وبيان ذلك أن أهل القول الأول جعلوا المحكم ما وجد إلى علمه سبيل.
والمتشابه ما لا سبيل إلى علمه، ولا شك أن مفهوم المحكم والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه، فإن مجرد الخفاء أو عدم الظهور أو الاحتمال أو التردد يوجب التشابه.
وأهل القول الثاني خصوا المحكم بما ليس فيه احتمال، والمتشابه بما فيه احتمال، ولا شك أن هذا بعض أوصاف المحكم والمتشابه لا كلها.
وهكذا أهل القول الثالث فإنهم خصوا كل واحد من القسمين بتلك الأوصاف المعينة دون غيرها.
وأهل القول الرابع خصوا كل واحد منهما ببعض الأوصاف التي ذكرها أهل القول الثالث، والأمر أوسع مما قالوه جميعاً.
وأهل القول الخامس خصوا المحكم بوصف عدم التصريف والتحريف، وجعلوا المتشابه مقابله، وأهملوا ما هو أهم من ذلك مما لا سبيل إلى علمه من دون تصريف وتحريف كفواتح السور المقطعة.
وأهل القول السادس خصوا المحكم بما يقوم بنفسه، والمتشابه بما لا يقوم بها، وأن هذا هو بعض أوصافهما.
وصاحب القول السابع وهو ابن خوازمنداد عمد إلى صورة الوفاق فجعلها محكماً، وإلى صورة الخلاف والتعارض فجعلها متشابهاً فأهمل ما هو أخص أوصاف كل واحد منهما من كونه باعتبار نفسه مفهوم المعنى أو غير مفهوم.
وعن ابن عباس قال المحكمات ثلاث آيات من آخر سورة الأنعام (قل تعالوا) والآيتان بعدها، وفي رواية عنه قال: من هنا (قل تعالوا) إلى ثلاث آيات، ومن هنا (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) إلى ثلاث آيات بعدها.
وأقول: رحم الله ابن عباس ما أقل جدوى هذا الكلام المنقول عنه، فإن تعيين ثلاث آيات أو عشر أو مائة من جميع آيات القرآن ووصفها بأنها محكمة ليس تحته من الفائدة شيء فالمحكمات هي أكثر القرآن على جميع الأقوال حتى(2/177)
على قوله المنقول عنه قريباً من أن المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به، والمتشابه ما يقابله، فما معنى تعيين تلك الآيات من آخر سورة الأنعام.
وقيل المحكمات ما أطلع الله عباده على معناه، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، فلا سبيل لأحد إلى معرفته نحو الخبر عن أشراط الساعة.
وقيل المحكم سائر القرآن، والمتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور، وقيل إن المحكم ما لم يتكرر ألفاظه، والمتشابه ما تكررت ألفاظه، وقيل غير ذلك وللسلف أقوال كثيرة هي راجعة إلى ما قدمنا في أول هذا البحث.
(فأما الذين في قلوبهم زيغ) أي ميل عن الحق كوفد نجران وغيرهم، والزيغ الميل ومنه زاغت الشمس وزاغت الأبصار. ويقال زاغ يزيغ زيغاً إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) وزاغ وزال ومال متقاربة لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان من حق إلى باطل، وقال الراغب: الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين.
(فيتبعون ما تشابه منه) أي يحيلون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم، وهذه الآية تعم كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق، وسبب النزول نصارى نجران فيتعلقون بالمتشابه من الكتاب فيشككون به على المؤمنين ويجعلونه دليلاً على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق كما تجده في كل طائفة من طوائف البدعة، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعباً شديداً ويوردون منه لتنفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء.
(ابتغاء الفتنة) أي طلباً منهم لفتنة الناس في دينهم والتلبس عليهم وإفساد ذوات بينهم لا تحرياً للحق (وابتغاء تأويله) أي تفسيره على الوجه الذي يريدونه ويوافق مذاهبهم الفاسدة.(2/178)
قال الزجاج المعنى أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم فأعلم الله عز وجل أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله، الدليل على ذلك قوله (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله) أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب (يقول الذين نسوه) أي تركوه (قد جاءت رسل ربنا بالحق) أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل.
وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى قوله أولوا الألباب) قالت قال " إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم " وفي لفظ " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك سماهم الله فاحذروهم " هذا لفظ البخاري (1).
ولفظ ابن جرير وغيره فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه والذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله فلا تجالسوهم وأخرج الطبراني وأحمد والبيهقي وغيرهم عن أبي أمامة عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: هم الخوارج (2).
وقال ابن القيم في الإعلام إذا سئل أحد عن تفسير آية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه التأويلات الفاسدة لموافقة نحلته وهواه، ومن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء والحجر عليه وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به أئمة الكلام قديماً وحديثاً.
وقال أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية ذهب أئمة السلف إلى الإنكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأياً وندين لله به إتباع سلف الأمة. وقد درج صحابة
_________
(1) مسلم 2665 البخاري 985.
(2) ابن كثير 1/ 346.(2/179)
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام والمثقلون بأعباء الشريعة وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، ولو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محبوباً لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب تعالى.
وقال الغزالي: الإيمان المستفاد من الكلام ضعيف والإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع وبعد البلوغ بقرائن يتعذر التعبير عنها، وقد اتفقت كلمة الأئمة الأربعة على ذم الكلام وأهله.
وقال بعض أهل العلم كيف لا يخشى الكذب على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من يحمل كلامه على التأويلات المستنكرة والمجازات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أولى منها بالبيان والهداية، وهل يأمن على نفسه أن يكون ممن قال الله فيهم (ولكم الويل مما تصفون) انتهى.
ولو علم المتأولون كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالتأويلات التي لم يردها ولم يدل عليها كلامه، أي باب شر فتحوا على الأمة بالتأويلات الفاسدة وأي بناء للإسلام هدموا بها وأي معاقل وحصون استباحوها، كان أحدهم لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه أن يتعاطى شيئاً من ذلك، فكل صاحب باطل قد جعل ما تأوله المتأولون عذراً له فيما تأوله هو وقال ما الذي حرم على التأويل وأباحه لكم؟
فتأولت الطائفة المنكرة للمعاد نصوص المعاد، وكان تأويلهم من جنس تأويل منكري الصفات بل أقوى منه لوجوه عديدة يعرفها من وازن بين التأويلين، وكذلك فعلت الرافضة في أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة، وكذلك فعلت المعتزلة في تأويل أحاديث الرؤية والشفاعة، وكذلك(2/180)
القدرية في نصوص القدر، وكذلك الحرورية وغيرهم من الخوارج في النصوص التي تخالف مذاهبهم وكذلك القرامطة والباطنية والمتصوفة طردت الباب وحملت الوادي على القرى وتأولت الدين كله.
فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلف الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل، وهل وقعت في الأمة فتنة صغيرة أو كبيرة إلا بالتأويل، فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل، وليس هذا مختصاً بدين الإسلام فقط بل سائر أديان الرسل لم تزل على الإستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد.
وقد تواترت البشارات بصحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدمة ولكن سلطوا عليها التأويلات فافسدوها كما أخبر سبحانه عنهم من التحريف والتبديل والكتمان، والتحريف: تحريف المعاني بالتأويلات التي لم يردها المتكلم، والتبديل تبديل لفظه بلفظ آخر والكتمان جحده، وهذه الأودات الثلاثة منها غيرت الأديان والملل.
وإذا تأملت دين المسيح وجدت النصارى إنما تطرقوا إلى فساده بالتأويل بما لا يكاد يوجد مثله في شيء من الأديان. ودخلوا إلى ذلك من باب التأويل، وكذلك زنادقة الأمم جميعهم إنما تطرقوا إلى فساد ديانات الرسل بالتأويل، ومن بابه دخلوا وعلى أساسه بنوا وعلى نقطه حطوا.
والمتأولون أصناف عديدة بحسب الباعث لهم على التأويل وبحسب قصور أفهامهم ورقودها وأعظمهم توغلاً في التأويل الباطل من قصد قصده وفهمه كما شاء قصده وقصر فهمه كان تأويله أشد إنحرافاً.
وبالجملة فافتراق أهل الكتابين وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل، وإنما أريقت دماء السلمين يوم الجمل وصفين والحرة وفتنة ابن(2/181)
الزبير وهلم جرا بالتأويل، وإنما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والإسماعيلية والنصرية من باب التأويل.
فما امتحن الإسلام بمحنة إلا وسببها التأويل، فإن محنته إما من المتأولين وإما أن تسلط عليهم الكفار بسبب ما ارتكبوا من التأويل أو خالفوا في ظاهر التنزيل، وتعللوا بالأباطيل.
وما الذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل حتى رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه فتبرأ إلى الله من فعل المتأول لقتلهم وأخذ أموالهم.
وما الذي أوجب تأخر الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية عن موافقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير التأويل حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل؟.
وما الذي سفك في دم أمير المؤمنين عثمان ظلماً وعدواناً، وأوقع الأمة فيما أوقعها فيه حتى الآن غير التأويل؟.
وما الذي سفك دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل.
وما الذي أراق دم ابن الزبير وحجر بن عدي وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل؟.
وما الذي أريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل.
وما الذي جرد الإمام أحمد بين العقابين وضرب السياط حتى عجت الخليقة إلى ربها غير التأويل؟.
وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وخلد خلقاً من العلماء في السجون حتى ماتوا غير التأويل؟.
وما الذي سلط سوق التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل؟.
وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل؟.(2/182)
وهل فتح باب التأويل إلا مضادة ومناقضة لحكم الله في تعليمه عباده البيان الذي امتن في كتابه على الإنسان بتعليمه إياه، فالتأويل بالألغاز والأحاجي والأغلوطات أولى منه بالبيان، وهو فرق بين دفع حقائق ما أخبرت به الرسل عن الله وأمرت به بالتأويلات الباطلة المخالفة له، وبين رده وعدم قبوله، ولكن هذا رد جحود ومعاندة وذاك رد خداع ومصانعة.
قال أبو الوليد بن رشد المالكي في كتابه المسمى بالكشف عن مناهج الأدلة وقد ذكر التأويل وجنايته على الشريعة إلى أن قال:
(وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) وهؤلاء أهل الجدل والكلام وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيراً مما ظنوه ليس على ظاهره وقالوا إن هذا التأويل هو المقصود به، وإنما أمر الله به في صورة المتشابه إبتلاء لعباده واختباراً لهم، ونعوذ بالله من هذا الظن بالله، بل نقول إن كتاب العزيز إنما جاء معجزاً من جهة الوضوح والبيان فما أبعد من مقصد الشارع من ْقال فيما ليس بمتشابه أنه متشابه، ثم أول ذلك المتشابه بزعمه، وقال لجميع الناس إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش وغير ذلك مما قالوا إن ظاهره متشابه.
قال فهذه هي حالة الفرق الحادثة في هذه الشريعة وذلك أن كل فرقة منهم تأولت غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه هو الذي قصده الشرع حتى تمزق الشرع كل ممزق، وبعد جداً عن موضوعه الأول.
ولما علم صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أن مثل هذا يعرض ولا بد في شريعته قال - صلى الله عليه وسلم - " ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (1) " يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله.
وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد
_________
(1) أبو داوود السنن 1، ابن ماجه كتاب الفتن باب 17.(2/183)
والعارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح، وأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة ثم الأشعرية ثم الصوفية ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى، هذا كلامه بلفظه.
ولو ذهبنا نستوعب ما جناه التأويل على الدنيا والدين وما نال الأمم قديماً وحديثاً بسببه من الفساد لاستدعى ذلك عدة أسفار والله المستعان.
(وما يعلم تأويله إلا الله) التأويل يكون بمعنى التفسير كقولهم تأويل هذه الكلمة على كذا أي تفسيرها ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه، واشتقاقه من آل الأمر إلا كذا يؤول إليه أي صار وأولته تأويلاً أي صيرته، وهذه الجملة حالية أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله، والحال أنه ما يعلم تأويله إلا الله.
وقد اختلف أهل العلم في قوله (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) هل هو كلام مقطوع عما قبله أو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع عما قبله وأن الكلام تم عند قوله: (إلا الله) وهذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم، وهو مذهب الكسائي والفراء والأخفش وأبي عبيد وحكاه ابن جرير الطبري عن مالك، واختاره، وحكاه الخطابي عن ابن مسعود وأبي بن كعب.
قال: وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخين على ما قبله وزعم أنهم يعملونه، قال واحتج له بعض أهل اللغة فقال معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا به، وزعم أن موضع يقولون نصب على الحال، وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معاً، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر فعل لم يكن حالاً، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال عبد الله راكباً يعني أقبل عبد الله راكباً، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله عبد الله يتكلم يصلح بين الناس فكان يصلح حالاً، فقول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده.(2/184)
وأيضاً فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئاً عن الخلق وينسبه لنفسه فيكون له في ذلك شريك ألا ترى قوله عز وجل (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) وقوله: (لا يجليها لوقتها إلا هو) وقوله: (كل شيء هالك إلا وجهه) فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه به لا يشركه فيه غيره وكذلك قوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله) ولو كانت الواو في قوله (والراسخون) للنسق لم يكن لقوله (كل من عند ربنا) فائدة انتهى.
قال القرطبي ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم ويقولون على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين.
ولا يخفاك أن ما قاله الخطابي في وجه امتناع كون قوله (يقولون آمنا به) حالاً من أن العرب لا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل إلى آخر كلامه لا يتم إلا على فرض أنه لا فعل هنا، وليس الأمر كذلك فالفعل مذكور وهو قوله (وما يعلم تأويله) ولكنه جاء الحال من المعطوف وهو قوله (الراسخون) دون المعطوف عليه وهو قوله (إلا الله) وذلك جائز في اللغة العربية وقد جاء مثله في الكتاب العزيز، ومنه قوله تعالى (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم) إلى قوله (والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا) الآية وكقوله (وجاء ربك والملك صفاً صفاً) أي وجاءت الملائكة صفاً صفاً.
ولكن ههنا مانع آخر من جعل ذلك حالاً وهو أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين آمنا به ليس بصحيح فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الاسم الشريف يعلمونه في كل حال من الأحوال إلا في هذه الحالة الخاصة، فاقتضى هذا أن جعل قوله (يقولون آمنا به) حالاً غير(2/185)
صحيح، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قوله (والراسخون في العلم) مبتدأ خبره يقولون.
قال البغوي وهذا أقيس بالعربية وأشبه بظاهر الآية.
ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف أن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم وهم لا يعلمون ذلك، ويجاب عن هذا بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به ولا جعل لخلقه إلى علمه سبيلاً هو من رسوخهم، لأنهم علموا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه، وأن الذين يتبعونه هم الذين في قلوبهم زيغ، وناهيك بهذا من رسوخ.
وأصل الرسوخ في لغة العرب الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل أو الشجر في الأرض، فهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم من الله من ترك اتباع المتشابه وإرجاع علمه إلى الله سبحانه.
ومن أهل العلم من توسط بين المقالين فقال التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان (أحدهما) التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤل أمره إليه ومنه قوله (هذا تأويل رؤياي) ومنه قوله (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله) أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمها إلا الله عز وجل، ويكون قوله (والراسخون في العلم) مبتدأ، ويقولون آمنا به خبره.
وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله (نبئنا بتأويله) أي تفسيره فالوقف على (والراسخون في العلم) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون (يقولون آمنا به) حالاً منهم.
ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون تأويله، وأطنب في ذلك، وهكذا جماعة من محققي المفسرين رجحوا ذلك.(2/186)
قال القرطبي: قال شيخنا أحمد بن عمرو هو الصحيح فإن تسميتهم راسخين يقضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع، لكن المتشابه يتنوع فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بعلمه وهذا لا يتعاطى علمه أحد، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم التشابه، فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة فيتأول ويعلم تأويله المستقيم ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم انتهى.
وقال الرازي: لو كان الراسخون في العلم عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه فإنهم لما عرفوه بالدلائل صار الإيمان به كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به بخصوصه مزيد مدح.
وأقول هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم والمتشابه، وقد قدمنا ما هو الصواب في تحقيقهما ونزيدك ههنا إيضاحاً وبياناً فنقول:
إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدمناه فواتح السور فإنها، غير متضحة المعنى ولا ظاهرة الدلالة، لا بالنسبة إلى أنفسها لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب ويعرف عرف الشرع ما معنى (الم، المر، حم، طس طسم) ونحوها لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب ولا من كلام الشرع فهي غير متضحة المعنى لا باعتبارها في نفسها ولا باعتبار أمر آخر يفسرها ويوضحها، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم والألفاظ العربية التي لا يوجد في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يوضحها، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح وما في قوله (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام) إلى آخر الآية ونحو ذلك.
وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره كورود(2/187)
الشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر باعتبار نفسه ولا باعتبار أمر آخر يرجحه.
وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب أو في عرف الشرع أو باعتبار غيره وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانهما في موضع آخر في الكتاب العزيز أو السنة المطهرة، والأمور التي تعارضت دلالتها ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب أو السنة أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف، فلا شك ولا ريب أن هذه من الحكم لا من المتشابه، ومن زعم أنها من المتشابه فقد اشتبه عليه الصواب.
فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق ومزالق وقعت للناس في هذا المقام، حتى صارت كل طائفة تسمى ما دلّ على ما تذهب إليه محكماً، وما دلّ على ما يذهب إليه ما يخالفها متشابها، سيما أهل علم الكلام، ومن أنكر هذا فعليه بمؤلفاتهم.
واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم، لكن لا بهذا المعنى الوارد في الآية هذه بل بمعنى آخر، ومن ذلك قوله تعالى (كتاب أحكمت آياته) وقوله (تلك آيات الكتاب الحكيم) والمراد بالمحكم بهذا المعنى أنه صحيح الألفاظ قويم المعنى، فائق في البلاغة والفصاحة على كل كلام.
وورد أيضاً ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها، بل بمعنى آخر، ومنه قوله (كتاباً متشابهاً) والمراد بالمتشابه بهذا المعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الصحة والفصاحة والحسن والبلاغة(2/188)
وقد ذكر أهل العلم لورود المتشابه في القرآن فوائد منها أنه يكون في الوصول إلى الحق مع وجودها فيه مزيد صعوبة ومشقة، وذلك يوجب مزيد الثواب للمستخرجين للحق وهم الأئمة المجتهدون.
وقد ذكر الزمخشري والرازي وغيرهما وجوهاً هذا أحسنها، وبقيتها لا تستحق الذكر ههنا.
وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا آمنا به كل من عند ربنا (1).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر، ما عرفتم فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلا عالمه " (2)، وإسناده صحيح.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس: تفسير القرآن على أربعة وجوه، تفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعذر الناس بجهالته من حلال أو حرام، وتفسير تعرفه العرب بلغتها، وتفسير لا يعلم تأويله إلا الله، من ادعى علمه فهى كاذب.
وأخرج الدارمي في مسنده ونصر المقدسي في الحجة عن سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له ضبيع قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال من أنت فقال أنا ضبيع فقال وأنا عبد الله عمر، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه حتى دمي رأسه فقال
_________
(1) رواه الحاكم 2/ 289.
(2) أحمد بن حنبل 2/ 330.(2/189)
يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي، وأخرجه الدارمي أيضاً من وجه آخر وفيه أنه ضربه ثلاث مرات يتركه في كل مرة حتى يبرأ ثم يضربه وأصل القصة أخرجه ابن عساكر في تاريخه عن أنس.
وأخرج الدارمي وابن عساكر أن عمر كتب إلى أهل البصرة أن لا تجالسوا ضبيعاً. وقد أخرج هذه القصة جماعة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أنس وأبي أمامة وواثلة ابن الأسقع وأبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الراسخين في العلم فقال: " من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم " (1).
وأخرجه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الجدال في القرآن كفر " (2).
وأخرج نصر المقدسي في الحجة عن ابن عمر قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن وراء حجرته قوم يتجادلون في القرآن فخرج محمرة وجنتاه كأنما تقطران دماً فقال: " يا قوم لا تجادلوا بالقرآن فإنما ضل من كان قبلكم بجدالهم. إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ولكن نزل يصدق بعضه بعضاً فما كان من محكمه فاعملوا به، وما كان متشابهه فآمنوا به " (3).
(كل من عند ربنا) فيه ضمير مقدر عائد على قسمي المحكم والمتشابه أي كله أو المحذوف غير ضمير أي كل واحد منهما، وهذا من تمام المقول المذكور قبله (وما يذَّكر إلا أولوا الألباب) أي العقول الخالصة وهم الراسخون في العلم الواقفون عند متشابهه العاملون بمحكمه بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية.
_________
(1) ابن كثير 1/ 347.
(2) أحمد بن حنبل 2، 258، 478، 498.
(3) ابن كثير 1/ 346 - 347.(2/190)
(8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)(2/191)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
(ربنا لا تزغ قلوبنا) قال ابن كيسان سألوا أن لا يزيغوا فتزيغ قلوبهم نحو قوله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) كأنهم لما سمعوا قوله تعالى (وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) قالوا ربنا لا تزغ قلوبنا باتباع المتشابه (بعد إذ هديتنا) إلى الحق بما أذنت لنا من العمل بالآيات المحكمات.
(وهب لنا من لدنك رحمة) أي كائنة من عندك، ومن لابتداء الغاية ولدن بفتح اللام وضم الدال وسكون النون وفيه لغات أخر هذه أفصحها، وهو ظرف مكان وقد يضاف إلى الزمان، وتنكير رحمة للتعظيم أي رحمة عظيمة واسعة تزلفنا إليك ونفوز بها عندك، أو توفيقاً للثبات على الحق أو مغفرة للذنوب (إنك أنت الوهاب) لكل مسؤول تعليل للسؤال أو لإعطاء المسؤول.
وهذا العموم مفهوم من عدم ذكر الموهوب، فالتخصيص بموهوب مسؤول دون آخر تخصيص بلا مخصص، وفيه دليل على أن الهدى والضلال من الله وأنه متفضل بما ينعم به على عباده لا يجب عليه شيء لأنه وهاب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ثم قرأ (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) (1) الآية " وقد ورد نحوه من طرق أخر.
_________
(1) أحمد 4/ 182، ابن ماجه مقدمة 13.(2/191)
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
(ربنا إنك جامع الناس) أي باعثهم ومحييهم بعد تفريقهم وهو من إضافة الفاعل إلى المفعول (ليوم) هو يوم القيامة أي لحساب يوم أو لجزاء يوم على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه (لا ريب فيه) أي في وقوعه ووقوع ما فيه من الحساب والجزاء، وقد تقدم تفسير الريب (إن الله لا يخلف الميعاد) تعليل لمضمون ما قبلها أي أن الوفاء بالوعد شأن الإله سبحانه، وخُلفُه يخالف الألوهية كما أنها تنافيه، وإظهار الاسم الجليل لإبراز كمال التعظيم والإجلال الناشىء من ذكر اليوم المهيب الهائل بخلاف ما في آخر هذه السورة فإنه مقام طلب الإنعام.
والميعاد مِفعال من الوعد بمعنى المصدر لا الزمان والمكان. قاله أبو البقاء، وإليه أشار في التقرير، وفيه التفات من الخطاب ويحتمل أن يكون من كلامه تعالى، والغرض من الدعاء بذلك بيان أن همهم أمر الآخرة ولذلك سألوا الثبات على الهداية لينالوا ثوابها.
[أخرج ابن النجار في تاريخه عن جعفر بن محمد الخلدي قال روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من قرأ هذه الآية على شيء ضاع منه رده الله عليه ويقول بعد قراءتها يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيني وبين مالي إنك على كل شيء قدير].(2/192)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
(إن الذين كفروا) المراد بالذين كفروا جنس الكفرة الشامل لجميع الأصناف، وقيل وفد نجران، وقيل قريظة، وقيل النضير، وقيل مشركو العرب (لن تغني) أي لن تنفع ولن تدفع (عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله) أي من عذابه (شيئاً) أي شيئاً من الإغناء، ومن لابتداء الغاية مجازاً، وقيل إن كلمة من بمعنى عند أي لها تغني عند الله شيئاً قاله أبو عبيد وقيل هي بمعنى بدل، والمعنى من رحمة الله، قاله القاضي وهو بعيد، قال أبو حيان أنكره أكثر النحاة بل هي لابتداء الغاية كما قاله المبرد.(2/192)
(وأولئك هم وقود النار) الوقود اسم للحطب. وقد تقدم الكلام عليه في سورة البقرة أي هم حطب جهنم الذي تُسَعَّر به، والجملة مستأنفة مقررة لقوله: (لن تغنى عنهم أموالهم) الآية، وقرىء وقود بضم الواو وهو مصدر أي هم أهل وقود.(2/193)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
(كدأب آل فرعون) الدأب الاجتهاد، يقال دأب الرجل في عمله يدأب دأباً ودؤباً إذا جد واجتهد، والدائبان الليل والنهار، والدأب الحال والعادة والشأن. والمراد هنا كعادة آل فرعون وشأنهم وحالهم، وقال ابن عباس كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر. وقيل كسنة آل فرعون.
واختلفوا في الكاف فقيل دأبهم كدأب آل فرعون مع موسى. وقال الفراء كفرت العرب ككفر آل فرعون، وأنكره النحاس. وقيل أخذهم أخذة كما أخذ آل فرعون. وقيل لم تغن عنهم غناء كما لم تغن عن آل فرعون.
وقيل العامل فعل مقدر من لفظ الوقود ويكون التشبيه في نفس الإحراق قالوا ويؤيده قوله تعالى (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشياً) والقول الأول هو الذي قاله جمهور المحققين ومنهم الأزهري.
(والذين من قبلهم) أي من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة الماضية مثل عاد وثمود وغيرهم أي وكدأب الذين من قبلهم (كذبوا بآياتنا) لما جاءتهم بها الرسل يحتمل أن يراد بالآيات المتلوة. ويحتمل أن يراد بها الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية ويصح إرادة الجميع. وقال في الأنفال (كذبوا) وفي موضع آخر منها (كفروا) تفننا جريا على عادة العرب في تفننهم في الكلام.
(فأخذهم الله بذنوبهم) أي فعاقبهم بسبب تكذيبهم. أو المراد سائر ذنوبهم التي من جملتها تكذيبهم (والله شديد العقاب) أي شديد عقابه.
فالإضافة غير محضة، وقيل المعنى إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون وكفار الأمم الماضية فأخذناهم فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم.(2/193)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)(2/194)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
(قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم) قيل هم اليهود.
وقيل هم مشركو مكة وقد صدق الله وعده بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وفتح خيبر، وضرب الجزية على سائر اليهود ولله الحمد.
وقرىء الفعلان بالتاء والياء فعلى الأولى معناه قل لهم ستغلبون وتحشرون. وعلى الثانية معناه بلغهم يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنهم سيغلبون ويحشرون (وبئس المهاد) يحتمل أن يكون من تمام القول الذي أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله لهم، ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة تهويلاً وتفظيعاً أي بئس ما مهد لهم في النار، والمهاد الفراش.(2/194)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
(قد كان لكم آية) أي علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم.
وهذه الجملة من تمام القول المأمول به لتقرير مضمون ما قبله. والخطاب لليهود وقيل لجميع الكفار. وقيل للمؤمنين وعلى الأخيرين تكون الآية مستأنفة غير مرتبطة بما قبلها.
ولم يقل (كانت) لأن التأنيث غير حقيقي، وقيل إنه رد المعنى إلى البيان فمعناه قد كان لكم بيان فذهب إلى المعنى وترك اللفظ، وقال الفراء إنما ذكر لأنه حالت الصفة بين الفعل والإسم المؤنث فذكر الفعل، وكل ما جاء من هذا فهذا وجهه، ومعنى الآية قد كان لكم عبرة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون.
(في فئتين) أي فرقتين، وأصلها فيء الحرب لأن بعضهم يفيء إلى(2/194)
بعض، أي يرجع، والفئة الجماعة ولا واحد لها من لفظتها وجمعها فئات، وقد تجمع بالواو والنون جبراً لما نقص، وسميت الجماعة من الناس فئة لأنه يفاء إليها أي يرجع في وقت الشدة قاله القرطبي، وقال الزجاج الفئة الفرقة مأخوذ من فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته.
(التقتا) لا خلاف في أن المراد بالفئتين هما المقتتلتان يوم بدر، وإنما وقع الخلاف في المخاطب بهذا الخطاب، فقيل المخاطب به المؤمنون وبه قال ابن مسعود والحسن، وقيل اليهود، وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت نفوسهم وتشجيعها، وفائدته إذا كان مع اليهود عكس الفائدة المقصودة بخطاب المسلمين، وقيل هو خطاب لكفار مكة.
(فئة تقاتل في سبيل الله) أي في طاعة الله وهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين، ومائتان وستة وثلاثون رجلاً من الأنصار، وكان صاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكان فيهم سبعون بعيراً وفرسان، وكان من السلاح ستة أدرع وثمانية سيوف وأكثرهم رجالة.
(وأخرى كافرة) وهم مشركو مكة وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة، وكان رأسهم عتبة بن ربيعة، وكان فيها مائة فرس، وكانت وقعة بدر أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة.
وفي الكلام شبه احتباك تقديره فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الشيطان، فحذف من الأول ما يفهم من الثاني، ومن الثاني ما يفهم من الأول.
(يرونهم مثليهم رأي العين) قال أبو علي الفارسي: الرؤية في هذه الآية رؤية العين، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد، ويدل عليه قوله (رأي العين) والمراد أنه يرى المشركون المؤمنون مثلى عدد المشركين أو مثلي عدد المسلمين.(2/195)
وقد ذهب الجمهور إلى أن فاعل يرون هم المؤمنون، والمفعول هم الكفار، والضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمشركين أي يرى المسلمون المشركين مثلَي ما هم عليه من العدد، وفيه بُعد، إذ يلزم أن يكثر الله المشركين في أعين المسلمين، وقد أخبرنا أنه قللهم في أعين المؤمنين، وأن يكون للمسلمين فيكون المعنى يرى السلمون المشركين مثلي المسلمين ليطمعوا فيهم، وقد كانوا علموا من قوله تعالى (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) أن الواحد يغلب الأثنين، وهذا على قراءة الجمهور بالياء التحتية.
وأما على قراءة نافع بالفوقية ففيها وجهان (الأول) أن يكون الخطاب في ترونهم للمسلمين والضمير المنصوب فيه للكافرين، والضمير المجرور في مثليهم أيضاً للمسلمين بطريق الالتفات فيكون المعنى ترون أيها المسلمون المشركين مثليكم في العدد، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين فأراهم إياهم مثلي عِدتهم لتقوى أنفسهم.
(والثاني) أن يكون الضمير المنصوب أيضاً للمسلمين أي ترون أيها المسلمون أنفسكم مثلي ما أنتم عليه من العدد لتقوى بذلك أنفسكم.
وقد قال من ذهب إلى التفسير الأول أعني أن فاعل الرؤية المشركون، وأنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم، أنه لا يناقض هذا ما في سورة الأنفال من قوله تعالى (ويقللكم في أعينهم) بل قللوا أولا في أعينهم ليلاقوهم ويجترؤا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ورأي العين مصدر مؤكد لقوله (يرونهم) أي رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها.
(والله يؤيد بنصره من يشاء) أي يقوي من يشاء أن يقويه ولو بدون الأسباب العادية، ومن جملة ذلك تأييد أهل بدر بتلك الرؤية.
(إن في ذلك) أي في رؤية القليل كثيراً (لعبرة) فعلة من العبور كالجلسة من الجلوس، والمراد الاتعاظ، والتنكير للتعظيم أي عبرة عظيمة وموعظة جسيمة (لأولي الأبصار).(2/196)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
عن الربيع يقول قد كان لكم في هؤلاء عبرة وتفكُّر، أيدهم الله ونصرهم على عدوهم يوم بدر كان المشركون تسعمائة وخمسين رجلاً وكان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً.
وعن ابن مسعود قال هذا يوم بدر نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً، وعن ابن عباس قال أنزلت في التخفيف يوم بدر على المؤمنين كانوا يومئذ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً وكان المشركون مثليهم ستمائة وستة وعشرين فأيد الله المؤمنين.(2/197)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
(زين للناس حب الشهوات) كلام مستأنف لبيان حقارة ما تستلذه الأنفس في هذه الدار، وتزهيد الناس فيها وتوجيه رغباتهم إلى ما عند الله، والمزين قيل هو الله سبحانه وبه قال عمر كما حكاه عنه البخاري وغيره، ويؤيده قوله تعالى (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم) ويؤيده قراءة مجاهد (زين) على البناء للفاعل، وقيل المزين هو الشيطان وبه قال الحسن وقد جاء صريحاً في قوله (وزين لهم الشيطان أعمالهم) والآية في معرض الذم وهو قول طائفة من المعتزلة والأول أولى.
والمراد بالناس الجنس، والشهوات جمع شهوة وهي نزوع النفس إلى ما تريده وتوقان النفس إلى الشيء المشتهى، والمراد هنا المشتهيات عبر عنها(2/197)
بالشهوات مبالغة في كونها مرغوباً فيها أو تحقيراً لها لكونها مسترذلة عند العقلاء من صفات الطبائع البهيمية، والشهوة إما كاذبة كقوله تعالى (أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) أو صادقة كقوله (فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين).
قاله الكرخي، ووجه تزيين الله سبحانه لها ابتلاء عباده كما صرح به في الآية الاخرى.
(من النساء) بدأ بالنساء لكثرة تشوق النفوس إليهن والإستئناس والإلتذاذ بهن لأنهن حبائل الشيطان، وأقرب إلى الافتتان (والبنين) خصهم دون البنات لعدم الاطراد في محبتهن ولأن حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى.
(والقناطير المقنطرة) جمع قنطار، وهو اسم للكثير من المال، قال الزجاج القنطار مأخوذ من عند الشيء وإحكامه تقول العرب قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها وقد اختلف في تقديره على أقوال للسلف.
أخرج أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " القنطار اثنا عشر ألف أوقية " (1).
وأخرج الحاكم وصححه عن أنس قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القناطير المقنطرة فقال: " القنطار ألف أوقية " (2)، ورواه ابن أبي حاتم عنه مرفوعاً بلفظ ألف دينار.
وأخرج ابن جرير عن أبي كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية " وبه قال معاذ بن جبل وابن عمر وأبو هريرة وجماعة من
_________
(1) ابن ماجة كتاب الآداب الباب الأول، الإمام أحمد 2/ 363.
(2) كتاب النكاح 2/ 178.(2/198)
العلماء، قال ابن عطية وهو أصح الأقوال ولكن يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية.
وعن أبي سعيد الخدري قال القنطار ملء مسك الثور ذهباً، وعن ابن عمر سبعون ألفاً، وعن سعيد بن المسيب ثمانون ألفاً، وعن أبي صالح مائة رطل، وعن أبي جعفر خمسة عشر ألف مثقالاً والمثقال أربعة وعشرون قيراطاً وعن الضحاك قال هو المال الكثير من الذهب والفضة وعن السدى أن المقنطرة المضروبة، وقال ابن جرير الطبري معناها المضعفة، وقال القناطير ثلاثة والمقنطرة تسعة.
وقال الفراء القناطير جمع القناطر، والمقنطرة جمع الجمع، فيكون تسعة قناطير، وقيل المقنطرة المكملة كما يقال بدرة مبدرة وألوف مؤلفة، وبه قال مكي وحكاه الهروي، وقال ابن كيسان لا يكون القنطرة أقل من سبع قناطير، وفي نونه قولان (أحدهما) وهو قول جماعة أنها أصلية وأن وزنه فِعلال كقرطاس (والثاني) أنها زائدة ووزنه فنعال.
(من الذهب والفضة) من بيانية وإنما بدأ بالذهب والفضة من بين سائر أصناف الأموال لأنهما قيم الأشياء قيل سمي الذهب ذهباً لأنه يذهب ولا يبقى، والفضة لأنها تنفض أي تتفرق.
(والخيل المسومة) عطف على النساء لا على الذهب لأنها لا تسمى قناطير قاله أبو البقاء وتوهم مثل هذا بعيد جداً فلا حاجة إلى التنبيه عليه، قيل هي جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط بل مفرده فرس، وسميت الأفراس خيلاً لاختيالها في مشيتها وقيل لأن الخيل لا يركبها أحد إلا وجد في نفسه مخيلة أي عجباً.
وقيل واحده خائل كراكب وركب وتاجر وتجر وطائر وطير، وفي هذا خلاف بين سيبويه والأخفش، فسيبويه يجعله اسم جمع والأخفش يجعله جمع تكسير.(2/199)
واختلفوا في معنى المسومة فقيل هي المرعية في المروج والمسارح يقال سامت الدابة والشاة إذا سرحت، وقيل هي المعدة للجهاد، وقيل المعلمة من السومة وهي العلامة أي التي يجعل عليها علامة لتتميز عن غيرها، قال ابن فارس في المجمل المسومة المرسلة وعليها ركبانها، قال ابن عباس هي الراعية والمطهمة الحسان وبه قال مجاهد، وقال عكرمة تسويمها حسنها أي الغرة والتحجيل، وقال ابن كيسان البلق.
(والأنعام) هي الإبل والبقر والغنم، فإذا قلت نعم فهي الإبل خاصة قاله الفراء وابن كيسان (والحرث) اسم لكل ما يحرث وهو مصدر سمي به المحروث تقول حرث الرجل حرثاً إذا أثار الأرض فيقع على الأرض والحرث والزرع، قال ابن الإعرابي الحرث التفتيش.
(ذلك) المذكور (متاع الحياة الدنيا) أي ما يتمتع به ثم يذهب ولا يبقى، وفيه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة (والله عنده حسن المآب) أي المرجع وهو الجنة، يقال آب يؤب إياباً إذا رجع وفيه إشارة إلى أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها فيما يكون فيه صلاحه في الآخرة لأنها السعادة القصوى.(2/200)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
(قل أؤنبئكم) أي أخبركم استفهام تقرير وليس في القرآن همزة مضمومة بعد مفتوحة إلا ما هنا وما في (ص) (أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) وما في اقتربت (أأُلقي الذكر عليه) (بخير من ذلكم) أي بما هو خير لكم من تلك المستلذات ومتاع الدنيا وإبهام الخير للتفخيم.
ثم بينه بقوله (للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار) خص المتقين لأنهم المنتفعون بذلك، ويدخل في هذا الخطاب كل من اتقى الشرك، وقال ابن عباس يريد المهاجرين والأنصار، والأول أولى.(2/200)
(خالدين) أي مقدرين الخلود (فيها) إذا دخلوها (وأزواج مطهرة) من الحيض والنفاس والمنى والبزاق وغيرها مما يستقذر (ورضوان) بكسر أوله وضمه لغتان، وقد قرىء بهما في السبع في جميع القرآن إلا في المائدة فإنه بالكسر باتفاق السبعة، وهو قوله (من اتبع رضوانه) وهما بمعنى واحد وإن كان الثاني سماعياً والأول قياسياً والتنوين للتكثير أي رضاً كثيراً (من الله).
عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون وأي شيء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً. أخرجه البخاري ومسلم (1)، والعبد إذا علم أن الله قد رضي عنه كان أتم لسروره وأعظم لفرحه.
(والله بصير بالعباد) أي عالم بمن يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا فيجازى كُلاَّ على عمله فيثيب ويعاقب على قدر الأعمال، وقيل بصير بالذين اتقوا فلذلك أعد لهم الجنات.
_________
(1) وفي حديث آخر رواه مسلم (2837) في نعيم الجنة. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ينادي منادٍ: آن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وآن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وآن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً وآن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً ".(2/201)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)(2/202)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)
(الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) في ترتيب هذا السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة وفيه رد على أهل الاعتزال لأنهم يقولون إن استحقاق المغفرة لا يكون بمجرد الإيمان، قاله الكرخي.(2/202)
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
(الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين) قد تقدم تفسير الصبر والصدق والقنوت والإنفاق، عن قتادة قال هم قوم صبروا على طاعته وصبروا عن محارمه وصدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم وصدقوا في السر والعلانية والقانتون هم المطيعون (والمستغفرين) هم السائلون للمغفرة وقيل أهل الصلاة وقيل هم الذين يشهدون صلاة الصبح.
وعن ابن عباس قال أمرنا رسول- الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين مرة، وعن سعيد الجريري قال بلغنا أن داود عليه السلام سأل جبريل أي الليل أفضل قال يا داود ما أدرى إلا أن العرش يهتز في السحر.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأستجيب له، هل من(2/202)
مستغفر فاغفر له (1) " وفي الباب أحاديث وفيه وفي أمثاله مذهب السلف الإيمان به وإجراؤه على ظاهره ونفى الكيفية عنه وهو الحق.
(بالأسحار) جمع سحر بفتح الحاء وسكونها قال الزجاج هو من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر، وقال الراغب السحر اختلاط ظلام آخر الليل بضياء النهار، ثم جعل ذلك اسماً لذلك الوقت، وقيل السحر من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر، وقيل السحر عند العرب من آخر الليل ثم يستمر حكمه إلى الأسفار كله يقال له سحر، والسحر بفتح فسكون منتهى قصبة الحلقوم، وخص الأسحار لأنها من أوقات الإجابة أو لأنها وقت الغفلة ولذة النوم.
_________
(1) مسلم 168 البخاري 1599. صحيح أبي داود/1117 والدارمي والآجري وابن خزيمة باختلافات في الرواية. وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول يا نافع هل جاء السحر فإذا قال نعم أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح .. رواه الطبري.(2/203)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
(شهد الله) أي بين الله وأعلم، قال الزجاج الشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه فقد دلنا الله على وحدانيته بما خلق وبين، وقال أبو عبيدة شهد الله بمعنى قضى أي أعلم قال ابن عطية وهذا مردود من جهات، وقيل إنها شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله ووحيه بشهادة الشاهد في كونها مبينة.
(أنه لا إله إلا هو) سئل بعض الإعراب ما الدليل على وجود الصانع فقال إن البعرة تدل على البعير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، أما يدلان على وجود الصانع الخبير، وفي القرآن من دلائل التوحيد كثير طيب، وهو دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله.
(والملائكة) عطف على الاسم الشريف وشهادتهم إقرارهم بأنه لا إله إلا هو (وأولوا العلم) معطوف أيضاً على ما قبله وشهادتهم بمعنى الإيمان منهم(2/203)
وما يقع من البيان للناس على ألسنتهم، وعلى هذا لا بد من حمل الشهادة على معنى يشمل شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم (1).
وقد اختُلف في أولي العلم هؤلاء من هم فقيل هم الأنبياء وقيل المهاجرون والأنصار، قاله ابن كيسان وقيل مؤمنو أهل الكتاب، قاله مقاتل، وقيل المؤمنون كلهم قاله السدى والكلبي وهو الحق إذ لا وجه للتخصيص، وفي ذلك فضيلة لأهل العلم جليلة ومنقبة نبيلة لقرنهم باسمه واسم ملائكته.
والمراد بأولي العلم هنا علماء الكتاب والسنة وما يتوصل به إلى معرفتهما إذ لا اعتداد بعلم لا مدخل له في العلم الذي اشتمل عليه الكتاب العزيز والسنة المطهرة.
(قائماً بالقسط) بالعدل في جميع أموره أو مقيماً له، وانتصاب قائماً على الحال من الاسم الشريف، قال جعفر الصادق: الأولى وصف وتوحيد والآتية رسم وتعليم أي قولوا (لا إله إلا هو) وقيل كرره للتأكيد، وفائدة تكريرها الاعلام بأن هذه الكلمة أعظم الكلام وأشرفه، ففيه حث للعباد على تكريرها والاشتغال بها فإنه من اشتغل بها فقد اشتغل بأفضل العبادات، وقوله (العزيز الحكيم) لتقرير معنى الوحدانية (1).
_________
(1) وروى ابن السائب أن حبرين من أحبار الشام قدما النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة.
فقالا: أنت محمد.
قال نعم.
قالا: وأحمد.
قال: نعم.
قالا: نسألك عن الشهادة فإن أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك.
فقال: سلاني.
فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتب الله .... فنزلت هذه الآية. فأسلما.(2/204)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)(2/205)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
(إن الدين عند الله) جملة مستأنفة وآية مستقلة على قراءة كسر " إن " وأما على قراءة فتحها فهو من بقية الآية السابقة (الإسلام) يعني الدين المرضي هو الإسلام المبني على التوحيد كما قال تعالى (ورضيت لكم الإسلام دينا) قال الزجاج الدين اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه وأمرهم بالإقامة عليه، والإسلام هو الدخول في السلم، وهو الإنقياد في الطاعة.
وقد ذهب الجمهور إلا أن الإسلام هنا بمعنى الإيمان وإن كانا في الأصل متغايرين كما في حديث جبريل الذي بين فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى الإسلام والإيمان وصدقه جبريل وهو في الصحيحين وغيرهما، ولكن قد يسمى كل واحد منهما باسم الآخر وقد ورد ذلك في الكتاب والسنة.
قال قتادة الإسلام شهادة أن لا اله إلا الله والإقرار بما جاء به الرسول من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه لا يقبل غيره، وعن الضحاك قال لم يبعث الله رسولاً إلا بالإسلام، وعن الأعمش قال أنا أشهد بما شهد الله به واستودع الله هذه الشهادة وهي لي وديعة عند الله، وقرأ (إن الدين عند الله الإسلام، قالها مراراً).
قلت وأنا أيضاً أشهد كما شهد الأعمش وبالله التوفيق.(2/205)
(وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم) فيه الإخبار بأن اختلاف اليهود والنصارى كان لمجرد البغي بعد أن علموا بأنه يجب عليهم الدخول في دين الإسلام بما تضمنته كتبهم المنزلة إليهم، قال الأخفش وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى ما اختلف الذين أوتوا الكتاب أي بنو إسرائيل بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم.
وفي التعبير عنهم بهذا العنوان زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح وقوله (إلا من بعد) زيادة أخرى فإن الاختلاف بعد العلم أزيد في القباحة، وقوله بغياً بينهم زيادة ثالثة لأنه في حيز الحصر فيكون أزيد في القبح.
والكتاب هو التوراة والإنجيل، والمراد بهذا الخلاف الواقع بينهم هو خلافهم في كون نبينا - صلى الله عليه وسلم - نبياً أم لا، وقيل في دين الإسلام فقال قوم إنه حق وقال قوم إنه مخصوص بالعرب، ونفاه آخرون مطلقاً، وقيل في التوحيد، فثلثت النصارى، وقالت اليهود عزير ابن الله. وقيل اختلافهم في نبوة عيسى، وقيل اختلافهم في ذات بينهم حتى قالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء.
قال أبو العالية بغياً على الدنيا وطلب ملكها وسلطانها فقتل بعضهم بعضاً على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس وسلط الله عليهم الجبابرة.
(ومن يكفر بآيات الله) الدالة على أن الدين عند الله الإسلام أو بأي آية كانت، على أن يدخل فيها ما نحن فيه دخولاً أولياً (فإن الله سريع الحساب) يجازيه ويعاقبه على كفره بآياته، والإظهار في قوله (فإن الله) مع كونه مقام الإضمار للتهويل عليهم والتهديد لهم.(2/206)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
(فإن حاجوك) يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي خاصموك وجادلوك اليهود والنصارى بالشبه الباطلة: والأقوال المحرفة بعد قيام الحجة عليهم في أن الدين عند الله هو الإسلام (فقل أسلمت وجهي لله) أي أخلصت ذاتي لله وانقدت له بقلبي ولساني وجميع جوارحي، وعبر بالوجه عن سائر الذات لكونه أشرف أعضاء الإنسان وأجمعها للحواس، وقيل الوجه هنا بمعنى القصد (ومن اتبعن) عطف على فاعل أسلمت وجاز للفصل، وقال الزمخشري الواو بمعنى مع.
