيناس الرشد، وهو أن يكون في تصرفاته بماله سالكاً مسلك العقلاء لا مسلك أهل السفه والتبذير، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة النساء (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم) فجعل بلوغ النكاح وهو بلوغ سن التكليف مقيداً بإيناس الرشد، ولعله قد سبق هنالك كلام في هذا.
(4/276)
قال الشعبي ومالك: الأشد الحلم حين تكتب له الحسنات وعليه السيآت وقال أبو العالية: حتى يعقل وتجتمع قوته، وقال أبو حنيفة: خمس وعشرون سنة، وقال الكلبي: هو ما بين ثمان عشرة سنة إلى ثلاثين سنة، وقيل: إلى أربعين وقيل إلى ستين، وقال الضحاك: عشرون سنة، وقال السدي: ثلاثون سنة، وقال مجاهد: ثلاث وثلاثون سنة، وهذه الأقوال إنما هي في نهاية الأشد لا في ابتدائه والمختار في تفسيره ما ذكرناه.
(وأوفوا الكيل والميزان) وهما الآلة التي يكال بها ويوزن، وأصل الكيل مصدر ثم أطلق على الآلة، والميزان في الأصل مفعال من الوزن، ثم نقل لهذه الآلة كالمصباح والمقياس لما يستصبح به ويقاس (بالقسط) أي بالعدل في الأخذ والإعطاء عند البيع والشراء وترك البخس.
(لا نكلف نفساً إلا وسعها) أي طاقتها في كل تكليف من التكاليف ومنه التكليف بإيفاء الكيل والوزن فلا يخاطب المتولي لهما بما لا يمكن الاحتراز عنه في الزيادة والنقصان فإن أخطأ في الكيل والوزن والله يعلم صحة نيته فلا مؤاخذة عليه كما ورد في الحديث ومع ذلك يضمن ما أخطأ فيه كما في كتب الفروع.
(وإذا قلتم) بقول في خبر أو شهادة أو جرح أو تعديل (فاعدلوا) فيه وتحروا الصواب ولا تتعصبوا في ذلك لقريب ولا على بعيد، ولا تميلوا إلى صديق ولا على عدو، بل سووا بين الناس فإن ذلك من العدل الذي أمر الله به (ولو كان) الضمير راجع إلى ما يفيده (وإذا قلتم) فإنه لا بد للقول من مقول فيه أو مقول له أو مقول عليه أي ولو كان المقول فيه أو له أو عليه (ذا قربى) أي صاحب قرابة لكم، وقيل إن المعنى ولو كان الحق على مثل قراباتكم، والأول أولى، ومثل هذه الآية قوله: (ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين).
(4/277)
(وبعهد الله) أي بكل عهد عهده الله إليكم (أوفوا) ومن جملة ما عهده إليكم ما تلاه عليكم رسوله بأمره في هذا المقام، ويجوز أن يراد به كل عهد ولو كان بين المخلوقين لأن الله سبحانه لما أمر بالوفاء به في كثير من الآيات القرآنية كان ذلك مسوغاً لإضافته إليه.
(ذلكم) إشارة إلى ما تقدم ذكره من الأمور الأربعة (وصاكم) أي أمركم (به) أمراً مؤكداً (لعلكم تذكرون) أي تتعظون بذلك فتأخذون ما أمركم به.
ولما كانت الخمسة المذكورة قبل قوله: (لعلكم تعقلون) من الأمور الظاهرة الجلية مما يجب تعقلها وتفهمها ختمت بقوله لعلكم تعقلون، ولما كانت هذه الأربعة خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والذكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال ختمت بقوله: (لعلكم تذكرون) قاله أبو حيان.
(4/278)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
(وأن) بالفتح على تقدير (اتل) قاله الفراء والكسائي، وقيل على تقدير الباء وقيل على تقدير اللام، قاله الخليل وسيبويه كما في قوله سبحانه (وأن المساجد لله) وبالكسر استئنافاً (هذا) أي الذي ذكر في هذه الآيات من الأوامر والنواهي، قاله مقاتل، وقيل الإشارة إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة.
(صراطي) وفي مصحف ابن مسعود وهذا صراط ربكم وفي مصحف أُبيّ ربك، والصراط الطريق وهو طريق دين الإسلام (مستقيماً) مستوياً لا اعوجاج فيه، وقد تشعبت منه طرق فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار (فاتبعوه) أمرهم باتباع جملته وتفصيله.
(ولا تتبعوا السبل) نهاهم عن اتباع سائر السبل أي الأديان المتباينة طرقها والأهواء المضلة، والبدع المختلدة (فتفرق بكم عن سبيله) أي فتميل بكم عن سبيل
(4/278)
الله المستقيم الذي هو دين الإسلام، قال ابن عطية: وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، وهذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد.
قال قتادة: اعلموا أن السبيل سبيل واحد جماعة الهدى ومصيره الجنة، وأن إبليس استبدع سبلاً متفرقة جماعة الضلالة ومصيرها إلا النار.
وأخرج أحمد وابن حميد والبزار والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود قال: خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً بيده ثم قال: " هذا سبيل الله مستقيماً، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ هذه الآية " (1).
وقال ابن عباس: السبل الضلالات (2) وعنه هذه الآيات محكمات في جميع الكتب لم ينسخهن شيء وهن محرمات على بني آدم كلهم، وهن أم الكتاب، ومن عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار، وقال ابن مسعود: من سره أن ينظر إلى الصحيفة التي عليها خاتم محمد - صلى الله عليه وسلم - فليقرأ هؤلاء الآيات، أخرجه الترمذي وحسنه.
(ذلكم) أي ما تقدم ذكره (وصاكم) أكد عليكم الوصية (به لعلكم تتقون) ما نهاكم عنه من الطرق المختلفة والسبل المضلة.
_________
(1) المستدرك كتاب التفسير 2/ 239.
(2) رواه الإمام أحمد 4/ 182 و 4/ 183 والحاكم 1/ 73.
(4/279)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
(4/280)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
(ثم آتينا موسى الكتاب) أي التوراة وهذا كلام مسوق لتقرير الوصية التي وصى الله بها عباده، وقد استشكل العطف بثم مع كون قصة موسى وإيتاء الكتاب قبل المعطوف عليه وهو ذلك وصاكم به، فقيل " ثم " هنا بمعنى الواو من غير اعتبار مهلة ولا ترتيب، وبذلك قال بعض النحويين.
قلت وهذه استراحة، وقيل تقديره ثم كنا قد آتينا قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن القشيري، وقيل المعنى (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) ثم أتل إيتاء موسى الكتاب، قاله الزجاج: وقيل إن التوصية المعطوف عليها قديمة لم يزل كل نبي يوصي بها أمته، وقيل: إن ثم للتراخي في الأخبار وقيل غير ذلك.
(تماماً) النصب على الحال أو المصدر أو على أنه مفعول لأجله (على الذي أحسن) قبوله والقيام به كائناً من كان، وقال الحسن ومجاهد: كان فيهم محسن وغير محسن، فأنزل الله الكتاب تماماً على المحسنين المؤمنين، وقيل المعنى أعطينا موسى التوراة زيادة على ما كان يحسنه موسى مما علمه الله قبل نزولها عليه، وقيل تماماً على الذي أحسن به الله عز وجل إلى موسى من الرسالة وغيرها، وقيل تماماً على إحسان موسى بطاعة الله عز وجل قاله الفراء، وقال أبو صخر: تماماً لا كان قد أحسن إليه، وقال ابن زيد: تماماً لنعمته عليهم وإحسانه إليهم.
(وتفصيلاً) أي لأجل تفصيل (لكل شيء) يحتاج إليه من شرائع
(4/280)
الدين وأحكامه (وهدى) من الضلالة (ورحمة) منا عليهم وضمير (لعلهم) راجع إلى بني إسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى (بلقاء ربهم يؤمنون) قال ابن عباس: لكي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب.
(4/281)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
(وهذا) القرآن (كتاب أنزلناه) قدم صفة الإنزال لكون الإنكار متعلقاً بها (مبارك) كثير البركة لما هو مشتمل عليه من المنافع الدنيوية والدينية (فاتبعوه) يا أهل مكة بالعمل بما فيه فإنه لما كان من عند الله وكان مشتملاً على البركة كان اتباعه متحتماً عليكم (واتقوا) مخالفته والتكذيب بما فيه (لعلكم) إن قبلتموه ولم تخالفوه (ترحمون) برحمة الله سبحانه.
(4/281)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
(أن تقولوا) قال الكوفيون: أنزلناه لئلا تقولوا، وقال البصريون كراهة أن تقولوا، وقال الفراء والكسائي: واتقوا أن تقولوا يا أهل مكة (إنما أنزل الكتاب) أي التوراة والإنجيل.
(على طائفتين من قبلنا) هم اليهود والنصارى ولم ينزل علينا كتاب، وتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما اللذان اشتهرا من بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام، وفيه دليل على أن المجوس ليسوا بأهل كتاب إذ لو كانوا منهم لكانوا ثلاث طوائف، قاله ابن الكمال.
(وإن) مخففه واسمها محذوف أي إنا (كنا عن دراستهم) أي تلاوة كتبهم بلغاتهم (لغافلين) أي لا ندري ما فيها ومرادهم إثبات نزول الكتابين مع الاعتذار عن اتباع ما فيهما بعدم الدراية منهم والغفلة عن معناهما.
(4/281)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
(أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب) كما أنزل على الطائفتين من قبلنا (لكنا أهدى منهم) إلى الحق الذي طلبه الله أو إلى ما فيه من الأحكام التي هي المقصد الأقصى، فإن هذه المقالة من كفار العرب والمعذرة منهم مندفعة بإرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - إليهم وإنزال القرآن عليه، ولهذا قال: (فقد جاءكم بينة من ربكم) أي كتاب بلسان عربي مبين حين لم تعرفوا دراسة الطائفتين وأنزله الله على نبيكم وهو منكم يا معشر العرب فلا تعتذروا بالأعذار الباطلة ولا تعللوا أنفسكم بالعلل الساقطة فقد أسفر الصبح لذي عينين.
(وهدى ورحمة) أي جاءكم البينة الواضحة والهدى الذي يهتدى به كل من له رغبة في الاهتداء ورحمة من الله يدخل فيها كل من يطلبها ويريد حصولها، ولكنكم ظلمتم أنفسكم بالتكذيب بآيات الله والصدوف والإنصراف عنها وصرف من أراد الإقبال إليها.
(فمن) الاستفهام للإنكار أي لا أحد (أظلم ممن كذب بآيات الله) التي هي رحمة وهدى للناس (وصدف) أي صرف الناس (عنها) فضل بإنصرافه عنها وأضل بصرف غيره عن الإقبال إليها، وصدف لازم وقد يستعمل متعدياً كما هنا، في القاموس صدف عنه يصدف أعرض وصدف فلاناً صرفه كأصدفه عن كذا أماله عنه.
(سنجزي الذين يصدفون) ينصرفون (عن آياتنا سوء العذاب) أي العذاب السيء من إضافة الصفة إلى الموصوف (بما كانوا يصدفون) أي بسبب إعراضهم أو صدهم أو تكذيبهم بآيات الله ومعنى يصدفون يعرضون، قاله
(4/282)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
ابن عباس وهو مقارب لمعنى الصرف، وقد تقدم تحقيق معنى هذا اللفظ وفي هذه الآية تبكيت لهم عظيم.
(هل ينظرون) أي لما أقمنا عليهم الحجة وأنزلنا الكتاب على رسولنا المرسل إليهم فلم ينفعهم ذلك ولم يرجعوا به عن غوايتهم فما بقي بعد هذا (إلا) أنهم ينتظرون (أن تأتيهم الملائكة) لقبض أرواحهم وعند ذلك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو أن تأتيها الملائكة بالعذاب (أو يأتي ربك) يا محمد كما اقترحوه بقولهم: (لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) وقيل معناه يأتي أمر ربك بإهلاكهم، وقد جاء في القرآن حذف المضاف كثيراً كقوله: (واسأل القرية) وقوله: (وأشربوا في قلوبهم العجل) أي حب العجل.
وقيل إتيان الله مجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه كقوله: وجاء ربك والملك صفاً صفاً قاله ابن مسعود وقتادة ومقاتل، وقال: يأتي في ظلل من الغمام وقيل كيفية الإتيان من التشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله فيجب إمرارها بلا تكييف ولا تعطيل.
(أو يأتي بعض آيات ربك) الدالة على الساعة قال جمهور المفسرين هو طلوع الشمس من مغربها ويدل عليه ما أخرج أحمد وعبد بن حميد في مسنده والترمذي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله بعض آيات ربك قال:
(4/283)
" طلوع الشمس من مغربها " (1) قال الترمذي غريب، وروي موقوفاً.
فإذا ثبت رفع هذا التفسير النبوي من وجه صحيح لا قادح فيه فهو واجب التقديم له متحتم الأخذ به، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسها إيمانها، ثم قرأ الآية " (2)، وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي ذر مرفوعاً نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه أيضاً.
(يوم يأتي بعض آيات ربك) التي اقترحوها وهي التي تضطرهم إلى الإيمان، أو ما هو أعم من ذلك فيدخل فيه ما ينتظرونه، وقيل الآيات هي علامات القيامة المذكورة في الأحاديث الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي التي إذا جاءت (لا ينفع نفسها إيمانها).
والكبرى منها عشرة وهي: الدجال والدابة وخسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، والدخان وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى، ونار تخرج من عدن تسوق الناس إلى المحشر، والبحث مستوفى في كتابنا حجج الكرامة في آثار يوم القيامة.
(لم تكن آمنت من قبل) أي قبل إتيان بعض الآيات، فأما التي قد كانت آمنت من قبل مجيء بعضها فإيمانها ينفعها (أو كسبت في إيمانها خيراً) أي لا ينفع نفساً إيمانها عند حضور الآيات متصفة بأنها لم تكن آمنت من قبل أو آمنت من قبل ولكن لم تكسب في إيمانها خيراً، فحصل من هذا أنه لا ينفع
_________
(1) البخاري كتاب الفتن الباب 25 - أبو داود كتاب الجهاد الباب 2.
(2) مسلم 157 - بخاري 73.
(4/284)
إلا الجمع بين الإيمان من قبل مجيء بعض الآيات مع كسب الخير في الإيمان، فمن آمن من قبل فقط ولم يكسب خيراً في إيمانه أو كسب خيراً ولم يؤمن فإن ذلك غير نافع.
قال السدى: يقول كسبت في تصديقها عملاً صالحاً فهؤلاء أهل القبلة، وإن كانت مصدقة لم تعمل قبل ذلك خيراً فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها وإن عملت قبل الآية خيراً ثم عملت بعد الآية خيراً قبل منها، وقال مقاتل: يعني المسلم الذي يعمل في إيمانه خيراً وكان قبل الآية مقيماً على الكبائر.
أقول ووجه الإشكال في هذه الآية الكريمة هو أن عدم الإيمان السابق يستلزم عدم كسب الخير فيه بلا شك ولا شبهة إذ لا خير لمن لا إيمان له، فيكون على هذا ذكره تكراراً إن كان حرف التخيير على بابه من دون تأويل، وأيضاً عدم الإيمان مستقل في إيجابه للخلود في النار فيكون ذكر عدم الثاني لغواً، وكذلك وجود الإيمان مع كسب الخير فيه مستقل في إيجابه للخلوص عن النار وعدم الخلود فيها فيكون ذكر الأول أعني الإيمان بمجرده لغواً.
فهذا وجه الإشكال في الآية باعتبار حرف التخيير المقتضى لكفاية أحد الأمرين على إنفراده وقد ذكروا في التخلص عن هذا الإشكال وجوها.
أحدها: أنه يتحقق النفع بأيهما كان، ولا يخفاك أن هذا تدفعه الأدلة الواردة بعدم الانتفاع بالإيمان من دون عمل.
والوجه الثاني: أنه لا ينفع إلا تحقق الأمرين جميعاً الإيمان وكسب الخير فيه، وهذا أيضاً يدفعه المعنى العربي والإعرابي فإنه لو كان هو المراد لقال: لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيراً.
الوجه الثالث: أن ذكر الشق الثاني من شقي الترديد لقصد بيان النفع
(4/285)
الزائد وتحرّي الأفضل والأكمل، وهذا أيضاً فيه خروج عما يوجبه معنى الترديد الذي يقتضيه حرفه الموضوع له.
الوجه الرابع: أن يراد الكلام مردداً على هذه الصفة المقصود به التعريض بحال الكفار المفرطين في الأمرين جميعاً، وهذا أيضاً خروج عن مقصود الآية بتأويل بعيد جداً لم يدل عليه دليل.
الوجه الخامس: أن الآية من باب اللف التقديري أي لا ينفع نفساً إيمانها ولا كسبها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. ورد بأن معنى اللف التقديري على أن يكون المقدر من مهمات الكلام ومقتضيات المقام فترك ذكره تعويلاً على دلالة الملفوظ عليه واقتضائه إياه، وليس هذا من ذاك.
الوجه السادس: أنهما معاً شرطان في النفع وأن العدول إلى هذه العبارة لقصد المبالغة في شأن كل واحد منهما بأنه صالح للاستقلال بالنفع في الجملة، ولا يخفي أن هذا مجرد دعوى لا دليل عليها، وإخراج للترديد عن مفاده الذي تقتضيه لغة.
الوجه السابع: أن ظاهر الآية المقتضى لمجرد نفع الإيمان يعارض بالأدلة الصحيحة الثابتة كتاباً وسنة أنه لا ينفع الإيمان إلا مع العمل وهذا هو الوجه القوي، والتقرير السوي، والاستدلال الواضح، والترجيح الراجح لسلامته عن التكلفات والتعسفات في معنى الآية وعن الإهمال لما فيها من الترديد الواضح بين شِقَّي الإيمان المجرد والإيمان مع العمل.
ولا ينافي هذا ما ورد من الأدلة على نفع الإيمان المجرد فإنها مقيدة بالأدلة الدالة على وجوب العمل بما شرعه الله لعباده من أصول الشرائع وفروعها، فاشدد يديك على هذا ولا تلتفت إلى ما وقع من التدقيقات الزائفة والدعاوي الداحضة، فإن ذلك لا حامل عليه ولا موجب له إلا المحاماة على المذهب
(4/286)
وتقويمها، وجعل نصوص الله سبحانه تابعة لها، وتأويل ما خالفها حتى كأنها هي الشريعة المحكمة التي يرد إليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن العجب أن محققي المفسرين وكبارهم مع ما في هذه الآية الكريمة من الإشكال المقتضى لتوسيع دائرة المقال اكتفوا في الكلام عليها بالنزر الحقير والبحث اليسير، حتى إن الرازي مع تطويله للمباحث في غالب تفسيره، اقتصر في تفسيره على قوله. والمعنى أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أوان التكليف فلم ينفع الإيمان نفساً ما آمنت وما كسبت في إيمانها خيراً قبل ذلك انتهى بحروفه.
فانظر هذا الذي اقتصر عليه واجعله موعظة لك فإنه إنما يكون تفسير الآية لو كانت هكذا: لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيراً، من دون حرف التخيير، وهكذا الزمخشري قبله فإنه اقتصر في تفسير الآية على ما لا يسمن ولا يغني من جوع، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق.
(قل) أمره الله سبحانه أن يقول لهم (انتظروا) ما تريدون إتيانه وما وعدتم به من مجيء الآيات، وهذا أمر تهديد على حد (اعملوا ما شئتم) وذلك أنهم لا ينتظرون ما ذكر لإنكارهم للبعث وما بعده (إنا منتظرون) وهو يقوي ما قيل في تفسير (يوم يأتي بعض آيات ربك) إنها الآيات التي اقترحوها من إتيان الملائكة أو إتيان العذاب لهم من قبل كما تقدم بيانه.
قال بعض المفسرين: وهذا إنما ينتظره من تأخر في الوجود من المشركين المكذبين بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك الوقت، والمراد بهذا أن المشركين إنما يمهلون قدر مدة الدنيا فإذا ماتوا أو ظهرت الآيات لم ينفعهم الإيمان وحلت بهم العقوبة اللازمة أبداً، وقيل المراد بهذه الآية الكف عن القتال فتكون الآية منسوخة بآية القتال. وعلى القول الأول تكون محمكة.
(4/287)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
(4/288)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
(إن الذين فرقوا) أي تركوا (دينهم) وخرجوا عنه باختلافهم فيه، والمعنى أنهم جعلوا دينهم متفرقاً فأخذوا ببعضه وتركوا بعضه، قيل المراد بهم اليهود، قاله مجاهد، وقيل اليهود والنصارى، وبه قال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك.
وقد ورد في معنى هذا في اليهود قوله تعالى (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) وقبل المراد بهم المشركون، عبد بعضهم الأصنام وبعضهم الملائكة وبعضهم الكواكب، فكان هذا هو تفريق دينهم.
وقال أبو هريرة: هم أهل الضلالة من هذه الأمة، وقيل الآية عامة في جميع الكفار وكل من ابتدع وجاء بما لم يأمر به الله، وهذا هو الصواب لأن اللفظ يفيد العموم فيدخل فيه طوائف أهل الكتاب وطوائف المشركين وغيرهم ممن ابتدع من أهل الإسلام.
وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه والحكيم الترمذي والشيرازي في الألقاب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآية قال " هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة " (1) وفي إسناده عبد بن كثير وهو متروك الحديث ولم يرفعه غيره ومن عداه وقفوه على أبي هريرة، وعن أبي أمامة قال هم الحرورية، وروي عنه مرفوعاً ولا يصح رفعه.
_________
(1) ابن كثير 2/ 196.
(4/288)
وعن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: " يا عائش إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليست لهم توبة وهم مني براء " (1)، رواه الطبري والبيهقي وأبو نعيم وغيرهم. قال ابن كثير هو غريب لا يصح رفعه.
فعلى هذا يكون المراد من هذه الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع المضلة.
وروى أبو داود والترمذي عن معاوية قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وأن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين إثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة " (2) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي " أخرجه الترمذي (3).
(وكانوا شيعاً) أي فِرقاً وأحزاباً فيصدق على كل قوم كان أمرهم في الدين واحداً مجتمعاً ثم اتبع كل جماعة منهم رأي كبير من كبرائهم يخالف الصواب ويباين الحق.
(لست منهم) أي من تفرقهم أو من السؤال عن سبب تفرقهم والبحث عن موجب تحزبهم (في شيء) من الأشياء فلا يلزمك من ذلك شيء ولا تخاطب به إنما عليك البلاغ، وهو مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم " من غشنا فليس منا " أي نحن برآء منه (4).
_________
(1) ابن كثير 2/ 196.
(2) صحيح الجامع الصغير 2638.
(3) صحيح الجامع الصغير 5219.
(4) صحيح الجامع الصغير 6283.
(4/289)
وقال الفراء: لست من عقابهم في شيء وإنما عليك الإنذار، وقيل لست في قتال الكفار، وعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية القتال والأول أولى ..
(إنما أمرهم) يعني في الجزاء والمكافأة (إلى الله) فيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم - أي هو مجاز لهم بما تقتضيه مشيئته، والحصر بإنما هو في حكم التعليل لما قبله والتأكيد له (ثم) هو (ينبئهم) يوم القيامة ويخبرهم بما ينزل بهم من المجازاة (بما كانوا يفعلون) من الأعمال التي تخالف ما شرعه الله لهم وأوجبه عليهم.
ولما توعد سبحانه المخالفين له بما توعد، بين عقب ذلك مقدار جزاء العاملين بما أمرهم به الممتثلين لما شرعه لهم بأن
(4/290)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
(من جاء بالحسنة) الواحدة من الحسنات، عن ابن مسعود أي قال لا إله إلا الله، وعن ابن عباس وأبي هريرة مثله وعن سعيد بن جبير قال: لا نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين يا رسول الله لا إله إلا الله حسنة قال " نعم أفضل الحسنات "، أخرجه عبد بن حميد. وهذا مرسل لا ندري كيف إسناده إلى سعيد.
(فله) من الجزاء يوم القيامة (عشر) حسنات (أمثالها) فأقيمت الصفة مقام الموصوف، وقد ثبت هذا التضعيف في السنة بأحاديث كثيرة، وهذا هو أقل ما يستحقه عامل الحسنة، وقد وردت الزيادة على هذا عموماً وخصوصاً ففي القرآن [كمثل حبة أنبتت سبع سنابل الآية]، وورد في بعض الحسنات أن فاعلها يجازى عليها بغير حساب، وورد في السنة المطهرة تضعيف الجزاء إلى سبعين وإلى سبعمائة وإلى ألوف مؤلفة. وفضل الله واسع وعطاؤه جم، وقد قدمنا تحقيق هذا في موضعين من هذا التفسير فليرجع إليهما.
(ومن جاء بالسيئة) أي بالأعمال السيئة (فلا يجزى إلا مثلها) من دون زيادة عليها أي على قدرها في الخفة والعظم إن جوزي، فالمشرك يجازى على سيئة الشرك بخلوده في النار، وفاعل المعصية من المسلمين يجازى عليها بمثلها مما ورد
(4/290)
تقديره من العقوبات كما ورد بذلك كثير من الأحاديث المصرحة بأن من عمل كذا فعليه كذا، وما لم يرد لعقوبته تقدير من الذنوب فعلينا أن نقول يجازيه الله بمثله وإن لم نقف على حقيقة ما يجازى به، وهذا إن لم يتب، أما إذا تاب أو غلبت حسناته سيئاته أو تغمده الله برحمته وتفضل عليه بمغفرته فلا مجازاة، وأدلة الكتاب والسنة مصرحة بهذا تصريحاً لا يبقى بعده ريب لمرتاب.
(وهم) أي المحسنون والمسيئون (لا يظلمون) بنقص المثوبات ولا بزيادة العقوبات والأولى في هذه الآية أن اللفظ عام في كل حسنة يعملها العبد أو سيئة وإعطاء الثواب لعامل الحسنة فضل من الله، وجزاء السيئة بمثلها عدل منه سبحانه.
(4/291)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
(قل) لما بين سبحانه أن الكفار تفرقوا فرقاً وتحزبوا أحزاباً أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم (إنني هداني ربي) أي أرشدني بما أوحاه إلي (إلى صراط مستقيم) هو ملة إبراهيم عليه السلام.
(ديناً قيماً) بكسر القاف والتخفيف وفتح الياء وبفتح القاف وكسر الياء المشددة وهما لغتان، ومعناه الدين المستقيم الذي لا عوج فيه.
(ملة إبراهيم حنيفاً) مائلاً إلى الحق، وفي القاموس الحنيف كأمير الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه وكل من حج أو كان على دين إبراهيم، وتحنف عمل عمل الحنيفية أو اختتن أو اعتزل عبادة الأصنام، وإليه مال انتهى وقد تقدم تحقيقه.
(وما كان من المشركين) جملة معترضة مقررة لما قبلها، وفيه رد على كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم فأخبر سبحانه أنه لم يكن ممن يعبد الأصنام.
(4/291)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
(4/292)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
(قل إن صلاتي) قيل القول الأول إشارة إلى أصول الدين وهذا إلى فروعها وإليه نحا أبو السعود وغيره، وهذا غير ظاهر لأن كون الصلاة وما بعدها لله من قبيل الأصول لا الفروع كما لا يخفى، والمراد بالصلاة جنسها فيدخل فيه جميع أنواعها وقيل صلاة الليل وقيل صلاة العيد وقيل الصلاة المفروضة والأول أولى.
(ونسكي) النسك جمع نسيكة وهي الذبيحة كذا قال مجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وغيرهم أي ذبيحتي في الحج والعمرة، وقال الحسن ديني، وقال قتادة ضحيتي وقال الزجاج عبادتي من قولهم نسك فلان ناسك إذا تعبد، وبه قال جماعة من أهل العلم ونقل الواحدي عن ابن الأعرابي قال النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة، وقيل للمتعبِّد ناسك لأنه صفى نفسه كالسبيكة انتهى، ولا يخلو هذا من تكلف وبعد.
(ومحياي ومماتي) أي ما أعمله في هاتين الحالتين من أعمال الخير، ومنها في الممات الوصية بالصدقات وأنواع القربات وقيل نفس الحياة ونفس الموت (لله رب العالمين) أي خالصة أو مخلوقة له.
(4/292)
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
(لا شريك له) في العبادة والخلق والقضاء والقدر، وسائر أفعاله لا يشاركه فيها أحد من خلقه (وبذلك) أي بالتوحيد أو بمأ أفاده قوله لله من
(4/292)
الإخلاص في الطاعة وجعلها لله وحده (أمرت وأنا أول المسلمين) أي المنقادين من هذه الأمة قاله قتادة.
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والببهقي عن عمران بن حصين قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملته وقولي إن صلاتي " إلى " وأنا أول المسلمين، قلت يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة قال لا بل المسلمين عامة " (1).
_________
(1) المستدرك كتاب الأضاحي 4/ 222.
(4/293)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
(قل أغير الله) الاستفهام للإنكار وهو جواب على المشركين لما دعوه إلى عبادة غيره سبحانه أي كيف (أبغي) غير الله (رباً) مستقلاً وأترك عبادة الله أو شريكاً لله فأعبدهما معاً (وهو) أي والحال أنه (رب كل شيء) والذي تدعونني إلى عبادته هو من جملة من هو مربوب له مخلوق مثلي، لا يقدر على نفع ولا ضرر، فكيف يكون المملوك شريكاً لمالكه، وفي هذا الكلام من التقريع والتوبيخ لهم ما لا يقادر قدره.
(ولا تكسب كل نفس إلا عليها) أي لا تؤخذ بما أتت من الذنب وارتكبت من المعصية سواها فكل نفس كسبها للشر عليها لا يتعداها إلى غيرها. وهو مثل قوله تعالى (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) وقوله (لتجزى كل نفس بما تسعى) (ولا تزر) تحمل نفس (وازرة) حاملة (وزر) حمل (أخرى) ولا تؤاخذ نفس آثمة بإثم أخرى (1).
_________
(1) روى أبو داود عن أبي رمته قال: انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي: " ابنك هذا "؟ قال: أي وَرَبِّ الكعبة. قال: " حقاً ". قال: اشهد به، قال: أقسم النبي صلى الله عليه وسلم ضاحكاً منها ثبت شبهى في أبي، ومن حَلِف أبي عليّ. ثم قال: " أما أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ". وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَلَا تَزِر ُوَازِرَهُ وِزْر َأخرى).
(4/293)
وأصل الوزر الثقل، ومنه قوله تعالى (ووضعنا عنك وزرك) وهو هنا الذنب، قال ابن عباس لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم، وفيه رد لما كانت عليه الجاهلية من مؤاخذة القريب بذنب قريبه.
والواحد من القبيلة بذنب الآخر، وقد قيل: إن المراد بهذه الآية في الآخرة، وكذلك التي قبلها لقوله تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ومثله قول زينب بنت جحش يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث " (1).
والأولى حمل الآية على ظاهرها، أعني العموم وما ورد من المؤاخذة بذنب الغير كالدية التي تحملها العاقلة ونحو ذلك فيكون في حكم المخصص لهذا العموم ويقر في موضعه، ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى (وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) فإن المراد بالأثقال التي مع أثقالهم هي أثقال الذين يضلونهم كما في الآية الأخرى (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم).
(ثم إلى ربكم مرجعكم) يوم القيامة (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) في الدنيا من الأديان والملل وعند ذلك يظهر حق المحقين وباطل المبطلين.
_________
(1) مسلم 2880 - البخاري 1582.
(4/294)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) جمع خليفة أي جعلكم خلفاء الأمم الماضية والقرون السابقة أو المراد أنه يخلف بعضهم بعضاً أو أن هذا النوع الإنساني خلفاء الله في أرضه؛ قال السدي: أهلك القرون الأولى فاستخلفنا فيها بعدهم والإضافة على معنى في.
(ورفع بعضكم فوق بعض درجات) في الخلق والرزق والقوة والضعف والعلم والعقل والجهل والحسن والقبح والغنى والفقر والشرف والوضع، وهذا التفاوت بين الخلق في الدرجات ليس لأجل العجز أو الجهل أو البخل، فإن الله سبحانه منزه عن صفات النقص.
وإنما هو (ليبلوكم فيما أتاكم) أي ليختبركم في تلك الأمور، ويعاملكم معاملة المبتلى والمختبر، وهو أعلم بأحوال عباده منهم أو ليبلي بعضكم ببعض كقوله تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة).
ثم خوفهم فقال (إن ربك سريع العقاب) لأعدائه بإهلاكهم في الدنيا، وإنما وصف العقاب بالسرعة وإن كان في الآخرة لأن كل آت قريب كما قال (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب).
ثم رغب من يستحق الترغيب من المسلمين فقال (وإنه لغفور رحيم) أي كثير الغفران لأوليائه عظيم الرحمة بجميع خلقه.
(4/295)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعراف
هي مكية إلا ثمان آيات، وهي قوله: (واسألهم عن القرية إلى قوله وإذ نتقنا الجبل فوقهم) قاله ابن عباس وابن الزبير، وبه قال الحسن ومجاهد وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد، وقال قتادة: آية من الأعراف مدنية وهي (واسألهم عن القرية) وسائرها مكية، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بها في المغرب يفرقها في الركعتين وآياتها مائتان وست آيات.
(4/297)
بسم الله الرحمن الرحيم
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
(4/299)
المص (1)
(المص) قال ابن عباس: معناه أنا الله أفصل، وعنه أن هذا ونحوه من فواتح السور قسم أقسم الله به، وهي اسم من أسماء الله تعالى، وقال السدي هو المصور، وقال محمد بن كعب القرظي هو الله الرحمن الصمد، وقال الضحاك أنا الله الصادق، وقيل غير ذلك. ولا يخفى عليك أن هذا كله قول بالظن، وتفسير بالحدس، ولا حجة في شيء من ذلك؛ والحق ما قدمناه في فاتحة سورة البقرة والله أعلم بمراده وهو سره في كتابه العزيز.
(4/299)
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
(كتاب أنزل إليك) أي: هو كتاب وقال الكسائي أي هذا كتاب يعني القرآن أي القدر الذي كان قد نزل منه وقت نزول هذه الآية (فلا يكن في صدرك حرج منه) الحرج الضيق أي ضيق من إبلاغه إلى الناس مخافة أن يكذبوك ويؤذوك فإن الله حافظك وناصرك، وقيل المراد لا يضيق صدرك حيث لم يؤمنوا به ولم يستجيبوا لك فإنما عليك البلاغ.
وقال مجاهد وقتادة الحرج هنا الشك لأن الشاك ضيق الصدر أي لا تشك في أنه منزل من عند الله. وعلى هذا يكون النهي له صلى الله عليه وآله وسلم من باب التعريض، والمراد أمته أي لا يشك أحد منهم في ذلك، والضمير في (منه) راجع إلى الكتاب فعلى الأول التقدير من إبلاغه، وعلى الثاني التقدير من إنزاله.
(لتنذر به) أي لتنذر الناس بالكتاب الذي أنزلناه إليك، وهو متعلق بأنزل أي أنزل إليك لإنذارك للناس به أو متعلق بالنهي، لأن انتفاء الشك في
(4/299)
كونه منزلاً من عند الله أو انتفاء الخوف من قومه يقويه على الإنذار ويشجعه لأن المتيقن يقدم على بصيرة ويباشر بقوة نفس، وصاحب اليقين جسور متوكل على ربه.
(وذكرى للمؤمنين) قال البصريون وذكر به ذكرى، أو المعنى للإنذار وللذكرى، وقال أبو إسحاق الزجاج وهو ذكرى، وتخصيصه بالمؤمنين لأنهم الذين ينجع فيهم ذلك، وفيه إشارة إلى تخصيص الإنذار بالكافرين.
(4/300)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
(اتبعوا) كلام مستأنف خوطب به كافة المكلفين (ما أنزل إليكم من ربكم) يعني الكتاب ومثله السنة لقوله (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا) ونحوها من الآيات، قاله الزجاج وقيل هو أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأمته، وقيل هو أمر للأمة بعد أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ وهو منزل إليهم بواسطة إنزاله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الرازي قوله (ما أنزل إليكم) يتناول الكتاب والسنة، وإنما قال أنزل إليكم مع أنه أنزل على الرسول لأنه منزل على الكل بمعنى أنه خطاب للكل.
ولفظ البيضاوي يعم القرآن والسنة لقوله سبحانه (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) انتهى وقال الحسن يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والله ما نزلت آية إلا ويجب أن تعلم فيم أنزلت وما معناها.
وقيل هو خطاب للكفار أي اتبعوا أيها المشركون ما أنزل إليكم من ربكم واتركوا ما أنتم عليه من الكفر والشرك ويدل عليه قوله (ولا تتبعوا من دونه أولياء) والأول أولى وهو نهي للأمة أن يتبعوا أولياء من دون لله يعبدونهم ويجعلونهم شركاء لله من الشياطين والكهان.
وقال الزمخشري لا تتولوا أحداً من شياطين الإنس والجن ليحملوكم على
(4/300)
الأهواء والبدع، فالضمير في (دونه) يرجع إلى رب " ويجوز أن يرجع إلى (ما) في ما أنزل إليكم أي لا تتبعوا من دون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أولياء تقلدونهم في دينكم كما كان يفعله أهل الجاهلية من طاعة الرؤساء فيما يحللونه لهم ويحرمونه عليهم.
وقرأ مالك بن دينار (ولا تبتغوا) من الابتغاء، قال الرازي هذه الآية تدل على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس لا يجوز لأن عموم القرآن منزل من عند الله، والله تعالى أوجب متابعته فوجب العمل بعموم القرآن، ولما وجب العمل به امتنع العمل بالقياس. وإلا لزم التناقض انتهى، والبحث في ذلك يطول وله موضع غير هذا.
(قليلاً ما) مزيد للتوكيد أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً (تذكرون).
ثم شرح الله في إنذارهم بما حصل للأمم الماضية بسبب إعراضهم عن الحق فقال
(4/301)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
(وكم من قرية) كم هي الخبرية المفيدة للتكثير، ولم ترد في القرآن إلا هكذا ويجب لها الصدر لكونها على صورة الاستفهامية، والقرية موضع اجتماع الناس أي كم من قرية من القرى الكثيرة (أهلكناها) نفسها بإهلاك أهلها أو أهلكنا أهلها والمراد أردنا إهلاكها.
وقوله (فجاءها بأسنا) معطوف على أهلكنا بتقدير الإرادة كما مر، لأن ترتيب مجيء البأس على الإهلاك لا يصح إلا بهذا التقدير إذ الإهلاك هو نفس مجيء البأس، وقال الفراء: إن الفاء بمعنى الواو فلا يلزم التقدير، والمعنى أهلكناها وجاءها بأسنا، والواو لمطلق الجمع لا ترتيب فيها.
وقيل: إن الإهلاك واقع لبعض أهل القرية فيكون المعنى وكم من قرية أهلكنا بعض أهلها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع، وقيل المعنى وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا، وقيل أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها
(4/301)
فجاءها بأسنا، والبأس العذاب، وحكي عن الفراء أنه إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدمت أيهما شئت فيكون المعنى وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها مثل دنا فقرب وقرب فدنا.
(بياتاً) أي ليلاً لأن البيات فيه أو مصدر واقع موقع الحال، يقال بات يبيت بيتاً وبياتاً أي بائتين.
(أو هم قائلون) أي قائلين، و (أو) في هذا الموضع للتفصيل لا للشك كأنه قيل أتاهم بأسنا تارة ليلاً كقوم لوط، وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب، وهل يحتاج إلى تقدير واو حال قبل هذه الجملة أم لا؟ خلاف بين النحويين فقدره بعضهم. ورجحه الزجاج وبه قال أبو بكر والقيلولة هي نوم نصف النهار.
وقيل هي مجرد الاستراحة في ذلك الوقت لشدة الحر من دون نوم، وخص الوقتين لأنهما وقت السكون والدعة فمجيء العذاب فيهما أشد وأفظع وأزجر وأردع عن الاغترار بأسباب الأمن والراحة. والمعنى جاءها عذابنا غفلة وهم غير متوقعين له ليلاً وهم نائمون أو نهاراً وهم قائلون وقت الظهيرة أي جاءهم البأس على غير تقدم أمارة لهم على وقت نزوله، وفيه وعيد وتخويف للكفار كأنه قيل لهم لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة فإن عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة.
(4/302)
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
(4/303)
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
(فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) الدعوى الدعاء أي فما كان دعاءهم واستغاثتهم بربهم عند نزول العذاب إلا اعترافهم بالظلم على أنفسهم، ومثله (آخر دعواهم) قال سيبويه: تقول العرب اللهم أشركنا في صالح دعوى المؤمنين ومنه قوله (دعواهم فيها سبحانك اللهم) وحكاه الخليل أيضاً وقيل الدعوى هنا بمعنى الإدعاء، والمعنى ما كانوا يدعونه لدينهم وينتحلونه إلا اعترافهم ببطلانه وفساده.
(4/303)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
(فلنسألن الذين أرسل إليهم) هذا وعيد شديد وبيان لعذابهم الأخروي إثر بيان عذابهم الدنيوي، غير أنه قد تعرض لبيان مبادي أحوال المكلفين جميعاً لكونه داخلاً في التهويل والسؤال للقوم الذين أرسل إليهم الرسل من الأمم السالفة للتقريع والتوبيخ، واللام للقسم أي لنسألنهم عما أجابوا به رسلهم عند دعوتهم. والفاء لترتيب الأحوال الأخروية على الأحوال الدنيوية.
(ولنسألن المرسلين) أي الأنبياء الذين بعثهم الله أي يسألهم عما أجاب به أممهم عليهم، ومن أطاع منهم ومن عصى، وقيل المعنى فلنسألن الذين أرسل إليهم يعني الأنبياء ولنسألن المرسلين يعني الملائكة، قال ابن عباس: يسأل الله الناس عما أجابوا به المرسلين ويسأل المرسلين عما بلغوا عنه، ونحوه عن السدي.
ولا يعارض هذا قول الله سبحانه (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) لما قدمنا غير مرة أن في الآخرة مواطن ففي موطن يسألون وفي موطن لا يسألون
(4/303)
وهكذا سائر ما ورد مما ظاهره التعارض بأن أثبت تارة ونفى أخرى بالنسبة إلى يوم القيامة فإنه محمول على تعدد المواقف مع طول ذلك اليوم طولاً عظيماً.
(4/304)
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
(فلنقصن عليهم) أي على الرسل والمرسل إليهم لما سكتوا ما وقع بينهم عند الدعوة لهم منهم (بعلم) لا بجهل أي عالمين بما يسرون وما يعلنون (وما كنا غائبين) عن إبلاع الرسل والأمم الخالية في حال من الأحوال حتى يخفى علينا شيء مما وقع بينهم ومما عملوا، قال ابن عباس: يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون.
(4/304)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
(والوزن يومئذ الحق) أي الوزن في هذا اليوم العدل الذي لا جور فيه، أو المعنى الوزن العدل كائن أو استقر في هذا اليوم، واختلف أهل العلم في كيفية هذا الوزن فقيل المراد به وزن صحائف أعمال العباد بالميزان وزناً حقيقياً وهذا هو الصحيح، وهو الذي قامت عليه الأدلة. وقيل توزن نفس الأعمال وإن كانت إعراضاً فإن الله يقلبها يوم القيامة أجساماً كما جاء في الخبر الصحيح " أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف " وكذلك ثبت في الصحيح أنه يأتي القرآن في صورة شاب شاحب اللون ونحو ذلك.
وقيل إن الوزن هو نفس الأشخاص العاملين وقيل الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء وذكرهما من باب ضرب المثل كما تقول هذا الكلام في وزن هذا قاله مجاهد، وقال الزجاج: هذا شائع من جهة اللسان والأولى أن يتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان.
قال القشيري: وقد أحسن الزجاج فيما قال إذ يحمل الصراط على الدين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطين والجن على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة، ثم قال: وقد أجمعت الأمة في الصدر الأول على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل، وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصاً انتهى.
(4/304)
والحق هو القول الأول، وأما المستبعدون لحمل هذه الظواهر على حقائقها فلم يأتوا في استبعادهم بشيء من الشرع يرجع إليه، بل غاية ما تشبثوا به مجرد الاستبعادات العقلية، وليس في ذلك حجة على أحد، فهذا إذا لم تقبله عقولهم فقد قبلته عقول قوم هي أقوى من عقولهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى جاءت البدع كالليل المظلم وقال كل ما شاء وتركوا الشرع خلف ظهورهم، وليتهم جاؤوا بأحكام عقلية يتفق العقلاء عليها ويتحد قبولهم لها بل كل فريق يدعي على العقل ما يطابق هواه ويوافق ما يذهب إليه ومن هو تابع له فتتناقض عقولهم على حسب ما تناقضت مذاهبهم.
يعرف هذا كل منصف، ومن أنكره فليصف فهمه وعقله عن شوائب التعصب والتمذهب فإنه إن فعل ذلك أسفر الصبح لعينيه.
وقد ورد ذكر الوزن والميزان في مواضع من القرآن كقوله (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً) وقوله (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون) وقوله (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) وقوله (وأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً مذكورة في كتب السنة المطهرة، وما في الكتاب والسنة يغني عن غيرهما فلا يلتفت إلى تأويل أحد أو تحريفه مع قول الله تعالى ورسوله الصادق المصدوق، والصباح يغني عن المصباح.
(فمن ثقلت موازينه) بالحسنات فضلاً من الله، الفاء للتفصيل والموازين جمع ميزان وثقل الموازين هذا يكون بثقل ما وضع فيها من صحائف الأعمال وقيل: إن الموازين جمع موزون أي فمن رجحت أعماله الموزونة والأول أولى، وظاهر جمع الموازين المضافة إلى العامل أن لكل واحد من العاملين موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله.
(4/305)
وقيل هو ميزان واحد عبر عنه بلفظ الجمع كما يقال: خرج فلان إلى مكة على البغال وقيل إنما جمعه لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهين واللسان ولا يتم الوزن إلا باجتماع ذلك كله.
(فأولئك) إشارة إلى (من) والجمع باعتبار معناه كما رجع إليه ضمير موازينه باعتبار لفظه (هم المفلحون) أي الناجون غداً والفائزون بثواب الله وجزائه ومثله الكلام في قوله
(4/306)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
(ومن خفت) بالسيئات عدلاً (موازينه) والمراد موازين أعماله وهم الكفار بدليل قوله (فأولئك الذين خسروا أنفسهم) أي غبنوا حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته، والباء في (بما كانوا) سببية (بآياتنا يظلمون) أي يكذبون ويجحدونها.
وهذا الوزن للمسلمين عند الأكثر، وأما الكفار فتحبط أعمالهم على أحد الوجهين في تفسير قوله تعالى (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً) وقيل إنها توزن أيضاً وإن لم تكن راجحة ليخفف بها لهم العذاب عنهم، وهو ظاهر النظم، وبقي من تساوت حسناته وسيآته مسكوتاً عنه وهم أهل الاعراف على قول، وقد يدرج في القسم الأول لقوله (خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم) وعسى من الله تحقيق كما صرحوا به.
وللحافظ تأليف مستقل في الميزان قال فيه: إنهم اختلفوا في تعدد الميزان وعدمه والصحيح الثاني والوزن بعد الحساب وأعمال الكفرة يخفف بها عذابهم كما ورد في حق أبي طالب، وهو الصحيح كما قاله القرطبي، وقال السخاوي المعتمد أنه مخصوص بأبي طالب والمعتمد ما قاله القرطبي فلا وجه للتردد فيه.
أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مد البصر، فيقول أتنكر من هذا شيئاً أظلمك كتبتي الحافظون، فيقول لا يا رب فيقول أفَلَكَ عذر أو حسنة فيهاب الرجل
(4/306)
فيقول لا يا رب، فيقول بلى إن لك عندنا حسنة وأنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " (1). وقد صححه أيضاً الترمذي وإسناده عند أحمد (حسن). ولنعم ما قيل:
مهما تفكرت في ذنوبي ... خفت على قلبي احتراقه
لكنه ينطفي لهيبي ... بذكر ما جاء في البطاقة
والسجل الكتاب، وقيل: إنه معرب وأصل معناه الكاتب وسجل عليه بكذا شهره ورسمه، قاله الزمخشري في شرح مقاماته.
وفي مسلم: نظرت إلى مد بصري مكان مد البصر قال النووي كذا هو في جميع النسخ وهو صحيح ومعناه منتهى بصري، وأنكره بعض أهل اللغة وقال الصواب مدى بصري وليس بمنكر بل هما لغتان والمدى أشهر انتهى.
وقوله بطاقة بكسر الباء رقعة صغيرة وتطلق على حمام تعلق في جناحه، وليس مولدة كما قيل فإنها وردت في هذا الحديث وغيره، وفي فقه اللغة إنها معربة من الرومية، وفي المحكم الرقعة الصغيرة تكون في الثوب وفيها رقم ثمنه، حكاه شمر، وقال لأنها بطاقة من الثوب قيل وهو خطأ لأنه يقتضي أن الباء حرف جر، والصحيح ما تقدم كما حكاه الهروي.
ويؤيده ما أخرجه البخاري مرفوعاً " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان هما كلمتا الشهادة " قال الخفاجي ولك أن تقول المراد بها كلمة التوحيد فتأمل.
والكفة بفتح فتشديد كل مستدير، وبه سميت كفة الميزان المعروفة. وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة " (2).
_________
(1) المستدرك كتاب الدعاء 1/ 529.
(2) مسلم 2785 - البخاري 2023.
(4/307)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
(4/308)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
(ولقد مكناكم في الأرض) أي جعلنا لكم فيها مكاناً وأقدرناكم على التصرف فيها، وقيل المراد من التمكين التمليك (وجعلنا لكم فيها معايش) أي هيأنا لكم فيها أسباب المعاش. والمعايش جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطعوم والمشروب وما تكون به الحياة، وفي القاموس العيش الحياة وأيضاً الطعام وما يعاش به والخبز، والمتعيش من له بلغة من العيش.
وقال الزجاج: المعيشة ما يتوصلون به إلى العيش وهو يعم جميع وجوه المنافع التي تحصل به الأرزاق من الزرع والثمار، وما يتحصل من المكاسب والأرباح في أنواع التجارات والصنائع، وكل ذلك بتمكينه سبحانه لعباده وإنعامه عليهم (قليلاً ما تشكرون) الكلام فيه كالكلام فيما تقدم قريباً، وحقيقة الشكر تصور النعمة وإظهارها ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها.
(4/308)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
(ولقد خلقناكم ثم صورناكم) هذا ذكر نعمة أخرى عظيمة من نعم الله تعالى على عبيده والمعنى خلقناكم نطفاً ثم صورناكم بعد ذلك بالتخطيط وشق الحواس، وقيل العنى: خلقنا آدم من تراب ثم صورناكم في ظهره، وذكره بلفظ الجمع لأنه أبو البشر، وقيل (ثم صورناكم) راجع إليه ويدل عليه قوله تعالى (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم) فإن ترتيب هذا القول على الخلق والتصوير يفيد أن المخلوق المصور آدم عليه السلام.
وقال ابن عباس: خلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام النساء، وعنه قال خلقوا في ظهر آدم وصوروا في الأرحام، وعنه أيضاً أما خلقناكم فآدم وأما صورناكم فذريته، وقال الأخفش ثم بمعنى الواو، وقيل المعنى:
(4/308)
خلقناكم من ظهر آدم ثم صورناكم حين أخذنا عليكم الميثاق، قال النحاس وهذا أحسن الأقوال.
قال أبو السعود: وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين مع أن المراد خلق آدم وتصويره إعطاء لمقام الامتنان حقه وتأكيداً لوجوب الشكر عليهم بالرمز إلى أن لهم حظاً من خلقه وتصويره لأنهما من الأمور السارية إلى ذريته جميعاً.
وقال القاري: نزل خلقه منزلة خلق الكل وتصويرهم لأنه أبو البشر، وقيل المعنى ولقد خلقنا الأرواح أولاً ثم صورنا الأشباح.
(ثم) أي بعد إكمال خلقه، وفي السمين اختلف الناس في (ثم) في هذين الموضعين فمنهم من لم يلتزم فيها ترتيباً وجعلها بمنزلة الواو. ومنهم من قال هي للترتيب في الأخبار لا في الزمان، ولا طائل تحت هذا، ومنهم من قال هي للترتيب الزماني، وهذا هو موضوعها الأصلي ومنهم من قال الأولى للترتيب الزماني والثانية للترتيب الإخباري انتهى.
(قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) أي أمرناهم بذلك فامتثلوا الأمر (فسجدوا) أي فعلوا السجود بعد الأمر قبل دخول الجنة وكان السجود يوم الجمعة من وقت الزوال إلى العصر، وأول من سجد جبريل، ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم الملائكة المقربون.
(إلا إبليس) قيل الاستثناء متصل بتغليب الملائكة على إبليس لأنه كان منفرداً بينهم، أو كما قيل إن من الملائكة جنساً يقال لهم الجن وقيل غير ذلك، وقد تقدم تحقيقه في البقرة (لم يكن من الساجدين) جملة مبينة لما فهم من معنى الاستثناء ومن جعل الاستثناء منقطعاً قال معناه لكن إبليس لم يكن من الساجدين لآدم عليه السلام.
(4/309)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
(4/310)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
(قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) جملة مستأنفة كأنه قيل فماذا قال له الله، ولا زائدة للتوكيد بدليل قوله تعالى في سورة ص (ما منعك أن تسجد) قاله الكسائي والفراء والزجاج، وقيل: إن منع بمعنى قال والتقدير من قال لك أن لا تسجد قاله أحمد بن يحيى، حكاه الواحدي وحكاه أبو بكر عن الفراء وقيل منع بمعنى دعا أي ما دعاك إلا أن لا تسجد قاله القاضي حكاه الرازي.
وقيل في الكلام حذف والتقدير ما منعك من الطاعة وأحوجك إلا أن لا تسجد في وقت أن أمرتك قاله الطبري.
وقد استدل به على أن الأمر للفور. والبحث مقرر في علم الأصول؛ والاستفهام ما منعك للتقريع والتوبيخ وإلا فهو سبحانه عالم بذلك، وقال هنا ما منعك وفي سورة الحجر (قال يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين) وقال في سورة ص (أن تسجد لما خلقت بيدي) واختلاف العبارات عند الحكاية يدل على أن اللعين قد أدرج في معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأمر ومفارقة الجماعة والاستكبار مع تحقير آدم، وقد وبخ على كل واحدة منها لكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اكتفاء بما ذكر في موطن آخر، وقد تركت حكاية التوبيخ رأساً في سورة البقرة والإسراء والكهف وطه.
(قال) إبليس (أنا خير منه) إنما قال هذا ولم يقل منعني كذا لأن في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة ما يدل على المانع وهو اعتقاده أنه أفضل منه، والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول مع ما تفيده هذه الجملة من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله.
ثم علل ما ادعاه من الخيرية بقوله (خلقتني من نار وخلقته من طين)
(4/310)
اعتقاداً منه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين لأنها جسم نوراني.
وقد أخطأ عدو الله فإن عنصر الطين أفضل من عنصر النار من جهة رزانته وسكونه وطول بقائه، وفيه الأناة والصبر والحلم والحياء والتثبت، والنار خفيفة مضطربة سريعة النفاذ وفيها الطيش والارتفاع والحدة. ومع هذا فهو موجود في الجنة دونها وهي عذاب دونه، وهو محتاج إليه ليتحيز فيه وهو مسجد وطهور، والتراب عدة الممالك، والنار عدة المهالك، والنار مظنة الخيانة والإفناء والطين مئنة الأمانة والإنماء، والطين يطفئ النار ويتلفها والنار لا تتلفه، وهذه فضائل غفل عنها اللعين حتى زل بفاسد من القياس.
وقال النسفي: والقياس مردود عند وجود النص. وقياس إبليس عناد للأمر المنصوص خارج عن الصواب انتهى.
ولولا سبق شقاوته وصدق كلمة الله عليه لكان له بالملائكة المطيعين لهذا الأمر أسوة وقدوة فعنصرهم النوري أشرف من عنصره الناري.
عن عكرمة قال: خلق إبليس من نار العزة، وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة قالت: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من نار وخلق آدم مما وصفه لكم، " (1) وقال ابن سيرين: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.
وأصل هذا القياس الذي قاسه إبليس أنه رأى النار أفضل من الطين وأقوى ولم يدر أن الفضل ليس بالأصل والجوهر بل بالطاعة وقبول الأمر، فالمؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي وقد خص الله آدم بأشياء لم يخص بها غيره وهو أنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأورثه الإجتباء والتوبة والهداية إلى غير ذلك للعناية التي سبقت له في القدم، وأورث إبليس كبره اللعنة والطرد للشقاوة التي سبقت له في الأزل.
وقال الحسن في الآية أول من قاس إبليس، وإسناده صحيح إلى
_________
(1) مسلم، 2996.
(4/311)
الحسن أخرجه ابن جرير، وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله له أسجد لآدم فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " (1)، قال جعفر فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس، وينبغي أن ينظر في إسناد هذا الحديث فما أظنه يصح رفعه وهو لا يشبه كلام النبوة.
_________
(1) الدارمي، كتاب القدمة، الباب 22.
(4/312)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
(قال فاهبط منها) جملة استئنافية كالتي قبلها والفاء لترتيب الأمر بالهبوط على مخالفته للأمر أي اهبط من السماء التي هي محل المطيعين من الملائكة الذين لا يعصون الله فيما أمرهم إلى الأرض التي هي مقر من يعصي ويطيع فإن السماء لا تصلح لمن يتكبر ويعصي أمر ربه مثلك، وقيل اهبط من الجنة والهبوط النزول والإنحدار من فوق إلى أسفل على سبيل القهر والهوان والاستخفاف ومن التفاسير الباطلة ما قيل: أن معنى أهبط منها أي أخرج من صورتك النارية التي افتخرت بها إلى صورة مظلمة مشوهة، وقيل المراد هبوطه من زمرة الملائكة.
(فما يكون لك أن تتكبر فيها) أي في الجنة لأنه لا ينبغي أن يسكن في الجنة أو السماء متكبر مخالف لأمر الله عز وجل، ولا يتوهم أنه يجوز أن يتكبر في غيرها لأن التقدير ما يكون لك أن تتكبر فيها ولا في غيرها وعلى هذا لا مفهوم لها.
وجملة (فاخرج) لتأكيد الأمر بالهبوط متفرع على علته، وجملة (إنك من الصاغرين) تعليل للأمر بالخروج أي: إنك من أهل الصغار والهوان على الله وعلى صالحي عباده يذمك كل إنسان، ويلعنك كل لسان لتكبرك، وبه علم أن الصغار لازم للاستكبار فكل من تردى برداء الاستكبار عوقب بلبس رداء الهوان والصغار، ومن لبس رداء التواضع ألبسه الله رداء الترفع، وقال الزجاج: استكبر عدو الله إبليس فابتلاه الله بالصغار والذلة والصغار بالفتح الذل والضيم وكذا الصغر والصاغر الذليل والراضي بالضيم.
(4/312)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
(4/313)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
(قال أنظرني إلى يوم يبعثون) جملة استئنافية أي أمهلني إلى يوم البعث وكأنه طلب أن لا يموت لأن يوم البعث لا موت بعده والضمير في يبعثون لآدم وذريته أي يبعثون من قبورهم بالنفخة الثانية عند قيام الساعة
(4/313)
قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
(قال) أي أجابه الله بقوله (إنك من المنظرين) أي المهملين المؤخرين ثم تعاقب بما قضاه الله عليك وأنزله بك في دركات النار.
وقد بين الله مدة النظر والمهلة في سورة الحجر فقال تعالى (إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم) وذلك هو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم، قيل الحكمة في إنظاره ابتلاء العباد ليعرف من يطيعه ممن يعصيه.
(4/313)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
(قال فبما أغويتني) الجملة مستأنفة والباء للسببية، وبه قال الزمخشري، وقيل قسمية وهو الظاهر كقوله (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) أي فبإغوائك إياي، والإغواء الإيقاع في الغي، وقيل الباء بمعنى مع والمعنى فمع إغوائك إياي وقيل (ما) في فبما أغويتني للاستفهام والمعنى فبأي شيء أغويتني والأول أولى.
ومراده بهذا الإغواء الذي جعله سبباً لما سيفعله مع العباد وهو ترك السجود منه وأن ذلك كان بإغواء الله له حتى اختار الضلالة على الهدى، وقيل أراد به اللعنة التي لعنه الله بها أي فيما لعنتني فأهلكتني ومنه (فسوف يلقون غياً) أي هلاكاً.
(4/313)
وقال ابن الأعرابي: يقال غوى الرجل يغوى غياً إذا فسد عليه أمره أو فسد هو في نفسه ومنه عمى آدم ربه فغوى أي فسد عيشه في الجنة، وغرض اللعين بهذا أخذ ثأره منهم لأنه لما طرد ومقت بسببهم على ما تقدم أحب أن ينتقم منهم أخذاً بالثأر.
(لأقعدن لهم) أي لأجهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسبب تركي للسجود لأبيهم (صراطك المستقيم) هو الطريق الموصل إلى الجنة، وقال ابن عباس: طريق مكة يعني أمنعهم من الهجرة، وعن ابن مسعود مثله، وقيل هو طريق الإسلام، وقيل المراد الحج والأول أولى لأنه يعم الجميع والمعنى لأردن بني آدم عن عبادتك وطاعتك ولأغوينهم ولأضلنهم.
(4/314)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
(ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) ذكر الجهات الأربع لأنها هي التي يأتي منها العدو عدوه ولهذا ترك ذكر جهة الفوق والتحت، وعدى الفعل إلى الجهتين الأوليين بمن وإلى الآخريين بعن لأن الغالب فيمن يأتي من قدام وخلف أن يكون متوجهاً إلى ما يأتيه بكلية بدنه والغالب فيمن يأتي من جهة اليمين والشمال أن يكون منحرفاً فناسب في الأوليين التعدية بحرف الابتداء وفي الأخريين بحرف المجاوزة.
وهو تمثيل الوسوسة وتسويله بمن يأتي حقيقة، وفيه إشارة إلى نوع تباعد منه في هاتين الجهتين لقعود ملك اليمين وملك اليسار فيهما، وهو ينفر من الملائكة، وقيل المراد من بين أيديهم من دنياهم، ومن خلفهم من آخرتهم، وعن أيمانهم من جهة حسناتهم، وعن شمائلهم من جهة سيآتهم، استحسنه النحاس.
قال ابن عباس: أسن لهم المعاصي وأخفي عليهم للباطل، وعنه قال: من بين أيديهم من قبل الآخرة فأشككهم فيها، ومن خلفهم من قبل الدنيا فأرغبهم فيها وعن أيمانهم أشبه عليهم أمر دينهم وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي.
(4/314)
وقال الحكم بن عتبة من بين أيديهم أي من قبل الدنيا فأزينها لهم، ومن خلفهم من قبل الآخرة فأثبطهم عنها، وعن أيمانهم من قبل الحق فأصدهم عنه وعن شمائلهم من قبل الباطل فأزينه لهم.
وقال قتادة: أتاك إبليس يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله تعالى، ونحوه عن ابن عباس ولفظه ولا يستطيع أن يأتي من فوقهم لئلا يحول بين العبد وبين رحمة الله تعالى، قيل ولا يأتي أيضاً من تحتهم إما لأنه متكبر يحب العلو وإما لأن الإتيان منها ينفر ويفزع المأتي وهو يحب تأليفه لا تنفيره فلا يأتي إلا من الجهات الأربع.
قال مجاهد: يأتيهم من الجهات الأربع من حيث لا يبصرون وقيل من بين أيديهم فيما بقي من أعمارهم فلا يقدمون فيه طاعة، ومن خلفهم فيما مضى من أعمارهم فلا يتوبون " عما أسلفوا فيه من معصية، وعن أيمانهم من قبل الغنى فلا ينفقون ولا يشكرون وعن شمائلهم من قبل الفقر فلا يمتنعون فيه من محظور نالوه.
وعن شقيق البلخي ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم فأقرأ (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً) ومن خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي أي وقوع أولادي في الفقر فأقرأ (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) وعن يميني فيأتيني من قبل الثناء فأقرأ (والعاقبة للمتقين) وعن شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) قال النسفي: ولم يقل من فوقهم ومن تحتهم لمكان الرحمة والسجدة.
وقيل إن ذكر هذه الجهات الأربع إنما أريد به التأكيد والمبالغة في إلقاء
(4/315)
الوسوسة في قلب ابن آدم وأنه لا يقصر في ذلك، والمعنى يأتيهم من جميع الوجوه الممكنة لجميع الاعتبارات.
(و) عند أن أفعل ذلك (لا تجد) يا رب (أكثرهم شاكرين) موحدين لتأثير وسوستي فيهم وإغوائي لهم، وهذا قاله على الظن فأصاب لقوله تعالى (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) لما رأى منهم أن مبدأ الشر متعدد ومبدأ الخير واحد، وقيل: إنه سمع ذلك من الملائكة فقاله، وقيل رآه مكتوباً في اللوح المحفوظ والأول أولى وقيل شاكرين مؤمنين وقيل عبر بالشكر عن الطاعة أو هو على الحقيقة، وأنهم لم يشكروا الله بسبب الإغواء.
(4/316)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
(قال اخرج منها) أي من السماء أو من الجنة أو من بين الملائكة كما تقدم وقال له ذلك حين طرده عن بابه وأبعده عن جنابه (مذءوماً) من ذأمه يذأمه إذا ذمه وعابه ومقته وقيل المذءوم المنفى والذام العيب بهمز ولا يهمز، وحكى ابن الأنباري فيه ذيماً، وقال الليث الذام الاحتقار، وقيل الذم قاله ابن قتيبة (مدحوراً) أي مطروداً والدحر الطرد والإبعاد يقال دحره يدحره دحراً ودحورا ومنه [ويقذفون من كل جانب دحوراً] وقال ابن عباس: صغيراً ممقوتاً، وقال قتادة: لعيناً مقيتاً، وقال الكلبي: ملوماً مقصياً من الجنة ومن كل خير والمعاني متقاربة.
(لمن) بفتح اللام على أنها لام القسم وتسمى هذه اللام موطئة لأنها وطأت الجواب للقسم المحذوف أي مهدته له، وتسمى أيضاً المؤذنة لأنها تؤذن بأن الجواب بعدها مبني على قسم قبلها لا على الشرط (تبعك منهم) أي من بني آدم وجواب القسم (لأملأن جهنم) وقيل اللام الأولى للتأكيد والابتداء وهذه لام القسم والأول أولى، وفي هذا الجواب من التهديد ما لا يقادر قدره (منكم أجمعين) أي منك ومنهم، وفيه تغليب الحاضر وهو إبليس على الغائب وهو الناس.
(4/316)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
(4/317)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
(و) قلنا (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) قال له هذا القول بعد إخراج إبليس من الجنة أو من السماء أو من بين الملائكة والمعنى اتخذها مسكناً وتخصيص الخطاب بآدم للإيذان بأصالته في تلقي الوحي وتعاطي المأمور به. واختلفوا في خلق حواء فقال ابن إسحق خلقت قبل دخول آدم الجنة وهو ظاهر هذه الآية وقيل بعد دخول الجنة وقيل الخطاب للمعدوم لوجوده في علم الله.
(فكلا من حيث) أي من أي نوع من أنواع الجنة (شئتما) أكله ومثله ما تقدم من قوله تعالى (وكلا منها رغداً حيث شئتما) وقال أبو السعود حيث ظرف مكان أي فكلا من ثمارها في أي مكان شئتما الأكل فيه، وقال هناك بالواو وهنا بالفاء. قال الرازي: إن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب، فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو، ولا منافاة بينهما ففي البقرة ذكر الجنس وهنا ذكر النوع.
(ولا تقربا هذه الشجرة) تقدم الكلام على هذا في البقرة مستوفى (فتكونا) أي فتصيرا (من الظالمين) لأنفسكما أي العاصين لله تعالى.
(4/317)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
(فوسوس لهما الشيطان) الوسوسة الصوت الخفى وحديث النفس يقال وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواساً بكسر الواو، والوسوسة بالفتح الاسم مثل الزلزلة والزلزال، ويقال لهمس الصائد والكلاب وأصوات الحلى وسواس والوسواس اسم الشيطان. ومعنى وسوس له وسوس إليه أو فعل الوسوسة لأجله، قال
(4/317)
الحسن: كان يوسوس في الأرض إلى السماء ثم الجنة بالقوة القوية التي جعلها الله تعالى له.
وقال أبو مسلم الأصبهاني: بل كان آدم وإبليس في الجنة لأن هذه الجنة كانت في الأرض، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحت ذكره، والذي يقوله بعض الناس: إن إبليس دخل في جوف الحية وهي دخلت به إلى الجنة فهو قصة ركيكة.
(ليبدي) أي ليظهر (لهما) اللام للعاقبة كما في قوله (ليكون لهم عدواً وحزناً) وقيل هي لام كي أي فعل ذلك ليتعقبه الإبداء أو لكي يقع الإبداء، ويصح أن تكون للعلة والغرض لجواز أن يكون ظهور سؤآتهما زيادة على وقوعهما في المعصية.
(ما ووري) أي ستر وغطى، فوعل من المواراة (عنهما من سؤآتهما) سمي الفرج منهما سوأة لأن ظهوره وانكشافه يسوء صاحبه ويحزنه أراد الشيطان أن يسوءهما بظهور ما كان مستوراً عنهما من عوراتهما فإنهما كانا لا يريان عوراتهما ولا يراها أحدهما من الأخر، قيل إنما بدت لهما لا لغيرهما وكان عليهما نور يمنع من رؤيتهما فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما، وفي الآية دليل على أن كشف العورة من المنكرات المحرمات وأنه لم يزل مستقبحاً في الطباع والعقول.
(وقال) الشيطان لآدم وحواء (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة) أي عن الأكل منها (إلا) كراهة (أن تكونا) هكذا قاله البصريون وقال الكوفيون: التقدير لئلا تكونا والاستثناء مفرغ وهو مفعول من أجله (ملكين) من الملائكة تعلمان الخير والشر وتستغنيان عن الغذاء (أو تكونا من الخالدين) في الجنة أو من الذين لا يموتون قال ابن عباس: فإن أخطأ كما أن تكونا ملكين لم يخطئكما أن تكونا من الخالدين فلا تموتان فيها أبداً.
(4/318)
قال النحاس: فضل الملائكة على جميع الخلق في غير موضع من القرآن فمنها هذا ومنها ولا أقول إني ملك ومنها ولا الملائكة المقربون.
وقال ابن فورك: لا حجة في هذه الآية لأنه يحتمل أن يراد ملكين في أن لا يكون لهما شهوة في الطعام. وقيل لطول أعمارهم لا لأنهم أفضل منه حتى يلتحق بهم في الفضل فذلك بمعزل عن الدلالة على أفضلية الملائكة عليه، فليس في الآية دليل عليها وبنحوه قال أبو السعود.
وقد اختلف الناس في هذه المسألة اختلافاً كثيراً وأطالوا الكلام في غير طائل، وليست هذه المسألة مما كلفنا الله بعلمه فالكلام فيها لا يعنينا.
وقرئ ملكين وأنكر أبو عمرو بن العلاء هذه القراءة وقال ولم يكن قبل آدم ملك فيصيرا ملكين، وقد احتج من قرأ بالكسر بقوله تعالى (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) قال أبو عبيدة: هذه حجة بينة لقراءة الكسر ولكن الناس على تركها فلهذا تركناها.
قال النحاس: هذه قراءة شاذة وأنكر على أبي عبيدة هذا الكلام وجعله من الخطأ الفاحش، قال وهل يجوز أن يتوهم على آدم عليه السلام أنه يصل إلى أكثر من ملك الجنة وهي غاية الطالبين، وأنما معنى وملك لا يبلى المقام في ملك الجنة والخلود فيه.
(4/319)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
(وقاسمهما) أي حلف لهما يقال أقسم إقساماً أي حلف وصيغة المفاعلة وإن كانت في الأصل تدل على المشاركة فقد جاءت كثيراً لغير ذلك وقد قدمنا تحقيق هذا في المائدة والمراد بها هنا المبالغة في صدور الإقسام لهما من إبليس.
(إني لكما لمن الناصحين) في ذلك قيل: أنهما أقسما له بالقبول كما أقسم لهما على المناصحة، قال قتادة: حلف لهما بالله حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله فقال: إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما.
(4/319)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
(4/320)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
(فدلاهما بغرور) أي مناهما، والتدلية والإدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل يقال أدلى دلوه أرسلها والمعنى أنه أهبطهما بذلك من الرتبة العلية إلى الأكل من الشجرة أو من السماء إلى الأرض، وقيل معناه أوقعهما في الهلاك وقيل خدعهما، وقيل دلاهما من الدالة وهي الجرأة أي جرأهما على المعصية فخرجا من الجنة.
(فلما ذاقا) أي طعما الشجرة (بدت) ظهرت (لهما سؤآتهما) عوراتهما أي ظهر لكل منهما قبله وقبل الآخر ودبره بسبب زوال ما كان ساتراً لها وهو تقلص النور الذي كان عليها، قال ابن عباس تهافت عنهما لباسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه وكانا لا يريان ذلك.
وقال قتادة: كان لباسهما ظفراً كله فقشط عنهما أي غطاء على الجسد من جنس الأظفار فنزع عنهما وبقيت الأظفار في اليدين والرجلين تذكرة وزينة وانتفاعاً. وقبل كان من ثياب الجنة وهذا أقرب لأن إطلاق اللباس يتبادر فيه.
وقال مجاهد: كان لباسهما التقوى وقد تقدم في البقرة وفيه دليل على أنهما تناولا اليسير من ذلك قصداً إلى معرفة طعمه لأن الذوق يدل على الأكل اليسير.
(وطفقا) طفق يفعل كذا شرع يفعل كذا، وحكى الأخفش طفق يطفق مثل ضرب يضرب أي شرعا أو جعلا وأقبلا (يخصفان عليهما من ورق الجنة) قيل من التين، وقيل من الموز، قرأ الزهري يخصفان من أخصف، وقرأ
(4/320)
الجمهور يخصفان من خصف، والمعنى أنهما أخذا يقطعان الورق ويلزقانه بعورتهما ليستراها من خصف المنعل إذا جعله طبقة فوق طبقة.
عن عكرمة قال: كان لباس كل دابة منها ولباس الإنسان الظفر فأدركت آدم التوبة عند ظفره، وقال ابن عباس: كان لباس آدم وحواء كالظفر فلما أكلا من الشجرة لم يبق عليهما إلا مثل الظفر وطفقا ينزعان ورق التين فيجعلانه على سؤآتهما، وعنه قال لما سكن آدم الجنة كساه سربالاً من الظفر فلما أصاب الخطيئة سلبه السربال فبقي في أطراف أصابعه.
وعن أنس بن مالك قال: كان لباس آدم في الجنة الياقوت فلما عصى قلص فصار الظفر، وقال مجاهد: يخصفان يرقعان كهيئة الثوب، وفي الآية دليل على أن كشف العورة من ابن آدم قبيح، ألا ترى أنهما بادرا إلى ستر العورة لما تقرر في عقلهما من قبح كشفها.
(وناداهما ربهما) قائلاً لهما (ألم أنهكما عن تلكما الشجرة) التي نهيتكما عن أكلها، وهذا عتاب من الله تعالى لهما وتوبيخ حيث لم يحذرا ما حذرهما منه والاستفهام للتقرير (وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) أي مظهر للعداوة بترك السجود حسداً وبغياً كما قال في سورة طه فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك الآية، قال السدي: قال آدم إنه حلف لي بك ولم أكن أعلم أن أحداً من خلقك يحلف بك إلا صادقاً.
(4/321)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
(قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) جملة مستأنفة مبنية على تقدير سؤال، كأنه قيل فماذا قالا وهذا اعتراف منهما بالذنب وأنهما ظلما أنفسهما بما وقع منهما من المخالفة ثم قالا (وإن لم تغفر لنا) أي تستر علينا ذنبنا (وترحمنا) أي تتفضل علينا برحمتك (لنكونن من الخاسرين) أي الهالكين، قال الحسن: هي الكلمات التي تلقى آدم من ربه، وعن الضحاك مثله وقد استدل بهذا على صدور الذنب من الأنبياء وقد تقدم الكلام عليه فيما مضى.
(4/321)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
(4/322)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
(قال اهبطوا) استئناف كالتي قبلها والخطاب لآدم وحواء وذريتهما أو لهما ولإبليس قاله الرازي، وقيل لهم وللحية قاله الطبري وبه قال السدي: والمعنى اهبطوا من السماء إلى الأرض (بعضكم لبعض عدو) أي متعادين يعاديهما إبليس ويعادياه (ولكم في الأرض مستقر) أي موضع استقرار وهو المكان الذي يعيش فيه الإنسان وقال ابن عباس: يعني القبور (و) لكم فيها (متاع) تتمتعون به في الدنيا وتنتفعون به من المطعم والمشرب ونحوهما (إلى حين) إلى وقت موتكم وقيل إلى انقطاع الدنيا وقال ابن عباس إلى يوم القيامة.
(4/322)
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
(قال فيها) أي في الأرض (تحيون وفيها تموتون) استئناف كالتي قبلها وأعيد إما للإيذان ببعد اتصال ما بعده بما قبله وإما لإظهار الاعتناء بمضمون ما بعده (ومنها تخرجون) إلى دار الآخرة، ومثله قوله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اخرى) قيل الخطاب لآدم وذريته وإبليس وأولاده وقد سبق شرح هذه القصة مستوفى في البقرة فارجع إليه.
(4/322)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
(يا بني آدم) هذا تذكير ببعض النعم لأجل امتثال ما هو المقصود الآتي بقوله لا يفتننكم الخ (قد أنزلنا عليكم لباساً) عبر سبحانه بالإنزال عن الخلق أي خلقنا لكم لباساً، وقيل رزقناكم لباساً، وقيل أنزل المطر من السماء وهو سبب نبات اللباس فكأنه أنزله عليهم، وقيل جميع بركات الأرض تنسب إلى السماء وإلى الإنزال كما قال تعالى وأنزلنا الحديد.
(يواري سؤآتكم) التي أظهرها إبليس حتى اضطررتم إلى لزق الأوراق
(4/322)
فأنتم مستغنون عن ذلك باللباس وقال مجاهد: كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة والسوأة العورة كما سلف والكلام في قدرها وما يجب ستره منها مبين في كتب الفروع.
(وريشا) وقرئ رياشا جمع ريش وهو اللباس قال الفراء: ريش ورياش كما يقال لبس ولباس، وريش الطائر ما ستره الله به وهو لباسه وزينته كالثياب للإنسان، وقيل المراد بالريش هنا الخصب ورفاهية العيش، قال القرطبي: والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة.
وعن أبي عبيدة وهبت له دابة وريشها أي ما عليها من اللباس. وقيل المراد بالريش هنا لباس الزينة لذكره بعد قوله لباساً وعطفه عليه، قاله الزمخشري، وقال مجاهد والضحاك والسدي: ريشاً أي المال، وعن عروة بن الزبير مثله، وقال ابن عباس: المال واللباس والعيش والنعيم والإيمان، وقال ابن زيد: الريش الجمال، وقيل الأثاث وما ظهر مما يلبس أو يفرش.
(ولباس التقوى) أي الناشئ عنها أو الناشئة عنه والإضافة قريبة من كونها بيانية أي لباس الورع واتقاء معاصي الله وهو الورع نفسه والخشية من الله تعالى، وقيل لباس التقوى الحياء وقيل الإسلام وقيل العمل الصالح، وقيل هو لباس الصوف والخشن من الثياب لما فيه من التواضع لله، وقيل هو الدرع والمغفر الذي يلبسه من يجاهد في سبيل الله، وقيل هو ستر العورة في الصلاة، وقال عثمان: هو السمت الحسن، وقال الكلبي: هو العفاف والأول أولى.
وهو يصدق على كل ما فيه تقوى الله فيندرج تحته جميع ما ذكر من الأقوال ومثل هذه الاستعارة كثيرة الوقوع في كلام العرب.
(ذلك) أي لباس التقوى هو (خير) أي خير لباس وأجمل زينة لأنه يستر من فضائح الأخرة، وقيل الإيمان والعمل خير من اللباس والريش قاله ابن عباس وأنشدوا في المعنى:
إذا أنت لم تلبس ثياباً من التقى ... عريت وإن وارى القميص قميص
(4/323)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
(ذلك) أي الإنزال المدلول عليه بأنزلنا (من آيات الله) الدالة على أن له خالقاً (لعلهم يذكرون) نعمته فيشكرونها وفيه التفات عن الخطاب، وكان مقتضى المقام لعلكم.
ثم كرر الله سبحانه النداء لبني آدم تحذيراً لهم من الشيطان فقال
(4/324)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
(يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان) أي لا يوقعنكم في الفتنة والمحنة بأن يمنعكم من دخول الجنة فالنهي وإن كان للشيطان فهو في الحقيقة لبني آدم بأن لا يفتتنوا بفتنته ويتأثروا لذلك كما في قولك لا أرينك هنا (كما أخرج) أي: كما فتن.
(أبويكم) بأن أخرجهما (من الجنة) أو لا يفتننكم فتنة مثل إخراج أبويكم أو لا يخرجنكم بفتنته إخراجاً مثل إخراجه أبويكم.
(ينزع عنهما لباسهما) قد تقدم تفسيرها وأضاف نزعه إلى الشيطان وإن لم يباشر ذلك لأنه كان بسبب وسوسته فأسند إليه، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة التي وقعت فيما مضى، والنزع الجذب للشئ بقوة عن مقره ومنه (تنزغ الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر) ومنه نزع القوس ويستعمل في الأعراض ومنه نزع العداوة والمحبة من القلب ونزع فلان كذا سلبه، ومنه والنازعات غرقاً لأنها تقلع أرواح الكفرة بشدة ومنه المنازعة وهي المخاصمة والنزع عن الشيء الكف عنه والنزوع الاشتياق الشديد ومنه نزع إلى وطنه.
(4/324)
واختلفوا في اللباس فقيل الظفر وقيل النور وقيل التقوى، وقيل كان من ثياب الجنة، وهذا أقرب لأن إطلاق اللباس ينصرف إليه، ولأن النزع لا يكون إلا بعد اللبس.
(ليريهما سؤآتهما) اللام لام كي وقد تقدم تفسيره أيضاً، والضمير في (إنه) فيه وجهان الظاهر منهما أنه للشيطان، والثاني أن يكون ضمير الشأن، وبه قال الزمخشري ولا حاجة تدعو إلى ذلك.
(يراكم هو وقبيله) هذه الجملة تعليل لما قبلها مع ما يتضمنه من المبالغة في تحذيرهم منه، لأن من كان بهذه المثابة كان عظيم الكيد، وكان حقيقاً بأن يحترس منه أبلغ احتراس، والقبيل جمع قبيلة وهي الجماعة المجتمعة التي يقابل بعضهم بعضاً.
وقال الليث: كل جيل من جن أو إنس قبيل، وقيل أعوانه من الشياطين وجنوده، وقال مجاهد: الجن والشياطين، وقال ابن زيد: قبيله نسله والقبيلة الجماعة من أب واحد، فليست القبيلة تأنيث القبيل لهذه المغايرة، وقيل الجماعة ثلاثة فصاعداً من قوم شتى، قاله أبو عبيدة والجمع قبل بضمتين والقبيلة لغة فيه، وقبائل الرأس القطع المتصل بعضها ببعض وبها سميت قبائل العرب.
(من حيث لا ترونهم) أي إذا كانوا على صورهم الأصلية، أما إذا تصوروا في غيرها فترونهم كما وقع كثيراً، ومن ابتدائية أي رؤية مبتدأة من مكان لا ترونهم فيه، وقيل خلق الله في عيون الجن إدراكاً يرون به الإنس، ولم يخلق هذا في عيون الإنس.
وقالت المعتزلة: الوجه في هذا رقة أجسام الجن ولطافتها وكثافة أجسام الإنس.
(4/325)
وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على أن رؤية الشيطان غير ممكنة وليس في الآية ما يدل على ذلك وغاية ما فيها أنه يرانا من حيث لا نراه، وليس فيها أنا لا نراه أبداً فإن انتفاء الرؤية منا له في وقت رؤيته لنا لا يستلزم انتفاءها مطلقاً.
قال مالك بن دينار: إن عدواً يراكم ولا ترونه، كأن في الكلام حذفاً تقديره: جدير بأن يحذر ويتقى: مصحح، والحق جواز رؤيتهم كما هو ظاهر الأحاديث الصحيحة، وتكون الآية مخصوصة بها فيكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض، وحكى الواحدي وابن الجوزي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وجعلت صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى " (1) كما قال تعالى (الذي يوسوس في صدور الناس) فهم يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم وقال مجاهد قال إبليس جعل لنا أربع نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا شاباً.
(إنا جعلنا) أي صيرنا (الشياطين أولياء) أي أعواناً وقرناء (للذين لا يؤمنون) من عباده وهم الكفار.
_________
(1) مسلم/2175 أن صفية زوج النبي أخبرته (علي بن حسين) أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنه ساعة ثم قامت تنقل وقام النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي أسرعا فقال النبي على رسلكما إنها صفية بنت حي فقال سلمان الله يا رسول الله فقال رسول الله: " إن الشيطان ...
(4/326)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
(وإذا فعلوا) أي العرب (فاحشة) هي ما يبالغ في فحشه وقبحه من الذنوب، قال أكثر المفسرين هو طواف المشركين بالبيت عراة وبه قال ابن عباس والسدي ومحمد بن كعب، وقيل هي الشرك قاله عطاء، والظاهر أنها تصدق على ما هو أعم من الأمرين جميعاً، والمعنى أنهم إذا فعلوا ذنباً قبيحاً
(4/326)
مبالغاً في القبح اعتذروا عن ذلك بعذرين:
الأول (قالوا وجدنا عليها آباءنا) أي: أنهم فعلوا ذلك اقتداء بآبائهم وتقليداً لما وجدوهم مستمرين على فعل تلك الفاحشة، والثاني (والله أمرنا بها) أي إنهم مأمورون بذلك من جهة الله سبحانه، وكلا العذرين في غاية البطلان والفساد لأن وجود آبائهم على القبيح لا يسوغ لهم فعله بل ذلك محض تقليد باطل لا أصل له والأمر من الله سبحانه لهم لم يكن بالفحشاء بل أمرهم باتباع الأنبياء والعمل بالكتب المنزلة، ونهاهم عن مخالفتهما ومما نهاهم عنه فعل الفواحش.
ولهذا رد الله سبحانه عليهم بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم فقال (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) فكيف تدعون ذلك عليه قال قتادة: والله ما أكرم الله عبداً قط على معصيته ولا رضيها له ولا أمره بها، ولكن رضي لكم طاعته ونهاكم عن معصيته، والحاصل أن الأمرين باطلان لأن الأول تقليد للرجال والثاني افتراء على ذي الجلال.
وفي الجمل: رد عليهم في المقالة الثانية ولم يتعرض لرد الأولى لوضوح فسادها لما هو معلوم أن تقليد مثل الآباء ليس بحجة.
ثم أنكر عليهم ما أضافوه إليه فقال (أتقولون على الله ما لا تعلمون) وهو من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم وفيه من التقريع والتوبيخ أمر عظيم، فإن القول بالجهل إذا كان قبيحاً في كل شيء فكيف إذا كان في التقول على الله.
وفي هذه الآية الشريفة لأعظم زاجر، وأبلغ واعظ للمقلدة الذين يتبعون
(4/327)
آباءهم في المذاهب المخالفة للحق، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق فإنهم القائلون (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) والقائلون وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها.
والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به وأنه الحق لم يبق عليه، وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على اليهودية والنصراني على النصرانية، والمبتدع على بدعته، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية والنصرانية أو البدعة وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به ولم ينظروا لأنفسهم ولا طلبوا الحق كما يجب، ولا بحثوا عن دين الله كما ينبغي، وهذا هو التقليد البحت، والقصور الخالص.
فيا من نشأ على مذهب من هذه المذاهب الإسلامية أنا لك النذير المبالغ في التحذير من أن تقول هذه المقالة وتستمر على الضلالة فقد اختلط الشر بالخير، والصحيح بالسقيم، وفاسد الرأي بصحيح الرواية ولم يبعث الله إلى هذه الأمة إلا نبياً واحداً أمرهم باتباعه ونهاهم عن مخالفته فقال (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ولو كان محض رأي أئمة المذاهب وأتباعهم حجة على العباد لكان لهذه الأمة رسل كثيرون متعددون بعدد أهل الرأي المكلفون للناس بما لم يكلفهم الله به.
وإن من أعجب الغفلة وأعظم الذهول عن الحق اختيار المقلد لآراء الرجال مع وجود كتاب الله ووجود سنة رسوله بين ظهرانيهم، ووجود من يأخذونهما عنه بين أيديهم ووجود آلة الفهم لديهم وملكة العقل عندهم.
(4/328)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
(4/329)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
(قل أمر ربي بالقسط) أي العدل وبه قال مجاهد والسدي، وفيه أن الله سبحانه يأمر بالعدل لا كما زعموه من أن الله أمرهم بالفحشاء وقيل القسط هنا هو لا إله إلا الله قاله ابن عباس، وقيل في الكلام حذف أي قل أمر ربي بالقسط فأطيعوه.
(وأقيموا) عطف على المحذوف المقدر وقيل عطف على معنى بالقسط (وجوهكم عند كل مسجد) أي توجهوا إليه في صلاتكم إلى القبلة في أي مسجد كنتم أو اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود على أن المراد بالسجود الصلاة قال مجاهد إلى الكعبة حيث صليتم في كنيسة أو غيرها وقيل اجعلوا سجودكم لله خالصاً، وقيل غير ذلك والأول أولى.
(وادعوه مخلصين له الدين) أي اعبدوه حال كونكم مخلصين الدعاء أو العبادة له لا لغيره وقيل وحدوه ولا تشركوا به (كما بدأكم تعودون) قال السمين تقديره تعودون عوداً مثل ما بدأكم وقيل تقديره تخرجون خروجاً مثل ما بدأكم ذكرهما مكي، والأول أليق بلفظ الآية الكريمة.
قال الزجاج: كما أنشأكم في ابتداء الخلق وأوجدكم بعد العدم كذلك يعيدكم فالتشبيه في نفس الإحياء والخلق لا في الكيفية والترتيب، فيكون المقصود الاحتجاج على منكري البعث فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
(4/329)
وقيل كما أخرجكم من بطون أمهاتكم تعودون إليه كذلك ليس معكم شيء فيكون مثل قوله تعالى (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) وقيل كما بدأكم من تراب تعودون إلى التراب وقال مجاهد تعودون أي شقي وسعيد.
وقال ابن عباس: إن الله بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً كما قال (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمناً وكافراً، وعن جابر قال: يبعثون على ما كانوا عليه، المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه، وقال الحسن ومجاهد: المعنى كما خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً فأحياكم ثم يميتكم كذلك تعودون أحياء يوم القيامة.
ويدل له ما روى عن ابن عباس: قال قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموعظة فقال: " أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين " أخرجه البخاري ومسلم (1).
_________
(1) مسلم 2860 - البخاري 1585.
(4/330)
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
(فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة) أي تعودون فريقين سعداء وأشقياء، وفي القاموس الفرقة بالكسر الطائفة من الناس. والجمع فرق.
والفريق كالأمير أكثر منها والجمع أفرقاء وأفرقة وفروق، والفريق الذي هداه الله هم المؤمنون بالله المتبعون لأنبيائه، والفريق الذي حقت عليه الضلالة هم الكفار.
عن جابر أنه ذكر القدرية فقال: قاتلهم الله أليس قد قال الله سبحانه (فريقاً هدى) الآية وفيه دليل على أن الهدى والضلالة من الله، وعن ابن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله
(4/330)
خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " (1) أخرجه الترمذي.
(إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله) تعليل لقوله وفريقاً حق عليهم الضلالة أي ذلك بسبب أنهم أطاعوا الشياطين في معصية الله.
(و) مع هذا فإنهم (يحسبون أنهم مهتدون) ولم يعترفوا على أنفسهم بالضلالة، وهذا أشد في تمردهم وعنادهم.
والآية حجة على أهل الاعتزال في كون الهداية والإضلال إلى الله ذي الجلال، وفيه دليل أيضاً على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق، والجاحد والمعاند في الكفر سواء، ودلت هذه الآية على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين بل لا بد من الجزم والقطع، لأنه تعالى ذم الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين، ولولا أن هذا الحسبان مذموم لما ذمهم بذلك.
ودلت أيضاً على أن كل من شرع في باطل فهو مستحق للذم سواء حسب كونه هدى أو لم يحسب ذلك قاله الكرخي.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 1760.
وأخرجه الآجري في الشريعة/175 وابن حبان 1812 والحاكم 1/ 30 وأحمد 2/ 176 و 167 من طرق أخرى والترمذي 2/ 107 كذلك وله طرق أخرى عن ابن الديلمي.
(4/331)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) هذا خطاب لجميع بني آدم وإن كان وارداً على سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والزينة ما يتزين به الناس من الملبوس، أمروا بالتزيين عند الحضور إلى المساجد للصلاة والطواف.
وقد استدل بالآية على وجوب ستر العورة في الصلاة وإليه ذهب جمهور أهل العلم بل سترها واجب في كل حال من الأحوال وإن كان الرجل خالياً كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة قال ابن عباس: إن النساء كن يطفن عراة إلا أن تجعل المرأة على فرجها خرقة وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
فنزلت هذه الآية وعنه قال: كان الرجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة والزينة اللباس وما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع قال مجاهد: ما يواري عوراتكم ولو عباءة؛ وقيل الزينة المشط والطيب فيستحب التزين والتعطر كما يجب التستر والتطهر والأول أولى.
وأخرج ابن عدي وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " خذوا زينة الصلاة قالوا وما زينة الصلاة؟ قال البسوا نعالكم فصلوا فيها "، وأخرج العقيلي وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله خذوا زينتكم عند كل مسجد قال: " صلوا في نعالكم ".
والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعل كثيرة جداً، وأما كون ذلك هو تفسير الآية كما روى في هذين الحديثين فلا أدري كيف إسنادهما، وقد ورد النهي عن أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء وهو في
(4/332)
الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة.
(وكلوا واشربوا) ما شئتم (ولا تسرفوا) أي بتحريم الحلال أو بالتعدي إلى الحرام أو بالإفراط في الطعام، أمر الله سبحانه عباده بالأكل والشرب ونهاهم عن الإسراف فلا زهد في ترك مطعم ولا مشرب، وتاركه بالمرة قاتل لنفسه، وهو من أهل النار كما صح في الأحاديث الصحيحة والمقل منه على وجه يضعف به بدنه ويعجز عن القيام بما يجب عليه من طاعة أو سعي على نفسه وعلى من يعول، مخالف لما أمر الله به وأرشد إليه، والمسرف في إنفاقه على وجه لا يفعله إلا أهل السفه والتبذير، مخالف لما شرعه الله لعباده واقع في النهي القرآني.
وهكذا من حرم حلالاً أو حلل حراماً فإنه يدخل في المسرفين ويخرج عن المقتصدين ومن الإسراف الأكل لا لحاجة وفي وقت شبع، قال ابن عباس: أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفاً أو مخيلة قال علي بن الحسين بن واقد، قد جمع الله الطب كله في نصف آية يعني هذه الآية، وفيه دليل على أن جميع المطعومات والمشروبات حلال إلا ما خصه الشرع بدليل في التحريم، لأن الأصل في جميع الأشياء الإباحة إلا مما حظره الشارع، وثبت تحريمه بدليل منفصل.
(إنه لا يحب المسرفين) في الطعام والشراب واللباس، وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن ماجه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة ولا سرف، فإن الله سبحانه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (1).
وفي الآية وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء لأن محبة الله عبارة عن رضاه عن العبد وإيصال الثواب إليه، وإذا لم يحبه علم أنه ليس براض عنه فدلت الآية على الوعيد الشديد في الإسراف في المأكول والمشروب والملبوس، وما أحق بهذا الوعيد أهل الدول من الفساق والفجار.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 4381.
(4/333)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
(4/334)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
(قل) إنكاراً على هؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة والذين يحرمون على أنفسهم في أيام الحج اللحم والدسم (من حرم زينة الله) الزينة ما يتزين به الإنسان من ملبوس أو غيره من الأشياء المباحة كالمعادن التي لم يرد نهي عن التزين بها والجواهر ونحوها وقيل الملبوس خاصة، ولا وجه له. بل هو من جملة ما تشمله الآية.
فلا حرج على من لبس الثياب الجيدة الغالية القيمة إذا لم تكن مما حرمه الله ولا حرج على من تزين بشيء من الأشياء التي لها مدخل في الزينة ولم يمنع منها مانع شرعي، ومن زعم أن ذلك يخالف الزهد فقد غلط غلطاً بيناً وقد قدمنا في هذا ما يكفي.
قال الرازي: إنه يتناول جميع الزينة فيدخل تحته جميع أنواع الملبوس والحلى، ولولا أن النص ورد بتحريم استعمال الذهب والحرير على الرجال لدخلا في هذا العموم.
(التي أخرج لعباده) أي أصلها يعني القطن والكتان من الأرض والقز من الدود، واللحاء من الشجر، والحرير والصوف من الحيوان والدروع والجواهر من المعادن، قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون فأنزل الله هذه الآية وأمروا بالثياب أن يلبسوها.
(والطيبات من الرزق) أي وهكذا الطيبات المستلذات من المطاعم
(4/334)
والمشارب والمآكل ونحوها مما يأكله الناس، فإنه لا زهد في ترك الطيب منها، ولهذا جاءت الآية هذه معنونة بالاستفهام المتضمن للإنكار على من حرم ذلك على نفسه أو حرمه على غيره.
وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري: ولقد أخطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان مع وجود السبيل إليه من حله، ومن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر، ومن ترك أكل اللحم خوفاً من عارض الشهوة.
وقد قدمنا نقل مثل هذا عنه مطولاً، والطيبات المستلذات من الطعام، وقال ابن عباس: الودك واللحم والسمن، وقيل اللحم والدسم الذي كانوا يحرمونه على أنفسهم أيام الحج يعظمون بذلك حجهم، فرد الله عليهم بقوله هذا، وقال قتادة: المراد ما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب.
وقيل إن الآية على العموم فيدخل تحته كل ما يستلذ ويشتهي من سائر المطعومات إلا ما نهى عنه وورد النص بتحريمه، وهو الحق كما تقدم، وقيل هو اسم عام لما طاب كسباً ومطعماً قال أبو السعود: وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة لأن الاستفهام في (من) إنكاري انتهى ونحوه في البيضاوي.
(قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا) أي: إنها لهم بالأصالة والاستحقاق وإن شاركهم الكفار فيها ما داموا في الحياة (خالصة يوم القيامة) أي مختصة بهم والتقدير قل هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا خالصة للمؤمنين يوم القيامة فهي لهم أصالة وللكفار تبعاً لقوله (ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار).
قال ابن عباس في الآية: يعني شارك المسلمون الكفار في الطيبات في
(4/335)
الحياة الدنيا، فأكلوا من طيبات طعامها ولبسوا من جياد ثيابها، ونكحوا من صالحي نسائهم، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا وليس للمشركين فيها شيء، وقيل خالصة من التكدير والتنغيص والغم لأنه قد يقع لهم ذلك في الدنيا والأول أولى.
(كذلك) أي مثل هذا التفضل والتبيين (نفصل الآيات) المشتملة على التحليل والتحريم (لقوم يعلمون) أني أنا الله وحدي لا شريك لي فأحلوا حلالي وحرموا حرامي.
(4/336)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
(قل) للمشركين الذين يتجردون من ثيابهم في الطواف والذين يحرمون أكل الطيبات إن الله لم يحرم ما تحرمونه بل أحله و (إنما حرم ربي الفواحش) من الأفعال والأقوال جمع فاحشة أي كل معصية وقد تقدم تفسيرها (ما ظهر منها وما بطن) أي ما أعلن منها وما أسر، يعني جهرها وسرها، وقيل هي خاصة بفواحش الزنا، ولا وجه لذلك، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قال لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه "، أخرجه البخاري ومسلم (1).
(والإثم) هو يتناول كل معصية يتسبي عنها الإثم، وهو عطف عام على خاص لمزيد الاعتناء بها، وقيل هو الخمر خاصة، وقد أنكره جماعة من أهل العلم، قال النحاس: فأما أن يكون الإثم الخمر فلا يعرف ذلك وحقيقته أنه جميع المعاصي.
_________
(1) رواه مسلم/2760 وله برواية أخرى. ليس أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه وليس أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش (ما ظهر منها وما بطن) وليس أحد أحب إليه العذر من الله. ورواه البخاري 2003.
(4/336)
قال الفراء: الإثم ما دون الحق والاستطالة على الناس انتهى، وليس في إطلاق الإثم على الخمر ما يدل على اختصاصه به فهو أحد المعاني التي يصدق عليها قال في الصحاح وقد سمي الخمر إثماً وقال الحسن وعطاء:
الإثم من أسماء الخمر، وقال ابن سيده صاحب المحكم: وعندي أن تسمية الخمر بالإثم صحيح لأن شربها إثم، وأنكر أبو بكر بن الأنباري تسمية الخمر بالإثم قال:
لأن العرب ما سمته إثماً قط في جاهلية ولا إسلام ولكن قد يكون الخمر داخلاً تحت الإثم لقوله: (قل فيهما إثم كبير).
وقيل: الإثم صغائر الذنوب والفواحش كبائرها وقيل الإثم اسم لما لا يجب فيه الحد والفاحشة ما يجب فيه الحد من الذنوب، وهذا القول قريب من الأول وقيل الإثم في أصل اللغة الذنب فيدخل فيه الكبائر والصغائر، وقيل الفاحشة الكبيرة والإثم مطلق الذنب كبيراً كان أو صغيراً، وأولى هذه الأقوال أولها.
(والبغي بغير الحق) أي الظلم المجاوز للحد والاستطالة على الناس، وأفرده بالذكر بعد دخوله فيما قبله لكونه ذنباً عظيماً كقوله (وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) وإذا طلب ماله بالحق خرج من أن يكون بغير الحق.
(وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً) أي وأن تجعلوا لله شريكاً لم ينزل عليكم به حجة وتسووا به في العبادة والمراد التهكم بالمشركين لأن الله لا ينزل برهاناً بأن يكون غيره شريكاً له (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) بحقيقته وأن الله قاله، وهذا مثل ما كانوا ينسبون إلى الله سبحانه من التحليلات أو التحريمات التي لم يأذن بها.
(4/337)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
(4/338)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
(ولكل أمة) من الأمم المهلكة (أجل) أي وقت معين محدود ينزل فيه عذابهم من الله أو يميتهم فيه، ويجوز أن تحمل الآية على ما هو أعم من الأمرين جميعاً.
(فإذا جاء أجلهم) أى إذا جاء أجل كل أمة من الأمم كان ما قدره عليهم واقعاً في ذلك الأجل، قيل المراد بالأجل وقت نزول العذاب، وقيل أجل الحياة والعمر، وعلى هذا لكل واحد أجل لا ينفع فيه تقديم ولا تأخير، والأجل يطلق على كل من مدة العمر بتمامها وعلى الجزء الأخير منها وأجل الشيء مدته ووقته الذي يحل فيه، وهو مصدر أجل الشيء أجلاً من باب تعب وأجل أجولاً من باب قعد لغة وأجلته تأجيلاً جعلت له أجلاً، والآجال جمع أجل مثل سبب وأسباب.
(لا يستأخرون ساعة) خص الساعة بالذكر لأنها أقل أسماء الأوقات في العرف وقد استدل بالآية الجمهور على أن كل ميت يموت بأجله وإن كان موته بالقتل أو التردي أو نحو ذلك، والبحث في ذلك طويل جداً.
ومثل هذه الآية قوله تعالى (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) وكان الحسن يقول: ما أحمق هؤلاء القوم يقولون اللهم أطل عمره والله يقول (فإذا جاء أجلهم) الآية.
عن ابن السيب قال: لما طعن عمر قال كعب لو دعا الله لأخر في أجله، فقيل له أليس قد قال الله فإذا جاء أجلهم الآية فقال كعب وقد قال الله وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب.
(4/338)
(ولا يستقدمون) مستأنف معناه الإخبار بأنهم لا يسبقون أجلهم المضروب لهم بل لا بد من استيفائهم إياه كما إنهم لا يتأخرون عنه أقل زمان، وقال الحوفي وغيره إنه معطوف على (لا يستأخرون) وهذا لا يجوز وقال الواحدي، المعنى لا يستأخرون عن آجالهم إذا انقضت ولا يستقدمون عليها إذا قاربت الانقضاء.
قلت هذا بناء منه على أنه معطوف على (لا يستأخرون) وهو ظاهر أقوال المفسرين وبالأول قال التفتازاني والكرخي، وقال أبو السعود: معطوف على الجواب لكن لا لبيان انتفاء التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر بل للمبالغة في انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيل عقلاً.
وقال القاري: حاصل كلام القاضي أن هذا بمنزلة المثل أي لا يقصد من مجموع الكلام إلا أن الوقت تقرر لا يتغير ولا يتبدل انتهى.
أقول قد طال الكلام من أهل العلم على ما يظهر في بادئ الرأي من التعارض بين هذه الآيات الشريفة وهي قوله تعالى (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) وقوله تعالى (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) فقيل إنها معارضة لقوله عز وجل (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) وقوله سبحانه (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) وقوله سبحانه (ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده).
فذهب الجمهور إلى أن العمر لا يزيد ولا ينقص استدلالاً بالآيات المتقدمة وبالأحاديث الصحيحة كحديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن أحدكم يجمع خلقه في أربعين يوماً ثم يكون علقة ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكاً ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد " وهو في الصحيحين وغيرهما وما ورد
(4/339)
في معناه من الأحاديث الصحيحة (1).
وأجابوا عن قوله عز وجل (يمحو الله ما يشاء ويثبت) بأن المعنى يمحو ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب.
ولا يخفى أن هذا تخصيص لعموم الآية بغير مخصص.
وأيضاً يقال لهم: إن القلم قد جرى بما هو كائن إلى يوم القيامة كما في الأحاديث الصحيحة ومن جملة ذلك الشرائع والفرائض فهي مثل العمر إذا جاز فيها المحو والإثبات جاز في العمر المحو والإثبات.
وقيل المراد بالآية محو ما في ديوان الحفظة مما ليس بحسنة ولا سيئة لأنهم مأمورون بكتب كل ما ينطق به الإنسان، ويجاب عنه بمثل الجواب الأول.
وقيل يغفر الله ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء فلا يغفر، ويجاب عنه بمثل الجواب السابق.
وقيل يمحو ما يشاء من القرون كقوله (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون) وكقوله تعالى (ثم أنشأنا من بعدهم قرنآ آخرين) فنمحو قرناً ونثبت قرناً، ويجاب عنه أيضاً بمثل ما تقدم.
وقيل هو الذي يعمل بطاعة الله ثم يعمل بمعصية الله ثم يتوب فيمحوه الله من ديوان السيئات ويثبته في ديوان الحسنات.
وقيل يمحو ما يشاء يعني الدنيا ويثبت الآخرة، وقيل غير ذلك وكل هذه الأجوبة دعاوى مجردة ولا شك أن آية المحو والإثبات عامة لكل ما يشاءه الله سبحانه فلا يجوز تخصيصها إلا بمخصص، وإلا كان ذلك من التقول على الله عز وجل بما لم يقل، وقد توعد الله تعالى على ذلك وقرنه بالشرك فقال (قل إنما
_________
(1) مسلم 2643 - البخاري 1514.
(4/340)
حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).
وأجابوا عن قوله تعالى (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) بأن المراد بالمعمر الطويل العمر والمراد بالناقص القصير العمر، وفي هذا نظر لأن الضمير في قوله (ولا ينقص من عمره) يعود إلى قوله (من معمر) والمعنى على هذا وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر ذلك المعمر إلا في كتاب، هذا ظاهر معنى النظم القرآني.
وأما التأويل المذكور فإنما يتم على إرجاع الضمير المذكور إلى غير ما هو المرجع في الآية وذلك لا وجود له في النظم.
وقيل: إن معنى ما يعمر من معمر ما يستقبله من عمره ومعنى لا ينقص من عمره ما قد مضى، وهذا أيضاً خلاف الظاهر لأن هذا ليس بنقص من نفس العمر والنقص يقابل الزيادة وههنا جعله مقابلاً للبقية من العمر، وليس ذلك بصحيح.
وقيل المعنى (وما يعمر من معمر) من بلغ سن الهرم ولا ينقص من عمره أي من عمر آخر غير هذا الذي بلغ سن الهرم عن عمر هذا الذي بلغ سن الهرم ويجاب عنه بما تقدم.
وقيل المعمر من يبلغ عمره ستين سنة والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين، وقيل غير ذلك من التأويلات التي يردها اللفظ ويدفعها.
وأجابوا عن قوله سبحانه (ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده) بأن المراد بالأجل الأول النوم والثاني الوفاة، وقيل الأول ما قد انقضى عن عمر كل أحد والثاني ما بقي من عمر كل أحد، وقيل الأول أجل الموت والثاني ما بين موته إلى بعثته، وقيل غير ذلك مما فيه مخالفة للنظم القرآني.
وقال جمع من أهل العلم: إن العمر يزيد وينقص واستدلوا بالآيات
(4/341)
المتقدمة فإن المحو والإثبات عامان يتناولان العمر والرزق والسعادة والشقاوة وغير ذلك وقد ثبت عن جماعة من السلف والصحابة ومن بعدهم أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني منهم، وإن كنت كتبتني من أهل الشقاوة فأمحني وأثبتني في أهل السعادة، ولم يأت القائلون بمنع زيادة العمر ونقصانه ونحو ذلك بما يخصص هذا العموم.
وهكذا يدل على هذا المعنى الآية الثانية فإن معناها أنه لا يطول عمر الإنسان ولا ينقص إلا وهو في كتاب أي في اللوح المحفوظ، وهكذا يدل قوله تعالى (ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده) أن للإنسان أجلين يقضي الله سبحانه بما يشاء منهما من زيادة أو نقص.
ويدل على ذلك أيضاً ما في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن صلة الرحم تزيد في العمر، وفي لفظ في الصحيحين: " من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه " (1) وفي لفظ " من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه " (1). وفي لفظ صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمرن الديار ويزدن في الأعمار.
ومن أعظم الأدلة ما ورد في الكتاب العزيز من الأمر للعباد بالدعاء كقوله عز وجل (أدعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) وقوله (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) وقوله (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) وقوله (واسألوا الله من فضله) والأحاديث المشتملة على الأمر بالدعاء متواترة وفيها أن الدعاء يدفع البلاء ويرد القضاء كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه قال " اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وجهد البلاء
_________
(1) مسلم 2558.
(4/342)
وشماتة الأعداء " (1).
وثبت في حديث قنوت الموتر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: " وقني شر ما قضيت " (2)، فلو كان الدعاء لا يفيد شيئاً وأنه ليس للإنسان إلا ما قد سبق في القضاء الأزلي لكان أمره عز وجل لغواً لا فائدة فيه، وكذلك وعده بالإجابة للعباد الداعين له، وهكذا يكون ما ثبت في الأحاديث المتواترة المشتملة على الأمر بالدعاء وأنه عبادة لغواً لا فائدة فيه.
وهكذا يكون إستعاذته صلى الله عليه وسلم من سوء القضاء لغواً لا فائدة فيه، وهكذا يكون قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " وقني شر ما قضيت " (2) لغواً لا فائدة فيه. وهكذا يكون أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتداوي وأن الله سبحانه ما أنزل من داء إلا وجعل له دواء لغواً لا فائدة فيه مع ثبوت الأمر بالتداوي في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -. فإن قلت فعلام يحمل ما تقدم من الآيات القاضية بأن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر.
قلت قد أجاب عن ذلك بعض السلف وتبعه بعض الخلف بأن هذه الآية مختصة بالأجل إذا حضر فإنه لا يتقدم ولا يتأخر عند حضوره، ويؤيد هذا أنها مقيدة بذلك فإنه قال (إذا جاء أجلهم) ومثل هذا التقييد المذكور في هذه الآية قوله عز وجل (ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها) وقوله سبحانه (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر).
فقد أمكن الجمع بحمل هذه الآيات على هذا المعنى، فإذا حضر الأجل لم يتأخر ولا يتقدم، وفي غير هذه الحالة يجوز أن يؤخره الله بالدعاء أو بصلة الرحم أو بفعل الخير، ويجوز أن يقدمه لمن عمل شراً أو قطع ما أمر الله به أن
_________
(1) مسلم 2707 - البخاري 2401.
(2) أبو داود كتاب الوتر باب 5.
(4/343)
يوصل أو انتهك محارم الله سبحانه.
فإن قلت فعلام يحمل قوله عز وجل (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) وقوله سبحانه (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) وكذلك سائر ما ورد في هذا المعنى.
قلت هذه أولاً معارضة بمثلها وذلك قوله عزو وجل (وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) ومثل ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح القدسي: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه (1).
وثانياً بإمكان الجمع بحمل مثل قوله (إلا في كتاب) وقوله (لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) على عدم التسبيب من العبد بأسباب الخير من الدعاء وسائر أفعال الخير، وحمل ما ورد فيما يخالف ذلك على وقوع التسبيب بأسباب الخير الموجبة بحسن القضاء واندفاع شره، وعلى وقوع التسبيب بأسباب الشر المقتضية لإصابة المكروه ووقوعه على العبد.
وهكذا يكون الجمع بين الأحاديث الواردة بسبق القضاء، وأنه قد فرغ من تقدير الأجل والرزق والسعادة والشقاوة، وبين الأحاديث الواردة في صلة الرحم بأنها تزيد في العمر، وكذلك سائر أعمال الخير وكذلك الدعاء، فيحمل أحاديث الفراغ من القضاء على عدم تسبب العبد بأسباب الخير والشر، وتحمل الأحاديث الآخرة على أنه قد وقع من العبد التسبيب بأسباب الخير من الدعاء والعمل الصالح وصلة الرحم أو التسبب بأسباب الشر.
فإن قلت قد تقرر بالأدلة من الكتاب والسنة بأن عمله عز وجل أزلي وأنه قد سبق في كل شيء ولا يصح أن يقدر وقوع غير ما قد علمه، وإلا انقلب العلم جهلاً وذلك لا يجوز إجماعاً.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 4221.
(4/344)
قلت: علمه عز وجل سابق أزلي وقد علم ما يكون قبل أن يكون، ولا خلاف بين أهل الحق من هذه الحيثية ولكنه غلا قوم فأبطلوا فائدة ما ثبت في الكتاب والسنة من الإرشاد إلى الدعاء وأنه يرد القضاء وما ورد من الاستعاذة منه - صلى الله عليه وسلم - من سوء القضاء، وما ورد من أنه يصاب العبد بذنبه وبما كسبت يده ونحو ذلك مما جاءت به الأدلة الصحيحة، وجعلوه مخالفاً لسبق العلم ورتبوا عليه أنه يلزم انقلاب العلم جهلاً.
والأمر أوسع من هذا، والذي جاءنا بسبق العلم وأزليته هو الذي جاءنا بالأمر بالدعاء والأمر بالدواء وعرفنا بأن صلة الرحم تزيد في العمر، وأن الأعمال الصالحة تزيد فيه أيضاً وأن أعمال الشر تمحقه، وأن العبد يصاب بذنبه كما يصل إلى الخير ويندفع عنه الشر بكسب الخير والتلبس بأسبابه فأعمال بعض ما ورد في الكتاب والسنة وإهمال البعض الآخر ليس كما ينبغي، فإن الكل ثابت عن الله عز وجل وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والكل شريعة واضحة وطريقة مستقيمة، والجمع ممكن بما لا إهمال فيه بشيء من الأدلة.
وبيانه أن الله سبحانه كما علم أن العبد يكون له من العمر كذا أو من الرزق كذا أو هو من أهل السعادة أو الشقاوة، قد علم أنه إذا وصل رحمه زاد له في الأجل كذا أو بسط له من الرزق كذا أو صار من أهل السعادة بعد أن كان من أهل الشقاوة أو صار من أهل الشقاوة بعد أن كان من أهل السعادة، وهكذا قد علم ما يقتضيه للعبد كما علم أنه إذا دعاه واستغاث به والتجأ إليه صرف عنه الشر، ودفع عنه المكروه.
وليس في ذلك خلف ولا مخالفة لسبق العلم بل فيه تقييد المسببات بأسبابها، كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر.
فهل يقول عاقل بأن ربط هذه المسببات بأسبابها يقتضي خلاف العلم السابق أو ينافيه بوجه من الوجوه.
(4/345)
فلو قال قائل: أنا لا آكل ولا أشرب بل انتظر القضاء فإن قدر الله لي ذلك كان وإن لم يقدر لم يكن، أو قال قائل انا لا أزرع الزرع ولا أغرس الشجر وأنتظر القضاء، فإن قدر الله ذلك كان وإن لم يقدره لم يكن، أو قال قائل: أنا لا أجامع زوجتي أو أمتي لتحصل لي منهما الذرية بل إن قدر الله كان وإن لم يقدره لم يكن.
لكان هذا مخالفاً لما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاءت به كتبه وما كان عليه صلحاء الأمة وعلماؤها، بل يكون مخالفاً لما عليه هذا النوع الإنساني من أبينا آدم إلى الآن، بل مخالفاً لما عليه جميع أنواع الحيوانات في البر والبحر.
فكيف ينكر وصول العبد إلى الخير بدعائه أو بعمله الصالح فإن هذا من الأسباب التي ربط الله مسبباتها بها وعلمها قبل أن تكون، فعلمه على كل تقدير أزلي في المسببات والأسباب، ولا يشك من له اطلاع على كتاب الله عز وجل ما اشتمل عليه من ترتيب حصول المسببات على أسبابها كما في قوله: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم) وقوله (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً) وقوله (لئن شكرتم لأزيدنكم) وقوله (واتقوا الله ويعلمكم الله) وقوله (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون).
وكم يعد العاد من أمثال هذه الآيات القرآنية وما ورد موردها من الأحاديث النبوية وهل ينكر هؤلاء الغلاة مثل هذا ويجعلونه مخالفاً لسبق العلم مبايناً لأزليته، فإن قالوا: نعم فقد أنكروا ما في كتاب الله عز وجل من فاتحته إلى خاتمته، وما في السنة المطهرة من أولها إلى آخرها بل أنكروا أحكام الدنيا والآخرة لأنها كلها مسببات مترتبة على أسبابها وجزاآت معلقة بشروطها ومن بلغ إلى هذا الحد في الغباوة وعدم تعقل الحجة لم يستحق المناظرة ولا ينبغي
(4/346)
معه الكلام فيما يتعلق بالدين بل ينبغي إلزامه بإهمال أسباب ما فيه صلاح معاشه وأمر دنياه حتى ينتعش من غفلته ويستيقظ من نومته ويرجع عن ضلالته وجهالته، والهداية تبري الحول والقوة ولا خير إلا خيره.
ثم يقال لهم هذه الأدعية الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دواوين الإسلام وما يلتحق بها من كتب السنة المطهرة قد علم كل من له علم أنها كثيرة جداً بحيث لا يحيط بأكثرها إلا مؤلف بسيط ومصنف حافل، وفيها تارة استجلاب الخير وفي أخرى استدفاع الشر وتارة متعلقة بأمور الدنيا وتارة بأمور الآخرة ومن ذلك تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لأمته ما يدعون به في صلاتهم وعقب صلاتهم وفي صيامهم وفي ليلهم ونهارهم، وعند نزول الشدائد بهم وعند وصول نعم الله إليهم.
هل كان هذا كله منه - صلى الله عليه وسلم - لفائدة عائدة عليه وعلى أمته بالخير جالبة لما فيه مصلحة دافعة لما فيه مفسدة، فإن قالوا: نعم قلنا لهم فحينئذ لا خلاف بيننا وبينكم فإن هذا الاعتراف يدفع عنا وعنكم معرة الإختلاف، ويريحنا ويريحكم من التطويل بالكلام على ما أردتموه وأردناه.
وإن قالوا: ليس ذلك لفائدة عائدة عليه وعلى أمته بالخير جالبة لما فيه مصلحة دافعة لما فيه مفسدة، فهم أجهل من دوابهم وليس للمحاجة لهم فائدة ولا في المناظرة معهم نفع.
يا عجباً كل العجب، أما بلغهم ما كان عليه أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أول نبوته إلى أن قبضه الله من الدعاء لربه والإلحاح عليه ورفع يديه عند الدعاء حتى يبدو بياض إبطيه وحتى يسقط رداؤه كما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - في يوم بدر، فهل يقول عاقل فضلاً عن عالم أن هذا الدعاء منه فعله - صلى الله عليه وسلم - وهو يعلم أنه لا فائدة فيه، وأنه قد سبق العلم بما هو كائن وأن هذا السبق يرفع فائدة ذلك
(4/347)
ويقتضي عدم النفع به.
ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم بربه وبقضائه وقدره وبأزليته وسبق علمه بما يكون في بريته، فلو كان الدعاء منه ومن أمته لا يفيد شيئاً ولا ينفع نفعاً لم يفعله ولا أرشد إليه الناس وأمرهم به، فإن ذلك نوع من العبث الذي تنزه عنه كل عاقل فضلاً عن خير البشر وسيد ولد آدم.
ثم يقال لهم إذا كان القضاء دافعاً لا محالة وأنه لا يدفعه شيء من الدعاء والالتجاء والإلحاح والاستعانة فكيف لم يتأدب - صلى الله عليه وسلم - مع ربه، فإنه قد صح عنه أنه استعاذ بالله سبحانه من سوء القضاء كما عرفناك وقال: " وقني شر ما قضيت "، فكيف يقول هؤلاء الغلاة في الجواب عن هذا وعلى أي محمل يحملونه؟
ثم ليت شعري علام يحملون أمره سبحانه وتعالى لعباده بدعائه بقوله (ادعوني استجب لكم) ثم عقب ذلك بقوله (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) أي عن دعائي كما صرح بذلك أئمة التفسير.
فكيف يأمر عباده بالدعاء أولاً ثم يجعل تركه استكباراً منهم، ثم يرغبهم إلى الدعاء ويخبرهم أنه قريب من الداعي مجيب لدعوته بقوله (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) ثم يقول معنوناً لكلامه الكريم بحرف يدل على الاستفهام الإنكاري والتقريع والتوبيخ (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) ثم يأمرهم بسؤاله من فضله بقوله: (واسألوا الله من فضله).
فإن قالوا إن هذا الدعاء الذي أمرنا الله به وأرشدنا إليه وجعل تركه استكباراً وتوعد عليه بدخول النار مع الذل ورغب عباده إلى دعائه وعرفهم أنه
(4/348)
قريب وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأنكر عليهم أن يعتقدوا أن غيره يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف ما نزل به من السوء، وأمرهم أن يسألوه من فضله ويطلبوا ما عنده من الخير.
أن كل ذلك لا فائدة فيه للعبد وأنه لا ينال إلا ما قد جرى به القضاء وسبق به العلم، فقد نسبوا إلى الرب عز وجل ما لا يجوز عليه ولا تحل نسبته إليه، فإنه لا يأمر العبد إلا بما فيه فائدة يعتد بها ولا يرغبه إلا فيما يحصل له به الخير ولا يرهبه إلا عما يكون به عليه الضير ولا يعده إلا بما هو حق يترتب عليه فائدة فهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد ولا يأمرهم بسؤاله من فضله إلا وهناك فائدة تحصل بالدعاء ويكون سببه التفضل عليهم ورفع ما هم فيه من الضر وكشف ما حل بهم من السوء.
هذا معلوم لا يشك فيه، إلا من لا يعقل حجج الله ولا يفهم كلامه ولا يدري بخير ولا شر، ولا نفع ولا ضر.
ومن بلغ به الجهل إلى هذه الغاية فهو حقيق بأن لا يخاطب، وقمين بأن لا يناظر، فإن هذا المسكين المنخبط في جهله المتقلب في ضلاله قد وقع فيما هو أعظم خطراً من هذا وأكثر ضرراً منه، وذلك بأن يقال له إذا كان دعاء الكفار إلى الإسلام ومقاتلتهم على الكفر وغزوهم إلى مقر ديارهم لا يأتي بفائدة ولا يعود على القائمين به من الرسل وأتباعهم وسائر المجاهدين من العباد بفائدة، وأنه ليس هناك إلا ما قد سبق من علم الله عز وجل وأنه سيدخل في الإسلام ويهتدي إلى الدين من قد علم سبحانه منه ذلك سواء قوتل أو لم يقاتل وسواء دعى إلى الحق أو لم يدع إليه.
كانا هذا القتال الصادر من رسل الله وأتباعهم ضائعاً ليس فيه إلا تحصيل الحاصل وتكوين ما هو كائن فعلوا أو تركوا وحينئذ يكون الأمر بذلك
(4/349)
عبثاً، تعالى الله عز وجل عن ذلك.
وهكذا ما شرعه الله لعباده من الشرائع على لسان أنبيائه وأنزل بها كتبه يقال مثل هذا فإنه إذا كان ما قد حصل في سابق علمه عز وجل كائناً سواء بعث الله إلى عباده رسله وأنزل إليهم كتبه أو لم يفعل ذلك كان عبثاً يتعالى الرب سبحانه ويتنزه عن أن ينسب إليه.
فإن قالوا: إن الله سبحانه قد سبق علمه بكل ذلك ولكنه قيده وشرطه بشروط وعلقه بأسباب فعلم مثلاً أن الكافر يسلم ويدخل في الدين بعد دعائه إلى الإسلام أو مقاتلته على ذلك، وأن العباد يعمل منهم من يعمل بما تعبدهم الله به بعد بعثة رسله إليهم وإنزال كتبه عليهم.
قلنا لهم: فعليكم أن تقولوا هكذا في الدعاء وفي أعمال الخير وفي صلة الرحم ولا نطلب منكم إلا هذا، ولا نريد منكم غيره وحينئذ قد دخلتم إلى الوفاق من طريق قريبة، فعلام هذا الجدال الطويل العريض واللجاج الكبير الكثير فأنا لا نقول إلا أن الله سبحانه قد علم في سابق علمه أن فلاناً يطول عمره إذا وصل رحمه. وأن فلاناً يحصل له من الخير كذا ويندفع عنه من الشر كذا إذا دعا ربه وأن هذه المسببات مترتبة على حصول أسبابها، وهذه المشروطات مقيدة بحصول شروطها.
وحينئذ فارجعوا إلى ما قدمنا ذكره من الجمع بين ما تقدم من الأدلة واستريحوا من التعب، فإنه لم يبق بيننا وبينكم خلاف من هذه الحيثية، وقد كان الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأبي وائل وعبد الله بن عمر يدعون الله عز وجل بأن يثبتهم في أهل السعادة إن كانوا قد كتبوا من أهل الشقاوة كما قدمنا، وهم أعلم بالله سبحانه وبما يجب له ويجوز عليه.
وقال كعب الأحبار حين طعن عمر وحضرته الوفاة: والله لو دعا الله
(4/350)
عمر أن يؤخر أجله لأخره فقيل له إن ربه عز وجل يقول (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) فقال هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص، وقرأ قوله تعالى (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب).
ثم قد علمنا من أهل الإسلام سابقهم ولاحقهم سيما الصالحين منهم أنهم يدعون الله عز وجل فيستجيب لهم ويحصل لهم ما طلبوه من المطالب المختلفة بعد أن كانوا فاقدين لها، ومنهم من يدعو لمريض قد أشرف على الموت بأن يشفيه الله فيعافى في الحال، ومنهم من يدعو على فاجر بأن يهلكه الله فيهلك في الحال.
ومن شك في شيء من هذا فليطالع الكتب الصحيحة في أخبار الصالحين كحلية أبي نعيم وصفوة الصفوة لابن الجوزي، ورسالة القشيري فإنه يجد من هذا القبيل ما ينشرح له صدره ويثلج به قلبه، بل لكل إنسان إذا حقق حال نفسه ونظر في دعائه لربه عند عروض الشدائد وإجابته له وتفريجه عنه ما يغنيه عن البحث عن حال غيره إذا كان من المعتبرين المفكرين.
وهذا نبي الله المسيح عيسى بن مريم عليه السلام كان يحيي الموتى بإذن الله ويشفي المرضى بدعائه، وهذا معلوم عنه حسبما أخبرنا الله سبحانه في كتابه الكريم، وفي الإنجيل من القصص المتضمنة لإحياء الموتى منه وشفاء المرضى بدعائه ما يعرفه من اطلع عليه.
وبالجملة فهؤلاء الغلاة الذين قالوا إنه لا يقع من الله عز وجل إلا ما قد سبق به القلم وأن ذلك لا يتحول ولا يتبدل ولا يؤثر فيه دعاء ولا عمل صالح، قد خالفوا ما قدمنا من آيات الكتاب العزيز ومن الأحاديث النبوية الصحيحة من غير ملجئ إلى ذلك، فقد أمكن الجمع بما قدمناه وهو متعين،
(4/351)
وتقديم الجمع على الترجيح متفق عليه، وهو الحق.
وقد قابل هؤلاء بضد قولهم القدرية وهم معبد الجهني وأصحابه فإنهم قالوا: إن الأمر أنف أي مستأنف وقالوا: إن الله لا يعلم بالجزئيات إلا عند وقوعها تعالى الله عن ذلك، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين.
وقد تبرأ من مقالة معبد هذه وأصحابه من أدركهم من الصحابة منهم ابن عمر كما ثبت ذلك في الصحيح وقد غلط من ينسب مقالتهم هذه إلى المعتزلة فإنه لم يقل بها أحد منهم قط وكتبهم مصرحة بهذا ناطقة به، ولا حاجة لنا إلى نقل مقالات الرجال فقد قدمنا من أدلة الكتاب والسنة والجمع بينهما ما يكفي المنصف ويريحه من الأبحاث الطويلة العريضة الواقعة في هذه المسألة، ومن الإلزامات التي ألزم بها بعض القائلين البعض الآخر، ودين الله سبحانه بين المفرط والغالي وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق.
(4/352)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
(يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي) " إن " هي الشرطية وما زائدة للتوكيد، والقصص قد تقدم معناه والمعنى إن أتاكم رسل كائنون منكم ومن جنسكم يخبرونكم بأحكامي ويبينونها لكم، وقيل المراد بالرسل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكره بلفظ الجمع للتعظيم، والخطاب لأهل مكة ومن يلحق بهم، وقيل أراد جميع الرسل، والخطاب عام في كل بني آدم وهو ظاهر الآية.
(فمن اتقى) الشرك ومعاصي الله (وأصلح) حال نفسه باتباع الرسل وإجابتهم (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يوم القيامة وقد تقدم تفسيره مراراً.
(4/352)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
(4/353)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
(والذين كذبوا بآياتنا) التي يقصها عليهم رسلنا (واستكبروا عنها) أي عن إجابتها والعمل بما فيها في (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) لا يخرجون منها أبداً بسبب كفرهم بتكذيب الآيات والرسل.
(4/353)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
(فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً) أي من أعظم ظلماً ممن يقول على الله ما لم يقله أو يجعل له شريكاً من خلقه وهو منزه عنه (أو كذب بآياته) أي بالقرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(أولئك) الإشارة إلى المكذبين المستكبرين (ينالهم نصيبهم من الكتاب) أي مما كتب الله لهم من خير وشر، وقيل ينالهم من العذاب بقدر كفرهم، وقيل نصيبهم من الشقاوة والسعادة.
وقال مجاهد: ما سبق من الكتاب،، وقال محمد بن كعب: رزقه وأجله وعمله وصححه الطبري، وقال الرازي: وإنما حصل الاختلاف لأن لفظ النصيب محتمل لكل الوجوه، وقيل: الكتاب هنا القرآن لأن عذاب الكفار مذكور فيه، وقيل هو اللوح المحفوظ (1).
_________
(1) وذكر القرطبي عن الحسن بن علي الحلواني قال أملى عليّ علي بن المديني قال: سألت عبد الرحمن ابن مهدي عن القدر قال: كل شيء بقدر والطاعة والمعصية بقدر.
(4/353)
(حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم) أي إلى غاية هي هذه، والمراد بالرسل هنا ملك الموت وأعوانه أو الملائكة والموكلون بإدخالهم النار، ففي المقام قولان ذكرهما الخازن وقيل حتى هنا هي التي للابتداء ولكن لا يخفى أن كونها لابتداء الكلام بعدها لا ينافي كونها غاية لما قبلها.
والاستفهام في قوله (قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله) للتقريع والتوبيخ لا سؤال استعلام أي أين الآلهة التي كنتم تدعونها من دون الله وتعبدونها ليدفعوا عنكم ما نزل بكم؟ وقيل: إن هذا يكون في الآخرة.
(قالوا) استئنافية بتقدير سؤال وقعت هي جواباً عنه كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا (ضلوا عنا) أي ذهبوا عنا وغابوا فلا ندري أين هم.
قال الكرخي: وهو جواب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ. وذلك أن السؤال إنما وقع عن المكان، ولو جاء الجواب على نسق السؤال لقيل هم في المكان الفلاني، وإنما المعنى ما فعل معبودكم ومن كنتم تدعونه فأجابوا بأنهم ضلوا عنا وغابوا فلم نرهم مع شدة احتياجنا إليهم في هذا الوقت فلم ينفعونا وقت الاحتياج إليهم (وشهدوا على أنفسهم) عند الموت (أنهم كانوا كافرين) أي أقروا على أنفسهم بالكفر.