(وقل للذين أوتوا الكتاب) يعني اليهود والنصارى (والأميين) أي الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب، وقال ابن عباس هم الذين لا يكتبون (أأسلمتم) استفهام تقريري يتضمن الأمر أي أسلموا، كذا قال ابن جرير وغيره، وقال الزجاج أسلمتم تهديد، والمعنى أنه قد أتاكم من البراهين ما يوجب الإسلام فهل عملتم بموجب ذلك أم لا، تبكيتاً لهم وتصغيراً لشأنهم في قلة الإنصاف وقبول الحق لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف في إذعانه للحق (1).
(فإن أسلموا فقد) دخلت قد على الماضي مبالغة في تحقق وقوع الفعل وكأنه قرب من الوقوع (اهتدوا) أي ظفروا بالهداية التي هي الحظ الأكبر وفازوا بخيري الدنيا والآخرة (وإن تولوا) أي أعرضوا عن قبول الحجة ولم يعملوا بموجبها (فإنما عليك البلاغ) أي إنما عليك أن تبلغهم ما أنزل إليك ولست عليهم بمسيطر فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، والبلاغ مصدر بمعنى التبليغ قيل الآية محكمة والمراد بها تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل منسوخة بآية السيف (والله بصير بالعباد) فيه وعد ووعيد لتضمنه أنه عالم بجميع أحوالهم.
_________
(1) ذكر ابن كثير: وهذه الآية وأمثالها من: أصرح الدلالات على عموم بعثته صلّى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق.(2/207)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)(2/208)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
(إن الذين يكفرون بآيات الله) ظاهره عدم الفرق بين آية وآية وهم اليهود والنصارى (ويقتلون النبيين) يعني اليهود قتلوا الأنبياء (بغير حق) إنما قيد بذلك للإشارة إلا أنه كان بغير حق في اعتقادهم أيضاً فهو أبلغ في التشنيع عليهم (ويقتلون الذين يأمرون) بالمعروف وينهون عن المنكر (بالقسط) أي العدل (من الناس) قال المبرد كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون فدعوهم إلى الله فقتلوهم فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم ففيهم أنزلت الآية (فبشرهم بعذاب أليم) خبر لقوله (إن الذين يكفرون) وذهب بعض النحاة إلى أن الخبر قوله(2/208)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
(أولئك الذين حبطت أعمالهم) ومنهم سيبويه والأخفش، وذكر البشارة تهكم بهم.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عبيده بن الجراح قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة قال: رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية إلى قوله (وما لهم من ناصرين) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة وسبعون رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم(2/208)
بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله في كتابه وأنزل الآية فيهم (1).
وعن ابن عباس بسند صحيح قال: بعث عيسى يحيى بن زكريا في اثني عشر رجلاً من الحواريين يعلمون الناس، فكان ينهى عن نكاح بنت الأخ وكان ملك له بنت أخ تعجبه فأرادها وجعل يقضي لها كل يوم حاجة فقالت لها أمها: إذا سألك عن حاجة فقولي: حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريا فقال: سلي غير هذا فقالت: لا أسألك غير هذا، فلما أبت أمر به فذبح في طست فبدرت قطرة من دمه فلم يزل يغلي حتى بعث الله بختنصر، فدلت عجوز عليه فألقى في نفسه أن لا يزال يقتل حتى يسكن هذا الدم فقتل في يوم واحد من ضرب واحد وسن واحد سبعين ألفاً فسكن.
(أولئك الذين حبطت) أي بطلت (أعمالهم) كصدقة وصلة رحم (في الدنيا والآخرة) أي أنه لم يبق لحسناتهم أثر في الدنيا حتى يعاملوا فيها معاملة أهل الحسنات لعدم الإسلام بل عوملوا معاملة أهل السيئات فلعنوا وحل بهم الخزي والصغار، ولهم في الآخرة عذاب النار (وما لهم من ناصرين) يمنعونهم من العذاب.
_________
(1) ابن كثير 1/ 355.(2/209)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب) فيه تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من تصح منه الرؤية من حال هؤلاء وهم أحبار اليهود، والكتاب التوراة. وتنكير النصيب للتعظيم أي نصيباً عظيماً كما يفيده مقام المبالغة، والمراد بذلك النصيب ما بين لهم في التوراة من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحقية الإسلام والتعبير عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصه بهم، ومن قال إن التنكير(2/209)
للتحقير فلم يصب، وفيه أن اختلافهم إنما كان بعد ما جاءهم العلم فلم ينتفعوا بذلك، وذلك بأنهم.
(يدعون إلى كتاب الله) الذي أوتوا نصيباً منه وهو التوراة (ليحكم بينهم) إضافة الحكم إلى الكتاب هو على سبيل المجاز (ثم يتولى) عن مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وثم للاستبعاد لا للتراخي في الزمان (فريق منهم) يعني الرؤساء والعلماء (وهم معرضون) أي والحال أنهم معرضون عن الإجابة إلى ما دعوا إليه مع علمهم به واعترافهم بوجوب الإجابة إليه.
قال السيوطي نزلت في اليهود، زنى منهم اثنان فتحاكموا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فحكم عليهما بالرجم، فأبوا فجيء بالتوراة فوجد فيها، فرجما فغضبوا (1).
_________
(1) زاد المسير/366.(2/210)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
(ذلك) أي ما مرّ من التولي والإعراض (بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات) أي أربعين يوماً وهي مقدار عبادتهم العجل، وقد تقدم تفسير ذلك في البقرة، وقال مجاهد يعنون الأيام التي خلق الله فيها آدم (وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) من الأكاذيب التي من جملتها هذا القول. أو قالوا إن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، أو أنه تعالى وعد يعقوب أن لا يعذَّب أولادُه إلا تحلة القسم.
وقال قتادة: حين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، وقيل: قولهم نحن على الحق وأنتم على الباطل، معنى يفترون يكذبون ويحلفون.(2/210)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)(2/211)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
(فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه) هو رد عليهم وإبطال لما غرهم من الأكاذيب باستعظام ما سيقع لهم وتهويل لما يحيق بهم من الأهوال، أي فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم ليوم الجزاء الذي لا يرتاب مرتاب في وقوعه فإنهم يقعون لا محالة فيه، ويعجزون عن دفعه بالحيل والأكاذيب.
قال الكسائي اللام في قوله ليوم بمعنى " في " وقال البصريون والمعنى لحساب يوم، وقال ابن جرير الطبري المعنى لما يحدث في يوم.
" (ووفيت كل نفس) " من أهل الكتاب وغيرهم (ما كسبت) أي جزاء ما كسبت من خير وشر على حذف المضاف (وهم لا يظلمون) بزيادة سيئة ولا ولا نقص حسنة من أعمالهم، والمراد كل الناس المدلول عليهم بكل نفس.(2/211)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
" (قل اللهم) " قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين أن أصل " اللهم " يا الله وذهب الفراء والكوفيون إلى أن الأصل فيه يا الله آمنا، قال النحاس هذا عند البصريين من الخطأ العظيم والقول في هذا ما قاله الأولون قال النضر ابن شميل من قال " اللهم " فقد دعا الله بجميع أسمائه.
(مالك) جنس (الملك) على الإطلاق، ومالك العباد وما ملكوا، وقيل المعنى مالك الدنيا والآخرة، وقيل الملك هنا النبوة، وقيل الغلبة، وقيل المال والعبيد، والظاهر شموله لما يصدق عليه اسم الملك من غير تخصيص.
(تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) المراد بما يؤتيه من الملك(2/211)
وينزعه هو نوع من آنواع ذلك الملك العام، قيل نزل لما وعد - صلى الله عليه وسلم - أمته ملك فارس والروم.
عن ابن عباس قال اسم الله الأعظم (قل اللهم مالك الملك -إلى قوله- بغير حساب).
وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني عن معاذ: " أنه شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - دَيناً عليه فعلمه أن يتلو هذه الآية ثم يقول رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي من تشاء منهما وتمنع من تشاء ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك اللهم أغنني من الفقر واقض عني الدين " وأخرجه الطبراني في الصغير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ: " ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد ديناً لأداء الله عنك "، فذكره وإسناده جيد (1).
(وتعز من تشاء وتذل من تشاء) أي في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، يقال عز إذا غلب ومنه (وعزني في الخطاب) ويقال ذل يذل ذلاً إذا غلب وقهر.
(بيدك الخير) أي النصر والغنيمة، وقيل الألف واللام تفيد العموم، والمعنى بيدك كل الخيرات، وتقديم الخبر للتخصيص أي بيدك الخير لا بيد غيرك، وذكر الخير دون الشر لأن الخير تفضل محض بخلاف الشر فإنه قد يكون جزاء لعمل من وصل إليه، وقيل لأن كل شر من حيث كونه من قضائه سبحانه هو متضمن للخير، فأفعاله كلها خير، قاله القاضي كالكشاف، وقيل أنه حذف كما حذف في قوله: (سرابيل تقيكم الحر) قاله البغوي وأصله بيدك الخير والشر، وقيل خص الخير لأن المقام مقام دعاء (إنك على كل شيء قدير) تعليل لما سبق وتحقيق له.
_________
(1) الترمذي كتاب الدعوات باب 110.(2/212)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)(2/213)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
(تولج الليل في النهار) وهو أن تجعل الليل قصيراً وما نقص منه زائداً في النهار حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة، وذلك غاية طول النهار، ويكون الليل تسع ساعات وذلك غاية قصر الليل، وفيه دلالة على أن من قدر على أمثال هذه الأمور العظام المحيرة للعقول والأفهام، فقدرته على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم أهون عليه من كل هين، يقال ولج يلج من باب وعد ولوجاً ولجة كعدة والولوج الدخول والإيلاج الإدخال.
(وتولج النهار في الليل) أي تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر حتى يكون الليل خمس عشرة ساعة وذلك غاية طوله، ويكون النهار تسع ساعات وذلك غاية قصره، وقيل المعنى تعاقب بينهما ويكون زوال أحدهما ولوجاً في الآخر والأول أولى، قال ابن مسعود تأخذ الصيف من الشتاء وتأخذ الشتاء من الصيف.
(وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) قيل المراد إخراج الحيوان وهو حي من النطفة وهي ميتة، وإخراج النطفة وهي ميتة من الحيوان وهو حي، وقيل المراد إخراج الطائر وهو حي من البيضة وهي ميتة وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية، وقال عكرمة النخلة من النواة والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة والسنبلة من الحبة.
وعن الحسن قال المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والمؤمن عبد حي الفؤاد، والكافر عبد ميت الفؤاد.(2/213)
قلت ويدل له قوله تعالى (أو من كان ميتاً فأحييناه) وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن حاتم وابن مردويه عن عبيد الله بن عبد الله: أن خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث دخلت على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: من هذه قيل: خالدة بنت الأسود، قال: سبحان الذي يخرج الحي من الميت، وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافراً، وأخرج ابن سعد عن عائشة مثله.
(وترزق من تشاء بغير حساب) أي بغير تضييق ولا تقتير بل تبسط الرزق لمن تشاء وتوسعه عليه كما تقول فلان يعطى بغير حساب إذ المحسوب يقال للقليل.
قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه، بمعنى التعب قال تعالى (وترزق من تشاء بغير حساب) وبمعنى العدد قال تعالى (إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب) وبمعنى المطالبة قال تعالى (فامنن أو امسك بغير حساب).(2/214)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
(لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء) فيه النهي للمؤمنين عن موالاة الكفار بسبب من أسباب المصادقة والمعاشرة كقرابة أو صداقة جاهلية ونحوهما، وعن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية ومثله قوله تعالى (لا تتخذوا بطانة من دونكم) الآية وقوله (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وقوله (لا تجد قوماً يؤمنون بالله) الآية وقوله (لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) وقوله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء).
(من دون المؤمنين) أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالاً أو اشتراكاً (ومن يفعل ذلك) الاتخاذ المدلول عليه بقوله لا يتخذ (فليس من الله) أي من ولايته وقيل من دينه وقيل التقدير ليس كائناً من الله (في شيء) من الأشياء هو منسلخ عنه بكل حال، وبريء الله منه، وهذا أمر معقول إذ موالاة الله وموالاة الكفار ضدان لا يجتمعان.(2/214)
(إلا أن تتقوا منم تقاة) على صيغة الخطاب بطريق الالتفات أي إلا أن تخافوا منهم أمراً يجب اتقاؤه وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال وتقاة مصدر واقع موقع المفعول به، وهو ظاهر قول الزمخشري وزنه فُعلة ويجمع على تُقى كرطبة ورطب، وأصله وقيه لأنه من الوقاية، والتقوى والتقى واحد، والتقاة التقية يقال أتقي تقيه وتقاة.
وفي القاموس تقيت الشيء اتقيه من باب ضرب، وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم ولكنها تكون ظاهراً لا باطناً، وخالف في ذلك قوم من السلف فقالوا لا تقيه بعد أن أعز الله الإسلام.
عن ابن عباس قال التقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية الله فيتكلم به مخافة الناس، وقلبه مطمئن بالإيمان فإن ذلك لا يضره، إنما التقية باللسان، وعنه قال التقاة التكلم باللسان، والقلب مطمئن بالإيمان ولا يبسط يده فيقتل ولا إلى إثم فإنه لا عذر له.
وعن أبي العالية قال: التقية باللن وليس بالعمل، وقال قتادة إلا أن تكون بينك وبينه قرابة فتصله لذلك.
وأخرج عبد بن حميد والبخاري عن الحسن قال التقية جائزة إلى يوم القيامة. وحكى البخاري عن أبي الدرداء أنه قال إنا لنكشر (1) في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم.
ويدل على جواز التقية قوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) ومن القائلين بجواز التقية باللسان أبو الشعثاء والضحاك والربيع ابن أنس.
وعن ابن عباس قال نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار ويتخذوهم وليجة من دون المؤمنين إلا إن يكون الكفار عليهم ظاهرين فيظهرون لهم
_________
(1) أي نبتسم.(2/215)
اللطف ويخالفونهم في الدين، وذلك قوله تعالى (إلا أن تتقوا منهم تقاة).
ومعنى الآية أن الله نهى المؤمنين عن موالاة الكفار ومداهنتهم ومباطنتهم إلا أن يكونوا غالبين أو يكون المؤمن في قوم كفار فيداهنهم بلسانه، وقلبه مطمئن بالإيمان دفعاً عن نفسه من مخير أن يستحل دماً أو مالاً حراماً أو غير ذلك من المحرمات أو يظهر الكفار على عورة المسلمين، والتقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع سلامة النية.
ثم هذه التقية رخصة فلو صبرعلى إظهار إيمانه حتى قتل كان له بذلك أجر عظيم.
وقال سعيد بن جبير ليس في الأمان التقية إنما التقية في الحرب، وقيل إنما تجوز التقية لصون النفس عن الضرر لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان.
(ويحذركم الله نفسه) أي ذاته المقدسة أن تعصوه بأن ترتكبوا النهي عنه أو تخالفوا المأمور به، أو توالوا الكفار فتستحقوا عقابه على ذلك كله، وإطلاق النفس عليه سبحانه جائز في المشاكلة كقوله (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) وفي غيرها.
وذهب بعض المتأخرين إلى منع ذلك إلا مشاكلة، وقال الزجاج معناه يحذركم الله إياه، ثم استغنوا عن ذلك بهذا وصار المستعمل، قال: وأما قوله (تعلم ما في نفسي، إلخ فمعناه تعلم ما عندي وما في حقيقتي ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك).
وقال بعض أهل العلم معناه ويحذركم الله عقابه، مثل (واسأل القرية) فجعلت النفس في موضع الإضمار، والنفس عبارة عن وجود الشيء وذاته، وذكر النفس للإيذان بأن له عقاباً هائلاً لا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة (وإلى الله المصير) في هذه الآية تهديد شديد وتخويف عظيم لعباده أن يتعرضوا لعقابه بموالاة أعدائه.(2/216)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)(2/217)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
(قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) فيه إن كل ما يضمره العبد ويخفيه أو يظهره ويبديه فهو معلوم لله سبحانه لا يخفى عليه منه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة (ويعلم ما في السموات وما في الأرض) مما هو أعم من الأمور التي يخفونها أو يبدونها فلا يخفى عليه ما هو أخص من ذلك (والله على كل شيء قدير) فيكون قادراً على عقوبتكم.(2/217)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
(يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً) يوم القيامة ولم يبخس منه شيء قال قتادة محضراً موفراً (وما عملت من سوء) محضراً (تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً) الأمد الغاية وجمعه آماد، قال السدى أي مكاناً بعيداً، وعن ابن جريج أمداً أي أجلاً وعن الحسن قال يسر أحدكم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً يكون ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئة يستلذها.
وفي السمين الأمد غاية الشيء ومنتهاه، والفرق بين الأمد والأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة، والأمد مدة لها حد مجهول، والفرق بين الأمد والزمان أن الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عام في المبدأ والغاية انتهى، قال السيوطي أي غاية في نهاية البعد فلا يصل إليها: اهـ، وهو أعم من المكان والزمان وعبارة الخازن أي مكاناً بعيداً، كما بين المشرق والمغرب.(2/217)
(ويحذركم الله نفسه) كرر للتأكيد وللاستحضار ليكون هذا التهديد العظيم على ذكر منهم لا يغفلون عنه، قيل والأحسن ما قاله التفتازاني أن ذكره أولاً للمنع من موالاة الكافرين وثانياً للحث على عمل الخير والمنع من عمل الشر (والله رؤوف بالعباد) ومن رأفته بهم أنه حذرهم نفسه، قاله الحسن وفيه دليل على أن هذا التحذير الشديد مقترن بالرأفة منه سبحانه لعباده لطفاً بهم، وما أحسن ما يحكى عن بعض العرب أنه قيل له إنك تموت وتبعث وترجع إلى الله فقال أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه.(2/218)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) الحب والمحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال أدركته فيه، يقال أحبه فهو محب وحبه يحبه بالكسر فهو محبوب، قال ابن الدهان في حب لغتان حب وأحب، وقد فسرت المحبة لله سبحانه بإرادة طاعته، قال الأزهري محبة العبد لله ولرسوله طاعته لهما واتباعه أمرهما، ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران.
قيل: العبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله، وإن كل ما يراه كمالاً من نفسه أو من غيره فهو من الله وبالله لم يكن حبه إلا لله وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه، فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عبادته والحث على مطاوعته قاله القاضي.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن من طرق قال: قال أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا محمد إنا لنحب ربنا فأنزل الله هذه الآية، وعن أبي الدرداء قال على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والحاكم عن عائشة قالت: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الشرك أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن تحب على شيء من الجور وتبغض على شيء من العدل، وهل الدين(2/218)
إلا الحب والبغض في الله (1)، قال الله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله) الآية.
قيل نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه، وقيل نزلت في قريش قالوا نعبدها أي الأصنام حباً لله لتقربنا إلى الله زلفى.
والمعنى قل إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله فكونوا منقادين لأوامره وأوامو رسوله مطيعين لهما فإن اتباع الرسول من محبة الله وطاعته، وفيه حث على اتباعه صلى الله عليه وآله وسلم وإشارة إلى ترك التقليد عند وضوح النص من الكتاب والسنة.
(ويغفر لكم ذنوبكم) يعني أن من غفر له أزال عنه العذاب (والله غفور رحيم) يغفر ذنوب من أحبه ويرحمه بفضله وكرمه، وهذا تذييل مقرر لما قبله.
_________
(1) المستدرك للحاكم. كتاب التفسير 2/ 291.(2/219)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
(قل) لقريش (أطيعوا الله والرسول) حذف المتعلق مشعر بالتعميم أي في جميع الأوامر والنواهي، والمقلد غير مطيع لله وللرسول بل مشاقق لهما حيث ترك إطاعة الله ورسوله وأطاع غيرهما من غير حجة نيرة وبرهان جلي.
(فإن تولوا) يحتمل أن يكون من تمام مقول القول فيكون مضارعاً أي تتولوا، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى فيكون ماضياً من باب الالتفات (فإن الله لا يحب الكافرين) أي لا يرضى بفعلهم ولا يغفر لهم، ونفي المحبة كناية عن البغض والسخط، ووجه الإظهار في قوله (فإن الله الخ) مع كون المقام مقام إضمار لقصد التعظيم أو التعميم.
ولا فرغ سبحانه من أن الدين المرضي هو الإسلام وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الرسول الذي لا يصح لأحد أن يحب الله إلا باتباعه، وأن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو لمجرد البغي عليه والحسد له، شرع في تقرير رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين أنه من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة فقال:(2/219)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)(2/220)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
(إن الله اصطفى آدم ونوحاً) الإصطفاء الإختيار من الصفوة وهي الخالص من كل شيء، قال الزجاج اختارهم بالنبوة على عالمي زمانهم، وقيل إن الكلام على حذف مضاف أي اصطفى دين آدم، وتخصيص آدم بالذكر لأنه أبو البشر، وكذلك نوح فإنه آدم الثاني.
وحكى ابن الجوزي عن أبي سليمان الدمشقي أن اسم نوح السكن وإنما سمى نوحاً لكثرة نوحه، وعمر آدم تسعمائة وستون سنة، ونوح من نسل إدريس بينه وبينه إثنان لأنه ابن لملك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس، وعمر نوح ألف سنة وخمسون، ونوح اسم عجمي لا اشتقاق له عند محققي النحاة.
(وآل إبراهيم) قيل يعني نفسه، وقيل اسمعيل وإسحق ويعقوب، وقيل من كان على دينه، والثاني أولى، وذلك أن الله جعل إبراهيم أصلاً لشعبتين، فجعل إسمعيل أصلاً للعرب، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - منهم فهو داخل في الاصطفاء، وجعل إسحق أصلاً لبني إسرائيل وجعل فيهم النبوة والملك إلى زمن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم جعل له ولأمته النبوة والملك إلى يوم القيامة، وعمر إبراهيم مائة وسبعون سنة.(2/220)
(وآل عمران) قيل هو والمد موسى وهارون، وقيل هو من ولد سليمان وهو والد مريم، والظاهر الثاني بدليل القصة الآتية في عيسى ومريم، وبين العمرانين من الزمن ألف وثمانمائة سنة، وبين الأول وبين يعقوب ثلاثة أجداد، وبين الثاني وبين يعقوب ثلاثون جداً، وعمران اسم أعجمي، وقيل عربي مشتق من العمر، وعل كلا القولين ممنوع من الصرف إما للعلمية والعجمه أو لزيادة الألف والنون، قاله السمين.
فلما كان عيسى عليه السلام منهم كان لتخصيصهم بالذكر وجه، يعني خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء والرسل من نسلهم (على العالمين) قد تقدم الكلام على تفسيره أي اختارهم واصطفاهم على العالمين بما خصهم به من النبوة والرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية.(2/221)
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
(ذرية) قد تقدم تفسير الذرية قيل مشتق من الذرء وهو الخلق فعلى هذا يطلق على الأصول حتى على آدم كما يطلق على الفروع، وقيل منسوب إلى الذر لأن الله أخرجهم من ظهر آدم كالذر أي صغار النمل، ويكون هذا من النسب السماعي إذ كان القياس فتح الذال والنصب على البدل من آدم أو من نوح وإليه نحا أبو البقاء أو من الآلين وإليه نحا الزمخشري أو النصب على الحال.
(بعضها من بعض) معناه متناسلة متشعبة أو متناصرة متعاضدة في الدين، قال قتادة في النية والعمل والإخلاص والتوحيد، أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد- صلى الله عليه وسلم - (والله سميع عليم) إنما يصطفى لنبوته ورسالته من يعلم استقامته قولاً وفعلاً.(2/221)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
(إذ قالت) قال أبو عمرو إذ زائدة وقال محمد بن زيد تقديره اذكر إذ قالت، وقال الزجاج متعلق بقوله (اصطفى) وقيل بقوله سميع عليم.(2/221)
(امرأة عمران) اسمها حنة بالحاء المهملة والنون المشددة بنت فاقوذ أم مريم فهي جدة عيسى، وعمران هو ابن ماثان جد عيسى وليس نبياً.
(رب إني نذرت لك) هذا النذر كان جائزاً في شريعتهم، وتقديم الجار والمجرور لكمال العناية ومعز ذلك أي لعبادتك (ما في بطني محرراً) أي عتيقاً خالصاً لله خادماً للكنيسة، والمراد هنا الحرية التي هي ضد العبودية، وقيل المراد بالمحرر هنا الخالص لله سبحانه الذي لا يشوبه شيء من أمر الدنيا، ورجح هذا بأنه لا خلاف أن عمران وامرأته حران وهلك عمران وهي حامل.
(فتقبل مني) التقبل أخذ الشيء على وجه الرضا أي تقبل مني نذري بما في بطني، عن ابن عباس قال كانت نذرت أن تجعله في الكنيسة يتعبد بها، وقال مجاهد خادماً للبيعة (إنك أنت السميع) لتضرعي ودعائي (العليم) بنيتي وما في ضميري.(2/222)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
(فلما وضعتها) التأنيث باعتبار ما علم من المقام أن الذي في بطنها أنثى أو لكونه أنثى في علم الله أو بتأويل ما في بطنها بالنفس أو النسمة أو نحو ذلك (قالت) يعني حنة (رب إني وضعتها أنثى) إنما قالت هذه المقالة لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكر دون الأنثى فكأنها تحسرت وتحزنت لما فاتها من ذلك الذي كانت ترجوه وتقدره.
(والله أعلم بما وضعت) بضم التاء فيكون من جملة كلامها ويكون متصلاً بما قبله وفيه معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن يخفي عليه شيء، وقرأ الجمهور وضعت بسكون التاء فيكون من كلام الله سبحانه على جهة التعظيم لما وضعته والتفخيم لشأنه والتجهيل لها حيث وقع منها التحسر والتحزن، مع أن هذه الأنثى التي وضعتها سيجعلها الله وابنها آية للعالمين وعبرة للمعتبرين ويختصها بما لم يختص به أحداً.(2/222)
وقرأ ابن عباس وضعت بكسر التاء على أنه خطاب من الله سبحانه لها أي أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما علم الله فيه من الأمور التي تتقاصر عنها الأفهام، وتصاغر عندها العقول، وإن له شأناً عظيماً.
(وليس الذكر كالأنثى) أي ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وضعت، فإن غاية ما أرادت من كونه ذكراً أن يكون نذراً خادماً للكنيسة، وأمر هذه الأنثى عظيم وشأنها فخيم، فهي خير منه وإن لم تصلح للسدانه فإن فيها مزايا أخر لا توجد في الذكر، وعلى هذا: الكلام على ظاهره ولا قلب فيه، وهذه الجملة اعتراضية مبينة لما في الجملة الأولى من تعظيم الموضوع ورفع شأنه وعلو منزلته، واللام في الذكر والأنثى للعهد.
هذا على قراءة الجمهور، وأما على قراءة أبي بكر وابن عامر فيكون قوله (وليس الذكر كالأنثى) من جملة كلامها ومن تمام تحسرها وتحزنها أي ليس الذكر الذي أردت أن يكون خادماً ويصلح للنذر كالأنثى التي لا تصلح لذلك، بل هو خير منها لأنه يصلح لمقصودي دونها، وكأنها اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدت، وعلى هذا في الكلام قلب، وكانت مريم من أجمل النساء وأفضلهن في وقتها.
(وإني سميتها مريم) تعني العابدة مقصودها من هذا الإخبار بالتسمية التقرب إلى الله سبحانه، وأن يكون فعلها مطابقاً لمعنى اسمها فإن معنى مريم خادم الرب بلغتهم، فهي وإن لم تكن صالحة لخدمة الكنيسة، فذلك لا يمنع أن تكون من العابدات (1).
(وإني أعيذها) أي أمنعها وأجيرها (بك وذريتها من الشيطان الرجيم).
_________
(1) وقال ابن إسحاق: كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت، فرأت طائراً يطعم فرخاً [ص:224]
له، فدعت الله أن يهب لها ولداً، وقالت: اللهم لك علي إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس، فحملت بمريم، وهلك عمران، وهي حامل.(2/223)
عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " ما من بني آدم من مولود إلا نخسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من نخسه إياه إلا مريم وابنها متفق عليه (1) وللبخاري عنه " كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعيه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب ليطعن فطعن في الحجاب " وللحديث ألفاظ عنه وعن غيره.
والرجيم المردود، وذكر في القاموس الطرد من معاني الرجم، وأصله المرمي بالحجارة، طلبت الإعاذة لها ولولدها من الشيطان وإغوائه.
وفي المقام إشكال قوي لم أر من نبه عليه من المفسرين، وحاصله أن قولها وإني أعيذها بك معطوف على ما قبله الواقع في حيز لما وضعتها، فيقتضي أن طلب هذه الإعاذة إنما وقع بعد الوضع، فلا يترتب عليه حفظ مريم من طعن الشيطان وقت نزولها وخروجها من بطن أمها فلا يتلاقى الحديث مع الآية، بل مقتضى ظاهر الآية أن إعاذتها من الشيطان إنما كان بعد وضعها وهذا لا ينافي تسلط الشيطان عليها بطعنها ونخسها وقت ولادتها الذي هو عادته فإن عادته طعن المولود وقت خروجه من بطن أمه، تأمل، قاله سليمان الجمل.
_________
(1) مسلم 2366، البخاري 1550. صحيح الجامع/5661.(2/224)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)(2/225)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
(فتقبلها ربها بقبول حسن) أي رضي بها في النذر وسلك بها مسلك السعداء، وقال قوم معنى التقبل التكفل والتربية والقيام بشأنها، وليست صيغة التفعل للتكلف كما هو أصلها بل بمعنى الفعل كتعجب بمعنى عجب وتبرأ بمعنى برىء، والقبول مصدر مؤكد للفعل السابق، والباء زائدة أو هي على حالها.
(وأنبتها نباتاً حسناً) المعنى أنه سوى خلقها من غير زيادة ولا نقصان، قيل إنها كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام وفيه بعد، وقيل هو مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها.
(وكفلها) أي ضمها إليه بالقرعة لا بالوحي، وقال أبو عبيدة ضمن القيام بها، وقال الكوفيون أي جعله الله كافلاً لها وملتزماً بمصالحها، وفي معناه في مصحف أبي (وأكفلها) وقرأ الباقون بالتخفيف ومعناه ما تقدم من كونه ضمها إليه، وقرأ مجاهد فتقبلها وأنبتها بإسكان اللام والتاء وكفلها على المسألة والطلب.
(زكريا) وكان من ذرية سليمان بن داود، وروى عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وناس من الصحابة أن مريم كانت ابنة سيدهم وإمامهم فتشاح عليها أحبارهم فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها، وكان زكريا زوج أختها فكفلها أي جعلها معه في محرابه، وكانت عنده وحضنها.(2/225)
(كلما دخل عليها زكريا المحراب) يعني الغرفة، والمحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس، قاله القرطبي وسميت محراباً لأنها محل محاربة الشيطان لأن المتعبد فيها يحاربه، وكذلك هو في المسجد وكذلك يقال لكل من محال العبادة محراب، وقيل إن زكريا جعل لها محراباً لا ترتقي إليه إلا بسلم وكان يغلق عليها حتى كبرت.
(وجد عندها) أي أصاب وصادف ولقي فيتعدى لواحد (رزقاً) أي نوعاً من أنواع الرزق، أي كان إذا دخل عليها وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، قال ابن عباس عنباً في مكتل في غير حينه.
(قال يا مريم أنى لك هذا) أي من أين يجيء لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا (قالت هو من عند الله) فليس ذلك بعجيب ولا مستنكر (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) جملة تعليلية لما قبلها وهو من تمام كلامها، ومن قال أنه من كلام زكريا فتكون الجملة مستأنفة وهذا دليل على جواز الكرامة لأولياء الله تعالى.(2/226)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
(هنالك) ظرف يستعمل للزمان والمكان وأصله للمكان، وقيل إنه للزمان خاصة (وهناك) للمكان، وقيل يجوز استعمال كل واحد منهما مكان الآخر، واللام للدلالة على البعد والكاف للخطاب.
(دعا زكريا ربه) يعني أنه دعا في ذلك المكان الذي هو قائم فيه عند مريم، أو في ذلك الزمان أن يهب الله له ذرية طيبة.
والذي بعثه على ذلك ما رآه من ولادة حنة لمريم وقد كانت عاقراً، فحصل له رجاء الولد وإن كان كبيراً، وامرأته عاقراً أو بعثه على ذلك ما رآه من فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء عند مريم، لأن من(2/226)
أوجد ذلك في غير وقته يقدر على إيجاد الولد من العاقر، وكان أهل بيته انقرضوا.
وعلى هذا يكون هذا الكلام قصة مستأنفة سيقت في غضون قصة مريم لما بينهما من قوة الارتباط.
(قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) الذرية النسل يكون للواحد ويكون للجمع ويدل على أنها هنا للواحد قوله (فهب لي من لدنك ولياً) ولم يقل (أولياء) وتأنيث طيبة لكون لفظ الذرية مؤنثاً، والمعنى أعطني يا رب من عندك ولداً مباركاً تقياً صالحاً رضياً كهبتك لحنة العجوز العاقر مريم (إنك سميع الدعاء) أي سامعه ومجيبه.(2/227)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
(فنادته الملائكة) قيل المراد هنا جبريل، والتعبير بلفظ الجمع عن الواحد جائز في العربية، ومنه (الذين قال لهم الناس) وقيل ناداه جميع الملائكة وهو الظاهر من إسناد الفعل إلى الجمع والمعنى الحقيقي مقدم فلا يصار إلى المجاز إلا لقرينة (وهو قائم يصلي في المحراب) أي في المسجد قال السدى المحراب المصلى.
وقد أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال اتقوا هذه المذابح يعني المحاريب (1).
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن موسى الجهني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى (2) " وقد رويت كراهة ذلك عن جماعة من الصحابة.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 19.
(2) الإمام أحمد 2/ 229.(2/227)
(إن الله يبشرك بيحيى) هو ممتنع من الصرف لكونه أعجمياً أو لكون وزن الفعل فيه مع العلمية كيعمر ويعيش ويزيد ويشكر وتغلب، وقيل أعجمي لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهر فامتناعه للعلمية والعجمة الشخصية.
قال القرطبي حاكياً عن النقاش كان اسمه في الكتاب الأول حنا انتهى، والذي رأيناه في مواضع من الإنجيل أنه يوحنا قيل سمى بذلك لأن الله أحياه بالإيمان والنبوة، وقيل إن الله أحيا به الناس بالهدى، والمراد هنا التبشير بولادته أي يبشرك بولادة يحيى.
(مصدقاً بكلمة من الله) أي بعيسى عليه السلام، وسمى كلمة الله لأنه كان بقوله سبحانه (كن) وقيل لأن الناس يهتدون به كما يهتدون بكلام الله، وقيل لأن الله بشر به مريم على لسان جبريل، وقيل لأن الله أخبر في كتبه المنزلة على الأنبياء أنه يخلق نبياً من غير واسطة أب فلما جاء قيل هذا هو تلك الكلمة يعني الوعد الذي وعد.
وقال أبو عبيد " بكلمة " أي بكتاب من الله، قال والعرب تقول أنشدني كلمة أي قصيدة.
ويحيى أول من آمن بعيسى وصدقه وكان أكبر من عيسى بثلاث سنين، وقيل بستة أشهر، قال ابن عباس كان يحيى وعيسى ابني الخالة وكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه بعيسى في بطن أمه، وهو أول من صدق بعيسى، وقتل يحيى قبل أن يرفع عيسى.
(وسيداً وحصوراً) السيد الذي يسود قومه، قال الزجاج السيد الذي يفوق أقرانه في كل شيء من الخير، ويا لها من سيادة ما أسناها، والحصور أصله من الحصر وهو الحبس تقول حصرني الشيء وأحصرني إذا حبسك، والحصور(2/228)
الذي لا يأتي النساء كأنه تحجم عنهن كما يقال رجل حصور وحصير إذا حبس رفده ولم يخرجه.
فيحيى عليه السلام كان حصورًا عن إتيان النساء أي محصوراً لا يأتيهن كغيره من الرجال إما لعدم القدرة على ذلك أو لكونه يكف عنهن منعاً لنفسه عن الشهوة مع القدرة، وقال السمين الحصور فعول محول عن فاعل للمبالغة والضروب محول من ضارب، وهو الذي لا يأتي النساء إما لطبعه على ذلك وإما لمخالفة نفسه.
وفي القاموس الحصور من لا يأتي النساء وهو قادر على ذلك، والممنوع منهن أو من لا يشتهيهن ولا يقربهن انتهى.
وقد رجح الثاني بأن المقام مقام مدح وهو لا يكون إلا على أمر مكتسب يقدر فاعله على خلافه لا على ما كان من أصل الخلقة وفي نفس الجبلة.
قال ابن عباس سيداً حليماً تقياً، وقال مجاهد السيد الكريم على الله، وقال ابن المسيب: السيد الفقيه العالم، وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كان ذكره مثل هدبة الثوب، وأخرجه أحمد في الزهد من وجه آخر عنه موقوفاً وهو أقوى وكان اسم أم يحيى اسيع.
(ونبياً من الصالحين) أي ناشئاً من الصالحين لكونه من نسل الأنبياء وأصلابهم أو كائناً من جملة الصالحين كما في قوله (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) قال الزجاج الصالح الذي يؤدي لله ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم، وقيل المراد بالصلاح ما فوق الصلاح الذي لابد منه في منصب النبوة قطعاً من أقاصي مراتبه وعليه مبني دعاء سليمان (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) وفيه بعد، لأنه لا صلاح فوق صلاح النبوة.(2/229)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)(2/230)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
(قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) ظاهر هذا أن الخطاب منه لله سبحانه، وإن كان الخطاب الواصل إليه هو بواسطة الملائكة، وذلك لمزيد التضرع والجهد في طلب الجواب عن سؤاله، وقيل إنه أراد بالرب جبريل أي يا سيدي.
وقيل في معنى هذا الاستفهام وجهان (أحدهما) أنه سأل هل يرزق هذا الولد من امرأته العاقر أو من غيرها، وقيل معناه بأي سبب أستوجب هذا وأنا وامرأتي على هذه الحال.
والحاصل أنه استبعد حدوث الولد منهما مع كون العادة قاضية بأنه لا يحدث من مثلهما لأنه كان يوم التبشير كبيراً قيل في تسعين سنة، وقيل في عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته في ثمان وتسعين سنة، ولذلك جعل الكبر كالطلب له لكونه طليعة من طلائع الموت، فأسند الفعل إليه، والعاقر التي لا تلد أي ذات عقر على النسب، ولو كان على الفعل لقال عقيرة أي بها عقر يمنعها من الولد.
وإنما وقع منه هذا الاستفهام بعد دعائه بأن يهب الله له ذرية طيبة ومشاهدته لتلك الآية الكبرى في مريم، استعظاماً لقدرة الله سبحانه، لا لمحض الاستبعاد وقيل أنه قد مر بعد دعائه إلى وقت بشارتها أربعون سنة، وقيل عشرون سنة فكان الاستبعاد من هذه الحيثية.(2/230)
(قال كذلك الله يفعل ما يشاء) من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل، وهو إيجاد الولد من الشيخ الكبير والمرأة العاقر.(2/231)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
(قال رب اجعل لي آية) أي علامة أعرف بها صحة الحبل فأتلقى هذه النعمة بالشكر، والجعل هنا بمعنى التصيير أو بمعنى الخلق والإيجاد، وإنما سأل الآية لأن العلوق أمر خفي، فأراد أن يطلع عليه ليتلقى تلك النعمة بالشكر من حين حصولها ولا يؤخره إلى ظهورها المعتاد.
ولعل هذا السؤال وقع بعد البشارة بزمان مديد إذ به يظهر ما ذكر من كون التفاوت بين سن يحيى وعيسى ستة أشهر لأن ظهور العلامة كان عقب طلبها لقوله في سورة مريم (فخرج على قومه من المحراب) الآية قاله أبو السعود.
(قال آيتك أن لا تكلم الناس) أي علامتك أن تحبس لسانك عن تكليم الناس ثلاثة أيام لا عن غيره من الأذكار، وإنما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكر الله سبحانه شكراً على ما أنعم به عليه، وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال، وقيل كان ذلك عقوبة من الله سبحانه له بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه، حكاه القرطبي عن أكثر المفسرين.
وقيل أن لا تقدر على تكليمهم وتمنع من كلامهم قهراً بحيث لو حاولت الكلام لم تقدر عليه (ثلاثة أيام) بلياليها لقوله تعالى في سورة مريم (ثلاث ليال سوياً) (إلا رمزاً) أي إشارة، والرمز في اللغة الإيماء بالشفتين أو العينين أو الحاجبين أو اليدين وأصله الحركة وهو استثناء منقطع لكون الرمز من غير جنس الكلام ورجحه القاضي.
وقيل هو متصل على معنى أن الكلام ما حصل به الإفهام من لفظ أو إشارة أو كتابة وهو بعيد، والصواب الأول وبه قال الأخفش والكسائي وقيل(2/231)
أراد به صوم ثلاثة أيام لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا، والأول أولى لموافقة أهل اللغة عليه.
(واذكر ربك) أي في مدة الحبسة وعند اللسان عن كلامهم شكراً لهذه النعمة (كثيراً وسبح بالعشي) هو جمع عشية وهي آخر النهار قاله الواحدي، وقيل هو واحد وهو المشهور وهو من حين زوال الشمس إلى أن تغيب، ومنه سميت صلاة الظهر والعصر صلاتي العشاء، وقيل من العصر إلى ذهاب صدر الليل وهو ضعيف (والإبكار) بالكسر مصدر استعمل اسماً للوقت الذي هو البكرة وهو من طلوع الفجر إلى وقت الضحى، وقيل المراد بالتسبيح الصلاة.(2/232)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
(وإذ قالت الملائكة) عطف على إذ قالت امرأة عمران عطفاً لقصة البنت على قصة أمها لما بينهما من كمال المناسبة، وقصة زكريا وقعت فاصلة بينهما لمناسبة، والمعنى إذ قالت الملائكة مشافهة لها بالكلام. وهذا من باب التربية الروحانية بالتكاليف الشرعية المتعلقة بحال كبرها بعد التربية الجسمانية اللائقة بحال صغرها.
(يا مريم إن الله اصطفاك) اختارك أولاً حيث قبلك من أمك وقبل تحريرك ولم يسبق ذلك لغيرك من الإناث ورباك في حجر زكريا ورزقك من الجنة (وطهرك) من مسيس الرجال أو الكفر أو من الذنوب أو من الأدناس على عمومها، وكانت مريم لا تحيض أي خلقك مطهرة مما للنساء وبه جزم القاضي كالكشاف، وسيأتي في سورة مريم حاضت قبل حملها بعيسى مرتين.
(واصطفاك) قيل هذا الاصطفاء الأخير غير الاصطفاء الاول، فالأول هو حيث تقبلها بقبول حسن، والأخير لولادة عيسى من غير أب، واصطفاها أيضاً بأن أسمعها كلام الملائكة مشافهة ولم يقع لغيرها ذلك، وقيل الاصطفاء الآخر تأكيد للاصطفاء الأول والمراد بهما جميعاً واحد (على نساء العالمين) المراد بهن هنا قيل نساء عالم زمانهم وهو الحق، وقيل نساء جميع العالم إلى يوم القيامة واختاره الزجاج.(2/232)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)(2/233)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
(يا مريم اقنتي لربك) أي أطيلي القيام في الصلاة أو ادعيه ودومي على طاعته بأنواع الطاعات، وقد تقدم الكلام في معاني القنوت (واسجدي واركعي مع الراكعين) أي صلي مع المصلين، أطلق الجزء وأراد الكل وقدم السجود على الركوع لكونه أفضل أو لكون صلاتهم لا ترتيب فيها مع كون الواو لمجرد الجمع بلا ترتيب، والظاهر أن ركوعها مع ركوعهم فيدل على مشروعية صلاة الجماعة، وقيل المعنى أنها تفعل كفعلهم وإن لم تصل معهم، قال الأوزاعي لما قالت الملائكة لها ذلك شفاها قامت حتى تورمت قدماها وسالت دماً وقيحاً، وحكي عن مجاهد نحوه.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث علي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد (1) " وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أفضل نساء العالمين خديجة وفاطمة ومريم وآسية امرأة فرعون (2) ".
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت
_________
(1) مسلم 2430، البخاري 1602.
(2) كتاب التاريخ 2/ 594.(2/233)
عمران وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام (1).
وفي المعنى أحاديث كثيرة تفيد أن مريم عليها السلام سيدة نساء عالمها لا نساء العالم، ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال أربع نسوة سادات نساء عالمهن مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأفضلهن عالما فاطمة.
_________
(1) مسلم 2431، البخاري 1606.(2/234)
(ذلك من أنباء الغيب) أي أخبار ما غاب عنك، فالإشارة إلى ما سبق من الأمور التي أخبره الله بها (نوحيه إليك) هو أي الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به، ونظهرك على قصص من تقدم مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار، ولذلك أتى بالمضارع في (نوحيه) وهذا أحسن من عوده على (ذلك)، وقال أبو السعود: صيغة الاستقبال للإيذان بأن الوحي لم ينقطع بعد،
انتهى، والوحي في اللغة الإعلام في خفاء، يقال وحى وأوحى بمعنى، قال ابن فارس: الوحي الإشارة والكتابة والرسالة وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى يعلمه.
(وما كنت لديهم) أي بحضرتهم يعني المتنازعين في تربية مريم، وإنما نفى حضوره عندهم مع كونه معلوماً لأنهم أنكروا الوحي، فلو كان ذلك الإنكار صحيحاً لم يبق طريق للعلم به إلا المشاهدة والحضور وهم لا يدعون ذلك، فثبت كونه وحياً مع تسليمهم أنه ليس ممن يقرأ التوراة ولا من يلابس أهلها.
(إذ يلقون أقلامهم) في الماء يقترعون، والأقلام جمع قلم من قلمه إذا قطعه وهو فعل بمعنى مفعول أي مقلوم، والقلم القطع ومنه قلمت ظفري أي(2/234)
قطعته وسويته، ومثله القبض والنقض بمعنى المقبوض والمنقوض، أي أقلامهم التي يكتبون بها، وقيل قداحهم ليعلموا (أيهم يكفل مريم) أي يربي، وذلك عند اختصامهم في كفالتها كما قال تعالى (وما كنت لديهم إذ يختصمون) كفالتها، فقال زكريا هو أحق بها لكون خالتها عنده، فاقترعوا وجعلوا أقلامهم في الماء الجاري على أن من وقف قلمه ولم يجر مع الماء فهو صاحبها، فجرت أقلامهم، ووقف قلم زكريا.
وقد استدل بهذا من أثبت القرعة، والخلاف في ذلك معروف وقد ثبتت أحاديث صحيحة في اعتبارها، وذكر الشوكاني في نيل الأوطار أن القرعة وردت في خمسة مواضع ثم عددها.(2/235)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
(إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه) أي كائنة من عنده وناشئة منه من غير واسطة الأسباب العادية وهي ولد يولد لك من غير بعل ولا فحل، وسمى كلمة لأنه وجد بكلمة (كن) فهو من باب إطلاق السبب على المسبب.
وفي أبي السعود في سورة النساء: يحكى أن طبيباً حاذقاً نصرانياً جاء للرشيد فناظر علي بن الحسين الواقدي ذات يوم فقال له إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى جزء من الله وتلا هذه الآية أي قوله (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) وقال إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءاً منه سبحانه، فانقطع النصراني وأسلم، وفرح الرشيد فرحاً شديداً، وأعطى للواقدي صلة فاخرة.