(4/354)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
(قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم) القائل هو الله عز وجل، و " في " بمعنى مع أي مع أمم وقيل هي على بابها والمعنى ادخلوا في جملتهم وغمارهم وعدادهم، وقيل هو قول مالك خازن النار، والظاهر أن هذه الحال منتظرة إذ مصيرهم في غمار الأمم إنما هو بعد تمام الدخول، وذلك لأن الأمم المذكورة قد سبقتهم في الدخول فلا يصيرون في غمارها إلا بعد الدخول.
والمراد بالأمم الخالية (من الجن والإنس) هم الكفار من الطائفتين من الأمم الماضية وأهل الملل (في النار) أي التي هي مستقركم ومأواكم (كلما دخلت أمة) من الأمم الماضية النار (لعنت أختها) أي الأمة الأخرى التي سبقتها إلى النار، وجعلت أختاً لها باعتبار الدين أو الضلالة أو الكون في النار.
ْقال السدي: يلعن المشركون المشركين واليهود اليهود، والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوس المجوس، تلعن الآخرة الأولى.
(حتى إذا اداركوا فيها جميعاً) التدارك التلاحق والتتابع والاجتماع في النار (قالت أخراهم) دخولاً (لأولاهم) أي لأجلهم يعني قال آخر كل أمة لأولها واللام للتعليل ولا يجوز أن تكون للتبليغ. قال الزمخشري: لأن خطابهم مع الله لا معهم، وقد بسط القول قبله في ذلك الزجاج وقيل هي للتبليغ وخطابهم معهم بدليل قوله (فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون).
(4/355)
قال السدي: قالت أخراهم الذين كانوا في آخر الزمان لأولاهم الذين شرعوا لهم في ذلك الدين، وقيل أخراهم أي سفلتهم وأتباعهم لأولاهم لرؤسائهم وكبارهم قاله مقاتل وهذا أولى كما يدل عليه.
(ربنا هؤلاء أضلونا) عن الهدى فإن المضلين هم الرؤساء، ويجوز أن يراد أنهم أضلوهم لأنهم اتبعوهم واقتدوا هم بدينهم من بعدهم فيصح الوجه الأول لأن أخراهم تبعت دين أولاهم.
(فآتهم عذاباً ضعفاً من النار) الضعف الزائد على مثله مرة أو مرات، ومثله قوله تعالى (ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً) وقيل الضعف هنا الأفاعي والحيات، وقال أبو عبيدة الضعف مثل الشيء مرة واحدة.
قال الزهري: والذي قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله الناس في مجاري كلامهم وأما كتاب الله فهو عربي مبين فيرد تفسيره إلى موضوع كلام العرب، والضعف في كلامهم ما زاد، وليس بمقصور على مثلين بل أقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور، وقال الزجاج: ضعفاً أي مضاعفاً يعني تضعيف الشيء وزيادته إلى ما لا ينتهي.
(قال لكل) أي لكل طائفة منكم (ضعف) من العذاب أما القادة فبكفرهم وتضليلهم، وأما الإتباع فبكفرهم وتقليدهم قاله الكرخي
(ولكن لا تعلمون) بما لكل فريق من نوع العذاب (1).
_________
(1) زاد المسير 3/ 195.
(4/356)
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
(4/357)
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
(وقالت أولاهم لآخراهم) أي قال السابقون للاحقين أو المتبوعين للتابعين مشافهة ومخاطبة لها (فما كان لكم علينا) في الدنيا (من فضل) بل نحن وأنتم سواء في الكفر بالله واستحقاق عذابه وقد ضللتم كما ضللنا فهذا رد لقول الطائفة الأخرى (هؤلاء أضلونا) قال مجاهد (من فضل) تخفيف من العذاب.
(فذوقوا العذاب) النار كما ذقناه (بما كنتم تكسبون) من معاصي الله والكفر به والقائل لهذا القول القادة للأتباع أو الأمة الأولى للأخرى أو الله سبحانه.
(4/357)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
(إن الذين كذبوا بآياتنا) ولم يصدقوا بها ولم يتبعوا رسلنا (واستكبروا عنها) أي عن الإيمان والتصديق بها (لا تفتح لهم أبواب السماء) يعني أنها لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا وهي تفتح لأرواح المؤمنين ويصعد بروحهم إلى السماء السابعة، وقد دل على هذا المعنى وأنه المراد من الآية ما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الملائكة إذا انتهوا بروح الكفار إلى السماء الدنيا يستفتحون فلا تفتح لهم أبواب السماء، وقيل لا تفتح أبواب السماء لأدعيتهم إذا دعوا قاله مجاهد والنخعي، وقيل لأعمالهم أي لا تقبل بل ترد عليهم فيضرب بها في وجوههم.
وقيل المعنى أنها لا تفتح لهم أبواب الجنة يدخلونها لأن الجنة في السماء وعلى هذا العطف بجملة ولا يدخلون الجنة الآتية يكون من عطف التفسير، ولا مانع من حمل الآية على ما يعم الأرواح والدعاء والأعمال، ولا ينافيه ورود ما ورد من أنها لا تفتح أبواب السماء لواحد من هذه فإن ذلك لا يدل على
(4/357)
عدم فتحها لغيره مما يدخل تحت عموم الآية.
(ولا يدخلون الجنة) أي هؤلاء الكفار المكذبون المستكبرون لا يدخلونها بحال من الأحوال ولهذا علقه بالمستحيل وقال (حتى يلج الجمل في سم الخياط) الولوج الدخول بشدة وخص الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات لكونه يضرب به المثل في كبر الذات وعظم الجرم عند العرب، فجسمه من أعظم الأجسام، وخص سم الخياط وهو ثقب الإبرة بالذكر لكونه غاية في الضيق وأضيق المنافذ، وهو لا يحل فيه أبداً فثبت أن الموقوف على المحال محال، فوجب بهذا الاعتبار أن دخول الكفار الجنة مأيوس منه قطعاً، والجمل الذكر من الإبل، والجمع جمال وأجمال وجمالات، وإنما يسمى جملاً إذا أربع.
وقرأ ابن عباس الجمل بضم الجيم وفتح الميم مشددة وهو حبل السفينة الذي يقال له القلس وهو حبال مجموعة قاله ثعلب، وقيل الحبل الغليظ من القنب، وقيل الحبل الذي يصعد به في النخل.
وقرأ ابن مسعود حتى يلج الجمل الأصغر، وقرئ سم بالحركات الثلاث لكن السبعة على الفتح والضم لغة لأهل العالية والكسر لغة لبني تميم وجمعه سمام، وكل ثقب ضيق فهو سم، وقيل كل ثقب في البدن أو أنف أو أذن فهو سم وجمعه سموم، والسم القاتل سمي بذلك للطفه وتأثيره في مسام البدن حتى يصل إلى القلب، وهو في الأصل مصدر ثم أريد به معنى الفاعل لدخوله باطن البدن والسم ثقب لطيف ومنه ثقب الإبرة.
والخياط ما يخاط به يقال خياط ومخيط قاله الفراء، والمراد به الإبرة في هذه الآية، قال بعض أهل المعاني: لما علق الله دخولهم الجنة بولوج الجمل في سم الخياط وهو خرق الإبرة كان ذلك نفياً لدخولهم الجنة على التأبيد، وذلك أن العرب إذا علقت ما يجوز كونه بما لا يجوز كونه استحال كون ذلك الجائز، وهذا كقولك لا آتيك حتى يشيب الغراب ويبيض القار.
(وكذلك نجزي المجرمين) أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي جنس من أجرم وقد تقدم تحقيقه.
(4/358)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
(4/359)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
(لهم) أي للذين كذبوا واستكبروا فهذا بيان لجزاء آخر لهم غير الجزاء السابق (من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) المهاد الفراش والغواش جمع غاشية أي نيران تحيط بهم من تحتهم وتغشاهم من فوقهم كالأغطية قاله ابن عباس: الغواش اللحف، وبه قال القرظي والضحاك والسدي.
(وكذلك نجزي الظالمين) أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من اتصف بصفة الظلم وذكر الجرم في حرمان الجنة والظلم في دخول النار تنبيهاً على أن الظلم أعظم الإجرام.
(4/359)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم من وحي الله وتنزيله عليه من شرائع دينه وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك وتجنبوا ما نهاهم عنه.
(لا نكلف نفساً إلا وسعها) أي لا نكلف العباد إلا بما يدخل تحت وسعهم ويقدرون عليه ولا نكلفهم ما لا يدخل تحت وسعهم، وهذه الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر، ومثله (لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها) قال الزجاج: الوسع ما يقدر عليه ولا يعجز عنه، وغلط من قال أن الوسع بذلك المجهود.
(أولئك) إشارة إلى الموصول مبتدأ وخبره (أصحاب الجنة هم فيها خالدون)
(4/359)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
(ونزعنا ما في صدورهم من غل) هذا من جملة ما ينعم الله به على أهل الجنة أن ينزع ما في قلوبهم من غل بعضهم على بعض حتى تصفو قلوبهم ويود بعضهم بعضاًَ، فإن الغل لو بقي في صدورهم كما كان في الدنيا لكان في ذلك تنغيص لنعم الجنة لأن المتشاحنين لا يطيب لأحدهما عيش مع وجود الآخر.
والمعنى خلقناهم في الجنة على هذه الحالة وليس المراد إنهم دخلوا الجنة بما ذكر ثم نزع منهم فيها بل المراد أنهم دخلوها مطهرين منه، قاله أبو حيان والغل الحقد الكامن في الصدور، وقيل نزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضاً في تفاضل المنازل قال علي بن أبي طالب: فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية.
(تجري من تحتهم الأنهار) أي من تحت قصورهم قد تقدم تفسيره مراراً (وقالوا) عند الاستقرار في منازلهم (الحمد لله الذي هدانا لهذا) الجزاء العظيم وهو الخلود في الجنة ونزع الغل من صدورهم والهداية هذه لهذا هي الهداية المسببة من الإيمان والعمل الصالح في الدنيا (وما كنا لنهتدي) نطيق لهذا الأمر جملة موضحة واللام لتوكيد النفي (لولا أن هدانا الله) جملة مستأنفة أو حالية.
أخرج النسائي وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل أهل النار يرى منزله من الجنة يقول لو هدانا الله
(4/360)
فتكون حسرة عليهم، وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول لولا أن هدانا الله فهذا شكرهم (1).
(لقد جاءت رسل ربنا بالحق) اللام لام القسم قالوا هذا لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الجزاء العظيم اغتباطاً بما صاروا فيه بسبب ما تقدم منهم من تصديق الرسل وظهور صدق ما أخبروهم به في الدنيا من أن جزاء الإيمان والعمل الصالح هو هذا الذي صاروا فيه.
(ونودوا أن تلكم الجنة) أي وقع النداء لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات فقيل لهم ذلك، والمنادي هو الله وقيل الملائكة وقيل هذا النداء يكون في الجنة.
عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا ولا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وان لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً فذلك قوله عز وجل يعني هذه الآية أخرجه مسلم (2).
(اورثتموها) أعطيتموها بدلاً من أهل النار، وهو حال من الجنة، وسماها ميراثاً لأنها لا تستحق بالعمل بل هي محض فضل الله وعده على الطاعات كالميراث من الميت ليس بعوض عن شيء بل هو صلة خالصة حصلت لكم بلا تعب (بما كنتم تعملون) أي أورثتم منازلها بعملكم قال في الكشاف بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقول المبطلة انتهى.
أقول يا مسكين هذا قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه: سددوا وقاربوا
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 4390.
(2) مسلم 2850.
(4/361)
واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته (1)، والتصريح بسبب لا يستلزم نفي سبب آخر، ولولا التفضل من الله سبحانه وتعالى على العامل بإقداره على العمل لم يكن عمل أصلاً، فلو لم يكن التفضل إلا بهذا الإقدار لكان القائلون به محقة لا مبطلة.
وفي التنزيل (ذلك الفضل من الله) وفيه (فسيدخلهم في رحمة منه وفضل) وفي فتح الباري المنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول والمثبت في الآية دخولها بالعمل المتقبل والقبول إنما يحصل من الله تفضلاً.
وفي القرطبي وبالجملة فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمته فإذا دخلوها بأعمالهم فقد ورثوها برحمته ودخلوها برحمته إذ أعمالهم رحمة منه لهم وتفضل منه عليهم انتهى (2).
_________
(1) روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنه والنار، حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة. فوالذى نفسي بيده، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا " رواه " البخاري " 5/ 70، و11/ 346 " بشرح الفتح "، و " الطبرى " 14/ 38 قال الحافظ 11/ 346: قوله: " والذى نفس محمد بيده " هذا ظاهره أنه مرفوع كله، وكذا في سائر الروايات، إلا في رواية عفان عند الطبرى، قال: فإنه جعل هذا من كلام قتادة، فقال بعد قوله: " في دخول الجنه " قال: وقال قتادة: " والذي نفسى بيده لأحدهم أهدى ... " الخ وفي رواية شعيب ابن إسحاق بعد قوله: " في دخول الجنة " قال: فوالذى نفسي بيده ... الخ فأبهم القائل، فعلى رواية عفان يكون هو قتادة، وعلى رواية غيره يكون هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وزاد محمد بن المنهال عند الإسماعيلى: قال قتادة: كان يقال: ما يشبه بهم إلا أهل الجمعة إذا انصرفوا من جمعتهم، وهكذا عند عبد الوهاب وروح. وفي رواية بشر ابن خالد وعفان جميعاً عند الطبرى قال: وقال بعضهم .. فذكره، وكذا في رواية شعيب بن إسحاق، ويونس ابن محمد، والقائل: وقال بعضهم: هو قتادة، ولم أقف على تسمية القائل.
(2) مسلم 2818 - البخاري 2427.
(4/362)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
(4/363)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
(ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، يقول أهل الجنة يا أهل النار، وهذه المناداة لم تكن لقصد الأخبار لهم مما نادوهم به بل لقصد تبكيتهم وإيقاع الحسرة في قلوبهم (أن قد وجدنا) هو نفس النداء أي إنا قد وصلنا إلى (ما وعدنا ربنا حقاً) أي ما وعدنا الله به من النعيم على ألسنة رسله (فهل وجدتم) أي وصلتم إلى (ما وعد) به (ربكم حقاً) أي من العذاب الأليم، والاستفهام هو للتقريع والتوبيخ.
(قالوا نعم) وجدنا ذلك حقاً، وظاهر الآية يفيد العموم، والجمع إذا قابل الجمع يوزع الفرد على الفرد فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في دار الدنيا (فأذن مؤذن) أي فنادى مناد (بينهم) أي بين الفريقين قيل المنادي هو من الملائكة، وقيل إنه إسرافيل ذكره الواحدي، وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وقف على قليب بدر تلا هذه الآية (أن لعنة الله على الظالمين) أي يقول المؤذن هذا القول.
ثم فسر الظالمين من هم فقال
(4/363)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
(الذين يصدون عن سبيل الله) الصد المنع أي يمنعون الناس عن سلوك سبيل الحق (ويبغونها عوجاً) أي يطلبون إعوجاجها أي ينفرون الناس عنها ويقدحون في استقامتها بقولهم إنها غير حق وإن الحق ما هم فيه، والعوج بالكسر في المعاني والأعيان ما لم يكن منتصباً بالفتح ما كان في المنتصب كالرمح والحائط (وهم بالآخرة كافرون) أي جاحدون منكرون لها.
(4/363)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
(وبينهما حجاب) أي حاجز بين الفريقين أو بين الجنة والنار والحجاب هو السور المذكور في قوله تعالى (فضرب بينهم بسور) (وعلى الأعراف) جمع عرف وهو كل مرتفع من الأرض وهي هنا شرفات السور المضروب بينهم، ومنه عرف الفرس، وعرف الديك لارتفاعه على ما سواه من الجسد، سمي بذلك لأنه بسبب ارتفاعه صار أعرف وأبين مما انخفض، والأعراف في اللغة المكان المرتفع.
وهذا الكلام خارج مخرج المدح كما في قوله (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) عن حذيفة قال: الأعراف سور بين الجنة والنار وبه قال مجاهد، وقال ابن عباس: هو الشيء المشرف، وقال سعيد بن جبير: الأعراف جبال بين الجنة والنار فهم على إعرافها أي على ذراها.
وقيل: إنها تلّ بينهما حبس عليه ناس من أهل الذنوب، وعن ابن جريج قال: زعموا أنه الصراط، وقال ابن عباس أيضاً: سور له عرف كعرف الديك وقيل الأعراف هو نفس الحجاب عبر عنه تارة بالحجاب وتارة بالأعراف قاله الواحدي، ولم يذكر غيره ولذلك عرف الأعراف لأنه عنى به الحجاب.
وقال القرطبي: الأعراف جبل أحد يوضع هناك، وذكر الزهراوي حديثاً فيه ما ذكر (رجال) من أفاضل المسلمين أو من آخرهم دخولاً في الجنة أو من لم يرض عنه أحد أبويه.
وقد اختلف العلماء في أصحاب الأعراف من هم، على ثلاثة عشر قولاً
(4/364)
ذكر الخازن منها ثمانية وزاد عليه القرطبي خمسة فقيل هم الشهداء ذكره القشيري وشرحبيل بن سعد، وقيل هم فضلاء المؤمنين فرغوا من شغل أنفسهم وتفرغوا لمطالعة أحوال الناس، ذكره مجاهد وقيل هم قوم أنبياء ذكره الزجاج وحكاه ابن الأنباري.
وقيل هم قوم استوت حسناتهم وسيآتهم قاله ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وابن عباس والشعبي والضحاك وسعيد بن جبير، وقيل هم العباس وحمزة وعلي وجعفر الطيار يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسوادها، حكى ذلك عن ابن عباس وقيل هم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم وهم في كل أمة، واختار هذا القول النحاس، وقال هو من أحسن ما قيل فيهم وقيل هم أولاد الزنا روى ذلك القشيري عن ابن عباس.
وقيل هم أطفال المشركين وقال مجاهد هم قوم صالحون فقهاء علماء، وقيل هم ملائكة موكلون بهذا السور يميزون الكافرين عن المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار، ذكره أبو مجلز وضعفه الطبري وقال: إن لفظ الرجال في لسان العرب لا يطلق إلا على المذكور من بني آدم دون إناثهم ودون سائر الخلق.
وفي هذه الأقوال ما يدل على أن أصحاب الأعراف دون أهل الجنة في الدرجات وإن كانوا يدخلون الجنة برحمة الله تعالى، وفيها ما يدل على أنهم أفضل من أهل الجنة وأعلى منهم منزلة، وليس في الباب ما يقطع به من نص جلي وبرهان نير.
وقال حذيفة: أصحاب الأعراف قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار وهم آخر من يدخل الجنة قد عرفوا أهل الجنة وأهل النار، وقيل هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام والمصائب في الدنيا وليست لهم كبائر فيحبسون عن الجنة لينالهم بذلك غم فيقع في مقابلة صغائرهم.
(4/365)
وذكر ابن الجوزي أنهم قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم أو أمهاتهم دون آبائهم، ورواه عن إبراهيم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي زرعة بن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: هم آخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم، قال ابن كثير وهذا مرسل حسن (1).
وأخرج البيهقي في البعث عن حذيفة أراه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يجمع الناس يوم القيامة فيؤمر بأهل الجنة إلى الجنة، ويؤمر بأهل النار إلى النار ثم يقال لأصحاب الأعراف ما تنتظرون؟ قالوا ننتظر أمرك فيقال لهم إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها، وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوا بمغفرتي ورحمتي.
وعن عبد الرحمن المزني قال سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أصحاب الأعراف فقال: هم قوم قتلوا في سبيل الله في معصية آبائهم فمنعهم من النار قتلهم في سبيل الله، ومنعهم من الجنة معصيتهم آباءهم (2) أخرجه البيهقي والطبراني وسعيد بن منصور وابن منيع وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهم، وروي بطرق عن جماعة من الصحابة نحوه مرفوعاً فإن ثبت الرفع فالمصير إليه متعين ولا قول لأحد بعده والله أعلم.
(يعرفون كلاًّ بسيماهم) السيما العلامة أي يعرفون كلاًّ من أهل الجنة والنار بعلاماتهم كبياض الوجوه وسوادها أو مواضع الوضوء من المؤمنين أو علامة
_________
(1) ابن كثير 2/ 216.
(2) ابن كثير 2/ 216.
(4/366)
يجعلها الله لكل فريق في ذلك الموقف يعرف رجال الأعراف بها السعداء من الأشقياء، قال السدي: إنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس أي زيادة على معرفتهم بكونهم في الجنة وكونهم في النار (1).
(ونادوا) أي نادى رجال الأعراف (أصحاب الجنة) حين رأوهم (أن سلام عليكم) أي نادوهم بقولهم هذا تحية لهم وإكراماً وتبشيراً أو أخبروهم بسلامتهم من العذاب والآفات (لم يدخلوها) أي لم يدخل الجنة أصحاب الأعراف ولا محل له لأنه استئناف (وهم يطمعون) أي والحال يطمعون في دخولها، وأنهم قيل معنى يطمعون يعلمون أنهم يدخلونها وذلك معروف عند أهل اللغة أي طمع بمعنى علم ذكره النحاس، وهذا القول أعني كونهم أهل الأعراف مروي عن جماعة منهم ابن عباس وابن مسعود، وقال أبو مجلز: هم أهل الجنة أي إن أهل الأعراف قالوا لهم سلام عليكم حال كون أهل الجنة لم يدخلوها، والحال أنهم يطمعون في دخولها، قال الحسن ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة
يريدها بهم.
_________
(1) قال القرطبي: روى القشيري عن ابن عباس في قوله عز وجل: " وعلى الأعراف رجال " قال: الأعراف موضع عالٍ على الصراط، عليه العباس وحمزة وعلي بن أبي طالب وجعفر ذو الجناحين، رضي الله عنهم، يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسواد الوجوه. وحكى الزهراوي أنهم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، وهم في كل أمة. واختار هذا القول النحاس، وقال: وهو من أحسن ما قيل فيه؛ فهم على السور بين الجنة والنار. وقال الزجاج: هم قوم أنبياء. وقيل: هم قوم كانت لهم صغائر لم تكفر عنهم بالآلام والمصائب في الدنيا وليست لهم كبائر فيحبسون عن الجنة لينالهم بذلك غم فيقع في مقابلة صغائرهم.
وتمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف؛ لأن مذهبه أنهم مذنبون. وقيل: هم أولاد الزنى.
(4/367)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
(4/368)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
(وإذا صرفت أبصارهم) أي أبصار أهل الأعراف لا عن قصد لأن المكروه لا ينظر إليه الإنسان قصداً في العادة (تلقاء أصحاب النار) أي وجاههم وحيالهم، وأصل معنى تلقاء جهة اللقاء وهي جهة المقابلة ولم يأت مصدر على تفعال بكسر أوله غير مصدرين أحدهما هذا والآخر تبيان، وما عداهما بالفتح وزاد بعضهم الزلزال.
(قالوا) أي أهل الأعراف إذا نظروا إليهم وإلى سواد وجوههم وما هم فيه من العذاب (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) سألوا الله أن لا يجعلهم منهم.
(4/368)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
(ونادى أصحاب الأعراف رجالاً) من الكفار كانوا عظماء في الدنيا (يعرفونهم بسيماهم) أي بعلاماتهم (قالوا ما أغنى عنكم جمعكم) الذي كنتم تجمعون من الأموال والعدد في الدنيا للصد عن سبيل الله، والاستفهام للتقريع والتوبيخ (و) ما أغنى عنكم (ما كنتم تستكبرون) أي استكباركم عن الإيمان شيئاً.
(4/368)
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
(أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة) هذا من كلام أصحاب الأعراف أي قالوا للكفار مشيرين إلى المسلمين الذين صاروا إلى الجنة هذه المقالة، وقد كان الكفار يقسمون في الدنيا عند رؤيتهم لضعفاء المسلمين بهذا القسم، وهذا تبكيت للكفار وتحسير لهم (أدخلوا الجنة) بفضلي ورحمتي (لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) هذا تمام كلام أصحاب الأعراف أي قالوا للمسلمين أدخلوا الجنة فقد انتفى عنكم الخوف والحزن بعد الدخول.
(4/368)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
(ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) من الطعام قاله السدي والإفاضة التوسعة، يقال أفاض عليه نعمة ويتضمن أفيضوا معنى القوا وأو بمعنى الواو لقوله حرمهما أو هي على بابها من اقتضائها لأحد الشيئين إما تخييراً أو إباحة أو غير ذلك مما يليق بهما. وعلى هذا تقديره حرم كلاً منهما أو كليهما كما سيأتي، والمعنى طلبوا منهم أن يواسوهم بشيء من الماء أو بشيء مما رزقهم الله من غيره من الأشربة والأطعمة.
(قالوا) أي فأجابوا بقولهم (إن الله حرمهما) أي حرم الماء وما رزقنا (على الكافرين) ومنعهما فلا نواسيكم بشيء مما حرمه عليكم، والتحريم مستعمل في لازمه لانقطاع التكليف حينئذ، قيل إن هذا النداء كان من أهل النار بعد دخول أهل الأعراف الجنة.
قال ابن عباس: ينادي الرجل أخاه فيقول يا أخي اغثني فإني قد احترقت فأفض علي من الماء فيقال أجبه فيقول إن الله حرمهما على الكافرين، وقال ابن زيد: يستسقونهم ويستطعمونهم وإن الله حرمهما أي طعام الجنة وشرابها وهو تحريم منع (1).
_________
(1) في هذه الآية دليل على أن سقي الماء من أفضل الأعمال. وقد سئل ابن عباس: أي الصدقة أفضل؟ فقال: الماء، ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة " أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله "؟. وروى أبو داود أن سعداً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الصدقة أعجب إليك؟ قال: " الماء ". وفي رواية: فحفر بئراً فقال: " هذه لأم سعد "، وعن أنس قال، قال سعد: يارسول الله، إن أم سعد كانت تحب الصدقة، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: " نعم وعليك بالماء ".
(4/369)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
(الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا) قد تقدم تفسير اللهو واللعب والغرر، وقال ابن عباس: هم المستهزئون وذلك أنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان سخروا ممن دعاهم إليه وهزئوا به استهزاء بالله عز وجل، وقيل هو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحائر والسوائب والماء والتصدية حول البيت وسائر الخصال الذميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهلية، وقيل معنى دينهم عيدهم اتخذوه لهواً ولعباً لا يذكرون الله فيه.
(فاليوم ننساهم) أي نتركهم في النار، وقال مجاهد: نؤخرهم جياعاً عطاشاً والمعنى نفعل بهم فعل الناسي بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركاً كلياً، والفاء فصيحة وكثر مثل هذه الاستعارة في القرآن لأن تعليم المعاني التي في عالم الغيب لا يمكن أن يعبر عنها إلا بما يماثلها من عالم الشهادة.
(كما نسوا لقاء يومهم هذا) أي كما تركوا العمل للقاء هذا اليوم قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وقال ابن عباس أيضاً: نسيهم من الخير ولم ينسهم من الشر، وسمى جزاء نسيانهم بالنسيان مجازاً لأن الله لا ينسى شيئاً.
(وما كانوا بآياتنا يجحدون) أي ينكرونهما.
(4/370)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
(4/371)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
(ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم) أي عالمين بتفصيله حال كونه (هدى ورحمة لقوم يؤمنون) المراد بالكتاب الجنس إن كان الضمير للكفار جميعاً، وإن كان للمعاصرين للنبي صلى لله عليه وآله وسلم فالمراد به القرآن، والتفصيل التبيين أي ما بيناه بالأخبار والوعد والوعيد، وكذا بقية الأنواع التسعة التي نظمها بعضهم في قوله:
حلال حرام محكم متشابه ... بشير نذير قصة عظة مثل
وقال السمين المراد بتفصيله إيضاح الحق من الباطل أو تنزيله في فصول مختلفة كقوله (وقرآناً فرقناه) وقرئ فضلناه من التفضيل أي على غيره من الكتب السماوية.
(4/371)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
(هل ينظرون) النظر الانتظار أي ما ينتظرون أهل مكة (إلا تأويله) أي ما وعدوا به في الكتاب من العقاب الذي يؤل الأمر إليه، وقيل تأويله جزاؤه، وقيل عاقبة ما فيه والمعنى متقارب.
(يوم يأتي تأويله) وهو يوم القيامة (يقول الذين نسوه) أي التأويل وتركوا العمل بالقرآن (من قبل) أي قبل أن يأتي تأويله (قد جاءت رسل ربنا بالحق) الذي أرسلهم الله به إلينا (فهل لنا من شفعاء) استفهام ومعناه التمني، ومن زائدة (فيشفعوا لنا) جواب الاستفهام والمعنى هل لنا شفعاء يخلصونا مما نحن فيه من العذاب.
(4/371)
(أو) هل (نرد) إلى الدنيا (فنعمل) صالحاً (غير الذي كنا نعمل) من المعاصي فبدل الكفر بالإيمان والتوحيد والمعاصي بالطاعة والإنابة فيقال لهم في جواب الاستفهامين (قد خسروا أنفسهم) أي صاروا إلى الهلاك ولم ينتفعوا بها فكانت بلاء عليهم ومحنة لهم فكأنهم خسروها كما يخسر التاجر رأس ماله وقيل خسروا النعيم وحظ الأنفس.
(وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي افتراءهم أو الذي كانوا يفترونه من دعوى الشريك والمعنى أنه بطل كذبهم الذي كانوا يقولونه في الدنيا أو غاب عنهم ما كانوا يجعلونه شريكاً لله فلم ينفعهم ولا حضر معهم وعلموا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين.
(4/372)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
(إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض) هذا نوع من بديع صنع الله وجليل قدرته وتفرده بالإيجاد الذي يوجب على العباد توحيده وعبادته وأصل الخلق في اللغة التقدير، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل سبق ولا ابتداء تقدم، فمعنى الآية أنشأ خلقهما وقدر أحوالهما (في ستة أيام) اليوم عبارة عن مقدار من الزمان وهو من طلوع الشمس إلى غروبها.
قيل هذه الأيام من أيام الدنيا وقيل من أيام الآخرة، قال ابن عباس: كل يوم مقداره ألف سنة وبه قال الجمهور وهذه الأيام الستة أولها الأحد وآخرها الجمعة، وبه قال عبد الله بن سلام وكعب الأحبار والضحاك ومجاهد واختاره ابن جرير والطبري وهو سبحانه قادر على خلقها في لحظة واحدة يقول لها كوني فتكون، ولكنه أراد أن يعلم عباده الرفق والتأني في الأمور.
وقال سعيد بن جبير تعليماً لخلقه التثبت كما في الحديث التأني من الله والعجلة من الشيطان أو خلقها لكون كل شيء له عنده أجل، وفي آية أخرى (ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) وحديث: خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء الخ رواه مسلم والحاكم عن ابن عباس (1).
لكن يشكل على هذا التوزيع أنه لم يكن ثم أيام لعدم الشمس والقمر حينئذ ولا يتعين الأحد ولا غيره من الأيام إلا بوجودها بالفعل، ذكره سليمان
_________
(1) مسلم/2789.
(4/373)
الجمل. وقال والجواب بقوله (أي في قدرها) لا يدفع هذا الإشكال كما لا يخفى.
(ثم استوى على العرش) قد اختلف العلماء في معنى هذا على أربعة عشر قولاً وأحقها وأولاها بالصواب مذهب السلف الصالح أنه استوى سبحانه عليه بلا كيف بل على الوجه الذي يليق به مع تنزهه عما لا يجوز عليه.
والاستواء في لغة العرب هو العلو والاستقرار، قال الجوهري: استوى على ظهر دابته أي استقر واستوى إلى السماء أي صعد، واستوى أي استولى وظهر وبه قال المعتزلة وجماعة من المتكلمين: واستوى الرجل أي انتهى شبابه واستوى أي: اتسق واعتدل.
وحكي عن أبي عبيدة أن معنى استوى هنا علا وارتفع، وللشوكاني رسالة مستقلة في إثبات إجراء الصفات على ظواهرها منها صفة الاستواء، ولشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني والحافظ الإمام محمد بن أبي بكر بن القيم الجوزي إلمام تام بمسألة الاستواء هذه وإثبات الفوقية والعلو له تعالى على خلقه ولهما في ذلك رسائل مستقلة ما بين مطولة منها ومختصرة، وكتاب العلو للحافظ الذهبي فيه جميع ما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث وغيرها، وقد أوضحت هذا المقام في كتابي الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح.
وعن أم سلمة قالت: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود له كفر، أخرجه ابن مردويه وعن مالك بن أنس نحوه وزاد والسؤال عنه بدعة، قال النسفي وتفسير العرش بالسرير والاستواء بالاستقرار كما تقوله المشبهة باطل انتهى.
وأقول يا مسكين أما شعرت أن العرش في اللغة هو السرير، والاستواء هو الاستقرار وبه فسره حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس كما في البخاري
(4/374)
وليس في ذلك تشبيه أصلاً إنما التشبيه في بيان الكيفية بل الإنكار عن ذلك تعطيل يخالف مذهب سلف الأمة وأئمتها، وهو إمرار الصفات كما جاءت وإجراؤها على ظواهرها بلا تكييف ولا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه، ويعالج التشبيه بكلمة إجمالية ليس كمثله شيء.
والعرش قال الجوهري هو سرير الملك، وقيل هو ما علا فأظل، وسمي مجلس السلطان عرشاً اعتباراً لعلوه ويكنى عن العز والسلطان والمملكة بالعرش على الاستعارة والمجاز.
ويطلق على معان أخر منها عرش البيت سقفه وعرش البئر طيها بالخشب وعرش السماك أربعة كواكب صغار.
وعبارة الخفاجي العرش هو فلك الأفلاك إما حقيقة لأنه بمعنى المرتفع أو استعارة من عرش الملك وهو سريره ومنه ورفع أبويه على العرش، أو بمعنى الملك بضم الميم وسكون اللام، ومنه ثل عرشه إذا انتقض ملكه واختل انتهى.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة صفة عرش الرحمن وإحاطته بالسموات والأرض وما بينهما وما عليهما وهو المراد هنا، قال الراغب: وعرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم على الحقيقة، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملاً له، تعالى الله عن ذلك وليس كما قال قوم إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب.
قيل والمراد به هنا هو الجسم النوراني المرتفع على كل الأجسام المحيطة بكلها.
(يغشي الليل النهار) أي يجعل الليل كالغشاء للنهار فيغطي بظلمته ضياءه قرئ يغشي بالتشديد والتخفيف وهما لغتان، يقال أغشى يغشي غشي يغشي والتغشية في الأصل إلباس الشيء الشيء، ولم يذكر في هذه الآية يغشي
(4/375)
الليل بالنهار اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخر كقوله (سرابيل تقيكم الحر) أو لدلالة الحال عليه أو لأن اللفظ يحتملهما بجعل الليل مفعولاً أولاً والنهار مفعولاً ثانياً أو بالعكس.
وذكر في آية أخرى يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ذكره الكرخي، والتقدير استوى على العرش مغشياً الليل النهار.
والآية الكريمة من باب أعطيت زيداً عمراً لأن كلا من الليل والنهار يصلح أن يكون غاشياً ومغشياً فوجب جعل الليل هو الفاعل المعنوي، والنهار هو الفعول من غير عكس.
(يطلبه حثيثاً) أي حال كون الليل طالباً للنهار طلباً لا يفتر عنه بحال، والحث الحمل على فعل الشيء كالحض عليه والاستعجال والسرعة، يقال ولى حثيثاً أي مسرعاً، والحث والحض أخوان يقال حثثت فلاناً فاحتث فهو حثيث ومحثوث وفعله من باب رد.
قال الرازي: إنه سبحانه وصف هذه الحركة بالسرعة الشديدة وذلك أن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة، فإن الإنسان إذ كان في أشد عدوه بمقدار رفع رجله ووضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل وهي ألف فرسخ. ولهذا قال يطلبه حثيثاً لسرعته وحركته أي يعقبه سريعاً كالطالب له لا يفصل بينهما بشيء، والجملة حال من الليل لأنه هو المحدث عنه أي يغشي النهار طالباً له أو من النهار أي مطلوباً أو من كل منهما وعليه الجلال.
(والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) أي خلقها حال كونها
(4/376)
مسخرات والإخبار عن هذه بالتسخير وهو التذليل لما يراد منها من طلوع وغروب وسير ورجوع إذ ليس هن قادرات بأنفسهن، وإنما يتصرفن على إرادة المدبر لهن على ما أراد منهن.
(ألا) أداة استفتاح و (له) خبر مقدم والمبتدأ (الخلق والأمر) إخبار منه سبحانه لعباده بأنهما له، والخلق المخلوق والأمر كلامه، وهو كن في قوله (إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) أو المراد بالأمر ما يأمر به على التفصيل والتصرف في مخلوقاته.
قال سفيان بن عيينة: الخلق ما دون العرش والأمر فوق ذلك.
واستخرج من هذا المعنى أن كلام الله ليس بمخلوق لأنه فرق بين الخلق والأمر ومن جعل الأمر الذي هو كلامه من جملة ما خلقه فقد كفر. وفي الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله ففيه رد على من يقول إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم فأخبر أنه هو الخالق المدبر لهذا العالم لا هن وله الأمر المطلق. وليس لأحد أمر غيره، فهو الآمر والناهي الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد من خلقه عليه.
(تبارك الله رب العالمين) أي كثرت بركته واتسعت. ومنه بورك الشيء وبورك فيه كذا قال ابن عرفة، وقال الأزهري معناه تعالى وتعاظم، وقيل تمجد وارتفع، وختم الآية بالثناء عليه لأنه هو المستحق للمدح المطلق، وقال ابن عباس: معناها جاء بكل بركة، وقيل تقدس وقيل باسمه يتبرك في كل شيء، وقيل معناه ثبت ودام. وفي الجمل تبارك فعل ماض لا يتصرف أي لم يجىء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل، وقال الزجاج: تبارك من البركة، وهي الكثرة في كل خير.
(4/377)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
(أدعوا ربكم تضرعاً وخفية) أمرهم الله سبحانه بالدعاء وقيد ذلك بكون الداعي متضرعاً بدعائه مخفياً له أي متضرعين بالدعاء مخفين له. أو ادعوه دعاء تضرع ودعاء خفية، وقيل الدعاء هنا بمعنى العبادة والأول أولى.
والتضرع من الضراعة وهي الذلة والخشوع والاستكانة، والخفية الإسرار به فإن ذلك أقطع لعرق الرياء وأحسم لمادة ما يخالف الإخلاص، وقال الزجاج: تضرعاً يعني تملقاً، وقال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً وقال تعالى (إذ نادى ربه نداء خفياً).
وعن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيها الناس أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً بصيراً وهو معكم والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته (1) والحديث أخرجه الشيخان.
ثم علل ذلك بقوله (إنه لا يحب المعتدين) أي المجاوزين لما أمروا به في الدعاء بالتشدق ورفع الصوت وفي كل شيء، فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء فقد اعتدى، وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا العموم دخولاً أولياً، ومن الاعتداء في الدعاء أن يسأل الداعي ما ليس له كالخلود في الدنيا أو إدراك ما هو محال في نفسه، أو يطلب الوصول إلى منازل الأنبياء في الآخرة أو يرفع صوته بالدعاء صارخاً به.
_________
(1) مسلم/2704 - البخاري/1423.
قال النووي: أرفقوا بأنفسكم واخْفضُوا أصواتكم.
(4/378)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
(ولا تفسدوا في الأرض) نهاهم الله سبحانه عن الفساد في الأرض بوجه من الوجوه قليلاً كان أو كثيراً، ومنه قتل الناس وتخريب منازلهم وقطع أشجارهم وتغوير أنهارهم، ومن الفساد في الأرض الكفر بالله والوقوع في معاصيه (بعد إصلاحها) أي بعد أن أصلحها الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتقرير الشرائع قاله الحسن والسدي والضحاك والكلبي، وقيل بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب.
(وادعوه خوفاً وطمعاً) فيه أنه يشرع للداعي أن يكون عند دعائه خائفاً وجلاً طامعاً في إجابة الله لدعائه، فإنه إذا كان عند الدعاء جامعاً بين الخوف والرجاء ظهر بمطلوبه، قال القرطبي: أمرنا الله تعالى بأن يكون العبد وقت الدعاء في حال ترقب وتخوف وأمل في الله حتى يكون الخوف والرجاء للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامته، وإذا انفرد أحدهما هلك الإنسان فيدعو الإنسان خوفاً من عقابه وطمعاً في ثوابه.
والخوف الانزعاج في الباطن من المضار التي لا يؤمن من وقوعها وقيل توقع مكروه فيما بعد والطمع توقع حصول الأمر المحبوب في المستقبل قال ابن جريج: معناه خوف العدل وطمع الفضل وقيل خوفاً من الرياء وطمعاً في الإجابة.
قال بعض أهل العلم: ينبغي للعبد أن يغلب الخوف حال حياته فإذا جاء الموت غلب الرجاء قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى، أخرجه مسلم (1)، والآية الأولى في بيان شرط
_________
(1) مسلم/2877.
(4/379)
صحة الدعاء والثانية في بيان فائدة الدعاء.
(إن رحمة الله قريب من المحسنين) هذا إخبار من الله سبحانه بأن رحمته قريبة من عباده المحسنين بأي نوع من الأنواع كان إحسانهم، وفي هذا ترغيب للعباد إلى الخير وتنشيط لهم، فإن قرب هذه الرحمة التي يكون بها الفوز بكل مطلب مقصود لكل عبد من عباد الله.
وقد اختلف أئمة اللغة والإعراب في وجه تذكير خبر رحمة الله حيث قال (قريب) ولم يقل قريبة فقال الزجاج: إن الرحمة مؤولة بالرحم لكونها بمعنى العفو والغفران، ورجح هذا التأويل النحاس.
وقال النضر بن شميل الرحمة مصدر بمعنى الترحم، وحق المصدر التذكير، وقال الأخفش: أراد: بالرحمة هنا المطر وتذكير بعض المؤنث جائز.
وقال أبو عبيدة: المعنى مكان قريب.
قال علي بن سليمان الأخفش: وهذا خطأ ولو كان كما قال لكان قريب منصوباً، وقال الفراء: إن القريب إذا كان بمعنى المسافة فيذكر ويؤنث وإن كان بمعنى النسب فيؤنث بلا اختلاف بينهم، وروي عن الفراء أنه قال: في النسب قريبة فلان وفي غير النسب يجوز التذكير والتأنيث يقال دارك منا قريب، وفلانة منا قريب، قال الله تعالى: (وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً).
وروي عن الزجاج أنه خطأ الفراء فيما قاله وقال: إن سبيل الذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما، وقيل: إنه لما كان تأنيث الرحمة غير حقيقي جاز في خبرها التذكير، ذكر معناه الجوهري، وأصل الرحمة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وتستعمل تارة في مجرد الرقة وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة. وإذا وصف بها الباري يراد بها الإحسان فقط.
وقيل هي إرادة إيصال الخير والنعمة على عباده، فعلى الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال وعلى الثاني من صفات الذات، قال سعيد بن جبير: الرحمة ههنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ.
(4/380)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
(4/381)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
(و) قوله (هو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته) يتضمن ذكر نعمة من النعم التي أنعم بها على عباده مع ما في ذلك من الدلالة على وحدانيته وثبوت إلهيته، ورياح جمع ريح وأصل ريح روح وقرئ " نشراً " بضم النون والشين جمع ناشر على معنى النسب أي ذات نشر، وقرئ بضم النون وإسكان الشين وبفتح النون وإسكان الشين.
ومعنى هذه القراآت يرجع إلى النشر الذي هو خلاف الطي، فكأن الريح مع سكونها كانت مطوية ثم ترسل من طيها فتصير كالمنفتحة، وقال أبو عبيدة: معناه متفرقة في وجوهها على معنى ينشرها ههنا وههنا.
وقيل هي الريح الطيبة الهبوب تهب من كل ناحية. وقيل يقال أنشر الله الريح بمعنى أحياها، وقال الفراء: النشر الريح اللينة التي تنشر السحاب، وقال ابن الأنباري: هي المنتشرة الواسعة الهبوب، وقرئ بشراً بالموحدة وإسكان الشين جمع بشير أي الرياح تبشر بالمطر ومثله قوله تعالى (وهو الذي يرسل الرياح مبشرات) والمراد بالرحمة المطر أي قدام رحمته.
والمعنى أنه يرسل الرياح ناشرات أو مبشرات بين يدي المطر، والريح هو الهواء المتحرك يمنة ويسرة وجمعه الرياح وهي أربعة، الصباء وهي الشرقية تثير السحاب، والدبور وهي الغربية تفرقه، والشمال تجمعه وهي التي تهب من تحت القطب الشمالي، والجنوب تدرسه وهي قبلية.
عن ابن عمر: أن الرياح ثمان أربع منها عذاب وهي القاصف
(4/381)
والعاصف والصرصر والعقيم، وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات قال كعب: لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض.
(حتى) غاية لقوله يرسل (إذا أقلت سحاباً ثقالاً) حقيقة أقله جعله قليلاً أو وجده قليلاً ثم استعمل بمعنى حمله، لأن الحامل يستقل ما يحمله، ومنه المقل بمعنى الحامل، واشتقاق لإقلال من القلة فإن من يرفع شيئاً يراه قليلاً يقال أقل فلان الشيء حمله ورفعه، والسحاب اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث تصح مراعات لفظه ومراعاة معناه، وهو الغيم فيه ماء أو لا سمي سحاباً لانسحابه في الهواء، والمعنى إذا حملت الرياح سحاباً ثقالاً بالماء الذي صارت تحمله.
(سقناه) أي السحاب وفيه التفات عن الغيبة في قوله هو الذي يرسل (لبلد ميت) أي مجدب ليس فيه نبات لعدم الماء، يقال سقته لبلد كذا وإلى بلد كذا، وقيل لأجل بلد ميت، قاله الزمخشري، وجعلها لام العلة ولا يظهر بل هي لام التبليغ كقولك قلت لك.
قال أبو حبان: فرق بين قولك سقت لك مالاً، وسقت لأجلك فإن الأول معناه أوصلته لك وبلغتكه، والثاني لا يلزم منه وصوله إليك، والبلد هو الموضع العامر من الأرض، وقال الأزهري: عامر أو غير عامر خال أو مسكون، والطائفة منها بلدة والجمع بلاد، وزاد غيره والمفازة تسمى بلدة لكونها مسكن الوحش والجن، والبلد يذكر ويؤنث والجمع بلدان.
(فأنزلنا به الماء) أي بالبلد الذي سقناه لأجله قاله الزجاج وابن الأنباري وهذا هو الظاهر، وقيل أنزلنا بالسحاب الماء الذي تحمله أو فأنزلنا بالريح المرسلة بين يدي المطر الماء، وقيل: إن الباء هنا بمعنى من أي فأنزلنا منه
(4/382)
الماء، وقيل: إنها سببية أي فأنزلنا الماء بسبب السحاب، وقيل يعود على السوق المفهوم من الفعل أي بسبب سوق السحاب وهو ضعيف لعود الضمير على غير مذكور مع إمكان عوده على المذكور.
(فأخرجنا به) أي بالماء أو بذلك البلد الميت، والأول أولى بل لا ينبغي أن يعدل عنه (من كل الثمرات) أي من جميع أنواعها، ومن تبعيضيه أو ابتدائية (كذلك) أي مثل إخراج الثمرات (نخرج الموتى) من القبور يوم حشرهم بعد فنائهم ودروس آثارهم، والتشبيه في مطلق الإخراج من العدم.
وهذا رد على منكري البعث ومحصله أن من قدر على إخراج الثمر الرطب من الخشب اليابس، قادر على إحياء الموتى من قبورهم (لعلكم تذكرون) فتعلمون عظيم قدرة الله وبديع صنعته، وتؤمنون بأنه قادر على بعثكم كما قدر على إخراج الثمرات التي تشاهدونها، والخطاب لمنكري البعث.
(4/383)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
(والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه) أي التربة الطيبة السهلة السمحة يخرج نباتها بإذن الله وتيسيره خروجاً حسناً تاماً وافياً، وخص خروج نبات الطيب بقوله (بإذن ربه) على سبيل المدح والتشريف وإن كان كل من النباتين يخرج بإذنه تعالى، قاله أبو حيان في النهر، والمعنى بمشيئته وعبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه لأنه أوقعه في مقابلة قوله:
(والذي خبث) أي والتربة الخبيثة السبخة (لا يخرج) نباتها (إلا نكداً) أي قليلاً لا خير فيه، وقيل عسراً بمشقة وكلفة، يقال نكد نكداً من باب تعب فهو نكد تعسر، ونكد العيش نكداً اشتد وعسر، وفي القاموس ونكد عيشهم كفرح اشتد وعسر، والبئر قل ماؤها ونكد زيد حاجة عمرو كنصر منعه إياها، ورجل نكد شؤم عسر، وقوم أنكاد ومناكيد والنكد بالضم قلة العطاء ويفتح.
(4/383)
وقيل معنى الآية التشبيه، شبه تعالى السريع الفهم بالبلد الطيب، والبليد بالبلد الخبيث ذكره النحاس، وقيل هذا مثل للقلوب فشبه القلب القابل للوعظ بالبلد الطيب، والنابي عنه بالبلد الخبيث قاله الحسن، وقيل هو مثل لقلب المؤمن والمنافق قاله قتادة، وقيل هو مثل للطيب والخبيث من بني آدم قاله مجاهد.
عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به " (1) أخرجاه في الصحيحين، وليس في هذا ما يدل على أنه السبب في نزول الآية.
(كذلك) أي مثل ذلك التصريف (نصرف الآيات لقوم يشكرون) الله ويعترفون بنعمته وينتفعون بسماع القرآن.
_________
(1) مسلم/2282 - البخاري/68.
ومعناه أن الناس مثل الأرض.
النوع الأول: من الناس: يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيى قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع.
والنوع الثاني: من الناس: لهم قلوب حافظة ولكن ليست لهم أفهام ثاقبة ولا رسوخ لهم في العلم يستنبطون به المعاني والأحكام وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم أهل للنفع والانتفاع فأخذه منهم فينتفع به فهؤلاء نفعوا بم أبلغهم.
النوع الثالث: ليس لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية ..
(4/384)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
(4/385)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
(لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه) لما بين الله سبحانه كمال قدرته وبديع صنعته في الآيات السابقة ذكر هنا أقاصيص الأمم وما فيها من تحذير الكفار ووعيدهم لتنبيه هذه الأمة على الصواب، وأن لا يقتدوا بمن خالف الحق من الأمم السالفة، واللام جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا نوح ابن لمك بن متوشلخ.
ومعنى أرسلنا بعثنا، وكان نوح نجاراً بعثه الله وهو ابن أربعين سنة، وقيل خمسين سنة، وقيل مائتين وخمسين سنة، وقيل ابن مائة سنة وهو أول الرسل إلى أهل الأرض بعد آدم.
أخرج أبو حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: [أول نبي أرسل نوح] قال يزيد الرقاشي إنما سمي نوحاً لطول ما ناح على نفسه (1)، وكان اسمه عبد الغفار بن لمك، واختلف في سبب نوحه فقيل لدعوته على قومه بالهلاك. وقيل لمراجعته ربه في شأن ابنه كنعان وقيل لأنه مر بكلب مجذوم فقال له إخسأ يا قبيح، فأوحى الله تعالى إليه أعبتني أم عبت الكلب.
وقوم الرجل أقرباؤه الذين يجتمعون في حد واحد وقد يقيم الرجل بين الأجانب فيسميهم قومه مجازاً للمجاورة، وفي التنزيل (قال يا قوم اتبعوا
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 2582. رواه الديلمي 1/ 1/9 وابن عساكر 17/ 326/2 ومسلم 1/ 327
والترمذي/2436 برواية " يا نوح أنت أول الرسل على الأرض " وقال حديث حسن صحيح.
(4/385)
المرسلين) وكان مقيماً بينهم ولم يكن منهم، وقيل كانوا قومه قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، وقد تقدم ذكر نوح في آل عمران فأغنى عن الإعادة هنا.
وما قيل: إن إدريس قبل نوح فقال ابن العربي: إنه وهم، قال المازري: فإن صح ما ذكره المؤرخون كان محمولاً على أن إدريس كان نبياً غير مرسل.
(فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) أي اعبدوه لأنه لم يكن لكم إله غيره حتى يستحق منكم أن يكون معبوداً (إني أخاف عليكم) إن عبدتم غيره (عذاب يوم عظيم) جملة متضمنة لتعليل الأمر بالعبادة والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الطوفان، وإنما قال أخاف على الشك وإن كان على يقين وجزم من حلول العذاب بهم إن لم يؤمنوا به لأنه لم يعرف وقت نزول العذاب بهم أيعاجلهم أم يتأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة.
(4/386)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
(قال الملأ من قومه) الملأ أشراف القوم ورؤساؤهم، وقيل هم الرجال سموا بذلك لملأتهم بما يلتمس عندهم من المعروف وجودة الرأي أو لأنهم يملؤون العيون أبهة، والصدور هيبة، والجمع إملاء مثل سبب وأسباب وقد تقدم بيانه في البقرة.
(إنا لنراك في ضلال مبين) الضلال العدول عن طريق الحق والذهاب عنه يقال ضل الرجل الطريق وضل عنه يضل من باب ضرب ضلالاً وضلالة زل عنه فلم يهتد إليه فهو ضال هذه لغة نجد، وهي الفصحى، وبها جاء القرآن في قوله: [إن ضللت فإنما أضل على نفسي]، وفي لغة لأهل العالية من باب تعب.
والأصل في الضلال الغيبة ومنه قيل للحيوان الضائع ضالة بالهاء للمذكر والمؤنث، والجمع الضوال مثل دابة ودواب أي إنا لنراك في دعائك إلى عبادة الله وحده في ضلال عن طريق الحق وخطأ وزوال عنه بين، والرؤية قلبية.
(4/386)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
(4/387)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)
(قال يا قوم ليس بي ضلالة) كما تزعمون، وهي أعم من الضلال فنفيها أبلغ من نفيه (ولكني رسول) جاءت لكن هنا أحسن مجيء لأنها بين نقيضين لأن الإنسان لا يخلو من أحد شيئين، ضلال وهدى، والرسالة لا تجامع الضلال.
و (من رب العالمين) صفة لرسول، ومن لابتداء الغاية المجازية أي أرسلني لسوق الخير إليكم ودفع الشر عنكم، نفى عن نفسه الضلالة وأثبت لها ما هو أعلى منصب وأشرف رفعة وهو أنه رسول الله إليهم.
(4/387)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
(أبلغكم رسالات ربي) جمع الرسالة لاختلاف أوقاتها ولتنوع معانيها أو لأن المراد بها المرسل به، وهو يتعدد أي ما أرسله الله به إليهم مما أوحاه إليه (وأنصح لكم) يقال نصحته ونصحت له، وفي زيادة اللام دلالة على المبالغة في امحاض النصح، قال الأصمعي: الناصح الخالص من الغل وكل شيء خالص فقد نصح، فمعنى أنصح هنا أخلص النية لكم عن شوائب الفساد والاسم النصيحة، وقيل النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح للغير، وقيل إرادة الخير لغيرك مما تريده لنفسك أو النهاية في صدق العناية.
(و) جملة (أعلم من الله ما لا تعلمون) مقررة لرسالته ومبينة لمزيد علمه وأنه يختص بعلم الأشياء التي لا يعلمونها بإخبار الله له بذلك، ومنها قدرته الباهرة وشدة بطشه على أعدائه، وإن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين.
(4/387)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
(4/388)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
(أوعجبتم) الاستفهام للإنكار والواو للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قبل استبعدتم أو أكذبتم أو أنكرتم وعجبتم من (أن جاءكم ذكر) أي وحي ورسالة أو موعظة (من ربكم) والمراد به الكتاب الذي أنزل على نوح وقبل المعجزة التي جاء بها نوح، والأول أولى (على) لسان (رجل منكم) أي من جنسكم تعرفونه ولم يكن ذلك على لسان من لا تعرفونه أو لا تعرفون لغته، وقيل على بمعنى مع، قال الفراء.
(لينذركم) به علة للمجيء (ولتتقوا) ما يخالفه. علة ثانية مرتبه على العلة قبلها (ولعلكم ترحمون) بسبب ما يفيده الإنذار لكم، والتقوى منكم من التعرض لرحمة الله سبحانه لكم ورضوانه عنكم. وهي علة ثالثة مرتبة على التي قبلها، وهذا الترتيب في آية من الحسن لأن المقصود من الإرسال الإنذار ومن الإنذار التقوى ومن التقوى الفوز بالرحمة.
(4/388)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
(فكذبوه) أي فبعد ذلك كذبوه ولم يعملوا بما جاء به من الإنذار، واستمروا على تكذيبه في دعوى النبوة وما نزل عليه من الوحي الذي بلغه إليهم (فأنجيناه) من الطوفان والغرق (والذين معه) من المؤمنين به المستقرين معه، قيل كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة؛ وقيل كانوا تسعة. أبناؤه الثلاثة وستة من غيرهم (في الفلك) أي السفينة؛ روي أنه اتخذها في سنتين وركبها في عاشر رجب ونزل منها في عاشر محرم؛ والفلك واحد وجمع تذكر وتؤنث.
(4/388)
(وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا) أي استمروا على ذلك ولم يرجعوا إلى التوبة (إنهم كانوا قوماً عمين) عن الحق وفهمه قاله مجاهد أي لكونهم عمي القلب لا ينجع فيهم الموعظة ولا يفيدهم التذكير، قال ابن عباس عمين كفاراً.
قال الزجاج: عموا عن الحق والإيمان يقال رجل عم في البصيرة؛ وأعمى في البصر، قاله الليث: وقيل هما بمعنى، وقال مقاتل: عموا عن نزول العذاب بهم وهو الغرق، وعمين جمع عم صفة مشبهة لكن تصرف فيه بحذف لامه كقاض إذا جمع فأصله عميين.
قال بعضهم: عم فيه دلالة على ثبوت الصفة واستقرارها كفرح وضيق، ولو أريد الحدوث لقيل عام كما يقال فارح وضائق، وقد قرئ عامين حكاها الزمخشري
(4/389)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
(و) أرسلنا (إلى) قوم (عاد) وهو من ولد سام بن نوح قيل هو عاد بن عوص بن أرم بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وهي عاد الأولى.
وعاد الثانية قوم صالح، وهم ثمود، وبينهما مائة سنة (أخاهم) أي واحداً من قبيلتهم أو صاحبهم، وسماه أخاً لكونه ابن آدم مثلهم، قاله الزجاج والعرب تسمى صاحب القوم أخاهم (هوداً) هو ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص المذكور قاله السيوطي في التحبير.
وقال ابن إسحق: هو هود بن شالخ المذكور. والأول أولى واشتهر في ألسنة النحاة أن هوداً عربي وفيه نظر لأن الظاهر من كلام سيبويه لما عده مع نوحٍ ولوط أنه أعجمي. وكان بينه وبين نوح ثمانمائة سنة، وعاش أربعمائة وأربعاً وستين سنة.
وصرح هنا بتعيين المرسل إليهم دون ما سبق في نوح وما سيأتي في لوط لأن المرسل إليهم إذا كان لهم اسم قد اشتهروا به ذكروا به وإلا فلا. وقد امتازت عاد وثمود ومدين بأسماء مشهورة.
(4/389)
قال الربيع بن خثيم: كانت عاد ما بين اليمن إلى الشام مثل الذر، وقيل كانت منازل عاد بالأحقاف باليمن، والأحقاف الرمل الذي عند عمان وحضرموت.
وقال وهب: كان الرجل من عاد ستين ذراعاً بذراعهم، وكان هامة الرجل مثل القبة العظيمة وكان عين الرجل لتفرخ فيها السباع. وكذلك مناخرهم.
وقال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعاً طولاً، وعن ابن عباس: كان الرجل منهم ثمانين باعاً، وكانت البرة فيهم ككيلة البقرة والرمانة الواحدة يقعد في قشرها عشرة نفر. ولا تخلو هذه الأقاويل عن ضعف وبعد.
(قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ولم يقل هنا فقال كما قال في قصة نوح لأن الفاء تدل على التعقيب وكان نوح مواظباً على دعوة قومه غير متوان فيها، وكان هود دون نوح في المبالغة في الدعاء، وقيل هذا على تقدير سؤال سائل قال فما قال لهم هود فقيل قال يا قوم.
(أفلا تتقون) استبعاد وإنكار أي أفلا تخافون ما نزل بكم من العذاب.
وقال في سورة هود أفلا تعقلون، ولعله خاطبهم بكل منهما وقد اكتفى بحكاية كل منهما في موطن عن حكايته في موطن آخر كما لم يذكر ههنا ما ذكر هناك من قوله (إن أنتم إلا مفترون) وقس على ذلك حال بقية ما ذكر وما لم يذكر من أجزاء القصة، بل حال نظائره في سائر القصص لا سيما في المحاورات الجارية في الأوقات المتعددة والله أعلم قاله أبو السعود.
(4/390)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
(4/391)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
(قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة) هي الخفة والحمق، وقد تقدم بيانه في البقرة نسبوه إلى الخفة والطيش وقلة العقل والجهالة ولم يكتفوا بذلك حتى قالوا (وإنا لنظنك من الكاذبين) مؤكدين لظنهم كذبه فيما ادعاه من الرسالة.
(4/391)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)
(قال يا قوم ليس بي سفاهة) كما تدعون (ولكني رسول من رب العالمين) إليكم، استدرك على ما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في الغاية القصوى من الرشد، فإن الرسالة من جهة رب العالمين موجبة لذلك فكأنه قيل ليس بي شيء مما تنسبوني إليه ولكني في غاية من الرشد والصدق، ولم يصرح بنفي الكذب اكتفاء بما في حيز الاستدراك، ومن لابتداء الغاية، وقد تقدم بيان معنى هذا قريباً وكذا سبق تفسير قوله.
(4/391)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
(أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح) فيما آمركم به من عبادة الله وترك عبادة ما سواه (أمين) هو المعروف بالأمانة والثقة على ما ائتمن عليه وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها، وفي إجابة الأنبياء من ينسبهم إلى السفاهة والضلال بما أجابوه به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم، أدب حسن وخلق عظيم وتعليم من الله لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيال حلمهم على ما يكون منهم. ونحوه قوله تعالى (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً).
(4/391)
وأتى هود بالجملة الاسمية ونوح بالفعلية حيث قال: وأنصح لكم وذلك لأن صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة وكان نوح يكرر في دعائهم ليلاً ونهاراً من غير تراخ. فناسب التعبير بالفعل وأما هود فلم يكن كذلك بل كان يدعوهم وقتاً دون وقت، فلهذا عبر بالاسمية.
(4/392)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
(أوعجبتم) من (أن جاءكم ذكر من ربكم على) لسان (رجل منكم لينذركم) بأس ربكم ويخوفكم عقابه، وقد سبق تفسيره (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) أي جعلهم سكان الأرض التي كانوا فيها أذكرهم الله نعمة من نعمه عليهم أو جعلهم ملوكاً. جعل الذكر للوقت والمراد ما كان فيه من الاستخلاف على الأرض لقصد المبالغة، لأن الشيء إذا كان وقته مستحقاً للذكر فهو مستحق له بالأولى.
(وزادكم في الخلق بسطة) أي طولاً في الخلق وعظم جسم وقوة زيادة على ما كان عليه آباؤهم في الأبدان، وقيل بسطة أي شدة قاله ابن عباس، وعن أبي هريرة قال: كان الرجل من قوم عاد ليتخذ المصراع من الحجارة لو اجتمع خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه، وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها.
قال السدي والكلبي: كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع، وقامة القصير ستين، وقيل سبعين ذراعاً وقد ورد عن السلف حكايات عن عظم أجرام قوم عاد وفيها كما تقدم.
(فاذكروا آلاء الله) أي نعمه عليكم جمع إلى بكسر الهمزة وسكون اللام كحمل وأحمال أو إلى بضم الهمزة وسكون اللام كقفل وأقفال، أو إلى بكسر الهمزة وفتح اللام كضلع وأضلاع وعنب وأعناب أو إلى بفتحهما كقفا وأقفاء ومن جملتها نعمة الاستخلاف في الأرض والبسطة في الخلق وغير ذلك مما أنعم به عليهم، وكرر التذكير لزيادة التقرير (لعلكم تفلحون) إن تذكرتم ذلك لأن الذكر للنعمة سبب باعث على شكرها ومن شكر فقد أفلح.
(4/392)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
(4/393)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
(قالوا) في جواب نصحه لهم (أجئتنا لنعبد الله وحده) هذا استنكار منهم لدعائه إلى عبادة الله وحده دون معبوداتهم التي جعلوها شركاء لله، وإنما كان هذا مستنكر عندهم لأنهم وجدوا آباءهم على خلاف ما دعاهم إليه فلذا قالوا (ونذر ما كان يعبد آباؤنا) أي نترك الذي كانوا يعبدونه من الأصنام وهذا داخل في جملة ما استنكروه وهكذا يقول المقلدة لأهل الاتباع، والمبتدعة لأهل السنة.
(فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) هذا استعجال منهم للعذاب الذي كان هود يعدهم به لشدة تمردهم على الله ونكوصهم عن طريق الحق وبعدهم عن اتباع الصواب.
(4/393)
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
(قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب) جعل ما هو متوقع كالواقع تنبيهاً على تحقق وقوعه كما ذكر أئمة المعاني والبيان، وقيل معنى وقع وجب والرجس العذاب، وقيل السخط، وقيل هو هنا الرين على القلب بزيادة الكفر.
ثم استنكر ما وقع منهم من المجادلة فقال (أتجادلونني في أسماء) يعني أسماء الأصنام التي كانوا يعبدونها جعلها أسماء عارية لأن مسمياتها لا حقيقة لها بل تسميتها بالآلهة باطل، فكأنها معدومة لم توجد بل الموجود أسماؤها فقط، والاستفهام على سبيل الإنكار.
(سميتموها) أي سميتم بها معبوداتكم من جهة أنفسكم (أنتم
(4/393)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
وآباؤكم) ولا حقيقة لذلك (ما نزل الله بها من سلطان) أي حجة تحتجون بها على ما تدعونه لها من الدعاوي الباطلة، ثم توعدهم بأشد وعيد فقال (فانتظروا إني معكم من المنتظرين) أي فانتظروا ما طلبتموه من العذاب وهو واقع بكم لا محالة ونازل عليكم بلا شك.
(4/394)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
(فأنجيناه والذين معه برحمة منا) أخبر الله سبحانه أنه نجى هودا ومن معه من المؤمنين به من العذاب النازل بمن كفر به ولم يقبل رسالته فالمعية مجاز عن المتابعة.
أخرج ابن عساكر: لما أرسل الله الريح على عاد اعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين عليهم الجلود وتلتذ به الأنفس وأنها لتمر بالعادي فتحمله بين السماء والأرض وتدمغه بالحجارة.
(وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا) الدابر الأصل أو الكائن خلف الشيء وهو الآخر، وإذا قطع الآخر فقد قطع ما قبله فحصل الاستئصال أي الاستيعاب بالقطع، وقد تقدم تحقيق معناه، والمعنى استأصلنا هؤلاء القوم الجامعين بين التكذيب بآياتنا وعدم الإيمان، وأراد بالآيات المعجزات الدالة على صدقه.
وعن أبي هريرة قال كان عمر هود أربعمائة سنة واثنتين وسبعين سنة، وعن علي بن أبي طالب قال: قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه
(4/394)
سدرة، وعن عثمان بن أبي العاتكة قال: قبلة مسجد دمشق قبر هود، وقال عبد الرحمن ابن شبابة: بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبياً، وأن قبر هود وصالح وشعيب وإسمعيل في تلك البقعة. ويروى أن كل نبي من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو والصالحون من قومه معه إلى مكة يعبدون الله حتى يموتوا بها، والله أعلم بصحة ذلك.
(وما كانوا مؤمنين) مصدقين بالله ولا برسوله هود عليه السلام، وقد أطال القوم في بيان قصة قومه وهلاكهم، وإجمال القرآن يغني عن تفصيل لا يسند.
(4/395)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
(وإلى ثمود أخاهم صالحاً) ثمود قبيلة سموا باسم أبيهم وهو ثمود بن عاد ابن رام بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وصالح هو ابن عبيد بن اسف ابن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود، وكانت مساكن ثمود " الحجر " بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها، والثمد الماء القليل، وكان صالح أخاهم في النسب، لا في الدين وكان بينه وبين هود مائة سنة، وعاش صالح مائتين وثمانين سنة كما في التحبير.
(قال يا قوم اعبدوا الله) أي وحدوه ولا تشركوا به شيئاً (ما لكم من إله غيره) يستحق أن يعبد سواه وقد تقدم تفسيره في قصة نوح (قد جاءتكم بينة من ربكم) أي معجزة ظاهرة وبرهان جلي وهي إخراج الناقة من الحجر الصلد، عن أبي الطفيل قال: قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من الصادقين،
(4/395)
قال: أخرجوا فخرجوا إلى هضبة (1) من الأرض فإذا هي تمخض كما تمخض الحامل ثم أنها انفرجت فخرجت الناقة من وسطها فقال لهم صالح.
(هذه ناقة الله لكم آية) وليس هذا أول خطاب لهم بل بعد ما نصحهم كما قص في سورة هود من قوله (هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها) الآيات، وهذه الآية مشتملة على بيان البينة المذكورة، وفي إضافة الناقة إلى الله تشريف لها وتكريم، وكونها آية على صدق صالح أنها خرجت من صخرة في الجبل لا من ذكر ولا أنثى، وكمال خلقها من غير حمل ولا تدريج وقيل غير ذلك.
(فذروها تأكل في أرض الله) تفريع على كونها آية من آيات الله فإن ذلك يوجب عدم التعرض لها أي دعوها فهي ناقة الله والأرض أرضه، فلا تمنعوها مما ليس لكم ولا تملكونه.
(ولا تمسوها بسوء) أي لا تتعرضوا لها بوجه من الوجوه التي تسوءها، نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الشامل لأنواع الأذى (فيأخذكم عذاب أليم) أي شديد الألم بسبب عقرها وأذاها ومنعها من الرعي.
_________
(1) الهضبة الجبل المنبسط على وجه الأرض إ هـ منه.
(4/396)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
(واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد) أي استخلفكم في الأرض أو جعلكم ملوكاً فيها كما تقدم في قصة هود (وبوأكم في الأرض) أي جعل لكم فيها مباءة وهي المنزل الذي تسكنونه أي اسكنكم وأنزلكم في أرض الحجر بكسر الحاء (تتخذون من سهولها قصوراً) أي من سهولة الأرض وهي ترابها تتخذون منه اللبن والآجر ونحو ذلك فتبنون به القصور، وإنما سميت بذلك لقصور الفقراء عن تحصيلها وحبسهم عن نيلها.
(وتنحتون) أي تشقون والنحت نجر الشيء الصلب. وفي القاموس نحته ينحته براه والنحاتة البراية والمنحت ما ينحت به (الجبال بيوتاً) تسكنون فيها، وقد كانوا لقوتهم وصلابة أبدانهم ينحتون الصخور فيتخذون فيها كهوفاً يسكنون فيها، لأن الأبنية والسقوف كانت تفنى قبل فناء أعمارهم، قال الضحاك: كان الواحد منهم يعيش ثلاثمائة سنة إلى ألف سنة وكذا كان قوم هود، وقيل كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء، وهذا يدل على أنهم كانوا متنعمين مترفهين (1).
(فاذكروا آلاء الله) عليكم واشكروه عليها (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) العثى والعثو لغتان، قال قتادة معناه لا تفسدو والعثو: أشد الفساد، وقيل أراد به عقر الناقة، وقيل هو على ظاهره فيدخل فيه النهي عن جميع أنواع الفساد، وقد تقدم تحقيقه في البقرة بما غنى عن الإعادة.
_________
(1) قال وهب بن منبه كان الرجل منهم يبني البنيان. فتمر عليه مائة سنة فيخرب ثم يجدده وهكذا حتى اتخذوا من الجبال بيوتاً.
(4/397)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)
(4/398)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
(قال الملأ الذين استكبروا من قومه) أي الرؤساء المتكبرون من قوم صالح الذين تعظموا عن الإيمان به، والسين زائدة (للذين استضعفوا) أي المساكين الذين استضعفهم المستكبرون، واللام للتبليغ (لمن آمن منهم) بدل من الموصول بإعادة العامل بدل الكل إن كان ضمير منهم لقومه وبدل البعض إن كان للذين على أن المستضعفين من لم يؤمن، والأول هو الوجه إذ لا داعي إلى توجيه الخطاب أولاً إلى جميع المستضعفين مع أن المجاوبة مع المؤمنين منهم، على أن الاستضعاف مختص بالمؤمنين: أي قالوا للمؤمنين الذين استضعفوهم واسترذلوهم.
(أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه) إليكم قالوا هذا على طريق الاستهزاء والسخرية (قالوا إنا بما أَرسل به مؤمنون) أجابوهم بأنهم مؤمنون برسالته مع كون سؤال المستكبرين لهم إنما هو عن العلم منهم هل تعلمون برسالته أم لا، مسارعة إلى إظهار ما لهم من الإيمان وتنبيهاً على أن كونه مرسلاً أمر واضح مكشوف لا يحتاج إلى السؤال عنه.
(4/398)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)
(قال الذين استكبروا) عن أمر الله والإيمان به وبرسوله صالح تمرداً وعناداً (إنا بالذي آمنتم به كافرون) أي جاحدون، وهذه الجمل المعنونة بقال مستأنفة لأنها جوابات عن سؤالات مقدرة ولم يقولوا إنا بما أرسل به كافرون إظهاراً لمخالفتهم إياهم ورداً لمقالتهم.
(4/398)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
(فعقروا الناقة) العقر الجرح (1)، وقيل قطع عضو يؤثر في تلف النفس، يقال عقرت الفرس إذا ضربت قوائمه بالسيف، وقيل أصل العقر كسر عرقوب البعير ثم قيل للنحر عقر، لأن العقر سبب النحر في الغالب وأسند العقر إلى الجميع مع كون العاقر واحداً منهم لأنهم راضون بذلك موافقون عليه وقال عاقر الناقة لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين، فجعلوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون أترضين فتقول نعم، والصبي حتى رضوا أجمعين فعقروها.
وفيه من تهويل الأمر وتفظيعه بحيث أصابت غائلته الكل ما لا يخفى.
قد اختلف في عاقر الناقة ما كان اسمه فقيل قدار بن سالف، وكان رجلاً أحمر أزرق يزعمون أنه ابن زانية، ولم يكن لسالف ولكنه ولد على فراشه وكان عزيزاً منيعاً في قومه، وقيل غير ذلك، وفر ولد الناقة هارباً فانفتحت له الصخرة التي خرجت منها أمه فدخلها وانطبقت عليه، وقيل: إنهم أدركوه وذبحوه.
(وعتوا عن أمر ربهم) أي استكبروا يقال عتا يعتو عتواً استكبر وتعتى فلان إذا لم يطع والليل العاتي الشديد الظلمة والمراد بالأمر الحكم (وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا) من العذاب (إن كنت من المرسلين) هذا استعجال منهم للنقمة وطلب منهم لنزول العذاب وحلول البلية بهم قالوا ذلك استهزاء به وتعجيزاً له.
_________
(1) روى ابن ماجه 2/ 934 عن عمرو بن عبسة: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أي الجهاد أفضل قال: من أهرق دمه وعقر جواده وإسناده ضعيف.
(4/399)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
(4/400)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
(فأخذتهم الرجفة) أي الزلزلة الشديدة العظيمة قال الزجاج والفراء، يقال رجف الشيء يرجف رجفاناً، وأصله حركة مع صوت ومنه يوم ترجف الراجفة، وقيل كانت صيحة شديدة خلعت قلوبهم، قاله مجاهد والسدي وقيل: إنه أخذتهم الزلزلة من تحتهم والصيحة من فوقهم حتى هلكوا، وعلى هذا في الآية كفاية وقد وقع التصريح بها في آية أخرى فكان عذابهم بالرجفة والصيحة فذكر في كل موضع واحدة منهما.
(فأصبحوا في دارهم) أي بلدهم وأرضهم (جاثمين) أي لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم كما يجثم الطائر، وأصل الجثوم للأرنب وشبهها، وقيل الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للبعير، وجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال نومه وسكونه بالليل، والمراد أنهم أصبحوا في دورهم ميتين لا حراك بهم.
(4/400)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
(فتولى عنهم) صالح عند اليأس من إجابتهم وقيل بعد أن ماتوا وهلكوا (وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) يحتمل أنه قال لهم هذه المقالة بعد موتهم على طريق الحكاية الماضية كما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - من التكلم لأهل قليب بدر بعد موتهم، أو قالها لهم عند نزول العذاب بهم، وكأنه كان مشاهداً لذلك فتحسر على ما فاتهم من الإيمان والسلامة من العذاب.
وقيل إنما خاطبهم بذلك ليكون عبرة لمن يأتي من بعدهم فينزجر عن مثل تلك الطريقة التي كانوا عليها، ثم أبان عن نفسه أنه لم يأل جهداً في إبلاغهم
(4/400)
الرسالة ومحض النصح، ولكن أبوا ذلك فلم يقبلوا منه فحق عليهم العذاب ونزل بهم ما كذبوا به واستعجلوه.
عن قتادة أن صالحاً قال لهم حين عقروا الناقة: تمتعوا ثلاثة أيام، ثم قال لهم: آية هلاككم أن تصبح وجوهكم غدا مصفرة، واليوم الثاني محمرة، واليوم الثالث مسودة، فأصبحت كذلك فلما كان اليوم الثالث أيقنوا بالهلاك فتكفنوا وتحنطوا ثم أخذتهم الصيحة فأهمدتهم.
وأخرج أحمد من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالحجر: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم (1) وأصل الحديث في الصحيحين من غير وجه.
وفي لفظ لأحمد من هذا الحديث قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، قيل وكانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضر موت فلما دخلوها مات صالح فسمي حضر موت، ثم بنوا أربعة آلاف مدينة وسموها حاضوراء، وقال قوم توفي صالح بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة وأقام في قومه عشرين سنة.
_________
(1) مسلم 2980 - البخاري 284.
(4/401)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
(4/402)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
(و) اذكر (لوطاً إذ قال لقومه) أي وقت أن قال لقومه، قال الفراء: لوط مشتق من قولهم هذا أليط بقلبي أي ألصق، وقال الزجاج: ومن زعم أنه من لطت الحوض إذا ملسته بالطين فقد غلط لأن الأسماء العجمية لا تشتق، وقال سيبويه: نوح ولوط أسماء أعجمية إلا أنها خفيفة فلذلك صرفت.
ولوط هو ابن هاران بن تارخ فهو ابن أخي إبراهيم، وليس من أنبياء بني إسرائيل وكانا ببابل بالعراق فهاجرا إلى الشام فنزل إبراهيم أرض فلسطين، ونزل لوط بالأردن وهي قرية بالشام وبعثه الله إلى أمة يقال لها سذوم بالذال المعجمة وهي بلد بحمص.
(أتأتون) الخصلة (الفاحشة) الخسيسة المتمادية في الفحش والقبح وهي أدبار الرجال قاله ابن عباس قال ذلك إنكاراً عليهم وتوبيخاً لهم (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) أي لم يفعلها أحد من قبلكم، فإن اللواط لم يكن في أمة من الأمم قبل هذه الأمة، والباء للسببية وقال الزمخشري: للتعدية ومن مزيدة للتوكيد للعموم في النفي، وأنه مستغرق لما دخل عليه، والجملة مسوق لتأكيد النكير عليهم والتوبيخ لهم، قال عمرو بن دينار: ما نزى ذكر على ذكر في الدنيا إلا ما كان من قوم لوط.
(4/402)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
(إنكم لتأتون الرجال) في أدبارهم هذا توبيخ آخر أشنع مما سبق لتأكيده بأن وباللام واسمية الجملة (شهوة) أي تشتهونهم شهوة أو لأجل الاشتهاء أو مشتهين، يقال شهى يشهى شهوة وشها يشهو شهوة، قال ابن عباس: إنما كان
(4/402)
بدأ عمل قوم لوط أن إبليس جاءهم في هيئة صبي أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه فنكحوه ثم جسروا على ذلك.
قرئ إن بهمزة مكسورة وبهمزتين على الاستفهام المقتضى للتوبيخ والتقريع، واختار الأولى أبو عبيد والكسائي وغيرهما والثانية الخليل وسيبويه، وفيه أنه لا غرض لهم بإتيان هذه الفاحشة إلا مجرد قضاء الشهوة من غير أن يكون لهم في ذلك غرض يوافق العقل فهم في هذا كالبهائم التي ينزو بعضها على بعض لما يتقاضاه من الشهوة.
(من دون النساء) أي متجاوزين في فعلكم هذا للنساء اللاتي هن محل لقضاء الشهوة وموضع لطلب اللذة (بل أنتم قوم مسرفون) أي مجاوزون الحلال إلى الحرام يعني من فروج النساء إلى أدبار الرجال. أضرب عن الإنكار المتقدم إلى الإخبار بما هم عليه من الإسراف الذي تسبب عنه إتيان هذه الفاحشة الفظيعة، والمشهور أنه إضراب انتقالي من قصة إلى قصة، وقيل بل للإضراب عن شيء محذوف، قال أبو البقاء: تقديره ما عدلتم بل أنتم الخ وقال الكرماني بل أنتم رد لجواب زعموا أن يكون لهم عذر أي لا عذر لكم بل أنتم.
(4/403)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
(4/404)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
(وما كان جواب قومه) الواقعين في هذه الفاحشة عما أنكره عليهم منها والمستكبرين منهم المتصدين للحل والعقد (إلا أن قالوا) استثناء مفرغ (أخرجوهم) أي لوطاً وأتباعه (من قريتكم) من سذوم بوزن رسول وهي من قرى حمص بالشام، ولم يكن لهم جواب إلا هذا القول المبائن للإنصاف المخالف لما طلبه منهم، وأنكره عليهم.
(إنهم أناس يتطهرون) أي يتنزهون من أدبار الرجال والنساء والتطهر تعليل لما أمروا به من الإخراج ووصفهم بالتطهر يمكن أن يكون على حقيقته، وأنهم أرادوا أن هؤلاء يتنزهون عن الوقوع في هذه الفاحشة فلا يساكنوننا في قريتنا، ويحتمل أنهم قالوا ذلك على طريق السخرية والاستهزاء، وقيل أن البعد عن المعاصي والآثام يسمى طهارة فمن تباعد عنهما فقد تطهر.
(4/404)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
(فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين) أخبر سبحانه أنه أنجى لوطاً وأهله المؤمنين به، وقيل المراد بأهله المتصلون به بسبب النسب أو المراد ابنتاه، واستثنى امرأته من الأهل لكونها لم تؤمن به، والمعنى أنها كانت من الباقين في عذاب الله لأنها كانت كافرة، يقال غبر الشيء إذا مضى وغبر إذا بقي فهو من الأضداد وحكى ابن فارس في المجمل عن قوم أنهم قالوا الماضي عابر بالمهملة، والباقي غابر بالمعجمة.
وقال الزجاج: من الغائبين عن النجاة، وقال أبو عبيد: المعنى من المعمرين وكانت قد هرمت وأتى عليها دهر طويل ثم هلكت، وأكثر أهل اللغة على أن الغابر الباقي، قال سعيد بن أبي عروبة: كان قوم لوط أربعة آلاف ولم يقل من الغابرات لأنها هلكت مع الرجال ..
(4/404)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
(4/405)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
(وأمطرنا عليهم مطراً) قيل أمطر بمعنى أرسل المطر وقال أبو عبيد: مطر في الرحمة وأمطر في العذاب وهذا مردود بقوله تعالى (هذا عارض ممطرنا) فإنهم إنما عنوا بذلك الرحمة وهو من أمطر رباعياً ومطر وأمطر بمعنى واحد، والمعنى هنا أن الله أمطر عليه حجارة من سجيل قد عجنت بالكبريت والنار.
(فانظر كيف كان عاقبة المجرمين) هذا خطاب لكل من يصلح له ولمحمد صلى الله عليه وسلم قاله الأصفهاني في تفسيره، وسيأتي في هود قصة لوط بأبين مما هنا، قال مجاهد: نزل جبريل فأدخل جناحه تحت مداين قوم لوط فاقتلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها ثم اتبعوا بالحجارة.
(4/405)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
(و) أرسلنا (إلى مدين) اسم قبيلة وقيل اسم بلد والأول أولى، وسميت القبيلة باسم أبيهم وهو مدين بن إبراهيم كما يقال بكر وتميم، وقيل مدين اسم الماء الذي كانوا عليه، وقيل مشترك بينهما.
(أخاهم شعيباً) وهو شعيب بن ميكائيل بن يشجب بن مدين بن إبراهيم قاله عطاء وابن إسحاق وغيرهما، وقال الشرفي بن القطامي أنه شعيب بن عيفاء ابن ثويب بن مدين بن إبراهيم، وزعم ابن سمعان أنه شعيب بن حرة بن يشجب بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، وقال ابن إسحق: هو شعيب ابن مكيل بن شجر بن مدين بن إبراهيم، وأم مكيل بنت لوط، وقيل هو شعيب ابن شيرون بن مدين، وقال قتادة: هو شعيب بن صفوان بن عيفاء بن
(4/405)
ثابت ابن مدين.
عن عكرمة والسدي قالا ما بعث الله نبياً مرتين إلا شعيباً مرة إلى مدين، فأخذتهم الصيحة، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة وكان شعيب أعمى، وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه. وكان قومه أهل كفر وبخس في المكيال والميزان.
(قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) قد سبق شرحه في قصة نوح (قد جاءتكم بينة من ربكم) قد تبين تفسيره أيضاً ولم يتبين هذه المعجزة في القرآن العظيم كأكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم. وقيل أن المراد بها نفسه، وقيل أن المراد بها قوله (فأوفوا الكيل والميزان) وقيل غير ذلك وأمرهم بإبقاء الكيل والميزان لأنهم كانوا أهل معاملة بالكيل والوزن وكانوا لا يوفونهما.
وذكر الكيل الذي هو المصدر وعطف عليه الميزان الذي هو اسم للآلة واختلف في توجيه ذلك فقيل المراد بالكيل المكيال فيناسب عطف الميزان عليه، وقيل المراد بالميزان الوزن فيناسب الكيل والمعنى أتموهما وأعطوا الناس حقوقهم.
(ولا تبخسوا الناس أشياءهم) البخس النقص وهو يكون بالتعييب للسلعة أو التزهيد فيها أو المخادعة لصاحبها والاحتيال عليه، وكل ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، وظاهر الآية أنهم كانوا يبخسون في كل الأشياء، وقيل كانوا مكاسين يمكسون كل ما دخل إلى أسواقهم، وقال ابن عباس: لا تبخسوا أي لا تظلموا الناس وبه قال قتادة.
(ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) أي بعد أن أصلحها الله ببعثه الرسل وإقامة العدل، قيل كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيباً رسولاً تعمل فيها المعاصي وتستحل فيها المحارم، وتسفك فيها الدماء فذلك فسادها، فلما بعث الله شعيباً ودعاهم إلى الله صلحت الأرض، وكل نبي يبعث إلى قوم فهو صلاحهم ويدخل تحته قليل الفساد وكثيره ودقيقه وجليله.
(ذلكم) إشارة إلى العمل بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه (خير لكم)
(4/406)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
المراد بالخيرية هنا الزيادة المطلقة لأنه لا خير في عدم إيفاء الكيل والوزن وفي بخس الناس وفي الفساد في الأرض أصلاً (إن كنتم مؤمنين) أي مصدقين بما أقول ومريدين الإيمان فبادروا إليه.
(4/407)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
(ولا تقعدوا) لهم (بكل صراط) محسوس (توعدون) الصراط الطريق قيل كانوا يقعدون في الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويقولون: إنه كذاب فلا تذهب إليه كما كانت قريش تفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وغيرهم وقيل المراد القعود على طرق الدين ومنع من أراد سلوكها، وليس المراد به القعود على الطرق حقيقة ويؤيده (وتصدون عن سبيل الله من آمن به) كما سيأتي.
وقيل المراد بالآية النهي عن قطع الطريق وأخذ السلب وكان ذلك من فعلهم وقيل: إنهم كانوا عشارين يأخذون الجباية في الطرق من أموال الناس فنهوا عن ذلك، والقول الأول أقربها إلى الصواب مع أنه لا مانع من حمل النهي على جميع هذه الأقوال المذكورة والمعنى لا تقعدوا بكل طريق موعدين لأهله ولم يذكر الموعد به لتذهب النفس كل مذهب.
(وتصدون عن سبيل الله) أي صادين عنه باغين لها عوجاً والمراد بالصد عنه صد الناس عن الطريق الذي قعدوا عليه ومنعهم من الوصول إلى شعيب
(4/407)
فإن سلوك الناس في ذلك السبيل للوصول إلى نبي الله هو سلوك سبيل الله (1).
والضمير في (من آمن به) يرجح إلى الله أو إلى السبيل أو إلى كل صراط أو إلى شعيب (وتبغونها عوجاً) أي تطلبون سبيل الله أن تكون معوجة غير مستقيمة، وقيل معناه تلتمسون لها الزيغ والضلال ولا تستقيمون على طريق الهدى والرشاد، وقد سبق الكلام على العوج، وقال الزجاج: كسر العين في المعاني وفتحها في الأجرام.
(واذكروا) نعمته عليكم (إذ كنتم) أي عددكم أو مالكم أو قوتكم (قليلاً فكثركم) بالنسل والقوة والغناء (وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين) قبلكم من الأمم الماضية والقرون الخالية حين عتوا على ربهم وعصوا رسله فإن الله أهلكهم وأنزل بهم من العقوبات ما ذهب بهم ومحا أثرهم. وأقربهم إليكم قوم لوط فانظروا كيف أنزل الله عليهم حجارة من السماء.
_________
(1) وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رأيت ليلة أسري بي خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته فقلت ما هذا يا جبريل قال هذا مثل لقوم من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه -ثم تلا- " (ولا تقعدوا بكل صراطٍ توعدون) الآية.
(4/408)
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
(وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به) إليكم من الأحكام التي شرعها الله لكم (وطائفة) منكم (لم يؤمنوا) به (فاصبروا) أي انتظروا (حتى يحكم الله بيننا) وبينكم (وهو خير الحاكمين) أي أعدلهم، هذا من باب التهديد والوعيد الشديد لهم، وليس هو من باب الأمر بالصبر على الكفر وحكم الله بين الفريقين هو نصر المحقين على المبطلين ومثله قوله تعالى (فتربصوا إنا معكم متربصون) أو هو أمر للمؤمنين بالصبر على ما يحل بهم من أذى الكفار حتى ينصرهم الله عليهم، وقيل للفريقين وهذا هو الظاهر.
(4/408)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
(قال الملأ الذين استكبروا) أي الأشراف المستكبرون عن الإيمان (من قومه) استئناف بياني كأنه قيل فماذا قالوا بعد سماعهم هذه المواعظ من شعيب (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) لم يكتفوا بترك الإيمان والتمرد عن الإجابة إلى ما دعاهم اليه، بل جاوزوا ذلك بغياً وبطراً وأشراً إلى توعد نبيهم ومن آمن به بالإخراج من قريتهم أو عودهم في ملتهم الكفرية أي لا بد من أحد الأمرين إما الإخراج أو العود.
ومقصودهم الأصلي هو العود، وإنما ذكر النفي والإجلاء لمحض القسر والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه لجواب الإخراج على ما هو ظاهر النظم، وتوسيط النداء باسمه العلمي بين المعطوفين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان أي والله لنخرجنك وأتباعك، وإنما لم يقولوا أو لنعيدنكم على طريقة ما قبله لما أن مرادهم العود بطريق الاختيار وصورة الطواعية.
وكلمة " عاد " لها في لسانهم استعمالان (أحدهما) وهو الأصل أنه الرجوع إلى ما كان عليه من الحال الأول (والثاني) استعمالها بمعنى صار، قال السمين: واستشكلوا على كونها بمعناها الأصلي أن شعيباً لم يكن قط على دينهم ولا في ملتهم فكيف يحسن أن يقال أو لتعودن أي ترجعن إلى حالتكم الأولى والخطاب له ولأتباعه.
وقد أجيب عن ذلك بثلاثة أوجه (أحدها) أن هذا القول من رؤسائهم قصدوا به التلبيس على العوام والإيهام لهم أنه كان على دينهم وعلى ملتهم.
الثاني: أن يراد بعوده رجوعه إلى حاله قبل بعثته من السكوت لأنه قبل
(4/409)
أن يبعث إليهم كان يخفي إيمانه وهو ساكت عنهم، بريء من معبوداتهم غير الله.
الثالث: تغليب الجماعة على الواحد لأنهم لما أصحبوه مع قومه في الإخراج حكموا عليه وعليهم بالعود إلى الملة تغليباً لهم عليه.
وأما إذا جعلناهم بمعنى صار فلا إشكال في ذلك إذ المعنى لتصيرن في ملتنا بعد أن لم تكونوا، وفي ملتنا حال على الأول، خبر على الثاني، وعدى عاد بفي الظرفية تنبيهاً على أن الملة صارت لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم انتهى.
والأولى ما قال الزجاج يجوز أن يكون العود بمعنى الابتداء يقال عاد إلى من فلان مكروه أي صار وإن لم يكن سبقه مكروه قبل ذلك فلا يرد ما يقال كيف يكون شعيب على ملتهم الكفرية من قبل أن يبعثه الله رسولاً، ويحتاج إلى الجواب بتغليب قومة المتبعين له عليه في الخطاب بالعود إلى ملتهم والقرية هي مدين وبينها وبين مصر ثمانية مراحل.
(قال أو لو كنا كارهين) الهمزة لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود أي أتعيدوننا في ملتكم حال كراهتنا للعود إليها، أو أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها، أو في حال كراهتنا للأمرين جميعاً، والمعنى أنه ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين ولا يصلح لكم ذلك، فإن المكره لا اختيار له ولا تعد موافقته مكرهاً موافقة ولا عوده إلى ملتكم مكرهاً عوداً.
وبهذا التقرير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا المقام حتى تسبب عن ذلك تطويل ذيول الكلام.
(4/410)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
(قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم) التي هي الشرك، والجملة استئناف إخبار فيه معنى التعجب قاله الزمخشري كأنه قيل ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر أو أنه جواب قسم محذوف، والتقدير: والله لقد افترينا وجعله ابن عطية احتمالاً (بعد إذ نجانا الله منها) بالإيمان فلا يكون منا عود إليها أصلاً.
(وما يكون) أي ما يصح (لنا) ولا يستقيم ولا ينبغي (أن نعود فيها) بحال من الأحوال (إلا أن يشاء الله) أي إلا في حال ووقت مشيئة الله عودنا فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قال الزجاج: أي إلا بمشيئة الله عز وجل قال وهذا قول أهل السنة، والمعنى أنه لا يكون منا العود إلى الكفر إلا أن يشاء الله ذلك، فالاستثناء منقطع وقيل إن الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عز وجل كما في قوله وما توفيقي إلا بالله.
وقيل هو كقولهم لا أكلمك حتى يبيض الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط والغراب لا يبيض والجمل لا يلج، فهو من باب التعليق بالمحال ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر، ألا ترى إلى قول الخليل (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) وكان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " (1) وقيل المعنى وما يكون لنا أن نعود فيها
_________
(1) صحيح الجامع الصغير/7865.
(4/411)
أي القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا لكم إلا أن يشاء الله عودنا إليها.
(وسع ربنا كل شيء علماً) أي أحاط علمه بكل المعلومات فلا يخرج عنه منها شيء (على الله توكلنا) أي عليه نعتمد وإليه نستند في أن يثبتنا على الإيمان ويحول بيننا وبين الكفر وأهله ويتم علينا نعمته ويعصمنا من نقمته.
(ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) إعراض عن مكالمتهم لما ظهر له من شدة عنادهم بحيث لا يتصور منهم الإيمان، وإقبال على الله بالدعاء لفصل ما بينه وبينهم بما يليق بحال كل من الفريقين أي أحكم بيننا بالحق، والفتاحة بالضم الحكومة، وحكمه سبحانه لا يكون إلا بنصر المحقين على المبطلين كما أخبرنا به في غير موضع من كتابه، وكأنهم طلبوا نزول العذاب بالكافرين وحلول نقمة الله بهم.
قال الفراء: إن أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح، وقال غيره من أهل اللغة هي لغة مراد، وهذا قول قتادة والسدي وابن جريح وجمهور المفسرين وقيل لغة حمير، وقال الزجاج: العنى ربنا أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف، وعلى هذا افتح مجاز بمعنى أظهر وبين. ومنه فتح المشكل لبيانه وحله تشبيهاً له بفتح الباب وإزالة الأغلاق حتى يوصل إلى ما خلفه.
(4/412)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
(وقال الملأ الذين كفروا من قومه) يحتمل أن يكون هؤلاء هم الذين استكبروا ويحتمل أن يكونوا غيرهم من طوائف الكفار الذين أرسل إليهم شعيب (لئن اتبعتم شعيباً) أي دخلتم في دينه وتركتم دينكم (إنكم إذاً لخاسرون) في الدين أو الدنيا وخسرانهم هلاكهم أو ما يخسرونه بسبب إيفاء الكيل والوزن وترك الطفيف الذي كانوا يعاملون الناس به وهو جواب القسم الموطأ له باللام قاله الزمخشري.
(4/412)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
(4/413)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)
(فأخذتهم الرجفة) أي الزلزلة وقيل الصيحة كما في قوله (وأخذت الذين ظلموا الصيحة) ولعلها كانت في مبادئ الرجفة فأسند هلاكهم إلى السبب القريب تارة وإلى البعيد أخرى (فأصبحوا في دارهم جاثمين) باركين على الركب ميتين، قد تقدم تفسيره في قصة صالح، قال قتادة: بعث الله شعيباً إلى أصحاب الأيكة وإلى مدين فأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة، وأما أهل مدين فأخذتهم الرجفة صاح بهم جبريل صيحة فهلكوا جميعاً، وروي أن الله تعالى حبس عنهم الريح سبعة أيام ثم سلط عليهم الحر حتى هلكوا.
(4/413)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
(الذين كذبوا شعيباً كأن لم يغنوا فيها) جملة مبينة لما حل بهم من النقمة يقال غنيت بالمكان إذا أقمت به، وغنى القوم في دارهم أي طال مقامهم فيها، والمغنى المنزل، والجمع المغاني، وهي المنازل التي بها أهلها، والمعنى كأن لم يقيموا في دارهم أصلاً ولم ينزلوها يوماً من الدهر، فإن الله سبحانه استأصلهم بالعذاب وقيل المعنى كان لم يعيشوا فيها متنعمين مستغنين، يقال غني الرجل إذا استغنى وهو من الغنى الذي هو ضد الفقر والأول أولى.
(الذين كذبوا شعيباً كانوا هم الخاسرين) هذه الجملة مستأنفة كالأولى متضمنة لبيان خسران القوم المكذبين، وإعادة الموصول والصلة كما هي لزيادة التقرير والإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة هو الذي استوجب العقوبتين.
(4/413)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
(فتولى) أي فأعرض (عنهم) شعيب شاخصاً من بين أظهرهم لما شاهد نزول العذاب بهم (وقال) أي قبل نزول العذاب أو بعده على قولين سبقا في قصة صالح عليه السلام (يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي) التي أرسلني بها إليكم (ونصحت لكم) ببيان ما فيه سلامة دينكم ودنياكم (فكيف آسى) أي أحزن (على قوم كافرين) بالله مصرين على كفرهم متمردين عن الإجابة، والأسى شدة الحزن أسى على ذلك فهو آس.
قال شعيب: هذه المقالة تحسراً على عدم الإيمان ثم سلى نفسه بأنه كيف يقع منه الأسى على قوم ليسوا بأهل للحزن عليهم لكفرهم بالله وعدم قبولهم لما جاء به رسوله أو أراد لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والتحذير فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصحي فكيف أحزن عليكم، يعني أنكم لستم مستحقين لأن يحزن عليكم والأول أولى.
عن ابن عباس قال: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسمعيل وقبر شعيب فقبر إسمعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود وعن وهب بن منبه أن شعيباً مات بمكة ومن معه من المؤمنين فقبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين باب بني سهم.
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم عن أبي إسحق قال: ذكر لي يعقوب بن أبي مسلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذكر شعيباً قال " ذاك خطيب الأنبياء " لحسن مراجعته قومه فيما يريدهم به فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلادهم وعتوا على الله أخذهم عذاب يوم الظلة " (1).
_________
(1) المستدرك كتاب التاريخ 2/ 568.
(4/414)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
(4/415)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
(وما أرسلنا) لما فصل الله سبحانه أحوال بعض الأنبياء مع أممهم وهم المذكورون سابقاً أجمل حال سائر الأمم المرسل اليها، والمعنى ما أرسلنا في حال من الأحوال (في قرية) من القرى (من) مزيدة لتوكيد النفي (نبي) من الأنبياء فكذبه أهلها (إلا أخذنا أهلها) استثناء مفرغ من أعم الأحوال (بالبأساء) أي البؤس وشدة الفقر (والضراء) أي وبالضر.
وقال الزجاج: البأساء كل ما نالهم من الشدة في أموالهم والضراء كل ما نالهم من الأمراض، وقيل البأساء الشدة وضيق العيش، والضراء سوء الحال، وقد تقدم تفسيرهما (لعلهم يضرعون) أي لكي يتضرعوا ويتذللوا فيدعوا ما هم عليه من الاستكبار وتكذيب الأنبياء، وفيه تخويف وتحذير لكفار قريش وغيرهم من الكفار لينزجروا عما هم عليه من الكفر والتكذيب.
(4/415)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
(ثم) أي بعد الأخذ لأهل القرى (بدلنا) هم (مكان السيئة) التي أصبناهم بها من البلاء والامتحان الخصلة (الحسنة) فصاروا في خير وسعة وأمن وصحة، وقال ابن عباس أي مكان الشدة الرخاء قال أهل اللغة السيئة كل ما يسوء صاحبه، والحسنة كل ما يستحسنه الطبع والعقل، فأخبر الله في هذه الآية بأنه يؤاخذ أهل المعاصي والكفر تارة بالشدة وتارة بالرخاء على سبيل الاستدراج.
(حتى عفوا) يقال عفا النبات إذا كثر وتكاثف ومنه إعفاء اللحى، واللحى بالضم والكسر كما في كتاب العين، وعفا درس فهو من الأضداد والمراد هنا أنهم كثروا عدداً وعُدداً.
(4/415)
(وقالوا) عند أن صاروا في الرخاء بعد الشدة (قد مس آباءنا الضراء والسراء) أي إن هذا الذي مسنا من البأساء والضراء ثم من الرخاء والخصب من بعد هو أمر وقع لآبائنا قبلنا مثله، فمسّهم من البأساء والضراء ما مسنا ومن النعمة والخير ما نلناه، ومرادهم أن هذه العادة الجارية في السلف والخلف، وإن ذلك ليس من الله سبحانه ابتلاء لهم واختباراً لما عندهم.
وفي هذا من شدة عنادهم وقوة تمردهم وعتوهم ما لا يخفى، ولهذا عاجلهم الله بالعقوبة ولم يمهلهم كما قال (فأخذناهم بغتة) أي فجأة عقب أن قالوا هذه المقالة من دون تراخ ولا إمهال ليكون ذلك أعظم لحسرتهم، والمراد من ذكر هذه القصة أن يعتبر من سمعها فينزجر (وهم لا يشعرون) بذلك العذاب النازل بهم ولا يترقبونه.
(4/416)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
(ولو أن أهل القرى) التي أرسلنا إليها رسلنا، ويجوز أن تكون اللام للجنس والمراد لو أن أهل القرى أين كانوا وفي أي بلد سكنوا (آمنوا) بالرسل المرسلين إليهم (واتقوا) ما صمموا عليه من الكفر ولم يصروا على ما فعلوا من القبائح (لفتحنا عليهم) أي يسرنا لهم (بركات من السماء والأرض) أي خيرهما كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها قيل المراد بخير السماء المطر وبخير الأرض النبات والثمار.
والأولى حمل ما في الآية على ما هو أعم من ذلك من الخيرات والأنعام والأرزاق والأمن والسلامة من الآفات وجميع ما فيهما وكل ذلك من فضل الله وإحسانه، وأصل البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء ويسمى المطر بركة السماء لثبوت البركة فيه، وكذا ثبوت البركة في نبات الأرض لأنه نشأ من بركات السماء وهي المطر، وقال البغوي: أصل البركة المواظبة على الشيء أي رفعنا عنهم القحط والجدب وتابعنا عليهم المطر والنبات.
(ولكن كذبوا) بالآيات والأنبياء ولم يؤمنوا بهم ولا اتقوا وقد اكتفى بذكر الأول لاستلزامه للثاني (فأخذناهم) بأنواع العذاب (بما كانوا يكسبون) أي
(4/416)
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
بسبب ما كسبوا من الكفر والذنوب الموجبة لعذابهم ومن جملتها قولهم قد مس آباءنا الآية.
(4/417)
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
(أفأمن) الاستفهام للتقريع والتوبيخ وهو مثل (أفحكم الجاهلية يبغون) والفاء للعطف على أخذناهم بغتة وما بينهما اعتراض، والمعنى أبعد ذلك الأخذ أمن أهل القرى، ذكره أبو السعود، وبه قال الزمخشري.
قال الشيخ: وهذا رجوع عن مذهبه في مثل ذلك إلى مذهب الجماعة، وذلك أن مذهبه في الهمزة الداخلة على حرف العطف تقدير معطوف عليه بين الهمزة وحرف العطف، ومذهب الجماعة أن حرف العطف في نية التقديم، وإنما تأخر وتقدمت عليه الهمزة لقوة تصدرها في أول الكلام، والزمخشري هنا لم يقدر بينهما معطوفاً عليه بل جعل ما بعد الفاء معطوفاً على ما قبلها من الجمل وهو قوله (فأخذناهم بغتة) ذكره السمين.
(أهل القرى) المذكورة قبله وقيل المراد بالقرى مكة وما حولها لتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والعموم أولى (أن يأتيهم بأسنا بياتاً) أي وقت بيات وهو الليل (وهم نائمون) غافلون عنه
(4/417)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
(أو أمن أهل القرى) إنكار بعد إنكار للمبالغة في التوبيخ (أن يأتيهم بأسنا ضحى) أي نهاراً والضحى ضحوة النهار أي صدره وهو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت.
وفي السمين الضحى اشتداد الشمس وامتداد النهار يقال ضحى وضحاء إذا ضممته قصرته، وإذا فتحته مددته، وقال بعضهم الضحى بالضم والقصر لأول ارتفاع الشمس، والضحاء بالفتح والمد لقوة ارتفاعها قبل الزوال،
(4/417)
والضحى مؤنث انتهى (وهم يلعبون) أي حال كونهم مشتغلين بما لا يعود عليهم بفائدة.
(4/418)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
(أفأمنوا مكر الله) الاستفهام للتقريع والتوبيخ وإنكار ما هم عليه من أمان ما لم يؤمن من مكر الله بهم وعقوبته لهم، وفي تكرير هذا الاستفهام زيادة تقرير لإنكار ما أنكره عليهم، وقيل مكر الله استدراجه إياهم بما أنعم عليهم من الدنيا والنعمة والصحة، والأولى حمل الآية على ما هو أعم من ذلك.
ثم بين حال من أمن مكر الله فقال (فلا يأمن مكر الله) المكر الاحتيال والخديعة والمراد بمكر الله هنا فعل ما يعاقب به الكفرة على كفرهم، وأضيف إلى الله لما كان عقوبة على ذنبهم، فإن العرب تسمى العقوبة على أي وجه كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة، وهذا نص في قوله (ومكروا ومكر الله) قاله ابن عطية.
قلت وهو تأويل حسن وأنه من باب المقابلة أيضاً والفاء في قوله (فلا يأمن) للتنبيه على أن العذاب يعقب أمن مكر الله (إلا القوم الخاسرون) أي الذين أفرطوا في الخسران ووقعوا في وعيده الشديد حتى صاروا إلى النار، قال الشبلي: مكره بهم تركه إياهم على ما هم عليه.
(4/418)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
(أولم يهد) أي أو لم يبين فالهداية هنا بمعنى التبيين، ولهذا عديت باللام (للّذين يرثون الأرض من بعد) إهلاك (أهلها) أي المشركين، قاله السدي وقيل المراد بهم أهل مكة وما حولها أي الذين كانوا من قبلهم فورثوها عنهم وخلفوهم فيها (أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم) أي أن الشأن هو هذا والمعنى عاقبناهم بسبب كفرهم فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين.
(ونطبع) نختم (على قلوبهم) مستأنفة ولا يصح عطفه على أصبناهم لأنهم ممن طبع الله على قلبه لعدم قبولهم للإيمان (فهم لا يسمعون) أي إخبار الأمم المهلكة فضلاً عن التدبر والتفكر فيها والاعتبار بها والاغتنام بما في تضاعيفها من الهداية أي صاروا بسبب الطبع على قلوبهم لا يسمعون ما يتلوه عليهم من أرسله الله إليهم من المواعظ والأعذار والإنذار سماع تدبر.
(4/418)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
(4/419)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
(تلك) مبتدأ مشار بها إلى ما بعدها و (القرى) خبرها أي التي أهلكناها وهي قرى قوم نوح وهود وثمود وصالح ولوط وشعيب المقدم ذكرها (نقص) حال أي قاصين وهذا كقوله تعالى (هذا بعلي شيخاً) في كونه مبتدأ خبراً وحالاً قاله الزمخشري (عليك من أنبائها) أي أخبارها وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين وتحذير للكافرين من قريش وغيرهم.
ومن للتبعيض لأنه إنما قص عليه صلى الله عليه وآله وسلم ما فيه عظة وانزجار دون غيرهما ولها أنباء غيرها لم يقصها عليه، وإنما قص عليه أنباء أهل هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم، فتوهموا أنهم على الحق فذكرها الله لقوم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليحترزوا عن مثل تلك الأعمال.
(ولقد) لام قسم (جاءتهم رسلهم بالبينات) أي المعجزات الباهرات كما سبق بيانه في قصص الأنبياء المذكورين قبل هذا (فما كانوا ليؤمنوا) عند مجيء الرسل اللام زائدة لتوكيد النفي (بما كذبوا) به (من قبل) أي قبل مجيئهم أو فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل في حال من الأحوال ولا في وقت من الأوقات بما كذبوا به قبل مجيئهم بل هم مستمرون على الكفر متشبثون بأذيال الطغيان دائماً ولم ينجح فيهم مجيء الرسل ولا ظهر له أثر بل حالهم عند مجيئهم كحالهم قبله.
وقيل المعنى فما كانوا ليؤمنوا بعد هلاكهم بما كذبوا به لو أحييناهم
(4/419)
كقوله: (ولو ردوا لعادوا) قاله مجاهد وقيل سألوا المعجزات فلما رأوها لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل رؤيتها، والأول أولى.
ومعنى تكذيبهم قبل مجيء الرسل أنهم كانوا في الجاهلية يكذبون بكل ما سمعوا به من إرسال الرسل وإنزال الكتب.
وقال أبي بن كعب: كان في علم الله يوم أقروا له بالميثاق حين أخرجهم من ظهر آدم من يكذب به ممن يصدق به، وهو معنى قول ابن عباس والسدي آمنوا كرهاً يوم أخذ الميثاق، وقال الطبري: وأولى الأقوال قول أبي بن كعب والربيع ابن أنس وذلك أن من سبق في علم الله أنه لا يؤمن به فلا يؤمن أبداً.
(كذلك) أي مثل ذلك الطبع الشديد على قلوب أهل القرى المنتفى عنهم الإيمان (يطبع الله على قلوب الكافرين) الجائين بعدهم فلا ينجع فيهم بعد ذلك وعظ ولا تذكير ولا ترغيب ولا ترهيب.
(4/420)
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
(وما وجدنا لأكثرهم من عهد) الضمير يرجع إلى أهل القرى المذكورين سابقاً أي عهد يحافظون عليه ويتمسكون به، بل دأبهم نقض العهود في كل حال، وقيل الضمير يرجع إلى الناس على العموم أي ما وجدنا لأكثر الناس من عهد وقيل المراد بالعهد هو المأخوذ عليهم في عالم الذر، وقيل الضمير يرجع إلى الكفار على العموم من غير تقييد بأهل القرى أي لأكثر منهم لا عهد ولا وفاء والقليل منهم قد يفي بعهده ويحافظ عليه قال ابن عباس: ذاك أن الله إنما أهلك القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به (وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) أي وإن الشأن هذا والمعنى خارجين عن الطاعة خروجاً شديداً.
(4/420)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
(4/421)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
(ثم بعثنا) أي أرسلنا (من بعدهم) أي بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقيل ضمير " هم " راجع إلى الأمم السالفة أي من بعد إهلاكهم (موسى) قال ابن عباس: إنما سمي موسى لأنه القي بين ماء وشجر فالماء بالقبطية مو والشجر سا وعاش من العمر مائة وعشرين سنة وبينه وبين يوسف أربعمائة سنة وبين موسى وإبراهيم سبعمائة سنة كما ذكره في التحبير.
(بآياتنا) أي حججنا وأدلتنا على صدقه مثل اليد والعصا ونحو ذلك مما جاء به موسى، وهذا يدل على أن النبي لا بد له من آية يتميز بها عن غيره، وإلا لم يكن قبول قوله أولاً من قبول قول غيره.
(إلى فرعون) هو لقب لكل من يملك أرض مصر بعد العمالقة مثل ما كان يسمى ملك الفرس كسرى، وملك الروم قيصر، وملك الحبشة النجاشي، وكان اسم فرعون الذي أرسل إليه موسى " الوليد بن مصعب بن الربان " وكان ملك القبط وكنيته أبو مرة، وقيل أبو العباس وكان قبله فرعون آخر وهو أخوه واسمه قابوس ولم يذكر في القرآن.
وعن مجاهد أن فرعون كان فارسياً من أهل اصطخر، وعن ابن لهيعة أنه كان من أبناء مصر، وعن ابن المنكدر قال: عاش فرعون ثلاثمائة سنة، عن علي
(4/421)
ابن أبي طلحة: أن فرعون كان قبطياً ولد زنا، طوله سبعة أشبار، وعن الحسن قال: كان علجاً من همدان، وعن إبراهيم بن مقسم قال: مكث فرعون أربعمائة سنة لم يصدع له رأس.
(وملئه) أي أشراف قومه وتخصيصه بالذكر مع عموم الرسالة لهم ولغيرهم لأن من عداهم كالأتباع لهم (فظلموا) أي فكفروا (بها) أطلق الظلم على الكفر لكون كفرهم بالآيات التي جاء بها موسى كان كفراً بالغاً لوجود ما يوجب الإيمان من المعجزات العظيمة التي جاءهم بها، أو المعنى ظلموا الناس بسببها لما صدوهم عن الإيمان بها أو ظلموا أنفسهم بسببها.
(فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) أي انظر بعين العقل والبصيرة كيف فعلنا بالمكذبين بالآيات الكافرين بها وكيف أهلكناهم، وجعلهم مفسدين لأن تكذيبهم وكفرهم من أقبح أنواع الفساد.
(4/422)
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)
(وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين) أخبره بأنه مرسل من الله إليه وجعل ذلك عنواناً لكلامه معه لأن من كان مرسلاً من جهة من هو رب العالين أجمعين فهو حقيق بالقبول لما جاء به كما يقول من أرسله الملك في حاجة إلى رعيته. أنا رسول الملك إليكم ثم يحكي ما أرسل به إليهم فإن في ذلك من تربية المهابة وإدخال الروعة ما لا يقادر قدره.
(4/422)
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
(حقيق) جدير (على أن) أي بأن (لا أقول على الله إلا) القول (الحق) قيل في توجيه هذه القراءة إن على بمعنى الباء كما سبق. ويؤيده قراءة أبي والأعمش فإنهم قرآ (حقيق بأن لا أقول) وقيل إن حقيق مضمن معنى حريص وقيل إنه لما كان لازماً للحق كان الحق لازماً له فقول الحق حقيق عليه، وهو حقيق على قول الحق.
(4/422)
وقيل: إنه أغرق في وصف نفسه في ذلك المقام حين جعل نفسه حقيقة على قول الحق كأنه وجب على الحق أن يكون موسى هو قائله، وقرئ على أي واجب على ولازم لي أن لا أقول فيما أبلغكم عن الله إلا القول الحق، وقرئ (حقيق أن لا أقول) بإسقاط على ومعناها واضح والاستثناء مفرغ.
ثم قال بعد هذا (قد جئتكم ببينة من ربكم) أي بما يتبين به صدقي وإني رسول من رب العالمين، والمراد بها معجزته وهي العصا واليد البيضاء. وقد طوى هنا ذكر ما دار بينهما من المحاورة كما في موضع آخر أنه قال فرعون (فمن ربكما يا موسى) ثم قال بعد جواب موسى (وما رب العالمين) الآيات الحاكية لما دار بينهما.
(فأرسل معي بني إسرائيل) أمره أن يدعهم يذهبون معه ويرجعون إلى أوطانهم وهي الأرض المقدسة وقد كانوا بأنين لديه مستعبدين ممنوعين من الرجوع إلى وطنهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
وكان سبب سكناهم بمصر مع أن أباهم كان بالأرض المقدسة أن الأسباط أولاد يعقوب جاؤوا مصر إلى أخيهم يوسف فمكثوا وتناسلوا في مصر، فلما توفي يوسف غلب فرعون على نسل الأسباط واستعبدهم واستعملهم في الأعمال الشاقة، فأحب موسى أن يخلصهم من هذا الأسر ويذهب بهم إلى أرض الشام التي هي وطن آبائهم فأنقذهم الله بموسى وكان بين اليوم الذي دخل يوسف عليه السلام مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام.
(4/423)
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
فلما قال ذلك
(4/424)
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
(قال) له فرعون (إن كنت جئت بآية) من عند الله كما تزعم (فأت بها) حتى نشاهدها وننظر فيها (إن كنت من الصادقين) في هذه الدعوى التي جئت بها.
(4/424)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)
(فألقى عصاه) أي وضعها على الأرض (فإذا هي ثعبان مبين) أي فانقلبت ثعباناً يعني حية عظيمة من ذكور الحيات ظاهراً واضحاً لا لبس فيه في تلك الحال، ووصفها في آية أخرى بأنها جان والجان الحية الصغيرة، والجمع بين هذين الوصفين أنها كانت في عظم الجثة كالثعبان العظيم، وفي خفة الحركة كالحية الصغيرة وهي الجان.
قال قتادة: ذكر لنا أن تلك العصا عصا آدم أعطاه إياها ملك حين توجه إلى مدين فكانت تضيء بالليل ويضرب بها الأرض بالنهار فتخرج له رزقه ويهش بها على غنمه فإذا هي حية تكاد تساوره.
وعن ابن عباس قال: لقد دخل موسى على فرعون وعليه رزمانقه من صوف ما تجاوز مرفقيه فاستأذن على فرعون فقال أدخلوه فدخل فقال إن إلهي أرسلني إليك فقال للقوم حوله ما علمت لكم من إله غيري، خذوه قال إني قد جئتك بآية قال فأت بها فألقى عصاه فصارت ثعباناً بين لحييه ما بين السقف إلى الأرض، وعصا موسى اسمها ما شاء، قال السدي: فاتحة فمها واضعة لحيها الأسفل في الأرض، والأعلى على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه، فلما رآها ذعر منها ووثب فأحدث ولم يكن يحدث قبل ذلك، وصاح يا موسى خذها وأنا أؤمن بربك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذها موسى فصارت عصا.
(4/424)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
(ونزع يده) اليمنى أي أخرجها وأظهرها من جيبه أو من تحت إبطه وفي التنزيل (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) والنزع عبارة عن إخراج الشيء عن مكأنه (فإذا هي بيضاء للناظرين) أي تتلألأ نوراً يظهر لكل مبصر، قال ابن عباس: أخرجها مثل البرق تلتمع الأبصار فخروا على وجوههم، وقيل لها شعاع غلب نور الشمس، وأخذ موسى عصاه ثم خرج ليس أحد من الناس إلا نفر منه وكان موسى آدم اللون (1).
_________
(1) قال القرطبي: " كان موسى أسمر شديد السمرة، ثم أعاد يده إلى جيبه فعادت إلى لونها الأول. قال ابن عباس: كان ليده نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض. وقيل: كانت تخرج يده بيضاء كالثلج تَلوُح، فإذا ردها عادت إلى مثل سائر بدنه.
(4/425)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
(قال الملأ من قوم فرعون) أي الأشراف لما شاهدوا إنقلاب العصا حية ومصير يده بيضاء من غير سوء (إن هذا) أي موسى (لساحر عليم) أي كثير العلم بالسحر يأخذ بعين الناس حتى يخيل لهم أن العصا صارت حية ويرى الشيء بخلاف ما هو عليه، ولا ينافي نسبة هذا القول إلى الملأ هنا وإلى فرعون في سورة الشعراء فكلهم قد قالوه فكان ذلك مصححاً لنسبته إليهم تارة وإليه أخرى.
(4/425)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
(يريد أن يخرجكم) أيها القبط (من أرضكم) وهي أرض مصر وهذا من كلام الملأ (فماذا تأمرون) هو من كلام فرعون قاله للملأ لما قالوا بما تقدم، أي بأي شيء تأمرونني وتشيرون أن نفعل به، وقيل هو من كلام الملأ أي قالوا لفرعون فبأي شيء تأمرنا وخاطبوه بما يخاطب به الجماعة تعظيماً له كما يخاطب الرؤساء أتباعهم.
(4/425)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
وكون هذا من كلام فرعون هو الأولى بدليل ما بعده وهو
(4/426)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
(قالوا أرجه) أي أخره وفيه ست قراآت في المشهور المتواتر ثلاث مع الهمز وثلاث مع عدمه والإرجاء في اللغة التأخير. وقيل معناه احبسه. وهو ضعيف وقيل هو من رجا يرجو أي أطعمه ودعه يرجوك حكاه النحاس عن المبرد.
(و) أرج (أخاه وأرسل في المدائن حاشرين) أي أرسل جماعة حاشرين في المدائن التي فيها السحرة والمدائن جمع مدينة واشتقاقها من مدن بالمكان أي أقام به يعني مدائن صعيد مصر، ومعنى حاشرين جامعين يعني رجالاً يحشرون إليك السحرة من جميع مدائن الصعيد
(4/426)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
(يأتوك) أي هؤلاء الذين أرسلت يعني الشرط (بكل ساحر) وقرئ سحار أي الماهر في السحر قيل الساحر من يكون سحره وقتاً دون وقت، والسحار من يدوم سحره ويعمل في كل وقت (عليم) أي كثير العلم بصناعة السحر.
(4/426)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)
(وجاء السحرة فرعون) قد اختلفت كلمة السلف في عددهم فقال ابن عباس: كانوا سبعين رجلاً أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، وقيل كانوا اثنين وسبعين اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل قاله مقاتل، وقال الكلبي: كان الذين يعلمونهم رجلين مجوسيين من أهل نينوى، وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفاً، وقيل خمسة عشر ألفاً، قاله ابن اسحق وقيل سبعة عشر ألفاً وقيل
(4/426)
تسعة عشر ألفاً وقيل ثلاثين ألفاً وقيل سبعين ألفاً، قاله عكرمة وقيل ثمانين ألفاً، قاله محمد بن المنكدر وقيل ثلاثمائة ألف وقيل تسعمائة ألف (1).
(قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين) الأجر الجائزة والعطاء والجعل، الزموا فرعون أن يجعل لهم جعلاً أن غلبوا موسى بسحرهم وقرئ (أئن لنا) على الاستفهام للتقرير أي استفهموا فرعون عن الجعل الذي سيجعله لهم على الغلبة وعلى القراءة الأولى كأنهم قاطعون بالجعل وأنه لا بد لهم منه.
_________
(1) اختلفوا في عدد السحرة على ثلاثة عشر قولاً: أحدها: اثنان وسبعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني؛ اثنان وسبعون ألفاً، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مقاتل. والثالث: سبعون، روي عن ابن عباس أيضاً. والرابع: اثنا عشر ألفاً، قاله كعب. والخامس: سبعون ألفاً، قاله عطاء، وكذلك قال وهب في رواية، إلا أنه قال: فاختار منهم سبعة آلاف. والسادس: سبعمائة. وروى عبد النعم بن إدريس عن أبيه عن وهب أنه قال: كان عدد السحرة الذين عارضوا موسى سبعين ألفاً متخيرين من سبعمائة ألف، ثم إن فرعون اختار من السبعين ألف سبعمائة.
(4/427)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
(قال نعم) لكم الأجر (وإنكم) مع هذا الأجر المطلوب منكم (لمن المقربين) لدينا قال الكلبي تكونون أول من يدخل علي وآخر من يخرج من عندي. وفي الخطيب والآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً مهيناً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة.
وتدل أيضاً على أن السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان، وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان لقلبوا التراب ذهباً ولنقلوا ملك فرعون لأنفسهم، ولجعلوا أنفسهم ملوك العالم ورؤساءهم، والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق وأن لا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب لها.
(4/427)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)
(قالوا) أي السحرة (يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين) يعني أنهم خيروا موسى بين أن يبتدئ بإلقاء ما يلقيه عليهم أو يبتدئوه هم بذلك تأدباً معه وثقة من أنفسهم بأنهم غالبون وإن تأخروا قال الكسائي والفراء إما أن تفعل الإلقاء أو نفعله نحن.
(4/427)
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
(قال ألقوا) اختار أن يكون المتقدمين عليه بإلقاء ما يلقونه غير مبال بهم ولا هائب لما جاءوا به، قال الفراء في الكلام حذف والمعنى قال لهم موسى إنكم
(4/427)
لن تغلبوا ربكم ولن تبطلوا أيامه، وقيل هو تهديد أي ابتدئوا بالإلقاء فستنظرون ما يحل بكم من الافتضاح.
والموجب لهذين التأويلين عند من قال بهما أنه لا يجوز لموسى أن يأمرهم بالسحر، وقيل إنما أمرهم لتظهر معجزته لأنهم إذا لم يلقوا قبله لم تظهر معجزته، والأول أولى.
(فلما ألقوا) حبالهم وعصيهم قال ابن عباس حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (سحروا أعين الناس) أي قلبوها وغيروها عن صحة إدراكها بما جاءوا به من التمويه والتخييل الذي يفعله المشعوذون وأهل الخفة، وهذا هو الفرق بين السحر الذي هو فعل البشر وبين معجزة الأنبياء التي هي فعل الله. وذلك لأن السحر قلب الأعين وصرفها عن إدراك الشيء، والعجزة قلب نفس الشيء عن حقيقته كقلب عصا موسى حية تسعى.
(واسترهبوهم) أي أدخلوا الرهبة في قلوبهم إدخالاً شديداً بما فعلوه من السحر، واستفعل هنا بمعنى افعل أي أرهبوهم وهو قريب من قولهم: قر واستقر وعظم واستعظم، وهذا رأي المبرد وقيل السين على بابها أي استدعوا رهبة الناس منهم وهو رأى الزجاج (وجاءوا بسحر عظيم) في أعين الناظرين وإن كان لا حقيقة له في الواقع، وكانت تلك الواقعة في إسكندرية قاله الخطيب والخازن.
(4/428)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
(4/429)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
(وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك) أمره سبحانه عند أن جاء السحرة بما جاءوا به من السحر على لسان جبريل أن يلقي عصاه، وصريح السياق يقتضي أن إلقاء العصا وانقلابها حية وقع مرتين بحضرة فرعون (الأولى) كانت سبباً في جمع السحرة (والثانية) بحضرتهم فالأولى ذكرت سابقاً بقوله (فألقى عصاه) والثانية هي المذكورة هنا ووقع انقلابها حية أيضاً مرة أخرى قبل هاتين المرتين ولم يكن هناك حاضراً أحد غير موسى وقد ذكرت هذه المرة في سورة طه في قوله (إذ رأى ناراً) إلى قوله (ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى).
(فإذا هي) أي العصا (تلقف) من لقف يلقف وقيل من تلقف يتلقف يقال لقفت الشيء وتلقفته إذا أخذته أو بلعته بسرعة. وقال أبو حاتم بلغني في بعض القراآت تلقم بالميم والتشديد (ما يأفكون) أصل الإفك قلب الشيء عن وجهه، ومنه قيل للكذاب أفاك لأنه يقلب الكلام عن وجهه الصحيح إلى الباطل، أفك يأفك إفكاً من باب ضرب وأفكته صرفته وكل أمر صرف عن وجهه فقد أفك، وسماه إفكاً لأنه لا حقيقة له في الواقع بل هو كذب وزور وتمويه وشعوذة.
قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالإسكندرية فيقال بلغ ذنب الحية من وراء البحر ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً فإذا هي تبتلع كل شيء أتوا به من السحر.
(4/429)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
(فوقع الحق) أي ظهر وتبين بما جاء به موسى (وبطل ما كانوا يعملون) من سحرهم أي تبين بطلانه
(4/429)
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
(فغلبوا) أي السحرة (هنالك) أي في الموقف الذي أظهروا فيه سحرهم وهذا هو الظاهر (وانقلبوا) من ذلك الموقف (صاغرين) أذلاء مقهورين.
(4/429)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
(4/430)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
(وألقى السحرة ساجدين) أي خروا كأنما ألقاهم ملق على هيئة السجود أو لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا أنفسهم، قال السدي: ألقى موسى عصاه فأكلت كل حية لهم، فلما رأوا ذلك سجدوا، وعن قتادة نحوه، قال ابن عباس: لما رأت السحرة ما رأت عرفت أن ذلك من أمر السماء وليس بسحر فخروا سجداً قيل كانت مع السحرة حمل ثلاثمائة بعير فلما ابتلعتها عصا موسى كلها آمنوا به وخروا ساجدين.
(4/430)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)
(قالوا آمنا) وإنما قالوا هذه المقالة وصرحوا بأنهم آمنوا (برب العالمين) ثم لم يكتفوا بذلك حتى قالوا
(4/430)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
(رب موسى وهرون) لئلا يتوهم متوهم من قوم فرعون المقرين بإلهيته أن السجود له قال الأوزاعي: لما خر السحرة سجداً رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها، وقدموا موسى في الذكر وإن كان هرون أسن منه لكبره في الرتبة أو لأنه وقع فاصلة هنا. ولذلك قال في سورة طه (رب هرون وموسى) لوقوع موسى فاصلة أو لكون كل طائفة منهم قالت إحدى المقالتين فنسب فعل البعض إلى المجموع في سورة وفعل بعض آخر إلى المجموع في أخرى.
(4/430)
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
(قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم) والاستفهام للإنكار والتوبيخ والقراآت هنا أربع كلها سبعية ذكرها السمين، أنكر فرعون على السحرة إيمانهم بموسى قبل أن يأذن لهم بذلك وقال (إن هذا لمكر مكرتموه) أي حيلة احتلتموها أنتم وموسى على مواطأة بينكم سابقة، ومعنى (في المدينة) أن هذه الحيلة
(4/430)
والمواطأة كاذت بينكم وأنتم بمدينة مصر قبل أن تبرزوا أنتم وموسى إلى هذه الصحراء (لتخرجوا منها) أي من مدينة مصر (أهلها) من القبط وتستولوا عليها وتسكنوا فيها أنتم وبنو إسرائيل.
وهاتان شبهتان ألقاهما إلى أسماع عوام القبط تثبيتاً لهم على ما هم عليه وتهييجاً لعداوتهم لموسى، ثم هددهم بقوله (فسوف تعلمون) عاقبة صنعكم هذا وسوء مغبته ليريهم أن له قوة.
ثم لم يكتف بهذا الوعيد والتهديد المجمل بل فصله فقال
(4/431)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
(لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) أي الرجل اليمنى واليد اليسرى أو الرجل اليسرى واليد اليمنى، قال ابن عباس: هو أول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف وقال قتادة: أي يداً من ههنا ورجلاً من ههنا.
ثم لم يكتف عدو الله بهذا بل جاوزه إلى غيره فقال (ثم لأصلبنكم في جذوع النخل) على شاطئ نيل مصر أي أجعلكم عليها مصلوبين زيادة تنكل بهم وإفراطاً في تعذيبهم.
قال ابن عباس: أول من صلب فرعون، وجيء هنا ثم وفي السورتين ولأصلبنكم بالواو لأن الواو صالحة للمهلة فلا تنافي بين الآيات (أجمعين) تأكيد أتى به دون كل وإن كان الأكثر سبقه بكل، وجاء بجملة قسمية تأكيداً لما يفعله يقال صلبه يصلبه ويصلبه وهما لغتان في المضارع.