وذلك الولد (اسمه المسيح عيسى ابن مريم) المسيح اختلف فيه من ماذا أخذ فقيل من المسح لأنه مسح الأرض أي ذهب فيها فلم يستكن بكن، وقيل إنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برىء فسمي مسيحاً، فهو على هذين فعيل بمعنى فاعل، وقيل لأنه كان يمسح بالدهن الذي كانت الأنبياء تمسح به، وقيل إنه كان ممسوح الأخمصين، وقيل لأن الجمال مسحه وقيل لأنه مسح بالتطهير من(2/235)
الذنوب، وهو على هذه الأربعة الأقوال فعيل بمعنى مفعول.
وقال أبو الهيثم المسح ضد المسخ بالخاء المعجمة، وقال ابن الأعرابي المسيح الصديق، وقال أبو عبيد أصله بالعبرانية مشيخاً بالمعجمتين فعرب كما عرب موشى بموسى، وقال في الكشاف هو لقب من الألقاب المشرفة ومعناه باللغة العبرية المبارك.
وأما الدجال فسمى مسيحاً لأنه ممسوح إحدى العينين، وقيل لأنه يمسح الأرض أي يطوف بلدانها إلا مكة والمدينة وبيت المقدس.
وعيسى هو اسم أعجمي مأخوذ من العيس وهو بياض تعلوه حمرة، وقيل هو عربي مشتق من عاسه يعوسه إذا ساسه، وقال في الكشاف هو معرب من ايشوع انتهى.
والذي رأيناه في الإنجيل في مواضع أن اسمه يشوع بدون همزة، وإنما قيل إن مريم مع أن الخطاب معها تنبيهاً على أنه يولد من غير أب فنسب إلى أمه.
فإن قلت هذه ثلاثة أشياء الاسم والكنية واللقب، قلت المراد اسمه الذي يتميز به عن غيره وهو لا يتميز إلا بمجموع الثلاثة، وبهذا تعلم أن الخبر عن اسمه إنما هو مجموع الثلاثة من حيث المعنى لا كل واحد منهما على حياله، فهذا على حد: الرمان حلو حامض.
وقال " ابن مريم " ولم يقل ابنك كما هو الظاهر إشارة إلى أنه يكنى بهذه الكنية المشتملة على الإضافة للظاهر وخاطبها بنسبته إليها تنبيهاً على أنها تلده بلا أب إذ عادة الناس نسبتهم إلى آبائهم، فأعلمت من نسبته إليها أنه لا ينسب إلا إلى أمه.
(وجيهاً في الدنيا والآخرة) الوجيه ذو الوجاهة وهي القوة والمنعة ووجاهته في الدنيا النبوة وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة (ومن المقربين) عند الله يوم القيامة، وفيه تنبيه على علو منزلته وأنه رفعه إلى السماء.(2/236)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)(2/237)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
(ويكلم الناس في المهد وكهلاً) المهد مضجع الصبي في رضاعه، قاله ابن عباس ومهدت الأمر هيأته ووطأته، والكهل هو من كان بين سن الشباب والشيخوخة أي يكلم الناس حال كونه رضيعاً في المهد قبل وقت الكلام، وحال كونه كهلاً بالوحي والرسالة، قاله الزجاج.
وقد ثبت في الصحيح أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة منهم عيسى، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يتكلم في المهد إلا عيسى وشاهد يوسف وصاحب جريج وابن ماشطة فرعون (1).
وقال الخفاجي: الذين تكلموا في المهد أحد عشر نظمهم الجلال السيوطي في قوله:
تكلم في المهد النبي محمد (2) ... ويحيى وعيسى والخليل ومريم
ومبري جريج ثم شاهد يوسف ... وطفل لدى الأخذوذ يرويه مسلم
وطفل عليه مر بالأمة التي ... يقال لها تزنى ولا تتكلم
وماشطة في عهد فرعون طفلها ... وفي زمن الهادي المبارك يختم
انتهى، وقال قتادة في المهد وكهلاً يعني يكلمهم صغيراً وكبيراً، قال ابن عباس الكهل هو من في سن الكهولة، وعن مجاهد قال الكهل الحليم.
_________
(1) مسلم 2550، البخاري 653.
(2) هذا وأكثر ما يذكر في هذه الأبيات لا يصح.(2/237)
وعن ابن عباس قال تكلم عيسى ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق والذي تكلم به هو قوله (إني عبد الله آتاني الكتاب) الآية وتكلم ببراءة أمه عما رماها به أهل القرية من القذف.
قال ابن قتيبة لما كان لعيسى ثلاثون سنة أرسله الله فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه الله، وقال وهب مكث ثلاث سنين.
قيل وفي الآية بشارة لمريم بأنه يبقى حتى يكتهل، وفيه أنه يتغير من حال إلى حال، ولو كان إلهاً لم يدخل عليه التغير، ففيه رد على النصارى، وقال الحسن ابن الفضل يكلم الناس كهلاً بعد نزوله من السماء، وفيه نص على أنه سينزل من السماء إلى الأرض.
(ومن) العباد (الصالحين) مثل إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب وموسى وغيرهم من الأنبياء، وإنما ختم أوصافه بالصلاح لأنه لا يسمى المرء صالحاً حتى يكون مواظباً على النهج الأصلح والطريق الأكمل في جميع أحواله، وذلك يتناول جميع المقامات في الدين والدنيا في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح، ولهذا قال سليمان بعد النبوة وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.(2/238)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
(قالت) على طريقة الاستبعاد العادي (رب أنىّ) كيف (يكون لي ولد ولم يمسسني بشر) أي والحال أنه على حالة منافيه للحالة المعتادة من كون له أب ولم يصبني رجل بتزوج ولا غيره.
(قال كذلك الله يخلق ما يشاء) يعني هكذا يخلق الله منك ولداً من غير أن يمسك بشر، وعبر هنا بالخلق وفي قصة يحيى بالفعل لما أن ولادة العذراء من غير أن يمسها بشر أبدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ، فكان الخلق المنبىء عن الاختراع أنسب بهذا المقام من مطلق الفعل.
(إذا قضى أمراً) هو من كلام الله سبحانه وأصل القضاء الأحكام وقد تقدم وهو هنا الإرادة أي إذا أراد أمراً من الأمور (فإنما يقول له كن فيكون) من غير عمل ولا مزاولة وهو تمثيل لكمال قدرته.(2/238)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)(2/239)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
(ويعلمه) بالنون والياء وعلى كلتا القراءتين هو كلام مستأنف لأن النحاة وأهل البيان نصوا على أن الواو تكون للاستئناف أو عطف على يبشرك أو وجيهاً، وقال التفتازاني إنما يحسنان بعض الحسن على قراءة الياء، وأما على قراءة النون فلا يحسن إلا بتقدير القول أي إن الله يبشرك بعيسى ويقول نعلمه أو وجيهاً، ومقولاً فيه نعلمه.
(الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) الكتاب الكتابة أو جنس الكتب الإلهية قال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم، وكان أحسن الناس خطاً، والحكمة العمل، وقيل تهذيب الأخلاق.(2/239)
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
(ورسولاً إلى بني إسرائيل) أي ويجعله رسولاً أو يكلمهم رسولاً أو أرسلت رسولاً إليهم في الصبا أو بعد البلوغ، وفي حديث أبي ذر الطويل " وأول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى ".
(أني قد جئتكم بآية من ربكم) يعني بعلامة على صدق قولي، ولما قال ذلك لهم قالوا وما هذه الآية قال (أني أخلق) أي أصور وأقدر (لكم) خلقاً أو شيئاً (من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه) أي في ذلك الخلق أو ذلك الشيء أو في الطين، قيل: إنه لم يخلق غير الخفاش لما فيه من عجائب الصنعة فإن له ناباً وأسناناً وأذناً، والأنثى منه له ثدي، وتحيض وتطهر وتطير.
قيل: إنهم طلبوا خلق الخفاش لما فيه من العجائب المذكورة، ولكونه(2/239)
يطير بغير ريش ويلد كما يلد سائر الحيوان مع كونه من الطير ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة، وهو يضحك كما يضحك الإنسان.
وقيل: إن سؤالهم له كان على وجه التعنت، قيل كان يطير ما دام الناس ينظرونه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الله من فعل غيره، قال ابن عباس " إنما خلق عيسى طائراً واحداً وهو الخفاش ".
وقال هنا (فأنفخ فيه) وفي المائدة (فتنفخ فيها) بإعادة الضمير هنا إلى الطير أو الطين وفي المائدة إلى هيئة الطير جرياً على عادة العرب في تقنتهم في الكلام.
وخص ما هنا بتوحيد الضمير مذكراً وما في المائدة بجمعه مؤنثاً لأن ما هنا إخبار من عيسى قبل الفعل فوحده، وما في المائدة خطاب من الله له في القيامة، وقد سبق من عيسى الفعل مرات فجمعه، قاله الكرخي.
(فيكون طيراً) اسم جنس يقع على الواحد والاثنين والجمع، وقرىء طائراً على التوحيد (بإذن الله) فيه دليل على أنه لولا الإذن من الله عز وجل لم يقدر على ذلك، وإن خلق ذلك كان بفعل الله سبحانه أجراه على يد عيسى عليه السلام، قيل كانت تسوية الطين والنفخ من عيسى، والخلق من الله عز وجل.
(وأبرىء الأكمه والأبرص) الأكمه هو يولد أعمى كذا قال أبو عبيدة، وقال ابن فارس: الكمه العمى يولد به الإنسان، وقد يعرض، يقال كمه يكمه كمهاً إذا عمي وكمهت عينه إذا أعميتها وقيل الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل وقيل الأعمش وقيل هو الممسوح العين.
والبرص معروف وهو بياض يظهر في الجلد، ولم تكن العرب تنفر من شيء نفرتها منه، يقال برص يبرص برصاً أصابه ذلك ويقال له الوضح، وفي الحديث " وكان بها وضح " والوضاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له(2/240)
الأبرص، ويقال للقمر أبرص لشدة بياضه وللوزغ سام أبرص لبياضه، والبريص الذي يلمع لمعان البرص ويقارب البصيص.
وقد كان عيسى عليه السلام يبريء من أمراض عدة كما اشتمل عليه الإنجيل، وإنما خص الله سبحانه هذين المرضين بالذكر لأنهما لا يبرآن في الغالب بالمداواة، وقال السيوطي: لأنهما داءان أعْيَا الأطباء وكان بعثه في زمن الطب، فأبرأ في يوم خمسين ألفاً بالدعاء بشرط الإيمان.
ولم يقل في هذين بإذن الله، لأنهما ليس فيهما كبير غرابة بالنسبة إلى الآخرين، فتوهم الألوهية فيهما بعيد، فلا يحتاج إلى التنبيه على نفيه خصوصاً وكان فيهم أطباء كثيرون.
(وأحيي الموتى) أي وكذلك إحياء الموتى، قد اشتمل الإنجيل على قصص من ذلك، قال ابن عباس: قد أحيى أربعة أنفس: عازر وابن العجوز وابنه العاشر وسام ابن نوح، وكلهم بقي وولد له إلا سام، قيل وكان دعاؤه بإحيائهم يا حي يا قيوم (بإذن الله) كرره لنفي توهم الألوهية فيه لأن الإحياء ليس من جنس الأفعال البشرية فهو رد على النصارى.
(وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) أي بما أكلتم البارحة من طعام وما خبأتم منه، عن عمار بن ياسر قال: بما تأكلون من المائدة وما تدخرون منها، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا فأكلوا وادخروا وخانوا، فجعلوا قردة وخنازير، وفي هذا دليل قاطع على صحة نبوة عيسى معجزة عظيمة له.
وهذا إخبار من المغيَّبات مع ما تقدم له من الآيات الباهرات وإخباره عن الغيوب بإعلام الله إياه بذلك، وهذا مما لا سبيل لأحد من البشر إليه إلا الأنبياء عليهم السلام، وأما أخبار المنجم والكاهن فلا بد لكل واحد منهما من مقدمات يرجع إليها ويعتمد في اخباره عليها، وقد يخطىء في كثير مما يخبر به.
(إن في ذلك) المذكور من خلق الطير وغيره (لآية لكم) أي عبرة ودلالة على صدقي (إن كنتم مؤمنين) يعني مصدقين بذلك انتفعتم بهذه الآية.(2/241)
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)(2/242)
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
(ومصدقاً) أي وجئتكم مصدقاً (لما بين يديّ من التوراة) وذلك لأن الأنبياء يصدق بعضهم بعضاً وبين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة سنة وخمس وسبعون سنة (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) أي لأجل أحل لكم بعض الذي حرم عليكم من الأطعمة في التوراة كالشحوم وكل ذي ظفر كما في قوله تعالى (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) الآية، وقوله (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) وقيل إنما أحل لهم ما حرمته عليهم الأحبار ولم تحرمه التوراة.
وقال أبو عبيدة يجوز أن يكون بعض بمعنى كل، قال القرطبي: وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة لأن البعض والجزء لا يكونان بمعنى الكل، ولأن عيسى لم يحلل لهم جميع ما حرمته عليهم التوراة فإنه لم يحلل القتل ولا السرقة ولا الفاحشة وغير ذلك من المحرمات الثابتة في الإنجيل مع كونها ثابتة في التوراة وهي كثيرة يعرف ذلك من يعرف الكتابين.
ولكنه قد يقع البعض موقع الكل مع القرينة، وعن وهب أن عيسى كان على شريعة موسى وكان يسبت ويستقبل بيت المقدس. وقال لبني إسرائيل إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وأضع عنكم الآصار.(2/242)
وعن الربيع قال كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى، وحرم عليهم الشحوم فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل.
(وجئتكم بآية من ربكم) هي قوله(2/243)
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
(إن الله ربي وربكم) وإنما كان ذلك آية لأن من قبله من الرسل كانوا يقولون ذلك فمجيئه بما جاءت به الرسل يكون علامة على نبوته، ويحتمل أن تكون هذه الآية هي الآية المتقدمة فيكون تكريراً لقوله (إني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير) الآية، وقيل هذه الجملة تأكيد للأولى، وقيل تأسيس لا توكيد.
(فاتقوا الله) يا معشر بني إسرائيل فيما أمركم به ونهاكم عنه (وأطيعون) فيما أدعوكم إليه لأن طاعة الرسول من توابع تقوى الله (إن الله ربي وربكم فاعبدوه) وجميع الرسل كانوا على دين واحد وهو التوحيد، ولم يختلفوا في الله، وفيه حجة بالغة على نصارى وفد نجران ومن قال بقولهم (هذا صراط مستقيم) يعني التوحيد، فكذبوه ولم يؤمنوا به.(2/243)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
(فلما أحس عيسى منهم الكفر) أحس علم ووجد، قاله الزجاج، وقال أبو عبيدة: معنى أحس عرف، وأصل ذلك وجود الشيء بالحاسة، والإحساس العلم بالشيء، قال تعالى (هل تحس منهم من أحد) والمراد بالإحساس هنا الإدراك القوي الجاري مجرى المشاهدة وبالكفر إصرارهم عليه، وقيل سمع منهم كلمة الكفر، وقال الفراء أرادوا قتله.
وعلى هذا فمعنى الآية فلما أدرك منهم عيسى إرادة قتله التي هي كفر، والذين أرادوا قتله هم اليهود وذلك أنهم كانوا عارفين من التوراة بأنه المسيح المبشر به في التوراة وأنه ينسخ دينهم، فلما أظهر عيسى الدعوة اشتد ذلك عليهم(2/243)
وأخذوا في أذاه وطلبوا قتله وكفروا به فاستنصر عليهم كما أخبر الله عنه بقوله.
(قال من أنصاري) الأنصار جمع نصير (إلى الله) أي متوجهاً إلى الله وملتجئاً إليه أو ذاهباً إليه، وقيل إلى بمعنى مع كقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) وقيل المعنى من أنصاري في السبيل إلى الله، وقيل المعنى من يضم نصرته إلى نصرة الله.
وقيل لما بعث الله عيسى وأمره بإظهار رسالته والدعاء إليه نفوه وأخرجوه من بينهم، فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض يقول من أنصاري إلى الله.
(قال الحواريون) جمع حواري، وحواري الرجل صفوته وخلاصته وهو مأخوذ من الحور وهو البياض عند أهل اللغة حورت الثياب بيضتها، والحواري من طعام ما حوري أي بيض، والحواري الناصر، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لكل نبي حواري، وحواري الزبير، وهو في البخاري وغيره، قال ابن عباس كانوا صيادين، وقال الضحاك هم قصارون مر بهم عيسى فآمنوا به.
وعن قتادة قال: الحواريون هم الذين تصلح لهم الخلافة، وقيل هم أصفياء الأنبياء، وقيل الحواري الوزير.
وقد اختلف في سبب تسميتهم بذلك فقيل لبياض ثيابهم، وقيل لخلوص نياتهم، وقيل لأنهم خاصة الأنبياء وكانوا اثني عشر رجلاً وهم أول من آمن به.
(نحن أنصار الله) أي أنصار دينه ورسله (آمنا بالله) استئناف جار مجرى العلة لما قبله فإن الإيمان يبعث على النصرة (واشهد) أنت يا عيسى لنا يوم القيامة (بأنا مسلمون) أي مخلصون لإيماننا منقادون لما تريد منا إيذاناً بأن غرضهم السعادة الأخروية.(2/244)
رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)(2/245)
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
(ربنا آمنا بما أنزلت) في كتبك، تضرع إلى الله سبحانه وعرض لحالهم عليه بعد عرضها على الرسول مبالغة في إظهار أمرهم (واتبعنا الرسول) أي عيسى وحذف المتعلق مشعر بالتعميم أي اتبعناه في كل ما يأتي به (فاكتبنا مع الشاهدين) لك بالوحدانية ولرسولك بالرسالة فأثبت أسماءنا بأسمائهم، واجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به، أو اكتبنا مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم وقيل مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته أنهم شهدوا له أنه قد بلغ وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا.
(ومكروا) أي الذين أحس عيسى منهم الكفر وهم كفار بني إسرائيل إذ وكلوا به من يقتله غيلة أي خفية (ومكر الله) هو استدراجه للعباد من حيث لا يعلمون، قاله الفراء وغيره، وقال الزجاج مكر الله مجازاتهم على مكرهم.
فسمى الجزاء باسم الإبتداء كقوله تعالى (الله يستهزيء بهم) وهو خادعهم.
وأصل المكر في اللغة الاغتيال والخدع. حكاه ابن فارس. وعلى هذا فلا يسند إلى الله سبحانه إلا على طريق المشاكلة، وقيل مكر الله هنا إلقاء شبه عيسى على غيره ورفع عيسى إليه.
أخرج ابن جرير عن السدى قال إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة فأخذها رجل منهم، وصعد بعيسى إلى السماء فذلك قوله(2/245)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
(ومكروا ومكر الله) (والله خير الماكرين) أي أقواهم مكراً وأنفذهم كيداً وأقدرهم على إيصال الضرر بمن يريد ايصاله من حيث لا يحتسب.(2/245)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)(2/246)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
(إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ) قال الفراء إن في الكلام تقديماً وتأخيراً تقديره إني رافعك ومطهرك بعد إنزالك من السماء، قال أبو زيد: متوفيك قابضك، وقيل الكلام على حاله من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه، والمعنى كما قال في الكشاف: مستوفى أجلك، ومعناه أني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم، عن مطر الوراق قال متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت.
وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر لأن الصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة كما رجحه كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير الطبرى.
ووجه ذلك أنه قد صح في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزوله وقتله الدجال، وقيل إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء وفيه ضعف، وقيل المراد بالوفاة هنا النوم ومثله (هو الذي يتوفاكم بالليل) أي ينيمكم وبه قال كثيرون.
وقيل الواو في قوله (ورافعك) لا تفيد الترتيب لأنها لمطلق الجمع فلا فرق بين التقديم والتأخير قاله أبو البقاء، وقال أبو بكر الواسطي: المعنى إني متوفيك عن شهواتك وحظوظ نفسك، وهذا بالتحريف أشبه منه بالتفسير.(2/246)
وعن سعيد بن المسيب قال: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة رفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من رمضان وحملت به أمه ولها ثلاث عشرة سنة، وولدته بمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل وعاشت بعد رفعه ست سنين.
وأورد على هذا عبارة المواهب مع شرحها للزرقاني وإنما يكون الوصف بالنبوة بعد بلوغ الموصوف بها أربعين سنة إذ هو سن الكمال ولها تبعث الرسل، ومفاد هذا الحصر الشامل لجميع الأنبياء حتى يحيى وعيسى هو الصحيح، ففي زاد المعاد للحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى ما يذكر: أن عيسى رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة لا يعرف به أثر متصل يجب المصير إليه، قال الشامي وهو كما قال، فإن ذلك إنما يروى عن النصارى، والمصرح به في الأحاديث النبوية أنه إنما رفع وهو ابن مائة وعشرين سنة.
ثم قال الزرقاني: وقع للحافظ الجلال السيوطي في تكملة تفسير المحلى وشرح النقاية وغيرهما من كتبه الجزم بأن عيسى رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ويمكث بعد نزوله سبع سنين، وما زلت أتعجب منه مع مزيد حفظه وإتقانه وجمعه للمعقول والمنقول حتى رأيته في (مرقاة الصعود) رجع عن ذلك انتهى.
قلت: وفي حديث أبي داود الطيالسي بدل سبع سنين أربعين سنة ويتوفى ويصلى عليه، قال السيوطي: فيحتمل أن المراد مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده انتهى، وفيه ما تقدم.
وأورد على قوله " ليلة القدر " أنها من خصائص هذه الأمة وربما يقال في الجواب لعل الخصوصية على الوجه الذي هي عليه الآن من كون العمل فيها خيراً من العمل في ألف شهر، ومن كون الدعاء فيها مجاباً حالاً بعين المطلوب(2/247)
وغير ذلك فلا ينافي أنها كانت موجودة في الأمم السابقة لكن على مزية وفضل أقل مما هي عليه الآن.
(ومطهرك) أي مبعدك ومخرجك (من الذين كفروا) أي من خبث جوارهم وسوء صحبتهم ودنس معاشرتهم برفعك إلى السماء وبعدك عنهم. قال الحسن: طهره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه، لأن كونه في جملتهم بمنزلة التنجيس له بهم، قاله الكرخي.
(وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا) أي الذين اتبعوا ما جئت به وهم خلص أصحابه الذين لم يبلغوا في الغلو فيه إلى ما بلغ من جعله إلها، ومنهم المسلمون فإنهم اتبعوا ما جاء به عيسى عليه السلام ووصفوه بما يستحقه من دون غلو فلم يفرطوا في وصفه كما فرطت اليهود، ولا أفرطوا كما أفرطت النصارى، وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم.
وقيل المراد بالآية أن النصارى الذين هم أتباع عيسى لا يزالون ظاهرين علي اليهود غالبين لهم قاهرين لمن وجد منهم فيكون المراد بالذين كفروا هم اليهود خاصة، وقيل هم الروم لا يزالون ظاهرين على من خالفهم من الكافرين، وقيل هم الحواريون لا يزالون ظاهرين على من كفر بالمسيح. وقيل هم المسلمون والنصارى.
وعلى كل حال فغلبة النصارى لطائفة من الكفار أو لكل طوائف الكفار لا ينافي كونهم مقهورين مغلوبين لطوائف المسلمين كما يفيده الآيات الكثيرة بأن هذه الملة الإسلامية ظاهرة على كل الملل قاهرة لها مستعلية عليها.
وقد أفرد الشوكاني هذه الآية بمؤلف سماه (وبل الغمامة في تفسير) (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة) فمن أراد استيفاء ما في المقام فليرجع إلى ذلك.(2/248)
وحاصل ما ذكره أن صيغة الذين اتبعوك من صيغ العموم، وكذلك صيغة الذين كفروا من صيغ العموم، والواجب العمل بما دل عليه النظم القرآني، وإذا ورد ما يقتضي تخصيصه أو تقييده أو صرفه عن ظاهره وجب العمل به، وإن لم يرد ما يقتضي ذلك وجب البقاء على معنى العموم، وظاهره شمول كل متبع، وأنه مجعول فوق كل كافر، وسواء كان الاتباع بالحجة أو بالسيف أو بهما. وفي كل الدين أو بعضه، وفي جميع الأزمنة والأمكنة والأحوال أو في بعضها.
والمراد بالكافر الذي جعل المتبع فوقه كل كافر سواء كان كفره بالستر لما يعرفه من نبوة عيسى أو بالمكر به، أو بالمخالفة لدينه، إما بعدم التمسك بدين من الأديان قط كعبدة الأوثان والنار والشمس والقمر والجاحدين لله والمنكرين للشرائع، وإما مع التمسك بدين يخالف دين عيسى قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كاليهود وسائر الملل الكفرية.
فالمتبعون لعيسى بأي وجه من تلك الوجوه هم المجعولون فوق من كان كافراً بأي تلك الأنواع.
ثم بعد البعثة المحمدية لا شك أن المسلمين هم المتبعون لعيسى لإقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبشيره بها كما في القرآن الكريم والإنجيل، بل في الإنجيل الأمر لأتباع عيسى باتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فالمتبعون لعيسى بعد البعثة المحمدية هم المسلمون في أمر الدين، ومن بقي على النصرانية بعد البعثة المحمدية فهو وإن لم يكن متبعاً لعيسى في أمر الدين ومعظمه، لكنه متبع له في الصورة وفي الإسم وفي جزئيات من أجزاء الشريعة العيسوية، فقد صدق عليهم أنهم متبعون له في الصورة وفي الإسم، وفي شيء(2/249)
مما جاء به، وإن كانوا على ضلال ووبال وكفر، فذلك لا يوجب خروجهم عن العموم المذكور في القرآن الكريم.
ولا يستلزم اندراجهم تحت هذا العموم أنهم على شيء، بل هم هالكون في الآخرة وإن كانوا مجعولين فوق الذين كفروا، فذلك إنما هو في هذه الدار، ولهذا يقول الله جل وعلا بعد قوله (وجاعل الذين اتبعوك) الآية (ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) إلى قوله (لا يحب الظالمين).
فالحاصل أن المجعولين فوق الذين كفروا هم أتباع عيسى قبل النبوة المحمدية، وهم النصارى والحواريون، وبعد النبوة المحمدية هم المسلمون والنصارى والحواريون، والأولون هم الأتباع حقيقة، وغيرهم هم الأتباع في الصورة، وقد جعل الله الجميع فوق الذين كفروا من اليهود وسائر الطوائف الكفرية.
وقد كان الواقع هكذا فإن الملة النصرانية قبل البعثه المحمدية كانت قاهرة لجميع الملل الكفرية ظاهرة عليها، غالبة لها، وبعد البعثة المحمدية صارت جميع الأمم الكفرية نهبى بين الملة الإسلامية والملة النصرانية ما بين قتيل وأسير ومسلم للجزية وهذا يعرفه كل من له إلمام بأخبار العالم.
ولكن الله تعالى جعل الملة الإسلامية قاهرة للملة النصرانية مستظهرة عليها. وفاء بوعده في كتابه العزيز كما في الآيات المشتملة على الأخبار بأن جنده هم الغالبون، وحزبه هم المنصورون، ومن ذلك قوله تعالى (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً).
وقد أخبر الصادق المصدوق بظهور أمته على جميع الأمم وقهر ملته لجميع الأمم. وبالجملة إنا إذا جردنا النظر إلى الملة الإسلامية والملة النصرانية فقد ثبت(2/250)
في الكتاب والسنة ما يدل على استظهار الملة الإسلامية على الملة النصرانية، وإن نظرنا إلى جميع الملل فالملة الإسلامية والملة النصرانية هما فوق سائر الملل الكفرية لهذه الآية.
ولا ملجىء إلى جعل الضمير المذكور في الآية وهو الكاف لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كما تكلفه جماعة من المفسرين، لأن جعله لعيسى كما يدل عليه السياق، بل هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه، لا يستلزم إخراج الملة المحمدية بعد البعثة، إذ هم متبعون لعيسى كما عرفت سابقاً.
ولا خلاف بين أهل الإسلام أن الملة النصرانية كانت قبل البعثة المحمدية هي القاهرة لجميع الملل الكفرية، فلم يبق في تحويل الضمير عن مرجعه الذي لا يحتمل السياق غيره فائدة إلا تفكيك النظم القرآني والإخراج له عن الأساليب البالغة في البلاغة إلى حد الإعجاز.
ومن تدبر هذا الوجه الذي حررناه علم أنه قد أعطى التركيب القرآني ما يليق ببلاغته من بقاء عموم الموصول الأول والموصول الثاني وعدم التعرض لتخصيصه بما ليس بمخصص، وتقييده بما ليس بمقيد، وعدم الخروج عن مقتضى الظاهر في مرجع الضمائر وعدم ظن التعارض بين ما هو متحد الدلالة: انتهى.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويحكم بين العباد بالشريعة المحمدية، ويكون المسلمون أنصاره وأتباعه إذ ذاك، فلا يبعد أن يكون في هذه الآية إشارة إلى هذه الحالة (1).
(إلى يوم القيامة) غاية للجعل أو للاستقرار المقدر في الظرف لا على معنى أن ذلهم ينتهي يوم القيامة، بل على معنى أن المسلمين يعلونهم إلى تلك
_________
(1) مسلم/2940.(2/251)
الغاية، فأما بعدها فيفعل الله بهم ما يريد كما ذكره بقوله (فأما الذين كفروا) الخ.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يبالون بمن خالفهم حتى يأتي أمر الله (1) " قال النعمان من قال إني أقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل فإن تصديق ذلك في كتاب الله (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة).
وأخرج ابن عساكر عن معاوية مرفوعاً نحوه، ثم قرأ معاوية الآية.
عن ابن زيد قال النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة ليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق ولا غرب، وهم في البلدان كلها مستذلون.
(ثم إليّ مرجعكم) أي مرجع الفريقين: الذين اتبعوا عيسى والذين كفروا به، والمرجع الرجوع، وتقديم الظرف للقصر (فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) أي من أمور الدين.
_________
(1) مسلم 1920، ابن ماجه المقدمة.(2/252)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
(فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة) تفسير للحكم الواقع بين الفريقين إلى آخر الآية (1)، وتعذيبهم في الدنيا بالقتل والسبي والجزية والصغار، وأما في الآخرة فبعذاب النار (وما لهم من ناصرين) يمنعونهم من عذابنا من مقابلة الجمع بالجمع.
_________
(1) قيل المراد بهم هم اليهود والنصارى.(2/252)
وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)(2/253)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
(وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم) بالياء والنون (أجورهم) أي يعطيهم إياها كاملة موفرة (والله لا يحب الظالمين) نفي الحب كناية عن بغضهم، واستعمال عدم محبة الله في هذا المعنى شائع في جميع اللغات جار مجرى الحقيقة، وهي جملة تذييلية مقررة لما قبلها.(2/253)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
(ذلك) إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى وغيره (نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) المشتمل على الحكم أو المحكم الذي لا خلل فيه.(2/253)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
(إن مثل عيسى عند الله) أي شأنه الغريب، والجملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها تعلقاً صناعياً بل تعلقاً معنوياً، وزعم بعضهم أنها جواب قسم، وذلك القسم هو قوله (والذكر الحكيم) فالواو حرف جر لا حرف عطف وهذا بعيد أو ممتنع إذ فيه تفكيك لنظم القرآن وإذهاب لرونقه وفصاحته.
(كمثل آدم) في الخلق والإنشاء تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقاً بغير أب كآدم ولا يقدح في التشبيه اشتمال المشبه به على زيادة وهو كونه لا أم له كما أنه لا أب له، فذلك أمر خارج عن الأمر المراد بالتشبيه وإن كان المشبه به أشد غرابة من المشبه وأعظم عجباً وأغرب أسلوباً، وعبارة الكرخي هو تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأوقع في النفس، وبه قال السيوطي.
(خلقه من تراب) جملة مفسرة لما أبهم في المثل وخبر مستأنف على جهة التفسير لحال خلق آدم أي أن آدم لم يكن له أب ولا أم بل خلقه الله من تراب، وقدره جسداً من طين، وفي ذلك دفع لإنكار من أنكر خلق عيسى من(2/253)
غير أب مع اعترافه بأن آدم خلق من غير أب وأم.
(ثم قال له كن) بشراً أي أنشأه خلقاً بالكلمة، وكذلك عيسى أنشأه خلقاً بالكلمة وقيل الضمير يرجع إلى عيسى (فيكون) أي فكان بشراً، أريد بالمستقبل الماضي أي حكاية حال ماضية.
عن ابن عباس أن رهطاً من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان فيهم السيد والعاقب فقالوا ما شأنك تذكر صاحبنا. قال من هو قالوا عيسى تزعم أنه عبد الله، قالوا فهل رأيت مثل عيسى وأنبئت به، فخرجوا من عنده، فجاء جبريل فقال قل لهم إذا أتوك (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم) الآية (1).
وقد رويت هذه القصة على وجوه عن جماعة من الصحابة والتابعين، وأصلها عند البخاري ومسلم، وحكى أن بعض العلماء أسر في بعض بلاد الروم فقال لهم لم تعبدون عيسى؟ قالوا لأنه لا أب له، قال فآدم أولى لأنه لا أب له ولا أم، قالوا وكان يحيي الموتى فقال حزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر، وأحيا حزقيل أربعة آلاف، قالوا وكان يبرىء الأكمه والأبرص، قال فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سليماً.
_________
(1) ابن كثير 1/ 368.(2/254)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
(الحق من ربك) أي جاءك الحق من ربك يعني الذي أخبرتك به من تمثيل عيسى بآدم هو الحق، والجملة على هذا خبر مبتدأ محذوف، وقيل مستأنفة برأسها، والمعنى أن الحق الثابت الذي لا يضمحل هو من ربك، ومن جملة ما جاء من ربك قصة عيسى وأمه فهو حق ثابت.
(فلا تكن من الممترين) الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس أي لا يكن أحد منهم ممترياً أو للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويكون النهي له لزيادة التثبيت لأنه لا يكون منه شك في ذلك.(2/254)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)(2/255)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
(فمن) شرطية وهو الظاهر أو موصولة (حاجّك فيه) أي في عيسى وهو الأظهر، وقيل في الحق وهو الأقرب، والحاجة مفاعلة وهي من الاثنين وكان الأمر كذلك.
(من بعد ما جاءك من العلم) بأن عيسى عبد الله ورسوله ومن للتبعيض أو لبيان الجنس (فقل تعالوا) العامة على فتح اللام لأنه أمر من تعالى يتعالى كترامى بترامى، وأصل ألفه ياء وأصل هذه الياء واو لأنه مشتق من العلو وهو الإرتفاع، تقول في الواحد تعال يا زيد، وفي الجمع المذكور تعالوا، وتقول يا زيدان تعاليا، ويا هندان تعاليا ويا نسوة تعالين، قال تعالى (فتعالين أمتّعكن).
وقرأ الحسن (تعالوا) بضم اللام، وتعال فعل أمر صريح وليس باسم فعل لاتصال الضمائر المرفوعة البارزة به، قيل وأصله طلب الإقبال من مكان مرتفع تفاؤلاً بذلك وإذناً للمدعو لأنه من العلو والرفعة، ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجيء حتى تقول ذلك لمن تريد إهانته كقولك للعدو " تعال " ولمن لا يعقل كالبهائم ونحوها، وقيل هو الدعاء لمكان مرتفع ثم توسع فيه حتى استعمل في طلب الإقبال إلى كل مكان حتى المنخفض.
(ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) هذا وإن كان عاماً فالمراد الخاص وهم النصارى الذين وفدوا إليه - صلى الله عليه وسلم - من نجران كما أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - العاقب والسيد فدعاهما إلى الإسلام فقالا أسلمنا يا محمد - صلى الله عليه وسلم -(2/255)
فقال كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام، قالا فهات، قال حب الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير (1).
قال جابر فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على ذلك الغد فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه وأقرا له فقال " والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما ناراً " قال جابر فيهم نزلت (قل تعالوا ندع أبناءنا) الآية.
قال جابر " أنفسنا وأنفسكم " رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي، وأبناءنا الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة، ورواه الحاكم من وجه آخر عن جابر وصححه وفيه أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هل لك أن نلاعنك.
وأخرج مسلم والترمذي وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن اسعد بن أبي وقاص قال لما نزلت هذه الآية (قل تعالوا) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال اللهم هؤلاء أهلي (2).
وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه (تعالوا ندع أبناءنا) الآية قال فجاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده.
وممكن أن يقال هو على عمومه لجماعة أهل الدين وإن كان السبب خاصاً، فيدل على جواز المباهلة منه صلى الله عليه وآله وسلم لكل من حاجه في عيسى عليه السلام، وأمته أسوته.
وضمير " فيه " لعيسى كما تقدم، والمراد بمجيء العلم هنا مجيء سببه وهو الآيات البينات، والمحاجة المخاصمة والمجادلة وتعالوا أي هلموا وأقبلوا، وأصله الطلب لإقبال الذوات، ويستعمل في الرأى إذا كان المخاطب حاضراً، كما تقول لمن هو حاضر عندك تعال ننظر في هذا الأمر.
_________
(1) ابن كثير 1/ 368.
(2) ابن كثير 1/ 371.(2/256)
واكتفى بذكر البنين عن البنات إما لدخولهن في النساء أو لكونهم الذين يحضرون مواقف الخصام دونهن.
ومعنى الآية ليدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة، وفيه دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء لكونه صلى الله عليه وآله وسلم أراد بالأبناء الحسنين كما تقدم.
وإنما خص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل، وإنما قدمهم في الذكر على نفسه لينبه بذلك على لطف مكانهم وقرب منزلتهم.
إن قلت القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهذا يختص به وبمن يباهله فلم ضم إليه الأبناء والنساء في المباهلة.
قلت ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث تجرأ على تعريض أعزته، وفي الدلالة على ثقته بكذب خصمه ولأجل أن يهلك خصمه مع أعزته جميعاً لو تمت المباهلة.
(ثم نبتهل) نتضرع إلى الله، وأصل الإبتهال الاجتهاد في الدعاء باللعن وغيره يقال بهله الله أي لعنه والبهل اللعن.
قال أبو عبيد والكسائي نبتهل نلتعن، ويطلق على الاجتهاد في الهلاك قال في الكشاف: ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن إلتعاناً.
أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " هذه الإخلاص، يشير بأصبعه التي تلي الأبهام، وهذا الدعاء فرفع يديه حذو منكبيه، وهذا الابتهال فرفع يديه مداً ".
قال في الجمل: وقع البحث عند شيخنا العلامة الدواني قدس الله سره في جواز المباهلة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكتب رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب والسنة والآثار وكلام الأئمة، وحاصل كلامه فيها أنها لا تجوز إلا في أمر مهمّ شرعاً وقع فيه اشتباه وعناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة(2/257)
فيشترط كونها بعد إقامة الحجة والسعي في إزالة الشبهة، وتقديم النصح والإنذار، وعدم نفع ذلك ومساس الضرورة إليها انتهى من تفسير الكازروني انتهى.
(قلت) وقد دعا الحافظ ابن القيم رحمه الله من خالفه في مسألة صفات الرب تعالى شأنه وإجرائها على ظواهرها من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل إلى المباهلة بين الركن والمقام، فلم يجبه إلى ذلك وخاف سوء العاقبة، وتمام هذه القصة مذكور في أول كتابه المعروف بالنونية (1).
وأتى سبحانه وتعالى هنا بثم تنبيهاً لهم على خطيئتهم في مباهلته كأنه يقول لهم لا تعجلوا وتأنوا لعله أن يظهر لكم الحق، فلذلك أتى بحرف التراخي (فنجعل لعنة الله على الكاذبين) يعني منا ومنكم بأن نقول اللهم العن الكاذب في شأن عيسى أي الذي يقول إنه ابن الله ويقول إنه إله، هذه جملة مبينة لمعناه.
وفي الآية دليل قاطع وبرهان ساطع على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ومخالف أنهم أجابوا إلى المباهلة، لأنهم عرفوا صحة نبوته وما يدل عليها في كتبهم.
_________
(1) القصيدة النونية للإمام ابن القيم تبلغ أكثر من ستة آلاف بيت ذكر فيها جميع الفرق الإسلامية. السلفية والخلفية، وانتصر فيها للسلف وبين زيغ الخلف، وقد شرحها العلامة خليل الهراس من علماء الأزهر في جزأين وطبعها بمطبعة الإمام 13 شارع قرقول المنشية بالقلعة بمصر.(2/258)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)
(إن هذا) أي الذي قصه الله على رسوله من نبأ عيسى (لهو القصص الحق) القصص التتابع يقال فلان يقص أثر فلان أي يتبعه، فأطلق على الكلام الذي يتبع بعضه بعضاً، وضمير الفصل للحصر ودخول اللام عليه لزيادة تأكيده، وزيادة من في قوله (وما من إله) لتأكيد العموم والاستغراق (إلا الله) وهو رد على من " قال " بالتثليت من النصارى (وإن الله لهو العزيز) أي الغالب المنتقم ممن عصاه وخالف أمره، وادعى معه إلهاً آخر (الحكيم) أي في تدبيره، وفيه رد على النصارى لأن عيسى لم يكن كذلك.(2/258)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)(2/259)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
(فإن تولوا) أي أعرضوا عن الإيمان ولم يقبلوه (فإن الله عليم بالمفسدين) أي الذين يعبدون غير الله ويدعون الناس إلى عبادة غيره وفيه وعيد وتهديد لهم شديد.(2/259)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلا كلمة سواء بيننا وبينكم) قيل الخطاب لأهل نجران بدليل ما تقدم قبل هذه الآية، وقيل ليهود المدينة، وقيل لليهود والنصارى جميعاً، وهو ظاهر النظم القرآني، ولا وجه لتخصيصه بالبعض، لأن هذه دعوة عامة لا تختص بأولئك الذين حاجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بالسواء العدل.
قال الفراء يقال في معنى العدل سوى وسواء. فإذا فتحت السين مددت وإذا ضممت أو كسرت قصرت، وفي قراءة ابن مسعود (إلى كلمة عدل) فالمعنى أقبلوا إلى ما دعيتم إليه وهي الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق، والعرب تسمى كل قصة أو قصيدة لها أول وآخر وشرح " كلمة " وقد فسرها بقوله (أن لا نعبد إلا الله) أي هي أن لا نعبد (ولا نشرك به شيئاً) وذلك أن النصارى عبدوا غير الله وهو المسيح وأشركوا به وهو قولهم أب وابن وروح القدس، فجعلوا الواحد ثلاثة.
وقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال حدثني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرىء فإذا فيه " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم(2/259)
يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين (1) ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، إلى قوله بأنا مسلمون (2) ".
وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكفار (تعالوا إلى كلمة) الآية.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا يهود المدينة إلى ما في هذه الآية فأبوا عليه فجاهدهم حتى أقروا بالجزية، وعن قتادة قال ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء.
(ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) تبكيت لمن اعتقد ربوبية المسيح وعزير، وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر، وبعض منهم، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله فحلل ما حللوه وحرم ما حرموه عليه، فإن من فعل ذلك فقد اتخذ من قلده رباً، ومنه (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله).
قال ابن جريج لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله، ويقال إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة وإن لم يصلوا لهم، وعن عكرمة قال سجود بعضهم بعضاً.
(فإن تولوا) أعرضوا عن التوحيد، قال أبو البقاء هو ماض ولا يجوز أن يكون التقدير فإن تتولوا لفساد العنى. وهذا الذي قاله ظاهر جداً قاله السمين (فقولوا) أي أنت والمؤمنون (اشهدوا بأنا مسلمون) موحدون لما لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم.
_________
(1) الأريسين: هم العامة.
(2) صحيح مسلم 1773. البخاري 7.(2/260)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)(2/261)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
(يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده) لما ادعت كل طائفة من طائفتي اليهود والنصارى أن إبراهيم عليه السلام كان على دينهم، رد الله سبحانه ذلك عليهم وأبان بأن الملة اليهودية والملة النصرانية إنما كانتا من بعده.
قال الزجاج هذه الآية أبين حجة على اليهود والنصارى أن التوراة والإنجيل نزلا من بعده وليس فيهما اسم لواحد من الأديان، وإسم الإسلام في كل كتاب، وفيه نظر فإن الإنجيل مشحون بالآيات من التوراة وذكر شريعة موسى والاحتجاج بها على اليهود، وكذلك الزبور فيه مواضع ذكر شريعة موسى، وفي أوائله التبشير بعيسى، ثم في التوراة ذكر كثير من الشرائع المتقدمة، يعرف كل هذا من يعرف هذه الكتب المنزلة.
وقد اختلف في قدر المدة التي بين إبراهيم وموسى. والمدة التي بين موسى وعيسى، قال القرطبي يقال كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة، وكذا في الكشاف وقيل كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وسبعون سنة، وبين موسى وعيسى ألف وستمائة وإثنان وثلاثون سنة.
وقيل كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة، وبين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة وعشرون سنة.
عن ابن عباس قال اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى(2/261)
الله عليه وآله وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار ما كان إبراهيم إلا يهودياً، وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلا نصرانياً فنزل فيهم (يا أهل الكتاب لم تحاجون) الآية (1)، وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف (أفلا تعقلون) أي تتفكرون في دحوض حجتكم وبطلان قولكم حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال.
_________
(1) ابن كثير 1/ 372. وقد توسع ابن الجوزي في هذه المسألة في كتابه القيم زاد المسير 1/ 402.(2/262)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
(ها أنتم) يا (هؤلاء) الرجال الحمقى (حاججتم) ها للتنبيه وهو موضع النداء والمراد بهم أهل الكتابين، والمعنى جادلتم وخاصمتم، وفي (هؤلاء) لغتان المد والقصر (فيما لكم به علم) المراد هو ما كان في التوراة وإن خالفوا مقتضاه وجادلوا فيه بالباطل (فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) وهو زعمهم أن إبراهيم كان على دينهم بجهلهم بالزمن الذي كان فيه.
وفي الآية دليل على منع الجدال بالباطل، بل ورد الترغيب في ترك الجدال من المحق كما في حديث " من ترك المراء ولو محقاً فأنا ضمينه على الله ببيت في ربض الجنة " وقد ورد تسويغ الجدال بالتي هي أحسن كقوله تعالى (وجادلهم بالتي هي أحسن) (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) ونحو ذلك فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة.
(والله يعلم) أي كل شيء فيدخل في ذلك ما حاججتم به دخولاً أولياً (وأنتم لا تعلمون) أي محل النزاع أو شيئاً من الأشياء التي من جملتها ذلك.(2/262)
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)(2/263)
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
(ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً) يعني مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين المستقيم وهو الإسلام، وقيل الحنيف الذي يوحد ويختتن ويضحي ويستقبل الكعبة في صلاته وهو أحسن الأديان وأسهلها وأحبها إلى الله عز وجل.
قال الشعبي: أكذبهم الله وأدحض حجتهم في هذه الآية (وما كان من المشركين) فيه تعريض بكون النصارى مشركين لقولهم بأن المسيح ابن الله، وكذلك اليهود حيث قالوا عزيز ابن الله.(2/263)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
(إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) أي أحقهم به وأخصهم الذين اتبعوا ملته واقتدوا بدينه (وهذا النبي) يعني محمداً - صلى الله عليه وسلم -، أفرده بالذكر تعظيماً له وتشريفاً وأولويته - صلى الله عليه وسلم - بإبراهيم من جهة كونه من ذريته ومن جهة موافقته لدينه في كثير من الشريعة المحمدية.
(والذين آمنوا) معه من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - (والله ولي المؤمنين) بالنصر والمعونة.
أخرج الترمذي والحاكم وصححه وابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي خليل ربي " ثم قرأ هذه الآية (1).