(4/431)
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
(قالوا إنا إلى ربنا منقلبون) أي إنك وإن فعلت بنا هذا الفعل فبعده يوم الجزاء سيجازيك الله بصنعك ويحسن إلينا بما أصابنا في ذاته، فتوعدوه بعذاب الله في الآخرة لما توعدهم بعذاب الدنيا، ويحتمل أن يكون المعنى إنا إليه لمنقلبون بالموت أي لا بد لنا من الموت، ولا يضرنا كونه بسبب منك.
(4/431)
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
(4/432)
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
(وما تنقم) بكسر القاف وقرئ بفتحها، قال الأخفش هي لغة يقال نقمت الأمر أنكرته أي لست تعيب علينا وتنكر (منا) قال عطاء أي ما لنا عندك من ذنب تعذبنا عليه، وقيل ما تكره منا وما تطعن علينا وتقدح فينا (إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا) مع أن هذا هو الشرف العظيم والخير الكامل، وأصل المفاخر، ومثله لا يكون موضعاً للعيب ومكاناً للإنكار. بل هو حقيق بالثناء الحسن والاستحسان البالغ فلا نعدل عنه أصلاً طلباً لمرضاتك، والاستثناء مفرغ.
ثم تركوا خطابه وقطعوا الكلام معه والتفتوا إلى خطاب الجناب العليّ مفوضين الأمر إليه طالبين منه عز وجل أن يثبتهم على هذه المحنة بالصبر قائلين (ربنا أفرغ علينا صبراً) الإفراغ الصب أي أصببه كاملاً تاماً حتى يفيض علينا ويغمرنا، ولهذا أتى بلفظ التكثير يعني صبراً وأي صبر عظيم يصب صباً ذريعاً كما يفرغ الماء فراغاً، طلبوا أبلغ أنواع الصبر استعداداً منهم لما سينزل بهم من العذاب من عدو الله وتوطيناً لأنفسهم على التصلب في الحق وثبوت القدم على الإيمان.
ثم قالوا (وتوفنا) إليك (مسلمين) أي ثابتين على الإسلام غير محرفين ولا مبدلين ولا مفتونين بالوعيد. ولقد كان ما هم عليه من السحر والمهارة في علمه مع كونه شراً محضاً سبباً للفوز بالسعادة لأنهم علموا أن هذا الذي جاء به موسى خارج عن طوق البشر، وأنه من فعل الله سبحانه، فوصلوا بالشر إلى
(4/432)
الخير، ولم يحصل من غيرهم ممن لا يعرف هذا العلم من أتباع فرعون ما حصل منهم من الإذعان والاعتراف والإيمان.
وإذا كانت المهارة في علم الشر قد تأتي بمثل هذه الفائدة، فما بالك بالمهارة في علم الخير، اللهم انفعنا بما علمتنا وثبت أقدامنا على الحق وأفرغ علينا سجال الصبر وتوفنا مسلمين آمين قال ابن عباس: كانوا في أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء، قيل فعل بهم فرعون ما توعدهم به وقيل لم يقدر عليه لقوله تعالى (أنتما ومن اتبعكما الغالبون).
(4/433)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
(وقال الملأ من قوم فرعون أتذر) الاستفهام منهم للإنكار عليه أي أتترك (موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) أي في مصر بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل (ويذرك) بياء الغيبة ونصب الراء هذه قراءة العامة، وفيها وجهان أظهرهما أنه على العطف على ليفسدوا، والثاني أنه منصوب على جواب الاستفهام كما ينصب في جوابه بعد الفاء.
والمعنى كيف يكون الجمع بين تركك موسى وقومه مفسدين، وبين تركهم إياك وعادة آلهتك، أي لا يمكن وقع ذلك وقرئ برفع الراء وفيها ثلاثة أوجه أظهرها أنه نسق على أتذر أي اتطلق له ذلك، والثاني أنه استئناف أخبار ذلك، الثالث أنه حال ولا بد من إضمار مبتدأ أي وهو يذرك، وقرئ بالجزم إما على التخفيف بالسكون لنقل الضمة أو على ما قيل في (وأكن من الصالحين) في توجيه الجزم، وقرئ بالنون والرفع والمعنى أنهم أخبروا عن أنفسهم بأنهم سيذرونك.
ْ (وآلهتك) اختلف المفسرون في معناها لكون فرعون كان يدعي الربوبية كما في قوله (ما علمت لكم من إله غيري) وقوله (أنا ربكم الأعلى) فقيل ومعنى آلهتك طاعتك وقيل معناه عبادتك، ويؤيده قراءة علي وابن عباس والضحاك:
(4/433)
وإلاهتك وفي حرف أبي ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك وقيل إنه كان يعبد بقرة، وقيل كان يعبد النجوم وقيل كان له أصنام يعبدها قومه تقرباً إليه فنسبت إليه، ولهذا قال (أنا ربكم الأعلى) قاله الزجاج، وقيل كان يعبد الشمس والكواكب.
والأقرب أن يقال: إن فرعون كان دهرياً منكراً لوجود الصانع فكان يقول مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب فاتخذ أصناماً على صورتها وكان يعبدها ويأمر بعبادتها، وكان يقول في نفسه إنه هو المطاع والمخدوم في الأرض فلهذا قال أنا ربكم الأعلى.
قال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر: كان ملك فرعون أربعمائة سنة وعاش ستمائة وعشرين سنة لم ير مكروهاً قط ولو كان حصل له في تلك المدة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لما ادعى الربوبية.
(قال) فرعون مجيباً لهم ومثبتاً لقلوبهم على الكفر (سنقتل) قرىء بالتشديد والتخفيف (أبناءهم ونستحي نساءهم) أي نتركهن في الحياة ولم يقل سنقتل موسى لأنه يعلم أنه لا يقدر عليه، قيل كان ترك القتل في بني إسرائيل بعد ما ولد موسى فلما جاء موسى بالرسالة وكان من أمره ما كان أعاد فيهم القتل.
(وإنا فوقهم قاهرون) أي مستعلون عليهم بالقهر والغلبة وهم تحت قهرنا وبين أيدينا، ما شئنا أن نفعله بهم فعلناه ففعلوا بهم ذلك، فشكا بنو إسرائيل.
(4/434)
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
(4/435)
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
(قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا) أي لما بلغ موسى ما قاله فرعون أمر قومه بالاستعانة بالله والصبر على المحنة ثم أخبرهم (إن الأرض لله) يعني أرض مصر وإن كانت الأرض كلها لله أو أراد جنس الأرض، والأول أولى (يورثها من يشاء من عباده) هو وعد من موسى لقومه بالنصر على فرعون وقومه وإن الله سيورثهم أرضهم وديارهم (والعاقبة) المحمودة في الدنيا والآخرة وعاقبة كل شيء آخره وقيل أراد الجنة (للمتقين) من عباده وهم موسى ومن معه.
(4/435)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
(قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) وذلك بقتل فرعون أبناءنا عند مولدك لما أخبر بأنه سيولد مولود يكون زوال ملكه على يده، وبقتل أبنائنا الآن، وقيل المعنى أوذينا من قبل أن يأتينا بالرسالة باستعمالنا في الأعمال الشاقة بغير جعل كضرب اللبن ونقل التراب ونحو ذلك،، ومن بعد ما جئنا بما صرنا فيه الآن من الخوف على أنفسنا وأولادنا وأهلنا وقيل إن الأذى من قبل ومن بعد واحد وهو قبض الجزية منهم.
(قال) موسى مجيباً لهم (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) مستأنفة كالتي قبلها وعدهم بإهلاك الله لعدوهم وهو فرعون وقومه (ويستخلفكم في الأرض) هو تصريح بما رمز إليه سابقاً من أن الأرض لله، وقد حقق الله رجاءه وملكوا مصر في زمان داود وسليمان وفتحوا بيت المقدس مع يوشع بن نون، وأهلك
(4/435)
فرعون وقومه بالغرق وأنجاهم (فينظر كيف تعملون) فيها من الأعمال أي من الإصلاح والإفساد بعد أن يمن عليكم بإهلاك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فيجازيكم بما عملتم من خير وشر.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن بنا أهل البيت يفتح ويختم، ولا بد أن تقع دولة لبني هاشم فانظروا فيمن يكون من بني هاشم، وفيهم نزلت (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) الآية، وينبغي أن ينظر في صحة هذا عن ابن عباس فالآية نازلة في بني إسرائيل واقعة في هذه القصة الحاكية لما جرى بين موسى وفرعون لا في بني هاشم.
(4/436)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
(ولقد أخذنا) لام قسم أي والله لقد ابتلينا وهذا شروع في تفصيل مبادئ هلاكهم وتصدير الجملة بالقسم لإظهار الاعتناء بمضمونها (آل فرعون) أي قومه (بالسنين) أي الجدب والقحط، وهذا معروف عند أهل اللغة يقولون إصابتهم سنة أي جدب سنة، ويقال أسنتوا كما يقال أجدبوا، وفي الحديث اللهم اجعلها عليهم سنين كَسِنِي يوسف وهن سبع سنين، والسنة من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم.
والمعنى أخذناهم بالجوع سنة بعد سنة، وأكثر العرب يعربون السنين إعراب الجمع المذكر السالم ومنهم من يعربه إعراب المفرد ويجري الحركات على النون، قاله أبو زيد وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون أقمت عنده سنياً مصروفاً قال وبنو تميم لا يصرفونه، قال ابن مسعود: السنين الجوع، وقال مجاهد: الجوائح، قال ابن عباس: لما أخذ الله آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر.
واجتمعوا إلى فرعون فقالوا إن كنت كما تزعم فأتنا في نيل مصر بماء قال، غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال أي شيء صنعت إن لم
(4/436)
أقدر على أن أجري في نيل مصر ماء غدوة كذبوني، فلما كان جوف الليل قام فاغتسل ولبس مدرعة صوف، ثم خرج حافياً حتى أتى نيل مصر فقال اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء فما علم إلا بخرير الماء يقبل فخرج وأقبل النيل يزخ بالماء لما أراد الله بهم من الهلكة (1).
(ونقص من الثمرات) بسبب عدم نزول المطر وكثرة العاهات وإتلاف الغلات بالآفات قال قتادة: أما السنون فلأهل البوادي، وأما نقص الثمرات فلأهل الأمصار، والمعنى أخذناهم بها (لعلهم يذكرون) يتعظون ويرجعون عن غوايتهم.
_________
(1) وفي رواية ابن الجوزي قال: (3/ 247):
روى الضحاك عن ابن عباس قال: يبس لهم كل شيء، وذهبت مواشيهم، حتى يبس نيل مصر، فاجتمعوا إلى فرعون فقالوا له: إن كنت رباً كما تزعم، فاملأ لنا نيل مصر، فقال غُدوة يصبحكم الماء، فلما خرجوا من عنده، قال: أي شيء صنعت؟ أنا أقدر أن أجيء بالماء في نيل مصر غدوة أصبح، فيكذبوني؟! فلما كان جوف الليل، اغتسل، ثم لبس مدرعة من صوف، ثم خرج حافياً حتى أتى بطن نيل مصر فقام في بطنه، فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر أن تملأ نيل مصر ماء، فاملأه، فما علم إلا بخرير الماء لما أراد الله به من الهلكة. قلت: وهذا الحديث بعيد الصحة، لأن الرجل كان دهرياً لا يثبت إلهاً. ولو صح، كان إقراره بذلك كإقرار إبليس، وتبقى مخالفته عناداً.
(4/437)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
ثم بين أنهم عند نزول العذاب وتلك المحن عليهم والشدة لم يزدادوا إلا تمرداً وكفراً كلما قال تعالى (فإذا جاءتهم الحسنة) أي الخصلة الحسنة من الخصب بكثرة المطر وصلاح الثمار ورخاء الأسعار والسعة والعافية والسلامة من الآفات (قالوا لنا هذه) أي أعطيناها باستحقاق وهي مختصة بنا ونحن أهلها على العادة التي جرت لنا في سعة الأرزاق وصحة الأبدان، ولم يروا ذلك من فضل الله فيشكروه على إنعامه.
(وإن تصبهم) خصلة (سيئة) من الجدب والقحط، وكثرة الأمراض ونحوها من البلاء قيل ووجه تعريف الحسنة أنها كثيرة الوقوع وتعلق الإرادة بإحداثها، ووجه تنكير السيئة ندرة وقوعها وعدم القصد لها إلا بالتبع.
هذا من محاسن علم المعاني، قال مجاهد: الحسنة العافية والرخاء والسيئة بلاء وعقوبة (يطيروا) يتشاءموا (بموسى ومن معه) من المؤمنين به، وقد كانت العرب تتطير بأشياء من الطيور والحيوانات، ثم استعمل بعد ذلك في كل من تشاءم بشيء في قول جميع المفسرين، ومثل هذا قوله تعالى (وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك).
(ألا) التصدير بكلمة التنبيه لإبراز كمال العناية بمضمونه و (إنما) أداة حصر (طائرهم) أي سبب خيرهم وشرهم بجميع ما ينالهم من خصب وقحط (عند الله) يأتيهم به ليس بسبب موسى ومن معه، وكان هذا الجواب على نمط ما يعتقدونه وبما يفهمونه ولهذا عبر بالطائر عن الخير والشر الذي يجري بقدر الله وحكمته ومشيئته (ولكن أكثرهم لا يعلمون) بهذا بل ينسبون الخير والشر إلى غير الله جهلاً منهم والحق أن الكل من الله.
(4/438)
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
(4/439)
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
(وقالوا) بعد ما رأوا من شأن العصا والسنين ونقص الثمار (مهما) اسم شرط (تأتنا به) من عند ربك (من آية) بيان لمهما، وسموها آية استهزاء بموسى كما يفيده ما بعده وهو (لتسحرنا بها) أي لتصرفنا عما نحن عليه كما يفعل السحرة بسحرهم، وضمير به عائد إلى مهما وضمير بها عائد إلى آية وقيل: إنهما عائدان إلى مهما وتذكير الأول باعتبار اللفظ وتأنيث الثاني باعتبار المعنى.
(فما نحن لك بمؤمنين) أخبروا عن أنفسهم أنهم لا يؤمنون بشيء مما يجيء به من الآيات التي هي في زعمهم من السحر.
فعند ذلك نزلت بهم العقوبة من الله عز وجل المبينة بقوله
(4/439)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
(فأرسلنا عليهم الطوفان) وهو المطر الشديد قال الأخفش: واحده طوفانة وقيل هو مصدر كالرجحان والنقصان فلا واحد له، وقيل الطوفان الموت. روته عائشة عنه صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما قال ابن كثير وهو حديث غريب وبه قال مجاهد وعطاء.
وقال النحاس: الطوفان في اللغة ما كان مهلكاً من موت أو سيل أي ما يطيف بهم فهلكهم، أو قال ابن عباس: الطوفان أمر ربك، ثم قرأ (فطاف عليها طائف من ربك) وقال مجاهد: هو الماء والطاعون وقال وهب: هو الطاعون بلغة أهل اليمن.
وقال أبو قلابة: الطوفان هو الجدري، وهم أول من عذبوا به ثم
(4/439)
بقي في الأرض، وقال مقاتل: الماء طفا فوق حروثهم وذلك أنهم مطروا ثمانية أيام من السبت إلى السبت في ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً ولا يقدر أحد أن يخرج من داره، وقيل دخل الماء في بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم فمن جلس غرق ولم تدخل بيوت بني إسرائيل قطرة، قال ابن عباس: مطروا دائماً بالليل والنهار ثمانية أيام.
(والجراد) جمع جرادة الذكر والأنثى فيه سواء قال أهل اللغة: هو مشتق من الجرد قالوا والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جداً يقال أرض جرداء أي ملساء وثوب أجرد إذا ذهب وبره، والمراد به هنا هو الحيوان المعروف أرسله الله لأكل زروعهم فأكلها وأكل ثمارهم وسقوف بيوتهم وثيابهم وأمتعتهم، وابتلى الجراد بالجوع فكان لا يشبع وامتلأت دور القبط منه ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء.
(والقمل) بضم القاف وفتح الميم المشددة، وقرأ الحسن القمل بفتح القاف وسكون الميم قيل هي الدباء قاله مجاهد وقتادة والسدي والكلبي، والدباء الجراد قبل أن تطير، وقال عطاء: إنه القمل المعروف فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وقيل هي السوس الذي يخرج من الحنطة قاله ابن عباس، وقيل البراغيث وقيل دواب سود صغار، وقيل ضرب من القردان وقيل الجعلان.
قال النحاس: يجوز أن تكون هذه الأشياء كلها أرسلت عليهم، وقد فسر عطاء الخراساني القمل بالقمل، قال ابن عباس: القمل الجراد الذي له أجنحة، وقال أبو عبيدة هو الحمنان، وهو ضرب من القراد وأقام عليهم من السبت إلى السبت.
(والضفادع) جمع ضفدع وهو الحيوان المعروف الذي يكون في الماء وكانت
(4/440)
تقع في طعامهم وشرابهم حتى إذا تكلم الرجل تقع في فيه وأقامت عليهم ثمانية أيام قال ابن عباس: كانت الضفادع برية فلما أرسلها على آل فرعون سمعت وأطاعت فجعلت تقذف نفسها في القدر وهي تغلي وفي التنانير وهي تفور، ومكث موسى في آل فرعون بعد ما غلب السحرة أربعين سنة يريهم الآيات والجراد والقمل والضفادع.
(والدم) روى أنه سأل عليهم النيل دماً قاله مجاهد، وقيل هو الرعاف قاله زيد بن أسلم وقيل مياههم انقلبت دماً فما يستقون من بئر ولا نهر إلا وجدوه دماً عبيطاً أحمر، قال ابن عباس: يمكث فيهم سبتاً إلى سبت ثم يرفع عنهم شهراً.
(آيات) حال من الخمسة المذكورة (مفصلات) أي مبينات يتبع بعضها بعضاً لتكون لله الحجة عليهم، والمعنى أرسلنا عليهم هذه الأشياء حال كونها آيات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله أو مفرقات بين كل آيتين شهر، وكان امتداد كل واحدة أسبوعاً يمتحن فيه أحوالهم، وينظر أيقبلون الحجة والدليل أو يستمرون على الخلاف والتقليد.
(فاستكبروا) أي ترفعوا عن الإيمان بالله (وكانوا قوماً مجرمين) لا يهتدون إلى حق ولا ينزعون عن باطل (1).
_________
(1) قال ابن عباس: جاءهم الطوفان، فكان الرجل لا يقدر أن يخرج إلى ضيعته، حتى خافوا الغرق، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشفه عنا، ونؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل؛ فدعا لهم، فكشفه الله عنهم، وأنبت لهم شيئاً لم ينبته قبل ذلك، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل ما أنبتت الأرض، فقالوا: ادع لنا ربك، فدعا، فكشف الله عنهم، فأحرزوا زروعهم في البيوت، فأرسل الله عليهم القُمل، فكان الرجل يخرج بطحين عشرة أجربة إلى الرحى، فلا يرى منها ثلاثة أقفزة، فسألوه، فدعا لهم، فكُشف عنهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، ولم يكن شيء أشد منها، كانت تجيء إلى القدور وهي تغلي وتفور، فتلقي أنفسها فيها، فتفسد طعامهم
[ص:442]
وتطفئ نيرانهم، وكانت الضفادع برية، فأورثها الله تعالى برد الماء والثرى إلى يوم القيامة، فسألوه، فدعا لهم، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فجرت أنهارهم وقُلبُهم دماً، فلم يقدروا على الماء العذب، وبنو إسرائيل في الماء العذب، فإذا دخل الرجل منهم يستقي من أنهار بني إسرائيل صار ما دخل فيه دماً، والماء من بين يديه ومن خلفه صافٍ عذب لا يقدر عليه، فقال فرعون: أقسم بإلهي يا موسى لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فدعا موسى، فذهب الدم وعذب ماؤهم، فقالوا: والله لا نؤمن ولا نرسل معك بني إسرائيل.
(4/441)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
(ولما وقع عليهم الرجز) أي العذاب بهذه الأمور التي أرسلها الله عليهم، وقيل كان هذا الرجز طاعوناً مات به من القبط في يوم واحد سبعون ألفاً، قاله سعيد بن جبير، وعلى هذا هو العذاب السادس بعد الآيات الخمس التي تقدمت، وعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه "، أخرجه الشيخان. (1)
(قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك) أي بما أوصاك أو استودعك من العلم أو بما اختصك به من النبوة أو بما نبأك أو بما عهد إليك أن تدعوه فيجيبك. والباء متعلقة بادع على معنى أسعفنا إلى ما نطلب من الدعاء بحق ما عندك من عهد الله أو أدع لنا متوسلاً إليه بعهده عندك، وقيل إن الباء للقسم وجوابه لنؤمنن الآتي أقسمنا بعهد الله عندك.
(لئن كشفت عن الرجز لنؤمنن لك) أي لنصدقن بما جئت به
_________
(1) مسلم 2218 - البخاري 1631.
(4/442)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
(ولنرسلن معك بني إسرائيل) أي لنخلينهم حتى يذهبوا حيث شاءوا، وقد كانوا حابسين لبني إسرائيل عندهم يمتهنونهم في الأعمال فوعدوه بإرسالهم معه.
(4/443)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
(فلما كشفنا عنهم الرجز) بدعوة موسى عليه السلام (إلا أجل هم بالغوه) أي الأجل المضروب لإهلاكهم بالغرق لا رفعاً مطلقاً (إذا هم ينكثون) أي ينقضون ما عقدوه على أنفسهم، وإذا هي الفجائية أي فاجأوا النكث وبادروه، وأصل النكث من نكث الصوف ليغزله ثانياً فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه، قاله زاده.
(4/443)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
(فانتقمنا) أي أردنا الإنتقام (منهم) لما نكثوا بسبب ما تقدم لهم من الذنوب المتعددة وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب، وقيل هو ضد الأنعام كما أن العقاب ضد الثواب (فأغرقناهم في اليم) أي في البحر، قيل هو الذي لا يدرك قعره وقيل هو لجته وأوسطه، قال الأزهري: اليم معروف لفظة سريانية عربتها العرب ويقع على البحر الملح والعذب، والمراد به نيل مصر وهو عذب.
(بأنهم كذبوا بآياتنا) تعليل للإغراق (وكانوا عنها غافلين) أي عن النقمة المدلول عليها بإنتقمنا أو عن الآيات التي لم يؤمنوا بها بل كذبوا بها فكأنهم في تكذيبهم بمنزلة الغافلين عنها والثاني أولى لأن الجملتين تعليل للإغراق والمراد بالغفلة عدم التدبر، وهذا مؤاخذ به فسقط ما يقال إن الغفلة لا مؤاخذة بها، وقد تستعمل الغفلة في ترك الشيء إهمالاً وإعراضاً، في القاموس غفل عنه غفولاً تركه وسها عنه.
(4/443)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
(4/444)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
(وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون) يعني بني إسرائيل الذين كانوا يذلون ويمتهنون بالخدمة لفرعون وقومه (مشارق الأرض) هي مصر والشام (ومغاربها) المراد جهات مشرقها وجهات مغربها، وهي التي كانت لفرعون وقومه من القبط فملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتصرفوا فيها شرقاً وغرباً كيف شاءوا.
وقال الزجاج: المراد جميع الأرض ونواحيها لأن داود وسليمان كانا من بني إسرائيل وقد ملكا الأرض، وقيل أراد الأرض المقدسة وهو بيت المقدس وما يليه من الشرق والغرب.
(التي باركنا فيها) بإخراج الزرع والثمار منها على أتم ما يكون وأنفع ما ينفق، قال الحسن هي الشام، وعن قتادة وزيد بن أسلم نحوه، وقال عبد الله بن شوذب: هي فلسطين، وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل الشام أحاديث ليس هذا موضع ذكرها.
(وتمت) أي مضت واستمرت على التمام (كلمة ربك) هي قوله تعالى (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) وهذا وعد من الله سبحانه بالنصر والظفر بالأعداء والاستيلاء على
(4/444)
أملاكهم فتمامه مجاز عن إنجازه، و (الحسنى) صفة للكلمة وهي تأنيث الأحسن (على بني إسرائيل بما صبروا) أي تمام هذه الكلمة عليهم بسبب صبرهم على ما أصيبوا به من فرعون وقومه، وقال مجاهد: تمام الكلمة ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض وإهلاك عدوهم وما ورثهم منها.
(ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه) التدمير الإهلاك أي أهلكنا ما كانوا يصنعون في أرض مصر من العمارات وبناء القصور. وفيه أربعة أوجه من الإعراب، ذكرها السمين (وما كانوا يعرشون) من الجنات والثمار والأعناب، قاله الحسن. ومنه قوله تعالى (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات) وقيل يسقفون من ذلك البنيان، وقيل المعنى ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء. يقال عرش يعرش أي بنى يبني. قال مجاهد: ما كانوا يبنون من البيوت والقصور، وهذا آخر قصة فرعون وقومه.
(4/445)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) هذا شروع في بيان ما فعله بنو إسرائيل بعد الفراغ مما فعله فرعون وقومه، ومعنى جاوزنا جزناه بهم وقطعنا، يقال جاز الوادي وجاوزه إذا قطعه وخلفه وراء ظهره وهو كقوله (وإذ فرقنا بكم البحر) قال الكلبىِ: عبر موسى البحر يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصامه شكراً لله تعالى.
(فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) يقال عكف يعكف ويعكف بالضم والكسر بمعنى أقام على الشيء ولزمه، والمصدر منهما عكوف، قيل هؤلاء القوم الذي أتاهم بنو إسرائيل هم من لحم وجذام كانوا نازلين بالرقة يعني ساحل البحر كانت أصنامهم تماثيل بقر من نحاس، فلما كان عجل السامري شبه لهم أنه من تلك البقر، فذلك كان أول شأن العجل لتكون لله عليهم الحجة فينتقم منهم بعد ذلك. وقيل كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم.
(4/445)
(قالوا) أي بنو إسرائيل عند مشاهدتهم لتلك التماثيل (يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) أي صنماً نعبده كائناً كالذي لهؤلاء القوم، قال البغوي: لم يكن ذلك شكاً من بني إسرائيل في توحيد الله وإنما المعنى اجعل لنا شيئاً نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله، وظنوا أن ذلك لا يضر، وفيه بعد وقيل: إنهم توهموا أنه يجوز عبادة غير الله فحملهم جهلهم على ما قالوا، قال الكرخي: وعلى كل فالقائل للقول المذكور بعضهم لا كلهم إذ كان من جملة من معه السبعون الذين اختارهم موسى للميقات ويبعد منهم مثل هذا القول.
(قال) أي أجاب عليهم موسى (إنكم قوم تجهلون) وصفهم بالجهل لأنهم قد شاهدوا من آيات الله ما يزجر من له أدنى علم عن طلب عبادة غير الله ولكن هؤلاء القوم أعني بني إسرائيل أشد خلق الله عناداً وجهلاً وتلوناً، وقد سلف في سورة البقرة بيان ما جرى منهم من ذلك.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي واقد الليثي قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا رسول الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الله أكبر هذا قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم " (1).
_________
(1) أحمد بن حنبل 5/ 218.
(4/446)
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
ثم قال لهم موسى
(4/447)
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
(إن هؤلاء) يعني القوم العاكفين على الأصنام (متبر) التبار الهلاك وكل إناء منكسر فهو متبر أي: إن هؤلاء هالك (ما هم فيه) مدمر مكسر. والذي فيه هو عبادة الأصنام، أخبرهم بأن هذا الدين الباطل الذي هؤلاء القوم عليه هالك مدمر لا يتم منه شيء، وقال ابن عباس: متبر خسران (وباطل ما كانوا يعملون) أي ذاهب مضمحل جميع ما كانوا يعملونه من الأعمال مع عبادتهم للأصنام.
قال في الكشاف وفي إيقاع هؤلاء إسماً لإنّ وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار، وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازب ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا.
(4/447)
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
(قال أغير الله أبغيكم إلهاً) الاستفهام للإنكار والتوبيخ أي كيف أطلب لكم غير الله إلهاً تعبدونه وقد شاهدتم من آياته العظام ما يكفي منه البعض والمعنى أن هذا الذي طلبتم لا يكون أبداً وإدخال الهمزة على الغير للإشعار بأن المنكر هو كون المبغي غير الله إلهاً (وهو فضلكم على العالمين) من أهل عصركم وهم القبط بما أنعم به عليكم من إهلاك عدوكم، واستخلافكم في الأرض وإخراجكم من الذل والهوان إلى العز والرفعة فكيف تقابلون هذه النعم بطلب عبادة غيره.
(4/447)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
(وإذْ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب) أي اذكروا وقت
(4/447)
إنجائنا لكم من آل فرعون بعد أن كانوا مالكين لكم يستعبدونكم فيما يريدونه منكم ويمتهنونكم بأنواع الامتهان، هذا على أن هذا الكلام محكي عن موسى، وأما إذا كان في حكم الخطاب لليهود الموجودين في عصر محمد فهو بمعنى اذكروا إذ أنجينا أسلافكم حال كونهم يسومونكم سوء العذاب ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان ما كانوا فيه مما أنجاهم منه.
(يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم) مفسرة للجملة التي قبلها أو بدل منها وقد سبق بيان ذلك (وفي ذلكم) أي هذا العذاب الذي كنتم فيه (بلاء) عليكم نعمة أو محنة (من ربكم عظيم) وقد تقدم تفسيرها في البقرة والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غيره حتى تقولوا اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.
(4/448)
نهاية الجزء الرابع
تم الجزء الرابع من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء الخامس بأذن الله وأوله:
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
(4/449)
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري 1248 - 1307 هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الخامس
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
(5/1)
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
1412 هـ - 1992 م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب 8355 - تلكس LE 20437 SCS
صَيدَا - صَ. ب 221 - تلكس LE 29198
(5/2)
فتح البيان في مقاصد القرآن
(5/3)
الجزء الخامس
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الجزء الخامس
يبدأ من قوله تعالى سورة الأعراف - 142 إلى قوله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
(5/5)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
(وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) نكلمه عند انتهائها بأن يصومها وهي ذو القعدة لإعطاء التوراة (وأتممناها) أي المواعدة المفهومة من واعدنا أو ثلاثين ليلة قاله الحوفي والأول أولى (بعشر) ليال من ذي الحجة للتقرب قاله ابن عباس ومجاهد، وفي مصحف أُبَي وتمّمناها بالتضعيف وحذف تمييز بعشر لدلالة الكلام عليه.
(فتّم ميقات ربّه) الميقات هو الوقت الذي قدر أن يعمل فيه عمل من الأعمال، ولهذا قيل: مواقيت الحج أي وقت وعده بكلامه إياه (أربعين ليلة) هذا من جملة ما كرم الله به موسى عليه السلام وشرفه.
ولقد أجمل ذكر الأربعين في البقرة وذكره هنا على التفصيل وضرب هذه المدة موعداً لمناجاة موسى ومكالمته، قاله مجاهد وابن عباس، قيل وكان التكليم في يوم النحر، والفائدة في (أربعين ليلة) مع العلم بأن الثلاثين والعشر أربعون لئلا يتوهم أن المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها فبين أن العشر غير الثلاثين، وفي نصب أربعين ثلاثة أوجه (أحدها) أنه حال قاله الزمخشري أي تم بالغاً هذا العدد (الثاني) على المفعول به (الثالث) على الظرف قاله ابن عطية وفيه ضعف.
(وقال موسى لأخيه هرون) عند ذهابه إلى الجبل للمناجاة (اخلفني في قومي) أي كن خليفتي فيهم (وأصلح) أمر بني إسرائيل بحسن سياستهم والرفق بهم وتفقد أحوالهم واحملهم على عبادة الله تعالى (ولا تتّبع سبيل المفسدين) أي لا تسلك سبيل العاصين ولا تكن عوناً للظالمين، قال ابن عباس: إن موسى قال لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلّف هرون فيكم، فلما فصل موسى إلى ربه زاده الله عشراً فكانت فتنتهم في العشر التي زاده الله، فلما مضى ثلاثون ليلة كان السامري قد أبصر جبريل فأخذ من أثر الفرس قبضة من تراب، ثم ذكر قصة السامري.
(5/7)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
(ولما جاء موسى لميقاتنا) اللام للاختصاص أي كان مجيئه مختصاً بالميقات المذكور بمعنى أنه جاء في الوقت الموعود، وكان يوم الخميس وكان يوم عرفة وأعطاه التوراة صبيحة يوم الجمعة يوم النحر (وكلمه ربه) أي اسمعه كلامه من غير واسطة ولا كيفية وأزال الحجاب بين موسى وبين كلامه فسمعه وليس المراد أنه أنشأ كلاماً سمعه لأن كلام الله قديم ولم نر في التفاسير هنا بيان ما فهمه موسى من ذلك الكلام.
أخرج البزار وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء.
والصفات من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لما كلم الله موسى يوم الطور كلّمه بغير الكلام الذي كلمه به يوم ناداه فقال له موسى: يا رب أهذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال يا موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأقوى من ذلك، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا يا موسى صف لنا كلام الرحمن فقال لا تستطيعونه ألم تروا إلى أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموه فذاك قريب منه ولبس به "، وفيه دليل على كلام الله مع موسى.
قال الزمخشري: تكليمه أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظاً في الألواح انتهى وإليه ذهب المعتزلة وهو مذهب فاسد يرده الكتاب والسنة وأين للشجر وذلك الجرم أن يقول إنني أنا الله الآية.
(5/8)
وذهب الحنابلة ومن وافقهم من أهل الحديث أن كلامه تعالى حروف وأصوات مقطعة وأنه قديم وهو الحق وقد نطق به السنة المطهرة، وقال جمهور المتكلمين: إن كلامه صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وأرادوا به الكلام النفسي. ولا توجد له رائحة في السنة المطهرة، وكذا ما ذكره الشيخ في التأويلات: أن موسى سمع صوتاً دالاً على كلام الله وهو ظاهر البطلان لمخالفة نص القرآن.
وقد سكت جمع من السلف والخلف عن الخوض في تأويل صفة كلام الله تعالى. وقالوا إنه متكلم بكلام قديم يليق بذاته بحرف وصوت لا يشبه كلام المخلوق ليس كمثله شيء وله المثل الأعلى.
ولما سمع موسى كلام ربه عز وجل اشتاق إلى رؤيته وسأله بقوله (قال ربي أرني) أي أرني نفسك قاله الزجاج وقال ابن عباس: أعطني وأرني فعل أمر مبني على حذف الياء، والمعنى مكني من رؤيتك وهيئني لها فإن فعلت بي ذلك (أنظر إليك) فتغاير الشرط والجزاء، وبالجملة فقد سأله النظر إليه اشتياقاً إلى رؤيته لما أسمعه كلامه. وسؤال موسى للرؤية يدل على أنها جائزة عنده في الجملة، ولو كانت مستحيلة عنده لما سألها.
(قال لن تراني) جملة مستأنفة لكونها جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل فما قال الله؟ والمعنى: لن تراني بعين فانية بالسؤال بل بعين باقية بالعطاء والنوال أو أنه لا يراه هذا الوقت الذي طلب رؤيته فيه أو أنه لا يرى ما دام الرائي حياً في دار الدنيا، وأما رؤيته في الآخرة فقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواتراً لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة.
ومنهج الحق واضح، ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه وأدرك عليه أباه وأهل بلده مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة
(5/9)
المطهرة يوقع في التعصب، والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً فبصيرته عمياء وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقّي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم.
وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع، فإنه صار بها باب الحق مرتجاً وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية منه.
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح
ولم يقل لن أُرى ليكون نفياً للجواز ولو لم يكن مرئياً لأخبر بأنه ليس بمرئي، إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان، وقد تمسك أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بظاهر هذه الآية وقالوا لن للتأبيد والدوام، وهذا غلط إذ ليس يشهد لما قالوه نص عن أهل اللغة العربية ولم يقل به أحد منهم.
والكتاب والسنة على خلاف ذلك فقد قال تعالى في حق اليهود (ولن يتمنوه أبداً) مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة كما قال تعالى (ونادوا يا مالك لِيقْض علينا ربك) وقوله (يا ليتها كانت القاضية) والسنة أكثر من أن تحمى وعبّر بلن تراني دون لن تنظر إليَّ مع أنه المطابق لقوله (أنظر إليك) لأن الرؤية هي المقصودة والنظر مقدمتها وقد يحصل دونها.
وأما المطابقة في الاستدراك بقوله (ولكن انظر إلى الجبل) فواضحة لأن المقصود منه تعظيم أمر الرؤية. ومعناه أنك لا تثبت لرؤيتي ولا يثبت لها ما هو أعظم منك جرماً وصلابة وقوة وهو الجبل فانظر إليه (فإن استقر مكانه) وبقي على حاله ولم يتزلزل عند رؤيتي له (فسوف تراني) أي تثبت لرؤيتي، وإن ضعف عن ذلك فأنت منه أضعف، ولا طاقة لك، فهذا الكلام بمنزلة
(5/10)
ضرب المثل لموسى عليه السلام بالجبل، وقيل هو من باب التعليق بالمحال، وعلى تسليم هذا فهو في الرؤية في الدنيا لما قدمنا.
وقد تمسك بهذه الآية كلا طائفتي المعتزلة والأشعرية، فالمعتزلة استدلوا بقوله لن تراني كما تقدم وبأمره بأن ينظر إلى الجبل. والأشعرية قالوا: إن تعليق الرؤية باستقرار الجبل يدل على أنها جائزة غير ممتنعة، ولا يخفاك أن الرؤية الأخروية هي بمعزل عن هذا كله والخلاف بينهم هو فيها لا في الرؤية في الدنيا فقد كان الخلاف فيها في زمن الصحابة وكلامهم فيها معروف.
(فلما تجلّى ربّه) تجلى معناه ظهر من قولك جلوت العروس أي أبرزتها وجلوت السيف: خلّصته من الصّدأ. وتجلى الشيء: انكشف، والمعنى فلما ظهر ربه، وقيل المتجلي هو أمره وقدرته، قاله قطرب وغيره (للجبل جعله دكاً) الدك مصدر بمعنى المفعول أي جعله مدكوكاً مدقوقاً فصار تراباً، هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة والدك والدق أخوان وهو تفتيت الشيء وسحقه، وقيل تسويته بالأرض.
وقرأ أهل الكوفة دكاء على التأنيث والجمع دكّاوات كحمراء وحمراوات وهي اسم للرابية الناشزة من الأرض أو للأرض المستوية. فالمعنى أن الجبل صار صغيراً كالرابية أو أرضاً مستوية.
قال الكسائي: الدوك الجبال العراض واحدها أدك والدكاوات جمع دكاء وهي روابٍ من طين ليست بالغلاظ، والدكادك ما التبد من الأرض فلم يرتفع وناقة دكّاء لا سنام لها، قال سهل بن سعد الساعدي: دكاً يعني مستوياً بالأرض وقيل تراباً، وقيل ساخ حتى وقع في البحر.
وقال عطية العوفي: صار رملاً هائلاً، وقال الكلبي: يعني كسر جبالاً صغاراً، قيل واسم الجبل زبير، قال الضحاك: أظهر الله من نوره مثل منخر
(5/11)
الثور، وقال ابن سلام وكعب: ما تجلى إلا مثل سم الخياط، وقال السدي: إلا قدر الخنصر.
وأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححاه وابن جرير وغيرهم عن أنس ابن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية جعله دكاً قال: " هكذا وأشار بأصبعيه ووضع إبهامه على أنملة الخنصر، وفي لفظ على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل وخر موسى صعقاً، وفي لفظ فساخ الجبل في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة (1).
وهذا الحديث صحيح على شرط مسلم، وقال ابن عباس: هذا الجبل هو الطور وما تجلى منه إلا قدر الخنصر جعله تراباً، وقال سهل بن سعد: أظهر نوراً قدر الدرهم من سبعين ألف حجاب، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لما تجلى الله للجبل صارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة، بالمدينة أحد وورقان ورضوى، وبمكة حراء وثبير وثور " (2)، أخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم في الحلية وابن أبي حاتم وغيرهم وفي لفظ سبعة أجبل في اليمن اثنان حضور وصبر.
(وخرَّ موسى) أي سقط، والخرور السقوط وقيده الراغب بسقوط يسمع له خرير، والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو (صعقاً) أي مغشياً عليه لهول ما رأى، مأخوذ من الصاعقة، والمعنى أنه صار حاله لما غشي عليه كحال من يغشى عليه عند إصابة الصاعقة له، يقال صعق الرجل فهو صعق ومصعوق إذا أصابته الصاعقة.
قال الكلبي: صعق موسى يوم الخميس وهو يوم عرفة وأعطى التوراة
_________
(1) ابن كثير 2/ 244.
(2) ابن كثير 2/ 245.
(5/12)
يوم الجمعة يوم النحر، قال ابن عباس: فلم يزل صعقاً ما شاء الله، وقال قتادة: ميتاً والأول أولى لقوله (فلما أفاق) والميت لا إفاقة له، إنما يقال أفاق من غشيته والإفاقة رجوع الفهم والعقل إلى الإنسان بعد جنون أو سكر أو نحوهما ومنه إفاقة المريض وهي رجوع قوته وإفاقة الحلب هي رجوع الدر إلى الضّرْع.
قال الواقدي: لما خر موسى صعقاً قالت الملائكة ما لابن عمران وسؤال الرؤية فلما أفاق وعرف أنه سأل أمراً عظيماً لا ينبغي له (قال سبحانك) أي أنزهك تنزيهاً من أن أسأل شيئاً لم تأذن لي به أو عن أن تُرى في الدنيا أو من النقائص كلها (تبت إليك) عن العود إلى مثل هذا السؤال.
قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية فإن الأنبياء معصومون وقيل هي توبته من قتله للقبطي، ذكره القشيري ولا وجه له في مثل هذا المقام، وقيل لما كانت الرؤية مخصوصة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فمنعها قال تبت إليك يعني من سؤال ما ليس لي، وما أبعده والأول أولى (1).
(وأنا أول المؤمنين) بك قبل قومي الموجودين في هذا العصر المعترفين بعظمتك وجلالك وبأنك لا ترى في الدنيا مع جوازها (1).
_________
(1) وفي الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تُخَيِّروا بين الأنبياء فإن الناس يَصعَقون يوم القيامة فأرفع رأسي فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أصعق فيمن صعق فأفاق قبلي أو حُوسب بصعقته الأولى ". أو قال " كفته صعقته الأولى ". وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال: إن الله تبارك وتعالى قسّم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله وسلم عليهما. ذكره القرطبي 7/ 280.
(5/13)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
(5/14)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
(قال يا موسى إني اصطفيتك) جملة مستأنفة والتي قبلها متضمنة لإكرام موسى واختصاصه بما اختصه الله به، والاصطفاء الاختيار والاجتباء أي اخترتك (على الناس) المعاصرين لك (برسالاتي) كأنه نظر إلى أن الرسالة هي على ضروب فجمع لاختلاف الأنواع وقرئ بالإفراد (وبكلامي) المراد به هنا التكليم، امتن الله سبحانه عليه بهذين النوعين العظيمين من أنواع الإكرام وهما الرسالة والتكليم من غير واسطة.
(فخذ ما آتيتك) أمره بأن يأخذ ما آتاه أي أعطاه من هذا الشرف الكريم والفضل الجسيم (وكن) أمره بأن يكون (من الشاكرين) على هذا العطاء العظيم والإكرام الجليل.
(5/14)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
(وكتبنا له في الألواح من كل شيء) مما يحتاج إليه بنو إسرائيل في دينهم ودنياهم، وقال السدي: من كل شيء أمروا به ونهوا عنه، وعن مجاهد مثله.
وقد اختلف السلف في المكتوب في الألواح اختلافاً كثيراً، ولا مانع من حمل المكتوب على جميع ذلك لعدم التنافي، وهذه الألواح هي التوراة قيل كانت من زمردة خضراء، وقيل من ياقوتة حمراء، وقيل من زبرجدة خضراء وقيل من صخرة صماء، وقيل من خشب نزلت من السماء.
وقد اختلف في عدد الألواح وفي مقدار طولها وعرضها، والألواح جمع
(5/14)
لوح وسمي لوحاً لكونه تلوح فيه المعاني، وأسند الله سبحانه الكتابة إلى نفسه تشريفاً للمكتوب في الألواح وهي مكتوبة بأمره سبحانه، وقيل هي كتابة خلقها الله في الألواح.
وفي الحديث " خلق الله تعالى آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده وفي لفظ غرس الفردوس بيده "، رواه الدارمي وابن النجار وغيرهما عن عبد الله بن الحرث والمحفوظ أنه موقوف وفيه أبو معشر متكلم فيه.
قال ابن عمر: خلق الله أربعة أشياء بيده العرش والقلم وعدن وآدم، وعن ميسرة أن الله لم يمس شيئاً من خلقه غير ثلاث خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده ونحوه عن كعب، رواهما الدارمي، وعن علي بن أبي طالب قال: كتب الله الألواح لموسى وهو يسمع صريف الأقلام في اللوح، وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعاً " أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه.
وعن سعيد بن جبير قال: كانوا يقولون كانت الألواح من ياقوتة حمراء، وأنا أقول إنما كانت من زمرد وكتابتها الذهب كتبها الله بيده فسمع أهل السموات صريف الأقلام.
أقول: رحم الله سعيداً ما كان أغناه عن هذا الذي قاله من جهة نفسه فمثله لا يقال بالرأي ولا بالحدس، والذي يغلب به الظن: أن كثيراً من السلف رحمهم الله كانوا يسألون اليهود عن هذه الأمور فلهذا اختلفت واضطربت الأقوال فيها فهذا يقول من خشب، وهذا يقول من ياقوت وهذا
(5/15)
يقول من زمرد، وهذا يقول من زبرجد، وهذا يقول من برد وهذا يقول من حجر (1).
(موعظة) لمن يتعظ بها من بني إسرائيل وغيرهم، وحقيقة الموعظة التذكير والتحذير مما يخاف عاقبته (وتفصيلاً لكل شيء) أي للأحكام المحتاجة إلى التفصيل وتبياناً لكل شيء من الأمر والنهي والحلال والحرام، قيل أنزل التوراة وهي سبعون وقر بعير لم يقرأها كلها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى.
(فخذها) أي الألواح وقيل: الضمير عائد إلى الرسالات أو إلى كل شيء أو إلى التوراة قيل: وهذا الأمر على إضمار القول أي قلنا له خذها (بقّوة) أي بجد ونشاط وقال ابن عباس: بحزم، وقال الربيع بن أنس: بطاعة وقال السدي: باجتهاد وقيل: بقوة قلب وصحة عزيمة ونية صادقة.
(وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) أي بأحسن ما فيها مما أجره أكثر من غيره وهو مثل قوله تعالى (اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) وقوله (فيتبعون أحسنه) ومن الأحسن الصبر على الغير والعفو عنه والعمل بالعزيمة دون الرخصة وبالفريضة دون النافلة وفعل المأمور وترك المنهى عنه وقال ابن عباس: يحلُّوا حلالها ويحرِّموا حرامها ويتدبروا أمثالها ويقفوا عند متشابهها وكان موسى أشدَّ عبادة من قومه فأمر بما لم يؤمروا به.
وقيل: الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح والأحسن الأخذ بالأشد والأشق على النفس، وقيل: أحسن بمعنى حسن وكلها حسن.
_________
(1) وأسند أبو نعيم الحافظ عن عمرو بن دينار قال: بلغني أن موسى بن عمران نبي الله صلى الله عليه وسلم صام أربعين ليلة فلما ألقى الألواح تكسرت، فصام مثلها فردت إليه.
(5/16)
(سأريكم دار الفاسقين) أي الكفار قاله ابن عباس وهي أرض مصر التي كانت لفرعون وقومه قاله عطية العوفي وقيل منازل عاد وثمود قال الكلبي: قيل هي جهنم قاله الحسن، وعطاء وقيل منازل الكفار من الجبابرة والعمالقة ليعتبروا بها قاله السدي، وقال قتادة: سأدخلكم الشام فأريكم منازل القرون الماضية، وقيل الدار الهلاك والمعنى سأريكم هلاك الفاسقين، وقد تقدم تحقيق معنى الفسق، وقال مجاهد: سأريكم مصيرهم في الآخرة وقال قتادة: منازلهم في الدنيا.
ومعنى الإراءة: الإدخال بطريق الإرث، ويؤيده قراءة من قرأ (سأورثكم) بالثاء المثلثة كما في قوله (وأورثنا) القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها، قاله أبو السعود، وهذه القراءة ترد القول بأنها جهنم.
والعجب من السيوطي بعد هذا الخلاف المقرر كيف يرده بدعوى التصحيف والتحريف فإنه قد ذكر في حسن المحاضرة ما نصه:
اشتهر على ألسنة كثير من الناس أنها مصر، وقد أخرج ابن الصلاح وغيره من الحفاظ أن ذلك خلط نشأ عن تصحيف، وإنما الوارد عن مجاهد وغيره من مفسري السلف في قوله تعالى (سأريكم) الخ قال مصيرهم فصحفت انتهى، وجمهور المفسرين على أن بني إسرائيل بعد ذهابهم إلى الشام رجعوا إلى مصر وملكوا أرض القبط وأموالهم وبه قال القرطبي والكرخي وهو قول الحسن وقيل إنهم لم يعودوا إلى مصر، وهو قول ضعيف جداً.
(5/17)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
(5/18)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
(سأصرف عن آياتي الذين يتكبَّرون في الأرض) قيل معناه سأمنعهم فهم كتابي أي أنزع عنهم فهم القرآن، قاله سفيان بن عيينة، وقال السدي: عن أن يتفكروا في آياتي، وقال ابن جريج عن التفكر في خلق السموات والأرض والآيات التي فيهما، وقيل سأصرفهم عن الإيمان بها والتصديق بما فيها وقيل عن نفعها مجازاة على تكبرهم كما في قوله (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) وقيل سأطبع على قلوبهم حتى لا يتفكروا فيها ولا يعتبروا بها.
واختلف في تفسير الآيات فقيل هي المعجزات التسع التي أعطاها الله لموسى. وقيل: الكتب المنزلة وقيل خلق العالم ولا مانع من حمل الآيات على جميع ذلك، وحمل الصرف على جميع المعاني المذكورة، والتكبر: إظهار كبر النفس على غيرها فهو صفة ذم في حق العباد أي يفتعلون الكبر ويرون أنهّم أفضل من غيرهم فلذلك قال (بغير الحق) أي يتكبرون بما ليس بحق أو متلبسين بغير الحق.
(وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) أي سأصرف عن آياتي المتكبرين التاركين للإيمان بما يرونه من الآيات ويدخل تحت كل آية الآيات المنزلة والآيات التكوينية والمعجزات أي لا يؤمنون بآية من الآيات كائنة ما كانت.
(وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً) معطوفة على ما قبلها داخلة
(5/18)
في حكمه وكذلك (وإن يروا سبيل الغي يتَّخذوه سبيلاً) والمعنى: أنهم إذا وجدوا سبيلاً من سبل الرشد يعني طريق الحق والهدى والسداد والصواب تركوه وتجنبوه، وإن رأوا سبيلاً من سبل الغي والضلال سلكوه واختاروه لأنفسهم.
قال أبو عبيدة: فرق أبو عمرو بين الرُّشد والرَّشد فقال الرشد الصلاح والرَّشد في الدين وقال النحاس: سيبويه يذهب إلى أن الرُّشد والرَّشد كالسُّخط والسَّخط وهما لغتان وأصل الرُّشْد في اللغة أن يظفر الإنسان بما يريد وهو ضد الخيبة.
(ذلك) إشارة إلى ما ذكر من تكبرهم وعدم الإيمان بالآيات وتجنب سبيل الرشد وسلوك سبيل الغي وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه (بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين) أي بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها.
(5/19)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
(والذين كذبوا بآياتنا ولقاء) الدار (الآخرة) يعني لقاءهم لها أو لقاءهم ما وعدوا به فيها ذكرهما الزمخشري (حبطت أعمالهم) الحباط البطلان أي بطل ما عملوه في الدنيا مما صورته صورة الطاعة كالصدقة والصلة وإن كانوا في حال كفرهم لا طاعات لهم كأن لم تكن، ويحتمل أن يراد: أنها تبطل بعد ما كانت مرجوة النفع على تقدير إسلامهم لما في الحديث الصحيح [أسلمت على ما أسلفت من خير].
(هل يجزون إلا ما) أي بما (كانوا يعملون) أو على ما كانوا أو جزاء ما كانوا، قدره الواحدي وقال هنا: لا بد منه قال السمين وهو واضح، لأن نفس ما كانوا يعملونه لا يجزونه إنما يجزون بمقابلة أعمالهم من الكفر بالله والتكذيب بآياته وتنكب سبيل الحق وسلوك سبيل الغي.
(5/19)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
(5/20)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
(واتخذ قوم موسى من بعده) أي من بعد خروجه إلى الطور وذهابه إلى المناجاة (من) للتبعيض أو للابتداء أو للبيان (حليّهم) التي استعاروها من قوم فرعون للعيد ليتزينوا به حين هموا بالخروج من مصر، وإضافتها إليهم لأنها كانت في أيديهم أو لأنها بقيت عندهم إلى أن هلك فرعون وقومه فصارت ملكاً لهم، والحلي بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء جمع حلى وبه قرأ أهل المدينة وأهل البصرة.
وقرأ أهل الكوفة وحمزة والكسائي إلا عاصماً بكسر الحاء بالاتباع أي باتباع الحاء للام كدلي وهو ظاهر، وقرأ يعقوب بفتح الحاء وتخفيف الياء قال النحاس: جمع حَلي وحَليّ وحُلى مثل ثَدي وثَديّ وثُدى.
(عجلاً) أي اتخذوا عجلاً إلهاً و (جسداً) بدل من عجلاً أو وصف له يعني: اتخذوا من ذلك الحلي وهو الذهب والفضة عجلاً (له خُوار) أي صوت البقر، هذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة وجمهور المفسرين، والخوار: الصياح يقال: خار يخور خواراً إذا صاح، وكذلك خار يخار ونسب اتخاذ العجل إلى القوم جميعاً مع أنه اتخذه السامري وحده لكونه واحداً منهم وهم راضون بفعله.
روي أنه لما وعد موسى قومه ثلاثين ليلة فأبطأ عليهم في العشر المزيدة قال السامري لبني إسرائيل وكان مطاعاً فيهم: إن معكم حلياً من حلى آل فرعون الذي استعرتموه منهم لتتزينوا به في العيد وخرجتم وهو معكم، وقد
(5/20)
أغرق الله أهله من القبط فهاتوه فدفعوه إليه فاتخذ منه العجل المذكور.
قال قتادة: فجعله جسداً لحماً ودماً له خوار قال عكرمة: صوت، وقيل كان جسداً لا روح فيه وكان يسمع منه صوت من خفق الريح والأول أولى لأنه كان يخور قال وهب: كان يسمع منه الحوار ولا يتحرك، وقال السدي: كان يخور ويمشي وقرأ علي وأبو السماك له جؤار بالجيم والهمزة وهو الصوت الشديد.
(ألم يروا أنه لا يكلمهم) الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي: ألم يعتبروا بأن هذا الذي اتخذوه إلهاً لا يقدر على تكليمهم فضلاً عن أن يقدر على جلب نفع لهم أو دفع ضر عنهم (ولا يهديهم سبيلاً) أي طريقاً واضحة يسلكونها وعلى كلا التقديرين لا يصلح لأن يعبد (اتخذوه) إلهاً، وأعيد تأكيداً (وكانوا ظالمين) لأنفسهم في اتخاذه إلهاً أو في كل شيء ومن جملة ذلك الاتخاذ.
(5/21)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
(ولماَّ سقط في أيديهم) أي ندموا وتحيروا بعد عود موسى من الميقات، يقال للنادم المتحير: قد سقط في يده قال الأخفش: يقال سقط وأسقط، ونقله أيضاً الفراء والزجاج إلا أن الفراء قال: سقط أي الثلاثي أكثر وأجود.
وهذه اللفظة تستعمل في الندم والتحير، وقد اضطربت أقوال أهل اللغة في أصلها، قال الواحدي: قد بان من أقوال المفسرين وأهل اللغة أن سقط في يده ندم وأنه يستعمل في صفة النادم، فأما القول في أصله ومأخذه فلم أر لأحد من أئمة اللغة شيئاً أرتضيه فيه إلا ما ذكره الزجاج فإنه قال: إنه بمعنى ندموا.
وقال أبو عبيدة: يقال لمن ندم على أمر وعجز عنه سقط في يده، وقال الزمخشري: معناه لما اشتد ندمهم، ومن قال: سقط على البناء للفاعل فالمعنى عنده: سقط الندم وأصله أن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غماً
(5/21)
فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه قد وقع فيها، وفي الجمل سقط فعل ماض مبني للمجهول وأصله سقطت أفواههم على أيديهم، فـ (في) بمعنى (على) وذلك من شدة الندم فإن العادة أن الإنسان إذا ندم بقلبه على شيء عض بفمه على أصابعه فسقوط الأفواه على الأيدي لازم للندم فأطلق اسم اللازم وأريد الملزوم على سبيل الكناية.
وهذا التركيب لم تعرفه العرب إلا بعد نزول القرآن، ولم يوجد ذلك في أشعارهم والسقوط: عبارة عن النزول من أعلى إلى أسفل، وقال الأزهري والزجاج والنحاس وغيرهم: معنى سقط في أيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم كما يقال حصل في يده مكروه وإن كان محالاً أن يكون في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب والنفس بما يحصل في اليد لأن مباشرة الأشياء في الغالب باليد، قال تعالى (ذلك بما قدمت يداك).
وأيضاً الندم وإن حلَّ القلب فأثره يظهر في اليد لأن النادم يعض يده ويضرب إحدى يديه على الأخرى، قال تعالى (فأصبح يقلب كفّيه على ما أنفق فيها) ومنه: (ويوم يعض الظالم على يديه) أي من الندم وأيضاً النادم يضع ذقنه في يده.
(ورأوا) أي تبينوا وتيقنوا (أنهم قد ضلوا) باتخاذهم العجل وأنهم قد ابتلوا بمعصية الله سبحانه في عبادتهم العجل (قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكوننَّ من الخاسرين) وفي هذا الكلام منهم ما يفيد الاستغاثة بالله والتضرع والابتهال في السؤال والاعتراف بعظم ما أقدموا عليه من الذنب، والندم على ما صدر منهم والرَّغب إلى الله في إقالة عثرتهم واعترافهم على أنفسهم بالخسران إن لم يغفر لهم ربهم ويتب عليهم ويتجاوز عنهم ويرحمهم، وسيأتي في سورة طه إن شاء الله ما يدل على أن هذا الكلام المحكي عنهم هنا وقع بعد رجوع موسى، وإنما قدم هنا على رجوعه لقصد حكاية ما صدر عنهم من القول والفعل في موضع واحد.
(5/22)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
(5/23)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
(ولماّ رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً) هذا بيان لما وقع من موسى بعد رجوعه، والأسف: شديد الغضب قاله محمد بن كعب، وقيل هو منزلة وراء الغضب أشد منه، قاله أبو الدرداء، وقال ابن عباس والسدي: الأسف الحزن والأسيف الحزين، قال الواحدي: والقولان متقاربان لأن الغضب من الحزن والحزن من الغضب، فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ما تكره ممن هو فوقك حزنت فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزناً والأخرى غضباً يقال: هو أسف وأسيف وأسفان وأسوف.
قال ابن جرير الطبري: أخبره الله قبل رجوعه بأنهم قد فتنوا، وأن السّامري قد أضلهم فلذلك رجع وهو غضبان أسفاً.
(قال بئسما خلفتموني من بعدي) هذ ذم من موسى لقومه أي بئس العمل ما عملتموه من بعد غيبتي عنكم وفراقي إياكم، يقال: خلفه بخير، وخلفه بشر، استنكر عليهم ما فعلوه وذمهم لكونهم قد شاهدوا من الآيات ما يوجب بعضه الإنزجار، والإيمان بالله وحده، ولكن هذا شأن بني إسرائيل في تلوُّن حالهم واضطراب أفعالهم.
ثم قال منكراً عليهم (أعجلتم أمر ربكم) العجلة التقدم بالشيء قبل وقته يقال: عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل حملته على العجلة، ولذلك صارت مذمومة والسرعة غير مذمومة لأن معناها عمل الشيء في أول وقته،
(5/23)
والمعنى أعجلتم عن انتظار أمر ربكم أي ميعاده الذي وعدنيه وهو الأربعون ففعلتم ما فعلتم، قاله الحسن وقيل معناه تعجلتم سخط ربكم وقيل معناه أعجلتم وأسبقتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم، قاله الكلبي، وقيل معنى أعجلتم تركتم والأول أولى.
(وألقى الألواح) التي فيها التوراة أي طرحها لما اعتراه من شدة الغضب والأسف وفرط الزجر حمية للدين حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل، قال ابن عباس: لما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفعت إلا سدسها.
وعنه كما أخرج أبو الشيخ رفع الله منها ستة أسباعها وبقي سبع، وقال مجاهد: لما ألقاها موسى ذهب التفصيل يعني أخبار الغيب، وبقي الهدى أي ما فيه المواعظ والأحكام، عن ابن جريج قال: كانت تسعة رفع منها لوحان وبقي سبعة وفي زاده: المراد بإلقائها أنه وضعها في موضع ليتفرغ لما قصده من مكالمة قومه لا رغبة عنها فلما عاد إليها أخذها بعينها.
(وأخذ برأس أخيه) هارون أو بشعر رأسه ولحيته حال كونه (يجره) إليه من شدة غضبه لا هواناً به قال ابن الأنباري: مد يده إلى رأسه لشدة وجده عليه وفعل به ذلك لكونه لم ينكر على السامري ولا غير ما رآه من عبادة بني إسرائيل للعجل.
(قال) هارون معتذراً منه يا (ابن أم) إنما قال هذا مع كونه أخاه لأبيه وأمه لأنها كلمة لين ورفق وعطف، ولأن حق الأم أعظم وأحق بالمراعاة وقد قاست فيه المخاوف والشدائد مع أنها كما قيل كانت مؤمنة، وقال الزجاج: قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه، قال أبو السعود: وكان أكبر منه بثلاث سنين وكان حمولاً ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل.
(5/24)
(إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) أي إني لم أطق تغيير ما فعلوه لهذين الأمرين استضعافهم لي ومقاربتهم لقتلي، مع إني لم آل جهداً في كفهم بالوعظ والإنذار.
(فلا تشمت بي الأعداء) الشماتة: أصلها الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك يقال: شمت فلان بفلان إذا سر بمكروه نزل به، والمعنى لا تسر الأعداء بما تفعل بي من المكروه، وفي المصباح شمت به يشمت من باب سلم إذا فرح بمصيبة نزلت به، والاسم الشماتة وأشمت الله العدو به ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وجهد البلاء وشماتة الأعداء "، وهو في الصحيح (1).
قيل: والمعنى لا تفعل بي ما يكون سبباً للشماتة منهم، وقال مجاهد ومالك ابن دينار: لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله بي، وقال ابن جني: والمعنى فلا تشمت بي أنت يارب، وما أبعد هذا المعنى عن الصواب، وأبعد تأويلها عن وجوه الإعراب.
(ولا تجعلني مع القوم الظَّالمين) أي لا تجعلني بغضبك في عداد القوم الذين عبدوا العجل أو لا تعتقد أني منهم مع براءتي منهم ومن ظلمهم.
_________
(1) مسلم 2707 - البخاري 2401.
(5/25)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
(قال رب اغفر لي ولأخي) طلب المغفرة له أولاً ولأخيه ثانياً ليزيل عن أخيه ما خافه من الشماتة فكأنه قد ندم مما فعله بأخيه، وأظهر أنه لا وجه له وطلب المغفرة من الله مما فرط منه في جانبه ثم طلب المغفرة لأخيه إن كان قد وقع منه تقصير فيما يجب عليه من الإنكار عليهم وتغيير ما وقع منهم (وأدخلنا في رحمتك) التي وسعت كل شيء (وأنت أرحم الراحمين) فيه ترغيب في الدعاء لأن من هو أرحم الراحمين تؤمل منه الرحمة، وفيه تقوية لطمع الداعي في نجاح طلبته.
(5/25)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
(5/26)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
(إن الذين اتَّخذوا العجل) إلهاً عبدوه من دون الله (سينالهم غضب من ربهم) الغضب ما نزل بهم من العقوبة في الدنيا بقتل أنفسهم، وما سينزل بهم في الآخرة من العذاب (وذلَّة في الحياة الدنيا) الذلة هي التي ضربها الله عليهم بقوله: (ضربت عليهم الذّلة) وقيل هي إخراجهم من ديارهم، والأولى أن يقيدَّ الغضب والذلة بالدنيا لقوله: (في الحياة الدنيا) وإن ذلك مختص بالمتخذين للعجل إلهاً لا لمن بعدهم من ذراريهم، ومجرد ما أمروا به من قتل أنفسهم هو غضب من الله عليهم وبه يصيرون أذلاء وكذلك خروجهم من ديارهم هو من غضب الله عليهم وبه يصيرون أذلاء.
وأما ما نال ذراريهم من الذل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال ابن عباس وعطية العوفي فلا يصح تفسير ما في الآية به إلا إذا تعذر حمل الآية على المعنى الحقيقي، وهو لم يتعذر هنا، وقال ابن جريج: إن هذا الغضب والذلة لمن مات منهم على عبادة العجل ولمن فر من القتل، وهذا الذي قاله وإن كان له وجه لكن جميع المفسرين على خلاف ذلك.
(وكذلك) أي مثل ما فعلنا بهؤلاء (نجزي المفترين) أن نفعل بهم، عن أيوب قال هو جزاء كل مفتر يكون إلى يوم القيامة أن يذله الله، وقال سفيان بن عيينة: هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة، وقال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا وهو يجد ما فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية قال: والمبتدع مفتر في دين الله اهـ.
(5/26)
والافتراء الكذب، فمن افترى على الله سيناله غضب وذلة في الحياة الدنيا وإن لم يكن بنفس ما عوقب به هؤلاء، بل المراد ما يصدق عليه أنه من غضب الله سبحانه وإن فيه ذلة بأي نوع كان، ولا فرية أعظم من قول السامري: هذا إلهكم وإله موسى.
(5/27)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
(والذين عملوا السَّيئات) أي سيئة كانت حتى الكفر وما دونه ومن جملتها عبادة العجل (ثم تابوا من بعدها) أي من بعد عملها (وآمنوا) بالله (إن ربك) أيها التائب أو يا محمد (من بعدها) أي من بعد هذه التوبة أو من بعد عمل هذه السيئات التي قد تاب عنها فاعلها وآمن بالله (لغفور رحيم) أي كثير الغفران لذنوب عباده وكثير الرحمة لهم.
وفي الآية دليل على أن السيئات بأسرها صغيرها وكبيرها مشتركة في التوبة وأن الله تعالى يغفرها جميعاً بفضله ورحمته، وهذا من أعظم البشائر للمذنبين التائبين.
(5/27)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
(ولما سكت) وقرئ أسكت (عن موسى الغضب) أصل السكوت السكون والإمساك عن الشيء يقال جرى الوادي ثلاثاً ثم سكت أي مسك وسكن عن الجري، وقيل هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وألق الألواح وجر برأس أخيك فترك الإغراء وسكت.
وقيل هذا الكلام فيه قلب، والأصل سكت موسى عن الغضب كقولهم أدخلت الأصبع الخاتم والخاتم الأصبع، وأدخلت القلنسوة رأسي، ورأسي القلنسوة، والأول أولى، وبه قال أهل اللغة والتفسير وفيه مبالغة وبلاغة من حيث إنه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالآمر به والمغري عليه، حتى عبر عن سكونه بالسكوت.
(أخذ الألواح) التي ألقاها عند الغضب، قال الرازي: وظاهر هذا
(5/27)
يدل على أن الألواح لم تتكسر ولم يرفع من التوراة شيء (وفي نسختها) فعله بمعنى مفعولة كالخطبة، والنسخ: نقل ما في كتاب إلى كتاب آخر، ويقال للأصل الذي كان النقل منه نسخة وللمنقول نسخة أيضاً، قال القشيري: والمعنى أي فيما نسخ من الألواح المتكسرة ونقل إلى الألواح الجديدة، وقيل المعنى وفيما نسخ له منها أي من اللوح المحفوظ وقيل المعنى وفيما كتب له فيها فلا يحتاج إلى أصل ينقل عنه، وهذا كما يقال انسخ ما يقول فلان أي اثبته في كتابك.
(هدى) أي ما يهتدون به من الأحكام (ورحمة) أي ما يحصل لهم من الله عند عملهم بما فيها من الرحمة الواسعة، قال مجاهد: ولم يذكر التفصيل ههنا وقال ابن عباس: هدى من الضلالة ورحمة من العذاب (للَّذين هم) أي كائنة لهم أو لأجلهم واللام في (لربهم) للتقوية للفعل، وقد صرح الكسائي بأنها زائدة وقال الأخفش: هي لام الأجل، وقال المبرد: التقدير للذين هم رهبتهم لربهم (يرهبون) أي يخافون منه سبحانه (1).
_________
(1) قيل: هذا من تمام كلام موسى عليه السلام؛ أخبر الله عز وجل به عنه، وتمّ الكلام. ثم قال الله تعالى: " وَكَذَلِكَ نجْزِي اْلمُفْتَرينَ "، وكان هذا القول من موسى عليه السلام قبل أن يتوب القوم بقتلهم أنفسهم، فإنهم لما تابوا وعفا الله عنهم بعد أن جرى القتل العظيم- كما تقدم بيانه في " البقرة " أجرهم أن من مات قتيلاً فهو شهيد، ومن بقي حياً فهو مغفور له. وقيل: كان ثم طائفة أشربوا في قلوبهم العجل، أي حبه، فلم يتوبوا، فهم المعنيون بقوله: " إن الذين اتخذوا العجل ". وقيل: أراد من مات منهم قبل رجوع موسى من الميقات، وقيل: أراد أولادهم. وهو ما جرى على قُريظة والنضير، أي سينال أولادهم. والله أعلم. (وكذلك نجزي المفترين) أي مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين. ذكره القرطبي في 7/ 292.
(5/28)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
(5/29)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
(واختار موسى قومه سبعين رجلاً) هذا شروع في بيان ما كان من موسى ومن القوم الذين اختارهم، والأختيار افتعال من الخيار، يقال اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره، والمعنى اختار من قومه فحذف كلمة من وذلك شائع في العربية لدلالة الكلام عليه قيل اختار من كل سبط من قومه ستة نفر فكانوا اثنين وسبعين، فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاحنوا فقال لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وذهب معه الباقون.
وروي أنه لم يصب إلا ستين شيخاً فأوحى الله إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً فأمرهم موسى أن يصوموا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سيناء ذكره الخطيب وقيل غير ذلك.
(لميقاتنا) أي للوقت الذي وقتناه له بعد أن وقع من قومه ما وقع، والميقات الكلام الذي تقدم ذكره لأن الله أمره أن يأتي إلى الطور في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه سبحانه من عبادة العجل، كذا قيل وقال مجاهد: المعنى لتمام الموعد، وقيل هذا الميقات غير ميقات الكلام السابق في قوله: (وواعدنا موسى) فهذا بعد ميقات الكلام ولم يبينوا مدة هذا.
وقال ابن عباس: أمره الله أن يختار سبعين رجلاً فاختارهم وبرز بهم
(5/29)
ليدعو ربهم فكان فيما دعوا لله أن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعط أحداً من قبلنا ولا تعطه أحداً بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة كما قال: (فلما أخذتهم الرجفة) هي في اللغة الزلزلة الشديدة قيل إنهم زلزلوا حتى ماتوا يوماً وليلة وقال وهب لم تكن موتاً ولكن أخذتهم الرِّعدة وقلقوا ورجفوا حتى كادت أن تبين مفاصلهم.
ومعظم الروايات أنهم ماتوا قال مجاهد: ماتوا ثم أحياهم الله تعالى وسبب أخذ الرجفة لهم ما حكى الله عنهم من قولهم: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة) على ما تقدم في البقرة وقيل هؤلاء السبعون غير من قالوا أرنا الله جهرة بل أخذتهم الرجفة بسبب عدم انتهائهم عن عبادة العجل، وقيل إنهم قوم لم يرضوا بعبادة العجل ولا نهوا السامري ومن معه عن عبادته فأخذتهم الرجفة بسبب سكوتهم.
فلما رأى موسى أخذ الرجفة لهم (قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل) المعنى لو شئت إهلاكنا لأهلكتنا بذنوبنا قبل هذا الوقت وقال ذلك اعترافاً منه عليه السلام بالذنب وتلهفاً على ما فرط من قومه (وإياي) معهم وذلك أنه خاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين ولم يصدقوا بأنهم ماتوا.
(أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) الاستفهام للجحد أي لست ممن يفعل ذلك قاله ثقة منه برحمة الله، والمقصود منه الاستعطاف والتضرع، قاله ابن الأنباري وقيل معناه الدعاء والطلب أي لا تهلكنا قاله المبرد، وقيل قد علم موسى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره ولكنه كقول عيسى " عليه السلام إن تعذبهم فإنهم عبادك وقيل المراد بالسفهاء السبعون، والمعنى أتهلك بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء في قولهم أرنا الله جهرة، وقيل المراد بهم السامري وأصحابه.
(إن هي) قال الواحدي: الكناية في هي تعود إلى الفتنة كما تقول إن
(5/30)
هو إلا زيد (إلا فتنتك) التي تختبر بها من شئت وتمتحن بها من أردت، ولعله عليه السلام استفاد هذا من قوله سبحانه: (إنا قد فتنا قومك من بعدك) قال أبو العالية: بليَّتك وقال ابن عباس: مشيئتك (تضل بها) أي بهذه الفتنة (من تشاء) من عبادك (وتهدي) بها (من تشاء) منهم ومثله (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) قال الواحدي: وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر.
ثم رجع إلى الاستعطاف والدعاء فقال: (أنت ولينا) أي المتولي لأمورنا وهذا يفيد الحصر أي لا ناصر ولا حافظ إلا أنت (فاغفر لنا) ما أذنبناه (وارحمنا) برحمتك التي وسعت كل شيء (وأنت خير الغافرين) للذنوب.
(5/31)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
(واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة) بتوفيقنا للأعمال الصالحة أو تفضل علينا بإفاضة النعم من الحياة الطيبة والعافية وسعة الرزق (و) اكتب لنا (في الآخرة) الجنة بما تجازينا به أو بما تتفضل به علينا من النعيم في الآخرة (إنا هدنا) تعليل لما قبلها من سؤال المغفرة والرحمة والحسنة في الدنيا وفي الآخرة أي إنا تبنا (إليك) ورجعنا عن الغواية التي وقعت من بني إسرائيل، والهود التوبة، وقد تقدم في البقرة وبه قال جميع المفسرين قيل وبه سميت اليهود، وكان اسم مدح قبل نسخ شريعتهم ثم صار اسم ذم وهو لازم لهم، وأصل الهود الرجوع برفق والمهادنة المصالحة قال عكرمة فكتب الرحمة يومئذ لهذه الأمة.
وقال أبو وجزة السعدي: وكان من أعلم الناس بالعربية: لا والله ما أعلمها في كلام العرب هدنا قيل فكيف؟ قال: هدنا بكسر الهاء يقول ملنا.
(قال عذابي أصيب به من أشاء) قيل المراد بالعذاب هنا الرجفة، وقيل
(5/31)
أمره سبحانه لهم بأن يقتلوا أنفسهم أي ليس هذا إليك يا موسى بل ما شئت كان وما لم أشأ لم يكن، والظاهر أن العذاب هنا يندرج تحته كل عذاب ويدخل فيه عذاب هؤلاء دخولاً أولياً، وقيل المراد من أشاء من المستحقين للعذاب أو من أشاء أن أضله وأسلبه التوفيق ليس لأحد عليّ اعتراض لأن الكل ملكي وعبيدي.
(ورحمتي وسعت كل شيء) من المكلفين وغيرهم، قيل هذا من العام الذي أريد به الخاص فرحمة الله عمت البر والفاجر في الدنيا، وهي للمؤمنين خاصة في الآخرة، قاله الحسن وقتادة، وقال جمع من المفسرين: لما نزلت هذه الآية تطاول إبليس إليها قال وأنا من ذلك الشيء فنزعها الله من إبليس قاله السدي وابن جريج، وعن قتادة نحوه فقال: (فسأكتبها للذين يتقون) الذنوب أو الشرك قاله ابن عباس (ويؤتون الزكاة) المفروضة عليهم (والذين هم بآياتنا يؤمنون) أي يصدقون ويذعنون لها، فأيس إبليس، وقالت اليهود نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا فنزعها الله من اليهود وأثبتها لهذه الأمة.
وأخرج مسلم وغيره عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن لله مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق وبها تعطف الوحوش على أولادها وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة " (1)، وعن ابن عباس قال سأل موسى ربه مسألة فأعطاها محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأعطى محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كل شيء سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربه في هذه الآية.
_________
(1) وفي رواية لمسلم: إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس، والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة مسلم (2752) البخاري 2320.
وفي رواية خلق الله مائة رحمة، فوضع واحدة بين خلقه وخبأ عنده مائة إلا واحدة.
(5/32)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
ثم بين سبحانه هؤلاء الذين كتب لهم هذه الرحمة ببيان أوضح مما قبله وأصرح فقال: (الذين يتبعون) قال الرازي: هم من بني إسرائيل خاصة وقال الجمهور: هم جميع الأمة سواء كانوا منهم أو من غيرهم (الرسول النبي الأمي) هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإجماع المفسرين فخرجت اليهود والنصارى وسائر الملل، والأمي إما نسبة إلى الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب ولا تقرأ، وهم العرب قاله الزجاج أو نسبة إلى الأم والمعنى أنه باق على حالته التي ولد عليها لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وقيل نسبة إلى أم القرى، وهي مكة والأول أولى.
وكونه أمياً من أكبر معجزاته وأعظمها، قال السيد الغبريني المقري شارح البردة: إن كونه أمياً معجزة له كما قرروه حتى لا يرتاب أحد في كلام الله، يرد عليه إنه لو ثم قيل عليه لم خلق أفصح الناس ولم يخلق غير فصيح حتى يعلم أن ما يتلوه من الكلام المعجز ببلاغته ليس كلامه.
قال الشهاب في الريحانة قوله هذا ليس بشيء لأن الامية سابقة في أكثر فصحاء العرب وهم في غناء عن الكتابة، وأما عدم الفصاحة فلكنة وعيب عظيم منزه عنه عال مقامه، وطاهر فطرته وجوهر جبلته، وهذا البحث مما لا تراه في غير كتابنا هذا.
وقال في حاشية البيضاوي قيل إنه منسوب إلى الأم بفتح الهمزة بمعنى
(5/33)
القصد لأنه المقصود وضم الهمزة من تغيير النسب، ويؤيده قراءة يعقوب بفتح الهمزة انتهى.
قال أبو السعود: أي الذي لم يمارس القراءة والكتابة وقد جمع مع ذلك علوم الأولين والآخرين انتهى، وهل صدر عنه ذلك في كتابه صلح الحديبية كما هو ظاهر الحديث المشهور أو إنه لم يكتب وإنما أسند إليه مجازاً، وقيل إنه صدر عنه ذلك على سبيل المعجزة وتفصيله في فتح الباري.
(الذي يجدونه) يعني اليهود والنصارى أي يجدون نعته (مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل) وهما مرجعهم في الدين وهذا الكلام منه سبحانه مع موسى هو قبل نزول الإنجيل فهو من باب الإخبار بما سيكون.
قال الرازي: وهذا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوب فيهما لأن ذلك لو لم يكن مكتوباً لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله وينفر الناس عن قبول قوله، فلما قال ذلك دل هذا على أن ذلك المنعت كان مذكوراً في التوراة والإنجيل، وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته انتهى وسيأتي الكلام على ذلك في آخر هذه الآية إن شاء الله تعالى مستوفى.
أخرج ابن سعد والبخاري وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن عطاء ابن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً.
وروي نحو هذا مع اختلاف في بعض الألفاظ وزيادة ونقص في بعض
(5/34)
عن جماعة، وذكر الخميسي في تاريخه أن لفظ محمد مذكور في التوراة باللغة السريانية بلفظ المنحمنا، ومعنى هذا اللفظ في تلك اللغة هو معنى لفظ محمد وهو الذي يحمده الناس كثيراً وذكر أن لفظ أحمد مذكور في الإنجيل بهذا اللفظ العربي الذي هو أحمد.
(يأمرهم بالمعروف) أي بكل ما تعرفه القلوب ولا تنكره من الأشياء التي هي من مكارم الأخلاق (وينهاهم عن المنكر) أي عما تنكره القلوب ولا تعرفه وهو ما كان من مساوئ الأخلاق، قال عطاء: يأمرهم بخلع الأنداد وصلة الأرحام، وينهاهم عن عبادة الأصنام وقطع الأرحام.
(ويحل لهم الطيبات) أي المستلذات التي تستطيبها الأنفس، فتكون الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل، وقيل ما حرم عليهم من الأشياء التي حرمت عليهم بسبب ذنوبهم من لحوم الإبل وشحوم الغنم والمعز والبقر، وقيل ما كانوا يحرمونه على أنفسهم في الجاهلية من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي.
(ويحرم عليهم الخبائث) أي المستخبثات كالحشرات والخنازير والربا والرشوة وقال ابن عباس يريد الميتة والدم ولحم الخنزير وقيل هو كل ما يستخبثه الطبع أو تستقذره النفس فإن الأصل في المضار الحرمة إلا ما له دليل متصل بالحل.
(ويضع عنهم إصرهم) الإصر الثقل أي يضع عنهم التكاليف الشاقة الثقيلة أو العهد الذي أخذ عليهم أن يعملوا بما في التوراة من الأحكام وقد تقدم بيانه في البقرة (والأغلال التي كانت عليهم) الأغلال مستعارة للتكاليف الشاقة التي كانوا قد كلفوها، وذلك مثل قتل النفس في التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض النجاسة عن البدن والثوب بالمقراض، وتعيين القصاص في القتل وتحريم أخذ الدية وترك العمل في السبت، وإن صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس إلى غير ذلك.
(5/35)
(فالذين آمنوا به) أي بمحمد - صلى الله عليه وسلم - واتبعوه فيما جاء به من الشرائع (وعزروه) أي عظموه ووقروه قاله الأخفش وقيل معناه منعوه من عدوه وأصل العزر المنع (ونصروه) أي قاموا بنصره على من يعاديه (واتبعوا النور الذي أنزل معه) أي القرآن الذي أنزل عليه مع نبوته وقيل المعنى واتبعوا القرآن المنزل إليه مع اتباعه بالعمل بسنته مما يأمر به وينهي عنه أو اتبعوا القرآن مصاحبين له في اتباعه.
(أولئك) إشارة إلى المتصفين بهذه الأوصاف (هم المفلحون) أي الناجون الفائزون بالخير والفلاح والهداية لا غيرهم من الأمم.
وهذه الآية فيها دلالة واضحة وحجة نيرة على كون ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثابتاً في الكتب القديمة، فلنذكر ههنا ما يوافقها منها فأقول.
قال أهل الكتاب يجب على النبي أن يكون منصوصاً عليه فيما قبله من الكتب، ومحمد لم يكن منصوصاً عليه فليس بنبي، أما الصغرى فلأنه لو لم يكن منصوصاً عليه لأشكل على الأمة معرفته، وأما الكبرى فلعدم وجود النص.
والجواب عنه بمنع الصغرى لأنه لا يجب أن يكون منصوصاً عليه في سجل من قبله لأن شرط صدق النبوة الإتيان بالخارقة، ولو كان شرطه النص لامتنع الاستعجاز وعليه أهل التحقيق فيبطل القياس، وبمنع الكبرى لأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قد نص عليه موسى ويوشع وداود وسليمان وأشعيا وارميا وملاخيا وزكريا وعيسى عليهم السلام فيكون نبياً.
ومن البراهين على إثبات نبوته - صلى الله عليه وسلم - ما ورد في الأعمال من كتاب الاستثناء " وسيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم نبياً مثلي فاسمعوا جميع ما يأمركم به فإن كل نفس لا تسمع أمر ذلك النبي تستأصل من بين القوم ".
وهذا هو الدليل الذي تمسك به جماعة من المسلمين على نبوته - صلى الله عليه وسلم - وأثبتوا
(5/36)
دلالته على ذلك بعشرة وجوه ذكرت في محلها، وفسره النصارى في شأن المسيح وزعموا أنه هو الذي وعد به موسى لأنه تولد في دار يوسف بن يعقوب بن متان من زوجته مريم بنت عمران، وهذا التفسير بديهي البطلان إذ لو كان المراد به نبياً من بني إسرائيل لكان الأولى به يوشع بن نون أو أشمويل أو العزير أو داود أو سليمان أو أشعيا أو غيره من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، ولكنه تعالى فرزه عن بني إسرائيل بقوله: " من إخوتكم " نظراً إلى أنهم نفس إسحق فتكون إخوتهم بنو إسمعيل بلا مناقشة.
وهذا حوار مطرد عند اليهود والعرب كما قال: " سيأتي المنقذ من صهيون ويخرج النفاق من يعقوب " أي من بني يعقوب إلى غير ذلك.
وإلا فأقول إن عيسى ابن مريم بن إسرائيل وإسرائيل أخ لنفسه ينتج أن عيسى بن مريم ابن أخ لنفسه، وليس الأمر كذلك أما الصغرى فلاعتراف النصارى بأن المسيح من أولاد داود ولا شك أن داود من أولاد إسرائيل وولد الولد ولد، وأما الكبرى فلما ظهر من هذا النص من أن أخ الإنسان عبارة عن نفسه.
وأجيب بمنع الصغرى لأن الأخوين لفظان متباينان لا يصدق أحدهما على مفهوم الآخر وإلا يلزم ترادف المتباينين وهو باطل، ولا يرد عليه مثل البيع لأن العمدة في اللغة السماع ولم ينقل عن أحد فيكون المنصوص عليه محمداً- صلى الله عليه وسلم - بلا مناقشة بدليل قوله: " فاسمعوا جميع ما يأمركم به " الخ لأن عيسى عليه السلام لم يأت في دعوته بقهر يجبر به القوم لأن دعوته كانت على سبيل الترغيب لا غير.
وإلا فليكن المسيح هو المنصوص عليه، وحينئذ أقول كل نصراني يسلم أو يتهود يجب عليه القتل وكل نصرانية تزني يجب عليها الرجم لقوله: (كل نفس) الخ لكن النصراني إذا ارتد والنصرانية إذا زنت لا يحدا، فالمسيح ليس بمنصوص عليه في هذا المقام، أما المقدم فلوضوح النص في قوله: (كل نفس
(5/37)
لا تسمع) الخ لأنه أمر بالاستقامة على الدين والإحصان وإلا فليس بنبي، وأما التالي فلعدم إجراء الحدود في ملته الم تر أن النصراني يسلم ويتهود ويتبرهم ولا يجب عليه حد، وأنه ربما ينقض جميع سنن الإنجيل وأحكامه ويرتكب ما يخالفهما ولا ينكر عليه أحد.
وهذا بخلاف ملة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن عدم امتثال بعض أوامره يوجب هرق الدم وإزهاق الأنفس فيكون هو المنصوص عليه بهذا النص، وهذا هو معنى قوله تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله).
وفي إنجيل متى وفي كتاب أشعيا هذا هو عبدي الذي انتخبت ومحبوبي الذي رضيت عليه فسأحل روحي عليه وسيظهر للعوام الدينونة ولن يصرخ ولن يصيح ولن يسمع صوته في الأزقة أحد، ولن يكسر قصبة مرضوضة ولن يطفئ ذبالة مدخنة حتى يخرج الدينونة المنصرة ويتكل على اسمه العوام انتهى، وهذا نص صريح على إثبات نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
وأما استدلال النصارى بهذا على كون المسيح ابن الله وخاتم الأنبياء فلا دلالة لها عليه إذ الجزاء فيه اتكال العوام عليه، وقد صلب أو رفع ولم يتكل عليه العوام، وقد مضى من ارتفاعه أو صلبه إلى زمان تحرير هذه السطور 1879 سنة ولم يجتمع عليه من العوام أحد إلا اليونانيون والأرمن والجروج والفرنج وبعض الحبش، وهذا ليس بإجماع لأن أقل مراتب الإجماع أعظم النصفين، وقد يظهر لك بالنظر في الجغرافيا أن النصارى أقل من عشر غيرهم فينتقض الإجماع.
وأما حلول الروح عليه وإظهاره الدينونة للعوام واتصافه بهذه الصفات المرضية فلا دلالة لها على كونه ابن الله وخاتم الأنبياء، لأن نزول الروح مما يختص بالأخيار وإظهار الدينونة مما يختص بالملوك، ولا شك أن روح القدس قد حلت عليه، وأنه قد أخبرنا بالدينونة العظمى التي هي محمد صلى الله عليه
(5/38)
وآله وسلم، لكنه يدل على أن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله وهو ممنوع.
وأما إظهار الدينونة واتكال العوام عليه، فليس كما أوله النصارى، بل إنما المراد بالإظهار الإخبار، وباتكال العوام عليه، اتكالهم على ذلك الإخبار لا غير، وإلا لفسد المعنى لأن حلول الروح عليه وإظهاره الدينونة للعوام وعدم صراخه وصياحه إلى آخره مقيد بأخبار الدينونة للنصرة واتكال العوام على اسمه ووقوع المشروط عين إطلاق الشرط فما يكون بعد ذلك.
فإن قلت سيكون سلطاناً شديداً منعته لعدم وقوعه وعدم إدعاء النصارى به، وإن قلت شيطاناً عنيداً منعته لتقدس ذاته وإنكار النصارى له.
ولأني أقول إن كان عيسى بن مريم هو المخصوص بهذا النص فبعد إخراج الدينونة للنصرة واتكال العوام على اسمه لا بد أن ترفع عنه روح الله التي حلت عليه، لكن المسيح هو المقصود بهذا النص ينتج أن روح الله قد رفعت عنه، والتالي باطل فالمقدم مثله.
أما بطلان التالي فلأن روح الله لا ترتفع عن أنبيائه، وأما بطلان المقدم فلصدق استثناء نقيضه.
إذا علمت ذلك فاعلم أيدك الله بروحه القدسية أن خلاصة هذا النص أنه تعالى قد أخبر بأن عيسى عليه السلام هو نبيه الذي انتخب في ذلك الزمان ومحبوبه الذي رضي عليه في تلك الأيام، ووعد أنه سيحل عليه روحه، وسيظهر الدينونة أي القضاء للعوام أي يخبر بها ووصفه بالسكوت وعدم المكابرة ردعاً لليهود لأنهم يقولون أن المسيح ملك عظيم الشأن وقيد ذلك بإخراج الدينونة للنصرة التي هي محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وفي بعض التراجم " حتى يخرج الحكم بالغلبة " عوض " يخرج الدينونة للنصرة " وهما مترادفتان لأنه هو الذي نصر دين الله وباتكال العوام على اسمه أي عليه يعني على إخباره يريد بذلك أن العوام سيتكلون على إخباره حين
(5/39)
ظهور محمد - صلى الله عليه وسلم - فيؤمنون به، فتكون هذه الأمور غاية بعثته عليه السلام وبعد نفوذها يؤوب إلى مآبه الأصلي سواء كان بالصلب ثم الرفع أو بالرفع بغير الصلب، فتفكر في هذا المقام فإنه دقيق وأمعن نظرك فيه.
وفي كتاب يهودا وكتاب زكريا أن الرب قد جاء أو سيجيء بربوات مقدسة ليقضي على جميع الناس، ويوبخ المنافقين لجميع أعمال نفاقهم التي نافقوا بها وجميع الأقوال الصعبة التي تكلم بها عليه الخاطئون انتهى.
ودلالة هذا النص على إنبعاث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بديهية لا تحتاج إلى نظر لانحصار جميع هذه الصفات في ذاته المقدسة لكونه مبعوثاً بالسيف أي بالجهاد ولوثوبه بربوات صناديد العرب ولقضائه على جميع الناس ولتوبيخه أهل النفاق، ولا تقل أنه لم يقض على جميع الناس لما صرحت لك فيما قبل هذا بأن الإجماع عبارة عن أعظم النصفين.
وأما استدلال النصارى بهذه الدلالة على ربوبية المسيح نقلاً عن صحيفة زكريا فلا شك في صحة النقل إلا أنه لا دلالة فيه على ما ادعوه مطلقاً ولا على ثبوته بل ولا دلالة له عليه بوجه من الوجوه، لأن المنصوص عليه بالإتيان بهذه الربوات المقدسة والقضاء على جميع الناس وتوبيخ المنافقين ينبغي أن يقوم بالأمر لجد الحديد الأخضر، ولا دلالة لشيء من هذه الصفات على المسيح عليه السلام لأنه لم يأت إلا في زي بعض الزهاد المتخلقين بالمسوح والرماد.
وإلا فإن كان المسيح هو المقصود بهذا النص فلا شك أنه قد قهر اليهود وصلب بيلاطوس النبتي لكن المسيح هو المقصود بهذا النص فيكون كذلك والتالي باطل فالمقدم مثله، أما بطلان التالي فلعدم وقوع ذلك ولإنكار النصارى إياه، وأما بطلان المقدم فلصدق استثناء نقيضه، وكيف يجوز العقل احتياج الإله في الإنتقام من الأعداء إلى الجند والسلاح.
فإن قيل أنه ليس بإله لكنه ابن الله، قلت لا أسلم عدم الألوهية لأن
(5/40)
جميع النصارى قد اتفقوا في تفسير هذا النص بالألوهية قوله من الأعمال " فاحتاطوا على أنفسكم وعلى الرعية التي أقامكم الروح القدس عليها أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بخالص دمه " مع أن الضمير يرجع إلى عيسى المذكور باللفظ وإلى الروح القدس الذي هو عبارة عن نفس المسيح، فتأمل فيه.
ومع قطع النظر عن هذا كله إذا كان ابن الله يجب على أبيه أن يذب عنه.
وفي مرقص وفي متى ثم طفق يضرب لهم الأمثال ويقول اغترس رجل كرماً وحوطه بحائط وبحث فيه معصرة وبنى برجاً وآجره للفلاحين وسافر، ولما جاء الموسم أرسل إلى الفلاحين خادماً لينال من ثمرة الكرم شيئاً فأخذوه وضربوه وردوه خائباً فأرسل إليهم خادماً ثانياً فرجموه وشجوه وردوه محقراً ثم أرسل ثالثاً فقتلوه وكثيرين آخرين ضربوا بعضهم وقتلوا بعضاً وكان قد بقي له ابن وحيد هو محبوبه فأرسله إليهم آخر الأمر وقال أنهم سيكرمون ابني فقال الفلاحون فيما بينهم أن هذا هو الوارث فهلموا بنا نقتله فيصير الميراث لنا فأخذوه وقتلوه وأخرجوه خارج الكرم فماذا يفعل رب الكرم، نعم إنه سيأتي ويهلك الفلاحين ويسلم الكرم إلى آخرين ألم تقرأوا هذا المرقوم قوله إن الحجرة التي رفض البناؤون صارت رأس الزاوية هذا هو ما وقع عند الرب وهو في نظركم عجيب انتهى.
وهذا من أعظم الدلائل الواردة في الإنجيل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد تغافل عنه النصارى وأولوه بتأويل باطل.
وتقرير ذلك أن هذا أول الفصل وهو جملة استئنافية، فالغارس فيه هو الباري تعالى شأنه، والمغرسة الدنيا، والكرم بنو آدم، والحائط الناموس، والمعصرة الأحكام الناموسية، والبرج الأنبياء، والفلاحون الذين بلغتهم الدعوة، فأول الرسل موسى بن عمران عليه السلام، وثانيهم يوشع بن نون،
(5/41)
وثالثهم يحيى بن زكريا، والمجهولون المتوسطون، من موسى إلى زمان عيسى عليهما السلام، والولد الوحيد عيسى عليه السلام.
وناهيك به من مثل لطيف نبه وأنبأ فيه عيسى على نفسه أيضاً والآخرون الذين يسلم إليهم الكرم هم العرب.
فإن قلت لم كنى في الأول بالأنبياء وههنا بالأمة، قلت تبجيلاً له - صلى الله عليه وسلم - وإكراماً لأمته إذ هم أفضل الأمم وتصديقاً لقوله سبحانه: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) الآية وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " على كلام فيه، وفيه من عظمة شأنه وسمو مكانه ما لا يخفى بل ما يفوق على شأن جميع الأنبياء فتأمّله.
ثم انظر إلى حسن أداء المثل فكأنه عليه السلام قد سئل عن ذلك فقال إنه من أولاد إسماعيل، فأجيب بأنه هل يبعث من أولاد الفتاة نبي، فقال عليه السلام ألم تقرأوا ما قال أشعياء في قوله إن الحجرة التي رفض الخ فإن كذبتموني فما تفعلون بقول نبيكم أشعياء " فهذا الذي أنتم تستحقرونه يكون في الدرجة العليا لأنه هو قضاء الرب وهو الوفاء لعهده الذي عاهد به إبراهيم عليه السلام في بابت إسماعيل حيث قال في التكوين قوله: " وأما إسماعيل فإني قد سمعت دعاءك له وها أنذا قد باركت فيه وجعلته مثمراً وسأكثره تكثيراً وسيلد اثني عشر ملكاً وسأصيرهم أمة عظيمة ".
وأما ما ذهب إليه اليهود والنصارى من أن المراد بالملوك الإثني عشر أولاد إسماعيل الإثنا عشر فهو باطل لأنهم لم يتملكوا، ولم يدعوا الملكية، والحق أنه في شأن الأئمة الإثني عشر من قريش كما ورد في ذلك الحديث وعهده الذي عاهد به هاجر في كتاب الخليقة حيث قال فقال لها أي هاجر ملك الرب إنك حاملة وستلدين إبناً تسميه إسماعيل لأن الله قد سمع اضطرابك وسيكون بدوياًْ وتكون يده معارضة لجميع الناس ويد جميع الناس معارضة له.
(5/42)
وهذا في غاية اللطافة والعموم، وفي كتاب متى وكتاب أشعيا وفي المزامير أن تلك الحجرة التي رفض البناؤون صارت رأس الزاوية هذا هو عمل الرب وهو في أعيننا عجيب اهـ.
ولا شك أن هذا النص يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه من ولد إسماعيل وهو المرفوض قبل وجود موسى ورأس الزاوية هو ملتقى الخطين فيكون هو الخاتم لأن طرفي الخطين يذهبان إلا حيث ما يذهبان إليه، ولا حاجة لتعيين ابتدائها فيكون ملتقى الخطين هو منتهاهما وهذا هو محمد- صلى الله عليه وسلم - الذي ختم الله به فيلق رسله.
وقوله هذا هو عمل الرب الخ جواب سؤال مقدر تقديره هل يمكن أن تستقر الحجرة المرفوضة رأس الزاوية وهل يجوز أن يقوم من أولاد الجارية المصرية هاجر نبي، فيكون الجواب هذا هو عمل الرب الخ وسياقه في أشعياء قوله: " هذا ما يقول الرب الإله ها أنا ذا قد ألقيت في صهيون حجرة أساس الإبل زاوية وأساس محقق لا يخجل من يعتقد بها.
فقوله: " هذا " للتحضيض والترغيب في الاستماع، وما مفرد في معنى الكل ويقول في معنى القول، فيكون المعنى هذا كل قول الرب الإله وصفة الرب للتعظيم والتخويف، ها أنا ذا إلى قوله حجرة أساس الإضافة بمعنى اللام الإبل زاوية بدل من الأساس، وأساس محقق بدل من البدل، لا يخجل من يعتقد بها غاية إلقائها، فيكون معنى قول أشعياء إن هذا هو قول الرب فمن يعتقد به وينتظر وقوعه ويؤمن به لن يخجلن والمراد به نفس النص.
ومعنى قول متى أن تلك الحجرة يعني إسماعيل التي رفض البناؤون إبراهيم وسارة والجمع للحوار العبراني أو للتفخيم، والمضي في رفض لغبور الفعل فيه صارت للتأكيد رأساً للزاوية خاتماً للرسل.
ووجه المطابقة أن كلام أشعياء يدل على الإخبار، وكلام متى يدل على التحقيق، جعلني الله ممن يسلك سواء الطريق.
(5/43)
وذهب النصارى إلى تأويل هذا النص في شأن عيسى عليه السلام على عادتهم وقالوا إن اليهود كانوا يحتقرونه فيكون النص في شأنه وهو باطل لأن تأكيد التعريف يفيد العهد الذهني وليس في بني إسرائيل محتقر ولا مرفوض من حيث إنه من بني إسرائيل، وعيسى ابن مريم من بني إسرائيل فلا دلالة للنص عليه مع أن العهد الخارجي المشار إليه في أيام موسى يجب أن يكون غابراً، والفعل ماض فيجب مضي العهد، وإن كان المسيح بن مريم قد رفضه اليهود في أيام موسى أو قبل أيامه فهو المنصوص عليه لكنه لم يكن كذلك فلن يكون كذلك.
ولا شك أن النص دال على ما ذكرناه من نبوة محمد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم برمته.
وفي رومية ويوشع سأدعو الذين ليسوا من شيعتي لي شيعة والتي ليست بمحبوبتي لي محبوبة اهـ.
واختلس النصارى هذا النص على عادتهم وأولوه في شأن اتباع المسيح وقالوا إنه لم يأت إلا لاستدعاء العوام مع أنه خلاف لما تواتر عليه النص، فمنه ما ورد في متى " إني لم أرسل إلا لغنم بيت إسرائيل الضالة فجاءت الامرأة وسجدت له وقالت أعني يا رب فقال لها وهو يحاورها إنه لا يجوز أن يؤخذ خبز الأولاد ويلقى للكلاب ".
وما ورد في متى لما أرسل الحواريين للدعوة حيث قال: " بل سيروا إلى غنم بيت إسرائيل الضالة " إلى غير ذلك.
وتقرير الأول أن امرأة سريانية أتت إليه تلتمسه أن يبرئ بنتها فقال لها: إني لم أرسل إلا لأبرئ بني إسرائيل الذين هم أحباء الله، ولا يجوز لأحد أن يأخذ خبز الأولاد ويلقى أمام الكلاب، فإذا كان بمحض الإبراء والوعظ
(5/44)
ليس بمأمور أن يبرئ أو يعظ غير اليهود فكيف تكون نبوته عامة.
وأما استدلالهم بما ذكره في رومية فلا دلالة له أيضاً على الخصوصية لأن موضوع هذا الفصل ممانعة اليهود لليونانيين عن التنصر، فاستدل بولوس على جواز ذلك بإضافة الإختيار إلى المختار الحقيقي حيث قال: " فمن أنت أيها الإنسان حتى تجيب الله تعالى لعل الجبلة تقول لجابلها لم صنعتني هكذا أو لعل الفخار لا سلطان له على الطين حتى يعمل من كتلة واحدة إناء للكرامة وإناء للإهانة الخ.
فذكر ذلك استدلالاً على جواز اضطباع العوام استحساناً لأن الجواز غير الوجوب بخلاف نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإنه قد أوجب عليه دعوة الثقلين وعليه الإجماع، ولو كانت علة مجيء عيسى دعوة العوام لما احتاج إلى الاستدلال فينتقض.
ويدل على محمد نفسه - صلى الله عليه وسلم - بالضرورة لأنه لم يكن من بني إسرائيل فلم يكن من شيعة الرب الخاصة ولما لم يكن من شيعته الخاصة فلم يكن له محبوباً فيكون الباري تعالى قد تبرع بارساله وهو أبلغ وأظهر للقدرة لأن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب لما ورد في متى من سفر الخروج لأنهم من أولاد إسحاق وهو ابن سارة ومحمد صلى الله عليه وسلم من أولاد إسماعيل وهو ابن هاجر جارية سارة لكن الواجب تعالى رغم أنفهم به وصيره له محبوباً وشيعته له شيعة.
وإن لم يكن كذلك فنقول إن كان اليونانيون هم الذين رفضتهم سارة لما حكمت على إبراهيم عليه السلام أن يخرجهم إلى البر وطردتهم من بيتها لما حملت جاريتها المصرية هاجر من إبراهيم، فهذا النص صادق عليهم لكن اليونانيين ليسوا بالذين طردتهم سارة فلا يصدق عليهم النص. أما المقدم فلادعاء اليهود بأن بني إسماعيل ليسوا من شيعة الرب وهم المرفوضون، ولا وجه
(5/45)
للعموم لأن غير استيلاء الخصم لا يشق مشقة استيلاء الخصم، وأما التالي فلأن هذا النص لا يصدق إلا على من يصدق عليه المقدم لأن التعريف يفيد العهد الذهني.
وفي رومية والاستثناء إني سأعيركم بأمة أخرى وأغيظكم بأمة لا فهم لها انتهى.
استدل النصارى بهذا النص على عموم نبوة المسيح وقالوا إنه خاص في شأن اليونانيين والرومانيين وهو باطل لأنهم كانوا أعلم من اليهود في جميع الفنون.
وتقريره في هذا الفصل أن بُولُس كان يعظ اليهود ويعترض عليهم لما تنفروا من تنصر اليونانيين والرومانيين ويقول إنهم لم يميزوا الكتب ولم يمعنوا النظر في النواميس حيث قال الله تعالى على لسان موسى: " إني سأعيركم " الخ فهذا لا دلالة له على عمومية نبوته البتة إذ لا دلالة له على دعوة كلا الفريقين، لكنه تنبيه لليهود حتى يرتدعوا عما كانوا عليه من الغرور ويذكروا هذا النص ويحذروا يوم يعيرهم الله بأمة أخرى ويغيظهم بأمة لا فهم لها والمراد بهم العرب أولاد هاجر.
والبرهان على ذلك أنهم كانوا أميين لأنهم هم الذين لا فهم لهم ولا علم، وسياق النص في الاستثناء قوله: " إنهم قد عيروني بلا إله وأغاظوني بعبثهم فسأعيرهم بلا فئة وسأغيظهم بأمة لا فهم لها " قوله: " عيروني بلا إله أي بعبادة الأوثان لما اتخذوا العجل، وأغاظوني بعبثهم أي العبث الصادر منهم لما قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فأنا سأعيرهم بلا فئة يريد بها أولاد هاجر المصرية يعني بني إسرائيل، وأغيظهم بأمة لا فهم لها لأنهم كانوا في تلك الأيام لا يتعاطون شيئاً من العلوم العقلية ولا النقلية ما سوى علم الشعر والمنازل وليسا بشيء ".
(5/46)
وإلا فأقول إن كان اليونانيون في زمان موسى جهالاً لا دخل لهم في شيء من العلوم بحيث إن اليهود كانوا يستحقرونهم بالنظر إلى جهالتهم فهذا النص صادق عليهم لكن اليونانيين في زمان موسى كانوا أعلم من اليهود في جميع الأحوال، فلا يكون هذا النص صادقاً عليم، أما المقدم فلأن النصارى يدعون ذلك وأما التالي فلأنه لا شك في أن اليونانيين كانوا أعلم من اليهود في جميع العلوم سيما الإلهيات إلا علم فقه اليهود وليس بشيء.
والدليل على ذلك ما حققه داود جانز في كتابه الذي سماه صحيح داود قوله: شرع سطريوس الحكيم في تعليم المساحة في مصر أيام مطيطوس أول ملوك بابل سنة 28 ومن تاريخ الخليقة ولاطينوس اللاطيني علم الطبيعيات وبحث عن كائنات الجو زمان سقزينس 15 من ملوك بابل سنة 2365 وأرقيلوس الحكيم اليوناني بحث عن حركات الأفلاك هو وولداه سردينوس وقرسيقوس عهد أمينوس 19 من ملوك بابل سنة 2475 وكانت ولادة موسى سنة 2368 ولم يزل اليونانيون يزدادون بسطة في الملك والعلم حتى ظهور رب الجنود- صلى الله عليه وسلم -، ومن الذين ظهروا أيام بني إسرائيل مرقورياس علم الموسيقى سنة 2626 ولوسيوس قيصراً بحث في حركة الشمس مع فيلقوس الحكيم سنة 2825 وكان فيلقوس فاضلاً مرتاضاً في علم النجوم وأبقراط أو بقراط الطبيب الحاذق وإبنه أوقليدس المهندس، وأفلاطون الحكيم بحثوا عن أكثر فنون الحكمة النظرية عهد مردخان واستير سنة 341 (1) واسكندر ابن قبلقوس أو داراب وأستاذه لقوما خشيوس بحثاً عن أكثر فنون الحكمة سنة 2442 أيام العزير عليه السلام إلى غير ذلك.
فعلى هذا يكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو المكنى عنه به وأمته المهدية هي المشار إليها.
_________
(1) قوله سنة 341 كذا بالأصل، وكذا جميع الأعداد في هذه الصحيفة هي كذلك في الأصل وحرر إهـ مصححه.
(5/47)
وفي رومية وأشعياء قوله: إني قد وجدت عند من لم يطلبني وظهرت عند من لم يسأل عني انتهى.
أول النصارى هذا النص الصريح في حق اليونانيين الذين اتبعوا عيسى عليه السلام في زمان الفترة وقالوا إنهم لم يطلبوا معرفة الله تعالى قبل المسيح فيختص النص بهم وسياقه في رومية يظهر لك مما قبله ولا دلالة له عليهم لأنه لا يصدق إلا على مفهوم ما قبله، ومع تسليمه كيف يجوز العقل أن اليونانيين لم يطلبوا معرفة الواجب تعالى مع أنهم هم أول من دون الإلهيات وبحث في وحدة الواجب تعالى.
إذا تحقق ذلك فاعلم أن هذا النص يخص العرب فقط ولا يدخل فيه ولا فيما قبله من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحد لأنهم هم الأميون البله الذين لم يكونوا يفهمون ما الواجب بل ولا الممكن قبل بعثته عليه السلام، وأما قول لبيدة:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل
فلمداخلة اليهود والنصارى أو بالنظر إلى الناموس الطبيعي لأن جميع الأمم الذين لم تبلغ إليهم دعوة الأنبياء لا بد لهم من ناموس يتمسكون به.
ومن المعلوم أن الأبكم مع عدم إطلاعه على شيء من هذه الأشياء إذا اشتبه أو اضطر ينظر إلى السماء وكذلك البهائم الوحشية إذا أصابها الجدب، وساقه في أشعياء قوله: إني قد أصبت عند من لم يسأل عني ووجدت عند من لم يطلبني وقلت لأمة لم تدع باسمي أنظري إلي أنظري إلي لأني قد أظهرت يدي طوال النهار إلى فئة طاغية سالكة في سبيل سيئ ممتثله لأهوائها وفئة أي فئة تغيظني أمام وجهي وتقرب قرابينها في البساتين وتبخر في مباخر الشياطين التي
(5/48)
تسكن المقابر وتأكل لحم الخنازير ومرق النجاسة في أوانيها.
فمن قوله أصبت قوله أنظري إلي، إشارة إلى انحراف الناموس إلى العرب واصطفائه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ومن قوله لأني إلى قوله ممتثلة لأهوائها إشارة إلى اليهود، ومن قوله وفئة إلى قوله في أوانيهم إشارة ظاهرة في حق النصارى.
إذا فهمت فاعلم أن هذا النص لا يمكن أن يستدل به على غير ما ذكرته لك لأنه هو موضوعه ولا يجوز الاستدلال بالتأويلات التضمينية أو الاستلزامية فيما لم تكن قرينتهما موجودة سيما إذا كانت قرينة المطابقة فيه ظاهرة، وفقني الله وإياك لاقتفاء سنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وفي لوقا وأشعياء صوت صارخ في البرية أعدوا طرق الرب وهيئوا سبله فإن كل واد سيمتلئ وكل جبل وأكمة ستضع وتعتدل المعوجات وتلين الصعبات ويشاهد خلاص الله كل ذي جسد انتهى.
وهذا من أوضح البراهين الواردة في شأن محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد تغافل اليهود والنصارى عنه فأوله اليهود في شأن مسيحهم الموهوم، وأوله النصارى في حق إلههم المعلوم، والحق أنه لا يدل على ذلك.
أما إنه لا يدل على المسيح الموهوم فلأن سياقه في أشعياء قوله سلوا شيعتي سلوهم قال إلهكم سلوا أورشليم وقولوا لها إن تعبها قد تم وخطيئتها قد غفرت لأنه قد وقع عليها من يد الرب لخطيئتها ضعفان من العذاب، وهذا صوت صارخ يقول في الهدية هيئوا طريق الرب ووطئوا لأجل إلهنا في البادية سبيلاً مرتفعاً فإن كل واد سيرتفع، وكل جبل وأكمة ستتضع وسيعتدل المعوج وستلين الصعبات وسيظهر مجد الله ويشاهده كل ذي جسم لأن فم الله نطق
(5/49)
به، فقال الصوت اصرخ فقال بماذا أصرخ فإن جميع الأجسام كلأ وكل مجدها كزهر الحقل فالكلأ يذبل والزهر يسقط لأن روح الرب يرف عليه، ولا شك أن الملأ كلأ فيجف الكلأ ويسقط الزهر وكلمة الله تمكث إلى الأبد.
فمن قوله: " سلوا إلى من العذاب " ظاهر الدلالة على أن الواجب تعالى يقول لنبيه أن يسلى ويخبر أمته بما هو مزمع الوقوع وباستقامة دعائم أورشليم في آخر الزمان، وفي قوله ضعفان من العذاب إشارة إلى أنها كانت قد أخطأت فانتقم الله منها بما حدث عليها من الذل بعد المسيح عليه السلام في أيام تسلط الروم والنصارى عليها إلى زمان محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد محمد - صلى الله عليه وسلم - أيام تسلط العرب عليها وهي أيامنا هذه إلى زمان ظهور القائم إن شاء الله تعالى، وبعد ذلك تستقيم دعائمها وتعمر رسومها.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن المهدي سينطلق إلى أورشليم ويصلي فيها ويجتمع هناك بالمسيح عليه السلام عند نزوله، ومن قوله: " هذا صوت صارخ إلى قوله نطق به " إشارة إلى يحيى بن زكريا عليه السلام لما كان يعظ بهذه الجملة على شاطيء شط الأردن وقوله: " وطئوا له في البادية سبيلاً مرتفعاً لا يدل على غير السبيل المستقيم من مكة إلى أورشليم البتة لأن أورشليم ليست في البادية وقوله فإن كل واد يريد به الجهال كأهل السواحل والارتفاع عبارة عن الصعود على ذروة طود الإيمان، وكل جبل وأكمة يشير به إلى الجبابرة من الفرس والروم، والاتضاع الانقياد إلى أوامر الدين الحنيف وسيعتدل المعوج إشارة إلى اليونانيين وحكماء الهند بقبول الشريعة الغراء لانحراف طبائعهم عن - رضي الله عنه - الانعطاف إلى اتباع النواميس الإلهية.
وقوله تلين الصعاب، كناية عن العرب لأنهم هم أقوى الناس جناناً، وأبعدهم إيماناً، وإلى ذلك إشار بقوله: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين) الخ وقوله: " وسيشاهد مجد الله " أي المهدي والسين للاستقبال البعيد، والمعنى أنه إذا كملت جميع هذه الأمور، وبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - يظهر المهدي.
(5/50)
وقوله لأن فم الرب قد نطق به إشارة إلى وجوب وقوعه، ومن قوله: فقال الصوت اصرخ الخ ضرب من شديد التأكيد لوجوب وقوعه، فلا دلالة لشيء منه على مسيح اليهود الموهوم، اللهم إلا أن يريدوا بالمسيح نفس المهدي، فحينئذ يلزمهم الإعتراف بنبوة عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -.
وأما إنه لا يدل على عيسى بن مريم فلأن سياقه في أشعياء قد مر بيانه ولا محتمل له غيره، ولأن لوقا لم يذكره مستدلاً به عليه، ولا قرينة هناك يؤول إليها الضمير، بل إنه جملة مستأنفة في أول الإصحاح، ومضمون الإصحاح على الإجمال أن لوقا أخبر أنه في زمان كذا جاء يحيى بن زكريا إلى البرية يصرخ ويقول كذا.
وهذا لا يدل على المسيح بن مريم بوجه من الوجوه، ولكنه يدل على بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيام المهدي لأن الجملة مستأنفة والقاعدة في المستأنفات أن تحمل على ما يناسبها فيكون ما ذكره لوقا ضرباً من التأكيد لكلام أشعياء عليه السلام لا غير.
فعليك أن تتأمل في هذا البرهان فإنه في غاية اللطافة.
وفي متى ثم ضرب لهم مثلاً آخر وقال إن ملكوت الله تماثل حبة خردل أخذها رجل وزرعها في مزرعته وهي أصغر جميع الحبوب، فلما نمت صارت أعظم النباتات وأصبحت شجرة تأتي إليها طيور الجو، وتسكن في أغصانها انتهى.
وسياق هذا المثل أن المسيح كان جالساً على ساحل البحر فاجتمع عنده القوم فأخذ يضرب لهم الأمثال ومن جملتها هذا المثل، وقد أوله النصارى في حق من يكون محباً للمسيح مواظباً على عمل الخير، وهل فيه يا للرجال على هذا المعنى الضعيف دلالة ولا شك أنه من الأمثال التي كان يضربها المسيح عليه السلام في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(5/51)
وتأويل المثل أن الزارع هو الواجب تعالى والمزرعة الدنيا وحبة خردل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أصغر جميع الحبوب على بادئ الرأي لأن جميع الأمم كانوا يستهزئون بالعرب لكونهم من أهل البادية وعدم رواج العلم في أماكنهم وعدم تنعمهم باللذات الجسمانية، واليهود كانوا يستحقرونهم لكونهم من أولاد هاجر، فقوله: " هي أصغر الحبوب " جملة حالية فلما نمت أي بلغ إلى رشده واستوفى من درجة الرسالة العامة أشُدَّه صارت أعظم النباتات أي صار أشرف الرسل وأكملهم لبقاء ملته إلى قيام القيامة، ولأنه لم يقلد ما قبله من الرسل الرِّسالة العامة اصبحت أي صارت شجرة تأتي إليها طيور الجو جملة حالية وقعت صفة الشجرة والمراد بطيور الجو الأمم الذين لم يقلدوا بغير الناموس وتسكن في أغصانها أي تطمئن تحت أحكام شريعته صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه أحد عشر نصاً يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ولا يقدر أحد من أهل الكتاب على إنكار وجوده فيهما، والبراهين على إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتب القديمة السماوية من التوراة والإنجيل والزبور كثيرة جداً لا يسع بسطها هذا المقام، فإن شئت الاطلاع عليها فارجع إليها وإلى ما نقله الإسلاميون عنها في كتب الرد على النصارى.
وهذه الأدلة كلها لها دلالة صريحة على ما نطق به القرآن الكريم في هذه الآية أعني يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل وفي أمثالها وهذا مع تحريف تلك الكتب لفظاً أو معنى أو بكليهما.
وأما البشارات التي وردت في حقه - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه وتعالى مشيراً إلى ذلك في قوله نقلاً عن عيسى بن مريم عليه السلام: (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) فهي كثيرة جداًَ ايضاً سنذكر بعضه تحت الآية الكريمة المذكورة إن شاء الله.
(5/52)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) لما تقدم ذكر أوصاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المكتوبة في التوراة والإنجيل، أمره سبحانه أن يقول هذا القول المقتضى لعموم رسالته إلى الناس والجن جميعاً لا كما كان غيره من الرسل عليهم السلام، فإنهم كانوا يبعثون إلى قومهم خاصة، قال ابن عباس: بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأسود والأحمر، والأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا المعنى مشهورة فلا نطيل بذكرها.
(الذي له ملك السموات والأرض) ملكاً وعبيداً وتصرفاً وقوله (لا إله إلا هو) بدل من الصلة مقرر لمضمونها مبين لها لأن من ملك السموات والأرض وما فيهما هو الإله على الحقيقة، وهكذا من كان (يحيي ويميت) هو المستحق بتفرده بالربوبية ونفي الشركاء عنه، والجملة سيقت لبيان اختصاصه بالإلهية لأنه لا يقدر على الإحياء والإماته غيره، قاله الزمخشري وذكره السمين فلذا قال:
(فآمنوا) والأمر بالإيمان (بالله ورسوله) متفرع على ما قبله وفي العدول عن المضمر إلى الاسم الظاهر بلاغة (النبي الأمي) هما وصفان لرسوله وكذلك (الذي يؤمن بالله وكلماته) وصف له والمراد بالكلمات ما أنزله الله عليه وعلى الأنبياء من قبله أو آياته أو عيسى قاله مجاهد والسدي أو القرآن فقط قاله قتادة والعموم أولى.
وجملة (واتبعوه) مقررة لجملة فآمنوا به، والاتباع يعم الأقوال والأفعال والاعتقاد والأعمال (لعلكم تهتدون) علة للأمر بالإيمان والاتباع.
(5/53)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
(5/54)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
(ومن قوم موسى أمة) لما قص الله سبحانه علينا ما وقع من السامري وأصحابه وما حصل من بني إسرائيل من التزلزل في الدين، قص علينا سبحانه أن من قومه أمة مخالفة لأولئك الذين تقدم ذكرهم ووصفهم بأنهم (يهدون) أي يدعون الناس إلى الهداية حال كونهم متلبسين (بالحق) أو يهتدون به ويستقيمون عليه ويعملون به ويرشدون إليه (وبه يعدلون) بين الناس في الحكم أي بالحق يحكمون وبالعدل يأخذون ويعطون وبه يتصفون.
واختلفوا في هؤلاء فقيل هم القوم الذين بقوا على الدين الحق الذي جاء به موسى قبل التحريف والتبديل ودعوا الناس إليه، وقال الكلبي والضحاك والربيع: هم قوم خلف الصين بأقصى الشرق على نهر يسمى نهر الأردن ليس لأحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل، ويصحون في النهار ويزرعون ولا يصل إليهم أحد منا وهم على الحق إلى آخر القصة، وما أبعدها عن الصحة وأقربها إلى الوضع، وقد ابتلى بذكرها جمع من المفسرين الذين ليس لهم معرفة بعلم الحديث.
وقيل هم الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن.
وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال موسى: يا رب أجد أمة أنا جيلهم في قلوبهم قال: تلك أمة تكون بعدك أمة أحمد، قال: يا رب
(5/54)
أجد أمة يصلون الخمس تكون كفارات لما بينهن، قال: تلك أمة تكون بعدك أمة أحمد، قال: يا رب أجد أمة يعطون صدقات أموالهم ثم ترجع فيهم فيأكلون قال: تلك أمة بعدك أمة أحمد قال: يا رب اجعلني من أمة أحمد - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله كهيئة المرضية لموسى (ومن قوم موسى أمة) الآية.
(5/55)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
(وقطعناهم) الضمير يرجع إلى قوم موسى المتقدم ذكرهم لا إلى هؤلاء الأمة منهم الذين يهدون بالحق، والمعنى صيرناهم (اثنتي عشرة أسباطاً) أي قطعاً متفرقة وفرقناهم معدودين بهذا العدد وميزنا بعضهم من بعض. وهذا من جملة ما قصه الله علينا من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل وأنه ميز بعضهم من بعض حتى صاروا أسباطاً كل سبط معروف على انفراده، لكل سبط نقيب كما في قوله تعالى: (وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً).
والأسباط جمع سبط وهو ولد الولد صاروا اثني عشر أمة من اثني عشر ولداً، وأراد بالأسباط القبائل ولهذا أنث العدد، والمراد أولاد يعقوب لأن يعقوب هو إسرائيل وأولاده الأسباط وقد تقدم تحقيق معنى الأسباط في البقرة.
وسماهم (أمماً) لأن كل سبط كان جماعة كثيرة العدد وكانوا مختلفي الآراء يؤم بعضهم غير ما يؤم الآخر.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة وافترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، ولتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، فأما اليهود فإن الله يقول: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) فهذه التي تنجو، وأما النصارى فإن الله يقول: (منهم أمة مقتصدة) فهذه التي تنجو، وأما نحن فيقول: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) فهذه التي تنجو من هذه
(5/55)
الأمة، وقد قدمنا أن زيادة كلها في النار لم تصح لا مرفوعة ولا موقوفة.
(وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه) أي وقت استسقائهم له لما أصابهم العطش في التيه (أن) تفسير لفعل الإيحاء (اضرب بعصاك الحجر) الذي فر بثوبه فضربه (فانبجست) الانبجاس الانفجار أي فانفجرت وقيل عرفت (منه اثنتا عشرة عيناً) بعدد الأسباط لكل سبط عين يشربون منها.
(قد علم كل أناس) اسم جمع واحده إنسان وقيل جمع تكسير له والإنسان اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والواحد والجمع، والأناس بالضم مشتق من الإنس وقد تحذف همزته تخفيفاً على غير قياس فيصير ناساً (مشربهم) والمعنى علم كل سبط منهم بالعلم الضروري الذي خلقه الله في كُلٍّ: العين المختصة به التي يشرب منها لا يدخل سبط على سبط في مشربهم، وقد تقدم في البقرة ما فيه كفاية مغنية عن الإعادة.
(وظللنا عليهم الغمام) أي جعلناه ظللاً عليهم في التيه يسير بسيرهم ويقيم بإقامتهم ويقيهم حرَّ الشمس (وأنزلنا عليهم) في التيه (المن والسلوى) أي الترنجبين والسُّمانى طعاماً لهم وقيل السلوى جنس من الطير وقد تقدم تحقيقه في البقرة (كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي وقلنا لهم كلوا من المستلذات التي رزقناكم (وما ظلمونا) بما وقع منهم من المخالفة وكفران النعم وعدم تقديرها حق قدرها (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي كان ظلمهم مختصاً بهم مقصوراً عليهم لا يجاوزهم إلى غيرهم (1).
_________
(1) ذكره القرطبي 6/ 112: وقال الربيع والسدي وغيرهما: إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبّارين والسبر لقوتهم ومنعتهم، فساروا ليختبروا حال من بها، ويعلموه بما اطلعوا عليه فيها حتى ينظر في الغزو إليهم، فاطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة -على ما يأتي- وظنوا أنهم لا قبل لهم بها؛ فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل، وأن يعلموا به موسى عليه السلام، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم، ومن وثقوه على سرهم؛ ففشا الخبر حتى اعوج أمر بني إسرائيل.
(5/56)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
(وإذ قيل) أي اذكر وقت أن قيل (لهم) هذا القول وهو (اسكنوا هذه القرية) أي بيت المقدس أو أريحاء، وقيل غير ذلك مما تقدم بيانه وفي البقرة (ادخلوا هذه القرية) ولا منافاة بينهما لأن كل ساكن في موضع لا بد له من الدخول إليه (وكلوا منها) أي من المأكولات الموجودة فيها من الثمار والزروع والحبوب والبقول (حيث) أي في أي مكان (شئتم) من أمكنتها لا مانع لكم من الأكل فيه.
وقال في البقرة فكلوا بالفاء لأن الدخول حالة مقتضية للأكل عقبه فحسن دخول الفاء للتعقيب، والسكنى حالة استمرار والأكل حاصل متى شاءوا ولم يقل رغداً هنا كما قال في البقرة لأن الأكل عقب الدخول ألذ وأكمل، ومع السكنى ليس كذلك.
(وقولوا حطة) أي حط عنا ذنوبنا وقد تقدم تفسيرها في البقرة (وادخلوا الباب) أي باب القرية المتقدمة حال كونكم (سجداً) أمروا بأن يجمعوا بين قولهم حطة وبين الدخول ساجدين، فلا يقال كيف قدم الأمر بالقول هنا على الدخول وأخره في البقرة وقد تقدم معنى السجود الذي أمروا به (نغفر لكم خطيآتكم) أي ذنوبكم ولم نؤاخذكم بها، وإنما قال هنا خطياتكم وفي البقرة خطاياكم لأن المقصود غفران ذنوبهم سواء كانت قليلة أو كثيرة إذا أتوا بالدعاء والتضرع (وسنزيد المحسنين) على المغفرة للخطايا بما نتفضل به عليهم من النعم، وقال في البقرة (وسنزيد) بالواو لأن هنا استئنافاً على تقدير قول القائل وماذا بعد الغفران فقيل له سنزيد.
(5/57)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
(5/58)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
(فبدّل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم) يعني أمروا أن يقولوا حطة فقالوا حنطة في شعيرة فكان ذلك تبديلهم، وتغييرهم ودخلوا يزحفون على أستاههم وأدبارهم، وقد تقدم بيان ذلك في البقرة، لكن ألفاظ هذه الآية تخالف الآية المذكورة في سورة البقرة من وجوه ثمانية ذكرها الخطيب وقد أشرنا إليها فيما تقدم.
(فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء) أي عذاباً كائناً منها وهو الطاعون ومات به منهم في وقت واحد سبعون ألفاً، وقال في البقرة (أنزلنا) ولا منافاة بينهما لأنهما لا يكونان إلا من أعلى إلى أسفل (بما كانوا يظلمون) أي بسبب ظلمهم، وقال في البقرة: (بما كانوا يفسقون) والجمع بينهما أنهم لما ظلموا أنفسهم بما غيروا وبدلوا فسقوا بذلك وخرجوا عن طاعة الله تعالى.
(5/58)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
(و) اذكر إذ قيل لهم و (اسألهم عن القرية) هذا سؤال تقريع وتوبيخ، والمراد من سؤال القرية سؤال أهلها أي اسألهم عن هذا الحادث الذي حدث لهم فيها المخالف لما أمرهم الله به، والأولى عدم تقدير المضاف كما سيأتي تحقيقه في سورة يوسف إن شاء الله تعالى.
وفي ضمن هذا السؤال فائدة جليلة وهي تعريف اليهود بأن ذلك مما يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن اطلاعه عليه لا يكون إلا بإخبار له
(5/58)
من الله سبحانه فيكون دليلاً على صدقه.
واختلف أهل التفسير أي قرية هي؟ فقيل: أيلة قاله علي وقيل: مدين، وقيل: إيلياء، وقيل قرية بين مصر والمدينة والمغرب قاله ابن عباس، وقيل: بين مدين والطور على شاطيء البحر، وقال الزهري: هي طبرية الشام، وقال وهب: هي ما بين مدين وعيوني، وقيل قرية من قرى ساحل الشام.
(التي كانت حاضرة البحر) أي التي كانت بقرب بحر القلزم يقال: كنت بحضرة الدار أي بقربها، والمعنى سل يا محمد صلى الله عليه وسلم هؤلاء اليهود الموجودين الذين هم جيرانك عن قصة أهل القرية المذكورة (إذ يعدون) أي يتجاوزون حدود الله بالصيد، وقرئ بتشديد الدال من الإعداد للآلة (في) يوم (السبت) الذي نهوا عن الاصطياد فيه، والسبت هو اليوم المعروف، وأصله السكون يقال سبت إذا سكن وسبت اليهود تركوا العمل في سبتهم، والجمع أسبت وسبوت وأسبات.
(إذ تأتيهم حيتانهم) جمع حوت وأضيفت إليهم لمزيد اختصاص لهم بما كان منها على هذه الصفة من الإتيان (يوم سبتهم) دون ما عداه قال الضحاك: تأتيهم متتابعة يتبع بعضها بعضاً (شرعاً) جمع شارع أي: ظاهرة على الماء قريباً من الساحل، وقيل: رافعة رؤوسها، وقيل: إنها كانت تشرع على أبوابها كالكباش البيض، قال في الكشاف يقال شرع علينا فلان إذا دنا وأشرف علينا وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا انتهى.
(ويوم لا يسبتون) أي لا يفعلون ولا يراعون أمر السبت وذلك عند خروج يوم السبت، والمعنى لا سبت ولا مراعاة (لا تأتيهم) الحيتان كما كانت تأتيهم في يوم السبت (كذلك) أي مثل ذلك البلاء العظيم والاختبار الشديد (نبلوهم بما كانوا يفسقون) أي بسبب فسقهم.
(5/59)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
(وإذ قالت أمة منهم) أي جماعة من صلحاء أهل القرية لآخرين ممن كان يجتهد في وعظ المتعدين في السبت حين أيسوا من قبولهم للموعظة وإقلاعهم عن المعصية (لم تعظون قوماً الله مهلكهم) أي مستأصل لهم بالعقوبة (أو معذبهم عذاباً شديداً) بما انتهكوا من الحرمة وفعلوا من المعصية، وقيل إن الجماعة القائلة لم تعظون قوماً هم العصاة الفاعلون للصيد في يوم السبت، قالوا ذلك للواعظين لهم حين وعظوهم، والمعنى إذا علمتم أن الله مهلكنا كما تزعمون فلم تعظوننا.
(قالوا) أي قال الواعظون للجماعة القائلين لهم لم تعظون وهم طائفة من صلحاء القرية على الوجه الأول أو الفاعلون على الثاني أي فعلنا ذلك (معذرة) أي لأجل المعذرة أو موعظتنا معذرة على قراءة الرفع (إلى ربكم) حتى لا يؤاخذنا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين أوجبهما علينا ولرجاء أن يتعظوا فيتقوا، ويقلعوا عما هم فيه من المعصية.
قال جمهور المفسرين إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق: فرقة عصت وصادت، وكانت نحو سبعين ألفا، وفرقة اعتزلت فلم تنه ولم تعص، وفرقة اعتزلت ونهت ولم تعص، فقالت الطائفة التي لم تنه ولم تعص للفرقة الناهية لم تعظون [قوماً] يريدون الفرقة العاصية [الله مهلكهم] أو معذبهم، قالوا ذلك على غلبة الظن لما جرت به عادة الله من إهلاك العصاة أو تعذيبهم من دون استئصال بالهلاك فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله (ولعلهم يتقون) ولو كانوا فرقتين فقط ناهية غير عاصية وعاصية لقال لعلكم تتقون.