_________
(1) كتاب التفسير 2/ 292.(2/263)
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن ميناء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا معشر قريش إن أولى الناس بالنبي المتقون فكونوا أنتم سبيل ذلك فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال وتلقوني بالدنيا تحملونها فأصد عنكم بوجهي ثم قرأ إن أولى الناس بإبراهيم الآية، وقال الحسن كل مؤمن ولي إبراهيم ممن مضى وممن بقى.(2/264)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) الطائفة هم يهود بني النضير وقريظة وبني قينقاع حين دعوا جماعة من المسلمين إلى دينهم، وقيل هم جميع أهل الكتاب فتكون (من) لبيان الجنس ولو مصدرية أي تمنت وأحبت إضلالكم أو حرف امتناع لامتناع والجواب محذوف أي لسروا بذلك وفرحوا؛ قاله السمين (وما يضلون إلا أنفسهم) جملة حالية للدلالة على ثبوت قدم المسلمين في الإيمان فلا يعود وبال من أراد فتنتهم إلا عليه (وما يشعرون) أن وبال الإضلال يعود عليهم.
عن سفيان كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى، ويدفع هذا أن كثيراً من خطابات أهل الكتاب المذكورة في هذه السورة لا يصح حملها على النصارى البتة، ومن ذلك هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها، فإن الطائفة التي ودت إضلال المسلمين وكذلك الطائفة التي قالت آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار كما سيأتي من اليهود خاصة.(2/264)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
(يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله) المراد بآيات الله ما في كتبهم من دلائل نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - (وأنتم تشهدون) ما في كتبكم من ذلك ثم تكفرون به وتنكرونه، ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل النبي الأمي، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء الذين تقرون بنبوتهم، أو المراد كتم كل الآيات عناداً وأنتم تعلمون أنها حق، وعن ابن جريج قال وأنتم تشهدون على أن الدين عند الله الإسلام، ليس لله دين غيره.(2/264)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)(2/265)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
(يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل) لبس الحق بالباطل خلطه بما يتعمدونه من التحريف، قال الربيع لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره الإسلام (وتكتمون الحق) شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - (وأنتم تعلمون) أي تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، وعن قتادة مثله.(2/265)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) هم رؤساؤهم وأشرافهم قالوا للسفلة من قومهم هذه المقالة، ووجه النهار أوله، وسمي وجهاً لأنه أحسنه، أمروهم بذلك لإدخال الشك على المؤمنين لكونهم يعتقدون أن أهل الكتاب لديهم علم، فإذا كفروا بعد الإيمان وقع الريب لغيرهم واعتراه الشك، وهم لا يعلمون أن الله قد ثبت قلوب المؤمنين ومكن أقدامهم فلا تزلزلهم أراجيف أعداء الله ولا تحركهم ريح المعاندين.
عن ابن عباس قال: قال عبد الله ابن الصيف وعدي بن زيد والحرث بن عوف بعضهم لبعض تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه غدوة، ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم، فأنزل الله عليهم هذه الآية إلى قوله (واسع عليم) وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف.(2/265)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)(2/266)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
(ولا تؤمنوا) هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض أي قال الرؤساء للسفلة لا تصدقوا تصديقاً صحيحاً (إلا لمن تبع دينكم) من أهل الملة التي أنتم عليها، وأما غيرهم ممن أسلم فأظهروا لهم ذلك خداعاً وجه النهار، واكفروا آخره ليفتتنوا.
والمعنى أن ما بكم من الحسد والبغي، أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم، أولا تؤمنوا إيماناً صحيحاً وتقروا بما في صدوركم إقراراً صادقاً لغير من تبع دينكم، فعلتم ذلك ودبرتموه وإن المسلمين يحاجوكم يوم القيامة عند الله بالحق.
وقال الأخفش المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولا تصدقوا أن يحاجوكم، وقيل المراد لا تؤمنوا وجه النهار وتكفروا آخره إلا لمن تبع دينكم أي لمن دخل في الإسلام وكان من أهل دينكم قبل إسلامه، لأن إسلام من كان منهم هو الذي قتلهم غيظاً وأماتهم حسرة وأسفاً.
وقيل لا تؤمنوا أي لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أي أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا لإتباع دينكم.
وقيل المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم بالمد على الاستفهام تأكيداً للإنكار الذي قالوه لا يؤتى أحد مثل ما أوتوه.
وقال ابن جريج المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهة أن يؤتى،(2/266)
وقيل المعنى لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد- صلى الله عليه وسلم - إلا لمن تبع دينكم لئلا يكون ذلك سبباً لإيمان غيركم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
واختلف الناس المفسرون والمعربون في هذه الآية على أوجه، وذكروا منها تسعة أوضحها وأقربها ما ذكرناه، وقال الفراء: يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله إلا لمن تبع دينكم، ثم قال الله سبحانه لمحمد - صلى الله عليه وسلم - (قل إن الهدى هدى الله) أي إن البيان الحق بيان الله بين (أن) لا (يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) على تقدير لا كقوله تعالى (يبين الله لكم أن تضلوا) أي لئلا تضلوا.
(أو يحاجوكم عند ربكم) " أو " بمعنى حتى، كذلك قال الكسائي: وهي عند الأخفش عاطفة، وقد قيل إن هذه الآية أعظم آي هذه السورة إشكالاً وذلك صحيح.
قال الواحدي: وهذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيراً وإعراباً، ولقد تدبرت أقوال أهل التفسير والمعاني في هذه الآية فلم أجد قولاً يطرد في الآية من أولها إلى آخرها مع بيان المعنى وصحة النظم انتهى، وقد لخصه من كلام الناس الشيخ سليمان الجمل مع اختلافه فمن شاء فليرجع إليه.
(قل إن الفضل) يعني التوفيق للإيمان والهداية للإسلام (بيد الله يؤتيه من يشاء) أي من أرادة من خلقه وفيه تكذيب اليهود في قولهم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم (والله واسع) أي ذو سعة يتفضل على من يشاء (عليم) بمن هو أهله.(2/267)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
(يختص برحمته من يشاء) قيل هي الإسلام وقيل هي القرآن وقيل هي النبوة، وقيل أعم منها، وهو رد عليهم ودفع لما قالوه ودبروه، وفيه دليل على أن النبوة لا تحصل إلا بالاختصاص والتفضل لا بالاستحقاق (والله ذو الفضل العظيم) أصل الفضل في اللغة الزيادة، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان، والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير.(2/267)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)(2/268)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) هذا شروع في بيان خيانة اليهود في المال بعد بيان خيانتهم في الدين، وقد تقدم تفسير القنطار، والدينار معروف، قالوا ولم يختلف وزنه أصلاً وهو أربعة وعشرون قيراطاً، كل قيراط ثلاث شعيرات معتدلات فالمجموع اثنتان وسبعون شعيرة.
ومعنى الآية أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدي أمانته، وإن كانت كثيرة (1)، وفيهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته وإن كانت حقيرة، ومن كان أمينا في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائناً في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى، وقال عكرمة: المؤدي النصارى، والذي لا يؤدي اليهود (إلا ما دمت عليه قائماً) استثناء مفرع أي لا يؤده إليك في حال من الأحوال إلا ما دمت مطالباً له مضيقاً عليه متقاضياً لرده.
(ذلك) أي ترك الأداء المدلول عليه بقوله لا يؤده (بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) الأميون هم العرب الذين ليسوا بأهل كتاب أي ليس علينا فيما أصبنا من مال العرب سبيل، قاله قتادة وعن السدى نحوه، أو ليس علينا في ظلمهم حرج لمخالفتهم لنا في ديننا، وادعوا، لعنهم الله، أن ذلك في
_________
(1) هذا من إنصاف القرآن حيث يشهد بالخير لبعض الطوائف الأخرى.(2/268)
كتابهم، فرد الله سبحانه عليهم بقوله (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون).
عن سعيد بن جبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر (1)، أخرجه الطبراني وغيره مرسلاً.
_________
(1) أبو داود الباب 56 من كتاب المناسك، ابن ماجه باب 76 كتاب المناسك.
قال القرطبي 4/ 117: الأمانة عظيمة القدر في الدين، ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرحم على جنبتي الصراط؛ كما في صحيح مسلم. فلا يمكن من الجواز إلا من حفظهما. وروى مسلم عن حذيفة قال حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة، قال: " ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه " الحديث. وقد تقدم بكماله أول البقرة. وروى ابن ماجه حدثنا محمد ابن المصفى حدثنا محمد بن حرب عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة كثير ابن مرة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً فإذا لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً نزعت منه الأمانة فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائناً مخوناً.(2/269)
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
(بلى) عليهم سبيل بكذبهم واستحلالهم أموال العرب، فقوله " بلى " إثبات لما نفوه من السبيل، قال الزجاج تم الكلام بقوله بلى ثم قال (من أوفى بعهده) الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن وبأداء الأمانة إلى من ائتمنه، وقيل الضمير راجع إلى الموفي، وقيل إلى من، أو إلى الله تعالى (واتقى) الشرك أي فليس هو من الكاذبين (فإن الله يحب المتقين) الذين يتقون الشرك، وعموم المتقين قائم مقام العائد إلى " من " أي فإن الله يحبه، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر للإعتناء بشأنهم وإشارة إلى عمومه لكل متق.(2/269)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
(إن الذين يشترون) أي يستبدلون كما تقدم تحقيقه غير مرة (بعهد الله) هو ما عاهدوه عليه من الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (وأيمانهم) هي التي كانوا يحلفون إنهم يؤمنون به وينصرونه (ثمناً قليلاً) أي شيئاً يسيراً من حطام الدنيا وذلك أن المشتري يأخذ شيئاً ويعطي شيئاً فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر فهذا معنى الشراء.
قال عكرمة: نزلت في أحبار اليهود ورؤسائهم، وقيل الأقرب حمل الآية على الكل ويدخل فيه جميع ما أمر الله به وجميع العهود والمواثيق المأخوذة من جهة الرسل وما يلزم الرجل نفسه من عهد وميثاق، فكل ذلك يجب الوفاء به وهو الأولى.
(أولئك) الموصوفون بهذه الصفة (لا خلاق) نصيب (لهم في) نعيم (الآخرة ولا يكلمهم الله) بشيء أصلاً كما يفيده حذف المتعلق من التعميم أو لا يكلمهم الله بما يسرهم وقيل هو بمعنى الغضب (ولا ينظر إليهم يوم القيامة) نظر رحمة (ولا يزكيهم) يطهرهم من دنس الذنوب بالعذاب المنقطع ولا يثني عليهم بجميل، بل يسخط عليهم ويعذبهم بذنوبهم كما يفيده قوله (ولهم عذاب أليم) مؤلم.
أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " فقال الأشعث بن قيس في نزلت، وقد روى أن سبب نزول الآية أن رجلاً كان يحلف بالسوق لقد أعطى ما لم يعط بها أخرجه البخاري وغيره (1)، وقيل غير ذلك، وقد ورد في وعيد الأيمان الكاذبة أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن لا نطول بذكرها.
_________
(1) مسلم 138 - البخاري 1176، 1177.(2/270)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
(وإن منهم لفريقاً) أي طائفة من اليهود (يلوون ألسنتهم بالكتاب) أصل اللي الميل والفتل، تقول لوى برأسه إذا أماله، ولويت عنقه أي فتلته، والمصدر اللي والليان ثم يطلق اللي على المراوغة في الحجج والخصومة تشبيهاً للمعاني بالإجرام، قاله السمين أي يميلون ويحرفون ويعدلون به عن القصد، ويعطفون، وتحريف الكلام تقليبه عن وجهه لأن المحرف يلوي لسانه عن سنن الصواب بما يأتي به من عند نفسه.
والألسنة جمع لسان، وهذا على لغة من يذكره، وأما على لغة من يؤنثه فيقول هذه لسان فإنه يجمع على ألسن، وقال الفراء لم نسمعه من العرب إلا مذكراً، ويعبر باللسان عن الكلام لأنه ينشأ منه وفيه ويجري فيه أيضاً التذكير والتأنيث.
(لتحسبوه) أي لتظنوا أن المحرف الذي جاؤوا به (من الكتاب) الذي أنزله الله على أنبيائه (وما هو) أي الذي حرفوه وبدلوه (من الكتاب) في الواقع وفي اعتقادهم أيضاً، والجملة حالية (ويقولون) على طريقة التصريح لا بالتورية والتعريض مع ما ذكر من اللي والتحريف (هو) أي المحرف (من عند الله) الحال أنه (ما هو من عند الله) إنما كرر هذا بلفظين مختلفين مع اتحاد المعنى لأجل التأكيد (ويقولون على الله الكذب) أي الأعم مما ذكر من التحريف واللي (وهم يعلمون) أنهم كاذبون مفترون.
قال ابن عباس نزلت في اليهود والنصارى جميعاً، وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا في كتاب الله ما ليس منه.(2/271)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
(ما كان) أي ما ينبغي ولا يستقيم (لبشر) أي جميع بني آدم ولا واحد للفظ بشر كالقوم والرهط، بيان لافترائهم على الأنبياء إثر بيان افترائهم على الله، وإنما قيل " لبشر " إشعاراً بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي تقوّلوه عليه (أن يؤتيه الله الكتاب) الناطق بالحق (والحكم) يعني الفهم والعلم وقيل هو إمضاء الحكم من الله، والأول أولى (والنبوة) يعني المنزلة الرفيعة (ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله) أي هذه المقالة وهو متصف بتلك الصفة وفيه بيان من الله سبحانه لعباده أن النصارى افتروا على عيسى ما لا يصح عنه، ولا ينبغي أن يقوله.
(ولكن) يقول (كونوا ربانيين) قال سيبويه: الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للمبالغة كما يقال لعظيم اللحية لحياني ولعظيم الجمة جماني ولغليظ الرقبة رقباني.
وقيل الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، فكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور، وقال المبرد الربانيون أرباب العلم واحدهم رباني، من قوله ربه يربه فهو ربان إذا دبره وأصلحه، والياء للنسب، فمعنى الرباني العالم بدين الرب القوي التمسك بطاعة الله، وقيل العالم الحكيم أي كونوا ربانيين بسب كونكم عالمين فإن حصول العلم للإنسان والدراسة له يتسبب عنهما الربانية التي هي التعليم للعلم وقوة التمسك بطاعة الله، قال ابن عباس معناه: حكماء علماء.(2/272)
وقيل الرباني العالم الذي يعمل بعلمه، وقيل العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي، وقيل الجامع بين علم البصيرة والسياسة.
ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية اليوم مات رباني هذه الأمة، وقيل هو ولاة الأمر والعلماء، وقال أبو عبيدة أحسب أن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية.
(بما كنتم تعلمون الكتاب) بالتخفيف والتشديد، قال مكي التشديد أبلغ لأن العالم قد يكون عالماً غير معلّم فالتشديد يدل على العلم والتعليم، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط، ويؤيد الأولى (وبما كنتم تدرسون) بالتخفيف.
والحاصل إن من قرأ بالتشديد لزمه أن يحمل الرباني على أمر زائد على العلم والتعليم، هو أن يكون مع ذلك مخلصاً أو حكيما أو حليماً حتى تظهر السببية، ومن قرأ بالتخفيف جاز له أن يحمل الرباني على العالم الذي يعلّم الناس، فيكون المعنى كونوا معلمين بسبب كونكم علماء، وبسبب كونكم تدرسون العلم.
وفي هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل، وإن من أعظم العمل بالعلم تعليمه والإخلاص لله سبحانه، والدراسة مذاكرة العلم والفقه، فدلت الآية على أنّ العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً فمن اشتغل بها لا لهذا المقصود فقد ضاع علمه وخاب سعيه (1).
_________
(1) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حرّ ولا مملوك إلا ولله عز وجل عليه حق أن يتعلم من القرآن ويتفقه في دينه -ثم تلا هذه الآية- ولكن كونوا ربانيين " الآية.
رواه ابن عباس.(2/273)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)(2/274)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
(ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً) أي ليس له أن يأمر بعبادة نفسه ولا أن يأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً بل ينهى عنه، والمعنى يقول ويأمر، وقيل ولا أن يأمركم وقرىء على الاستئناف برفع الراء أي لا يأمركم الله أو محمد أو عيسى أو الأنبياء.
(أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) قاله على طريق التعجب والإنكار يعني لا يقول هذا ولا يفعله، وقد استدل من قال إن سبب نزول الآية استئذان من استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين في أن يسجدوا له.(2/274)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما) بفتح اللام للابتداء وتوكيد معنى القسم الذي في أخذ الميثاق وبكسرها متعلقة بأخذ، وما موصولة على الوجهين أي للذي (آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) وجواب القسم لتؤمنن به ولتنصرنه.
قد اختلف في تفسير هذه الآية فقال سعيد بن جبير وقتادة وطاوس والحسن والسدى أنه أخذ الله ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضاً بالإيمان، ويأمر بعضهم بعضاً بذلك، فهذا معنى النصرة له والإيمان به وهو ظاهر الآية.
فحاصله أن الله أخذ ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر(2/274)
وينصره إن أدركه، وإن لم يدركه يأمر قومه بنصرته إن أدركوه، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الكسائي يجوز أن يكون معناها وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين، ويؤيده قراءة ابن مسعود (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) وقيل في الكلام حذف والمعنى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ليعلّمنّ الناس ما جاءهم من كتاب وحكمة وليأخذنّ على الناس أن يؤمنوا، ودل على هذا الحذف قوله (وأخذتم على ذلكم إصري) قيل إنما أخذ الميثاق في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة وبه قال علي وابن عباس وقتادة والسدى.
وقيل أخذ الميثاق على الأنبياء وأممهم جميعاً في أمره - صلى الله عليه وسلم -، فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد مع المتبوع عهد مع الأتباع، وبه قال علي بن أبي طالب والأول أولى وبه قال كثير من المفسرين، والرسول محمد- صلى الله عليه وسلم - الذي ذكر في التوراة والإنجيل وصفه وشرح فيهما أحواله.
قال البغوي: أخذ الله هذا الميثاق منهم حين استخرج الذرية من صلب آدم، وقال الرازي: هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لله واجب والأول أولى وهو الظاهر من الآية.
(قال) الله تعالى للنبيين (أأقررتم) بالإيمان به والنصر له أو قال كل نبي لأمته أأقررتم، والأول أولى (وأخذتم على ذلك إصري) أي عهدي، والإصر في اللغة الثقل، سمي العهد إصراً لما فيه من التشديد (قالوا أقررنا) بما ألزمتنا من الإيمان برسلك.
(قال) الله تعالى (فاشهدوا) أي أنتم على أنفسكم أو ليشهد بعضكم على بعض، وقيل الخطاب للملائكة، والأول أولى (وأنا معكم) أي على إقراركم وشهادة بعضكم على بعض (من الشاهدين) هذا هو الخبر لأنه محط الفائدة.(2/275)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)(2/276)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
(فمن تولى) أي أعرض عما ذكر (بعد ذلك) الميثاق (فأولئك هم الفاسقون) أي الخارجون عن الطاعة والغائصون في الكفر، وأعاد الضمير في (تولى) مفرداً على لفظ (من) وجمع أولئك حملاً على المعنى.(2/276)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
(أفغير دين الله يبغون) عطف على مقدر أي تتولون فتبغون غير دين الله، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار، وقرأ أبو عمرو وحده يبغون بالتحتية، وترجعون بالفوقية قال لأن للأول خاص، والثاني عام، ففرق بينهما لافتراقهما في المعنى، وكيف يبغون غير دينه (و) الحال أنّ (له أسلم) أي خضع وانقاد (من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً) أي طائعين ومكرهين والطوع الانقياد والاتباع بسهولة، والكره ما فيه مشقة وهو من أسلم مخافة القتل، وإسلامه استسلام منه.
أخرج الطبراني بسند ضعيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وله أسلم) قال أما من في السموات فالملائكة، وأما من في الأرض فمن ولد على الإسلام، وأما كرهاً فمن أتى به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون (1).
وأخرج الديلمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الآية الملائكة أطاعوه في السماء، والأنصار وعبد القيس أطاعوه في الأرض.
_________
(1) ابن كثير 1/ 378.(2/276)
قال ابن عباس: أسلم من في السموات والأرض حين أخذ عليهم الميثاق، وعن قتادة قال أما المؤمن فأسلم طائعاً فنفعه ذلك وقبل منه، وأما الكافر فأسلم حين رأى بأس الله فلم ينفعه ولم يقبل منه فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من ساء خلقه من الرقيق والدواب والصبيان فاقرؤا في أذنه أفغير دين الله يبغون (1).
وأخرج ابن السني في (عمل يوم وليلة) عن يونس بن عبيد قال ليس رجل يكون على دابة صعبة فيقرأ في أذنها أفغير دين الله يبغون الآية إلا ذلت (2) بإذن الله عز وجل (وإليه يرجعون) أي مرجع الخلق كلهم إلى الله يوم القيامة، ففيه وعيد عظيم لمن خالفه في الدنيا.
_________
(1) هذا والذي قبله في النفس منه شيء.
(2) هذا والذي قبله في النفس منه شيء.(2/277)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
(قل آمنا بالله وما أنزل على إبراهيم واسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم) إخبار منه صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه وعن أمته، وإنما خص هؤلاء بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بوجودهم ولم يختلفوا في نبوتهم، وعدّى الإنزال هنا بعلى، وفي البقرة بإلى، لأنه يصح تعديته بكل، فله جهة علو باعتبار ابتدائه وانتهائه باعتبار آخره، وهو باعتبار ابتدائه متعلق بالنبي، وباعتبار انتهائه متعلق بالمكلفين، ولما خص الخطاب هنا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ناسب الاستعلاء، ولما عم هناك جميع المؤمنين ناسبه الانتهاء، والأسباط كانوا اثني عشر وهم أولاد يعقوب وهم بالنسبة لإبراهيم أحفاده لأنهم أولاد ولده، فالمراد بالأسباط هنا الأحفاد لا المعنى اللغوي وهم أولاد البنات.
(لا نفرق بين أحد منهم) كما فرقت اليهود والنصارى فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وقد تقدم تفسير هذه الآية (ونحن له مسلمون) أي منقادون مخلصون موحدون.(2/277)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)(2/278)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
(ومن يبتغ غير الإسلام) العامة على إظهار هذين المثلين لأن بينهما فاصلاً، وهو الياء فلم يلتقيا في الحقيقة، وروي الإدغام مراعاة للفظ، وليس هذا مخصوصاً بهذه الآية بل كلما التقى فيه مثلان يجري فيه الوجهان نحو (يخل لكم، وإن يك كاذباً)، وقد استشكل على هذا نحو (يا قوم مالي، ويا قوم من ينصرني) فإنه لم يرو عن أبي عمرو خلاف في إدغامهما، وكان القياس يقتضي جواز الوجهين، لأن ياء المتكلم فاصلة تقديراً، قاله السمين.
(ديناً فلن يقبل منه) يعني أن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام، وأن كل دين سواه غير مقبول لأن الدين الصحيح ما يرضي الله عن فاعله ويثيبه عليه (وهو في الآخرة من الخاسرين) أي الواقعين في الخسران يوم القيامة وهو حرمان الثواب وحصول العقاب.
أخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول يا رب أنا الصلاة فيقول إنك على خير، وتجيء الصدقة فتقول يا رب أنا الصدقة فيقول إنك على خير، ويجيء الصيام فيقول أنا الصيام، فيقول إنك على خير، ثم تجيء الأعمال، كل ذلك يقول الله إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول يا رب أنت السلام وأنا الإسلام، فيقول إنك على خير، بك اليوم آخذ وبك أعطي، قال الله تعالى في كتابه، يعني هذه الآية (1).
_________
(1) ابن كثير 1/ 379.(2/278)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
(كيف يهدي الله) هذا الاستفهام معناه الجحد أي لا يهدي الله، ونظيره قوله تعالى (كيف يكون للمشركين عهد عند الله) أي لا عهد لهم، ويجوز أن يكون الاستفهام للتعجب والتعظيم لكفرهم بعد الإيمان أو للاستبعاد والتوبيخ فإن الجاحد عن الحق بعد ما وضح له منهمك في الضلال بعيد عن الرشاد، فليس للإنكار حتى يستدل به على عدم توبه المرتد، وإن كان إنكاراً فالاستثناء يمنعه، قاله الكرخي.
(قوماً) إلى الحق (كفروا بعد إيمانهم و) بعدما (شهدوا أن الرسول حق و) بعدما (جاءهم البينات) من كتاب الله سبحانه ومعجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (والله لا يهدي القوم الظالمين) أي كيف يهدى المرتدين والحال أنه لا يهدي من حصل منهم مجرد الظلم لأنفسهم ومنهم الباقون على الكفر، ولا ريب أن ذنب المرتد أشد من ذنب من هو باق على الكفر لأن المرتد قد عرف الحق ثم أعرض عنه عناداً وتمرداً.
عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالمشركين ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل لي من توبه فنزلت هذه الآية إلى قوله (غفور رحيم) فأرسل إليه قومه وأسلم (1)، وروى هذا من طرق، وعنه أيضاً هم أهل الكتاب من اليهود عرفوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ثم كفروا به، وروى نحوه عن الحسن.
_________
(1) رواه النسائى وابن حبان وابن أبي حاتم والطبري والبيهقي والحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي ورواه ايضاً وإسناده صحيح.(2/279)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)(2/280)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)
(أولئك) أي المتصفون بتلك الصفات السابقة (جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة أجمعين خالدين فيها) أي اللعنة أو النار المدلول بها عليها، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة(2/280)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
(لا يخفف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون) يؤخرون ويمهلون.
ثم استثنى التائبين فقال(2/280)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
(إلا الذين تابوا من بعد ذلك) الارتداد (وأصلحوا) بالإسلام ما كان قد أفسدوه من دينهم بالردة، وفيه دليل على قبول توبة المرتد إذا رجع إلى الإسلام مخلصاً، ولا خلاف في ذلك فيما أحفظ وقيل ضمّوا إلى التوبة الأعمال الصالحة لأن التوبة وحدها لا تكفي حتى يضاف إليها العمل الصالح، وقيل أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات، وظاهرهم مع الخلق بالعبادات والطاعات، والأول ألصق بظاهر الآية (فإن الله غفور) لقبائحهم في الدنيا بالستر وقيل بإزالة العذاب (رحيم) في الآخرة بالعفو، وقيل بإعطاء الثواب.(2/280)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
(إن الذين كفروا) بعيسى (بعد إيمانهم) بموسى (ثم ازدادوا كفراً) بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال قتادة وعطاء الخرساني والحسن: نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته، ثم ازدادوا بإقامتهم على كفرهم كفراً بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل ازدادوا كفراً بالذنوب التي اكتسبوها ورجحه ابن جرير الطبري وجعلها في اليهود خاصة.(2/280)
وقيل نزلت في جميع الكفار، وذلك أنهم أشركوا بالله بعد إقرارهم بأن الله خلقهم، ثم ازدادوا كفراً يعني بإقامتهم على الكفر حتى هلكوا، وقيل زيادة كفرهم هو قولهم نتربص بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ريب المنون، وقيل نزلت في أحد عشر رجلاً من أصحاب الحارث بن سويد الذين ارتدوا عن الإسلام، فلما رجع الحارث أقاموا على كفرهم بمكة.
وقد استشكل جماعة من المفسرين قوله تعالى (لن تقبل توبتهم) مع كون التوبة مقبولة كما في الآية الأولى وكما في قوله تعالى (هو الذي يقبل التوبة عن عباده) وغير ذلك فقيل المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت، قال النحاس وهذا قول حسن كما قال تعالى (وليست التوبة للذين يعملون السيآت حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) وبه قال الحسن وقتادة وعطاء والسدي، ومنه حديث: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر (1) ".
وقيل المعنى لن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا لأن الكفر أحبطها، وقيل لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفر إلى كفر آخر، وقال ابن عباس إنهم الذين ارتدوا وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم، والكفر في ضمائرهم.
وقال أبو العالية: هم قوم تابوا من ذنوب عملوها في حال الشرك، ولم يتوبوا من الشرك، وقال مجاهد: لن تقبل توبتهم إذا ماتوا على الكفر، وقال ابن جرير: هو الازدياد على الكفر بعد الكفر لا يقبل الله منه توبة ما أقام على كفره.
(وأولئك هم الضالون) أي هم الذين ضلوا عن سبيل الحق وأخطئوا منهاجه والمراد هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً، والأولى أن يحمل عدم قبول التوبة في هذه الآية على من مات كافراً غير تائب، فكأنه عبر عن الموت على الكفر بعدم قبول التوبة.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 1899.(2/281)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
ويكون قوله(2/282)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
(إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار) في حكم البيان لها، قال ابن عباس: نزلت فيمن مات من أصحاب الحارث على الكفر، وقيل نزلت فيمن مات كافراً من جميع أصناف الكفار من أهل الكتاب وعبدة الأصنام، فالآية عامة فيهم (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً) الملء بالكسر مقدار ما يملأ الشيء، والملء بالفتح مصدر ملأت الشيء والمعنى مقدار ما يملأ الأرض مشرقها ومغربها ذهباً، مع أنه أعز الأشياء وقيمة كل شيء.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً فيقول نعم فيقال له لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك فذلك قوله تعالى (إن الذين كفروا) الآية (1).
(ولو افتدى به) قيل الواو زائدة مقحمة. وقيل الواو للعطف، والمعنى وكذلك لو افتدى من العذاب في الآخرة بملء الأرض ذهباً لن يقبل منه، وهذا آكد في التغليظ لأنه تصريح بنفي القبول في جميع الوجوه، أو المراد بالواو التعميم في الأحوال كأنه قيل لن يقبل منهم في جميع الأحوال ولو في حال افتدائه نفسه في الآخرة.
(أولئك) إشارة إلى من مات على الكفر (لهم) أي استقر لهم (عذاب أليم) مؤلم (وما لهم) أي ما استقر لهم (من ناصرين) يمنعونهم من العذاب، وأتى بناصرين جمعاً لتوافق الفواصل.
_________
(1) مسلم 2805 - البخاري 1574.(2/282)
عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدى به فيقول نعم فيقول أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم عليه السلام أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا الشرك، هذا لفظ مسلم (1).
_________
(1) مسلم 2805.(2/283)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
(لن تنالوا البر) هذا كلام مستأنف خطاب للمؤمنين عقب ذكر ما لا ينفع الكفار، والنيل إدراك الشيء ولحوقه يقال نالني من فلان معروف ينالني أي وصل إلي والنوال العطاء من قولك نولته تنويلاً أي أعطيته.
وقيل هو تناول الشيء باليد يقال نلته أناله نيلاً، قال تعالى (ولا ينالون من عدو نيلاً) وأما النول بالواو فمعناه التناول يقال نلته أنوله أي تناولته وأنلته زيداً أنيله إياه أي ناولته إياه.
والبر فعل الخيرات والعمل الصالح، ففي الآية حذف المضاف أي ثوابه وهو الجنة، وقال ابن مسعود ابن عباس وعطاء وعمرو بن ميمون والسدى: هو الجنة.
فمعنى الآية لن تنالوا العمل الصالح أو الجنة، وقيل التقوى وقيل الطاعة، وقيل الثواب، وأصل البر التوسع في فعل الخير، وقد يستعمل في الصدق وحسن الخلق.
وعن النواس بن سمعان قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم فقال " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس " أخرجه مسلم (1).
والمعنى لن تصلوا ثواب البر المؤدي إلى الجنة (حتى تنفقوا) أي تصدقوا
_________
(1) مسلم 2553.(2/283)
وحتى بمعنى إلى (مما تحبون) أي حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها، ومن تبعيضية؛ وقيل بيانية، وما موصولة أو موصوفة والمراد النفقة في سبل الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات، وقيل المراد الزكاة المفروضة.
قال البيضاوي: أي من المال أو مما يعمه وغيره كبذل الجاه في معاونة الناس، والبدن في طاعة الله، والمهجة في سبيله انتهى وكتعليم العلم.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن أبا طلحة لما نزلت هذه الآية أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن أحب أموالي إليّ بير حاء وأنها صدقة، الحديث وقد روي بألفاظ (1).
وعن ابن عمر لم أجد شيئاً أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت هي حرة لوجه الله، الحديث أخرجه البزار وعبد بن حميد، وكذلك أعتق عمر جارية من سبي جلولاء، وجاء زيد بن حارثة بفرس له يقال له سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال هي صدقة (2).
(وما تنفقوا من شيء) بيان لقوله ما تنفقوا أي ما تنفقوا من أي شيء سواء كان طيباً أو خبيثاً جيداً أو رديئاً فيجازيكم بحسبه، وما شرطية جازمة (فإن الله به عليم) تعليل لجواب الشرط واقع موقعه. وفيه من الترغيب في إنفاق الجيد، والتحذير عن إنفاق الرديء ما لا يخفى.
_________
(1) ابن كثير 1/ 381. زاد المسير 421.
(2) روى البخاري، ومسلم في " الصحيحين " من حديث أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة، فقال: يا رسول الله إن الله يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها حيث أراك الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " بخ بخ، ذاك مال رابح أو رائح [شك الراوي] وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين " فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمه.(2/284)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
(كل الطعام) أي المطعوم (كان حلاً) الحل مصدر يستوي فيه المفرد والجمع والمذكر والمؤنث، وهو الحلال كما أن الحرم لغة في الحرام (لبني إسرائيل) هو يعقوب كما تقدم تحقيقه، يعني أن كل المطعومات كانت حلالاً لبني يعقوب لم يحرم عليهم شيء منها (إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) مستثنى من اسم كان.
وجوز أبو البقاء أن يكون مستثنى من ضمير مستتر في " حلاً " وفيه قولان (أحدهما) أنه متصل والتقدير إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه فحرّم عليهم في التوراة فليس منها ما زادوه من محرمات وادّعوا صحة ذلك (والثاني) أنه منقطع والتقدير لكن حرم إسرائيل على نفسه خاصة ولم يحرمه عليهم، والأول هو الصحيح قاله السمين.
أخرج الترمذي وحسّنه عن ابن عباس أن اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه قال: كان يسكن البدو فاشتكى عرق النّسا فلم يجد شيئاً يلائمه إلا تحريم الإبل وألبانها فلذلك حرمها قالوا صدقت وذكر الحديث، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي (1).
وفي رواية عنه الذي حرم إسرائيل على نفسه زائدتا الكبد والكليتان والشحم إلا ما كان على الظهر.
وعرق النسا بفتح النون والقصر عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ، قاله الكرخي ودواؤه ما ذكره القرطبي ونصه أخرج الثعلبي في تفسيره من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عرق النسا تؤخذ إلية كبش
_________
(1) ابن كثير 1/ 382.(2/285)
عربي لا صغير ولا كبير فتقطع قطعاً صغاراً وتسلأ على النار ويؤخذ دهنها فيجعل ثلاثة أقسام يشرب المريض بذلك الداء على الريق كل يوم ثلثاً.
قال أنس فوصفته لأكثر من مائة كلهم يبرأ بإذن الله تعالى.
وفيه رد على اليهود لما أنكروا ما قصه الله سبحانه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أن سبب ما حرّمه عليهم هو ظلمهم وبغيهم كما في قوله: (فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلّت لهم) الآية وقوله (وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما، إلا قوله، ذلك جزيناهم ببغيهم) وقالوا إنها محرمة على من قبلهم من الأنبياء نوح وإبراهيم ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا كما حرمت على من قبلنا، يريدون بذلك تكذيب ما قصه الله سبحانه على نبينا - صلى الله عليه وسلم - في كتابه العزيز.
(من قبل أن تنزّل التوراة) فإنها ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب إسرائيل وذلك بعد إبراهيم بألف سنة ولم يكن على عهده حراماً كما زعموا، وإنما قال " من قبل " لأن بعد نزولها حرم الله عليهم أشياء من أنواع الطعام.
ثم أمر الله سبحانه بأن يحاجّهم بكتابهم ويجعل بينه وبينهم حكماً ما أنزله الله عليهم لا ما أنزل عليه فقال: (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها) حتى تعلموا صدق ما قصّه الله في القرآن من أنه لم يحرم على بني إسرائيل شيء من قبل نزول التوراة إلا ما حرمه يعقوب على نفسه (إن كنتم صادقين) في دعواكم أنه تحريم قديم.
روى أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فلم يأتوا بها وخافوا الفضيحة وبهتوا، وفي هذا من الإنصاف للخصوم ما لا يقادر قدره ولا تبلغ مداه، وفيه من الحجة النيرة على صدق النبي وجواز النسخ الذي يجحدونه ما لا يخفى.(2/286)
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)(2/287)
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
(فمن افترى) الافتراء اختلاق الكذب والقذف والإفساد أصله من فرى الأديم إذا قطعه لأن الكاذب يقطع القول من غير حقيقة له في الوجود، وقال البيضاوي: افترى أي ابتدع، والجملة استئنافية أو منصوبة المحل، ومن شرطية أو موصولة (على الله الكذب من بعد ذلك) أي إحضار التوراة وتلاوتها متعلق بافترى، وهذا هو الظاهر أو بالكذب وجوزه أبو البقاء (فأولئك) فيه مراعاة معنى " من " كما في افترى مراعاة لفظها (هم الظالمون) أي المفرطون في الظلم المتبالغون فيه، فإنه لا أظلم ممن حوكم إلى كتابه وما يعتقده شرعاً صحيحاً ثم جادل من بعد ذلك مفترياً على الله الكذب.
ثم لما كان ما يفترونه من الكذب بعد قيام الحجة عليهم بكتابهم باطلاً مدفوعاً، وكان ما قصه الله سبحانه في القرآن وصدّقته التوراة صحيحاً صادقاً، وكان ثبوت هذا الصدق بالبرهان الذي لا يستطيع الخصم دفعه، أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينادي لصدق الله بعد أن سجّل عليهم بالكذب فقال.(2/287)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
(قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم) أي ملة الإسلام التي أنا عليها (حنيفاً) قد تقدم معنى الحنيف كأنه قال لهم إذا تبين لكم صدقي وصدق ما جئت به فادخلوا في ديني فإن من جملة ما أنزله الله علي (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه).
(وما كان) في أمر من أمور دينه أصلاً وفرعاً (من المشركين) الذين يدعون من الله إله آخر، ويعبدون سواه.(2/287)
وفيه تعريض بإشراك اليهود، تصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - ليس بينه وبينهم علاقة دينية قطعاً، والغرض بيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - على دين إبراهيم في الأصول لأنه لا يدعو إلا إلى التوحيد، والبراءة عن كل معبود سبحانه وتعالى قاله الكرخي.(2/288)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
(إن أول بيت) هذا شروع في بيان شيء آخر مما جادلت فيه اليهود بالباطل، وذلك أنهم قالوا إن بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لكونه مهاجر الأنبياء وأرض المحشر، وفي الأرض المقدسة وقبلتهم فرد الله ذلك عليهم، ونبّه تعالى بكونه أول متعبّد على أنه أفضل من غيره - والأول هو الفرد السابق المتقدم على ما سواه، وقيل هو اسم للشيء الذي يوجد ابتداء سواء حصل عقيبه شيء آخر أو لم يحصل.
قال علي كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله قبل خلق آدم بألفي عام، ووضع بعده الأقصى وبينهما أربعون سنة كما في حديث الصحيحين، وهذا يقتضي أن الأقصى، بنته الملائكة أيضاً .. وقد اختلف في الباني له في الابتداء فقيل الملائكة، وقيل آدم، وقيل إبراهيم، ويجمع بين ذلك بأن أول من بناه الملائكة ثم جدده آدم ثم إبراهيم.
(وضِع للناس) أي جميعهم كما قال (سواء العاكف فيه والباد) وضعه الله موضعاً للطاعات والعبادات، وقبلة للصلاة ومقصداً للحج والعمرة، ومكاناً للطواف تزداد فيه الخيرات وثواب الحسنات وأجر الطاعات.
(للّذي ببكّة) بكة علم للبلد الحرام وكذا مكة وهما لغتان، فإن العرب تعاقب بين الباء والميم كلازب ولازم، ونبيت ونميت، اسم موضع، وراتب وراتم، وقيل أن بكة اسم لموضع البيت، ومكة اسم للبلد الحرام، وقيل بكة للمسجد ومكة للحرم كله، قيل سميت بذلك لأنها كانت تبك أي تدق أعناق الجبابرة.(2/288)
وأما تسميتها بمكة فقيل سميت بذلك لقلة مائها. وقيل لأنها تمكّ المخ من العظم بما ينال سكانها من المشقة، ومنه مككت العظم إذا أخرجت ما فيه، ومكّ الفصيل ضرع أمه وامتكه إذا امتصّه، وقيل سميت بذلك لأنها تمك من ظلم فيها أي تهلكه، وقيل لأنها تمك الذنوب أي تزيلها وتمحوها.
(مباركاً) يعني ذا بركة، وأصل البركة النمو والزيادة، والبركة هنا كثرة الخير الحاصل لمن استقر فيه أو يقصده أي الثواب المتضاعف. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام " أخرجه البخاري ومسلم (1).
(وهدى للعالمين) أي لأنه قبلة للمؤمنين يهتدون به إلى جهة صلاتهم، وقيل لأن فيه دلالة على وجود الصانع المختار لما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره، وقيل هدى لهم إلى الجنة.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول، قال: المسجد الحرام، قلت ثم أي قال المسجد الأقصى، قلت كم بينهما قال أربعون سنة (2).
وعن ابن عمر قال خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، " وكان إذ كان عرشه على الماء زبدة بيضاء وكانت الأرض تحته كأنها حشفة فدحيت الأرض من تحته " أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب وابن جرير وابن المنذر.
_________
(1) مسلم 1394 البخاري 646.
(2) مسلم 520 البخاري 1589.(2/289)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
(فيه آيات بينات) أي دلالات واضحات على حرمته ومزيد فضله واحترامه، منها الصفا والمروة ومنها أثر القدم في الصخرة الصماء، ومنها أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني كان الخصب في اليمن؟ وإذا كان بناحية الشامي كان الخصب في الشام، وإذا عم البيت في جميع البلدان، ومنها انحراف الطيور عن أن تمر على هوائه في جميع الأزمان، ومنها إهلاك من يقصده من الجبابرة؛ ومنها الحجر الأسود والملتزم وزمزم ومشاعر الحج.
ومنها أن الآمر ببناء هذا البيت هو الله الجليل، والمهندس له جبريل، والباني هو إبراهيم الخليل، والمساعد في بنيانه هو اسمعيل، وهذه فضيلة عظيمة له، وغير ذلك من الآيات، وقد أوضحتها في كتابي (رحلة الصديق إلى البيت العتيق) فليرجع إليه، وهذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
(مقام إبراهيم) يعني الحجر الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت وكان فيه أثر قدمي إبراهيم فاندرس من كثرة المسح بالأيدي.
وقد استشكل صاحب الكشاف بيان الآيات وهي جمع، بالمقام وهو فرد، وأجاب بأن المقام جعل وحده بمنزله آيات لقوة شأنه أو بأنه مشتمل على آيات، قال ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، لأن الإثنين نوع من الجمع، وقال ابن عطية والراجح عندي أن المقام وأمن الداخلين جعلا مثالاً لما في حرم الله تعالى من الآيات، وخصا بالذكر لعظمهما وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم.(2/290)
(ومن دخله كان آمناً) جمله مستأنفة من حيث اللفظ لبيان حكم من أحكام الحرم وهو أن من دخله كان آمناً، ومن حيث المعنى معطوفة على مقام إبراهيم الذي هو مبتدأ محذوف الخبر أي ومنها أمن داخله، ومن شرطية أو موصولة، وبه استدل من قال أن من لجأ إلى الحرم وقد وجب عليه حد من الحدود فإنه لا يقام عليه حتى لا يخرج منه، وهو قول أبي حنيفة ومن تابعه، وخالفه الجمهور، وقالوا تقام عليه الحدود من الحرم، وبه قال الشافعي.
وقد قال جماعة إن الآية خبر في معنى الأمر أي ومن دخله فأمنوه كقوله: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا.
أخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال كان هذا في الجاهلية كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يطلب، فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله، من سرق فيه قطع، ومن زنى فيه أقيم عليه الحد، ومن قتل فيه قتل.
وعن عمر بن الخطاب قال لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه، وعن ابن عباس من عاذ بالبيت أعاذه البيت ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى، فإذا خرج أخذ بذنبه، وروى عنه هذا المعنى من طرق، أخرجه ابن جرير وغيره.
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي شريح العدوى قال قام النبي - صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح فقال: إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لإمرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي في ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس (1).
_________
(1) مسلم 1354 البخاري 89.(2/291)
وقيل المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان آمناً. وقيل من دخله معظماً له متقرباً بذلك إلى الله كان آمناً من العذاب يوم القيامة.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً (1). وعنه: الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة ذكرهما أبو السعود ولم يخرجهما، وقيل آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك، والأول أولى.
(ولله على الناس حج البيت) اللام في قوله (لله) هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام، ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف " على " فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب، كما إذا قال القائل لفلان علي كذا، فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه وتعظيماً لحرمته.
وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل كالصبي والعبد، والمعنى ولله على الناس فرض حج البيت، والناس عام مخصوص بالمستطيع قد خصص ببدل البعض وهو قوله (من استطاع) لأنه من المخصصات عند الأصوليين.
والحج بكسر الحاء وفتحها لغتان سبعيتان في مصدر حج بمعنى قصد، والحج أحد أركان الإسلام، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة. وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان " أخرجه البخاري ومسلم (2)، فعد النبي صلى الله عليه وسلم الحج من أركان الإسلام الخمسة.
_________
(1) الترمذي الباب 102 من كتاب الحج والنسائي الباب 41 من كتاب الجنائز.
(2) مسلم 16 - البخاري 8.(2/292)
وقد ورد في فضله وفضل البيت والعمرة أحاديث منها عن أبي سعيد الخدري قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى ". أخرجه الشيخان (1).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " أخرجه البخاري ومسلم (2)، وفي الباب أحاديث لا نطيل بذكرها، وقد ذكرنا طرفاً منها في كتابنا رحلة الصديق.
(من استطاع إليه سبيلاً) يعني من وجد السبيل إلى حج البيت الحرام من أهل التكليف لأنه المحدث عنه، وإن كان يحتمل رجوع الضمير للبيت.
لكن الأول أولى.
وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي، فقيل الزاد والراحلة، وبه فسره - صلى الله عليه وسلم -، رواه الحاكم وغيره، وإليه ذهب جماعة من الصحابة، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم (3)، وهو الحق، وقال مالك إن الرجل إذا وثق بقوته لزمه الحج وإن لم يكن له زاد ولا راحلة إذا كان يقدر على الكسب. وبه قال ابن الزبير والشعبي وعكرمة، وقال الضحاك إن كان شاباً قوياً صحيحاً وليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه.
ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولاً أولياً أن تكون الطريق إلى الحج آمنة بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله الذي لا يجد زاداً غيره، أما لو كانت غير آمنة فلا استطاعة لأن الله سبحانه يقول: (من استطاع إليه سبيلاً) وهذا الخائف على نفسه وماله لم يستطع إليه سبيلاً بلا شك وشبهة.
_________
(1) مسلم 1397 - البخاري 645.
(2) مسلم 1349 - البخاري 905.
(3) ابن كثير 1/ 386.(2/293)
وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج فقال الشافعي لا يعطي حبة ويسقط عنه فرض الحج، ووافقه جماعة، وخالفه آخرون، والظاهر أن من تمكن من الزاد والراحلة وكانت الطريق آمنة بحيث يتمكن من مرورها ولو بمصانعة بعض الظلمة بدفع شيء من المال يتمكن منه الحاج ولا ينقص من زاده ولا يجحف به فالحج غير ساقط عنه بل واجب عليه، لأنه قد استطاع السبيل بدفع شيء من المال.
ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جملة ما يتوقف عليه الاستطاعة، فلو وجد الرجل زاداً وراحلة، ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق، لم يجب عليه الحج لأنه لم يستطع إليه سبيلاً، وهذا لا بد منه، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فإنه قد تعذر المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون.
ولعل وجه قول الشافعي أنه يسقط الحج أن أخذ هذا المكس منكر فلا يجب على الحاج أن يدخل في منكر، وأنه بذلك غير مستطيع.
ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة أن يكون الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب، فلو كان زمناً بحيث لا يقدر على المشي ولا على الركوب فهذا وإن وجد الزاد والراحلة فهو لم يستطع السبيل.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير الاستطاعة أنها الزاد والراحلة بطرق كثيرة عن جماعة من الصحابة عند أهل السنن وغيرهم.
وأقل أحوال هذا الحديث أن يكون حسناً لغيره فلا يضره ما وقع الكلام على بعض طرقه كما هو معروف.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم النهي للمرأة أن تسافر بغير ذي(2/294)
رحم محرم، واختلفت الأحاديث في قدر المدة، ففي لفظ ثلاثة أيام وفي لفظ يوم وليلة وفي لفظ بريد، وقد ذكر بعض المفسرين ههنا أحكاماً تتعلق بالحج وأطال في ذكرها، ومحلها كتب الفروع فلا نذكرها.
(ومن كفر) " من " شرطية وهو الظاهر أو موصولة قيل إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج تأكيداً لوجوبه وتشديداً على تاركه، وقيل المعنى ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجباً، وقيل أن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر، وعن ابن عمر: من كفر بالله واليوم الآخر، وعن ابن زيد من كفر بهذه الآيات.
وعن ابن مسعود ومن كفر فلم يؤمن فهو الكافر، وقيل هو الذي إن حج لم يره براً، وإن قعد لم يره إثماً، وقيل نزلت في اليهود وغيرهم من أصحاب الملل. قالوا الحج غير واجب وكفروا به، وعلى هذا تكون الآية متعلقة بما قبلها، وقيل إنه كلام مستأنف كما تقدم عن ابن عمر.
(فإن الله غني عن العالمين) الإنس والجن والملائكة وعن عبادتهم، وبالجملة في قوله هذا من الدلالة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة وخذلانه وبعده من الله سبحانه ما يتعاظمه سامعه ويرجف له قلبه، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ومصلحتهم، وهو تعالى شأنه وتقدس سلطانه غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع.
وقد وردت أحاديث في تشديد الوعيد على من ملك زاداً وراحلة ولم يحج فأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج بيت الله فلا عليه بأن يموت يهودياً أو
نصرانياً (1)؛ وذلك بأن الله يقول (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 5872. تخريج مشكاة المصابيح/2521.(2/295)
سبيلاً، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين).
وفي إسناده هلال الخراساني أبو هاشم، قال البخاري منكر الحديث، وقيل هو مجهول، وقال ابن عدي هذا الحديث ليس بمحفوظ، وفي إسناده أيضاً الحارث الأعور وفيه ضعف.
وقد ذكره الشوكاني في الموضوعات ثم قال: وقد حكم ابن الجوزي بضعفه ودفعه الحافظ ابن حجر بما هو معروف.
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد في كتاب الإيمان وأبو يعلى والبيهقي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً (1) ".
وأخرج سعيد ابن منصور قال السيوطي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم، ما هم بمسلمين.
وأخرج الإسماعيلي عنه يقول من أطاق ولم يحج فسواء عليه يهودياً مات أو نصرانياً، قال ابن كثير بعد أن ساق إسناده: وهذا إسناد صحيح (2).
وعن ابن عمر من مات وهو موسر ولم يحج جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب كافر، وعنه من وجد إلى الحج سبيلاً سنة ثم سنة ثم سنة ثم مات ولم يحج لم يصل عليه ولا يدري مات يهودياً أو نصرانياً.
وعن عمر بن الخطاب قال لو ترك الناس الحج لقاتلتهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة، ومن شاء استيفاء مسائله فليرجع إلى كتابي (رحلة الصديق إلى البيت العتيق).
_________
(1) الدارمي كتاب المناسك الباب الثاني.
(2) ابن كثير 1/ 386.(2/296)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)(2/297)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)
(قل يا أهل الكتاب) خطاب لليهود والنصارى، وقيل لعلمائهم الذين علموا صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتخصيصهم بالخطاب دليل على أن كفرهم أوضح وإن زعموا أنهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل فهم كافرون بهما.
(لم تكفرون بآيات الله) الدالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره، وقيل المراد بها القرآن، وقيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والاستفهام للإنكار والتوبيخ لأن يكون لكفرهم بها سبب من الأسباب (والله شهيد على ما تعملون) هذه الجملة الحالية مؤكدة للتوبيخ والإنكار؛ وهكذا المجيء بصيغة المبالغة في " شهيد " يفيد مزيد التشديد والتهويل.(2/297)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
(قل يا أهل الكتاب) أمر بتوبيخهم بإضلال غيرهم بعد توبيخهم بضلالهم (لم تصدون عن سبيل الله) الاستفهام يفيد ما أفاده الاستفهام الأول وكانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون في صدهم عن الإسلام، ويقولون إن صفة محمد ليست في كتابنا ولا تقدمت به بشارة، وصد وأصد لغتان بمعنى تغير وأنتن، وسبيل الله دينه الذي ارتضاه لعباده وهو دين الإسلام.
(من آمن) منهم بالفعل أو من أراد الإيمان من الكفار (تبغونهما عوجاً) بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أن فيه ميلاً إلى الحق بنفي النسخ وتغيير صفة الرسول عن وجهها وغير ذلك، أي تبغون لأجلها عوجاً، والعوج الميل(2/297)
والزيغ، يقال عوج بالكسر إذا كان في الدين والقول والعمل، وبالفتح في الأجسام كالجدار ونحوه، روى ذلك عن أبي عبيدة وغيره.
والمعنى تطلبون لها اعوجاجاً وميلاً عن القصد والإستقامة بإيهامكم على الناس بأنها كذلك تنفيقاً لتحريفكم، وتقويماً لدعاويكم الباطلة، والهاء في تبغونها عائدة على السبيل، والسبيل يذكر ويؤنث، ومن التأنيث هذه الآية وقوله تعالى (هذه سبيلي).
(وأنتم شهداء) جملة حالية أي والحال أنكم عالمون بأن الدين المرضي القيم هو دين الإسلام كما في كتابكم، يعني كيف تطلبون ذلك بملة الإسلام والحال أنكم تشهدون أنها دين الله الذي لا يقبل غيره، وأن فيها نعت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل المراد وأنتم العقلاء، وقيل المعنى وأنتم شهداء بين أهل دينكم مقبولون عندهم، فكيف تأتون بالباطل الذي يخالف ما أنتم عليه بين أهل دينكم، وقيل وأنتم تشهدون المعجزات التي تظهر على يد محمد - صلى الله عليه وسلم - الدالة على نبوته.
(وما الله بغافل عما تعملون) فيه وعيد شديد وتهديد لهم، وذلك أنهم لما كانوا يجتهدون ويحتالون بإلقاء الشبهة في قلوب الناس ليصدوهم عن سبيل الله والتصديق بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بطريق الخفية، ختمت الآية الكريمة بما يحسم مادة حيلتهم من إحاطة علمه تعالى بأعمالهم، كما أن كفرهم بآيات الله لما كان بطريق العلانية ختمت الآية السابقة بشهادته تعالى على ما يعملون.(2/298)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
ثم توعدهم سبحانه بقوله(2/299)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) خاطب سبحانه المؤمنين محذراً لهم عن طاعة اليهود والنصارى مبيناً لهم أن تلك الطاعة تفضي إلى أن يردوهم ويصيروهم بعد إيمانهم كافرين، والكفر يوجب الهلاك في الدنيا بوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة والحرب وسفك الدماء، وفي الآخرة النار.(2/299)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
(وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) الاستفهام للإنكار والاستبعاد أي من أين يأتيكم ذلك ولديكم ما يمنع منه، ويقطع أثره، وهو تلاوة آيات الله عليكم أي القرآن الذي فيه بيان الحق والباطل، وكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يبين الحق ويدفع الشبهة بين أظهركم.
وقيل (كيف) كلمة تعجب وتوبيخ والمراد منه المنع والتغليظ، قال قتادة في هذه الآية علمان بينان كتاب الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد مضى، وأما كتاب الله فقد أبقاه الله بين أظهركم رحمة منه ونعمة.
وقال الزجاج يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كان فيهم وهم يشاهدونه، ويجوز أن يكون الخطاب لجميع(2/299)
الأمة لأن آثاره وعلامته والقرآن الذي أوتيه فينا فكأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا وإن لم نشاهده أ- هـ.
ثم أرشدهم إلى الإعتصام بالله ليحصل لهم بذلك الهداية إلى الصراط المستقيم الذي هو الإسلام فقال.
(ومن يعتصم بالله) أي ممتنع بالله ويستمسك بدينه وطاعته، وقيل بالقرآن، وأصل العصمة الامتناع من الوقوع في آفة يقال اعتصم به واستعصم وتمسك واستمسك إذا امتنع به من غيره، وعصمه الطعام منع الجوع منه، وفيه حث لهم في الإلتجاء إلى الله في دفع شر الكفار عنهم (فقد هدي إلى صراط مستقيم) أي طريق واضح وهو طريق الحق المؤدي إلى الجنة، وفي وصف الصراط بالاستقامة رد على ما ادعوه من العوج.(2/300)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) أي التقوى التي تحق له وهي أن لا يترك العبد شيئاً مما يلزمه فعله، ولا يفعل شيئاً مما يلزمه تركه، ويبذل في ذلك جهده ومستطاعه.
قال القرطبي ذكر المفسرون أنها لما نزلت هذه الآية قالوا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يقوى على هذا، وشق عليهم ذلك فأنزل الله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) فنسخت هذه الآية روي ذلك عن قتادة والربيع وابن زيد، قال مقاتل وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذا.
وقيل إن قوله اتقوا الله مبين لقوله (فاتقوا الله ما استطعتم) والمعنى اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، قال وهذا أصوب لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع، والجمع ممكن فهو أولى.
قال ابن عباس في الآية هو أن يطاع فلا يعصى؛ ويشكر فلا يكفر ويذكر(2/300)
فلا ينسى؟ وقال مجاهد هو أن تجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لومة لائم. وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم.
قال أنس لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه؛ وقيل (حق تقاته) واجب تقواه وهو القيام بالواجب واجتناب المحارم؛ وقيل غير ذلك؛ وتقاة مصدر وهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها إذ الأصل اتقوا الله التقاة الحق أي الثابتة.
(ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تكونوا على حال سوى حال الإسلام؛ وجاءت الحال جملة اسمية لأنها ابلغ وآكد؛ ولو قيل إلا مسلمين لم يفد هذا التأكيد.
قال السيوطي في التحبير: من عجيب ما اشتهر في تفسير (مسلمون) قول العوام أي متزوجون وهو قول لا يعرف له أصل ولا يجوز الإقدام على تفسير كلام الله بمجرد ما يحدث في النفس أو يسمع ممن لا عمدة عليه انتهى.
وقد تقدم في البقرة مثل هذه الآية وهو نهي في الصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة، والمراد دوامهم على الإسلام وذلك أن الموت لا بد منه فكأنه قيل دوموا على الإسلام إلى الموت، وقريب منه ما حكى عن سيبويه " لا أرينك ههنا أي لا تكن بالحضرة فيقع عليك رؤيتي ".
عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية فقال لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه، أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (1).
_________
(1) ابن كثير 1/ 388. صحيح الجامع/5126.(2/301)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
(واعتصموا بحبل الله جميعاً) الحبل لفظ مشترك وأصله في اللغة السبب الذي يتوصل به إلى البغية، وهو إما تمثيل أو استعارة مصرحة أصلية تحقيقية، أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام أو بالقرآن.
وقد وردت أحاديث بأن كتاب الله هو حبل الله، وأن القرآن هو حبل الله المتين (1)، قال أبو العالية: بالإخلاص لله وحده. وعن الحسن بطاعته، وعن قتادة بعهده وأمره، وعن ابن زيد بالإسلام.
(ولا تفرقوا) بعد الإسلام كما تفرقت اليهود والنصارى أو كما كنتم في الجاهلية متدابرين. وقيل لا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الإجتماع، والمعنى نهاهم عن التفرق الناشىء عن الاختلاف في الدين، وعن الفرقة، لأن كل ذلك عادة أهل الجاهلية.
(واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخواناً) أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم؛ لأن الشكر على الفعل أبلغ من الشكر على أثره، وبين لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام وهو أنهم كانوا أعداء مختلفين يقتل بعضهم بعضاً وينهب بعضهم بعضاً، فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخواناً في الدين، والولاية، ومعنى أصبحتم صرتم وليس المراد به معناه الأصلي وهو الدخول في وقت الصباح.
_________
(1) رواه الطبري وإسناده صحيح ولفظه: " إن الصراط تحضره الشياطين ينادون يا عبد الله هلم هذا الطريق ليصدوا في سبيل الله، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله هو كتاب الله.(2/302)
وعن ابن جريج في الآية قال: ما كان بين الأوس والخزرج في شأن عائشة، قال ابن عباس كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة حتى قام الإسلام وأطفأ الله ذلك وألف بينهم.
(وكنتم) يا معشر الأوس والخزرج (على شفا) طرف (حفرة من النار) يعني ليس بينكم وبين الوقوع في النار إلا أن تموتوا على كفركم، ففي الكلام تشبيه، وشفا كل شيء حرفه وهو مقصور من ذوات الواو وجمعه أشفاء ويثنى بالواو نحو شفوان، ويستعمل مضافاً إلى أعلا الشيء وأسفله، فمن الأول شفا جرف، ومن الثاني هذه الآية، وأشفى على كذا أي قاربه، ومنه أشفى المريض على الموت.
قال يعقوب: يقال للرجل عند موته، وللقمر عند انمحاقه، وللشمس عند غروبها ما بقي منه أو منها إلا شفا أي إلا قليل.
(فأنقذكم منها) أي من هذه الحفرة بالإسلام، وهو تمثيل للحالة التي كانوا عليها في الجاهلية، قال السدي: يقول كنتم على طرف النار من مات منكم وقع في النار، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم واستنقذكم به من تلك الحفرة، وقيل منها أي من الشفا لأنه المحدث عنه، وتأنيث الضمير لاكتساب المضاف التأنيث من المضاف إليه.
(كذلك) إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده أي مثل ذلك البيان البليغ (يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) إرشاد لهم إلى الثبات على الهدى والإزدياد منه.(2/303)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)(2/304)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) كلمة " من " للتبعيض وقيل لبيان الجنس، وقيل للتبيين، وقيل زائدة ورجح القرطبي الأول بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات يختص بأهل العلم الذين يعرفون كون ما يأمرون به معروفاً، وما ينهون عنه منكراً، وقد عينهم الله سبحانه بقوله: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة) الآية.
وروى ابن مردويه عن أبي جعفر الباقر عنه صلى الله عليه وآله وسلم الخير اتباع القرآن وسنتي.
وعن أبي العالية قال: كل آية ذكرها الله في القرآن في الأمر بالمعروف فهو الإسلام، والنهي عن المنكر، فهو عبادة الأوثان والشيطان انتهى، وهو تخصيص بغير مخصص، فليس في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يدل على ذلك.
وقال مقاتل بن حيان يدعون إلى الإسلام، ويأمرون بطاعة ربهم، وينهون عن معصية ربهم، وعن الضحاك في الآية قال هم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وهم الرواة انتهى.
ولا أدري ما وجه هذا التخصيص، فالخطاب في هذه الآية كالخطاب بسائر الأمور التي شرعها الله لعباده وكلفهم بها.
وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم(2/304)
من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها.
(ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) هذا من باب عطف الخاص على العام إظهاراً لشرفهما وإنهما الفردان الكاملان من الخير الذي أمر الله به عباده بالدعاء إليه، كما قيل في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وحذف متعلق الأفعال الثلاثة أي يدعون ويأمرون وينهون لقصد التعميم أي كل من وقع منه سب يقتضي ذلك، والمعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل والشرع حسنه، والمنكر ضد ذلك، وهو ما عرف بالعقل والشرع قبحه.
(وأولئك) إشارة إلى الأمة باعتبار اتصافها بما ذكر بعدها (هم المفلحون) أي المختصون بالفلاح الكاملون فيه الفائزون، وتعريف المفلحين للعهد أو للحقيقة التي يعرفها كل أحد.(2/305)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا) هم اليهود والنصارى عند جمهور المفسرين فقد تفرق كل منهما فرقاً، واختلف كل منهما باستخراج التأويلات الزائغة وكتم الآيات النافعة وتحريفها لما أخلدوا إليه من حطام الدنيا، وقيل هم المبتدعة من هذه الأمة، وقيل الحرورية، والظاهر الأول.
وقيل وهذا النهي عن التفرق والاختلاف يختص بالمسائل الأصولية، وأما المسائل الفروعية الاجتهادية فالاختلاف فيها جائز، وما زال الصحابة فمن بعدهم من التابعين وتابعيهم مختلفين في أحكام الحوادث. وفيه نظر، فإنه ما زال في تلك العصور المنكر للاختلاف موجوداً، وتخصيص بعض المسائل بجواز الاختلاف فيها دون البعض الآخر ليس بصواب، فالمسائل الشرعيه متساوية الأقدام في انتسابها إلى الشرع.
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت(2/305)
النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاوية مرفوعاً نحوه، وزاد: كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وأخرج الحاكم عن ابن عمر مرفوعاً نحوه أيضاً وزاد: كلهم في النار إلا ملة واحدة فقيل له ما الواحدة قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي (1).
وأخرج ابن ماجة عن عوف بن مالك مرفوعاً نحوه وفيه فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار قيل يا رسول الله فمن هم قال الجماعة، وأخرجه أحمد من حديث أنس، وفيه قيل يا رسول الله من تلك الفرقة قال الجماعة.
وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الأمر بالكون في الجماعة والنهي عن الفرقة.
(من بعد ما جاءهم البينات) يعني الحجج الواضحات المبينات للحق الموجبات لعدم الاختلاف والفرقة فعلموها ثم خالفوها، ولم يقل (جاءتهم) لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل في التقديم تشبيهاً بعلامة التثنية والجمع (وأولئك لهم) أي لهؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا (عذاب عظيم) في الآخرة، فيه زجر عظيم للمؤمنين عن التفرق والاختلاف.
عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من " عنقه " أخرجه أبو داود (2)، وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة، فإن الشيطان مع الفذ وهو من الإثنين أبعد "، رواه البغوي بسنده.
_________
(1) المستدرك كتاب الإيمان 1/ 6.
(2) صحيح الجامع الصغير 6286. المشكاة/185.(2/306)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)(2/307)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
(يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) أي اذكر يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة، ووجوه الكافرين مسودة، يقال إن ذلك عند قراءة الكتاب إذا قرأ المؤمن كتابه رأى حسناته فاستبشر وابيض وجهه.
وإذا قرأ الكافر كتابه رأى سيآته فحزن واسود وجهه، والتنكير في وجوه للتكثير أي وجوه كثيرة.
عن ابن عباس قال تبيض وجوه أهل السنة والجماعة. وتسود وجوه أهل البدعة والضلالة، وروي نحوه عن ابن عمر وأبي سعيد، قيل إن البياض كناية عن الفرح والسرور، والسواد كناية عن الغم والحزن، وقيل هما حقيقة تحصلان في الوجه.
(فأما الذين اسودت وجوههم) تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإشارة إليها إجمالاً وتقديم بيان حال الكفار لما أن المقام مقام التحذير عن التشبه بهم مع ما فيه من الجمع بين الإجمال والتفصيل، والإفضاء إلى ختم الكلام بحسن حال المؤمنين كما بدأ بذلك عند الإجمال، ففي الآية حسن ابتداء وحسن اختتام، قيل هم أهل الكتاب، وقيل المرتدون، وقيل المبتدعون، وقيل الكافرون فيلقون في النار ويقال لهم:
(أكفرتم) الهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم (بعد إيمانكم) قال أبو السعود والظاهر أن المخاطبين بهذا القول أهل الكتابين، وكفرهم بعد إيمانهم كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إيمان أسلافهم، أو إيمان أنفسهم(2/307)
به قبل مبعثه، أو جميع الكفرة حيث كفروا بعدما أقروا بالتوحيد يوم أخذ الميثاق في عالم الذر، أو بعدما تمكنوا من الإيمان بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة انتهى.
وقال الحسن هم المنافقون، وقال عكرمة هم أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل مبعثه ثم كفروا به. وقيل الذين ارتدوا زمن أبي بكر (فذوقوا العذاب) أمر إهانة وهو من باب الاستعارة ففي (فذوقوا) استعارة تبعية تخييلية وفي العذاب استعارة مكنية حيث شبه العذاب بشيٍء يدرك بحاسة الأكل والذوق تصوراً بصورة ما يذاق، وأثبت له الذوق تخييلاً، قاله الكرخي.
(بما كنتم تكفرون) صريح في أن نفس الذوق معلل بذلك، فهو مسبب عنه، بخلاف دخول الجة الآتي فلم يذكر له سبب إشارة أنه بمحض فضل الله.(2/308)
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
(وأما الذين ابيضت وجوههم) يعني المؤمنين المطيعين لله عز وجل (ففي رحمة الله) أي فهم مستقرون في جنته ودار كرامته، عبر عن ذلك بالرحمة إشارة إلى أن العمل لا يستقل بدخول صاحبه الجنة، بل لا بد من الرحمة، ومنه حديث لن يدخل أحد الجنة بعمله وهو في الصحيح (هم فيها خالدون) جملة استئنافية بيانية كأنه قيل فما حالهم فيها.
عن أبي بن كعب قال صاروا فرقتين يوم القيامة يقال لمن اسود وجهه أكفرتم بعد إيمانكم فهو الإيمان الذي كان في صلب آدم حيث كانوا أمة واحدة. وأما الذين ابيضت وجوههم فهم الذين استقاموا على إيمانهم وأخلصوا له الدين فبيض الله وجوههم وأدخلهم في رضوانه وجنته. وقد روي غير ذلك.(2/308)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)(2/309)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
(تلك آيات الله) أي القرآن المشتمل على نعيم الأبرار وتعذيب الكفار أو التي تقدمت (نتلوها عليك) يا محمد متلبسة (بالحق) وهو العدل جملة حالية (وما الله يريد ظلماً للعالمين) جملة تذييلية مقررة لمضمون ما قبلها.
وفي توجه النفي إلى الإرادة الواقعة على النكرة دليل على أنه سبحانه لا يريد فرداً من أفراد الظلم الواقعة على فرد من أفراد العالم فضلاً أن يفعله، وفاعله محذوف أي ظلمه للعالمين، وأما ظلم بعضهم بعضاً فواقع كثيراً وكل واقع فهو بإرادته، واللام في " للعالمين " زائدة لا تعلق لها بشيء.(2/309)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
(ولله) وحده (ما في السموات وما في الأرض) أي مخلوقاته سبحانه يتصرف فيها كيف يشاء وعلى ما يريد، وعبر " بما " تغليباً لغير العقلاء على العقلاء لكثرتها أو لتنزيل العقلاء منزلة غيرهم إظهاراً لحقارتهم في بيان مقام عظمته تعالى.
قال المهدوي: وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين وأنه لا يريد ظلماً للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما في السموات والأرض في قبضته، وقيل هو ابتداء كلام يتضمن البيان لعباده بأن جميع ما في السموات والأرض له ملكاً وخلقاً وعبيداً حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره.
(وإلى الله) أي إلى حكمه وقضائه لا إلى غيره لا شركة ولا استقلالاً (ترجع) أي تصير (الأمور) أي أموركم.(2/309)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
(كنتم خير أمة) هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هذه الأمة في الفضل على غيرها من الأمم، سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوة إلا الخير و (كان) قيل هي التامة أي وجدتم وخلقتم خير أمة. ومنه قوله تعالى (كيف تكلم من كان في المهد صبياً) وقوله (واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم) وقيل ناقصة.
قال الأخفش: أهل ملة أي خير أهل دين، وقيل معناه كنتم في اللوح المحفوظ. وقيل كنتم منذ آمنتم. وقيل كنتم في علم الله خير أمة، وقيل كنتم مذكورين في الأمم الماضية بأنكم خير أمة، وقيل كنتم بمعنى أنتم، وقيل يقال لهم عند دخول الجنة كنتم خير أمة، وقيل المعنى صرتم خير أمة.
وفيه دليل على أن هذه الأمة الإسلامية خير الأمم على الإطلاق، وأن هذه الخيرية مشتركة بين أول هذه الأمة وآخرها بالنسبة إلى غيرها من الأمم، وإن كانت متفاضلة في ذات بينها كما ورد في فضل الصحابة على غيرهم.
(أخرجت) أي أظهرت (للناس) أي لنفعهم ومصالحهم في جميع الأعصار حتى تميزت وعرفت (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) كلام مستأنف يتضمن بيان كونهم خير أمة مع ما يشتمل عليه من أنهم خير أمة ما أقاموا على ذلك واتصفوا به فإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال عنهم ذلك. ولهذا قال مجاهد إنهم خير أمة على الشرائط المذكورة في الآية.(2/310)
وهذا يقتضي أن يكون (تأمرون) وما بعده في محل النصب على الحال أي كنتم خير أمة حال كونكم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر مؤمنين بالله وبما يجب عليكم الإيمان به من كتابه ورسوله وما شرعه لعباده. فإنه لا يتم الإيمان بالله سبحانه إلا بالإيمان بهذه الأمور.
قال ابن عباس في الآية: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال عمر بن الخطاب لو شاء الله لقال أنتم فكنا كلنا، ولكن قال كنتم في خاصة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن صنع مثل صنعهم كانوا خير أمة، وفي لفظ عنه يكون لأولنا ولا يكون لآخرنا وأيضاً قال يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله منها.
وقال عكرمة: نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل، وقال أبو هريرة خير الناس: الناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام، أخرجه البخاري وغيره (1).
وعن معاوية بن حيدة أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الآية أنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها، رواه الترمذي وحسنه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه والطبراني وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وروي من حديث معاذ وأبي سعيد ونحوه.
وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما أنه يدخل من هذه الأمة الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب، وهذا من فوائد كونها خير الأمم (2).
_________
(1) أخرجه البخاري 8/ 169 موقوفاً وهو في حكم المرفوع: عجب الله عز وجل من قوم يدخلون الجنة في سلاسل.
(2) من هذه الأحاديث ما روي عن أبي هريرة: [ص:312] يدخل الجنة من أمتي زمرة وهم سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر وفي رواية: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب هم الذي لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون.(2/311)
(ولو آمن أهل الكتاب) أي اليهود والنصارى إيماناً كإيمان المسلمين بالله ورسله وكتبه (لكان خيراً لهم) من الرياسة التي هم عليها؛ وقيل من الكفر الذي هم عليه، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل قالوا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؛ وإنما حملهم على ذلك حب الرياسة واستتباع العوام، فالخيرية إنما هي باعتبار زعمهم، وفيه ضرب تهكم بهم، ولم يتعرض للمؤمن به إشعاراً بشهرته قاله أبو السعود.
وقال الكرخي: لكان هذا الإيمان خيراً لهم من الإيمان بموسى وعيسى فقط وحينئذ فأفعل التفضيل على بابه، أو هو لبيان أن الإيمان فاضل كما في قوله تعالى: (أفمن يلقى في النار خير).
ثم بين حال أهل الكتاب بقوله (منهم المؤمنون) وهم الذين آمنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم، فإنهم آمنوا بما أنزل عليه وما أنزل قبله كابن سلام وأصحابه من اليهود، والنجاشي وأصحابه من النصارى (وأكثرهم الفاسقون) أي الخارجون عن طريق الحق المتمردون في باطلهم، المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولما جاء به، فيكون هذا التفصيل على هذا كلاماً مستانفاً جواباً عن سؤال مقدر كأنه قيل هل منهم من آمن واستحق ما وعده الله، وعبر عن كفرهم بالفسق إشارة إلى أنهم فسقوا في دينهم أيضاً فليسوا عدولاً فيه فخرجوا عن الإسلام وعن دينهم.(2/312)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)(2/313)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
(لن يضروكم) أي اليهود يا معشر المسلمين بنوع من أنواع الضرر (إلا) بنوع (أذى) وهو الكذب والتحريف والبهت، ولا يقدرون على الضرر الذي هو الضرر في الحقيقة بالحرب والنهب ونحوهما، فالاستثناء مفرغ، قال الحسن: تسمعون منهم كذباً على الله يدعونكم إلى الضلالة.
وهذا وعد من الله لرسوله وللمؤمنين أن أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم، وقيل الاستثناء منقطع، والمعنى لن يضروكم البتة لكن يؤذونكم يعني باللسان من طعنهم في دينكم أو تهديد أو إلقاء شبهة وتشكيك في القلوب، وكل ذلك يوجب الأذى والغم.
ثم بين سبحانه ما نفاه من الضرر بقوله (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار) أي ينهزمون ولا يقدرون على مقاومتكم فضلاً عن أن يضروكم (ثم لا ينصرون) أي لا يوجد لهم نصر ولا يثبت لهم غلب في حال من الأحوال، بل شأنهم الخذلان ما داموا، ولكن النصر عليهم.
وقد وجدنا ما وعدنا سبحانه حقاً، فإن اليهود لم يخفق لهم راية نصر ولا اجتمع لهم جيش غلب بعد نزول هذه الآية فهي من معجزات النبوة.(2/313)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
(ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا) قد تقدم في البقرة معنى هذا التركيب والمعنى صارت الذلة محيطة بهم في كل حال وعلى كل تقدير، في أي مكان وجدوا، كالشيء يضرب على الشيء فيلتصق به، والمراد بالذلة قتلهم وسبيهم وغنيمة أموالهم، وقيل الذلة ضرب الجزية عليهم لأنها ذلة وصغار،(2/313)
وقيل ذل التمسك بالباطل، وقيل ذلتهم أنك لا ترى في اليهود ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً بل هم مستضعفون بين المسلمين والنصارى في جميع البلاد.
(إلا) أن يعتصموا (بحبل من الله) قاله الفراء أي بذمة الله أو بكتابه، قال الزجاج: هو استثناء منقطع، وقيل هو استثناء مفرغ من الأحوال العامة، قال الزمخشري: هو استثناء من أعم الأحوال والمعنى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله انتهى، أي بعهد من الله وهو أن يسلموا فتزول عنهم الذلة.
(وحبل) أي بذمة (من الناس) وهم المسلمون ببذل الجزية، وقيل المراد بالناس النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة (وباؤا) رجعوا وقيل احتملوا، وأصل معناه في اللغة اللزوم والاستحقاق (بغضب) أي لزمهم غضب (من الله) وهم مستحقون له (وضربت عليهم المسكنة) أحاطت بهم من جميع الجوانب، قال الحسن: المسكنة هي الجزية، وعن قتادة والحسن قالا يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وعن الضحاك نحوه.
وقيل المعنى أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان موسراً، وهكذا حال اليهود فإنهم تحت الفقر المدقع والمسكنة الشديدة إلا النادر الشاذ منهم.
(ذلك) أي ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة والغضب وقع عليهم (بأنهم) أي بسبب أنهم (كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء) إسناد القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم لرضاهم به كما أن التحريف مع كونه فعل أحبارهم ينسب إلى كل من يسير بسيرتهم (بغير حق) أي في اعتقادهم أيضاً.
(ذلك) أي الكفر وقتل الأنبياء (بما عصوا وكانوا يعتدون) أي بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده، ومعنى الآية أن الله ضرب عليهم الذلة والمسكنة والبواء بالغضب منه لكونهم كفروا بآياته، وقتلوا أنبياءه، بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله على الاستمرار، فإن الإصرار على الصغائر يفضي إلى الكبائر، وهي تفضي إلى الكفر، عن ابن جريج قال: إشراكهم في عزير وعيسى والصليب.(2/314)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)(2/315)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
(ليسوا سواء) أي هم غير مستوين بل مختلفون، والجملة مستأنفة سيقت لبيان التفاوت بين أهل الكتاب، وقوله (من أهل الكتاب أمة قائمة) هو استئناف أيضاً يتضمن بيان الجهة التي تفاوتوا فيها من كون بعضهم أمة قائمة إلى قوله (من الصالحين).
قال الأخفش: التقدير من أهل الكتاب ذو أمة أي ذو طريقة حسنة، وبه قال الزجاج، وقيل في الكلام حذف والتقدير من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة فترك الأخرى اكتفاء بالأولى، وقال الفراء التقدير ليس تستوي أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله وأمة كافرة، وقال النحاس: هذا القول خطأ انتهى.
وعندي أن ما قاله الفراء قوي قويم، وحاصله أن معنى الآية لا تستوي أمة من أهل الكتاب شأنها كذا وأمة أخرى شأنها كذا، والقائمة المستقيمة العادلة من قولهم أقمت العود فقام أي استقام، عن ابن عباس يقول: مهتدية قائمة من أمر الله لم تنزع عنه ولم تتركه كما تركه الآخرون وضيعوه، وقيل قائمة على كتاب الله وحدوده، وقيل قائمة في الصلاة.
(يتلون آيات الله) أي يقرؤن كتابه (آناء الليل) أي ساعاته، وقال ابن عباس جوف الليل، واحدها أنى بفتح الهمزة والنون بزنة عصا أو إني بكسر الهمزة وفتح النون بوزن معي أو أنى بالفتح والسكون بوزن ظبي، أو أني بوزن حمل أو أنو بزنة جرو، وكل واحد من هذه المفردات الخمس يطلق على الساعة من الزمان كما يؤخذ من القاموس.(2/315)
(وهم يسجدون) ظاهره أن التلاوة كائنة منهم في حال السجود، ولا يصح ذلك إذا كان المراد بهذه الأمة الموصوفة في الآية هم من قد أسلم من أهل الكتاب، لأنه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن قراءة القرآن في السجود، فلا بد من تأويل هذا الظاهر بأن المراد بقوله وهم يسجدون وهم يصلون كما قاله الفراء والزجاج، وإنما عبر بالسجود عن مجموع الصلاة لا فيه من الخضوع والتذلل (1).
وظاهر هذا أنهم يتلون آيات الله في صلاتهم من غير تخصيص لتلك الصلاة بصلاة معينة، وقيل المراد بها الصلاة بين العشاءين، وقيل صلاة الليل مطلقاً.
_________
(1) زاد المسير 1/ 442.(2/316)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
(يؤمنون بالله) وكتبه ورسله، ورأس ذلك الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم " (واليوم الآخر) " والإيمان به يستلزم الحذر من فعل المعاصي، وهم لا يحترزون منها فلم يحصل الإيمان الخالص بالله وباليوم الآخر " (ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) " صفتان أيضاً لأمة أي أن هذا من شأنهم وصفتهم، وظاهره يفيد أنهم يأمرون وينهون على العموم، وقيل المراد أمرهم باتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونهيهم عن مخالفته.
(ويسارعون في الخيرات) أي يبادرون بها غير متثاقلين عن تأديتها لمعرفتهم بقدر ثوابها، والسرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه، وإن العجلة ليست مذمومة على الإطلاق، قال الله تعالى (وعجلت إليك رب لترضى) (وأولئك) أي الأمة الموصوفة بتلك الصفات (من الصالحين) أي من جملتهم، وقيل من بمعنى (مع) وهم الصحابة والظاهر أن المراد كل صالح.(2/316)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)(2/317)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
(وما يفعلوا من خير) أيّ خير كان (فلن يكفروه) أي لن تعدموا ثوابه كأنه قيل فلن تحرموه كما قاله الزمخشري، بل يشكره لكم ويجازيكم به، وفيه تعريض بكفرانهم نعمته وأنه تعالى لا يفعل مثل فعلهم، وجيء به على لفظ المبني للمفعول لتنزيهه عن إسناد الكفر إليه، وقرىء بالياء التحتيه في الفعلين.
(والله عليم بالمتقين) أي كل من ثبتت له صفة التقوى؛ وقيل المراد من تقدم ذكره وهم الأمة الموصوفة بتلك الصفات، ووضع الظاهر موضع المضمر مدحاً لهم، ورفعاً من شأنهم، وفيه بشارة لهم بجزيل الثواب، ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل الإيمان والتقوى.(2/317)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
(إن الذين كفروا) قيل هم بنو قريظة والنضير، قالى مقاتل: لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم في هذه الآية، وقيل نزلت في مشركي قريش فإن أبا جهل كثير الإفتخار بالأموال، وأنفق أبو سفيان مالاً كثيراً في يومي بدر وأحد على المشركين، والظاهر أن المراد بذلك كل من كفر بما يجب الإيمان به لأن اللفظ عام، ولا دليل يوجب التخصيص فوجب إجراء اللفظ على عمومه.
(لن تغني) أي لن تدفع (عنهم أموالهم) بالفدية ولو افتدوا بها من عذاب الله (ولا أولادهم) بالنصر، وإنما خص الأولاد لأنهم أحب القرابة وأرجاهم لدفع ما ينوبهم (من الله شيئاً) أي لا ينفعهم شيء من ذلك في الآخرة ولا مخلص لهم من عذاب الله، وخصهما بالذكر لأن الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال، وتارة بالاستعانة بالأولاد (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) لا يخرجون منها ولا يفارقونها.(2/317)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
(مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا) بيان لكيفية عدم إغناء أموالهم التي كانوا يعولون عليها في جلب المنافع ودفع المضار، قيل أراد نفقة أبي سفيان وأصحابه ببدر وأحد في معاداة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل أراد نفقة اليهود على علمائهم ورؤسائهم، وقيل أراد نفقات جميع الكفار وصدقاتهم في الدنيا، وقيل أراد نفقة المرائي الذي لا يريد بها وجه الله.
(كمثل ريح فيها صرّ) الصرّ البرد الشديد، وهو قول أكثر المفسرين، وبه قال ابن عباس وقتادة والسدى وابن زيد، وأصله من الصرير الذي هو الصوت فهو صوت الريح الشديد البارد، وقال الزجاج: الصر صوت لهب النار التي في تلك الريح وبه قال ابن الأنباري من أهل اللغة، وقيل هو الحر الشديد المحرق، فظرفية الريح له واضحة والتشبيه على الوجهين صحيح، والمقصود منه حاصل لأنها سواء كان فيها برد فهي مهلكة، أو حر فهي محرقة.
(أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم) بالكفر والمعاصي (فأهلكته) أي الريح الزرع، ومعنى الآية مثل نفقة الكافرين في بطلانها وذهابها وقت الحاجة إليها وعدم منفعتها كمثل زرع أصابه ريح باردة أو نار حارة فأحرقته أو أهلكته فلم ينتفع أصحابه بشيء منه بعد أن كانوا على طمع من نفعه وفائدته، وعلى هذا فلا بد من تقدير في جانب المشبه به فيقال كمثل زرع أصابته ريح أو مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح.
(وما ظلمهم الله) بأن لم يقبل نفقاتهم (ولكن أنفسهم يظلمون) أي بالكفر المانع من قبول النفقة التي أنفقوها، وتقديم المفعول لرعاية الفواصل لا للتخصيص، لأن الكلام في الفعل باعتبار تعلقه بالفاعل لا بالمفعول، وهذا في جانب المشبّه وهم الكفار، وقوله سابقاً (ظلموا أنفسهم) في جانب المشبه به وهم أصحاب الزرع فلا تكرار.(2/318)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)(2/319)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة) البطانة مصدر يسمى به الواحد والجمع وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله البطن الذي هو خلاف الظهر، وبطن فلان يبطن بطوناً وبطانة إذا كان خاصاً به.
(من دونكم) أي سواكم قاله الفراء أي من دون المسلمين وهم الكفار أي بطانة كائنة من دونكم أي من غيركم، وقدّره الزمخشري من غير أبناء جنسكم وهم المسلمون وقيل من زائدة أي دونكم في العمل والإيمان.
قال ابن عباس: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم لخوف الفتنة عليهم منهم هذه الآية، وعنه قال هم المنافقون.
وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال هم الخوارج، قال السيوطي وسنده جيد وقيل المراد بهذه جميع أصناف الكفار وهو الأولى ويدخل فيه من هو سبب النزول دخولاً أولياً.
(لا يألونكم خبالاً) مستأنفة مبينة لحالهم داعية إلى الاجتناب عنهم. أو صفة لبطانة أي لا يقصرون ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد،(2/319)
يقال لا آلوك جهداً أي لا أقصر والمراد لا يمنعونكم خبالاً، والخبال والخبل الفساد في الأفعال والأبدان والعقول.
(ودّوا ما عنتّم) أي ما يشق عليكم من الضرر والشرر والهلاك، والعنت المشقة وشدة الضرر، قال الراغب هنا المعاندة والمعانتة متقاربان لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة هي أن يتحرى مع الممانعة المشقة، والجملة مستأنفة مؤكدة للنهي.
(قد بدت البغضاء) هي شدة البغض كالضرّاء لشدة الضر (من أفواههم) الأفواه جمع فم والمعنى أنها قد ظهرت البغضاء في كلامهم، لأنهم لما خامرهم من شدة البغض والحسد أظهرت ألسنتهم ما في صدورهم، فتركوا التقية وصرحوا بالتكذيب، أما اليهود فالأمر في ذلك واضح، وأما المنافقون فكان يظهر من فلتات ألسنتهم ما يكشف عن خبث طويتهم، وهذه الجملة مستأنفة لبيان حالهم.
(وما تخفي صدورهم) من العداوة والغيظ (أكبر) مما يظهرونه لأن فلتات اللسان أقل مما تجنّه الصدور، بل تلك الفلتات بالنسبة إلى ما في الصدور قليلة جداً.
ثم إنه سبحانه امتنّ عليهم ببيان الآيات الدالة على وجوب الإخلاص إن كانوا من أهل العقول المدركة لذلك البيان فقال (قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون) أي تتّعظون به.(2/320)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
(ها أنتم أولاء) الخاطئون في موالاتهم ثم بينّ خطأهم بتلك الموالاة بهذه الجملة التذييلية فقال (تحبونهم ولا يحبونكم) قيل تحبونهم لما أظهروا لكم الإيمان أو لما بينكم وبينهم من القرابة ولا يحبونكم لما قد استحكم في صدورهم من الغيظ والحسد.(2/320)
(وتؤمنون بالكتاب كله) أي جنس الكتاب جميعاً أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتب الله سبحانه التي من جملتها كتابهم، فما بالكم تحبونهم ولا يؤمنون بكتابكم، وفيه توبيخ لهم شديد، لأن من بيده الحق أحق بالصلابة والشدة ممن هو على الباطل.
(وإذا لقوكم قالوا) نفاقاً وتقية (آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم) أي لأجلكم، والعض الإمساك بالأسنان أي تحامل الأسنان بعضها على بعض والعض كله بالضاد إلا في قولهم عظ الزمان أي اشتد وعظت الحرب أي اشتدت فإنهما بالظاء أخت الطاء (الأنامل) جمع أنملة وهي طرف الأصبع (من الغيظ) أي تأسفاً وتحسراً حيث عجزوا عن الإنتقام منكم، والعرب تصف النادم والمغتاظ مجازاً بعضّ الأنامل والبنان. ومن لابتداء الغاية أو بمعنى اللام أي من أجل الغيظ والغيظ مصدر غاظه يغيظه أي أغضبه والتغيظ إظهار الغيظ، وقد يكون مع ذلك صوت، قال تعالى: (سمعوا لها تغيظاً وزفيراً) قاله السمين.
ثم أمره الله سبحانه بأن يدعو عليهم فقال (قل موتوا بغيظكم) وهو دعاء يتضمن استمرار غيظهم ما داموا في الحياة بتضاعف قوة الإسلام وأهله حتى يأتيهم الموت وهم عليه، والباء للملابسة أي متلبسين بغيظكم (إن الله عليم بذات الصدور) أي الخواطر القائمة بها والدواعي والصوارف الموجودة فيها. وهو كلام داخل تحت قوله (قل) فهو من جملة المقول أو مستأنفة أخبر الله بذلك لأنهم كانوا يخفون غيظهم ما أمكنوا فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد، وذات هنا تأنيث ذي بمعنى صاحبة الصدور، وجعلت صاحبة لها لملازمتها لها وعدم انفكاكها نحو أصحاب الجنة وأصحاب النار، والمراد بها المضمرات.(2/321)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)(2/322)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
(إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) هذه الجملة مستأنفة لبيان تناهي عداوتهم إلى كل حسنة، وأصل المس الجس باليد ثم يطلق على كل ما يصل إلى الشيء على سبيل التشبيه كما يقال مسه نصب وتعب، قاله الخازن وحسنة وسيئة تعمّان كل ما يحسن وما يسوء، وعبر بالمس في الحسنة وبالإصابة في السيئة للدلالة على أن مجرد مس الحسنة تحصل به المساءة ولا يفرحون إلا بإصالة السيئة، وقيل أن المس مستعار لمعنى الإصابة.
قال مقاتل: الحسنة النصر على العدو والرزق والخير ومنافع الدنيا، والسيئة القتل والهزيمة والجهد والجدب، ومعنى الآية أن من كانت هذه حالته لم يكن أهلاً لأن يتخذ بطانة.
(وأن تصبروا) على عداوتهم وأذاهم أو على التكاليف الشاقة (وتتقوا) الله في موالاتهم أو ما حرّمه الله عليكم (لا يضركم) وقرىء بكسر الضاد وسكون الراء يقال ضارّه يضيره ويضوره ضيراً بمعنى ضره يضره (كيدهم شيئاً) والكيد احتيالك لتوقع غيرك في مكروه، والمعنى لا يضركم شيئاً من الضرر بفضل الله وحفظه.
(إن الله بما يعملون) من الكيد، على قراءة الياء وعليها اتفق العشرة أو من الصبر والتقوى على قراءة التاء وهي شاذة للحسن البصري (محيط) أي حافظ له لا يعزب عنه شيء منه.(2/322)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
(و) اذكر (إذ غدوت من أهلك) أي من المنزل الذي فيه أهلك يعني عائشة، وفيه منقبة عظيمة لها رضي الله عنها لقوله (من أهلك) فنصّ الله تعالى على أنها من أهله، قد ذهب الجمهور إلى أنّ هذه الآية نزلت في غزوة أحد، وقالى الحسن: في يوم بدر وفي رواية عنه يوم الأحزاب، قالى ابن جرير الطبري الأول الأصح للآية الآتية.
وقد اتفق العلماء على أن ذلك كان يوم أحد وبه قال عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عباس والزهري وقتادة والسدي والربيع وابن اسحق، وقال مجاهد ومقاتل والكلبي في غزوة الخندق.
(تبوّىء المؤمنين) أي تنزلهم أو تهيىء وتسوي لهم (مقاعد للقتال) وأصل التبوّء اتخاذ المنزل يقال بوأته منزلاً إذا أسكنته أياه، ومعنى الآية واذكر إذ خرجت من منزل أهلك تتخذ للمؤمنين مراكز وأماكن يقعدون ويقفون فيها للقتال.
وعبّر عن الخروج بالغدو الذي هو الخروج غدوة مع كونه - صلى الله عليه وسلم - خرج بعد صلاة الجمعة لأنه قد يعبر بالغدو والرواح عن الخروج والدخول من غير اعتبار أصل معناهما، كما يقال أضحى وإن لم يكن في وقت الضحى.