(5/60)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
(5/61)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
(فلما نسوا ما ذكروا به) أي لما ترك العصاة من أهل القرية ما ذكرهم به الصالحون الناهون عن المنكر ترك الناسي للشيء المعرض عنه كلية الإعراض (أنجينا الذين ينهون عن السوء) أي الذين فعلوا النهي ولم يتركوه (وأخذنا الذين ظلموا) وهم العصاة المعتدون في السبت (بعذاب بئيس) أي شديد وجيع من: بؤس الشيء بأساً إذا اشتد، وفيه إحدى عشرة قراءة للسبعة وغيرهم (بما كانوا يفسقون) أي بسبب فسقهم واعتدائهم وخروجهم عن طاعتنا.
قال ابن عباس: نجت الفرقة الساكتة، وقال يمان بن رباب: نجت الطائفتان وأهلك الذين أخذوا الحيتان وبه قال الحسن، وقال ابن زيد: نجت الناهية وهلكت الفرقتان، وهذه الآية أشد آية في ترك النهي عن المنكر.
(5/61)
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
(فلما عتوا عما نهوا عنه) أي تجاوزوا الحد في معصية الله سبحانه وأبوا أن يرجعوا عنها تمرداً وتكبراً (قلنا لهم كونوا) أي أمرناهم أمراً تكوينياً لا أمراً قولياً يعني مسخناهم (قردة) قيل إنه سبحانه عذبهم أولاً بسبب المعصية فلما لم يقلعوا مسخهم الله قردة، وقيل: إن قوله: فلما عتوا تكرير لقوله فلما نسوا ما ذكروا به للتأكيد والتقرير، وأن المسخ هو العذاب البئيس (خاسئين) الخاسىء الصاغر الذليل أو المباعد المطرود، يقال خسأته فخسئ أي باعدته فتباعد.
قال قتادة: لما عتوا عما نهوا عنه مسخهم الله فصيرهم قردة تتعاوى بعدما كانوا رجالاً ونساء، قيل صار شبان القوم قردة والمشيخة خنازير، وبقوا ثلاثة
(5/61)
أيام ينظر الناس أليهم ثم هلكوا جميعاً.
واعلم أن ظاهر النظم القرآني هو أنه لم ينج من العذاب إلا الفرقة الناهية التي لم تعص لقوله أنجينا الذين ينهون عن السوء وأنه لم يعذب بالمسخ إلا الطائفة العاصية لقوله: (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) فإن كان الطوائف منهم ثلاثاً كما تقدم فالطائفة التي لم تنه ولم تعص يحتمل أنها ممسوخة مع الطائفة العاصية لأنها قد ظلمت نفسها بالسكوت عن النهي وعتت عما نهاها الله عنه من ترك النهي عن المنكر، ويحتمل أنها لم تمسخ لأنها وإن كانت ظالمة لنفسها عاتية عن أمر ربها ونهيه لكنها لم تظلم نفسها بهذه المعصية الخاصة وهي صيد الحوت في يوم السبت ولا عتت عن نهيه لها عن الصيد.
وأما إذا كانت الطائفة الثالثة ناهية كالثانية فهما في الحقيقة طائفة واحدة لاجتماعهما في النهي والاعتزال والنجاة من المسخ، وإنما جعلت طائفة مستقلة لأنها قد جرت المقاولة بينها وبين الطائفة الأخرى من الناهين المعتزلين.
(5/62)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
(وإذ تأذن ربك) أي واسألهم وقت تأذن ربك، تأذن تفعل من الإيذان وهو الإعلام، قال أبو علي الفارسي: آذن بالمد أعلم وأذّن بالتشديد نادى، وقال قوم كلاهما بمعنى أعلم كما يقال أيقن وتيقن، وقيل معناه قال ربك وقيل حكم ربك، وقيل آلى ربك، وقال الزمخشري: عزم ربك، وقيل معناة حتم وأوجب والمعنى واسألهم وقت أن وقع الإعلام لهم من ربك.
وقيل في هذا الفعل معنى القسم كعلم الله وشهد الله، ولذلك أجيب كما يجاب به القسم حيث قال: (ليبعثن) أي ليرسلن (عليهم) ويسلطن كقوله: بعثنا عليهم عباداً لنا أولي بأس شديد (إلى يوم القيامة) غاية لقوله: (من يسومهم) يذيقهم (سوء العذاب) مما يبعثه الله عليهم، وقد كانوا
(5/62)
أقمأهم الله هكذا أذلاء مستضعفين معذبين بأيدي أهل الملل.
وهكذا هم في هذه الملة الإسلامية في كل قطر من أقطار الأرض في الذلّة المضروبة عليهم والعذاب والصغار يسلمون الجزية لحقن دمائهم ويمتهنهم المسلمون فيما فيه ذلة من الأعمال التي يتنزه عنها غيرهم من طوائف الكفار.
وعن ابن عباس قال: يسومهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته سوء العذاب أي الجزية والخراج، وقيل هو بختنصر وسنحاريب وملوك الروم، وهذا نص في أن العذاب، إنما يحصل لهم مستمراً إلى يوم القيامة، ولهذا فسر هذا العذاب بالإهانة والذلة وأخذ الجزية منهم فإذا أفضوا إلى الآخرة كان عذابهم أشد وأعظم (1).
ثم علل ذلك بقوله: (إن ربك لسريع العقاب) لمن أقام على الكفر يعاجل به في الدنيا كما وقع لهؤلاء (وإنه لغفور رحيم) أي كثير الغفران والرحمة لمن آمن منهم ودخل في دين الإسلام.
_________
(1) عن سعيد بن جابر، قال: ولم يجب الخراج بنى قط إلا موسى، جباه ثلاث عشرة سنة، ثم أمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال السدي: بعث الله عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم.
(5/63)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
(وقطعناهم في الأرض أمماً) أي فرقناهم في جوانبها أو شتتنا أمرهم فلم تجتمع لهم كلمة، قال ابن عباس: هم اليهود بسطهم الله في الأرض فليس فيها بقعة إلا وفيها عصابة منهم وطائفة، وقيل المعنى وجعلنا كل فرقة منهم في قطر بحيث لا تخلو ناحية من الأرض منهم حتى لا تكون لهم شوكة، قاله أبو السعود فلا توجد بلدة كلها يهود، ولا لهم قلعة ولا سلطان بل هم متفرقون في كل الأماكن.
(منهم الصالحون) قيل: هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن مات قبل البعثة المحمدية غير مبدل، قال الطبري: وصفهم بذلك قبل ارتدادهم عن دينهم وكفرهم بربهم ويدل له قوله الآتي: فخلف من بعدهم خلف، وقيل: هم الذين سكنوا وراء الصين ولا يصح كما تقدم بيانه.
(ومنهم دون ذلك) أي دون هذا الوصف الذي اتصفت به الطائفة الأولى وهو الصلاح والتقدير: ومنهم أناس أو قوم دون ذلك والمراد بهؤلاء من لم يؤمن بل انهمك في المخالفة لما أمره الله به.
(وبلوناهم بالحسنات والسيئات) أي امتحناهم جميعاً الصالح وغيره بالخير والشر، قال ابن عباس: الحسنات: الرخاء والعافية، والسيئات: البلاء والعقوبة أو الخصب والجدب (لعلهم يرجعون) أي رجاء أن يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي.
(5/64)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
(5/65)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
(فخلف من بعدهم خلف) المراد بهم أولاد الذين قطعهم الله في الأرض قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام الأولاد الواحد والجمع سواء، والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غيره، وقال ابن الأعرابي: الخلف بالفتح الصالح وبالسكون الطالح ومنه قيل للرديء من الكلام خلف بالسكون، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر والمعنى جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم خلف والخلف القرن الذي يجيء بعد قرن كان قبله.
(ورثوا الكتاب) أي: التوراة من أسلافهم يقرأونها ولا يعملون بها، والمراد بإرثه: انتقاله إليهم ووقوعه في أيديهم (يأخذون عرض هذا الأدنى) أخبر الله عنهم بأنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم وقوة نهمتهم، والعرض بفتح الراء جميع متاع الدنيا كما يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، والعرض بسكون الراء جميع المال سوى الدراهم والدنانير، والأدنى مأخوذ من الدنو وهو القرب أي يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى وهو الدنيا يتعجلون مصالحها بالرشا وما هو مجعول لهم من السحت في مقابلة تحريفهم لكلمات الله وتهوينهم للعمل بأحكام التوراة وكتمهم لما يكتمونه منها.
وقيل إن الأدنى مأخوذ من الدناءة والسقوط أي أنهم يأخذون عرض الشيء الدنيء الساقط التافه الخسيس الحقير، والمعنى متقارب لأن الدنيا بأسرها
(5/65)
حقيرة فانية والراغب فيها أحقر منها.
وعن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقال: أقوام يقبلون على الدنيا فيأكلونها ويتبعون رخص القرآن ويقولون سيغفر لنا ولا يعرض لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه، وقال مجاهد: هم النصارى يأخذون عرض هذا الأدنى ما أشرف لهم شيء من الدنيا حلالاً أو حراماً يشتهونه أخذوه ويتمنون المغفرة، وإن يجدوا مثله يأخذوه كما سيأتي.
(ويقولون سيغفر لنا) أي ويعللون أنفسهم بالمغفرة مع تماديهم في الضلالة وعدم رجوعهم إلى الحق، ويتمنون على الله الأماني الباطلة الكاذبة والمراد بهذا الكلام التقريع والتوبيخ لهم، عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " (1)، أخرجه الترمذي، وكان اليهود يقدمون على الذنوب ويقولون سيغفر لنا.
وهذا هو التمني بعينه والحال أنهم (إن يأتهم) كما يؤخذ من الكشاف، وقال السفاقسي أنه مستأنف (عرض مثله يأخذوه) أي مثل الذي كانوا يأخذونه أخذوه غير مبالين بالعقوبة ولا خائفين من التبعة، وقيل الضمير في يأتهم: ليهود المدينة أي: وإن يأت هؤلاء اليهود الذين هم في عصر محمد صلى الله عليه وآله وسلم عرض مثل العرض الذي كان يأخذه أسلافهم أخذوه كما أخذ أسلافهم.
(ألم يؤخذ عليهم) أي على هؤلاء المرتشين في أحكامهم، والاستفهام للتقريع والتوبيخ أو للتقرير، فالمعنى أخذ عليهم الميثاق لأن القصد منه إثبات ما بعد النفي (ميثاق الكتاب) أي التوراة (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون
_________
(1) المستدرك كتاب الإيمان 1/ 57.
(5/66)
منها قاله ابن عباس.
(و) الحال أنهم قد (درسوا ما فيه) أي الكتاب وعلموه ولم يأتوه بجهالة فكان الترك منهم عن علم لا عن جهل، وذلك أشد ذنباً وأعظم جرماً وقيل معناه: محوه بترك العمل به وإلْفهم له من قولهم درست الريح الآثار إذا محتها (والدار الآخرة خير) من ذلك العرض الذي أخذوه وآثروه عليها وارتشوا في الأحكام (للذين يتقون) الله ويخافون عقابه ويجتنبون معاصيه (أفلا تعقلون) فتعلمون بهذا وتفهمونه، وفي هذا الالتفات من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره.
(5/67)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
(والذين يمسكون بالكتاب) قرأ الجمهور بالتشديد من مسَّك بالشيء وتمسك به أي استمسكوا بالكتاب وهو التوراة وقرئ بالتخفيف من أمسك مسك، والمعنى أن طائفة من أهل الكتاب لا يتمسكون بالكتاب ولا يعملون بما فيه مع كونهم قد درسوه وعرفوه وهم من تقدم ذكرهم، وطائفة يتمسكون بالكتاب أي التوراة ويعملون بما فيه ويرجعون إليه في أمر دينهم فهم المحسنون الذين لا يضيع أجرهم عند الله وقال عطاء: هم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
(وأقاموا الصلاة) أي داموا على إقامتها في مواقيتها، قال الحسن: هي لأهل الإيمان منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وقال مجاهدة، هي لليهود والنصارى وإنما وقع التنصيص على الصلاة مع كونها داخلة في سائر العبادات التي يفعلها المتمسكون بالتوراة لأنها رأس العبادات وأعظمها وعماد الدين وناهية عن الفحشاء والمنكر وكان ذلك وجهاً لتخصيصها بالذكر، وقيل لأنها تقام في أوقات مخصوصة والتمسك بالكتاب مستمر فذكرت لهذا وفيه نظر، فإن كل عبادة في الغالب تختص بوقت معين (إنا لا نضيع أجر المصلحين) الجملة خبر الذين وفيه وضع الظاهر موضع المضمر.
(5/67)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
(5/68)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
(وإذ) أي اسألهم إذ والغرض من هذا إلزام اليهود والرد عليهم في قولهم: إن بني إسرائيل لم يصدر منهم مخالفة في الحق (نتقنا) النتق اختلفت فيه عبارات أهل اللغة فقال أبو عبيدة: هو قلع الشيء من موضعه والرمي به ومنه نتق ما في الجراب إذا نفضه فرمى ما فيه، وامرأة ناتق ومنتاق إذا كانت كثيرة الولادة، وفي الحديث: " عليكم بزواج الأبكار فإنهن أنتق أرحاماً وأطيب أفواهاً، وأرضى باليسير " (1)، وقيل النتق الجذب بشدة ومنه نتقت السقاء إذا جذبته بشدة لتقلع الزبدة من فمه، وقال الفراء: هو الرفع، وقال ابن قتيبة هو الزعزعة وبه فسر مجاهد.
وكل هذه معان متقاربة أي رفعنا (الجبل) من أصله وهو الطور الذي سمع موسى عليه كلام ربه وأعطي الألواح وقيل هو جبل من جبال فلسطين وقيل هو الجبل عند بيت المقدس وكان ارتفاعه على قدر قامتهم، فكان محاذياً لرؤوسهم كالسقيفة (فوقهم كأنه) لارتفاعه (ظلة) أي سحابة تظلهم وهي اسم لكل ما أظل، وقال البيضاوي: كأنه سقيفة وهي كل ما أظلك وقرىء طلة بالطاء من أطل عليه إذا أشرف.
(وظنوا) قيل الظن هنا بمعنى العلم وقيل هو على بابه (أنه) أي الجبل (واقع بهم) أي ساقط عليهم (خذوا) أي قلنا لهم خذوا (ما آتيناكم بقوة) هي الجد والعزيمة أي أخذاً كائناً بقوة واجتهاد، قال ابن عباس: أي خذوا ما
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 3932.
(5/68)
آتيناكم وإلا أرسلته عليكم ورفعته الملائكة فوق رؤسهم فكانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا سمعنا وأطعنا، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا سمعنا وعصينا.
وعنه قال: إني لأعلم لم يسجد اليهود إلا على حرف قال الله وإذ نتقنا الجبل قال لتأخذن أمري أو لأرمينكم به فسجدوا وهم ينظرون إليه مخافة أن يسقط عليهم وكانت سجدة رضيها الله سبحانه فاتخذوها سنة، وقال قتادة في الآية انتزعه الله من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم فسجد كل واحد منهم على خده وحاجبه الأيسر وجعل ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل خوفاً أن يسقط عليه، ولذلك لا تسجد اليهود إلا على شق وجوههم الأيسر.
(واذكروا ما فيه) من الأحكام التي شرعها الله لكم ولا تنسوها (لعلكم تتقون) أي رجاء أن تتقوا ما نهيتم عنه وتعملوا بما أمرتم به، وقد تقدم تفسير ما هنا في البقرة مستوفى فلا نعيده.
(5/69)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
(وإذ أخذ ربك من بني آدم) وكذا من آدم فالأخذ منه لازم للأخذ منهم لأن الأخذ منهم بعد الأخذ منه، ففي الآية الاكتفاء باللازم عن الملزوم (من ظهورهم) بدل اشتمال مما قبله بإعادة الجار، قاله الكواشي، والذي في الكشاف أنه بدل بعض من كل، قال الحلبي: وهو الظاهر وإيثار الأخذ على الإخراج للاعتناء بشأن المأخوذ لما فيه من الإنباء عن اختيار الاصطفاء وهو السبي في إسناده إلى الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي وإضافته إلى ضميره عليه السلام للتشريف.
(ذريتهم) هي تقع على الواحد والجمع، واستدل بهذا على أن المراد بالمأخوذين هنا هم ذرية بني آدم أخرجهم الله من أصلابهم نسلاً بعد نسل على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء فلذلك قال من ظهورهم ولم يقل من ظهر آدم لما علم أنهم كلهم بنو آدم، وقد ذهب إلى هذا جماعة من المفسرين وقالوا معنى (وأشهدهم على أنفسهم) دلهم بخلقه على أنه خالقهم فقامت هذه الدلالة مقام الإشهاد فتكون هذه الآية من باب التمثيل كما في قوله تعالى فقال لها
(5/69)
وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين وبه قال الشيخ أبو منصور والزجاج والزمخشري.
وقيل المعنى أن الله سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد وأنه جعل فيها من المعرفة ما فهمت به خطابه سبحانه، وقيل المراد ببني آدم هنا نفسه كما وقع في غير هذا الموضع، والمعنى أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد وهؤلاء هم عالم الذر وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ولا المصير إلى غيره لثبوته مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وموقوفاً على غير واحد من الصحابة ولا ملجئ للمصير إلى المجاز، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل.
وقد ذكر البيضاوي والنسفي القولين وكذا الرازي وأبو السعود وغيرهما من المفسرين الذين مستهم الفلسفة، والحق ما ذكرناه وإليه ذهب جمهور المفسرين.
وقد أخرج مالك في الموطأ وأحمد في المسند وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات والضياء في المختارة عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عنها فقال: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل فقال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال
(5/70)
أهل النار فيدخله النار " (1).
ومسلم بن يسار (2) لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر بن الخطاب رجلاً قال البغوي: قلت ذكر الطبري في بعض طرق هذا الحديث الرجل فقال عن مسلم بن يسار عن يعمر بن ربيعة عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه، وفي الباب عن أبي هريرة يرفعه عند الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وفيه قصة إعطاء آدم ابنه داود أربعين سنة من عمره.
واختلف الناس في كيفية الاستخراج على أقوال لا مستند لها والحق وجوب اعتقاد إخراجها من ظهر آدم كما شاء الله تعالى كما ورد في الصحيح، قال المقبلي في الأبحاث المسددة ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات الواردة في ذلك، وقال بعضهم الظاهر أنه استخرجهم أحياء لأنه سماهم ذرية والذرية هم الأحياء لقوله: (أنا حملنا ذريتهم في الفلك) قال ابن عباس: إن أول ما أهبط الله آدم إلى الأرض أهبطه بدهناء أرض الهند فمسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو بارئها إلى يوم القيامة ثم أخذ عليهم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم أي أشهد كل واحد منهم.
(ألست بربكم) أي قائلاً هذا فهو على إرادة القول، وفي هذه الآية رد على أهل المعاني في قولهم: إن الإغراق غير مقبول ما لم يقارن كاد، ونحو هذا مما شهد به الذوق السليم وزكّى شهادته الطبع المستقيم.
قال الشهاب في الريحانة: وهذا وإن سلمه علماء المعاني والبيان إلا أنه محتاج إلى الإيضاح والبيان فإنه يعترض عليه بما يعارضه ويكدره ورود ما يناقضه كقوله عز وجل هذا. فإنه بمعناه إذ إخراج الذرية من الظهور قبل الخلق والظهور وأخذ المواثيق والعهود مما يقتضي الترغيب والترهيب، وهذا على سبيل
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 1602.
(2) راوي الحديث عن عمر.
(5/71)
التحقيق دون التخييل والتقدير.
وقد ذكر هذا في حديث الصحيحين المعلوم عند علماء الحديث ولهم فيه طريقان مشهوران وهو مما خفي على كثير من العلماء ولهم فيه كلام محتاج للإيضاح فأقول لعلماء التفسير فيه طريقان.
(الأول) إنه من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وعلى هذا لا يبقى فيه إشكال، ولا للبحث عنه مجال.
(الثاني) إن له معنى جليلاً قام عليه أقوى برهان ودليل، فمنهم من ذهب إلى أنه استعارة وتمثيل نزّل فيه وضوح الأدلة القائمة على توحيده تعالى وصحة أحكام الشريعة المركوزة في الفطرة السليمة منزلة بروزهم في الخارج، وأخذ العهود منزلة اتباع ما ذكر وتسليمه والعمل بمقتضاه، فلا يرد عليه شيء مما ذكر.
ونحن نقول: إن الأمر الذي وقع فيه المبالغة لا يخلو إما أن يقع بعد زمان بعيد كالساعة أو لا يقع، وهو إما محال متعذر الوقوع له نظائر ومشابه أو لا، الأول مقبول لتنزيل المتحقق الوقوع منزلة الواقع، وكذا الثاني لإمكان أن يراد مجاز أو كناية والأخير هو محل الكلام، والذي عليه أهل المعاني أنه مردود ما لم يقترن به مسوغ مثل كاد ونحوها، والآية ليست من هذا القبيل لإسنادها لله الذي أبرز المعدومات من أرحام العدم، ولا يقتضي قدرته شيء في القدم، فما علينا إلا الإيمان بذلك، وما لم تصل له أفهامنا نكله إليه ونسأله أن يهدينا للوقوف عليه، وكفى هذا الاحتمال في مثل هذه الحال، وما بعد الهدى إلا الضلال انتهى.
(قالوا بلى شهدنا) أي على أنفسنا بأنك ربنا، واختلفوا في الإجابة هذه كيف كانت هل كانوا أحياء فأجابوا بلسان المقال، أو أجابوه بلسان الحال
(5/72)
والظاهر الأول ونكل علم كيفيتها إلى الله سبحانه، وكان هذا القول على وفق السؤال لأنه تعالى سألهم عن تربيتهم ولم يسألهم عن إلههم فقالوا بلى فلما انتهوا إلى زمان التكليف وظهر ما قضى الله في سابق علمه لكل أحد منهم من وافق ومنهم من خالف قاله أبو طاهر القزويني.
وقيل تجلى للكفار بالهيبة وللمؤمنين بالرحمة، فقال كلهم بلى، قيل وكان ذلك قبل دخول آدم الجنة بين مكة والطائف قاله الكلبي، وقيل بعد الهبوط منها، وقال علي في الجنة وقيل بسرانديب من أرض الهند، وهو الموضع الذي هبط آدم فيه من الجنة، وكل ذلك محتمل، ولا يضرنا الجهل بالمكان بعد صحة الاعتقاد بأخذ العهد والله أعلم.
أخرج أحمد والنسائي وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه كالذر، ثم كلمهم فقال: ألست بربكم إلى قوله .. المبطلون "، وإسناده لا مطعن فيه (1).
وأخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي والطبراني وأبو الشيخ عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لما خلق الله الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين فقال يا أصحاب اليمين فاستجابوا له، فقالوا لبيك ربنا وسعديك قال ألست بربكم قالوا بلى، الحديث ".
والأحاديث في هذا الباب كثيرة بعضها مقيد بتفسير هذه الآية وبعضها مطلق يشتمل على ذكر إخراج ذرية آدم من ظهره وأخذ العهد عليهم كما في
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 1697.
(5/73)
حديث أنس مرفوعاً في الصحيحين وغيرهما، وأما المروي عن الصحابة في تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من صلبه في عالم الذر وأخذ العهد عليهم وإشهادهم على أنفسهم فهي كثيرة جداً، وقد روي عن جماعة ممن بعد الصحابة تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من ظهره، وفيما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تفسيرها مما قدمنا ذكره ما يغني عن التطويل.
وقال أهل الكلام والنظر قولهم: بلى شهدنا على المجاز لا على الحقيقة، وهو خلاف مذهب جمهور المفسرين من السلف، قال ابن الأنباري: مذهب أصحاب الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم صور كالذر وأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم، وأنهم مصنوعه، فاعترفوا بذلك وقبلوه وذلك بعد أن ركب فيهم عقولاً عرفوا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبال عقولاً حتى خوطبوا بقوله: (يا جبال أوّبي معه) وكما جعل للبعير عقلاً حتى سجد للنبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك الشجرة حتى سمعت لأمره وانقادت.
وقولهم: شهدنا إقرار له بالربوبية وكلام مستأنف وقيل شهدنا على أنفسنا بهذا الإقرار وليس في الآية ما يدل على بطلان ما ورد في الأحاديث، وقد ورد الحديث بثبوت ذلك وصحته فوجب المصير إليه والأخذ به جميعاً بينهما، وحكى الواحدي عن صاحب النظم أنه قال ليس بين قوله - صلى الله عليه وسلم - إن الله مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته وبين الآية اختلاف بحمد الله تعالى لأنه تعالى إذا أخرجهم من ظهر آدم فقد أخرجهم من ظهور ذريته، لأن ذرية آدم كذرية بعضهم من بعض.
فإن قيل إذا سبق لنا عهد وميثاق مثل هذا فلأي شيء لا نذكره اليوم، والجواب على ما ذكره سليمان الجمل إننا لم نتذكر هذا العهد لأن تلك البنية قد انقضت وتغيرت أحوالها بمرور الدهور عليها في أصلاب الأباء وأرحام
(5/74)
الأمهات وتطور الأطوار الواردة عليها من العلقة والمضغة واللحم والعظم، وهذا كله مما يوجب النسيان.
وكان علي بن أبي طالب يقول إني لأذكر العهد الذي عهد إليّ ربي، وكذا كان سهل بن عبد الله التستري يقول اهـ.
قلت: وكذا روي عن الشيخ نظام الدين الدهلوي المعروف بسلطان الأولياء ثم ابتدأهم بالخطاب على ألسنة الرسل وأصحاب الشرائع فقام ذلك مقام الذكر، ولو لم ينسوه لانتفت المحنة والتكليف، ولم يبلغنا في كون تلك الذرات مصورة بصورة الإنسان دليل، والأقرب للعقول عدم الاحتياج إلى كونها بصورة الإنسان إذ السمع والنطق لا يفتقران إلى الصورة بل يقتضيان محلا حياً لا غير، ويحتمل أن يكونوا مصورين بصورة الإنسان لقوله تعالى: (من ظهورهم ذرياتهم) ولم يقل ذراتهم ولفظ الذرية يقع على المصورين.
والحكمة في أخذ الميثاق منهم إقامة الحجة على من لم يوف بذلك العهد، والظاهر أنه لما ردهم إلى ظهره قبض أرواحهم، وأما أن الأرواح أين رجعت بعد رد الذرات إلى ظهره فهذه مسألة غامضة لا يتطرق إليها النظر العقلي بأكثر من أن يقال رجعت لما كانت عليه قبل حلولها في الذرات.
وورد أن كتاب العهد والميثاق مودع في باطن الحجر الأسود، ذكره الشعراني في رسالته [القواعد الكشفية في الصفات الإلهية] وذكر فيها على هذه الآية اثني عشر سؤالاً وأجاب عنها، والحق عندي إن كل ما لم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة فإطواؤه على غرة أولى وترك الخوض فيه أحرى.
(أن تقولوا) أي كراهة أن أو لئلا تقولوا (يوم القيامة إنا كنا عن هذا) أي عن كون الله ربنا وحده لا شريك له (غافلين).
(5/75)
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
(5/76)
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
(أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا) أي فعلنا ذلك كراهة أن تعتذروا بالغفلة أو تنسبوا الشرك إلى آبائكم دونكم وأو لمنع الخلو دون الجمع فقد يعتذرون بمجموع الأمرين (من قبل) أي قبل زماننا (وكنا ذرية من بعدهم) أي أتباعاً لهم فاقتدينا بهم في الشرك لا نهتدي إلى الحق ولا نعرف الصواب (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) من آبائنا ولا ذنب لنا لجهلنا وعجزنا عن النظر واقتفائنا آثار سلفنا.
بيَن الله سبحانه في هذه الآية الحكمة التي لأجلها أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم وأنه فعل ذلك بهم لئلا يقولوا هذه المقالة يوم القيامة ويعتلوا بهذه العلة الباطلة ويعتذروا بهذه المعذرة الساقطة ففي هذه الآية قطع لعذر الكفار فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل ذلك.
وقال أهل النظر: المراد منه مجرد نصب الدلائل وإظهارها للعقول، والحق هو الأول والمعنى لا يمكنهم الاحتجاج بذلك مع إشهادهم على أنفسهم بالتوحيد والتذكير له على لسان صاحب المعجزة قائم مقام ذكره في النفوس.
(5/76)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
(وكذلك) أي مثل ذلك التفصيل البليغ (نفصل الآيات) لهم ليتدبروها (ولعلهم يرجعون) إلى الحق ويتركون ما هم عليه من الباطل وقيل يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بموجبه ومقتضاه والمآل واحد.
(5/76)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) وهي علوم الكتب القديمة والتصرف بالاسم الأعظم فكان يدعو به حيث شاء فيجاب بعين ما طلب في
(5/76)
الحال، وإيراد هذه القصة منه سبحانه وتذكير أهل الكتاب بها لأنها كانت مذكورة عندهم في التوراة.
وقد اختلف في هذا الذي أوتي الآيات فقيل هو بلعم بن باعوراء، قاله ابن عباس، وفي لفظ بلعام بن باعر الذي أوتي الإسم الأعظم، كان في بني إسرائيل وبه قال مجاهد، وكان قد حفظ بعض الكتب المنزلة.
وقيل كان قد أوتي النبوة، وكان مجاب الدعوة بعثه الله إلى مدين يدعوهم إلى الأيمان فأعطوه الأعطية الواسعة فاتبع دينهم وترك ما بعث به فلما أقبل موسى في بني إسرائيل لقتال الجبارين، سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى فقام ليدعو عليه فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه فقيل له في ذلك فقال لا أقدر على أكثر مما تسمعون، واندلع لسانه على صدره فقال: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة وسأمكر لكم وإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنا فإن وقعوا فيه هلكوا فوقع بنو إسرائيل في الزنا فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفاً.
وقيل إن هذا الرجل اسمه باعم وهو من بني إسرائيل، وقيل من الكنعانيين من بلد الجبارين وقال مقاتل: هو من مدينة البلقاء وقال ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن آبن، والقصة ذكرها جماعة من المفسرين وفيها أن موسى دعا على بلعام بأن ينزع عنه الإسم الأعظم والإيمان.
ولا يصح ذلك من غير نظر فيه ولا بحث.
وقيل المراد به أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك فلما أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسده
(5/77)
وكفر به، قاله عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وقيل: هو أبو عامر بن صيفي، وكان يلبس المسوح في الجاهلية فكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
وكانت الأنصار تقول هو ابن الراهب الذي بنى له مسجد الشقاق، وقيل: نزلت في البسوس رجل من بني إسرائيل قاله ابن عباس وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب قاله الحسن وابن كيسان وقيل نزلت في قريش آتاهم الله آياته التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكفروا بها، وقيل: نزلت في اليهود والنصارى انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكفروا به.
وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى ولم يقبله، قيل والمراد بالآيات اسم الله الأكبر قاله ابن عباس، وقال ابن زيد: كان لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه قال السدي: كان يعلم اسم الله الأعظم، وقيل إنه أوتي كتاباً وقيل إن الله آتاه حجة وأدلة (1).
(فانسلخ منها) كما تنسلخ الحية والشاة عن جلدها فلم يبق له بها اتصال، وقال ابن عباس: نزع منه العلم والإنسلاخ التعري من الشيء، وليس في الآية قلب إذ لا ضرورة تدعو إليه وإن زعمه بعضهم وأن أصله فانسلخت منه.
(فأتبعه الشيطان) عند انسلاخه عن الآيات أي لحقه فأدركه وصار قريناً له أو فأتبعه خطواته وصيره تابعاً لنفسه وقيل أتبعه بمعنى استتبعه (فكان من الغاوين) أي المتمكنين في الغواية وهم الكفار.
_________
(1) راجع فقه اسم الله الأعظم في زاد المسير 3/ 288.
(5/78)
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
(5/79)
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
(ولو شئنا) رفعه بما آتيناه من الآيات (لرفعناه بها) أي بسببها إلى منازل العلماء ولكن لم نشأ ذلك لانسلاخه عنها وتركه للعمل بها، وقيل: المعنى لو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها أي بالعمل بها قاله ابن عباس وقال مجاهد وعطاء: لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات.
(ولكنه أخلد) أصل الإخلاد اللزوم يقال أخلد فلان بالمكان إذا أقام به ولزمه، والمعنى هنا أنه مال وسكن إلى الدنيا ورغب فيها ورضي بها واطمأن وآثرها على الآخرة (إلى الأرض) هي هنا عبارة عن الدنيا لأن بها المفاوز والقفار والمدن والضياع والمعادن والنبات، ومنها يستخرج ما يعاش به في الدنيا فالدنيا كلها هي الأرض.
(واتبع هواه) أي ما يهواه وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله وهو حطام الدنيا وقيل كان هواه مع الكفار وقيل: اتبع رضاء زوجته وكانت هي التي حملته على الإنسلاخ من آيات الله، وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء الذين يريدون بعلمهم الدنيا وشهوات النفس ويتبعون الهوى.
(فمثله كمثل الكلب) أي وصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطاً إلى أسفل رتبة مشابهاً لأخس الحيوانات في الدناءة مماثلاً له في أقبح أوصافه (إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) أي في كلتا حالتي قصد
(5/79)
الإنسان له وتركه هو لاهث سواء زجر أو ترك، طرد أو لم يطرد، شد عليه أو لم يشد، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء.
والمعنى مثله كمثل الكلب حال كونه متصفاً بهذه الصفة أي: إن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوي عن المعصية في جميع أحواله سواء وعظه الواعظ وذكره المذكر وزجره الزاجر أو لم يقع شيء من ذلك، قال القتيبي: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة وحال الري وحال العطش فضربه الله مثلاً لمن كذب بآياته فقال إن وعظته ضل وإن تركته ضل فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث كقوله تعالى: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون).
واللهث: إخراج اللسان لتعب أو عطش أو غير ذلك قاله الجوهري قيل معنى الآية إنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هارباً وإن تركته شد عليك ونبح فيتعب نفسه مقبلاً عليك ومدبراً عنك فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان، يقال لهث الكلب يلهث إذا أدلع لسانه.
(ذلك) أي التمثيل بتلك الحالة الخسيسة (مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) من اليهود بعد أن علموا بها وعرفوها فحرفوا وبدلوا وكتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكذبوا بها، وقيل عم هذا المثل جميع من كذب بآيات الله وجحدها وهو الحق لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (فاقصص القصص) الذي هو صفة الرجل المنسلخ عن الآيات عليهم فإن مثل المذكور كمثل هؤلاء القوم المكذبين من اليهود الذين نقص عليهم (لعلهم يتفكرون) في ذلك ويعملون فيه إفهامهم فينزجرون عن الضلال ويقبلون على الصواب، وقيل هذا المثل لكفار مكة ولا وجه لتخصيصه بفرد دون فرد والأولى هو العموم.
(5/80)
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
(ساء مثلاً) هذه الجملة متضمنة لبيان حال هؤلاء القوم البالغة في القبح إلى الغاية يقال ساء الشيء قبح فهو لازم وساءه يسوءه مساءة فهو متعد وهو من أفعال الذم كبئس والمخصوص بالذم (القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون) أي ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم لا يتعداها ظلمهم إلى غيرها ولا يتجاوزها، وقيل المعنى أنهم جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم وهذا أفيد.
(5/81)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
(من يهدي الله) أي يرشده إلى دينه أو يتول هدايته (فهو المهتدي) لما أمر به وشرعه لعباده (ومن يضلل) أي يتول ضلالته (فأولئك هم الخاسرون) الكاملون في الخسران من هداه فلا مضل له ومن أضله فلا هادي له ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
أخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وابن مردوية والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ثم يقول بعثت أنا والساعة كهاتين (1).
فلو كان الهدى من الله البيان كما قالت المعتزلة لاستوى الكافر والمؤمن إذ البيان ثابت في حقهما فدل أنه من الله التوفيق والعصمة والمعونة ولو كان ذلك للكافر لاهتدى كما اهتدى المؤمن.
_________
(1) مسلم/867.
(5/81)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
(5/82)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
(ولقد ذرأنا لجهنم) أي خلقنا للتعذيب بها خلقاً (كثيراً من) طائفتي (الجن والإنس) جعلهم سبحانه للنار بعدله وبعمل أهلها يعملون وقد علم ما هم عاملون قبل كونهم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن النجار عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله لما ذرأ لجهنم من ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم، وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم (1)، أخرجه مسلم.
(لهم قلوب لا يفقهون بها) شيئاً من أمور الآخرة، جعل سبحانه قلوبهم لما كانت غير فاقهة لما فيه نفعهم ورشادهم غير فاقهة مطلقاً، وإن كانت تفقه في غير ما فيه النفع والرشاد فهو كالعدم والفقه في اللغة الفهم والعلم بالشيء يقال فقه الرجل فهو فقيه إذا فهم، وهكذا معنى (ولهم أعين لا يبصرون بها) طريق الهدى والحق (ولهم آذان لا يسمعون بها) الحق فإن الذي انتفى من الأعين هو إبصار ما فيه الهداية بالتفكر والاعتبار وإن كانت مبصرة في غير ذلك، والذي انتفى من الآذان هو سماع المواعظ النافعة والشرائع التي اشتملت عليها الكتب المنزلة وما جاءت به رسل الله عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا يسمعون غير ذلك.
_________
(1) مسلم/2662.
(5/82)
(أولئك) المتصفون بهذه الأوصاف (كالأنعام) أي البهائم في انتفاء انتفاعهم بهذه المشاعر مع وجودها فيهم، والعرب تقول مثل ذلك لمن ترك استعمال بعض جوارحه فيما لا يصلح له ثم جعلهم شراً من الأنعام فقال: (بل هم أضل) أي حكم عليهم بأنهم أضل منها لأنها تدرك بهذه الأمور ما ينفعها ويضرها فتنتفع بما ينفع وتجتنب ما يضر وهؤلاء لا يميزون بين ما ينفع وما يضر باعتبار ما طلبه الله منهم وكلفهم به بل يقدمون على النار معاندة (أولئك هم الغافلون) حكم عليهم بالغفلة الكاملة لما هم عليه من عدم التمييز الذي هو من شأن من له عقل وبصر وسمع.
(5/83)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
(ولله الأسماء) ذكر ذلك في أربع سور في القرآن: أولها هذه السورة، وثانيها في آخر بني إسرائيل، وثالثها في أول طه، ورابعها في آخر الحشر، وهذه الآية مشتملة على الإخبار من الله سبحانه بما له من الأسماء على الجملة دون التفصيل، و (الحسنى) تأنيث الأحسن أي التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول، وقيل الحسنى مصدر وصف به كالرجعى وأفرده كما أفرد وصف ما لا يعقل.
وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وأبو عوانة وابن جبير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مسنده وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة أنه وتر يحب الوتر (1)، وفي لفظ ابن مردويه وأبي نعيم من دعا بها استجاب الله دعاءه، وزاد الترمذي في سننه بعد قوله يحب الوتر هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، إلى قوله الصبور، وهي معروفة، هكذا أخرج الترمذي هذه الزيادة عن أبي هريرة مرفوعة وقال هذا حديث غريب، وقد روي من غير وجه
_________
(1) مسلم/2677.
(5/83)
عن أبي هريرة ولا يعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث.
قال ابن كثير في تفسيره والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء مدرج في هذا الحديث وأنهم جمعوها من القرآن، ثم قال: ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين بدليل ما رواه أحمد في مسنده عن ابن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: [ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، الحديث .. ] وقد أخرجه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه بمثله انتهى (1).
وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات قال النووي: اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما المقصود أن من أحصاها دخل الجنة فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء انتهى.
قال ابن حزم جاءت في إحصائها يعني الأسماء الحسنى أحاديث مضطربة لا يصح منها شيء أصلاً وقد أخرجها بهذا العدد الذي أخرجه الترمذي ابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فذكراه ولا أدري كيف إسناده.
وعن أبي جعفر محمد بن الصادق قال: هي في القرآن ثم سردها سورة فسورة.
_________
(1) ابن كثير 2/ 269.
(5/84)
وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أنّه تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حررها منه تسعة وتسعين ثم سردها ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة وهي في القرآن.
وقد أطال أهل العلم الكلام على الأسماء الحسنى حتى أن ابن العربي في شرح الترمذي حكى عن بعض أهل العلم أنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم، ومعنى أحصاها حفظها، قاله البخاري وبه قال أكثر المحققين ويعضده الرواية الأخرى من حفظها دخل الجنة، وقيل العدد أي عدها في الدعاء بها وقيل المعنى من أطاقها وأحسن المراعاة لها وقيل أحضر بباله عند ذكرها معناها وتفكر في مدلولها والأول أولى، وقد ذكر الرازي في هذا المقام بحثاً في أن الإسم عين المسمى أو غيره وهو مما لم يكلف الله به عباده.
وفي قوله: (فادعوه بها) دليل على أن أسماء الله سبحانه توقيفية لا اصطلاحية والمعنى سموه به وأجروها عليه واستعملوها فيه دعاء ونداء وغير ذلك فلا تسموه بغيرها مما لم يرد إطلاقه عليه تعالى، أمرهم بأن يدعوه بها عند الحاجة فإنه إذا دعي بأحسن أسمائه كان ذلك من أسباب الإجابة.
(وذروا الذين يلحدون) الإلحاد الميل والانحراف وترك القصد، يقال لحد الرجل في الدين وألحد إذا مال، ومنه اللحد في القبر لأنه في ناحيته قال ابن عباس: الإلحاد التكذيب، وقال عطاء: هو المضاهاة، وقال الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها وقال قتادة: يشركون.
والإلحاد (في أسمائه) سبحانه يكون على ثلاثة أوجه.
إما بالتغيير كما فعله المشركون فإنهم أخذوا اسم اللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان قاله ابن عباس ومجاهد.
(5/85)
أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها قال أهل المعاني: هو تسميته بما لم يسم به نفسه ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة، لأن أسماءه كلها توقيفية فلا يجوز فيها غير ما ورد في الشرع بل يدعوه بأسمائه التي وردت في الكتاب والسنة على وجه التعظيم (1).
أو بالنقصان منها بأن يدعوه ببعضها دون بعض ولا يسميه باسم لا يعرف معناه ولا باسم فيه من الغرابة والمعنى أتركوهم لا تحاجوهم ولا تعرضوا لهم. وعلى هذا المعنى فالآية منسوخة بآيات القتال وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً) وقوله: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا) وهذا أولى لقوله: (سيجزون ما كانوا يعملون) فإنه وعيد لهم بنزول العقوبة وتحذير للمسلمين أن يفعلوا كفعلهم.
وقد ذكر مقاتل وغيره من المفسرين أن هذه الآية نزلت في رجل من المسلمين كان يقول: في صلاته يا رحمن يا رحيم فقال رجل من المشركين: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو ربين اثنين حكى ذلك القرطبي (2).
_________
(1) قال ابن العربي: " فحذار منها، ولا يدعون أحدكم إلا بما في كتاب الله والكتب الخمسة، وهي البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي. فهذه الكتب التي يدور الإسلام عليها، وقد دخل فيها ما في الموطأ الذي هو أصل التصانيف، وذروا ما سواها، ولا يقولن أحدكم اختار دعاء كذا وكذا، فإن الله قد اختار له وأرسل بذلك إلى الخلق رسوله صلى الله عليه وسلم. (ذكره القرطبي في 7/ 321).
(2) وقد روى مقاتل: أن رجلاً دعا الله في صلاته ودعا الرحمن فقال أبو جهل: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يداعونني فنزلت الآية.
(5/86)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
(5/87)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
(وممن خلقنا) أي من جملة من خلقه الله (أمة) وعصابة وجماعة (يهدون) الناس متلبسين (بالحق) أو يهدونهم بما عرفوه من الحق (وبه) أي بالحق (يعدلون) بينهم قيل هم من هذه الأمة وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان قاله ابن عباس.
وعن الكلبي هم من آمن من أهل الكتاب وقيل هم العلماء والدعاة إلى الدين وقيل إنهم الفرقة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين كما ورد في الحديث الصحيح عن معاوية قال وهو يخطب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك (1) أخرجه البخاري ومسلم.
وعن ابن جريج قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: هذه أمتي يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون، وعن قتادة قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول إذا قرأها: هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة الآية (2).
وعن الربيع في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم متى نزل أخرجه ابن أبي حاتم.
_________
(1) مسلم/1037 البخاري/62.
(2) ابن كثير 1/ 269.
(5/87)
وفي الآية دليل على أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به ويهدي إليه قيل وفيه دلالة على أن إجماع كل عصر حجه، والبحث في ذلك مفصل في الأصول.
ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة بين حال من يخالفهم فقال:
(5/88)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
(والذين كذبوا بآياتنا) يريد به جميع المكذبين بآيات الله وهم الكفار وقيل المراد بهم أهل مكة والأول أولى، لأن صيغة العموم تتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) الاستدراج هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة والدرج كف الشيء يقال أدرجته ودرجته ومنه إدراج الميت في أكفانه وقيل هو من الدرجة فالاستدراج أن يخطو درجة بعد درجة إلى المقصود، ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب طواه شيئاً بعد شيء، ودرج القوم مات بعضهم في إثر بعض.
والمعنى سنستدنيهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم وذلك بإدرار النعم عليهم وإنسائهم شكرها فينهمكون في الغواية ويتنكبون طرق الهداية لاغترارهم بذلك وأنه لم يحصل لهم إلا بما لهم عند الله من المنزلهْ والزلفة.
قال الأزهري: سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون، وقال السدي سنأخذهم من حيث لا يعلمون، قال عذاب بدر: وعن يحيى بن المنى قال كلما أحدثوا ذنباً جددنا لهم نعمة تنسيهم الاستغفار، وبه قال الضحاك وقال سفيان: نسبغ عليهم النعمة ونمنعهم شكرها، وعن ثابت البناني أنه سئل عن الاستدراج فقال: ذلك مكر الله بالعباد المضيعين، قال الكلبى: نزين أعمالهم ثم نهلكهم بها روي أن عمر بن الخطاب لما حمل إليه كنوز كسرى، قال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول سنستدرجهم من حيث لا يعلمون.
(5/88)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
(5/89)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
(وأملي) الإملاء الإمهال والتطويل أي أطيل (لهم) المدة وأمهلهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي وأؤخر عنهم العقوبة (إن كيدي متين) جملة مقررة لما قبلها من الاستدراج والإملاء ومؤكدة له والكيد المكر والمتين الشديد القوي وأصله من المتن وهو اللحم الغليظ الذي على جانب الصلب لأنه أقوى ما في الحيوان وقد متن بالضم يمتن متانة أي قوي.
والمعنى أن أخذي أو مكري شديد لا يطاق قال ابن عباس: كيد الله العذاب والنقمة قال في الكشاف سماه كيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان، وفي الآية دليل على مسألة القضاء والقدر، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
(5/89)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
(أو لم يتفكروا) الإستفهام للإنكار عليهم حيث لم يتفكروا في شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيما جاء به (ما بصاحبهم من جنة) ما للاستفهام الإنكاري والجنة مصدر أي وقع منهم التكذيب ولم يتفكروا أي شيء من جنون كائن بصاحبهم كما يزعمون؟ فإنهم لو تفكروا لوجدوا زعمهم باطلاً وقولهم زوراً وبهتاناً.
وقيل أي ليس بصاحبهم شيء مما يدعونه من الجنون فيكون هذا رداً لقولهم: [يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون] ويكون الكلام قد تم عند قوله (أو لم يتفكروا) والوقف عليه من الأوقاف الحسنة.
(5/89)
عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قام على الصفا فدعا قريشاً فخذاً فخذاً يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائل: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوت حتى أصبح فأنزل الله هذه الآية (1).
وإنما نسبوه إلى الجنون وهو بريء منه لأنه صلى الله عليه وآله وسلم خالفهم في الأقوال والأفعال لأنه كان معرضاً عن الدنيا ولذاتها مقبلاً على الآخرة ونعيمها مشتغلاً بالدعاء إلى الله وإنذار بأسه ونقمته ليلاً ونهاراً من غير ملال ولا ضجر فعند ذلك نسبوه إلى جنون فبرأه الله من الجنون وقال (إن هو إلا نذير مبين) أي بين الإنذار والجملة مقررة لمضمون ما قبلها ومبينة لحقيقة حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
_________
(1) رواه الطبري 13/ 289 وابن كثير 2/ 270.
(5/90)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
(أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض) الاستفهام للإنكار والتوبيخ والتقريع ولقصد التعجب من إعراضهم عن النظر في الآيات البينة الدالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية.
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
والملكوت من أبنية المبالغة ومعناه الملك العظيم، وقد تقدم بيانه، والمعنى أن هؤلاء لم يتفكروا حتى ينتفعوا بالتفكر، ولا نظروا في مخلوقات الله حتى يهتدوا بذلك إلى الإيمان به بل هم متبادرون في ضلالتهم خائضون في غوايتهم لا يعملون فكراً، ولا يمعنون نظراً.
(وما خلق الله) أي ولم ينظروا فيما خلق (من شيء) من الأشياء كائناً ما كان فإن في جميع مخلوقاته عبرة للمعتبرين وهو عظة للمتفكرين سواء كانت
(5/90)
من جلائل مصنوعاته كملكوت السموات والأرض أو من دقائقها من سائر مخلوقاته (وأن) أي أولم ينظروا في أن الشأن والحديث (عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) فيموتون عن قريب، والمعنى أنهم إذا كانوا يجوزون قرب آجالهم فما لهم لا ينظرون فيما يهتدون به وينتفعون بالتفكر فيه والاعتبار به، وافتعل هنا بمعنى الفعل المجرد أي قرب وقت أجلهم (1).
(فبأي حديث بعده) الضمير للقرآن وقيل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل للأجل المذكور قبله وقيل الضمير يرجع إلى ما تقدم من التفكر والنظر في الأمور المذكورة أي بأي حديث بعد هذا المتقدم بيانه (يؤمنون) وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره، والجملة الاستفهامية سيقت للتعجب أي إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فكيف يؤمنون بغيره.
وجملة
_________
(1) قلت: هذا هو الصحيح في الباب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ". وترجم ابن المنذر في كتاب الأشراف (ذكر صفة كمال الإيمان) اجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام -وهو بالغ صحيح العقل- أنه مسلم. (ذكره القرطبي 7/ 331).
(5/91)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
(من يضلل الله فلا هادي له) مقررة لما قبلها أي هذه الغفلة منهم عن هذه الأمور الواضحة البينة ليس إلا لكونهم ممن أضله الله ومن يضلله فلا يوجد له من يهديه إلى الحق وينزعه عن الضلالة البتة (ويذرهم في طغيانهم يعمهون) أي يتحيرون وقيل يترددون ولا يهتدون سبيلاً.
(5/91)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
(يسئلونك) استئناف مسوق لبيان بعض أحكام ضلالهم وطغيانهم والسائلون هم اليهود وقيل قريش (عن الساعة) أي القيامة وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقها على القيامة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها أو لأنها ساعة عند الله مع طولها في نفسها (أيان) ظرف زمان مبنى على الفتح ومعناه متى واشتقاقه من أي وقيل من أين (مرساها) أي أي وقت ارساؤها واستقرارها وحصولها وكأنه شبهها بالسفينة القائمة في البحر مأخوذ من أرساها الله أي أثبتها.
وقرئ بفتح الميم من رست أي ثبتت ومنه وقدور راسيات ومنه رسى الجبل، والمعنى متى يثبتها ويوقعها ويرسيها الله،؟ وقال الطيبي: الرسو إنما يستعمل في الأجسام الثقيلة وإطلاقه على الساعة تشبيه للمعاني بالأجسام، وقال ابن عباس: منتهاها أي وقوعها، قال: والساعة الوقت الذي تموت فيه الخلائق، وظاهر الآية أن السؤال عن نفس الساعة، وظاهر أيان مرساها أن السؤال عن وقتها فحصل من الجميع أن السؤال المذكور هو عن الساعة باعتبار وقوعها في الوقت المعين لذلك.
ثم أمره الله سبحانه بأن يجيب عنهم بقوله: (قل إنما علمها) أي علم وقت ارسائها باعتبار وقوعها (عند ربي) قد استأثر به لا يعلمها غيره ولا يهتدي إليها سواه ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية (لا يجليها) التجلية إظهار الشيء يقال جلى لي فلان الخبر إذا أظهره وأوضحه أي لا يظهرها ولا يكشف عنها، وقال مجاهد: لا يأتي بها، وقال السدِّي: لا
(5/92)
يرسلها (لوقتها إلا هو) سبحانه بالذات من غير أن يشعر به أحد من المخلوقين.
وفي استئثار الله سبحانه بعلم الساعة حكمة عظيمة وتدبير بليغ كسائر الأشياء التي أخفاها الله واستأثر بعلمها، وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها مبينة لاستمرار تلك الحالة إلى حين قيامها.
(ثقلت في السموات والأرض) أي عظمت على أهلهما وشقت على العالم العلوي والسفلي، قيل معنى ذلك أنه لما خفي علمها على أهل السموات والأرض كانت ثقيلة لأن كل ما خفي علمه ثقيل على القلوب، وقيل المعنى لا تطيقها السموات والأرض لعظمها لأن السماء تنشق والنجوم تتناثر والبحار تنضب، وقيل عظم وصفها عليهم، وقيل ثقلت المسألة عنها.
وقال ابن عباس: يعني ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة وقيل ثقلت لأن فيها فناءهم وموتهم وذلك ثقيل على الأفئدة، وقيل كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة ويتمنى أن يتجلى له علمها ويشق عليه خفاؤها وثقل عليه، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها أيضاً.
(لا تأتيكم) الساعة (إلا بغتة) أي فجأة على حين غفلة من الخلق، وقد ورد في هذا الباب أحاديث كثيرة صحيحة هي معروفة وهذه الجملة كالتي قبلها في التقرير.
(يسئلونك كأنك حفي عنها) استئناف مسوق لبيان خطئهم في توجيه السؤال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء على زعمهم أنه عالم بالمسؤول عنه، قال ابن فارس: الحفي العالم بالشيء والحفي المستقصي في السؤال يقال
(5/93)
أحفى في المسئلة وفي الطلب فهو محف وحفي على التكثير مثل مخضب وخضيب، والمعنى يسألونك عن الساعة كأنك عالم بها أو كأنك مستقص للسؤال عنها ومستكثر منه ومتطلع إلى علم مجيئها وعن بمعنى الباء.
وقيل المعنى كأنك حفي بهم، والأول هو معنى النظم القرآني على مقتضى المسلك العربي، قال ابن عباس: يقول كان بينك وبينهم مودة وكأنك صديق لهم.
(قل إنما علمها عند الله) أمره الله سبحانه بأن يكرر ما أجاب به عليهم سابقاً لتقرير الحكم وتأكيده، قال في المدارك: وعلى هذا تكرير العلماء في كتبهم لا يخلو عن فائدة انتهى.
وقيل ليس بتكرير بل أحدهما معناه استئثار الله بهذا وعدم علم خلقه به لم يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، والآخر الاستئثار بكنهها نفسها وثقلها وشدائدها.
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أن علمها عند الله وأنه استأثر به حتى لا يسألوا عنه وقيل لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفي علم وقت قيامها عن الخلق (1).
_________
(1) روى البخاري 13/ 77 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها " وهو جزء من حديث طويل، يدل على أن الساعة تأتي بغتة. وقوله: " يليط حوضه " بفتح أوله من الثلاثي، وبضمه من الرباعي، والمعنى: يصلحه بالطين والمدر، فيسد شقوقه، ليملأه ويسقي منه دوابه.
(5/94)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
(5/95)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
(قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً) قال ابن جرير: يعني الهدى والضلالة وهذه الجملة متضمنة لتأكيد ما تقدم من عدم علمه بالساعة أيان تكون ومتى تقع لأنه إذا كان لا يقدر على جلب نفع له أو دفع ضر عنه.
(إلا ما شاء الله) سبحانه من النفع له والدفع عنه، فبالأولى أن لا يقدر على علم ما استأثر الله بعلمه، وفي هذا من إظهار العبودية والإقرار بالعجز عن الأمور التي ليست من شأن العبيد، والاعتراف بالضعف عن انتحال ما ليس له صلى الله عليه وآله وسلم ما فيه أعظم زاجر، وأبلغ واعظ لمن يدعي لنفسه ما ليس من شأنها وينتحل علم الغيب بالنجامة أو الرمل أو الطرق بالحصى أو الزجر.
قال النسفي: أي أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر كالمماليك إلا ما شاء مالكي من النفع لي والدفع عني، والاستثناء منقطع، وبه قال ابن عطية وهو أبلغ في إظهار العجز.
ثم أكد هذا وقرره بقوله: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) أي لو كنت أعلم جنس الغيب لتعرضت لما فيه الخير فجلبته إلى نفسي وتوقيت ما فيه السوء حتى لا يمسني، ولكني عبد لا أدري ما عند ربي ولا ما قضاه فيّ وقدره لي، فكيف أدري غير ذلك وأتكلف علمه، وقيل المعنى لو
(5/95)
كنت أعلم ما يريد الله عز وجل مني من قبل أن يعرفنيه لفعلته، وقيل لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب لقاتلت فلم أغلب، وقيل لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه، وقيل لو كنت أعلم وقت الموت لاستكثرت من العمل الصالح، وقيل لو كنت أعلم وقت الخصب والجدب لاعتددت من الخصب للجدب وقيل غير ذلك والأولى حمل الآية على العموم فيندرج هذه الأمور وغيرها تحتها.
(وما مسنى السوء) كلام مستأنف أي ليس لي ما تزعمون من الجنون، والأولى أنه متصل بما قبله والمعنى لو علمت الغيب ما مسني السوء ولحذرت عنه كما قدمنا ذلك وقال ابن جريج: لا يصيبني الفقر، وقال ابن زيد: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون، وقال الكرخي: أي ما مسني سوء يمكن التفصي عنه بالتوقي عن موجباته والمدافعة بموانعه لا سوء ما فإن منه ما لا مدفع له.
(إن أنا إلا نذير وبشير) أي ما أنا إلا مبلغ عن الله أحكامه (لقوم يؤمنون) أي كتب في الأزل أنهم يؤمنون فإنهم المنتفعون به فلا ينافي كونه بشيراً ونذيراً للناس كافة، واللام في لقوم من باب التنازع، فعند البصريين تتعلق ببشير، وعند الكوفيين بنذير، وقيل نذير بالنار للكافرين وبشير بالجنة للمؤمنين.
وعلى هذا متعلق النذارة محذوف والذي أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم عن المغيبات، وقد جاءت بها أحاديث في الصحيح فهو من قبيل المعجزات.
ومن قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك على سبيل التواضع والأدب فقد أبعد النجعة بل قاله صلى الله عليه وآله وسلم معتقداً
(5/96)
بذلك، وأن الله هو المستأثر بعلم الغيب والمعجزات مخصصة من هذا العموم كما قال تعالى: (إلا من ارتضى من رسول).
(5/97)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
(هو الذي خلقكم) خطاب لأهل مكة (من نفس واحدة) أي آدم قاله جمهور المفسرين والتأنيث باعتبار لفظ النفس وهذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نعم الله على عباده وعدم مكافأتهم لها بما يجب من الشكر والاعتراف بالعبودية وأنه المتفرد بالإلهية.
(وجعل منها) أي من هذه النفس وقيل من جنسها كما في قوله تعالى: (جعل لكم من أنفسكم أزواجاً) والأول أولى (زوجها) وهي حواء خلقها من ضلع من أضلاعه (ليسكن) علة للجعل أي لأجل أن يأنس (إليها) ويطمئن بها فإن الجنس بجنسه أسكن وإليه آنس، وكان هذا في الجنة كما وردت بذلك الأخبار ثم ابتدأ سبحانه بحالة أخرى كانت بينهما في الدنيا بعد هبوطهما فقال:
(فلما تغشاها) أي آدم زوجه والتغشي كناية عن الوقاع أي فلما جامعها كنى به عن الجماع أحسن كناية لأن الغشيان إتيان الرجل المرأة وقد غشيها وتغشاها إذا علاها وتجللها (حملت حملاً خفيفاً) أي علقت به بعد الجماع، والمشهور أن الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على شجرة، والحمل بالكسر خلافه وقد حكى في كل منهما الكسر والفتح وهو هنا إما مصدر فينتصب انتصاب المفعول المطلق أو الجنين المحمول فيكون مفعولاً به، ووصفه بالخفة لأنه عند إلقاء النطفة أخف منه عند كونه علقة، وعند كونه علقة أخف منه عند كونه مضغة، وعند كونه مضغة أخف مما بعده، وقيل إنه خف عليها هذا الحمل من ابتدائه إلى انتهائه ولم تجد منه ثقلاً كما تجده الحوامل من النساء لقوله:
(فمرت به) أي استمرت بذلك الحمل تقوم وتقعد وتمضي في
(5/97)
حوائجها، لا تجد به ثقلاً ولا مشقة ولا كلفة، وقرئ فمرت به بالتخفيف أي فجزعت لذلك، وقرئ فمارت به من المور وهو المجيء والذهاب، قال سمرة: حملاً خفيفاً لم يستبن فمرت به لما استبان حملها، وقال ابن عباس: فمرت به أي شكت أحملت أم لا.
وعن الحسن سئل عن قوله فمرت به قال: لو كنت عربياً لعرفتها إنما هي استمرت بالحمل، وعن السدي قال: حملاً خفيفاً هي النطفة فمرت به أي استمرت به، وبه قال ابن عباس وعن ميمون بن مهران قال: استخفته والوجه الأول أولى لقوله:
(فلما أثقلت) فإن معناه فلما صارت ذات ثقل لكبر الولد في بطنها (دعوا الله) جواب لما أي دعا آدم وحواء (ربهما) ومالك أمرهما (لئن آتيتنا) ولداً (صالحاً) عن أبي صالح قال: أشفقا أن يكون بهيمة فقالا لئن آتيتنا بشراً سوياً، وعن مجاهد نحوه، وعن الحسن قال: غلاماً سوياً أي متسوي الأعضاء خالياً من العوج والعرج وغير ذلك، وقيل ولداً ذكراً لأن المذكورة من الصلاح (لنكونن من الشاكرين) لك على هذه النعمة، وفي هذا الدعاء دليل على أنهما قد علما أن ما حدث في بطن حواء من أثر ذلك الجماع هو من جنسهما وعلما بثبوت النسل المتأثر عن ذلك السبب (1).
_________
(1) قال: " الطبري " 13/ 307 - 308: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن آدم وحواء أنهما دعوا الله ربهما بحمل حواء، وأقسما لئن أعطاهما ما في بطن حواء صالحاً، ليكونان لله من الشاكرين، والصلاح قد يشمل معاني كثيرة، منها الصلاح في استواء الخلق، ومنها الصلاح في الدين، والصلاح في العقل والتدبير، وإذ كان ذلك كذلك ولا خبر عن الرسول يوجب الحجة بأن ذلك على بعض معاني الصلاح دون بعض، ولا فيه من العقل دليل، وجب أن يعم كما عمه الله فيقال: إنهما قالا: لئن آتيتنا صالحاً بجميع معاني الصلاح.
(5/98)
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
(فلما آتاهما صالحاً) أي ما طلباه من الولد الصالح وأجاب دعاءهما (جعلا له شركاء فيما آتاهما) قرأ سائر أهل الكوفة بالجمع وقرأ أهل المدينة شركاً على التوحيد، وأنكره الأخفش، وأجيب عنه بأنها صحت على حذف المضاف أي جعلا له ذا شرك أو ذوي شرك، وقال أبو عبيدة: معناه حظاً ونصيباً.
قال كثير من المفسرين: أنه جاء إبليس إلى حواء " قال لها: إن ولدت ولداً فسميه باسمي فقالت: وما اسمك؟ قال: الحرث ولو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبد الحرث فكان هذا شركاً في التسمية ولم يكن شركاً في العبادة، ولكن قصدت بتسميتها الولد بعبد الحرث أن الحرث سبب لنجاة الولد، فمعاتبتها على ذلك من حيث إنها نظرت إلى السبب دون المسبب.
وقد روي هذا بطرق وألفاظ عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، ويدل له حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميه عبد الحرث فإنه يعيش فسمته عبد الحرث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره، أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والروياني والطبراني وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه (1).
وفيه دليل على أن الجاعل شركاً فيما آتاهما هو حواء دون آدم وقوله جعلا له شركاء بصيغة التثنية لا ينافي ذلك لأنه قد يسند فعل الواحد إلى اثنين بل
_________
(1) ابن كثير 2/ 274.
(5/99)
إلى جماعة وهو شائع في كلام العرب، وفي الكتاب العزيز من ذلك الكثير الطيب.
قال تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات) ثم قال في هذه السورة (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا) وقال: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) والمراد به الزوج فقط قاله الفراء، وإنما ذكرهما جميعاً لاقترانهما وقال تعالى: (نسيا حوتهما) وإنما الناسي يوشع دون موسى، وقال تعالى: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) وإنما يخرج من أحدهما وهو المالح، وقال تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم) وإنما الرسل من الإنس دون الجن لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح هذا التركيب وقال تعالى: (ألقيا في جهنم) والخطاب لواحد دون اثنين وفي الحديث المرفوع: " إذا سافرتما فأذنا " (1) والمراد أحدهما وقال امرؤ القيس.
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وقد أكثر الشعراء من قولهم خليليّ والمراد بهما الواحد دون الاثنين.
وعلى هذا فمعنى الآية الكريمة جعل أحدهما له شركاء وهو حواء.
وإذا عرفت هذا علمت أن المصير إلى هذا التأويل الذي ذكرناه متعين وقد عاضده الكتاب والسنة وكلام العرب والحديث المتقدم ليس فيه إلا ذكر حواء.
وقد استشكل هذه الآية جمع من أهل العلم لأن ظاهرها صريح في وقوع الإشراك من آدم عليه السلام، والأنبياء معصومون عن الشرك ثم اضطروا إلى التفصي منِ هذا الإشكال فذهب كلٌّ إلى مذهب واختلفت أقوالهم في تأويلها اختلافاً كثيراً حتى أنكر هذه القصة جماعة من المفسرين منهم الرازي
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 602.
(5/100)
وأبو السعود وغيرهما، وقال السدي: هذا فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب وعن أبي مالك نحوه.
وقال الحسن: هذا في الكفار يدعون الله فإذا آتاهما صالحا هوّدا ونصرا وقال ابن كيسان: هم الكفار سموا أولادهم بعبد العزى وعبد الشمس وعبد الدار ونحو ذلك، وقيل هم اليهود والنصارى خاصة.
قال الحسن: كان هذا في بعض أهل الملل وليس بآدم، وقيل هذا خطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم آل قصي وحسنه الزمخشري، وقال هذا تفسير حسن لا إشكال فيه، وقيل معناها على حذف المضاف أي جعل أولادهما شركاء ويدل له ضمير الجمع في قوله الآتي: (عما يشركون) وإياه ذكر النسفي والقفال وارتضاه الرازي وقال: هذا جواب في غاية الصحة والسداد وبه قال جماعة من المفسرين.
وقيل: خطاب كل واحد من الخلق بقوله خلقكم وجعل من جنسه زوجة، قال البغوي: وهذا قول حسن لولا قول السلف بخلافه، وقيل إن هذه القصة لم تصح وإنما عمى من كان في ظهر آدم من ذريته وكان آدم أنموذج التقدير فظهرت ورئيت خطايا بني آدم في ذاته كما ترى الصورة في المرآة لأن ظهره كان كالسفينة لسائر أولاده.
وقيل معنى من نفس واحدة من هيئة واحدة وشكل واحد فجعل منها أي من جنسها زوجها فلما تغشاها يعني جنس الذكر جنس الأنثى وعلى هذا لا يكون لآدم وحواء ذكر في الآية وتكون ضمائر التثنية راجعة إلى الجنسين، وقيل إن فاعل تغشاها ضمير راجع إلى أحدهم، والمعنى خلق الله الناس من آدم وكان بدء خلقهم أن خلق من آدم زوجته ليسكن إليها فحصل منهما النسل، ثم رجع إلى أول الكلام وهو أن الله خلقهم فلم يشكروا له ولم يؤدوا حقه، وذلك أن أحدهم لما تغشى امرأته فحملت حملاً خفيفاً فحصل بسبب ذلك
(5/101)
الاختصار غموض في الآية وأصل الكلام عام وكانت حواء من جملة ذلك، فلا يجب صدق جميع خصوصيات الآيات عليها وإنما يجب وجود أصل القصة.
وقد يؤخذ هذا الوجه من قوله تعالى في موضع آخر (الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) وبهذا قال الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي رحمه الله.
وهذه الأقوال كلها متقاربة في المعنى متخالفة في المبنى، ولا يخلو كل واحد منها من بعد وضعف وتكلف بوجوه.
الأول إن الحديث المرفوع المتقدم يدفعه وليس في واحد من تلك الأقوال قول مرفوع حتى يعتمد عليه ويصار إليه، بل هي تفاسير بالآراء المنهى عنها المتوعد عليها.
الثاني أن فيه انخرام نظم الكلام سياقاً وسباقاً (الثالث) أن الحديث صرح بأن صاحبة القصة هي حواء وقوله جعل منها زوجها إنما هو لحواء دون غيرها فالقصة ثابتة ولا وجه لإنكارها بالرأي المحض (الرابع) أن الحديث ليس فيه إلا ذكر حواء وكان هذا شركاً منها في التسمية ولم يكن شركاً في العبادة، وقيل والشرك في التسمية أهون.
قلت: وفيه بعد ظاهر لأن الله تعالى ساق آيات التشنيع عليها وهو شرك وإن لم يكن في العبادة وما قيل إنهما إنما قصدت أن الحرث كان سبب نجاة الولد كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه فهو خطأ لأن الأعلام كما يقصد بها المعاني العلمية كذلك قد يلاحظ معها المعاني الأصلية بالتبعية كما صرح به أهل المعاني، وكان اسم أبي بكر الصديق في الجاهلية عبد الكعبة، واسم أبي هريرة عبد الشمس فغيرهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسماهما صديقاً وعبد الرحمن.
(5/102)
وما قيل أنها سمته بعبد الحرث بإذن من آدم فهذا يحتاج إلى دليل يدل عليه ويصح وأنى له الدليل ولعلها سمته بغير إذن منه ثم تابت من ذلك.
والحاصل أن ما وقع إنما وقع من حواء لا من آدم عليه السلام ولم يشرك آدم قط، وعلى هذا فليس في الآية اشكال، والذهاب إلى ما ذكرناه متعين تبعاً للكتاب والحديث وصوناً لجانب النبوة عن الشرك بالله تعالى، والذي ذكروه في تأويل هذه الآية الكريمة يرده كله ظاهر الكتاب والسنة كما تقدم، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل والله أعلم.
وما ذكرنا من صحة إطلاق المثنى على المفرد هو شائع في كلام العرب ولكنهم لم يذهبوا إليه في هذه الآية، ولم يخطر ذلك ببالهم مع كونه ظاهر الأمر وواضحه ومع أنهم ذكروه وذهبوا إليه في غير هذا الموضع في غير واحد من مواضع في القرآن والحديث وغيرهما، وهذا عجيب منهم غاية العجب.
(فتعالى الله عما يشركون) هذا ابتداء كلام مستأنف أراد به إشراك أهل مكة وقيل معطوف على (خلقكم) وما بينهما اعتراض، وقيل أراد به حواء لأنه يجوز إطلاق الجمع على الواحد، وقيل يعود على آدم وحواء وإبليس والأول أولى وبه قال السمين، وليس لها تعلق بقصة آدم وحواء أصلاً ولو كانت القصة واحدة لقال عما يشركان.
قال ابن الجزري في كتابه النفيس: قد يأتي العرب بكلمة إلى جانب كلمة كأنها معها وفي القرآن يريد أن يخرجكم من أرضكم، هذا قول الملأ قال فرعون: فماذا تأمرون، انتهى. فالضمير في يشركون يعود على الكفار، والكلام قد تم قبله.
(5/103)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
(5/104)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
(أيشركون ما لا يخلق شيئاً) الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي كيف يجعل أهل مكة لله شريكاً لا يخلق شيئاً ولا يقدر على نفع لهم ولا دفع ضر عنهم (وهم يخلقون) الضمير راجع إلى الشركاء أي وهؤلاء الذي جعلوهم شركاء من الأصنام والشياطين مخلوقون وجمعهم جمع العقلاء لاعتقاد من جعلهم شركاء أنهم كذلك.
(5/104)
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
(ولا يستطيعون لهم) أي لمن جعلهم شركاء (نصراً) إن طلبوه منهم (ولا أنفسهم ينصرون) إن حصل عليهم شيء من جهة غيرهم ومن عجز عن نصر نفسه فهو عن نصر غيره أعجز.
(5/104)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
(وإن تدعوهم إلى الهدى) هذا خطاب للمشركين بطريق الالتفات المنبئ عن مزيد الاعتناء بأمر التوبيخ والتبكيت، وبيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم وأيسر، وهو مجرد الدلالة على المطلوب من غير تحصيله للطالب أي وأن تدعوا هؤلاء الشركاء إلى الهدى والرشاد بأن تطلبوا منهم أن يهدوكم ويرشدوكم (لا يتبعوكم) ولا يجيبوكم إلى ذلك وهو دون ما تطلبونه منهم من جلب النفع ودفع الضر والنصر على الأعداء.
قال الأخفش: معناه وإن تدعوهم أي الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم
(5/104)
وقيل يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين والضمير المنصوب للمشركين ممن سبق في علم الله أنه لا يؤمن، والمعنى وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين لا يتبعوكم وقرئ لا يتبعوكم مشدداً ومخففاً وهما لغتان وقال بعض أهل اللغة: اتبعه مخففاً إذا مضى خلفه ولم يدركه واتبعه مشدداً إذا مضى خلفه فأدركه.
(سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها أي دعاؤكم لهم عند الشدائد وعدمه سواء لا فرق بينهما لأنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولا يسمعون ولا يجيبون، وقال (أم أنتم صامتون) مكان أو صمتم لما في الجملة الاسمية من المبالغة في عدم إفادة الدعاء ببيان مساواته للسكوت الدائم المستمر، وقال محمد بن يحيى: إنما جاء بالاسمية لكونها رأس آية يعني لمطابقة ولا أنفسهم ينصرون وما قبله.
(5/105)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
(إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) أخبرهم سبحانه بأن هؤلاء الذين جعلتموهم آلهة هم عباداً لله كما أنتم عباد له مع أنكم أكمل منهم لأنكم أحياء تنطقون وتمشون وتسمعون وتبصرون، وهذه الأصنام ليست كذلك ولكنها مثلكم في كونها مملوكة لله مسخرة لأمره، وهذا تقريع لهم بالغ وتوبيخ لهم عظيم، قال مقاتل: إنها الملائكة والخطاب مع قوم كانوا يعبدونها، والأول أولى وإنما وصفها بأنها عباد مع أنها جماد تنزيلاً لها منزلة العقلاء على وفق معتقدهم ولذلك قال:
(فادعوهم فليستجيبوا لكم) مقررة لمضمون ما قبلها من أنهم إن دعوهم إلى الهدى لا يتبعوهم وأنهم لا يستطيعون شيئاً أي ادعوا هؤلاء الشركاء فإن كانوا كما تزعمون فليستجيبوا لكم، وإنما ورد هذا اللفظ في معرض الاستهزاء بالمشركين (إن كنتم صادقين) فيما تدعونه لهم من قدرتهم على النفع والضرر وأنها آلهة.
(5/105)
ثم بين غاية عجزهم وفضل عابديهم عليهم فقال:
(5/106)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
(ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها) الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء ليس لهم شيء من الآلات التي هي ثابتة لكم فضلاً عن أن يكونوا قادرين على ما تطلبونه منهم فإنهم كما ترون هذه الأصنام التي تعكفون على عبادتها ليست لهم أرجل يمشون بها في نفع أنفسهم، فضلاً عن أن يمشوا في نفعكم، وليس لهم أيد يبطشون بها كما يبطش غيرهم من الأحياء، وليس لهم أعين يبصرون بها كما تبصرون. وليس لهم آذان يسمعون بها كما تسمعون، فكيف تدعون من هم على هذه الصفة من سلب الأدوات وبهذه المنزلة من العجز.
وأم في هذه المواضع هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة كما ذكره أئمة النحو والإضراب المفاد ببل انتقال من توبيخ إلى توبيخ آخر، والبطش هو الأخذ بقوة وعنف.
ثم لما بين لهم حال هذه الأصنام وتعاور وجوه العجز والنقص لها من كل باب أمره الله بأن يقول لهم (قل ادعوا شركاءكم) الذين تزعمون أن لهم قدوة على النفع والضرر واستعينوا بهم في عداوتي حتى يتبين عجزها (ثم كيدون) أنتم وهم جميعاً بما شئتم من وجوه الكيد (فلا تنظرون) أي فلا تمهلوني ولا تؤخروا إنزال الضرر بي من جهتها والكيد المكر، وليس بعد هذا التحدي لهم والتعجيز لأصنامهم شيء.
(5/106)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
ثم قال: قل لهم
(5/107)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
(إن ولييَ الله الذي نزل الكتاب) أي كيف أخاف هذه الأصنام التي هذه صفتها ولي وليّ ألجأ إليه وأستنصر به وهو الله عز وجل، وهذه الجملة تعليل لعدم المبالاة بها وولي الشيء هو الذي يحفظه ويقوم بنصرته وممنع منه الضرر والكتاب هو القرآن أي أوحى إلي وأعزني برسالته (وهو) الذي (يتولى الصالحين) أي يحفظهم وينصرهم ويحول بينهم وبين أعدائهم والصالحون هم الذين لا يعدلون بالله شيئاً ولا يعصونه وفي هذا مدح للصلحاء وأن من سنته نصرهم.
(5/107)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
(والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون) كرر سبحانه هذا لمزيد التأكيد والتقرير ولما في تكرار التوبيخ والتقريع، من الإهانة للمشركين والتنقص بهم وإظهار سخف عقولهم، وركاكة أحلامهم وقيل الأولى على جهة التقريع والتوبيخ، والأخرى على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين هذه الأصنام وبالجملة هو من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم المفهوم من السوق فهماً جلياً.
(5/107)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
(وإن تدعوهم) أي المشركين قاله الحسن وقيل أي الأصنام (إلى الهدى لا يسمعوا) دعاءكم لأن آذانهم قد صمت عن سماع الحق فضلاً عن المساعدة والإمداد، وهذا أبلغ من نفي الاتباع (وتراهم) الرؤية بصرية (ينظرون إليك) أي يقابلونك كالناظر.
(5/107)
(وهم) أي حال كونهم (لا يبصرون) جملة مبتدأة لبيان عجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع وبه يتم التعليل فلا تكرار أصلاً أو جملة حالية والمراد الأصنام أي أنهم يشبهون الناظرين ولا أعين لهم يبصرون بها قيل كانوا يجعلون للأصنام أعيناً من جواهر مصنوعة فكانوا بذلك في هيئة الناظرين ولا يبصرون.
وقيل المراد بذلك المشركون أخبر الله عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم وإن أبصروا بها غير ما فيه نفعهم.
(5/108)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
(خذ العفو) لما عدد الله سبحانه من أحوال المشركين ما عدده وتسفيه رأيهم وضلال سعيهم أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأخذ العفو من أخلاقهم، يقال أخذت حقي عفواً أي سهلاً. وهذا نوع من التيسير الذي كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول: " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا " (1)، والمراد بالعفو هنا ضد الجهد وقيل الفضل وما جاء بلا كلفة والعفو التساهل في كل شيء وقيل المراد خذ العفو من صدقاتهم ولا تشدد عليهم فيها وتأخذ ما يشق عليهم وكان هذا قبل نزول فريضة الزكاة، عن عبد الله بن الزبير قال: ما نزلت هذه الآية إلا في أخلاق الناس، رواه البخاري قال مجاهد: خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسيس.
(وأمر بالعرف) أي بالمعروف وقرئ بالعرف بضمتين وهما لغتان والعرف والمعروف والعارفة كل خصلة حسنة ترتضيهما العقول وتطمئن إليها النفوس وكل ما يعرفه الشارع، وقال عطاء: وأمر بقول لا إله إلا الله والعموم أولى.
(وأعرض عن الجاهلين) أي إذا أقمت الحجه عليهم في أمرهم بالمعروف فلم يفعلوا فأعرض عنهم ولا تمارهم ولا تسافههم مكافأة لما يصدر
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 7942.
(5/108)
منهم من المراء والسفاهة، وقيل وهذه الآية هي من جملة ما نسخ بآية السيف قاله عطاء وابن زيد.
وقيل هي محكمة قاله مجاهد وقتادة وقيل أول هذه الآية وآخرها منسوخ وأوسطها محكم، قال الشعبي: لما أنزل الله هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جبريل قال: لا أدري حتى أسأل العالم فذهب ثم رجع فقال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما (1)، وعن قيس بن سعد بن عبادة قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمزة بن عبد المطلب قال: والله لأمثلن بسبعين منهم فجاءه جبريل بهذه الآية أخرجه ابن مردويه.
_________
(1) ابن كثير 2/ 277.
(5/109)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
(وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) النزغ الوسوسة وكذا الغز والنخس والنسغ، قال الزجاج: النزغ أدنى حركة تكون ومن الشيطان أدنى وسوسة، وأصل النزغ الفساد يقال نزغ بيتاً أي أفسد، وقيل النزغ الإغواء والمعنى متقارب، أمر الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - إذا أدرك شيئاً من وسوسة الشيطان أن يستعيذ بالله ويلجأ إليه في دفعه عنه، وقيل: إنه لما نزل قوله خذ العفو قال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يا رب بالغضب (1)، فنزلت هذه الآية وفي الآية استعارة تبعية حيث شبه الإغراء على المعاصي بالنزغ واستعير النزغ للإغراء ثم اشتق منه ينزغنك.
وجملة (إنه سميع عليم) علة لأمره بالاستعاذة أي استعذ به والتجىء إليه فإنه يسمع ذلك منك ويعلم به، وقيل الخطاب لكل أحد والأول أولى، والكلام خرج مخرج التقدير والفرض فلا يقال: لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم معصوماً لم يكن للشيطان عليه سبيل حتى ينزغ في قلبه ويحتاج إلى الاستعاذة.
_________
(1) ابن كثير 2/ 278.
(5/109)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
(5/110)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) مقررة لمضمون ما قبلها أي: إن شأن الذين يتقون الله وحالهم هو التذكر لما أمر الله به من الاستعاذة والالتجاء إليه عند أن يمسهم طائف من الشيطان وإن كان يسيراً وقرئ طيف مخففاً ومشدداً قال النحاس: كلام العرب في مثل هذا طيف بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يطيف، وقال الكسائي هو مخفف مثل ميت وميت.
قال النحاس: ومعناه في اللغة ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم وكذا معنى طائف وقيل معنيان مختلفان فالأول التخيل، والثاني الشيطان نفسه فالأول من طاف الخيال يطوف طيفاً، ولم يقولوا من هذا طائف، قال السهيلي: لأنه تخيل لا حقيقة له وأما قوله (فطاف عليهم طائف من ربك) فلا يقال فيه طيف لأنه اسم فاعل حقيقة.
قال الزجاج: طفت عليهم أطوف وطاف الخيال يطيف، وسميت الوسوسة والجنون والغضب طيفاً لأنها لمة من الشيطان تشبه لمة الخيال.
وذكر في الآية الأولى النزغ وهو أخف من الطيف لأن حالة الشيطان مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أضعف من حاله مع غيرهم، وقال ابن عباس: الطيف الغضب، وقرأ سعيد بن جبير تذكروا بتشديد الذال قال النحاس: ولا وجه له في العربية، وقال السدي: تذكروا أي إذا زلوا تابوا، وقيل معناه عرفوا ما حصل لهم من وسوسة الشيطان وكيده، وقال سعيد بن جبير: هو الرجل يغضب فيذكر الله فيكظم، وقال مجاهد: هو الرجل يلم بالذنب فيذكر الله فيقوم ويدعه.
(فإذا هم) بسبب التذكر (مبصرون) أي منتهون عن المعصية آخذون
(5/110)
بأمر الله عاصون للشيطان، قاله ابن عباس وقيل على بصيرة، وقيل: إنهم يبصرون مواقع الخطأ بالتذكر والتفكير وقيل مبصرون الحق من غيره فيرجعون.
(5/111)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
(وإخوانهم يمدونهم) قيل المعنى وإخوان الشياطين وهم الفجار من ضلّال الإنس، على أن الضمير في إخوانهم يعود إلى الشيطان المذكور سابقاً والمراد به الجنس فجاز إرجاع ضمير الجمع إليه، والمعنى تمدهم الشياطين (في الغي) وتكون مدداً لهم، وهذا التأويل هو قول الجمهور وعليه عامة المفسرين، قال الزمخشري: هو أوجه لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا.
وقيل المعنى الشياطين الذين هم إخوان الجاهلين أو غير المتقين يمدون الجاهلين، أو غير المتقين في الغي، وهذا تفسير قتادة، وقيل المعنى وإخوان الشياطين في الغي وهو الجهل بخلاف الأخوة في الله تعالى يمدونهم أي بطاعتهم لهم وقبولهم منهم.
قال ابن عباس في الآية: هم الجن يوحون إلى أوليائهم من الإنس، وسميت الفجار من الإنس إخوان الشياطين لأنهم يقبلون منهم ويقتدون بهم، وقال الزجاج: المعنى والذين تدعون من دونه لا يستطيعون لكم نصراً ولا أنفسهم ينصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي لأن الكفار إخوان الشياطين.
وعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير، قال الكلبي: لكل كافر أخ من الشياطين يطيل له في الإغواء حتى يستمر عليه، وقيل يزيدونهم من الضلالة يقال مد وأمد وهما لغتان قال مكي ومد أكثر، وقال أبو عبيد وجماعة من أهل اللغة: إنه يقال إذا كثّر شيء شيئاً بنفسه مده وإذا كثره بغيره قيل أمده نحو يمددكم ربكم، وقيل يقال مددت في الشر، وأمددت في الخير.
(ثم لا يقصرون) الإقصار الانتهاء عن الشيء وقال ابن عباس: لا يسأمون والمعنى: لا يقصر الشياطين في مدّ الكفار في الغي ولا يكفون عن الضلالة ولا يتركونها والكافر لا يتذكر ولا يرعوي، وقال ابن عباس: لا الإنس يمسكون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين تمسك عنهم، وعلى هذا يحمل قوله لا يقصرون على فعل الإنس والشياطين جميعاً.
(5/111)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
(5/112)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
(وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ) أى أهل مكة (بِآيَةٍ) مما اقترحوا (قَالُوا لَوْلَا) هلا (اجتبيتها) يقال اجتبى الشئ جباه لنفسه أى جمعه أي هلا جمعتها افتعالاً لها من عند نفسك، وقيل لولا أحدثتها لولا تلقيتها فأنشأتها، قاله ابن عباس، وقيل المعنى اختلقتها يقال اجتبيت الكلام انتحلته واختلقته واخترعته إذا جئت به من عند نفسك، كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا تراخى الوحي هذه المقالة فأمره الله بأن يجيب عليهم بقوله.
(قل) لست ممن يأتي بالآيات من قبل نفسه ويقترح المعجزات كما تزعمون بل (إنما أتبع ما يوحي إليّ من ربي) فما أوحاه إليّ وأنزله عليّ أبلغته إليكم.
(هذا) أي القرآن المنزل علي هو (بصائر من ربكم) يتبصر بها من قبلها جمع بصيرة وقيل البصائر الحجج والبراهين، وقال الزجاج الطرق ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول، أطلق عليه اسم البصائر فهو من باب تسمية السبب باسم المسبب والبصيرة الحجة، والاستبصار في الشيء، قال الأخفش: جعله هو البصيرة كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك.
(وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) أي هو بصائر وهدى يهتدي به المؤمنون ورحمة لهم، وذلك أن الناس متفاوتون في درجات العلوم فمنهم من بلغ الغاية في علم التوحيد حتى صار كالمشاهد، وهم أصحاب عين اليقين، ومنهم من بلغ درجة الاستدلال والنظر وهم أصحاب علم اليقين، ومنهم المسلم المستسلم وهم عامة المؤمنين وأصحاب حق اليقين.
(5/112)
فالقرآن للأولين بصائر وللمستدلين هدى ولعامة المؤمنين رحمة، وقال أبو السعود كون القرآن بمنزلة البصائر للقلوب متحقق بالنسبة إلى الكل، وبه تقوم الحجة على الجميع، وأما كونه هدى ورحمة فمختص بالمؤمنين به إذ هم المقتبسون من أنواره والمغتنمون بآثاره والجملة من تمام القول المأمور به انتهى.
(5/113)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
(وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) يحتمل أنه من عند الله مستأنف ويحتمل أنه من جملة المقول المأمور به، أمرهم الله سبحانه بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته لينتفعوا به ويتدبروا ما فيه من الحكم والمصالح وقال أبو البقاء: الضمير لله بمعنى لأجله وفيه بعد.
قيل هذا الأمر خاص بوقت الصلاة عند قراءة الإمام ولا يخفاك أن اللفظ أوسع من هذا والعام لا يقتصر على سببه فيكون الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل حالة وعلى أي صفة مما يجب على السامع، وقيل هذا خاص بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن دون غيره ولا وجه لذلك، وظاهر الأمر الوجوب، وهو قول الحسن وأهل الظاهر وقيل الندب والاستحباب.
قال أبو هريرة: نزلت في رفع الأصوات وهم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة وفي لفظ عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأمروا بالسكوت، وإليه ذهب جمهور المفسرين كما في المعالم والكشاف وأنوار التنزيل وحاشية الكمالين وغيرها، وقال ابن عباس: يعني في الصلاة المفروضة وعن محمد بن كعب القرظي ومجاهد وعبد الله بن مغفل وابن مسعود نحوه.
وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف، وصرحوا بأن هذه الآية نزلت في قراءة الصلاة من الإمام، وعن الحسن قال: عند الصلاة المكتوبة وعند الذكر، وعن ابن عباس في الصلاة وحين ينزل الوحي، وقيل نزلت في السكوت عند الخطبة يوم الجمعة، وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء واختاره جماعة وفيه بعد، لأن الآية مكية، والجمعة إنما وجبت بالمدينة والأول أولى، وقال ابن عباس في الجمعة والعيدين.
(5/113)
وقال الرازي: إنه خطاب مع الكفار عند قراءة الرسول عليهم القرآن في معرض الاحتجاج بكونه معجزاً على صدق نبوته، وعند هذا يسقط احتجاج الخصوم بهذه الآية من كل الوجوه، ثم ذكر ما يقوى أن حمل الآية على ما ذكر أولى بوجوه.
وقال لو حملنا الآية على منع المأموم من القراءة خلف الإمام فسد النظم واختل الترتيب فثبت أن حمله على ما ذكرناه أولى، وهذه الآية لا دلالة فيها على هذه الحالة انتهى.
وأشار القاضي إلى أن احتجاجهم بهذه الآية ضعيف، وقال بعض محشيه: أي مردود بخبر الصحيحين لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب انتهى.
أقول: رواه الجماعة عن عبادة بن الصامت وفي لفظ: " لا تجزى صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، " (1) رواه الدارقطني وقال إسناده صحيح وصححه ابن القطان ولها شاهد من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ مرفوعاً، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، ولأحمد بلفظ: " لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " وفي الباب عن أنس عند مسلم والترمذي وعن أبي قتادة عند أبي داود والنسائي وعن ابن عمر وجابر عند ابن ماجة، وعن علي عند البيهقي وعن عائشة وأبي هريرة.
والحديث يدل على تعيين فاتحة الكتاب في الصلاة وأنه لا يجزي غيرها، وإليه ذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب العترة لأن النفي المذكور في الحديث يتوجه إلى الذات إن أمكن انتفاؤها وإلا توجه إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة لا الكمال لأن الصحة أقرب المجازين، والكمال أبعدهما والحمل على أقرب المجازين واجب وتوجُّه النفي إلى الذات ههنا ممكن كما قال الحافظ في الفتح لأن المراد بالصلاة معناها
_________
(1) الدارقطني كتاب الصلاة 1/ 322.
(5/114)
الشرعي لا اللغوي لما تقرر من أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لكونه بعث لتعريف الشرعيات لا لتعريف الموضوعات اللغوية، وإذا كان المنفي الصلاة الشرعية استقام نفي الذات.
ولو سلم أن المراد هنا الصلاة اللغوية لكان المتعين توجه النفي إلى الصحة أو الإجزاء لا إلى الكمال لأنها أقرب المجازين، ولأن الرواية المتقدمة مصرحة بالإجزاء فيتعين تقديره.
وإذا تقرر هذا فالحديث صالح للاحتجاج به على أن الفاتحة من شروط صحة الصلاة لا من واجباتها فقط لأن عدمها يستلزم عدم الصلاة وهذا شأن الشرط، وذهبت الحنفية وطائفة قليلة إلى أنها لا تجب بل الواجب آية من القرآن، قاله النووي: والصواب ما قاله الحافظ أن الحنفية يقولون بوجوب قراءتها لكن بنوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطاً في صحة الصلاة لأن وجوبها إنما ثبت بالسنة والذي لا يتم الصلاة إلا به فرض، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن وقد قال تعالى: (فاقرأوا ما تيسر من القرآن) فالفرض قراءة ما تيسر، وتعين الفاتحة إنما ثبت بالحديث فيكون واجباً يأثم من يتركه وتجزى الصلاة بدونه.
وهذا تأويل على رأي فاسد حاصله رد كثير من السنة المطهرة بلا برهان ولا حجة نيرة فكم موطن من المواطن يقول فيه الشارع لا يجزى كذا ولا يقبل كذا ولا يصح كذا ويقول المتمسكون بهذا الرأي يجزى ويقبل ويصح، ولمثل هذا حذر السلف من أهل الرأي والكلام في ذلك تعقباً ورداً يطول جداً وقد قضى الوطر منه الشوكاني في نيل الأوطار فراجعه.
ومن أدلتهم حديث أبي سعيد بلفظ: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو غيرها (1)، قال ابن سيد الناس لا ندري بهذا اللفظ من أين جاء، وقد صح
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 7389.
(5/115)
عن أبي سعيد عند أبي داود أنه قال: أمرنا أن نقرأ فاتحة الكتاب وما تيسر، ورواته ثقات، وقال ابن سيد الناس إسناده صحيح ورجاله ثقات وصححه الحافظ أيضاً.
ومن أدلتهم حديث أبي هريرة عند أبي داود بلفظ: لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب ويجاب بأنه من رواية جعفر بن ميمون وليس بثقة كما قاله النسائي، وقال أحمد ليس بقوي في الحديث، وقال ابن عدي يكتب حديثه في الضعفاء.
وأيضاً قد روى أبو داود هذا الحديث من طريقه عن أبي هريرة بلفظ أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي أنه لا صلاة إلا بقراءة الفاتحة فما زاد، ورواه أحمد وليست الرواية الأولى بأولى من هذه.
وأيضاً أين تقع هذه الرواية على فرض صحتها بجنب الأحاديث المصرحة بفرضية فاتحة الكتاب وعدم إجزاء الصلاة بدونها.
وقد نسب القول بوجوب الفاتحة في كل ركعة النووي في شرح مسلم والحافظ في الفتح إلى الجمهور، ورواه ابن سيد الناس في شرح الترمذي عن علي وجابر وعن ابن عون والأوزاعي وأبي ثور، قال وإليه ذهب أحمد وداود، وبه قال مالك إلا في الناسي.
واستدلوا أيضاً على ذلك بما وقع عند الجماعة واللفظ للبخاري من قوله صلى الله عليه وآله وسلم للمسيء: ثم افعل ذلك في صلاتك كلها، بعد أن أمره بالقراءة وفي رواية لأحمد وابن حبان والبيهقي في قصة المسيء صلاته أنه قال في آخره: ثم افعل ذلك في كل ركعة. وهذا الدليل إذا ضممته إلى قوله في حديث المسيء ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم حملته على الفاتحة لما تقدم انتهض ذلك للاستدلال به على وجوب الفاتحة في كل ركعة وكان قرينة لحمل قوله في حديث المسيء " ثم كذلك في كل صلاتك فافعل " على المجاز
(5/116)
وهو الركعة وكذلك حمل لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب عليه (1).
ويؤيد وجوب الفاتحة في كل ركعة حديث أبي سعيد عند ابن ماجه بلفظ لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو غيرها، قال الحافظ وإسناده ضعيف (2)، وحديث أبي سعيد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة، رواه إسمعيل بن سعيد الشاكنجي صاحب الإمام أحمد.
وظاهر هذه الأدلة وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من غير فرق بين الإمام والمأموم وبين سر الإمام وجهره.
ومن جملة المؤيدات لذلك ما أخرجه مالك في الموطأ والترمذي وصححه عن جابر موقوفاً قال: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلا وراء الإمام، وما أخرجه أحمد وابن ماجة عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (3)، ومثله عن أبي هريرة عند ابن ماجة من طريق محمد بن إسحق وفيه مقال مشهور، ولكنه يشهد لصحته حديث أبي هريرة عند الجماعة إلا البخاري بلفظ: من صلى صلاة لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب فهي خداج (4)، ولا يقال إن الخداج معناه النقص. وهو لا يستلزم البطلان لأن الأصل أن الصلاة الناقصة لا تسمى صلاة حقيقة.
وأما حديث أبي هريرة مرفوعاً: وإذا قرأ فأنصتوا، رواه الخمسة إلا الترمذي وقال مسلم هو صحيح فهو عام لا يحتج به على خاص.
وأما حديث عبد الله بن شداد مرفوعاً: من كان له إمام فقراءة الإمام له
_________
(1) مسلم 397 - البخاري 461.
(2) ضعيف الجامع الصغير 6313.
(3) صحيح الجامع الصغير 6224.
(4) مسلم 395.
(5/117)
قراءة رواه الدارقطني (1)، فقال في المنتقى وقد روي مسنداً من طرق كلها ضعاف والصحيح أنه مرسل انتهى، قال الدارقطني وهو الصواب، وقال الحافظ هو مشهور من حديث جابر وله طرق عن جماعة من الصحابة كلها معلولة، وقال في الفتح إنه ضعيف عند جميع الحفاظ وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني، وهو عام أيضاً لأن القراءة مصدر مضاف وهو من صيغ العموم وحديث عبادة في هذا الباب خاص فلا معارضة، وقال في شرح المنتقى هو حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج به انتهى.
وأما قوله تعالى: (فاستمعوا له وأنصتوا) فقد مر الجواب عنه وهو أيضاً عام وحديث عبادة خاص، ويؤيد ذلك الأحاديث المتقدمة والآتية القاضية بوجوب قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة من غير فرق بين الإمام والمؤتم لأن البراءة عن عهدتها إنما تحصل بناقل صحيح لا بمثل هذه العمومات التي اقترنت بما يجب تقديمه عليها.
وعن عبادة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال: إني أراكم تقرأون وراء إمامكم قال قلنا يا رسول الله أي والله قال: لا تفعلوا إلا بأم القرآن فأنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها رواه أبو داود والترمذي، وفي لفظ فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن (2)، رواه أبو داود والنسائي والدارقطني، وقال رجاله كلهم ثقات.
وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقرأن أحد منكم شيئاً من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن (3)، رواه الدارقطني، وقال رجاله كلهم ثقات، وأخرجه أيضاً أحمد والبخاري في جزء القراءة وصححه وابن حبان والحاكم والبيهقي من
_________
(1) الدارقطني كتاب الصلاة 1/ 403.
(2) الدارقطني كتاب الصلاة 1/ 319.
(3) الدارقطني كتاب الصلاة 1/ 320.
(5/118)
طريق ابن إسحق قال حدثني مكحول عن محمود بن ربيعة عن عبادة، وتابعه زيد بن واقد وغيره عن مكحول.
ومن شواهد ما رواه أحمد من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن محمد ابن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لعلكم تقرأون والإمام يقرأ قالوا إنا لنفعل، قال: لا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب، قال الحافظ: إسناده حسن ورواه ابن حبان من طريق أيوب بن أبي قلابة عن أنس، وليست بمحفوظة ومحمد ابن إسحق قد صرح بالتحديث فذهبت مظنة تدليسه، وتابعه من تقدم.
قال الشوكاني: والحديث استدل به من قال بوجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام وهو الحق وظاهر الحديث الإذن بقراءة الفاتحة جهراً لأنه استثنى من النهي عن الجهر خلفه، ولكنه أخرج ابن حبان من حديث أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتقرأون في صلاتكم خلف الإمام والإمام يقرأ فلا تفعلوا وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط والبيهقي وأخرجه عبد الرزاق عن أبي قلابة مرسلاً.
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: هل قرأ معي أحد منكم آنفاً فقال رجل نعم يا رسول الله، فقال إني أقول ما لي أنازع القرآن (1) قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يجهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن، وأخرجه أيضاً مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وابن ماجة وابن حبان.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 6913.
(5/119)
وقوله: " فانتهى الناس عن القراءة " مدرج في الخبر كما بينه الخطيب، واتفق عليه البخاري في التاريخ وأبو داود ويعقوب ابن سفيان والذهلي والخطابي وغيرهم.
قال النووي: وهذا مما لا خلاف فيه بينهم والاستدلال به على عدم قراءة المؤتم خلف الإمام خارج عن محل النزاع، لأن الكلام في قراءة المؤتم خلف الإمام سراً والمنازعة إنما تكون مع جهر المؤتم لا مع إسراره، وأيضاً لو سلم دخول ذلك في المنازعة لكان هذا الاستفهام الذي للإنكار عاماً لجميع القرآن أو مطلقاً في جميعه وحديث عبادة خاص أو مقيد.
وقد أجاب المهدي في البحر عن حديث عبادة بأنه معارض بهذا الحديث وهي من معارضة العام بالخاص وهو لا يعارضه، أما على قول من قال من أهل الأصول إنه يبنى العام على الخاص مطلقاً وهو الحق فظاهر، وأما على قول من قال إن العام المتأخر عن الخاص ناسخ له وإنما يخصص المقارن والمتأخر بمدة لا يتسع فكذلك أيضاً لأن عبادة روى العام والخاص في حديثه، فهو من التخصيص بالمقارن فلا يعارض بالمقام على جميع الأقوال.
وأما الاحتجاج بحديث جابر فلم يصل إلا وراء الإمام فهو مع كونه غير مرفوع: مفهوم لا يعارض بمثله منطوق حديث عبادة.
وإذا تقرر لك هذا فقد عرفت مما سبق وجوب الفاتحة على كل إمام ومأموم في كل ركعة وعرفناك أن تلك الأدلة صالحة للاحتجاج بها على أن قراءة الفاتحة من شروط صحة الصلاة وأدلة أهل الخلاف عمومات، وحديث عبادة خاص وبناء الخاص على العام واجب كما تقرر في الأصول، وهذا لا محيص عنه.
والآية الكريمة وما على نحوها من القرآن والحديث لا دلالة فيها على المقصود فمن زعم أنها تصح صلاة من الصلوات أو ركعة من الركعات بدون فاتحة الكتاب فهو محتاج إلى إقامة برهان يخصص تلك الأدلة، ومن هنا يتبين
(5/120)
لك أيضاً ضعف ما ذهب إليه الجمهور من أن من أدرك الإمام راكعاً دخل معه واعتد تلك الركعة وإن لم يدرك شيئاً من القراءة.
وحاصل الكلام أنه لا محيد عن تحتم المصير إلى القول بالفرضية بل القول بالشرطية.
وقد اختلف أهل العلم في قراءتها هل تكون عند سكتات الإمام أو عند قراءته، وظاهر الأحاديث أنها تقرأ عند قراءة الإمام وفعلها حال سكوت الإمام إن أمكن أحوط لأنه يجوز عند أهل الخلاف فيكون فاعل ذلك آخذاً بالإجماع وأما اعتياد قراءتها حال قراءة الإمام للفاتحة فقط أو حال قراءته للسورة فقط فليس عليه دليل بل الكل جائز وسنة.
نعم قراءتها حال قراءة الإمام للفاتحة مناسب من جهة عدم الاحتياج إلى تأخير الاستعاذة عن محلها الذي هو بعد التوجه، وتمام الكلام على هذا المرام في كتابنا هداية السائل إلى أدلة المسائل وغيره فراجعه.
قال الشوكاني: واختلف في القراءة خلف الإمام سراً وجهراً وقد وردت السنة المطهرة بقراءة سورة الفاتحة خلفه مخرجة في الصحيحين وغيرهما فالآية في غير الفاتحة وقد جاءنا بها من جاء بالقرآن، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل (1).
(لعلكم ترحمون) أي تنالون الرحمة وتفوزون بها بامتثال أمر الله سبحانه.
_________
(1) ذكر السيوطي في الدر 3/ 155.
عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتوبة. فقرأ أصحابه وراءه رافعين صوتهم فنزلت هذه الآية.
(5/121)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
(5/122)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
(واذكر ربك في نفسك) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من أمته لأنه عام لسائر المكلفين قيل المراد بالذكر هنا ما هو أعم من القرآن وغيره من الأذكار التي يذكر الله بها وقال النحاس: لم يختلف في معنى هذا الذكر أنه الدعاء وقيل هو خاص بالقرآن أي اقرأ القرآن بتأمل وتدبر أمره.
أن يذكره في نفسه سراً فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر وأدعى للقبول.
(تضرعاً وخيفة) أي متضرعاً وخائفاً أو متضرعين وخائفين أو ذوي تضرع وخيفة والخيفة الخوف قاله الجوهري وحكى الفراء أنه يقال في جمع خيفة خيف (ودون الجهر) أي دون المجهور به يعني متضرعاً وخائفاً ومتكلماًً بكلام هو دون الجهر (من القول) وفوق السر يعني قصداً بينهما (بالغدو والآصال) أي أوقات الغدوات وأوقات الأصائل، والغدو جمع غدوة بضم الغين وسكون الدال وهي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والآصال جمع أصيل قاله الزجاج والأخفش مثل يمين وأيمان.
وقيل الأصال جمع أصل والأصل جمع أصيل، فهو على هذا جمع الجمع قاله الفراء وليس للقلة وليس جمعاً لأصيل لأن فعيلاً لا يجمع على أفعال، وقيل إنه جمع لأصل مفرداً كعنق، قال الجوهري: الأصيل الوقت من بعد العصر إلى المغرب وجمعه أصل وآصال وأصائل كأنه جمع أصيلة ويجمع أيضاً على أصلان مثل بعير وبعران.
وقرأ أبو مجلز واسمه لاحق بن حميد السدوسي البصري وهي شاذة
(5/122)
والإيصال وهو مصدر آصل إذا دخل في الأصيل وهو مطابق للغدو في الإفراد والمصدرية، قال قتادة: الغدو صلاة الصبح والآصال الصلاة بالعشي وعن أبي صخر قال الآصال ما بين الظهر والعصر، وقال ابن زيد: بالبكر والعشي وقال مجاهد: الغدو آخر الفجر صلاة الصبح والآصال آخر العشي صلاة العصر.
وخص هذين الوقتين لشرفهما ولأن الإنسان يقوم بالغداة من النوم الذي هو أخو الموت فاستحب له أن يستقبل حالة الانتباه من النوم بالذكر ليكون أول أعماله ذكر الله عز وجل، وأما وقت الآصال وهو أخر النهار فإن الإنسان يريد أن يستقبل النوم الذي هو أخو الموت فيستحب له أن يشغله بالذكر لأنها حالة تشبه الموت ولعله لا يقوم من تلك النومة فيكون موته على ذكر الله عز وجل.
وقيل إن أعمال العباد تصعد أول النهار وآخره فيصعد عمل الليل عند صلاة الفجر، ويصعد عمل النهار بعد العصر إلى الغروب، فاستحب له الذكر في هذين الوقتين ليكون ابتداء عمله بالذكر واختتامه به، وقيل غير ذلك والمراد دوام الذكر لله.
(ولا تكن من الغافلين) عن ذكر الله وعما يقربك إلى الله.
(5/123)
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
(إن الذين عند ربك) المراد بهم الملائكة قال القرطبي: بالإجماع قال الزجاج: وقال عند ربك والله عز وجل بكل مكان لأنهم قريبون من رحمته وكل قريب من رحمة الله عز وجل فهو عنده فالمراد بالعندية القرب من الله بالزلفى والرضا لا المكانية أو المراد عند عرش ربك قاله الشهاب، والمراد بقوله والله بكل مكان أي علمه وقدرته وهو بائن من خلقه مستوي على عرشه كما وصف به نفسه في غير موضع من الكتاب العزيز.
وقال القرطبي: يعني أنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله وقيل إنهم
(5/123)
رسل الله كما يقال عند الخليفة جيش كبير، وقيل هذا على جهة التشريف والتكريم لهم وأنهم بالمكان المكرم وهو عبارة عن قربهم في الكرامة لا في المسافة.
(لا يستكبرون عن عبادته) أي لا يتعظمون عنها لأنهم عبيده ومعنى (ويسبحونه) يعظمونه وينزهونه عن كل شين (وله يسجدون) أي يخصونه بعبادة السجود التي هي أشرف عباده، وقيل المراد بالسجود الخضوع والذلة، وفي ذكر الملأ الأعلى تعريض لبني آدم، وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن والأحاديث والآثار عن الصحابة في سجود التلاوة وعدد المواضع التي يسجد فيها وكيفية السجود وما يقال فيه مستوفاة في كتب الحديث والفقه فلا نطول بإيراد ذلك هنا (1).
_________
(1) وقيل: سبب نزول هذه الآية أن كفار مكة قالوا: أنسجد لما تأمرنا؟ فنزلت هذه الآية تخبر أن الملائكة وهم أكبر شأناً منكم، لا يتكبرون عن عبادة الله. وقد روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويله، أُمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة، وأُمرتُ بالسجود فعصيت فلي النار ".
رواه مسلم 1/ 87، وابن ماجة 1/ 334 عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأورده السيوطي في " الدر " 3/ 158 وزاد نسبته للبيهقي.
(5/124)
سورة الأنفال
بسم الله الرحمن الرحيم
صرح كثير من المفسرين بأنها مدنية لم يستثنوا منها شيئاً. وبه قال الحسن وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء وعبد الله بن الزبير وزيد ابن ثابت. وعن ابن عباس أنه قال: نزلت في بدر. وفي لفظ تلك سورة بدر. قال القرطبي وعنه: هي مدنية إلا سبع آيات من قوله: (واذ يمكر بك الذين كفروا) إلى آخرها. يعني فإنها مكيه. " قلت " وإن كانت في شأن الواقعة التي وقعت بمكة فلا يلزم أن تكون كذلك فالآيات نزلت بالمدينة تذكيراً بما وقع في مكة. فهذا القول ضعيف والأول هو الأصح. وجملة آياتها خمس أو ست أو سبع وسبعون آية، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب كما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن أبي أيوب.
(5/125)
بسم الله الرحمن الرحيم
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
(5/127)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
(يسألونك) يا محمد (عن الأنفال) جمع نفل محركاً وهو الغنيمة أي الغنائم لمن هي، وبه قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأكثر المفسرين على أنها نزلت في غنائم بدر، وأصل النفل الزيادة وسميت الغنيمة به لأنها زيادة فيما أحل الله لهذه الأمة مما كان محرماً على غيرهم، أو لأنها زيادة على ما يحصل للمجاهدين من أجر الجهاد.
ويطلق النفل على معان أخر منها اليمين والابتغاء ونبت معروف، والنافلة التطوع لكونها زائدة على الواجب والنافلة ولد الولد لأنه زيادة على الولد.
وهو سؤال استفتاء لأن هذا أول تشريع الغنيمة، وفاعل السؤال من حضر بدراً، وقال الضحاك وعكرمة: هو سؤال طلب، وعن بمعنى من، وهذا لا ضرورة تدعو إليه، وقيل صلة ويؤيده قراءة سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعلي بن الحسين وغيرهم بدون عن، والصحيح أنها على إرادة حرف الجر.
وكان سبب نزول الآية اختلاف الصحابة في غنائم يوم بدر، فقال الشبان: هي لنا لأنا باشرنا القتال، وقال الشيوخ: كنا رِدْءاً لكم تحت الرايات، ولو انكشفتم أي انهزمتم لفئتم أي لرجعتم إلينا، فنزع الله ما غنموه من أيديهم وجعله لله والرسول فقال: (قل) لهم (الأنفال لله والرسول) أي حكمها مختص بهما يقسمها بينكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أمر الله سبحانه حيث شاء، وليس لكم حكم في ذلك، فقسمها صلى الله عليه
(5/127)
وسلم بينهم على السواء، رواه الحاكم في المستدرك.
وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء حتى نزل قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) فهي على هذا منسوخة، وبه قال مجاهد وعكرمة والسدي، وقال ابن زيد: محكمة مجملة، وقد بين الله مصارفها في آية الخمس، وللإمام أن ينفل من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس.
(فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) أي نفس ما بينكم، والذي بينهم هو الوصلة الإسلامية، فالبين هنا بمعنى الاتصال كما في قوله: (لقد تقطع بينكم) والبين يطلق على الضدين الاتصال والفراق، وذات هذا البين هي حاله أي الأمور التي تحققه بالمودة وترك النزاع (وأطيعوا الله ورسوله) أمرهم بالتقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله والرسول بالتسليم لأمرهما وترك الاختلاف الذي وقع بينهم، وقال: امتثلوا هذه الأوامر الثلاثة (إن كنتم مؤمنين) بالله جوابه كما ذهب إليه أبو العباس المبرد وغيره أطيعوا الله السابق، إذ يجوز عندهم تقديم الجواب على الشرط، والصحيح ما ذهب إليه سيبويه وهو أنه محذوف لدلالة ما قبله عليه.
وفيه من التهييج والإلهاب والتنشيط للمخاطبين والحث لهم على المسارعة إلى الامتثال ما لا يخفى مع كونهم في تلك الحال على الإيمان فكأنه قال إن كنتم مستمرين على الإيمان بالله لأن هذه الأمور الثلاثة لا يكمل الإيمان بدونها، بل لا يثبت أصلاً لمن لم يمتثلها، فإن من ليس بمتق وليس بمطيع لهما ليس بمؤمن، قال عطاء: طاعة الله والرسول اتباع الكتاب والسنة. أخرجه ابن أبي حاتم.
(5/128)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
(5/129)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
(إنما المؤمنون) جملة مستأنفة مسوقة لبيان من أريد بالمؤمنين بذكر أوصافهم الجليلة المستتبعة لما ذكر من الخلال الثلاث، وفيه مزيد ترغيب لهم في الامتثال بالأوامر المذكورة، أي إنما الكاملون في الإيمان المخلصون فيه.
(الذين إذا ذكر الله) أي وعيده (وجلت) أي فزعت وخضعت وخافت ورقت (قلوبهم) لذكر الله استعظاماً له وتهيباً من جلاله، والوجل الخوف والفزع، يقال وجل بالكسر في الماضي يوجل بالفتح، وقرئ كوعد يعد ويقال بإثبات الواو في المضارع، والمراد أن حصول الخوف من الله والفزع منه عند ذكره هو شأن المؤمنين الكاملي الإيمان المخلصين لله، فالحصر باعتبار كمال الإيمان لا باعتبار أصل الإيمان.
قال جماعة من المفسرين: هذه الآية متضمنة للتحريض على طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أمر به من قسمة الغنائم، ولا يخفاك أن هذا وأن صح إدراجه تحت معنى الآية من جهة أن وجل القلوب عند الذكر وزيادة الإيمان عند تلاوة آيات الله يستلزمان امتثال ما أمر به سبحانه. من كون الأنفال لله والرسول.
ولكن الظاهر أن مقصود الآية هو إثبات هذه المزية لمن كمل إيمانه من غير تقييد بحال دون حال، ولا بوقت دون وقت، ولا بواقعة دون واقعة.
وعن ابن عباس: وجلت فرقت، وقال المنافقون: لا يدخل قلوبهم شيء
(5/129)
من ذكر الله عند أداء فرائضه ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ولا يتوكلون على الله ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) فأدوا فرائضه.
وعن أم الدرداء قالت: إنما الوجل في القلب كاحتراق السعفة يا شهر ابن حوشب أما تجد قشعريرة؟ قلت: بلى، قالت: فادع عندها فإن الدعاء يستجاب عند ذلك، وقال ثابت البناني: قال فلان إني لأعلم متى يستجاب لي، قالوا: ومن أين لك؟ قال: إذا اقشعر جلدي ووجل قلبي وفاضت عيناي فذلك حين يستجاب لي.
وعن عائشة قالت: ما الوجل في قلب المؤمن إلا كضرمة السعفة فإذا وجل أحدكم فليدع عند ذلك، وعن السدي قال: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له اتق الله فيجل قلبه، فإن قيل، قال: هنا وجلت قلوبهم وقال في آية أخرى (وتطمئن قلوبهم) فكيف الجمع بينهما، قلت: الاطمئنان بذكره بصفات الجمال، والوجل إنما هو بذكر وعيده.
(وإذا تليت عليهم آياته) المراد من التلاوة الآيات المنزلة أو التعبير عن بديع صنعته وكمال قدرته في آياته التكوينية بذكر خلقها البديع وعجائبها التي يخشع عند ذكرها المؤمنون (زادتهم ايماناً) أي تصديقاً، قاله ابن عباس، وعن الربيع بن أنس قال خشية، والمراد بزيادة الإيمان هو زيادة انشراح الصدر وطمأنينة القلب وانفلاح الخاطر عند تلاوة الآيات.
وقيل المراد بها زيادة العمل لأن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، والآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة ترد ذلك وتدفعه، والآية صريحة في زيادة الإيمان، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
(5/130)
الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان (1)، أخرجه الشيخان.
وفي هذا دليل على أن الإيمان فيه أعلى وأدنى، وإذا كان كذلك كان قابلاً للزيادة والنقصان، قال الواحدي عن عامة أهل العلم: إن كل من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى كان إيمانه أزيد، قال الكرخي: إن نفس التصديق يقبل القوة وهي التي عبر عنها بالزيادة للفرق المميز بين يقين الأنبياء وأرباب المكاشفات ويقين آحاد الأمة.
ويؤيد ذلك قول عليّ رضي الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، وكذا من قام عليه دليل واحد ومن قامت عليه أدلة كثيرة لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه، وعليه يحمل ما نقل عن الشافعي من أنه يقبل الزيادة والنقص، فلا يرد كيف قال ذلك مع أن حقيقة الإيمان عند الأكثر لا تزيد ولا تنقص كالإلهية والوحدانية اهـ. وقيل المعنى أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد وتصديق جديد فكان ذلك زيادة في إيمانهم.
(وعلى ربهم يتوكلون) التوكل على الله تفويض الأمر إليه في جميع الأمور قال ابن عباس: لا يرجون غيره، وعلى بمعنى الباء ويتوكلون بمعنى يثقون، وتقديم المعمول للحصر، وقال السمين التقديم يفيد الأختصاص أي عليه لا على غيره والجملة في محل الحال أو مستأنفة أو معطوفة على الصلة.
_________
(1) مسلم/59 - البخاري/31.
(5/131)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
(الذين يقيمون الصلاة) المفروضة بحدودها وأركانها في أوقاتها، ومن في (ومما) للتبعيض (رزقناهم ينفقون) ويدخل فيه النفقة في الزكاة والحج والجهاد وغير ذلك من الإنفاق في أنواع البر والقربات، وخص إقامة الصلاة والصدقة لكونهما أصل الخير وأساسه.
(5/131)
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
(أولئك) أي المتصفون بالأوصاف المتقدمة (هم المؤمنون) أي الكاملون الإيمان البالغون فيه إلى أعلى درجاته وأقصى غاياته (حقاً) أي حق ذلك حقاً أو ايماناً حقاً يعني يقيناً لا شك في إيمانهم وصدقاً لا ريب فيه، قال ابن عباس: برئوا من الكفر، وحقاً أي خالصاً وقيل التقدير حقاً لهم درجات، وهذا إنما يجوز على رأي ضعيف أعني تقديم المصدر المؤكد لمضمون جملة عليها.
وقد استدل بظاهر هذه الآية أبو حنيفة ومن قال بقوله أنه يجوز أن يقول أنا مؤمن حقاً ولا يجوز الاستثناء، وأجيب عنه بأن الاستثناء ليس على طريق الشك بل للتبرك كقوله: وأنا إن شاء الله بكم لاحقون مع العلم القطعي أنه لاحق بهم أو المراد صرف الاستثناء إلى الخاتمة، والنزاع عند التحقيق لفظي كما تقرر في موطنه، وإنما حكم سبحانه بكونهم مؤمنين حقاً في هذه الآية إذا أتوا بتلك الأوصاف الخمسة كما يفيده لفظة إنما لأنها للحصر.
(لهم درجات) يعني فضائل ورحمة، قاله سعيد بن جبير، وعن مجاهد قال: أعمال رفيعة، وقال الضحاك: أهل الجنة بعضهم فوق بعض، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه، ولا يرى الأسفل فضل أحد عليه، ذكر ما أعد لمن كان جامعاً بين هذه الأوصاف من الكرامة فقال لهم منازل خير وكرامة وشرف في الجنة كائنة (عند ربهم) وفي كونها عنده سبحانه زيادة تشريف لهم وتكريم وتعظيم وتفخيم.
(ومغفرة) لذنوبهم، وعن ابن زيد قال: بترك الذنوب (ورزق كريم) دائم مستمر يكرمهم الله به من واسع فضله وفائض جوده، وعن ابن زيد قال: هو الأعمال الصالحة، وعن محمد بن كعب القرظي قال: إذا سمعتم الله يقول: (ورزق كريم) فهي الجنة.
(5/132)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
(كما أخرجك ربك) قال الزجاج: أي الأنفال ثابتة لك مثل إخراج ربك، وبه قال المبرد، والمعنى امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا لأن بعض الصحابة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل لكل من أتى بأسير شيئاً قال: بقي أكثر الناس بغير شيء، فموضع الكاف نصب، وقال أبو عبيدة: هو قسم أي والذي أخرجك فالكاف بمعنى الواو، وما بمعنى الذي.
وقال الأخفش: المعنى أولئك هم المؤمنون حقاً كما أخرجك ربك، وقال عكرمة: المعنى أطيعوا الله ورسوله كما أخرجك ربك، وقيل الكاف كاف التشبيه على سبيل المجازاة، وقيل بمعنى على أي امض على الذي أخرجك فإنه حق، وقيل بمعنى إذ أي اذكر يا محمد إذ أخرجك.
وقيل هذه الحال كحال إخراجك يعني أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب، ذكره صاحب الكشاف، وقال السمين فيه عشرون وجهاً، (الثاني) منها أن تقديره أصلحوا ذات بينكم إصلاحاً كما أخرجك، وقد التفت من خطاب الجماعة إلى خطاب الواحد.
(الثالث) تقديره وأطيعوا الله ورسوله طاعة ثابتة محققة كما أخرجك (الرابع) تقديره يتوكلون توكلاً حقيقياً كما أخرجك (السادس عشر) منها تقديره قسمتك الغنائم حق كما كان إخراجك حقاً (السابع عشر) أن التشبيه وقع بين إخراجين اهـ.
(من بيتك) أي المدينة أو بيتك الذي بها (بالحق) أي إخراجاً متلبساً بالحق لا شبهة فيه وقال مجاهد كما أخرجك ربك من بيتك بالحق كذلك
(5/133)
يجادلونك في خروج القتال، وعن السدى قال: خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، وقيل المراد إخراجه من مكة إلى المدينة للهجرة، والأول أولى، وبه قال جمهور المفسرين.
وقيل هذا الوعد للمؤمنين حق في الآخرة كما أخرجك ربك من بيتك بالحق الواجب له فأنجز وعدك وظفرك بعدوك وأوفى لك، ذكره النحاس واختاره، وفي الجمل أي أخرجك من المدينة لتأخذ العير التي مع أبي سفيان أي فتغنمها فأصل خروج النبي والمؤمنين لأجل أن يغنموا القافلة فلم تكن في خروجهم كراهة وإنما عرضت لهم الكراهة بعد الخروج قريب بدر لما أخبروا أن العير نجت منهم وأن قريشاً أتوا إلى بدر.
وأشار عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يمضون إلى قتال قريش الذين خرجوا ليذبوا المسلمين عن القافلة فكره المسلمون القتال لا عصياناً بل بالطبع، حيث خرجوا من غير استعداد للقتال لا بعدد ولا بعدة، وإنما كان أصل خروجهم لأخذ الغنيمة لقوله:
(وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون) حال مقدرة لما علمت أن الكراهة لم تقارن الخروج وقيل أي كما أخرجك في حال كراهتهم لذلك لأنه لما وعدهم الله إحدى الطائفتين إما العير أو النفير، رغبوا في العير لما فيها من الغنيمة والسلامة من القتال وكرهوه لقلة عددهم وسلاحهم وكثرة عدوهم وسلاحهم، وفي (لكارهون) مراعاة معنى الفريق.
(5/134)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
(5/135)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
(يجادلونك) ومجادلتهم لما ندبهم إلى إحدى الطائفتين وفات العير وأمرهم بقتال النفير ولم يكن معهم كثير أهبة لذلك شق عليهم وقالوا: لو أخبرتنا بالقتال لأخذنا العدة وأكملنا الأهبة، والجملة مستأنفة أو حال ثانية أي أخرجك حال مجادلتهم أو حال من الضمير في (لكارهون) أي لكارهون في حال الجدال، والضمير يجوز أن يعود على الكفار وجدالهم ظاهر، والظاهر أنه يعود على الفريق المتقدم.
(في الحق) أي في القتال (بعد ما تبين) لهم أنك لا تأمر بشيء إلا بإذن الله، أو بعد ما تبين لهم أن الله وعدهم بالظفر بإحدى الطائفتين وأن العير إذا فاتت ظفروا بالنفير (كأنما يساقون إلى الموت) أي حال كونهم في شدة فزعهم من القتال يشبهون حال من يساق بالعنف والصغار ليقتل (وهم ينظرون) يعني إلى الموت كمن هو مشاهد لأسباب قتله ناظر إليها بعينه لا يشك فيها، والجامع بينهما الكراهة في كل.
(5/135)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
(وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين) أي واذكروا وقت وعد الله إياكم وأمرهم بتذكر الوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث لقصد المبالغة، والطائفتان هما فرقة أبي سفيان مع العير، وفرقة أبي جهل مع النفير.
(أنها) أي إحدى الطائفتين مسخرة (لكم) وأنكم تغلبونها وتغنمون منها وتصنعون بها ما شئتم من قتل وأسر وغنيمة لا يطيقون لكم دفعاً، ولا يملكون لأنفسهم منكم ضراً ولا نفعاً، وفي هذه الجملة تذكير لهم بنعمة من
(5/135)
النعم التي أنعم الله بها عليهم.
(وتودون) أي تريدون وتتمنون، معطوف على يعدكم من جملة الحوادث التي أمروا بذكر وقتها (أن غير ذات الشوكة) من الطائفتين وهي طائفة العير التي ليس فيها قتال ولا شوكة (تكون لكم) دون ذات الشوكة وهي طائفة النفير، قال أبو عبيدة: أي غير ذات الحد، والشوكة السلاح والنبت الذي له حد، ومنه رجل شائك السلاح أي حديد السلاح ثم يقلب فيقال شاكي السلاح فالشوكة مستعارة من واحدة الشوك.
والمعنى: وتودون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح وهي طائفة العير لأنها غنيمة صافية عن كدر القتال، إذ لم يكن معها من يقوم بالدفع عنها، قال الضحاك: وهي عير أبي سفيان، ودّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن العير كانت لهم وأن القتال صرف عنهم.
(ويريد الله أن يحق الحق بكلماته) وهو من جملة ما أمروا بذكر وقته أي ويريد الله غير ما تريدون وهو أن يحق الحق بإظهاره لما قضاه من ظفركم بذات الشوكة وقتلكم لصناديدهم، وأسر كثير منهم واغتنام ما غنمتم من أموالهم التي أجلبوا بها عليكم وراموا دفعكم بها، والمراد بالكلمات الآيات التي أنزلها في محاربة ذات الشوكة، ووعدكم منه بالظفر بها، وقيل الكلمات عداته التي سبقت لكم من إظهار الدين وإعزازه، وقيل أسباب النصر مثل نزول الملائكة وأوامره لهم بالإمداد.
(ويقطع دابر الكافرين) الدابر الآخر، وقطعه عبارة عن الاستئصال، والمعنى ويستأصلهم جميعاً حتى لا يبقى منهم أحد.
(5/136)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
(5/137)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
(ليحق الحق ويبطل الباطل) هذه الجملة علة لما يريده الله أي أراد ذلك أو يريده ليظهر الحق ويرفعه وهو الإسلام، ويبطل الباطل، ويضعه وهو الكفر، أو فعل ذلك ليحق الحق.
وليس في هذه الجملة تكرير لما قبلها لأن الأولى لبيان التفاوت فيما بين الإرادتين، وهذه لبيان الحكمة الداعية إلى ذلك، والعلة المقتضية له والمصلحة المترتبة عليه، وقيل لا يقال فيه تحصيل الحاصل إذ المراد بالحق الإيمان، وبالباطل الشرك وقيل المراد بالأول تثبيت ما وعد به في هذه الواقعة من النصرة والظفر بالأعداء، وبالثاني تقوية الدين وإظهار الشريعة لأن الذي وقع يوم بدر من نصر المؤمنين مع قلتهم، ومن قهر الكافرين مع كثرتهم كان سبباً لإعزاز الدين وقوته ولهذا قرنه بقوله ويبطل الباطل.
(ولو كره) أن يحق الحق ويبطل الباطل (المجرمون) أي المشركون من قريش أو جميع طوائف الكفار، ووقعة بدر قد اشتملت عليها كتب الحديث والسير والتواريخ مستوفاة فلا نطيل بذكرها.
(5/137)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
(إذ تستغيثون ربكم) أي اذكروا وقت استغاثتكم، تذكير لهم بنعمة أخرى والمقام للماضي، وإنما عبر بالمضارع حكاية للحال الماضية أي إذ تستغيثون بربكم من عدوكم وتطلبون منه الغوث والنصر، والاستغاثة طلب الغوث يقال استغاثني فلان فأغثته والاسم الغياث.
والمعنى أن المسلمين لما علموا أنه لا بد من قتال الطائفة ذات الشوكة
(5/137)
وهم النفير كما أمرهم الله بذلك وأراده منهم، ورأوا كثرة عدد النفير وقلة عددهم استغاثوا بالله سبحانه، وهو معنى قول الأزهري، وقيل المستغيث هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده، وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيماً له.
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أن عدد المشركين يوم بدر ألف، وعدد المسلمين ثلثمائة وسبعة عشر رجلاً، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى ذلك استقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: " اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض "، فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبية ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل هذه الآية (1).
(فاستجاب لكم) عطف على (تستغيثون) داخل معه في التذكير وهو وإن كان مستقبلاً فهو بمعنى الماضي ولهذا عطف عليه استجاب (أني) أي بأني (ممدكم) بوعدي إياكم بالإمداد وذلك لأنه وقت الإجابة لم يحصل الإمداد بالفعل لأن الدعاء واستجابته كانا قبل وقوع القتال.
(بألف من الملائكة مردفين) قرئ بكسر الدال وفتحها وهما واضحتان لأنه يروى في التفسير أنه كان وراء كل ملك ملك رديفاً له، فقراءة الفتح تشعر بأن غيرهم أردفهم لركوبهم خلفهم وقراءة الكسر تشعر بأن الراكب خلف صاحبه قد أردفه فصح التعبير باسم الفاعل تارة واسم المفعول أخرى.
وجعل أبو البقاء مفعول مردفين بالكسر محذوفاً أي مردفين أمثالهم، ويجوز أن يكون معنى الإرداف المجيء بعد الأوائل أي جعلوا ردفاً للأوائل، قاله السمين.
_________
(1) مسلم/1763.
(5/138)
وقد قيل أن ردف وأردف بمعنى واحد، وأنكره أبو عبيدة قال لقوله تعالى: (تتبعها الرادفة) ولم يقل المردفة، قال ابن عباس: مردفين متتابعين، وعنه قال: المدد، وعنه قال: وراء كل ملك ملك، وعن الشعبي قال: كان ألف مردفين وثلاثة آلاف منزلين وكانوا أربعة آلاف وهم مدد المسلمين في ثغورهم.
وقال مجاهد: مردفين مجدين، وقال قتادة: متتابعين أمدهم الله بألف ثم بثلاثة ثم أكملهم خمسة آلاف، وعن علي قال: نزل جبريل في خمسمائة من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر، ونزل ميكائيل في خمسمائة من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الميسرة.
وعن مجاهد قال: ما أمد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأكثر من هذه الألف التي ذكر الله في الأنفال، وما ذكر الثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف إلا بشرى، قال في الجمل: لم يثبت أن الملائكة قاتلت في وقعة إلا في بدر، وأما في غيرها فكانت تنزل لتكثير عدد المسلمين ولا تقاتل كما وقع في حنين.
(5/139)