وقد ورد في كتب التاريخ والسير كيفية الاختلاف في المشورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم أحد، فمن قائل نخرج إليهم، ومن قائل نبقى في المدينة فخرج، وكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران فيها صفة ما كان في يومه ذلك، ومعاتبة من عاتب منهم يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم (وإذ غدوت من أهلك) أي يوم أحد (والله سميع) لأقوالكم (عليم) بنيّاتكم وما في ضمائركم.(2/323)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)(2/324)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
(إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا) أي تجبنا وتضعفا عن القتال، والطائفتان بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر يوم أحد، والفشل الجبن، وقيل هو في الرأي العجز وفي البدن الإعياء وعدم النهوض، وفي الحرب الجبن والخور، والفعل منه بكسر العين من باب تعب، وتفاشل الماء إذا سال.
والهمّ من الطائفتين كان بعد الخروج، والمراد بالهم هنا حديث النفس، والله تعالى لا يؤاخذ به ويعضده قول ابن عباس: أنهم أضمروا أن يرجعوا لما رجع عبد الله بن أبي بمن معه من المنافقين، فحفظ الله قلوب المؤمنين فلم يرجعوا، وذلك قوله (والله وليهما) أي ناصرهما وحافظهما ومتولي أمرهما بالتوفيق والعصمة.
(وعلى الله فليتوكل المؤمنون) التوكل التفعّل من وكل أمره إلى غيره إذا اعتمد عليه في كفايته والقيام به، وقيل التوكل هو العجز والاعتماد على الغير، وقيل هو تفويض الأمر إلى الله بحسن تدبيره، فأمرهم الله أن لا يفوضوا أمرهم إلا إليه، وتقديم الظرف للاختصاص ولتناسب رؤوس الآي.(2/324)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
(ولقد نصركم الله ببدر) جملة مستأنفة سيقت لتصبيرهم بتذكير ما يترتب على الصبر من النصر وهو العون، وبدر اسم لماء كان في موضع الوقعة، وقيل هو اسم الموضع نفسه، وقيل موضع بين مكة والمدينة وكانت وقعتها في السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية، وسيأتي سياق قصة بدر في الأنفال إن شاء الله تعالى.(2/324)
(وأنتم أذلة) جمع قلة ومعناه أنهم كانوا بسب قلتهم أذلة وهو جمع ذليل، استعير للقلة إذ لم يكونوا في أنفسهم أذلة بل كانوا أعزة، قال الحسن: وأنتم قليل وهم يومئذ بضعة عشر وثلاثمائة، وكان عدوهم من كفار قريش زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس، وكان معهم السلاح والشوكة، وكان المؤمنون في ضعف الحال وقلة السلاح والمركوب وقلة المال، خرجوا على نواضح وكان أكثرهم رجّالة، ولم يكن معهم إلا فرس، وكان النفر منهم يتعقب على البعير الواحد.
وقد شرح أهل التاريخ والسير غزوة بدر وأحد بأتم شرح فلا حاجة لنا في سياق ذلك ههنا.
(فاتقوا الله) في الثبات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لعلكم تشكرون) ما أنعم عليكم من نصرته.(2/325)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
(إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين) هذا للإنكار منه صلى الله عليه وآله وسلم عليهم عدم اكتفائهم بذلك المدد من الملائكة، وجيء بلن دون " لا " لأنها أبلغ في النفي، ومعنى الكفاية سد الخلة والقيام بالأمر، والإمداد في الأصل إعطاء الشيء حالاً بعد حال.
قال قتادة هذا كان يوم بدر أمدّهم الله بألف ملائكة ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف، وقيل كان هذا يوم أحد، وهو قول عكرمة والضحاك ومقاتل، والأول أولى وهو الراجح (1).
_________
(1) وسيأتي تفصيل ذلك في تفسيره سورة براءة إن شاء الله.(2/325)
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
(بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا) أصل الفور القصد إلى الشيء والأخذ فيه بجد وهو من قولهم فارت القدر تفور فوراً إذا غلت، والفور الغليان، وفاز غضبه إذا جاش وفعله من فوره أي قبل أن يسكن، والفوارة ما يفور من القدر استعير للسرعة أي إن يأتوكم من ساعتهم هذه (يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة) في حال إتيانهم لا يتأخر عن ذلك (مسوّمين) أي معلمين بعلامات أو معلمين أنفسهم بعلامة على المبني المفعول أو الفاعل ورجح ابن جرير الأخير.
والتسويم إظهار سيما الشيء قال كثير من المفسرين مسوّمين أي مرسلين خيلهم في الغارة، وقيل إن الملائكة اعتمت بعمائم بيض، وقيل حمر، وقيل خضر، وقيل صفر، فهذه هي العلامة التي علموا بها أنفسهم حكي ذلك عن الزجاج.
وقيل كانوا على خيل بلق، وقيل غير ذلك، وفي بيان التسويم عن السلف اختلاف كثير لا يتعلق به كثير فائدة.
قال ابن عباس لم تقاتل الملائكة في معركة إلا يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عدداً ومدداً. قال الحسن هؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين إلى يوم القيامة.
وقد سئل السبكي عن الحكمة في قتال الملائكة مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه.
وأجاب: بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبي وأصحابه وتكون الملائكة مدداً على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب التي أجراها الله تعالى في عباده، والله فاعل الجميع انتهى.(2/326)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)(2/327)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
(وما جعله الله) أي الإمداد أو التسويم أو الانزال، ورجح الأول صاحب الكشاف (إلا بشرى لكم) استثناء مفرغ من أعم العام والبشرى اسم من البشارة وهي الإخبار بما يسر (ولتطمئن قلوبكم به) أي لتسكن، واللام لام كي، جعل الله ذلك الإمداد بشرى بالنصر، وطمأنينة للقلوب وفي قصر الإمداد عليهما إشارة إلى عدم مباشرة الملائكة للقتال يومئذ.
(وما النصر إلا من عند الله) لا من عند غيره فلا ينفع كثرة القاتلة وجودة العدة، والغرض أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة الذين أمدوا بهم، وفيه تنبيه على الأعراض عن الأسباب والإقبال على مسببها (العزيز الحكيم) فاستعينوا به وتوكلوا عليه.(2/327)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
(ليقطع طرفاً من الذين كفروا) الطرف الطائفة والمعنى نصركم الله ببدر ليقطع ويهلك طائفة من الكفار ويهدم ركناً من أركان الشرك بالقتل والأسر.
فقتل يوم بدر من قادتهم وسادتهم سبعون، وأسر سبعون.
ومن حمل الآية على غزوة أحد قال قد قتل منهم ستة عشر، وكان النصر فيه للمسلمين حتى خالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(أو يكبتهم) يحزنهم والمكبوت المحزون، وقال الكرخي: يذلهم، أشار به إلى أن الكبت من الذلة يقال كبت الله العدو كبتاً أي أذله وصرفه.
وقال بعض أهل اللغة: معناه يكبدهم أي يصيبهم بالحزن والغيظ في أكبادهم وهو غير صحيح فإن معنى كبت أحزن وأغاظ وأذل، ومعنى كبد أصاب الكبد وأصل الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه، والمراد منه القتل والهزيمة والإهلاك أو اللعن أو الخزي (فينقلبوا خائبين) أي غير ظافرين بمطلبهم.(2/327)
عن قتادة قال قطع الله يوم بدر طرفاً من الكفار وقتل صناديدهم ورؤوسهم وقادتهم بالبشر، وعنه قال هذا يوم بدر قطع الله طائفة منهم وبقيت طائفة، وعن السدي ذكر الله قتلى المشركين بأحد وكانوا ثمانية عشر رجلاً فقال " ليقطع طرفاً " ثم ذكر الشهداء فقال " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ".
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كسرت رباعيّته يوم أحد وشجّ في وجهه حتى سال الدم، فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم (1)، فأنزل الله
_________
(1) مسلم 1791.(2/328)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
(ليس لك في الأمر شيء) أي لست تملك إصلاحهم ولا تعذيبهم بل ذلك ملك الله فاصبر (أو يتوب عليهم) بالإسلام (أو يعذبهم) بالقتل والأسر والنهب (فإنهم ظالمون) بالكفر وقد روى هذا المعنى في روايات كثيرة.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل ابن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية، وللحديث ألفاظ وطرق (1).
ومعنى الآية أن الله مالك أمرهم يصنع بهم ما يشاء من الإهلاك أو الهزيمة أو التوبة إن أسلموا، أو العذاب إن أصروا على الكفر، وقال الفراء (أو) بمعنى إلا. والمعنى إلا أن يتوب عليهم فتفرح بذلك أو يعذبهم فتشتفي بهم.
وقال السيوطي أو بمعنى (إلى أن) يعني غاية في الصبر، أي إلى أن يتوب عليهم، قيل نزلت في أهل بئر معونة وهم سبعون رجلاً من الغزاة بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعلموا الناس القرآن فقتلهم عامر بن الطفيل فوجد (2) من ذلك وجداً شديداً وقنت شهراً الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن، وفي الباب أحاديث في الصحيحين لا نطول بذكرها.
_________
(1) مسلم 1794 - البخاري 179.
(2) أي حزن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -).(2/328)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)(2/329)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
(ولله ما في السموات وما في الأرض) هذا كالدليل على قوله ليس لك من الأمر شيء الخ (يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) كلام مستأنف لبيان سعة ملكه أي يفعل في ملكه ما يشاء من المغفرة والعذاب، ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وفي قوله (والله غفور رحيم) إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه وتبشير لعباده بأنه المتصف بالمغفرة والرحمة على وجه المبالغة، وما أوقع هذا التذييل الجليل وأحبّه إلى قلوب العارفين بأسرار التنزيل.(2/329)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا) قيل هو كلام مبتدأ للترهيب والترغيب فيما ذكر، وقيل هو اعتراض بين أثناء قصة أحد.
وقوله (أضعافاً مضاعفة) ليس لتقييد النهي لما هو معلوم من تحريمه على كل حال ولكنه جيء به باعتبار ما كانوا عليه من العادة التي يعتادونها في الربا فإنهم كانوا يربون إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في المال مقداراً يتراضون عليه ثم يزيدون في أجل الدين فكانوا يفعلون ذلك مرة بعد مرة حتى يأخذ المربي أضعاف دينه الذي كان له في الابتداء، وفيه إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عام، والمبالغة في هذه العبارة تفيد تأكيد التوبيخ، وفي السمين (أضعافاً) جمع ضعف ولما كان جمع قلة والمقصود الكثرة أتبعه بما يدل على ذلك وهو الوصف بمضاعفة.(2/329)
(واتقوا الله) في أكل الربا ومضاعفته فلا تأكلوه ولا تضعفوه (لعلكم تفلحون) أي لكي تسعدوا، وفيه دليل على أن أكل الربا من الكبائر ولهذا عقبه بقوله:(2/330)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
(واتقوا النار التي أعدت للكافرين) فيه الإرشاد إلى تجنب ما يفعله الكفار في معاملاتهم (1).
قال كثير من المفسرين وفيه أنه يكفر من استحل الربا، وقيل معناه اتقوا الربا الذي ينزع منكم الإيمان فتستوجبون النار، وإنما خص الربا في هذه الآية لأنه الذي توعد إليه بالحرب منه لفاعله.
قال ابن عباس هذا تهديد للمؤمنين أن يستحلوا ما حرم الله عليهم من الربا وغيره مما أوجب الله فيه النار، قال بعضهم إن هذه الآية أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه ويجتنبوا محارمه.
وقال الواحدي في هذه الآية تقوية لرجاء المؤمنين رحمة من الله لأنه قال " أعدت للكافرين " فجعلها معدّة لهم دون المؤمنين.
_________
(1) قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في " عمدة التفسير " ج/3/ 38 تعليقاً على هذه الآية: والمتلاعبون بالدين من أهل عصرنا، وأولياؤهم من عابدي التشريع الوثني الأجنبي، بل التشريع اليهودي في الربا يلعبون بالقرآن ويزعمون أن هذه الآية تدل على أن الربا المحرم هو الأضعاف المضاعفة، ليجيزوا ما بقي من أنواع الربا، على ما ترضى أهواؤهم وأهواء سادتهم، ويتركوا الآية الصريحة: ْ (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُون) فكانوا في تلاعبهم بتأول هذه الآية الصريحة أسوأ حالاً ممن:. (يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)، (فأولئك الذي سمى الله فاحذروهم).(2/330)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
(وأطيعوا الله والرسول) حذف المتعلق مشعر بالتعميم أي في كل أمر ونهي، قال محمد بن إسحق في هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد (لعلكم ترحمون) أي راجين الرحمة من الله عز وجل.(2/330)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)(2/331)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) أي بادروا وسابقوا إلى ما يوجب المغفرة من ربكم وهي الطاعات، قرىء سارعوا بغير واو وبالواو، قال أبو علي كلا الأمرين سائغ مستقيم والمسارعة المبادرة، قال ابن عباس: إلى الإسلام وعنه إلى التوبة، وقال علي بن أبي طالب إلى أداء الفرائض، وعن أنس بن مالك وسعيد بن جبير أنها التكبيرة الأولى، وقيل إلى الإخلاص في الأعمال.
وقيل إلى الهجرة، وقيل إلى الجهاد واللفظ مطلق فيعمّ الكل ولا وجه لتخصيص نوع دون نوع، وهذا وجه من قال إلى جميع الطاعات والأعمال الصالحات.
(وجنة) أي وسارعوا إلى جنة، وإنما فصل بين المغفرة والجنة لأن المغفرة هي إزالة العقاب والجنة هي حصول الثواب فجمع بينهما للإشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين، وتقديم المغفرة على الجنة كما أن التخلية متقدمة على التحلية.
(عرضها) أي عرض الجنة (السموات والأرض) يعني كعرضهما لأن نفس السموات والأرض ليس عرضاً للجنة والمراد سعتها، وإنما خص العرض للمبالغة لأن الطول في العادة يكون أكثر من العرض يقول هذه صفة عرضها فكيف طولها، ومثله الآية الأخرى (عرضها كعرض السماء والأرض).
وقد اختلف في معنى ذلك فذهب الجمهور إلى أنها تقرن السموات بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ويوصل بعضها ببعض فذلك عرض الجنة، وقيل إن هذا الكلام جاء على نهج كلام العرب من الاستعارة دون الحقيقة وذلك أنها لما كانت الجنة من الإتساع والإنفساح في غاية قصوى، حسن التعبير(2/331)
عنها بعرض السموات والأرض مبالغة لأنهما أوسع مخلوقات الله سبحانه فيما يعلمه عباده، ولم يقصد بذلك التحديد كما تقول العرب: بلاد عريضة أي واسعة طويلة عظيمة، فجعل العرض كناية عن السّعة.
قال الزهري: إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلا الله، هذا على سبيل التمثيل لا أنها كالسموات والأرض لا غير بل معناه كعرضهما عند ظنكم كقوله تعالى (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) أي عند ظنكم وإلا فهما زائلتان.
وسأل ناس من اليهود عمر بن الخطاب إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين تكون النار فقال لهم أرأيتم إذا جاء الليل فأين يكون النهار، وإذا جاء النهار فأين يكون الليل، فقالوا إن مثلها في التوراة ومعناه أنه حيث شاء الله.
وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي السماء أم في الأرض فقال وأي أرض وسماء تسع الجنة، قيل فأين هي قال فوق السموات السمبع تحت العرش.
وقال قتادة: كانوا يرون الجنة فوق السموات السبع، وجهنم تحت الأرضين السبع.
(أعدت للمتقين) أي هيئت لهم، وفيه دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وهو الحق خلافاً للمعتزلة. أخرج عبد بن حميد وغيره عن عطاء ابن أبي رباح قال: قال المسلمون يا رسول الله أبنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا؟ كانوا إذا أذنب أحدهم ذنباً أصبح كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه، اجدع أنفك، اجدع أذنك افعل كذا وكذا فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت (وسارعوا) الآية.(2/332)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
(الذين ينفقون في السراء والضراء) السراء اليسر والضراء العسر، وقد تقدم تفسيرهما، وقيل السراء الرخاء والضراء الشدة وهو مثل الأول، وقيل السراء في الحياة والضراء بعد الموت، والمعنى لا يتركون الإنفاق في كلتي الحالتين في الغنى والفقر والرخاء والشدة ولا في حال فرح وسرور، ولا في حال محنة(2/332)
وبلاء، سواء كان الواحد منهم في عرس أو حبس، فأول ما ذكر الله من أخلاقهم الموجبة للجنة السخاء لأنه أشق على النفوس، وقد وردت أحاديث كثيرة في مدح المنفق وذم البخيل والممسك في الصحيحين وغيرهما.
(والكاظمين الغيظ) أي الجارعين إياه عند امتلاء نفوسهم عنه والكافّين عن إمضائه مع القدرة، والكظم حبس الشيء عند امتلائه يقال كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره ومنه كظمت السّقاء أي ملأته والكظامة ما يسد به مجرى الماء وكظم البعير جرّته إذا ردها في جوفه.
وقد وردت أحاديث كثيرة في ثواب كظم الغيظ منها عن أنس الجهني عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء أخرجه الترمذي وأبو داود (1).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب رواه الشيخان (2)، وعن عائشة أن خادماً لها غاظها فقالت لله درّ التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء.
(والعافين عن الناس) أي التاركين عقوبة من أذنب إليهم واستحق المؤاخذة، وذلك من أجل ضروب الخير، وظاهره العموم سواء كان من المماليك أم لا، وقال الزجاج وغيره المراد بهم المماليك (والله يحب المحسنين) اللام يجوز أن تكون للجنس فيدخل فيه كل محسن من هؤلاء وغيرهم. ويجوز أن تكون للعهد فيختص بهؤلاء، والأول أولى اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السياق فيدخل فيه كل من صدر منه مسمى الإحسان أي إحسان كان.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 6398. المشكاة/5088.
(2) مسلم 2609 - البخاري 2346.(2/333)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)(2/334)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
(والذين إذا فعلوا فاحشة) أي فعلة فاحشة وهي تطلق على كل معصية وقد كثر إختصاصها بالزنا وأصل الفحش القبح والخروج عن الحدّ (أو ظلموا أنفسهم) باقتراف ذنب من الذنوب قيل هو ما دون الزنا مثل القبلة والمعانقة واللمس والنظر، وقيل أو بمعنى الواو والمراد ما ذكر، وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة، وقيل غير ذلك، قال النخعي الظلم من الفاحشة والفاحشة من الظلم.
(ذكروا الله) أي بألسنتهم عند الذنوب أو أخطروه في قلوبهم أو ذكروا وعده ووعيده أو جلاله الوجب للحياء منه (فاستغفروا لذنوبهم) أي طلبوا المغفرة لها من الله سبحانه، وتفسيره بالتوبة خلاف لمعناه لغة.
وفي الاستفهام بقوله: (ومن يغفر الذنوب) من الإنكار مع ما تضمنه من الدلالة على أنه المختص بذلك سبحانه دون غيره ما لا يخفى، أي لا يغفر جنس الذنوب أحد (إلا الله) وفيه ترغيب لطلب المغفرة من الله سبحانه وتنشيط للمذنبين أن يقفوا في مواقف الخضوع والتذلل.
(ولم يصروا على ما فعلوا) أي لم يقيموا على قبيح فعلهم ولكن استغفروا وقد تقدم تفسير الإصرار والمراد به هنا العزم على معاودة الذنب وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه، قال السدّي في الآية: فيسكتون ولا يستغفرون.(2/334)
(وهم يعلمون) جملة حالية أي عالمين بقبحه وأنها معصية وأن لهم ربّاً يغفرها، وقيل يعلمون أن الإصرار ضار، وقيل يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنب، وقيل يعلمون أن الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثرت، وقيل يعلمون أنهم إن استغفروه غفر لهم، وقيل يعلمون أن الله يتوب على من تاب قاله مجاهد، وقيل يعلمون أن تركه أولى قاله الحسن، وقيل يعلمون المؤاخذة بها أو عفو الله عنها، والمعاني متقاربة.
عن ابن مسعود قال إن في كتاب الله لآيتين ما أذنب عبد ذنباً فقرأهما فاستغفر الله إلا غفر له (والذين إذا فعلوا فاحشة) الآية، وقوله (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه) الآية.
عن ثابت البناني قال بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية بكى، وعن عطاف بن خالد قال بلغني أنه لما نزلت هذه الآية صاح إبليس بجنده وحثا على رأسه التراب ودعا بالويل والثبور حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر فقالوا مالك يا سيدنا قال آية نزلت في كتاب الله لا يضر بعدها أحداً من بني آدم ذنب، قالوا وما هي؟ فأخبرهم قالوا نفتح لهم باب الأهواء فلا يتوبون ولا يستغفرون ولا يرون إلا أنهم على الحق فرضي منهم بذلك.
وعن أبي بكر الصديق سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله من ذنبه ذلك إلا غفر الله له ثم قرأ " والذين إذا فعلوا فاحشة " الآية رواه أحمد وأهل السنن الأربع وحسّنه النسائي (1).
وأخرج الترمذي وأبو داود والبيهقي في الشعب عن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة (2)، وقد
_________
(1) الترمذي الباب 181 من كتاب الصلاة، الإمام أحمد 1/ 2.
(2) الترمذي الباب 106 من كتاب الدعوات - أبو داوود الباب 26 من كتاب الوتر.(2/335)
وردت أحاديث كثيرة في فضل الاستغفار.(2/336)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
(أولئك) المذكورون بقوله (والذين إذا فعلوا فاحشة) على ما هو الأظهر الأنسب بنظم المغفرة المنبئة عن سابقة الذنب في سلك الجزاء (جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار) أي ذلك ذخر لهم لا يبخس وأجر لا يوكس، وقد تقدم تفسير الجنات وكيفية جري الأنهار من تحتها (خالدين فيها) أي مقدرين الخلود فيها إذا دخلوها (ونعم أجر العاملين) بطاعة الله، والمخصوص بالمدح محذوف أي الجنة على ما قاله مقاتل أو أجرهم أو ذلك المذكور (1).
_________
(1) قوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة) في سبب نزولها ثلاثة أقوال.
أحدها: أن امرأة أتت إلى نبهان التمار تشتري منه تمراً فضمها، وقبلها، ثم ندم، فأتى النبي فذكر ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. أخرجه الإمام أحمد في " المسند " وابن ماجه عن ابن عمر، ونقل السُّدِّي عن " زوائد البوصيري " قال: إسناده صحيح، ورجاله ثقات. وذكره المنذري في " الترغيب والترهيب " وقال: رواه ابن ماجه، ورواته محتج بهم في الصحيح.
والثاني: أن أنصارياً وثقفياً آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، فخرج الثقفي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه، فكان الأنصاري يتعهد أهل الثقفي، فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت وهي شعرها، فدخل ولم يستأذن؛ فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها، فقبله ثم ندم، فأبر راجعاً، فقالت: سبحان الله خنت أمانتك، وعصيت ربك، ولم تصب حاجتك، قال: فخرج يسيح في الجبال، ويتوب إلى الله من ذنبه. فلما قدم الثقفي أخبرته المرأة بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه، فندم على صنيعه فوافقه ساجداً يقول: ذنبي ذنبي، قد خنت أخي. فقال له: يا فلان انطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاسأله عن ذنبك، لعل الله أن يجعل لك منه مخرجاً، فرجع إلى المدينة، فنزلت هذه الآية بتوبته، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. وذكره مقاتل.
والثالث: أن المسلمين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: بنو إسرائيل أكرم على الله منا! كان أحدهم إذا أذنب، أصبحت كفارة ذنوبه مكتوبة في عتبة بابه، فنزلت هذه الآية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أخبركم بخير من ذلك " فقرأ هذه الآية، والتي قبلها، هذا قول عطاء ".(2/336)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)(2/337)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
(قد خلت من قبلكم سنن) هذا رجوع إلى وصف باقي قصة أحد بعد تمهيد مبادىء الرشد والصلاح تسلية للمؤمنين على ما أصابهم من الحزن والكآبة، وأصل الخلو في اللغة الإنفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن فيه ويستعمل أيضاً في الزمان بمعنى المضي، لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه. وكذا الأمم الخالية.
والمراد بالسنن ما سنّه الله في الأمم الماضية من وقائعه أي قد خلت من قبل في زمانكم وقائع سنها الله في الأمم المكذبة بالهلاك والاستئصال لأجل مخالفتهم الأنبياء. وأصل السنن جمع السنة وهي الطريقة المستقيمة والعادة، والسنة الإمام المتبع المؤتم به، والسنة الأمة والسنن الأمم قاله المفضل الضبي، وقال الزجاج: أهل سنن فحذف المضاف، قال مجاهد: قد خلت سنن تداول من الكفار والمؤمنين في الخير والشر.
ْ (فسيروا) أيها المؤمنون (في الأرض) والمطلوب من هذا السير المأمور به هو حصول المعرفة بذلك فإن حصلت بدونه فقد حصل المقصود، وإن كان لمشاهدة الآثار زيادة غير حاصلة لمن لم يشاهدها، والأمر للندب لا على سبيل الوجوب (فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) فإنهم خالفوا رسلهم بالحرص على الدنيا ثم انقرضوا فلم يبق من دنياهم التي آثروها أثر.(2/337)
هذا قول أكثر المفسرين، والعاقبة آخر الأمور، رغبهم في تأمل أحوال الأمم الماضية ليصير ذلك داعياً لهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإعراض عن الدنيا ولذاتها لأن النظر إلى آثار المتقدمين له أثر في النفس، وفي هذه الآية تسلية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما جرى لهم في غزوة أحد.(2/338)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
(هذا بيان للناس) الإشارة إلى قوله (قد خلت) الخ وقال الحسن إلى القرآن ولا يخفى بعده. والبيان التبيين، وقيل هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت حاصلة. وتعريف الناس للعهد، وهم المكذبون أو للجنس أي للمكذبين وغيرهم وفيه حث على النظر في سوء عاقبة المكذبين وما انتهى إليه أمرهم.
(و) هذا النظر مع كونه بياناً فيه (هدى وموعظة) فعطف الهدى والموعظة على البيان يدل على التغاير ولو باعتبار المتعلق وبيانه أن اللام في الناس إن كانت للعهد فالبيان للمكذبين والهدى والموعظة للمؤمنين، وإن كانت للجنس فالبيان لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، والهدى والوعظ (للمتقين) من المؤمنين وحدهم، والهدى بيان طريق الرشد المأمور بسلوكه دون طريق الغي، والموعظة هي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين.
فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان (أحدهما) الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى (والثاني) الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة وإنما خص المتقين بالهدى والموعظة لأنهم المنتفعون بهما دون غيرهم قال سعيد بن جبير: أول ما نزل من آل عمران هذا بيان للناس ثم أنزل بقيتها من يوم أحد.(2/338)
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
(ولا تهنوا ولا تحزنوا) عزاهم وسلاهم لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح، وحثهم على قتال عدوهم. ونهاهم عن العجز والفشل، والمعنى لا تضعفوا عن الجهاد ولا تحزنوا على من قتل منكم لأنهم في الجنة.(2/338)
ثم بين لهم أنهم الأعلون على عدوهم بالنصر والظفر فقال: (وأنتم الأعلون) جمع أعلى والأصل أعليون هي جملة حالية أي والحال أنكم الأعلون عليهم وعلى غيرهم بعد هذه الوقعة، وقد صدق الله وعده فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وقعة أحد ظفر بعدوه في جميع وقعاته، وقيل المعنى وأنتم الأعلون عليهم بما أصبتم منهم في يوم بدر فإنه أكثر مما أصابوا منكم اليوم.
أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج قال انهزم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب يوم أحد فسألوا ما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وما فعل فلان فنعى بعضهم لبعض وتحدثوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، فكانوا في همّ وحزن، فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم على الجبل وكانوا على إحدى جنبتي المشركين وهم أسفل من الشعب، فلما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فرحوا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اللهم لا قوة لنا إلا بك وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء فلا تهلكهم، وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله.
وعلا المسلمون الجبل فذلك قوله (وأنتم الأعلون) وقال الضحاك أنتم الغالبون (إن كنتم مؤمنين) أي مصدقين بأن ناصركم هو الله تعالى فصدقوا بذلك فإنه حق وصدق.(2/339)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
(إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) القرح بالضم والفتح الجرح وهما لغتان فيه قاله الكسائي والأخفش ومعناهما واحد، وقال الفراء: هو بالفتح الجرح وبالضم ألمه، وقرىء قرح على المصدر. والآية خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحد مع الحزن والكآبة إن يمسسكم أيها المسلمون قرح ونالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر، فلا تهنوا لما أصابكم في هذا اليوم فإنهم لم يهنوا لما أصابهم في ذلك اليوم، وأنتم أولى بالصبر منهم.
وقيل المراد ما أصاب المسلمين والكافرين في هذا اليوم، فإن المسلمين انتصروا عليهم في الابتداء فأصابوا منهم جماعة ثم انتصر الله عليهم فأصابوا(2/339)
منهم والأول أولى لأن ما أصابه المسلمون من الكفار في هذا اليوم لم يكن مثل ما أصابوه منهم فيه، وكذا ما أصابه المشركون في يوم أحد لم يكن مثل ما أصابه المسلمون منهم يوم بدر بل ضعفه كما قال تعالى: (قد أصبتم مثليها) فيمكن أن يكون المماثلة في القتلى من دون نظر إلى الأسرى، ويكون القول الأول أرجح كما سلف.
(وتلك الأيام) الكائنة بين الأمم في حروبها والآتية فيما بعد كالأيام الكائنة في زمن النبوة تارة تغلب هذه الطائفة وتارة تغلب الأخرى كما وقع لكم أيها المسلمون في يوم بدر وأحد وهو معنى قوله (نداولها بين الناس) فقوله لك مبتدأ والأيام صفته والخبر نداولها أي نصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقول من قال:
فيوماً علينا ويوماً لنا ... ويوماً نُساء ُويوماً نسر
وكقول حسان الهند السيد ازاد البلجرامي رحمه الله تعالى:
ورأيت معالم دارسة ... رسمته مزاولة السبل
وسألت رسوم الأربع ما ... فعلت بك سابقة الأزل
فأجابت قال الله لنا ... وسؤالك من جهة الغفل
تلك الأيام نداولها ... لأمكث لهن على رجل
وأصل المداولة المعاورة وأدلته بينهم عاورته، والدولة الكرة يقال تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى آخر، ويقال الدنيا دول أي تنقل من قوم إلى آخرين، ثم منهم إلى غيرهم، وقيل المداولة المناوبة على الشيء والمعاودة وتعهده مرة بعد أخرى، قاله السمين.
والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس فيوم لهؤلاء ويوم لهؤلاء، فكانت الدولة للمسلمين على المشركين في يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين رجلاً(2/340)
وأسروا سبعين وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين، والقصة في البخاري بطولها عن البراء بن عازب وفي الباب أحاديث.
والمعنى نداولها ليظهر أمركم. قال ابن عباس أدال المشركون على النبي صلى الله عليه وآله وسلمٍ يوم أحد، وبلغني أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين رجلا عدد الأسارى الذين أسروا يوم بدر من المشركين وكان عدد الأسارى يوم بدر ثلاثة وسبعين رجلاً أخرجه ابن جرير وغيره.
(وليعلم الله) علم ظهور (الذين آمنوا) أي إنما جعل الدولة للكفار على المسلمين ليميز المؤمن المخلص ممن يرتد عن الدين إذا أصابته نكبة وشدة، وهو من باب التمثيل أي فعلنا فعل من يريد أن يعلم لأنه سبحانه لم يزل عالماً، أو ليعلم الله الذين آمنوا بصبرهم علماً يقع عليه الجزاء كما علمه علماً أزلياً، وقيل ليعرفهم بأعيانهم، وقيل ليعلم أولياء الله فأضاف علمهم إلى نفسه تفخيماً وقيل غير ذلك.
(ويتخذ منكم شهداء) يعني ويكرمكم بالشهادة، والشهداء جمع شهيد وهو من قتل من المسلمين بسيف الكفار في المعركة سمي بذلك لكونه مشهوداً له بالجنة أو جمع شاهد لكونه كالمشاهد للجنة، ومن للتبعيض وهم شهداء أحد.
وقال ابن عباس إن المسلمين كانوا يسألون ربهم: اللهم ربّنا أرنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبليك فيه خيراً ونلتمس فيه الشهادة فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ منهم شهداء.
(والله لا يحب الظالمين) يعني المشركين، جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير مضمون ما قبله، وقيل هم الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي، قيل هم المنافقون، والأول أولى، ونفي المحبة كناية عن البغض، وفي إيقاعه على الظالمين تعريض بمحبته تعالى لمقابليهم.(2/341)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)(2/342)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
(وليمحّص الله الذين آمنوا) التمحيص الإبتلاء والاختبار، وقيل التطهير والتنقية على حذف مضاف أي ليمحص ذنوب الذين آمنوا، قاله الفراء، وقيل يمحص يخلّص، قاله الخليل والزجاج أي ليخلّص المؤمنين من ذنوبهم ويزيلها عنهم.
وفي القاموس ومحصّ الذهب بالنار من باب منع أخلصه مما يشوبه والتمحيص التصفية (ويمحق الكافرين) أي يستأصلهم بالهلاك ويفنيهم، وأصل التمحيق محو الآثار والمحق نقصها قليلاً قليلا، وقال ابن عباس: يمحص يبتليهم، ويمحق ينقصهم.(2/342)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة) كلام مستأنف لبيان ما ذكر من التمييز، وأم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة للإنكار، والمعنى لا تحسبوا أيها المؤمنون أن تنالوا كرامتي وثوابي (ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) قال الرازي: أي ولما يصدر الجهاد عنكم، وهذا ظاهر الآية والمراد أن العلم متعلق بالعلوم.
وقال الواحدي: المعنى على الجهاد دون العلم أي لما يكن العلوم من الجهاد الذي أوجب عليكم وقال الطبري: ولما يتبين لعبادي المؤمنين المجاهد منكم على ما أمرته به، وقال أبو السعود: نفي العلم كناية عن نفي العلوم لما بينهما من اللزوم المبني على لزوم تحقق الأول لتحقق الثاني ضرورة استحالة شيء بدون علمه تعالى به.
وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفي هو الوصف فقط وكان(2/342)
يكفي أن يقال ولا يعلم الله جهادكم كناية عن معنى ولا تجاهدوا للمبالغة في بيان انتفاء الوصف وعدم تحققه أصلاً انتهى، ولما بمعنى لم عند الجمهور، وفرق سيبويه بينهما فجعل لم لنفي الماضي، ولما لنفي الماضي والمتوقع، ففيه إيذان بأن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل إلا أنه غير معتبر في تأكيد الإنكار.
ْ (ويعلم الصابرين) الواو للجمع قاله الخليل وغيره، وقال الزجاج بمعنى حتى، وقال الزمخشري للحال، والمعنى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما وفي الآية معاتبة لمن انهزم يوم أحد.
والخطاب في قوله(2/343)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
(ولقد كنتم تمنّون الموت) لمن كان يتمنى القتال والشهادة في سبيل الله ممن لم يحضر يوم بدر فإنهم كانوا يتمنّون يوماً يكون فيه قتال، فلما كان يوم أحد انهزموا مع أنهم الذين ألحّوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج ولم يصبر منهم إلا نفر يسير مثل أنس ابن النضر عم أنس بن مالك.
وقد ورد النهي عن تمني الموت فلا بد من حمله هنا على الشهادة يعني حالة الشهداء من رفع المنزلة في الجنة وغير ذلك، ويكون المراد بالموت هنا ما يؤول إليه لا نفس الشهادة لأنها مستلزمة لتمني الموت وغلبة الكفار.
وعلى هذا التأويل يزول الإشكال لأن من طلب الجنة لا يقال أنه تمنى الموت، قال القرطبي: وتمنّي الموت من المسلمين يرجع إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات والصبر على الجهاد لا إلى قتل الكفار لهم لأنه معصية وكفر، ولا يجوز إرادة المعصية وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة فيسألون الصبر على الجهاد وإن أدى إلى القتل.
(من قبل أن تلقوه) أي القتال أو الشهادة التي هي سبب الموت أو العود على العدو، والجمهور على كسر لام من قبل لأنها معربة لإضافتها إلى أن(2/343)
أي من قبل لقائه وقرىء تلاقوه ومعناه معنى تلقوه لأن لقي يستدعي أن يكون بين اثنين بمادته وإن لم يكن على المفاعلة.
(فقد رأيتموه) أي القتال أو ما هو سبب للموت يوم أحد، والظاهر أن الرؤية بصرية، وقيل علمية أي فقد علموا الموت حاضراً (وأنتم تنظرون) قيّد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما للمبالغة أي قد رأيتموه معاينين له حين قتل دونكم من قتل منكم.
قال الأخفش: إن التكرير بمعنى التأكيد مثل قوله (ولا طائر يطير بجناحيه) وقيل معناه بصراء ليس في أعينكم علل تتأملون الحال كيف هي فلم انهزمتم، وقيل معناه وأنتم تنظرون إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن رجالاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر، ونستشهد، أو ليت لنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبلي فيه خيراً ونلتمس الشهادة والجنة والحياة والرزق فأشهدهم الله أحداً فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم، فقال الله (ولقد كنتم تمنّون الموت) الآية وفيه توبيخ لهم على أنهم تمنوا الحرب. وتسببوا فيها ثم جبنوا وانهزموا عنها، أو توبيخ لهم على الشهادة فإن في تمنيها تمنّي غلبة الكافرين (1).
_________
(1) وقد ورد في سيرة ابن هشام أنهم بعد أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم للبس لأمته لاموا أنفسهم إذ اختاروا عكس رأي النبي فطلبوا عنه عدم الخروج فرفض ذلك عليه الصلاة والسلام.
وخرج بهم إلى أحد وكان ما كان من حوادث وفرار وتخلف ومعصية أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام.(2/344)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)(2/345)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
(وما محمد إلا رسول) سبب نزول هذه الآية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أصيب يوم أحد صاح الشيطان قائلاً قد قتل محمد - صلى الله عليه وسلم - ففشل بعض المسلمين حتى قال قائل قد أصيب محمد فأعطوا بأيديكم فإنما هم إخوانكم (1)، وقال آخر لو كان رسولاً ما قتل فرد الله عليهم ذلك وأخبرهم بأنه رسول (قد خلت من قبله الرسل) وسيخلو كما خلوا فهذه الجملة صفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والقصر قصر أفراد كأنهم استبعدوا هلاكه فأثبتوا له صفتين الرسالة وكونه لا يهلك فرد الله عليهم ذلك بأنه رسول لا يتجاوز ذلك إلى صفة عدم الهلاك، وقيل هو قصر قلب.
ثم أنكر الله عليهم بقوله (أفإن مات) الهمزة للاستفهام الإنكاري أي كيف ترتدون وتكفرون دينه إذا مات (أو قتل) مع علمكم أن الرسل تخلو ويتمسك أتباعهم بدينهم وإن فقدوا بموت أو قتل، وقيل الإنكار لجعلهم خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم بموته أو قتله، وإنما ذكر القتل سبحانه مع علمه أنه لا يقتل لكونه مجوزاً عند المخاطبين.
(انقلبتم على أعقابكم) أي ترجعون إلى دينكم الأول يقال لكل من رجع إلى ما كان عليه نكص على عقبيه ورجع وراءه. والحاصل أن موته - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) ابن جرير 7/ 257.(2/345)
أو قتله لا يوجب ضعفاً في دينه ولا الرجوع عنه بدليل موت سائر الأنبياء قبله، وأن اتباعهم ثبتوا على دين أنبيائهم بعد موتهم، فلا ينبغي منكم الانقلاب والارتداد حينئذ، لأن محمداً عبد مبلّغ لا معبود، وقد بلغكم والعبود باق فلا وجه لرجوعكم عن الدين الحق ولو مات من بلغكم إياه.
(ومن ينقلب على عقبيه) بإدباره عن القتال أو بارتداده عن الإسلام (فلن يضر الله شيئاً) وإنما يضر نفسه (وسيجزي الله الشاكرين) أي الذين صبروا وقاتلوا واستشهدوا لأنهم بذلك شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام ومن امتثل ما أمر به فقد شكر النعمة التي أنعم الله بها عليه.
وقال علي: الشاكرين الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه فكان علي رضي الله عنه يقول: كان أبو بكر رضي الله عنه أمير الشاكرين وكان أشكرهم وأحبّهم إلى الله تعالى، وعنه أنه كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتى أموت (1).
_________
(1) القرطبي 4/ 222.(2/346)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
(وما كان لنفس أن تموت) هذا كلام مستأنف يتضمن الحث على الجهاد والإعلام بأن الموت لا بد منه (إلا بإذن الله) أي ما كان لها أن تموت إلا مأذوناً لها فالاستثناء مفرغ والباء للمصاحبة يعني بقضاء الله وقدره وأمره، وقيل هذه الجملة متضمنة للإنكار على من فشل بسبب ذلك الإرجاف بقتله صلى الله عليه وآله وسلم فبين لهم أن الموت بالقتل أو بغيره منوط بإذن الله، وإسناده إلى النفس مع كونها غير مختارة له للإيذان بأنه لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا باذنه.(2/346)
وفيه تحريض المؤمنين على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدو بإعلامهم بأن الجبن لا ينفع وإن الحذر لا يدفع، والثبات لا يقطع الحياة وأن أحداً لا يموت إلا بأجله وإن خاض المهالك، واقتحم المعارك، وإذا جاء الأجل لم يدفع الموت بحيلة فلا فائدة في الجبن والخوف.
وفيه أيضاً ذكر حفظ الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عند غلبة العدو وتخليصه منهم عند التفافهم عليه وإسلام أصحابه له فأنجاه الله من عدوه سالماً مسلماً لم يضره شيء.
(كتاباً مؤجلاً) معناه كتب الله الموت كتاباً، والمؤجل المؤقت الذي لا يتقدم على أجله ولا يتأخر، يعني مؤقتاً له أجل معلوم وقيل الكتاب هو اللوح المحفوظ لأن فيه آجال جميع الخلائق، والأول أولى، والغرض من هذا السياق توبيخ المنهزمين يوم أحد.
(ومن يرد) بعمله (ثواب الدنيا) كالغنيمة ونحوها، نزلت في الذين تركوا المركز وطلبوا الغنيمة، واللفظ يعم كل ما يسمى ثواب الدنيا وإن كان السبب خاصاً (نؤته منها) أي من ثوابها ما نشاء على ما قدرنا له، فهو على حذف المضاف.
(ومن يرد) بعمله (ثواب الآخرة) وهو الجنة، نزلت في الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنها عامة في جميع الأعمال (نؤته منها) أي من ثوابها ونضاعف له الحسنات أضعافاً كثيرة (وسنجزي الشاكرين) أي نجزيهم بامتثال ما أمرناهم به كالقتال ونهيناهم عنه كالفرار وقبول الإرجاف، والمراد بهم إما المجاهدون المعهودون من الشهداء وغيرهم، وإما جنس الشاكرين وهم داخلون فيه دخولاً أولياً، وإلى الأول أشار في التقرير، والثاني أولى.(2/347)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)(2/348)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
(وكأيّن) قال الخليل وسيبويه: هي أي الاستفهامية وكاف التشبيه بمعنى كم التكثيرية وهي كناية عن عدد مبهم. و (من نبي) تمييز لها، وفي كأيّن خمس لغات ذكرها في الجمل واختار الشيخ أن كأيّن كلمة بسيطة غير مركبة وأن آخرها نون هي من نفس الكلمة لا تنوين لأن هذه الدعاوي لا يقوم عليها دليل. والشيخ سلك في ذلك الطريق الأسهل، والنحويون ذكروا هذه الأشياء محافظة على أصولهم مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد وتشحيذ الذهن وتمرينه، وأطال في الجمل الكلام على كأيّن من حيث الأفراد والتركيب ليس في ذكره هنا كثير فائدة.
وقرىء (قتل) على البناء للمجهول واختارها أبو حاتم ولها وجهان (أحدهما) أن يكون في قتل الضمير يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحينئذ يكون قوله (معه ربّيون) جملة حالية، والثاني أن يكون القتل واقعاً على (ربيّون) فلا يكون في قتل ضمير، والمعنى قتل بعض أصحابه وهم الربّيون، ورجح الزمخشري هذا بقراءة قتادة قتل بالتشديد.
وقرىء (قاتل) واختارها أبو عبيد وقال إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلاً فيه، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه من قاتل ولم يقتل، فقاتل أعم وأمدح، ويرجح هذه القراءة الأخرى.(2/348)
والوجه الثاني من القراءة الأولى قول الحسن ما قتل نبي في حرب قطّ، وقيل قتل فارغ من الضمير مسند إلى ربيون، والربّيون بكسر الراء قراءة الجمهور، وقرأ علي بضمها وابن عباس بفتحها، قال ابن جني والفتح لغة تميم وواحدة ربي منسوب إلى الرب، والربي بضمم الراء وكسرها منسوب إلى الربة بكسر الراء وضمها وهي الجماعة ولهذا فسرهم جماعة من السلف بالجماعات الكثيرة، وقيل هم الأتباع.
قال الخليل الربيّ الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية، وقال الزجاج الربيون بالضم الجماعات، وقال النقاش هم المكثرون العلم من قولهم ربا يربو إذا كثر، وقال ابن مسعود ربيون ألوف، عن الضحاك الربة الواحدة ألف، وعن ابن عباس قال جموع وعلماء.
(كثير) والمعنى أن كثيراً من الأنبياء قتلوا (فما وهنوا) قرىء بفتح الهاء وبكسرها وهما لغتان والوهن انكسار الجسد بالخوف وهن الشيء يهن وهناً كوعد يعد، ووهن يوهن كوجل يوجل ضعف أي ما جبنوا عن الجهاد (لما أصابهم) أي نالهم (في سبيل الله) من ألم الجروح وقتل الأنبياء والأصحاب والقروح (وما ضعفوا) أي عن عدوهم بل استمروا على جهادهم، لأن الذي أصابهم هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة نبيه، فكان ينبغي لكم يا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن تفعلوا مثل ذلك، قرىء ضعفوا بضم العين وفتحها وحكاها الكسائي لغة.
(وما استكانوا) لما أصابهم في الجهاد والاستكانة الذلة والخضوع، وقال ابن عباس الخشوع، وعبارة السمين فيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه استفعل من الكون والكون والذل وأصله ستكون، وقال الزهري وأبو علي: الأصل استكين وقال الفراء: وزنه افتعل من السكون انتهى، وفي هذا توبيخ لمن انهزم يوم(2/349)
أحد وذل واستكان وضعف بسبب ذلك الإرجاف الواقع من الشيطان ولم يصنع كما صنع أصحاب من خلا من قبلهم من الرسل (والله يحب الصابرين) في الجهاد على تحمل الشدائد.(2/350)
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
(وما كان قولهم) أي قول أولئك الذين كانوا مع الأنبياء، والاستثناء مفرغ أي ما كان قولهم عند أن قتل منهم ربانيون أو قتل نبيهم مع ثباتهم وصبرهم عند لقاء العدو، واقتحام مضايق الحرب، وإصابة ما أصابهم من فنون الشدائد والأهوال شيء من الأشياء (إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا) قيل هي الصغائر.
(وإسرافنا في أمرنا) قيل هي الكبائر والظاهر أن الذنوب تعم كل ما يسمى ذنباً من صغيرة أو كبيرة، والإسراف ما فيه مجاوزة للحد فهو من عطف الخاص على العام، قالوا ذلك مع كونهم ربانيين هضماً لأنفسهم واستقصاراً لها وإسناداً لما أصابهم إلى أعمالهم، وبراءة من التفريط في جنب الله، وقدموا الدعاء بمغفرتها على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقولهم:
(وثبت أقدامنا) أي في مواضع القتال ومواطن الحرب بالتقوية والتأييد من عندك أو ثبتنا على دينك الحق (وانصرنا على القوم الكافرين) تقريباً له إلى حين القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة، والمعنى لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاء من غير أن يصدر عنهم قول يوهم شائبة الجزع والتزلزل في مواقف الحرب، ومراصد الدين، وفيه من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى.(2/350)
فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)(2/351)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
(فآتاهم الله) بسبب ذلك الدعاء (ثواب الدنيا) من النصر والغنيمة والعزة وقهر الأعداء والثناء الجميل وغفران الذنوب والخطايا ونحوها (وحسن ثواب الآخرة) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ثواب الآخرة الحسن وهو نعيم الجنة، جعلنا الله تعالى من أهلها، والفضل فوق الاستحقاق (والله يحب المحسنين) الذين يفعلون ما فعل هؤلاء، وهذا تعليم من الله سبحانه لعباده المؤمنين أن يقولوا مثل هذا عند لقاء العدو، وفيه دقيقة لطيفة وهي أنهم لما اعترفوا بذنوبهم وكونهم مسيئين سماهم الله تعالى محسنين.
ثم لما أمر سبحانه بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الأنبياء حذر عن طاعة الكفار وقال(2/351)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا) وهم مشركو العرب، وقيل اليهود والنصارى، وقيل المنافقون في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى دين آبائكم، وقيل عامة في مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم فإنه يستجرّ إلى موافقتهم (يردوكم على أعقابكم) أي يخرجونكم من دين الإسلام إلى الكفر (فتنقلبوا) ترجعوا (خاسرين) مغبونين فيهما أما خسران الدنيا فلان أشق الأشياء على العقلاء الانقياد إلى العدو وإظهار الحاجة إليه، وأما خسران الآخرة فالحرمان من الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد.(2/351)
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
(بل الله مولاكم) إضراب عن مفهوم الجملة الأولى أي إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم ولا ينصروكم بل الله ناصركم دون غيره (وهو خير الناصرين) فاستعينوا به وأطيعوه دونهم.(2/351)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
(سنلقي) بنون العظمة وهو التفات عن الغيبة في قوله (وهو خير الناصرين) وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه تعالى، وقرىء بالياء جرياً على الأصل (في قلوب الذين كفروا) قدم المجرور على المفعول به اهتماماً بذكر المحل قبل ذكر الحال (الرعب) بضم الراء والعين وسكونها وهما لغتان، ويجوز أن يكون مصدراً والرعب بالضم وبضم العين للاتباع، وأصله الملء يقال سيل راعب أي يملأ الوادي ورعبت الحوض ملأته فالمعنى سنملأ قلوب الكافرين رعباً أي خوفاً وفزعاً والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام ومجازاً في غيرها كهذه الآية. وذلك أن المشركين بعد وقعة أحد ندموا أن لا يكونوا استأصلوا وقالوا بئسما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم. ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به.
(بما أشركوا بالله) أي بسبب إشراكهم به تعالى (ما لم ينزل به) أي يجعله شريكاً له (سلطانا) حجة وبياناً وبرهاناً سميت الحجة سلطاناً لقوتها على دفع الباطل أو لوضوحها وإنارتها أو لحدّتها ونفوذها، والنفي يتوجه إلى القيد والمقيد أي لا حجة ولا إنزال، والمعنى أن الاشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل (ومأواهم) مسكنهم (النار) بيان لأحوالهم في الآخرة بعد بيان أحوالهم في الدنيا (وبئس مثوى الظالمين) أي المسكن الذي يستقرون فيه.
وكلمة بئس تستعمل في جميع المذامّ وفي جعلها مثواهم بعد جعلها مأواهم رمز إلى خلودهم فيها فإن المثوى مكان الإقامة المنبئة عن المكث، والمأوى المكان الذي يأوي إليه الإنسان، وقدم المأوى على المثوى لأنه على الترتيب الوجودي يأوي ثم يثوي، قاله الكرخي.(2/352)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
(ولقد صدقكم الله وعده) نزلت لما قاله بعض المسلمين من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر، وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء حتى قتلوا صاحب لواء المشركين وتسعة نفر بعده، فلما اشتغلوا بالغنيمة وترك الرماة مركزهم طلباً للغنيمة كان ذلك سبب الهزيمة.
(إذ تحسونهم) والحس الاستئصال بالقتل أي تستأصلوهم قتلاً، يقال جراد محسوس إذا قتله البرد. وسنة حسوس أي جدبة تأكل كل شيء، قيل وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة فمعنى حسّه أذهب حسه بالقتل.
قال الكرخي: المراد به هنا البصر ثم وضع موضع العلم والوجود ومنه قوله تعالى: (فلما أحس عيسى منهم الكفر) أي علم، ومنه قوله (هل تحس منهم من أحد) أي ترى وبمعنى الطلب، ومنه قوله (فتحسّسوا من يوسف) أي اطلبوا خبره انتهى.
(بإذنه) أي بعلمه أو بقضائه (حتى إذا فشلتم) أي جبنتم وضعفتم، قيل جوابه مقدر امتحنتم، وقال الفراء جوابه (وتنازعتم) والواو مقحمة زائدة كقوله: (فلما أسلما وتلّه للجبين) وقال أبو علي: جوابه صرفكم عنهم الآتي.
وقيل فيه تقديم وتأخير أي حتى إذا تنازعتم (في الأمر وعصيتم) فشلتم.(2/353)
وقيل إن الجواب وعصيتم والواو مقحمة، وقد جوز الأخفش مثله في قوله تعالى (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم)، وقيل حتى بمعنى إلى وحينئذ لا جواب لها، وإذا هذه على بابها، والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم نلحق الغنائم، وقال بعضهم نثبت في مكاننا كما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومعنى (من بعد ما أراكم) ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد كما تقدم، قال ابن عباس: من بعد ما أراكم يعني الغنائم وهزيمة القوم، قال عروة: كان الله وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، وكان قد فعل، فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتركوا مصافّهم وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم، وأرادوا الدنيا، رفع عنهم مدد الملائكة، وقصة أحد مستوفاة في كتب السير والتواريخ فلا حاجة لإطالة الشرح هنا.
(ما تحبون) من النصر والظفر يا معشر المسلمين (منكم من يريد الدنيا) يعني الغنيمة فترك المركز لها (ومنكم من يريد الآخرة) أي الأجر بالبقاء في مركزه امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فثبت به حتى قتل كعبد الله بن جبير وأصحابه.
(ثم صرفكم عنهم) أي ردكم عن المشركين بالهزيمة بعد أن استوليتم عليهم (ليبتليكم) أي ليمتحنكم فيظهر المخلص من غيره، وقيل لينزل عليكم البلاء لتتوبوا إليه وتستغفروه، والأول أولى.
(ولقد عفا عنكم) ما ارتكبتموه تفضلاً لما علم من ندمكم فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، والخطاب لجميع المنهزمين وقيل للرماة فقط (والله ذو فضل على المؤمنين) بالعفو، وفي الآية دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن.(2/354)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
(إذ تصعدون) متعلق بقول. صرفكم أو بقوله ولقد عفا عنكم أو بقوله ليبتليكم، قاله الزمخشري، وقال أبو البقاء: بقوله لعصيتم أو تنازعتم أو فشلتم، وكل هذه الوجوه سائغة، وكونه ظرفاً لصرفكم جيد من جهة المعنى، ولعفا جيد من جهة القرب، وعلى بعض هذه الأقوال تكون المسألة من باب التنازع، وتكون على إعمال الأخير منها لعدم الإضمار في الأول، ويكون التنازع في أكثر من عاملين.
قال أبو حاتم: يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل، فالإصعاد السير في مستوى الأرض وبطون الأودية، والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدرج، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي.
وقال القتيبي: أصعد إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه، وقال الفراء الإصعاد الإبتداء في السفر، والإنحدار الرجوع منه يقال أصعدنا من بغداد إلا مكة وإلا خراسان وأشباه ذلك إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر، وانحدرنا إذا رجعنا.
وقال المفضل: صعد وأصعد بمعنى واحد، وقرىء تصعدون بالتشديد وأصلها تتصعدون بتاء الخطاب، وقرىء بياء الغيبة على الالتفات وهو حسن والضمير يعود على المؤمنين.
(ولا تلوون) وقرىء بضم التاء من ألوي وهي لغة ففعل وأفعل بمعنى، وقرىء بواو واحدة أي لا تعرجون من التعريج وهو الإقامة على الشىء فإن المعرّج إلا الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته، وكذا شأن المنتظر، والمعنى لا تقيمون (على أحد) ممن معكم، وقيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(2/355)
ولا يلتفت بعضكم إلى بعض ولا يقف واحد منكم لواحد ولا ينتظره هرباً.
(والرسول يدعوكم في أخراكم) في الطائفة المتأخرة منكم، يقال جاء فلان في آخر الناس وآخرة الناس وأخرى الناس وأخريات الناس، وقيل من ورائكم وقال أبو السعود في ساقتكم وجماعتكم الأخرى، فكان دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليّ عباد الله أي ارجعوا.
(فأثابكم) أي فجازاكم الله (غماً) حين صرفكم عنهم بسبب غمّ أذقتموه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بعصيانكم أو غماً موصولاً (بغم) بسبب ذلك الإرجاف والجرح والقتل وظفر المشركين، والباء على هذا بمعنى على أي مضاعفاً على غمّ فوت الغنيمة.
والغم في الأصل التغطية، غمّيت الشيء غطيته ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين، ومنه غم الهلال، وقيل الغم الأول الهزيمة، والثاني إشراف أبي سفيان وخالد بن الوليد عليهم في الجبل، وقيل الغم الأول هو ما فاتهم من الظفر، والثاني ما نالهم من الهزيمة، وقيل الأول ما أصابهم من القتل والجراح، والثاني ما سمعوا بأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل، وقيل الأول بسبب إشراف خالد بن الوليد مع خيل المشركين، والثاني حين أشرف أبو سفيان.
وسميت العقوبة التي نزلت بهم ثواباً على سبيل المجاز لأن لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير، وقد يجوز استعماله في الشر لأنه مأخوذ من ثاب إذا رجع، فأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيراً أو شراً، فمتى حملنا لفظ الثواب على أصل اللغة كان حقيقة، ومتى حملناه على الأغلب كان مجازاً.
(لكيلا تحزنوا على ما فاتكم) من الغنيمة (ولا ما أصابكم) من الهزيمة تمريناً لكم على المصائب وتدريباً لاحتمال الشدائد، وقال المفضل: لكي تحزنوا ولا زائدة كقوله أن لا تسجد وقوله (لئلا يعلم) أي أن تسجد وليعلم (والله خبير بما تعملون) من الأعمال خيرها وشرها فيجازيكم عليها.(2/356)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
(ثم أنزل عليكم) يا معشر المسلمين (من بعد الغم) التصريح بالبعدية مع دلالة ثم عليها وعلى التراخي لزيادة البيان وتذكير عظم النعمة (أمنة) الأمنة والأمن سواء، وقيل الأمنة إنما تكون مع بقاء أسباب الخوف والأمن مع عدمه وكان سبب الخوف بعد باقياً (نعاساً) وهو أخفّ من النوم بدل كل أو اشتمال، واختاره السمين.
(يغشى طائفة منكم) قال ابن عباس إنما ينعس من يأمن، والخائف لا ينام، والطائفة تطلق على الواحد والجماعة، وهذه الطائفة هم المؤمنون الذين خرجوا للقتال طلباً للأجر، والطائفة الآتية هم معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعاً في الغنيمة وجعلوا يتأسفون على الحضور، ويقولون الأقاويل.
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن أبا طلحة قال غشينا ونحن في مصافّنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه فذلك قوله يعني هذه الآية (1).
_________
(1) ابن كثير 1/ 418.(2/357)
(وعن الزبير بن العوام قال رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم من أحد إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس وتلا هذه الآية (1).
(وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) حملتهم على الهم، أهمني الأمر أقلقني وجاز الإبتداء بالنكرة لاعتمادها على واو الحال أو مستأنفة، وقيل إن المعنى صارت أنفسهم همهم لا هم لهم غيرها فلا رغبة لهم إلا نجاتها دون النبي وأصحابه فلم يناموا وهم المنافقون، وفي إلقاء النعاس على المؤمنين دون المنافقين آية عظيمة ومعجزة باهرة لأن النعاس كان سبب أمن المؤمنين وعدم النعاس عن المنافقين كان سبب خوفهم.
(يظنون بالله) أي في الله أي في حكمه والجملة استئناف على وجه البيان لما قبله ظناً (غير الحق) الذي يجب أن يظن به وهو ظنهم أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باطل، وأنه لا ينصر ولا يتم ما دعا إليه من دين الحق (ظن الجاهلية) بدل من غير الحق وهو الظن المختص بملة الجاهلية، قاله القاضي فهو من إضافة الموصوف إلى مصدر الصفة أو من إضافة المصدر إلى الفاعل على حذف المضاف أي ظن أهل الجاهلية وأهل الشرك قاله التفتازاني.
(يقولون) لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (هل لنا من الأمر من شيء) أي من أمر الله نصيب، وهذا الاستفهام معناه الجحد أي ما لنا شيء من الأمر وهو النصر والاستظهار على العدو. وقيل هو الخروج أي إنما خرجنا(2/358)
مكرهين فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله.
(قل إن الأمر كله لله) وليس لكم ولا لغيركم منه شيء فالنصر بيده والظفر منه (يخفون) أي يضمرون (في أنفسهم) ويقولون فيما بينهم بطريق الخفية (ما لا يبدون لك) من الكفر والشرك والشك في وعد الله، وقيل يخفون الندم على خروجهم مع المسلمين، وقيل النفاق، بل يسألونك سؤال المسترشدين. والجملة حال.
(يقولون لو كان لنا من الأمر شيء) استئناف على وجه البيان له، أو بدل من يخفون والأول أجود كما في الكشاف (ما قتلنا ههنا) أي ما قتل من قتل منا في هذه المعركة، فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله (قل لو كنتم) قاعدين (في بيوتكم) بالمدينة كما تقولون (لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) أي لم يكن بد من خروج من كتب عليه القتل في اللوح المحفوظ بسبب من الأسباب الداعية إلى البروز إلى هذه المصارع التي صرعوا فيها فإن قضاء الله لا يردّ وحكمه لا يعقب.
وفيه مبالغة في رد مقالتهم الباطلة حيث لم يقتصر على تحقيق نفس القتل بل عين مكانه أيضاً، ولا ريب في تعين زمانه أيضاً لقوله (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة).
(وليبتلي الله) علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لصالح جمة وليبتلي أي ليمتحن (ما في صدوركم) أي قلوبكم من الإخلاص والنفاق (وليمحص) أي يميز (ما في قلوبكم) من وساوس الشيطان (والله عليم بذات الصدور) يعني بالأشياء الموجودة في الصدور وهي الأسرار والضمائر الخفية التي لا تكاد تفارق الصدور، بل تلازمها وتصاحبها لأنه عالم بجميع المعلومات.(2/359)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)(2/360)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
(إن الذين تولوا منكم) عن القتال (يوم التقى الجمعان) جمع المسلمين وجمع الكفار أي انهزموا يوم أحد، وقيل المعنى إن الذين تولوا المشركين يوم أحد (إنما استزلّهم الشيطان) استدعى زللهم بإلقاء الوسوسة في قلوبهم (ببعض) أي بشؤم بعض (ما كسبوا) من الذنوب التي منها مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قيل لم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة عشر رجلاً؛ وقيل أربعة عشر. من المهاجرين سبعة ومن الأنصار سبعة، فمن المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنهم. وقيل استزلّهم بتذكير خطايا سبقت لهم فكرهوا أن يقتلوا قبل إخلاص التوبة منها، وهذا اختيار الزجاج.
(ولقد عفا الله عنهم) لتوبتهم واعتذارهم. عن عبد الرحمن بن عوف قال: هم ثلاثة واحد من المهاجرين وإثنان من الأنصار، وعن ابن عباس قال: نزلت في عثمان ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد، وقد روي في تعيين من في الآية روايات كثيرة (إن الله غفور) لمن تاب وأناب (حليم) لا يعجل بالعقوبة ولا يستأصلهم بالقتل.(2/360)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
(يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا) هم المنافقون الذين(2/360)
قالوا: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا (وقالوا لإخوانهم) في النفاق أو في النسب أي قالوا لأجلهم (إذا ضربوا) أي ساروا وسافروا وبعدوا (في الأرض) للتجارة ونحوها، قال مجاهد: هذا قول عبد الله بن أبي بن سلول والمنافقين وعن السدّى نحوه (أو كانوا غزّاً) جمع غاز كراكع وركّع وغائب وغيّب وقياسه غزاة كرام ورماة (لو كانوا) مقيمين (عندنا ما ماتوا وما قتلوا) أي لا تقولوا كقولهم.
(ليجعل الله ذلك) يعني قولهم وظنهم في عاقبة أمرهم، والجعل هنا بمعنى التصيير واللام لام العاقبة (حسرة في قلوبهم) يعني غماً وتأسفاً أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة في قلوبهم، والمراد أنه صار ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ولم يحضروا ما قتلوا حسرة، وقيل معناه لا تكونوا مثلهم في اعتقاد ذلك ليجعله الله حسرة في قلوبهم فقط دون قلوبكم.
قال الزمخشري: هو النطق بالقول والاعتقاد، وقيل المعنى لا تلتفتوا إليهم ليجعل الله عدم التفاتكم إليهم حسرة في قلوبهم، وأجاز ابن عطية أن يكون النهي والانتهاء معاً وقيل المراد حسرة يوم القيامة لما فيه من الخزي والندامة.
(والله يحيى ويميت) فيه رد على قولهم أي ذلك بيد الله سبحانه يصنع ما يشاء ويحكم ما يريد فيحيي من يريد. ويميت من يريد، من غير أن يكون للسفر أو الغزو أثر في ذلك .. فإنه تعالى قد يحيى المسافر والغازي مع اقتحامهما لموارد الموت. ويميت المقيم والقاعد مع حيازتهما لأسباب السلامة.
والمعنى أن السفر والغزو ليسا مما يجلب الموت، والقعود لا يمنع منه.
(والله بما تعملون) بالتاء والياء من خير وشر (بصير) فيجازيكم به فاتقوه تهديد للمؤمنين أي لا تكونوا مثل المنافقين المذكورين في تنفير المؤمنين عن الجهاد. أو وعيد للذين كفروا، واللفظ عام شامل لقولهم المذكور ولمنشئه الذي هو اعتقادهم.(2/361)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)(2/362)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
(ولئن) وقع ذلك من أمر الله سبحانه و (قتلتم في سبيل الله أو متم) شروع في تحقيق أن ما يحذرون ترتبه على الغزو والسفر من القتل والموت في سبيل الله ليس مما ينبغي أن يحذر وبل مما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون أثر إبطال ترتبه عليهما.
قرىء متم بضم الميم وكسرها من يموت ويمات وهما قراءتان سبعيّتان (لمغفرة من الله) لذنوبكم (ورحمة) منه لكم من العاقبة (خير مما يجمعون) أي الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدة أعمارهم.
وقرىء بالتاء والمعنى مما تجمعون أيها المسلمون من غنائم الدنيا ومنافعها، والمقصود في الآية بيان مزية القتل أو الموت في سبيل الله وزيادة تأثيرهما في استجلاب المغفرة والرحمة.(2/362)
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
(ولئن متّم أو قتلتم) على أي وجه اتفق هلاككم حسب تعلق الإرادة الإلهية، وقرىء متم بكسر الميم من مات يمات (لإلى الله) أي إلى الرب الواسع الرحمة والمغفرة لا إلى غيره كما يفيده تقديم الظرف على الفعل مع ما في تخصيص اسم الله سبحانه بالذكر من الدلالة على كمال اللطف والقهر (تحشرون) في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم. قيل من عبد الله خوفاً من ناره آمنه الله مما يخاف، وإليه الإشارة بقوله لمغفرة من الله، ومن عبده شوقاً إلى جنته أناله ما يرجو، وإليه الإشارة بقوله (ورحمة) لأن الرحمة هي الجنة، ومن عبده شوقاً إلى وجهه الكريم لا يريد غيره فهذا هو العبد المخلص الذي يتجلى(2/362)
له الحق سبحانه في دار كرامته، وإليه الإشارة بقوله (لإلى الله تحشرون).(2/363)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
(فبما رحمة من الله لنت لهم) " ما " فاصلة غير كافية مزيدة للتأكيد قاله سيبويه وغيره، وقال ابن كيسان والأخفش: إنها نكرة في موضع الجر بالباء، ورحمة بدل منها، والأول أولى بقواعد العربية، ومثله قوله تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم) والجار والمجرور متعلق بقوله (لنت) وقدم عليه لإفادة القصر، وتنوين رحمة للتعظيم.
والمعنى أن لينه لهم ما كان إلا بسبب الرحمة العظيمة منه، وقيل إن ما استفهامية والمعنى فبأي رحمة من الله لنت لهم، وفيه معنى التعجب وهو بعيد، ولو كان كذلك لقيل فيم رحمة بحذف الألف، والمعنى سهلت لهم أخلاقك وكثرت احتمالك، ولم تسرع إليهم بتعنيف: على ما كان يوم أحد منهم.
وفيه تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبىء عنه السياق من استحقاقهم للملامة والتعنيف بموجب الجبلة البشرية أو من سعة ساحة مغفرته تعالى ورحمته.
(ولو) لم تكن كذلك بل (كنت فظاً غليظ القلب) أي جافياً قاسي الفؤاد سيء الخلق قليل الاحتمال، والفظ الغليظ الجافي، وقال الراغب: الفظ هو الكريه الخلق، وذلك مستعار من الفظ وهو ماء الكرش وذلك مكروه شربه إلا في ضرورة، وغلظ القلب قساوته، وقلة إشفاقه وعدم إنفعاله للخير، وجمع بينهما تأكيداً.
(لانفضوا من حولك) أي لنفروا عنك وتفرقوا حتى لا يبقى منهم أحد عندك، والانفضاض التفرق في الأجزاء وانتشارها، ومنه فضّ ختم الكتاب، ثم استعير هنا لانفضاض الناس وغيرهم أي لتفرقوا عن حولك هيبة(2/363)
لك واحتشاماً منك بسبب ما كان من توليهم، وإذا كان الأمر كما ذكر (فاعف عنهم) فيما يتعلق بك من الحقوق (واستغفر لهم) الله سبحانه فيما هو إلى الله سبحانه.
(وشاورهم في الأمر) الذي يرد عليك أي أمر كان مما يشاور في مثله أو في أمر الحرب خاصة كما يفيده السياق لما في ذلك من تطييب خواطرهم، واستجلاب مودتهم، ولتعريف الأمة بمشروعية ذلك حتى لا يأنف منهم أحد بعدك.
قال السمين: جاء على أحسن النسق وذلك أنه أمر أولاً بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه، فإذا انتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله لتنزاح عنهم التبعات، فلما صاروا إلى هنا أمر بأن يشاورهم في الأمر إذ صاروا خالصين من التبعتين متصفّين منهما انتهى.
والمراد هنا المشاورة في غير الأمور التي يرد الشرع بها، قال أهل اللغة الاستشارة مأخوذة من قول العرب شرت الدابة وشورتها إذا علمت خيرها، وقيل من قولهم شرت العسل إذا أخذته من موضعه.
قال ابن خواز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون وفيما أشكل عليهم من أمور الدنيا ومشاورة وجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ووجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها.
وحكى القرطبي عن ابن عطية أنه لا خلاف في وجوب عزل من لا يستشير أهل العلم والدين.
وأخرج ابن عدي والبيهقي في الشعب قال السيوطي بسند حسن عن ابن عباس قال لما نزلت (وشاورهم في الأمر) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إن الله(2/364)
ورسوله لغنيّان عنها ولكن الله جعلها رحمة لأمتي، فمن استشار من أمتي لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يعدم غيّاً.
وعنه في الآية قال هم أبو بكر وعمر، وقال الحسن قد علم الله أن ما به إلى مشاورتهم حاجة، ولكن أراد أن يستنّ به من بعده من أمته.
وقيل أمره بها ليعلم مقادير عقولهم وأفهامهم لا ليستفيد منهم رأياً، وروى البغوي بسنده عن عائشة أنها قالت ما رأيت رجلاً أكثر استشارة للرجال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وللاستشارة فوائد كثيرة ذكرها بعض المفسرين لا نطول بذكرها، ويغني عنها أمر الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - بها، ولنعم ما قيل في ذلك.
وشاور إذا شاورت كل مهذب ... لبيب أخي حزم لترشد في الأمر
ولا تك ممن يستبد برأيه ... فتعجز أو لا تستريح من الفكر
ألم تر أن الله قال لعبده ... وشاورهمو في الأمر حتماً بلا نكر
(فإذا عزمت) على إمضاء ما تريد عقب المشاورة على شيء واطمأنت به نفسك (فتوكل على الله) في فعل ذلك أي اعتمد عليه وفوض إليه، وقيل إن المعنى فإذا عزمت على أمر أن تمضي فيه فتوكل على الله وثق به لا على المشاورة، والعزم في الأصل قصد الإمضاء أي فإذا قصدت إمضاء أمر فتوكل على الله.
وفيه إشارة إلى أن التوكل ليس هو إهمال التدبير بالكلية وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل بل هو مراعاة الأسباب الظاهرة، مع تفويض الأمر إلى الله، والاعتماد عليه بالقلب.
عن علي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العزم قال مشاورة أهل الرأي ثم اتّباعهم، أخرجه ابن مردويه (إن الله يحب المتوكلين) عليه في جميع أمورهم.(2/365)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)(2/366)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
(إن ينصركم الله) كما فعل يوم بدر، والنصر العون جملة مستأنفة لتأكيد التوكل والحث عليه (فلا غالب لكم) عمم الخطاب هنا تشريفاً للمؤمنين لإيجاب توكلهم عليه (وإن يخذلكم) كما فعل يوم أحد، والخذلان ترك العون أي وإن يترك الله عونكم (فمن ذا الذي ينصركم) استفهام إنكاري (من بعده) الضمير راجع إلى الخذلان المدلول عليه بقوله (وإن يخذلكم) أو إلى الله، وفيه لطف بالمؤمنين حيث صرح لهم بعدم الغلبة في الأول، ولم يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم في الثاني، بل أتى به في صورة الاستفهام وإن كان معناه نفياً ليكون أبلغ، ومن علم أنه لا ناصر له إلا الله سبحانه وأن من نصره الله لا غالب له، ومن خذله لا ناصر له فوض أموره إليه وتوكل عليه، ولم يشتغل بغيره.
(وعلى الله فليتوكل المؤمنون) لا على غيره، وتقديم الجار والمجرور على الفعل لإفادة القصر عليه، وقد وردت في صفة التوكل أحاديث كثيرة صحيحة، وقد عد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتوكل من سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب كما في مسلم.(2/366)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
(وما كان لنبي أن يغل) ما صح له ذلك لتنافي الغلول والنبوة، وقال ابن عباس: ما كان له أن يتهمه أصحابه، قال أبو عبيد الغلول من المغنم خاصة ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد، ومما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة أغل يغل ومن الحقد غل يغل بالكسر، ومن الغلول غل يغل بالضم.
يقال غل في المغنم غلولاً أي خان بأن يأخذ لنفسه شيئاً يستره على(2/366)
أصحابه، فمعنى القراءة بالبناء للفاعل. ما صح لنبي أن يخون شيئاً من المغنم فيأخذه لنفسه من غير اطلاع أصحابه، وفيه تنزيه الأنبياء عن الغلول.
ومعناه على القراءة بالبناء للمفعول ما صح لنبي أن يغله أحد من أصحابه أي يخونه في الغنيمة، وهو على هذه القراءة الأخرى نهي للناس عن الغلول في المغانم، وإنما خص خيانة الأنبياء مع كون خيانة غيرهم من الأئمة والسلاطين والأمراء حراماً لأن خيانة الأنبياء أشد ذنباً وأعظم وزراً.
(ومن يغلل يأت بما غل) أي يأت به حاملاً له على ظهوه (يوم القيامة) كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيفضحه بين الخلائق، وهذه الجملة تتضمن تأكيد تحريم الغلول والتنفير منه بأنه ذنب يختص فاعله بعقوبة على رؤس الأشهاد يطلع عليها أهل الحشر، وهي مجيئه يوم القيامة بما غل حاملاً له قبل أن يحاسب عليه ويعاقب به.
(ثم توفى كل نفس) جزاء (ما كسبت) وافياً من خير أو شر، وهذه الآية تعم كل من كسب خيراً أو شرا، ويدخل تحتها الغالّ دخولاً أولياً لكون السياق فيه، فكأنه ذكر مرتين.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر، فقال بعض الناس لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فنزلت (وهم لا يظلمون) بل يعدل بينهم في الجزاء فيجازى كل على عمله، وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما في ذم الغلول ووعيد الغال (1).
_________
(1) زاد المسير 490(2/367)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)(2/368)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
(أفمن اتبع) الاستفهام للإنكار أو ليس من اتبع (رضوان الله) في أوامره ونواهيه فعمل بأمره واجتنب نهيه (كمن باء) أو رجع (بسخط) عظيم كائن (من الله) بسبب مخالفته لما أمر به ونهى عنه. ويدخل تحت ذلك من اتبع رضوان الله بترك الغلول واجتنابه، ومن باء بسخط منه بسبب إقدامه على الغلول (ومأواه) يعني الغال أو المتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (جهنم وبئس المصير) أي المرجع هي، ونزول الآية في واقعة معينة لا يخصص العموم.
ثم أوضح ما بين الطائفتين من التفاوت فقال(2/368)
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
(هم درجات عند الله) أي متفاوتون في الدرجات والمعنى هم أولو درجات أو لهم درجات إطلاقاً للملزوم على اللازم على سبيل الاستعارة أو جعلهم نفس الدرجات مبالغة في التفاوت بينهم، فهو تشبيه بليغ بحذف الأداة، وهذا ما رجحه القاضي كالكشاف.
فدرجات من اتبع رضوان الله ليست كدركات من باء بسخط من الله، فإن الأولين في أرفع الدرجات، والآخرين في أسفل الدركات (والله بصير بما يعملون) فيه تحريض على العمل بطاعته وتحذير عن العمل بمعاصيه.(2/368)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
(لقد منّ الله على المؤمنين) أي أحسن إليهم وتفضل عليهم، والمنة النعمة العظيمة، وخص المؤمنين لكونهم المنتفعين ببعثة الرسول (إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم) يعني من جنسهم عربياً مثلهم، ولد ببلدهم، ونشأ بينهم يعرفون نسبه، وقيل بشراً مثلهم، ووجه المنة على الأول أنهم يفقهون عنه ويفهمون كلامه، ولا يحتاجون إلى ترجمان، ومعناها على التاني أنهم يأنسون به بجامع البشرية، ولو كان ملكاً لم يحصل كمال الأنس به لاختلاف الجنسية.
وقرىء من أنفسهم بفتح الفاء أي أشرفهم، لأنه من بني هاشم، وبنو هاشم أفضل من قريش وقريش أفضل من العرب، والعرب أفضل من غيرهم.
ولعل وجه الامتنان على هذه القراءة أنه لما كان من أشرفهم كانوا أطوع له وأقرب إلى تصديقه، ولا بد من تخصيص المؤمنين في هذه الآية بالعرب على الوجه الأول، وأما على الوجه الثاني فلا حاجة إلى هذا التخصيص، وكذا على قراءة من قرأ بفتح الفاء لا حاجة إلى التخصيص، لأن بني هاشم هم أنفس العرب والعجم في شرف الأصل وكرم النجار (1) ورفاعة المحتد.
ويدل على الوجه الأول قوله تعالى (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم) وقوله (وإنه لذكر لك ولقومك).
وكان فيما خطب به أبو طالب حين زوّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة بنت خويلد وقد حضر ذلك بنو هاشم ورؤساء مضر: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معدّ، وعنصر مضر، وجعلنا سدنة بيته وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس. وإن ابنى هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به فتى إلا رجح، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطب جليل.
_________
(1) النجار بالضم والكسر الأصل والحسب اهـ منه.(2/369)
(يتلو عليهم آياته) هذه منة ثانية أي يتلو عليهم القرآن بعد أن كانوا أهل جاهلية لا يعرفون شيئاً من الشرائع، ولم يطرق أسماعهم الوحي (ويزكيهم) أي يطهرهم من نجاسة الكفر والذنوب، ودنس المحرمات والخبائت (ويعلمهم الكتاب) أي القرآن (والحكمة) السنّة.
وقد تقدم في البقرة تفسير ذلك وكل واحد من هذه الأمور نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر (وإن كانوا من قبل) أي قبل محمد- صلى الله عليه وسلم - أو من قبل بعثته (لفي ضلال مبين) واضح لا ريب فيه.(2/370)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
(أو لما أصابتكم مصيبة) الألف للاستفهام لقصد التقريع؛ والمصيبة الغلبة والقتل الذي أصيبوا به يوم أحد (قد أصبتم مثليها) يوم بدر، وذلك أن الذين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعون وقد كانوا قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وكان مجموع القتلى والأسرى يوم بدر مثلى القتلى من المسلمين يوم أحد.
والمعنى أحين أصابكم من المشركين نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم و (قلتم أنى هذا) أي من أين أصابنا هذا الإنهزام والقتل ونحن نقاتل في سبيل الله، ومعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد وعدنا الله بالنصر عليهم.
(قل هو من عند أنفسكم) أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يجيب عن سؤالهم
بهذا الجواب أي هذا الذي سألتم عنه هو من عند أنفسكم بسبب مخالفة الرماة لما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من لزوم المكان الذي عينه لهم، وعدم مفارقتهم للمركز على كل حال.
وقيل إن المراد خروجهم من المدينة، ويرده أن الوعد بالنصر إنما كان بعد ذلك وقيل هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل.
وعن علي قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين(2/370)
أمرين إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس فذكر ذلك لهم فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا، لا بل نأخذ فداءهم فنقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم، فليس في ذلك ما نكره فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلاً عدة أسارى أهل بدر.
وهذا الحديث في سنن الترمذي والنسائي، قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة.
وعن عمر بن الخطاب قال لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفرّ أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنه وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فأنزل الله سبحانه وتعالى يعني هذه الآية وأخرجه أحمد بأطول منه.
ولكنه يشكل على حديث التخيير السابق ما نزل من المعاتبة منه سبحانه وتعالى لمن أخذ الفداء بقوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) وما روي من بكائه صلى الله عليه وآله وسلم هو وأبو بكر ندماً على أخذ الفداء ولو كان أخذ ذلك بعد التخيير لهم من الله سبحانه لم يعاتبهم عليه، ولا حصل ما حصل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من الندم والحزن، ولا صوّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى عمر حيث أشار بقتل الأسرى وقال ما معناه لو نزلت عقوبة لهم لم ينج منها إلا عمر، والجميع في كتب الحديث والسير.
أقول ويمكن الجمع بأن يقال إن العتاب نزل أولاً ثم نزل التخيير لأن العتاب على الشروع والعزم على الفداء، والتخيير على تمامه، ويؤيده قوله في الحديث " إن الله قد كره ما صنع قومك " (إن الله على كل شيء قدير) ومنه نصركم على الطاعة وترك نصركم مع المخالفة.(2/371)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)(2/372)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
(وما أصابكم يوم التقى الجمعان) أي ما أصابكم يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة (فبإذن الله) أي فبعلم الله وقيل بقضائه وقدره، وقيل بتخليته بينكم وبينهم (وليعلم) الله (المؤمنين) حقاً(2/372)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
(وليعلم) الله (الذين نافقوا) قيل أعاد الفعل لقصد تشريف المؤمنين عن أن يكون الفعل المسند إليهم وإلى المنافقين واحداً، والمراد بالعلم هنا التمييز والإظهار، لأن علمه تعالى ثابت قبل ذلك، والمراد بالمنافقين هنا عبد الله بن أبي وأصحابه، والنفاق اسم إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام.
(وقيل لهم) معطوف على قوله (نافقوا) وقيل هو كلام مبتدأ أي قيل لعبد الله المذكور وأصحابه (تعالوا قاتلوا في سبيل الله) أعداءه إن كنتم ممن يؤمن بالله واليوم الآخر (أو ادفعوا) عن أنفسكم إن كنتم لا تؤمنون بالله واليوم الآخر فأبوا جميع ذلك.
وقيل معنى الدفع هنا تكثير سواد المسلمين وقيل معناه رابطوا والمرابطة الإقامة في الثغور، والقائل للمنافقين هذه المقالة التي حكاها الله سبحانه هو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري والد جابر بن عبد الله.
و (قالوا لو نعلم قتالاً) أي أنه سيكون قتال (لاتّبعناكم) وقاتلنا معكم ولكنه لا قتال هنالك، وقيل المعنى لو كنا نقدر على القتال ونحسنه(2/372)
لاتبعناكم ولكنا لا نقدر على ذلك ولا نحسنه، وعبّر عن نفي القدرة على القتال بنفي العلم به لكونها مستلزمة له، وفيه بعد لا ملجأ إليه.
وقيل معناه لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتّبعناكم ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال، ولكنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة لعدم القدرة منا ومنكم على دفع ما ورد من الجيش بالبروز إليهم والخروج من المدينة، وهذا أيضاً فيه بعد دون بعد ما قبله.
(هم للكفر يومئذ) أي هم في هذا اليوم الذي انخذلوا فيه عن المؤمنين إلى الكفر (أقرب منهم للإيمان) عند من كان يظن أنهم مسلمون لأنهم قد بيّنوا حالهم وهتكوا أستارهم وكشفوا عن نفاقهم إذ ذاك، وقيل المعنى أنهم لأهل الكفر يومئذ أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان.
(يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما تقدمها أي أنهم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وذكر الأفواه للتأكيد مثل قوله (يطير بجناحيه) وقال الزمخشري: ذكر القلوب مع الأفواه تصوير لنفاقهم، وإنما إيمانهم موجود في أفواههم فقط، وهذا الذي قاله الزمخشري ينفي كونه للتأكيد لتحصيله هذه الفائدة (والله أعلم بما تكتمون) من النفاق (1).
_________
(1) قال ابن عباس: والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أُبَيّ، وأصحابه. قال موسى بن عقبة: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، ومعه المسلمون، وهم ألف رجل، والمشركون ثلاثة آلاف، فرجع عنه ابن أبي في ثلاثمئة. فأما القتال، فمباشرة الحرب. وفي المراد بالدفع ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه التكثير بالعدد. رواه مجاهد عن ابن عباس وهو قول الحسن، وعكرمة، والضحاك، والسدي، وابن جريج في آخرين.
والثاني: أن ادفعوا عنها أنفسكم وحريمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول مقاتل.
والثالث: أنه بمعنى القتال أيضاً. قاله ابن زيد.(2/373)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)(2/374)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
(والذين قالوا لإخوانهم وقعدوا) أي قالوا لهم ذلك، والحال أن هؤلاء القائلين قد قعدوا عن القتال (لو أطاعونا) بترك الخروج من المدينة (ما قتلوا) فرد الله ذلك عليهم بقوله (قل فادرؤا عن أنفسكم الموت) الدرء الدفع أي لا ينفع الحذر عن القدر، فإن المقتول يقتل بأجله (إن كنتم صادقين) في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلاً وهو القعود عن القتال. فخذوا إلى دفع الموت طريقاً، قيل إنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقاً من غير قتال ومن غير خروج لإظهار كذبهم والله تعالى أعلم.(2/374)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)
لما بين الله سبحانه أن ما جرى على المؤمنين يوم أحد كان امتحاناً ليتميز المؤمن من المنافق والصادق من الكاذب، بين ههنا أن من لم ينهزم وقتل فله هذه الكرامة والنعمة، وأن مثل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون، لا مما يخاف ويحذر كما قال من حكى الله عنهم (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) وقالوا لو أطاعونا ما قتلوا. فهذه الجملة مستأنفة لبيان هذا المعنى والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل أحد.
وقرىء بالياء التحتية أي لا يحسبن حاسب.
وقد اختلف أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم فقيل شهداء أحد وقيل شهداء بدر، وقيل شهداء بئر معونة، وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.(2/374)
ومعنى الآية عند الجمهور أنهم أحياء حياة محققة، ثم اختلفوا فمنهم من يقول إنها ترد إليهم أرواحهم في قبورهم فيتنعمون. وقال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة أي يجدون ريحها وليسوا فيها.
وذهب من عدا الجمهور إلى أنها حياة مجازية، والمعنى أنهم في حكم الله مستحقون للنعم في الجنة، والصحيح الأول ولا موجب للمصير إلى المجاز.
وقد وردت السنة المطهرة بأن أرواحهم في أجواف طيور خضر، وأنهم في الجنة يرزقون ويأكلون ويتمتعون، فالطيور للأرواح كالهوادج للجالسين فيها، وبهذا قد استدل من قال أن الحياة للروح فقط، وقيل إن الحياة للروح والجسد معاً، واستدل له بقوله (عند ربهم يرزقون) الخ.
وعلى الأول وجه امتيازهم من غيرهم أن أرواحهم تدخل الجنة من وقت خروجها من أجسادهم، وأرواح بقية المؤمنين لا تدخل إلا مع أجسادها يوم القيامة، والامتياز على الثاني ظاهر.
وقال ابن عباس نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه، وعن أبي الضحى أنها نزلت في قتلى أحد وحمزة منهم.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، وفي لفظ قالوا من يبلغ إخواننا أنا أحياء في الجنة لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزل هذه الآيات (ولا تحسبن الذين قتلوا) الآية وما بعدها (1).
_________
(1) المستدرك - كتاب التفسير 2/ 297.(2/375)
وقد روي من وجوه كثيرة أن سبب نزول الآية قتلى أحد، وعن أنس أن سبب نزول هذه الآية قتلى بئر معونة، وعلى كل حال فالآية باعتبار عموم لفظها يدخل تحتها كل شهيد في سبيل الله.
وقد ثبت في أحاديث كثيرة في الصحيح وغيره أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر، وثبت في فضل الشهداء ما يطول تعداده ويكثر إيراده مما هو معروف في كتب الحديث (1).
وقوله (الذين قتلوا) هو المفعول الأول، والحاسب هو النبي - صلى الله عليه وسلم - أو كل أحد كما سبق. وقيل معناها لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً، وهذا تكلف لا حاجة إليه، ومعنى النظم القرآني في غاية الوضوح والجلاء.
قيل وفي الكلام حذف والتقدير عند كرامة ربهم، قال سيبويه هذه عنديّة الكرامة لا عندية القرب، والمراد بالرزق هو الرزق المعروف في العادات على ما ذهب إليه الجمهور كما سلف وعند من عدا الجهور المراد به الثناء الجميل.
ولا وجه يقتضي تحريف الكلمات العربية في كتاب الله تعالى وحملها على مجازات بعيدة لا بسبب يقتضي ذلك.
وقد تعلق بهذا من يقول بالتناسخ من المبتدعة، ويقول بانتقال الأرواح وتنعيمها في الصور الحسان المرفهة وتعذيبها في الصور القبيحة، ويزعمون أن هذا هو الثواب والعقاب؟ وهذا ضلال مبين، وقول ليس عليه أثارة من علم لما فيه من إبطال ما جاءت به الشرائع من الحشر والنشر والمعاد والجنة والنار والأحاديث الصحيحة تدفعه وترده.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد 2388 وأبو داود 2389 والطبري 7/ 385 والحاكم 2/ 297 وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.(2/376)
فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)(2/377)
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
(فرحين بما آتاهم الله) أي ما ساقه إليهم من الكرامة بالشهادة وما صاروا فيه من الحياة وما يصل إليهم من رزق الله سبحانه، والزلفى من الله والتمتع بالنعيم المخلد عاجلاً (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) من إخوانهم الذين تركوهم أحياء في الدنيا على منهج الإيمان والجهاد، والمراد اللحوق بهم في القتل والشهادة أي بل سيلحقون بهم من بعد، وقيل المراد لم يلحقوا بهم في الفضل وإن كانوا أهل فضل في الجملة.
وقيل المراد بإخوانهم هنا جميع المسلمين الشهداء وغيرهم، لأنهم لما عاينوا ثواب الله وحصل لهم اليقين بحقية دين الإسلام استبشروا بذلك لجميع أهل الإسلام الذين هم أحياء لم يموتوا، وهذا قوي لأن معناه أوسع، وفائدته أكثر، واللفظ يحتمله بل هو الظاهر، وبه قال الزجاج وابن فورك.
(أن لا خوف عليهم) في الآخرة والخوف غم يلحق الإنسان بما يتوقعه من السوء (ولا هم يحزنون) على ما فاتهم من نعيم الدنيا والحزن غم يلحقه من فوات نافع أو حصول ضار، فمن كانت أعماله مشكورة فلا يخاف العاقبة ومن كان متقلباً في نعمة الله وفضله فلا يحزن أبداً.(2/377)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
(يستبشرون بنعمة من الله وفضل) كرر قوله يستبشرون لتأكيد الأول، قاله الزمخشري ولبيان أن الاستبشار ليس بمجرد عدم الخوف والحزن بل به(2/377)
وبنعمة الله وفضله، والنعمة ما ينعم الله به على عباده، والفضل ما يتفضل به عليهم وقيل النعمة الثواب والفضل الزائد، وقيل النعمة والفضل داخل في النعمة، ذكر بعدها لتأكيدها.
وقيل إن الاستبشار الأول متعلق بحال إخوانهم والاستبشار الثاني بحال أنفسهم (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) كما لا يضيع أجر الشهداء والمجاهدين، وقد ورد في فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله ما يطول تعداده من الأحاديث الصحيحة والآيات الكريمة.(2/378)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
(الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) صفة للمؤمنين أو بدل منهم أو من الذين لم يلحقوا بهم أو هو مبتدأ خبره للذين أحسنوا منهم بجملته أو منصوب على المدح، وقد تقدم تفسير القرح، قال سعيد ابن جبير القرح الجراحات (1).
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة في هذه الآية أنها قالت لعروة بن الزبير يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر لما أصاب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال من يرجع في أثرهم فانتدب منهم سبعون فيهم أبو بكر والزبير، والروايات في هذا الباب كثيرة قد اشتملت عليها كتب الحديث والتفسير.
_________
(1) جاء في " الدر المنثور " ج 2/ 101. وأخرج النسائي، وابن أبي حاتم، والطبراني بسند صحيح من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: لا رجع المشركون عن أحد، قالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا، فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فندب المسلمين. فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد، أو بئر أبي عنبة -شك سفيان- فقال المشركون: نرجع قابل، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانت تعد غزوة، فأنزل الله (الذين استجابوا لله والرسول) الآية. وقد كان أبو سفيان قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: موعدكم موسم بدر حيث قتلتم أصحابنا، فأما الجبان فرجع، وأما الشجاع فأخذ أهبة القتال والتجارة، فأتوه فلم يجدوا به أحداً وتسوقوا، فأنزل الله تعالى: (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) الآية.(2/378)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)(2/379)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
(الذين قال لهم الناس) المراد بالناس هنا نعيم بن مسعود وجاز لفظ الناس عليه لكونه من جنسهم فهو من قبيل العام الذي أريد به الخاص أو من إطلاق الكل وإرادة البعض كقوله أم يحسدون الناس يعني محمداً وحده.
ونقل على القارىء أنه أسلم يوم الخندق وهو مصرح به في المواهب، وقيل المراد بالناس ركب عبد القيس الذين مروا بأبي سفيان، وقيل هم المنافقون.
والمراد بقوله (إن الناس قد جمعوا لكم) أبو سفيان وغيره من أصحابه، والعرب تسمى الجيش جمعاً (فاخشوهم) أي فخافوهم فإنه لا طاقة لكم بهم (فزادهم إيماناً) أي تصديقاً بالله ويقيناً، والمراد أنهم لم يفشلوا لما سمعوا ذلك ولا التفتوا إليه بل أخلصوا لله وازدادوا طمأنينة وقوة في دينهم وثبوتاً على نصر نبيهم، وفيه دليل أن الإيمان يزيد وينقص.
(وقالوا حسبنا الله) حسب مصدر حسبه أي كفاه وهو بمعنى الفاعل أي محسب بمعنى كاف، قال في الكشاف الدليل على أنه المحسب أنك تقول هذا رجل حسبك فتصف به النكرة لأن إضافته لكونه بمعنى اسم الفاعل غير حقيقية (ونعم الوكيل) هو من يوكل إليه الأمور أي نعم الموكول إليه أمرنا أو الكافي أو الكافل والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم الوكيل الله سبحانه.
وقد ورد في فضل هذه الكلمة أعني حسبنا الله ونعم الوكيل أحاديث منها ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس قال: قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقاله محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، قال ابن كثير بعد إخراجه: هذا(2/379)
حديث غريب من هذا الوجه (1).
وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حسبنا الله ونعم الوكيل أمان كل خائف.
وأخرج ابن أبي الدنيا في الذكر عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتد غمّه مسح بيده على رأسه ولحيته ثم تنفس الصعداء وقال حسبي الله ونعم الوكيل.
_________
(1) ابن كثير 1/ 430.(2/380)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
(فانقلبوا بنعمة من الله) أي فخرجوا إليهم فانقلبوا، والتنوين للتعظيم أي رجعوا متلبّسين بنعمة عظيمة وهي السلامة من عدوهم وعافية (وفضل) أي أجر تفضل الله به عليهم، وقيل ربح في التجارة، وقيل النعمة خاصة بمنافع الدنيا والفضل بمنافع الآخرة.
وقد تقدم تفسيرهما قريباً بما يناسب ذلك المقام لكون الكلام فيه مع الشهداء الذين صاروا في الدار الآخرة، والكلام هنا مع الأحياء.
وقوله (لم يمسسهم سوء) أي سالمين عنه لم يصبهم قتل ولا جرح ولا ما يخافونه، وقال ابن عباس: لم يؤذهم أحد (واتبعوا رضوان الله) فيما يأتون ويذرون وأطاعوا الله ورسوله، ومن ذلك خروجهم لهذه الغزوة.
وعن ابن عباس: النعمة أنهم سلموا، والفضل أن عيراً مرت وكان في أيام الموسم فاشتراها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فربح مالاً فقسمه بين أصحابه، وعن مجاهد قال الفضل: ما أصابوا من التجارة والأجر، وقال السدي أما النعمة فهي العافية وأما الفضل فالتجارة والسوء القتل.
(والله ذو فضل عظيم) لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه، ومن تفضله عليهم تثبيتهم وخروجهم للقاء عدوهم وإرشادهم إلى أن يقولوا هذه المقالة التي هي جالبة لكل خير، ودافعة لكل لضر، وقيل تفضل عليهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين حتى رجعوا.(2/380)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)(2/381)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
(إنما ذلكم) المثبّط لكم والمخوّف أيها المؤمنون (الشيطان) والظاهر أن المراد هنا الشيطان نفسه باعتبار ما يصدر منه من الوسوسة المقتضية للتثبيط، وقيل المراد به نعيم بن مسعود لما قال لهم تلك المقالة، وقيل أبو سفيان لما صدر منه الوعيد لهم، والمعنى أن الشيطان (يخوّف) المؤمنين (أولياءه) وهم الكافرون وقال ابن عباس: الشيطان يخوف بأوليائه، وقال أبو مالك: يعظّم أولياءه في أعينكم. وقال الحسن: إنما كان ذلك تخويف الشيطان، ولا يخاف الشيطان إلا وليّ الشيطان.
(فلا تخافوهم) أي أولياءه الذين يخوفكم بهم الشيطان أو فلا تخافوا الناس المذكورين في قوله (إن الناس قد جمعوا لكم) نهاهم الله سبحانه أن يخافوهم فيجبنوا عن اللقاء ويفشلوا عن الخروج، وأمرهم بأن يخافوا الله سبحانه فقال (وخافون) هذه الياء التي بعد النون اختلف السبعة في إثباتها لفظاً واتفقوا على حذفها في الرسم لأنها من آيات الزوائد كلها لا ترسم، وجملتها اثنتان وستون، والمعنى فافعلوا ما آمركم به واتركوا ما أنهاكم عنه، لأني الحقيق بالخوف مني، والمراقبة لأمري ونهي لكون الخير والشر بيدي وقيده بقوله (إن كنتم مؤمنين) لأن الإيمان يقتضي ذلك ويستدعي الأمن من شر الشيطان وأوليائه.(2/381)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
(ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) يقال حزنني الأمر وهي لغة قريش وأحزنني وهي لغة تميم، والأولى أفصح، والغرض من هذا تسليته - صلى الله عليه وسلم -(2/381)
وتصبيره على تعنّتهم في الكفر، وتعرّضهم له بالأذى، وضمن يسارعون يقعون فعدّى بفي أي لا يحزنك مسارعتهم لمقوّيات الكفر من قول وفعل، فهذا هو الذي يسارع إليه أي الأمور المقوية له كالتهيؤ لقتال النبي، وأما الكفر فهو دائم فيهم فلا تتأتى مسارعتهم للوقوع فيه لأن هذا التعبير يشعر بطروء هذا الأمر.
وأما إيثار كلمة (إلى) في قوله تعالى (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) فلأن المغفرة والجنة منتهى المسارعة وغايتها، وقيل هم قوم ارتدوا فاغتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك فسلاّه الله سبحانه ونهاه عن الحزن وعلل ذلك بقوله.
(إنهم لن يضروا الله شيئاً) أي شيئاً من الضرر، والتنكير لتأكيد ما فيه من القلة والحقارة، وقيل على نزع الجار أي بشيء ما أصلاً، وقيل هم كفار قريش، وقيل هم المنافقون ورؤساء اليهود، وقيل هو عام في جميع الكفار.
قال القشيري: والحزن على كفر الكافر طاعة ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفرط في الحزن فنهى عن ذلك كما قال تعالى (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) وقال (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) والمعنى أن كفرهم لا ينقص من ملك الله سبحانه شيئاً، وقيل المراد لن يضروا أولياءه، ويحتمل أن يراد لن يضروا دينه الذي شرعه لعباده، وفيه مزيد مبالغة في التسلية.
(يريد الله ألاّ يجعل لهم حظاً) نصيباً (في الآخرة) أو نصيباً من الثواب، وصيغة الاستقبال للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها، وفي الآية دليل على أن الخير والشر بإرادة الله تعالى، وفيه رد على القدرية والمعتزلة (ولهم عذاب عظيم) في النار بسبب مسارعتهم في الكفر، فكان ضرر كفرهم عائداً عليهم جالباً لهم عدم الحظ في الآخرة ومصيرهم إلى العذاب العظيم.(2/382)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)(2/383)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
(إن الذين اشتروا) استبدلوا (الكفر بالإيمان) وقد تقدم تحقيق هذه الاستعارة والمراد المنافقون آمنوا ثم كفروا (لن يضروا الله شيئاً) نفي الضرر معناه كالأول وهو للتأكيد لما تقدمه، وقيل إن الأول خاص بالمنافقين والثاني يعم جميع الكفار، والأول أولى (ولهم عذاب أليم) في الآخرة، ولما جرت العادة بسرور المشتري بما اشتراه عند كون الصفقة رابحة، وبتألمه عند كونها خاسرة، ناسب وصف العذاب بالأليم.
(ولا تحسبن الذين كفروا) وقرىء بالتحتية فالمعنى لا يحسبن الكافرون (أنما نملي لهم) بتطويل الأعمال وتأخيرهم ورغد العيش، أو بما أصابوا من الظفر يوم أحد (خير لأنفسهم) فليس الأمر كذلك بل هو شر واقع عليهم ونازل بهم، وعلى الأولى لا تحسبن يا محمد - صلى الله عليه وسلم - أن الإملاء للذين كفروا بما ذكر خير لهم.
(إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً) بكثرة المعاصي، واللام لام الإرادة أي إرادة زيادة الإثم، وهي جائزة عند الأشاعرة ولا تخلو عن حكمة، وعند المعتزلة القائلين بأنه تعالى لا يريد القبيح هي لام العافية وهي جملة مستأنفة مبينة لوجه الإملاء للكافرين. أو تكرير للأولى. والإملاء الإمهال والتأخير، وأصله من الملوأة وهي المدة من الزمان يقال أمليت له في الأمر أخرت وأمليت للبعير في القيد أرخيت له ووسعت (ولهم عذاب مهين) في الآخرة.
قال أبو السعود لما تضمن الإملاء التمتع بطيبات الدنيا وزينتها وذلك(2/383)
مما يقتضي التعزز والتكوم وصف عذابهم بالإهانة ليكون جزاؤهم جزاء وفاقاً انتهى.
واحتج الجمهور بهذه الآية على بطلان ما يقوله المعتزلة لأنه سبحانه أخبر بأنه يطيل أعمار الكافرين ويجعل عيشهم رغداً ليزدادوا إثماً، قال أبو حاتم وسمعت الأخفش يذكر كسر (أنما نملي) الأولى وفتح الثانية ويحتج بذلك لأهل القدر لأنه منهم ويجعله على هذا التقدير(2/384)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
(ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثماً نملي لهم خير لأنفسهم).
وقال في الكشاف إن ازدياد الإثم علة، وما كل علة بغرض، ألا تراك تقول قعدت عن الغزو للعجز والفاقة وخرجت من البلد لمخافة الشر، وليس شيء من ذلك بغرض لك، وإنما هي أسباب وعلل.
وعن ابن مسعود قال: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها من الحياة إن كان براً فقد قال تعالى: (وما عند الله خير للأبرار) وان كان فاجراً فقد قال تعالى (ولا يحسبن الذين كفروا) الآية، وعن أبي الدرداء ومحمد ابن كعب وأبي هريرة نحوه (1).
_________
(1) أخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه
عن ابن مسعود قال: ما من نفس برة، ولا فاجرة، إلا والموت خير لها من الحياة. إن كان براً، فقد قال الله تعالى: (وما عند الله خير للأبرار) وإن كان فاجراً، فقد قال الله تعالى: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً) وإسناده صحيح.(2/384)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)(2/385)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
(ما كان الله) كلام مستأنف (ليذر المؤمنين) هذه اللام تسمى لام الجحود وينصب بعدها المضارع بإضمار إن ولا يجوز إظهارها ولهذا القول دلائل واعتراضات مذكورة في كتب النحو.
والخطاب في قوله (على ما أنتم عليه) عند جمهور المحدّثين للكفار والمنافقين، وقيل الخطاب للمؤمنين والمنافقين أي ما كان الله ليترككم على الحال الذي عليه أنتم من الاختلاط، وقيل الخطاب للمشركين، والمراد بالمؤمنين من في الأصلاب والارحام أي ما كان الله ليذر أولادكم على ما أنتم عليه حتى يفرق بينكم وبينهم.
وقيل الخطاب للمؤمنين أي ما كان الله ليذركم يا معشر المسلمين على ما أنتم عليه من الاختلاط بالمنافقين حتى يميز بينكم، وعلى هذا الوجه والوجه الثاني يكون في الكلام التفات.
(حتى يميز الخبيث من الطيب) أي بعضكم من بعض، قال ابن عباس: يميز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وقال قتادة يميز بينهم في الجهاد والهجرة، وقرىء يميز بالتشديد بالمخفّف من ماز الشيء يميزه ميزاً إذا فرق بين شيئين، فإن كانت أشياء قيل ميزها تمييزاً.(2/385)
(وما كان الله ليطلعكم على الغيب) الخطاب لكفار قريش أي ما كان ليبيّن لكم المؤمن من الكافر فيقول فلان كافر، وفلان مؤمن وفلان منافق لتعرفوا قبل التمييز لأن المستأثر بعلم الغيب لا يظهر على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول فيميز بينكم، كما وقع من نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من تعيين كثير من المنافقين، فإن ذلك كان بتعليم الله له لا بكونه يعلم الغيب أو أن يشاهد أمراً يدل على أمر يكون من بعد كما نصب له علامات دالة على مصارع الكفار يوم بدر، وقيل المعنى ما كان الله ليطلعكم على الغيب فيمن يستحق النبوة حتى يكون الوحي باختياركم.
(ولكن الله يجتبي) أي يختار أو يختص، قاله مجاهد وعن مالك يستخلص (من رسله من يشاء) فيطلعه على ما يشاء من غيبه، عن السدي قال: قالوا إن كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم صادقاً فليخبرنا بمن يؤمن منا ومن يكفر، فأنزل الله هذه الآية، وعن الحسن قال لا يطلع على الغيب إلا رسول (فآمنوا بالله ورسله) بصفة الإخلاص (وإن تؤمنوا وتتقوا) النفاق (فلكم أجر عظيم) في الآخرة.(2/386)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
(ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم) أي لا يحسبن الباخلون البخل خيراً لهم، قاله الخليل وسيبويه والفراء وقرىء بالتاء أي لا تحسبن يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخل الذين يبخلون خيراً لهم، قال الزجاج هو مثل (واسئل القرية) الآية دالة على ذم البخل، وقد ورد فيه أحاديث.
قال البرد: والسين في قوله (سيطوقون ما بخلوا به) سين الوعيد، وهذه الجملة مبينة لمعنى ما قبلها قيل ومعنى التطويق هنا أنه يكون ما بخلوا به من المال طوقاً من نار في أعناقهم، وقيل معناه أنهم سيحملون عقاب ما بخلوا به،(2/386)
فهو من الطاقة وليس من التطويق.
وقيل المعنى أنهم يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق، يقال طوّق فلان عمله طوق الحمامة أي ألزم جزاء عمله.
قال القرطبي: البخل في أصل اللغة أن يمنع الإنسان الحق الواجب، فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل، قال في القاموس البخل ضد الكرم.
وقد ذكر الشوكاني في شرحه للمنتقى عند قوله - صلى الله عليه وسلم - اللهم إني أعوذ بك من البخل أنه قيده بحضهم بما يجب إخراجه، ثم قال: ولا وجه له لأن البخل بما ليس بواجب من غرائز النقص المضادة للكمال، والتعوذ منه حسن بلا شك، فالأولى تبقية الحديث على عمومه انتهى، فمعنى البخل عام لا كما ذكره القرطبي.
وأما في الآية فهو للواجب ولكن عبارته تفيد التعميم والله أعلم، قال ابن عباس: هم أهل الكتاب بخلوا به أن يبثوه للناس، وعن مجاهد قال: هم اليهود، وعن السدي: قال بخلوا أن ينفقوها في سبيل الله ولم يؤدوا زكاتها.
(يوم القيامة) بأن يجعل حية في عنقه تنهشه كما أخرج البخارى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثّل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه يعنى بشدقيه فيقول أنا مالك أنا كنزك " ثم تلا هذه الآية، وقد ورد هذا المعنى في أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة يرفعونها (1).
_________
(1) أخرجه أحمد في " المسند " رقم 3577، والترمذي، وابن خزيمة، وابن ماجة ج/1/ 567، ولفظه: [ص:388]
" ما من أحد يؤدي زكاة ماله، إلا مُثّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع حتى يطوق عنقه "، ثم قرأ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصداقه من كتاب الله: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) الآية.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروى البخاري ج/8/ 273، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مثل له ماله شجاعاً أقرع له زبيتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) إلى آخر الآية.
الشجاع: الحية الذكر، وهو ضرب من الحيات، خبيث مارد. وأقرع: صفة من صفات الحيات الخبيثة، يزعمون أنه إذا طال عمر الحية، وكثر سمه، جمعه في رأسه حتى تتمعط منه فروة رأسه.(2/387)
(ولله ميراث السموات والأرض) أي له وحده لا لغيره كما يفيده التقديم والمعنى أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلهما ومنه المال، فما بالهم يبخلون بذلك ولا ينفقونه وهو لله سبحانه لا لهم. وإنما كان عندهم عارية مستردة.
ومثل هذه الآية قوله تعالى (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها) وقوله (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) والميراث في الأصل هو ما يخرج من مالك إلى آخر، ولم يكن مملوكاً. لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث، ومعلوم أن الله سبحانه هو المالك بالحقيقة لجيمع مخلوقاته (والله بما تعملون خبير) قرىء بالتاء على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد، وقرىء بالياء على الظاهر.(2/388)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
(لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) قال أهل التفسير لما أنزل الله من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً، قال قوم من اليهود هذه المقالة تمويهاً على ضعفائهم لا أنهم يعتقدون ذلك لأنهم أهل كتاب، بل أرادوا أنه تعالى إن صح ما طلبه منا من القرض على لسان محمد- صلى الله عليه وسلم - فهو فقير، ليشككوا على إخوانهم في دين الإسلام.
(سنكتب ما قالوا) في صحف الملائكة أو سنحفظه أو سنجازيهم عليه والمراد الوعيد لهم وإن ذلك لا يفوت على الله بل هو معد لهم ليوم الجزاء.
وجملة سنكتب على هذا مستأنفة جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل ماذا صنع الله بهؤلاء الذين سمع منهم هذا القول الشنيع، فقال: قال لهم سنكتب ما قالوا (و) نكتب (قتلهم الأنبياء) أي قتل أسلافهم للأنبياء، وإنما نسب ذلك إليهم لكونهم رضوا به، جعل ذلك القول قريناً لقتل الأنبياء تنبيهاً على أنه من العظيم والشناعة بمكان يعدل قتل الأنبياء (بغير حق) حتى في اعتقادهم، فكانوا يعتقدون أن قتلهم لا يجوز ولا يحل وحينئذ فيناسب شن الغارة عليهم.
(ونقول) أي ننتقم منهم بعد الكتابة بهذا القول الذي نقوله لهم في النار أو عند الموت أو عند، الحساب، وقرىء بالياء أي يقول الله لهم في الآخرة على لسان الملائكة (ذوقوا عذاب الحريق) الحريق اسم للنار الملتهبة، وإطلاق الذوق على إحساس العذاب فيه مبالغة بليغة (1).
_________
(1) أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل بيت مِدْراس اليهود، فوجدهم قد اجتمعوا على رجل منهم، اسمه فنحاص، فقال له أبو بكر: اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله. فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنياً عنا ما استقرض منا. فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والله لولا العهد الذي بيننا لضربت عنقك. فذهب فنحاص يشكو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره أبو بكر بما قال، فجحد فنحاص، فنزلت هذه الآية.(2/389)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
والإشارة بقوله(2/390)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
(ذلك بما قدمت أيديكم) إلى العذاب المذكور قبله، وأشار إلى القريب بالصيغة التي يشار بها إلى البعيد للدلالة على بعد منزلته في الفظاعة، وذكر الأيدي لكونها المباشرة لغالب المعاصي (وأن الله ليس بظلام للعبيد) معطوف على ما قدمت أيديكم.
ووجهه أنه سبحانه عذبهم بما أصابوا من الذنب وجازاهم على فعلهم فلم يكن ذلك ظلماً، أو بمعنى أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء وليس بظالم لمن عذبه بذنبه، وقيل إن وجهه أن نفي الظلم مستلزم للعدل المقتضى لإثابة المحسن ومعاقبة المسيء، ورد بأن ترك التعذيب مع وجود سببه ليس بظلم عقل ولا شرعاً حتى ينتهض نفي الظلم سبباً للتعذيب.
وقيل إن جملة قوله وأن الله ليس بظلام للعبيد في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن الله ليس بظلام للعبيد، والتعبير بذلك عن نفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم عند أهل السنة فضلاً عن كونه ظلماً بالغاً لبيان تنزهه عن ذلك، ونفي ظلاّم المشعر بالكثرة يفيد ثبوت أصل الظلم، وأجيب عن ذلك بأن الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلماً لكان عظيماً فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتاً، عن ابن عباس قال: ما أنا بمعذب من لم يجترم.(2/390)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
(الذين قالوا) أي جماعة من اليهود (إن الله عهد الينا) في التوراة (ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار) وهذا منهم كذب على التوراة إذ الذي فيها مقيد بغير عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. والقربان ما يتقرب به إلى الله من نسيكة وصدقة وعمل صالح، وهو فعلان من القربة، وقد كان دأب بني إسرائيل أنهم كانوا يقرّبون القربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار من السماء فتحرقه، ولم يتعبّد الله بذلك كل أنبيائه ولا جعله دليلاً على صدق دعوى النبوة.
ولهذا رد الله عليهم فقال (قل قد جاءكم رسل من قبلي) كيحيى بن زكريا وشعياء وسائر من قتلوا من الأنبياء (بالبيّنات) أي الدلالات الواضحات على صدقهم (وبالذي قلتم) أي بالقربان (فلم قتلتموهم) أراد بذلك فعل أسلافهم (إن كنتم صادقين) في دعواكم.(2/391)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
(فإن كذّبوك) يا محمد هؤلاء اليهود (فقد كذّب) (رسل من قبلك) مثل نوح وهود وصالح وإبراهيم وغيرهم من الرسل (جاؤوا بالبينات) أي الحلال والحرام أو المعجزات الباهرات (والزبر) جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرته إذا حسنته، وقيل الزبر الواعظ والزواجر من زبرته إذا زجرته (والكتاب المنير) الواضح الجلي المضيء، يقال نار الشيء واستنار وأناره ونوره بمعنى.
وقال قتادة: الزبر كتب الأنبياء والكتاب المنير هو القرآن الكريم، وقيل الزبر المصحف، والكتاب المنير التوراة والإنجيل، وزاد أبو السعود والكتاب في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام، ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين في عامة المواقع.(2/391)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
(كل نفس ذائقة الموت) من الذوق وهذه الآية تتضمن الوعد والوعيد للمصدق والمكذب بعد إخباره عن الباخلين القائلين أن الله فقير ونحن أغنياء، وقرىء ذائقة الموت بالتنوين ونصب الموت، وقرأ الجمهور بالإضافة.
والمعنى ذائقة موت أجسادها إذ النفس لا تموت، ولو ماتت لما ذاقت الموت في حال موتها. لأن الحياة شرط في الذوق وسائر الإدراكات، وقوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) معناه حين موت أجسادها، قاله الكرخي.
وهذا يقتضي أن المراد بالنفس هنا الروح، والحامل له على تفسيرها بذلك التأنيث في قوله ذائقة لأنها بمعنى الروح مؤنثة وتطلق أيضاً على مجموع الجسد والروح الذي هو الحيوان، وهي بهذا المعنى مذكر، وهذا المعنى الثاني تصح إرادته هنا أيضاً بل هو الأقرب المتبادر إلى الفهم.
(وإنما توفّون أجوركم يوم القيامة) أجر المؤمن الثواب وأجر الكافر العقاب أي أن توفية الأجور وتكميلها على التمام إنما يكون في ذلك اليوم، وما يقع من الأجور في الدنيا أو في البرزخ فإنما هو بعض الأجور كما ينبىء عنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران (1).
(فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) الزحزحة التنحية والإبعاد تكرير الزحّ وهو الجذب بعجلة، قاله في الكشاف، وقد سبق الكلام عليه أي فمن بعد عن النار يومئذ ونحّى فقد ظفر بما يريد ونجا مما يخاف، ونال غاية مطلوبه.
_________
(1) الترمذي كتاب القيامة الباب 26.(2/392)
وهذا هو الفوز الحقيقي الذي لا فوز يقاربه. فإن كل فوز وإن كان بجميع المطالب دون الجنة ليس بشيء بالنسبة إليها إلا رؤية الله سبحانه وتعالى فهو أفضل نعيم الآخرة في الجنة، اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة ولا عيش إلا عيشها ولا نعيم إلا نعيمها فاغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وارض عنا رضاً لا سخط بعده، واجمع لنا بين الرضا منك علينا والجنة.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، إقرؤوا إن شئتم (فمن زحزح عن النار إلى قوله الغرور) أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه وغيرهما (1).
(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) المتاع كل ما يتمتع به الإنسان وينتفع به ثم يزول ولا يبقى كذا قال أكثر المفسرين، وقيل المتاع كالفاس والقدر والقصعة ونحوها، والأول أولى، والغرور إما مصدر أو جمع غار، وقيل ما يغر الإنسان مما لا يدوم وقيل الباطل، والغرور الشيطان يغر الناس بالأماني الباطلة والمواعيد الكاذبة.
شبّه سبحانه الدنيا بالمتاع الذي يدلّس به على من يريده وله ظاهر محبوب، وباطن مكروه، قيل متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم، قال سعيد بن جبير: هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة فأما من اشتغل بطلبها فهي له متاع وبلاغ إلى ما هو خير منها.
_________
(1) روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، اقرؤوا إن شئتم: (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) ورواه أحمد في " المسند "، والترمذي، والحاكم في " المستدرك " وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
وروى الإمام أحمد في " المسند " رقم 6807، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أحب أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ". ورواه الإمام مسلم بأطول منه.(2/393)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)(2/394)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
(لتبلون في أموالكم وأنفسكم) اللام لام القسم أي والله لتبونّ، هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته تسلية لهم بما سيلقونه من الكفرة والفسقة ليوطّنوا أنفسهم على الثبات والصبر على المكاره، والابتلاء الامتحان والاختبار، والمعنى لتمتحننّ ولتختبرنّ في أموالكم بالمصايب والإنفاقات الواجبة وسائر التكاليف الشرعية المتعلقة بالأموال، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفقد الأحباب والقتل في سبيل الله.
(ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) قال الزهري: الذين أوتوا الكتاب هو كعب بن الأشرف وكان يحرض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في شعره، وعن ابن جريج قال: يعني اليهود والنصارى. فكان المسلمون يسمعون من اليهود عزيز ابن الله ومن النصارى المسيح ابن الله.
(ومن الذين أشركوا) سائر الطوائف الكفرية من غير أهل الكتاب (أذى كثيراً) من الطعن في دينكم وأعراضكم. وزاد السيوطي والتشبيب بنسائكم، قاله في الجمل، هو ذكر أوصاف الجمال وكان يفعل ذلك كعب بن الأشرف بنساء المؤمنين.(2/394)
(وإن تصبروا وتتّقوا) الصبر عبارة عن احتمال الأذى والمكروه والتقوى عن الاحتراز عما لا ينبغي (فإن ذلك) الصبر والتقوى المدلول عليهما بالفعلين وأشار بما فيه من معنى البعد للإيذان بعلوّ درجتهما وبعد منزلتهما وتوحيد حرف الخطاب إمّا باعتبار كل واحد من المخاطبين، وإما لأن المراد بالخطاب مجرد التنبيه من غير ملاحظة خصوصية أحوال المخاطبين.
(من عزم الأمور) معزوماتها التي يتنافس فيها المتنافسون، أي مما يجب عليكم أن تعزموا عليه لما فيه من كمال المزيّة والشرف، أو لكونه عزمة من عزمات الله التي أوجب عليكم القيام بها، يقال عزم الأمر أي شده وأصلحه، وأصله ثبات الرأي على الشيء إلى إمضائه.
وقالى المرزوقي: إنه توطين النفس عند الفكر، والمراد أن يوطدوا أنفسهم على الصبر، فإن العالم بنزول البلاء عليه لا يعظم وقعه في قلبه بخلاف غير العالم فإنه يعظم عنده ويشق عليه.
وقالى ابن جريج: أي من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به، والحاصل أن المصدر بمعنى اسم المفعول قال التفتازاني: إما معزوم العبد بمعنى أنه يجب عليه العزم والتصميم عليه أو معزوم الله لمعنى عزم الله أي أراد الله وفرض أن يكون ذلك ويحصل.(2/395)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
(وإذ أخذ الله) كلام مستأنف سيق لبيان بعض أذيّاتهم وهو كتمانهم شواهد النبوة (ميثاق الذين أوتوا الكتاب) هذه الآية توبيخ لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى أو اليهود فقط على الخلاف في ذلك، والظاهر أن المراد بأهل الكتاب كل من أتاه الله علم شيء من الكتاب أي كتاب كان كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب.(2/395)
قال الحسن وقتادة: إن الآية عامة لكل عالم، وكذا قال محمد بن كعب، ويدل على ذلك قول أبي هريرة لولا ما أخذه الله على أهل الكتاب ما حدّثتكم بشيء، ثم تلا هذه الآية.
والضمير في قوله (لتبيّننّه) راجع إلى الكتاب وقيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يتقدم له ذكر لأنّ الله أخذ على اليهود والنصارى أن يبينوا نبوته، وهذا جواب لما تضمنه الميثاق من القسم كأنه قيل لهم بالله لتبيننه، وقرىء بالياء جرياً على الإسم الظاهر، وهو كالغائب وبالتاء خطاباً على الحكاية تقديره وقلنا لهم.
(للناس ولا تكتمونه) أي الكتاب بالياء والتاء والواو للحال أو للعطف، والنهي عن الكتمان بعد الأمر بالبيان إما للمبالغة في إيجاب الأمور به، وإما لأن المراد بالبيان ذكر الآيات الناطقة بنبوته، وبالكتمان القاء التأويلات الزائغة والشّبه الباطلة.
(فنبذوه) أي الكتاب أو الميثاق، وقرأ ابن عباس: (وإذ أخذ الله ميثاق النّبيين لتبينه)، ويشكل على هذه القراءة قوله (فنبذوه) فلا بد أن يكون فاعله الناس والنّبذ الطرح وقد تقدم في البقرة.
وقوله (وراء ظهورهم) مبالغة في النبذ والطرح وترك العمل وضياعه، ومثّل في الاستهانة به والأعراض عنه بالكلية (واشتروا به) أي بالكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه (ثمناً قليلا) أي حقيراً يسيراً من حطام الدنيا وأعراضها والمآكل، والرّشا التي كانوا يأخذونها من عوامهم وسفلتهم برياستهم في العلم فكتموه خوف فوته عليهم (فبئس ما يشترون) أي بئس شيئاً ما يشترونه بذلك الثمن.(2/396)
وعن ابن عباس قال: كان الله أمرهم أن يتبعوا النبي الأمي، وعنه قال: في التوراة والإنجيل أن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده، وأن محمداً رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل فنبذوه.
وعن قتادة في الآية قال: هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم فمن علم علماً فليعلمه الناس، وإياكم وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هلكة، وعن الحسن قال: لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه.
وظاهر هذه الآية وإن كان مخصوصاً بعلماء أهل الكتاب فلا يبعد أن يدخل فيه علماء هذه الأمة الإسلامية لأنهم أهل كتاب هو القرآن، قال قتادة: طوبى لعالم ناطق ومستمع واع، هذا علم علماً فبذله، وهذا سمع خيراً فقبله ووعاه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من سئل علماً يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار، أخرجه الترمذي ولأبي داود من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة (1)، وفي الباب أخبار وآثار كثيرة.
_________
(1) قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: هذا توبيخ من الله تعالى وتهديد لأهل الكتاب، الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن ينوهوا بذكره في الناس ليكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تعالى تابعوه، فكتموا ذلك، وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم. وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، ويسلم بهم مسلكهم. فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئاً، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من سئل عن علم فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار ". وهذا الحديث الذي استشهد به ابن كثير أخرجه أحمد وأبو داود، وابن ماجه، وأبو يعلى، والترمذي، وحسنه، والحاكم وصححه، والبيهقي من حديث أبي هريرة به مرفوعاً، وهو عند الحاكم أيضاً وغيره عن ابن عمرو، وعند ابن ماجه وأبي سعيد، وعند الطبراني من حديث ابن عباس وابن عمر وابن مسعود، وهو حديث صحيح.(2/397)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)(2/398)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
(لا تحسبن الذين يفرحون) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له قرىء بالتاء والياء وهما سبعيتان (بما أتوا) أي بما فعلوا من إضلال الناس، وقد اختلف في سبب نزولها كما سيأتي (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) من التمسك بالحق وهم على ضلال، والظاهر شمولها لكل من حصل منه ما تضمنته هذه الآية عملاً بعموم اللفظ وهو المعتبر لا بخصوص السبب، فمن فرح بما فعل، وأحب أن يحمده الناس بما لم يفعل.
(فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب) وقرىء بالتحتية أى لا يحسبن الفارحون فرحهم منجياً لهم من العذاب، والمفازة المنجاة مفعلة من فاز يفوز إذا نجا أي ليسوا بفائزين، سمّي موضع الخوف مفازة على جهة التفاؤل، قاله الأصمعي، وقيل لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب فوز الرجل إذا هلك.
وقال ثعلب. حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي فقال أخطأ، قال لي أبو المكارم: إنما سميت مفازة لأن من قطعها فاز وقال ابن الأعرابي: بل لأنه مستسلم لما أصابه، وقيل المعنى لا تحسبنهم بمكان بعيد عن العذاب، لأن الفوز التباعد عن المكروه بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم.
(ولهم عذاب أليم) يعني مؤلم في الآخرة.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما قال ابن عباس سألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد(2/398)
أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوه بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه.
وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو وتخلفوا عنه فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، فإذا قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، وقد روى أنها نزلت في فنحاص وأسيع وأشباههما، وروي أنها نزلت في اليهود.(2/399)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
(ولله ملك السموات والأرض) قال الخطيب فهو يملك أمرهما وما فيهما من خزائن المطر والرزق والنبات وغيرها انتهى، والملك بالضم تمام القدرة واستحكامها، والمعنى ولله ملك خزائن السموات والأرض يتصرف فيه كيف يشاء، وفيه تكذيب لمن قال إن الله فقير ونحن أغنياء، فمن كان له جميع ما فيهما كيف يكون فقيراً.
(والله على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء، ومنه تعذيب الكافرين وإنجاد المؤمنين.(2/399)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
(إن في خلق السموات والأرض) هذه جملة مستأنفة لتقرير اختصاصه سبحانه بما ذكره فيها والمراد ذات السموات والأرض وصفاتهما وما فيهما من العجائب (واختلاف الليل والنهار) تعاقبهما بالمجيء والذهاب وكون كل واحد منهما يخلف الآخر، وكون زيادة أحدهما في نقصان الآخر وتفاوتهما طولاً وقصراً وحراً وبرداً وغير ذلك.
(لآيات) أي دلالات واضحة وبراهين بينة تدل على الخالق سبحانه، وقد تقدم تفسير بعض ما هنا في سورة البقرة (لأولي الألباب) أي لأهل العقول الصحيحة الخالصة عن شوائب النقص، فإن مجرد التفكر فيما قصه الله تعالى في هذه الآية يكفي العاقل ويوصله إلى الإيمان الذي لا تزلزله الشبهة ولا يدفعه التشكيك.(2/399)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)(2/400)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
(الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) المراد بالذكر هنا ذكره سبحانه في هذه الأحوال من غير فرق بين حال الصلاة وغيرها، وذهب جماعة من المفسرين إلى أن الذكر هنا عبارة عن الصلاة وبه قال علي وابن مسعود وابن عباس وقتادة أي لا يضيعونها في حال من الأحوال فيصلونها قياماً مع عدم العذر، وقعوداً وعلى جنوبهم مع العذر، وعن ابن مسعود قال: إنما هذه في الصلاة إذا لم يستطع قائماً فقاعداً، وإن لم يستطع قاعداً فعلى جنبه.
وقد ثبت في البخاري من حديث عمران بن حصين قال كانت لي بواسير فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة فقال: صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب (1).
وثبت فيه عنه قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل وهو قاعد فقال: من صلّى قائماً فهو أفضل ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد (2).
وعن قتادة قال: هذه حالاتك كلها يا ابن آدم، اذكر الله وأنت قائم فإن لم تستطع فاذكره جالساً فإن لم تستطع جالساً فاذكره وأنت على جنبك، يسر من الله وتخفيف.
وأقول هذا التقييد الذي ذكره بعدم الاستطاعة مع تعميم الذكر لا وجه له لا من الآية ولا من غيرها فإنه لم يرد في شيء من الكتاب ولا من السنة ما يدل على أنه لا يجوز الذكر من قعود إلا مع عدم استطاعة الذكر من قيام، ولا
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 3672.
(2) صحيح الجامع الصغير 6239.(2/400)
يجوز على جنب إلا مع عدم استطاعته من قعود، وإنما يصلح هذا التقييد لمن جعل المراد بالذكر هنا الصلاة كما سبق عن ابن مسعود وغيره.
(ويتفكّرون في خلق السموات والأرض) أي في بديع صنعهما وإتقانهما مع عظم أجرامهما فإن هذا الفكر إذا كان صادقاً أوصلهم إلى الإيمان بالله سبحانه، وعن عائشة مرفوعاً: ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها، وقد وردت أحاديث وآثار عن السلف في استحباب التفكر مطلقاً.
ويقولون (ربّنا ما خلقت هذا) الخلق الذي نراه (باطلاً) أي عبثاً ولهواً بل خلقته دليلاً على حكمتك ووحدانيتك وقدرتك. والباطل الزائل الذاهب، وخلق بمعنى جعل والإشارة بقوله " هذا " إلى السموات والأرض أو إلى الخلق على أنه بمعنى المخلوق.
(سبحانك) تنزيهاً لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها أن يكون خلقك لهذه المخلوقات باطلاً وهزلاً وعبثاً، والفاء في (فقنا) لترتيب هذا الدعاء على ما قبله (عذاب النار) علم عباده كيفية الدعاء، فمن أراد أن يدعو فليقدم الثناء على الله أولاً ثم يأتي بالدعاء.(2/401)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
(ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) تأكيد لما تقدمه من استدعاء الوقاية من النار منه سبحانه، وبيان للسبب الذي لأجله دعاه عباده بأن يقيهم عذاب النار، وهو أن من أدخله النار فقد أخزاه أي أذله وأهانه. وقال المفضل: معنى أخزيته أهلكته، ويقال معناه فضحته وأبعدته.
يقال أخزاه الله أبعده ومقته، والاسم الخزي، قال ابن السكيت، خزى يخزي خزياً إذا وقع في بلية، وعن أنس قال: " من تدخل النار " من تخلد، وعن سعيد بن المسيب قال هذه خاصة لمن لا يخرج منها.
(وما للظالمين) المشركين، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بتخصيص الخزي بهم (من) زائدة (أنصار) ينصرونهم يوم القيامة ويمنعونهم من العذاب.(2/401)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)(2/402)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
(ربنا إننا سمعنا منادياً) هو عند أكثر المفسرين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل هو القرآن، وأوقع السماع على المنادي مع كون المسموع هو النداء لأنه قد وصف المنادي بما يسمع وهو قوله (ينادي) قال أبو علي الفارسي. ذكره مع أنه قد فهم من قوله منادياً لقصد التأكيد والتفخيم لشأن هذا المنادى به (للإيمان) اللام بمعنى إلى وقيل للعلة أى لأجله (أن آمنوا بربكم فآمنا) أي امتثلنا ما يأمر به هذا المنادي من الإيمان.
وتكرير النداء في قوله (ربنا) لإظهار التضرع والخضوع (فاغفر لنا) الفاء لترتيب المغفرة والدعاء بها على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيّته، فإن ذلك من دواعي المغفرة والدعاء بها (ذنوبنا وكفر) حط (عنا سيآتنا) قيل المراد بالذنوب هنا الكبائر وبالسيآت الصغائر، والظاهر عدم اختصاص أحد اللفظين بأحد الأمرين والآخر بالآخر بل يكون المعنى في الذنوب والسيآت واحداً، والتكرير للمبالغة والتأكيد كما أن معنى الغفر والكفر الستر.
(وتوفنا مع الأبرار) جمع بار أو بر، وأصله من الاتساع وكأن البار متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمته، قيل هم الأنبياء ومعنى اللفظ أوسع من ذلك أي معدودين ومحسوبين في جملتهم، أو المراد في سلكهم على سبيل الكناية أو أن مع بمعنى (على) أي على أعمال الأبرار أو محشورين معهم.(2/402)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
(ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) هذا دعاء آخر، والنكتة في تكرير النداء ما تقدم والموعود به على ألسن الرسل هو الثواب الذي وعد الله به أهل(2/402)
طاعته، ففي الكلام حذف وهو لفظ الألسن كقوله: (واسأل القرية) وقيل المحذوف التصديق أي ما وعدتنا على تصديق رسلك، وقيل ما وعدتنا منزّلاً على رسلك ومحمولاً على رسلك.
ولا يخفى أن تقدير الأفعال الخاصة في مثل هذه المواقع تعسف، فالأول أولى. وصدور هذا الدعاء منهم مع علمهم أن ما وعدهم الله به على ألسن رسله كائن لا محالة إما لقصد التعجيل أو للخضوع بالدعاء لكونه مخ العبادة.
(ولا تخزنا) لا تفضحنا ولا تهنا (يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) فيه دليل على أنهم لم يخافوا خلف الوعد، وأن الحامل لهم على الدعاء هو ما ذكرنا (1).
_________
(1) إن قيل: ما وجه قولهم: " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك " وقد علموا أنه لا يخلف الميعاد؛ فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول. أن الله سبحانه وعد من آمن بالجنة، فسألوا أن يكونوا ممن وُعد بذلك دون الخزي والعقاب.
الثاني: أنهم دعوا بهذا الدعاء على جهة العبادة والخضوع، والدعاء مخ العبادة. وهذا كقوله: " قل رب أحكم بالحق " وإن كان هو لا يقضي إلا بالحق.
الثالث: سألوا أن يعطوا ما وعدوا به من النصر على عدوهم معجلاً؛ لأنها حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه ذلك إعزازاً للدين. والله أعلم. وروى أنس ابن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما وعده الله عز وجل على عمل ثواباً فهو منجز له رحمة ومن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار ". والعرب تذم بالمخالفة في الوعد وتمدح بذلك في الوعيد؛ حتى قال قائلهم:
ولا يرهب ابن العتم ما عشت صولتي ... ولا اختفي من خشية المتهدد
وإني متى أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي(2/403)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
(فاستجاب لهم ربهم) الاستجابة بمعنى الإجابة وقيل الإجابة عامة والاستجابة خاصة بإعطاء المسئول، وهذا الفعل يتعدى بنفسه وباللام، يقال استجابه واستجاب له، وإنما ذكر سبحانه الاستجابة وما بعدها في جملة ما لهم من الأوصاف الحسنة لأنها منه، إذ من أجيبت دعوته فقد رفعت درجته.
(أني لا أضيع عمل عامل منكم) أي أعطاهم ما سألوه وقال لهم إني لا أحبط عملكم أيها المؤمنون بل أثيبكم عليه، والمراد بالإضاعة ترك الإثابة (من ذكر أو أنثى) " من " بيانية مؤكدة لما تقتضيه النكرة الواقعة في سياق النفي من العموم.
(بعضكم من بعض) أي رجالكم مثل نسائكم في ثواب الطاعة والعقاب ونساؤكم مثل رجالكم فيهما، وقيل في الدين والنصرة والموالاة، والأول أولى، والجملة معترضة أو مستأنفة لبيان كون كل منهما من الآخر ما أجمل في قوله (إني لا أضيع عمل عامل منكم).
(فالذين هاجروا) من أوطانهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الزمخشري: هذا تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم، قال الكرخي: والظاهر أن هذه الجمل التي بعد الموصول كلها صفات له، فلا يكون الجزاء إلا لمن جمع هذه الصفات، ويجوز أن يكون ذلك على التنويع؛ وقد يكون حذف الموصولات(2/404)
لفهم المعنى فيكون الخبر بقوله لأكفرن عن كل من اتصف بواحدة من هذه الصفات (1).
(وأخرجوا من ديارهم) في طاعة الله عز وجل (وأوذوا في سبيلي) آذاهم المشركون بسبب إسلامهم وهم المهاجرون (وقاتلوا) أعداء الله (وقتلوا) في سبيل الله، وقرىء قتلوا على التكثير وقرىء وقتلوا وقاتلوا، وأصل الواو لمطلق الجمع بلا ترتيب كما قال به الجمهور، والمراد هنا أنهم قاتلوا وقتل بعضهم، والسبيل الدين الحق والمراد هنا ما نالهم من الأذية من المشركين بسبب إيمانهم بالله وعملهم بما شرعه الله لعباده.
(لأكفرنّ عنهم سيّآتهم) أي والله لأغفرنها لهم (ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله) يعني تكفير سيآتهم وإدخالهم الجنة (والله عنده حسن الثواب) وهو ما يرجع على العامل من جزاء عمله، من ثاب يثوب إذا رجع (2)، وقد ورد في فضل الهجرة أحاديث كثيرة.
_________
(1) روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله لا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء فنزلت هذه الآية.
رواه ابن جرير الطبري 7/ 195.
رواه الحاكم في المستدرك 2/ 300 وقال صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2) زاد المسير/531.(2/405)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)(2/406)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد) خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد تثبيته على ما هو عليه كقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا آمنوا) أو خطاب لكل أحد؛ وهذه الآية متضمنة لقبح حال الكفار؛ بعد ذكر حسن حال المؤمنين، والمعنى لا يغرنك؛ ما هم فيه من تقلبهم في البلاد بالأسفار للتجارة التي يتوسعون بها في معاشهم، والتقلب في البلاد الاضطراب في الأسفار إلى الأمكنة، قال السدي: يعني ضربهم فيها وقال عكرمة تقلب ليلهم ونهارهم، وما يجري عليهم من النعم.(2/406)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
(متاع قليل) يتمتعون به يسيراً في هذه الدار ويفنى وهو متاع نزر لا اعتداد به بالنسبة إلى ثواب الله سبحانه، والمتاع ما يعجل الانتفاع به، وسماه قليلاً لأنه فان؛ وكل فإن وإن كان كثيراً فهو قليل.
(ثم مأواهم) أي ما يأوون إليه (جهنم وبئس المهاد) ما مهدوا لأنفسهم في جهنم بكفرهم أو ما مهد الله لهم من النار؛ فالمخصوص محذوف وهو هذا المقدر؛ قال ابن عباس: بئس المنزل.(2/406)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
(لكن الذين اتقوا ربهم) وقعت " لكن " هنا أحسن موقع فإنها وقعت بين ضدين وذلك أن معنى الجملتين التي قبلها والتي بعدها آيل إلى تعذيب الكفار وتنعيم المتقين، وهو استدراك مما تقدمه لأن معناه معنى النفي كأنه قال ليس لهم في تقلبهم في البلاد كثير انتفاع، لكن الذين اتقوا وإن أخذوا في التجارة لا يضرهم ذلك وإن لهم ما وعدهم به.(2/406)
وفي الشهاب وجه الاستدراك أنه رد على الكفار فيما يتوهمون من أنهم ينعمون، وأن المؤمنين في عناء ومشقة، فقال ليس الأمر كما توهمتم فإن المؤمنين لا عناء لهم إذا نظر إلى ما أعد لهم عند الله، أو أنه لما ذكر تنعمهم بتقلبهم في البلاد، أوهم أن الله لا ينعم المؤمنين، فاستدرك عليه بأن ما هم فيه عين النعيم لأنه سبب لما بعده من النعم الجسام (1).
(لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) أي مقدرين الخلود (نزلاً) النزل ما يهيّأ للنزيل ويعد للضيف، والجمع أنزال ثم اتسع فيه فأطلق على الرزق والغذاء وإن لم يكن ضيف، ومنه (فنزل من حميم) وهو مصدر مؤكد عند البصريين أو جمع نازل، وقال الهروي ثواباً (من عند الله) وقيل إكراماً من الله لهم أعدها لهم كما يعد القرى للضيف إكراماً.
(وما عند الله) مما عده لمن أطاعه (خير) للتفضيل وهو ظاهر (للأبرار) مما يحصل للكفار من الربح في الأسفار، فإنه متاع قليل عن قريب يزول.
عن ابن عمر قال إنما سماهم أبراراً لأنهم برّوا الآباء والأبناء كما أن لوالدك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق وروى هذا مرفوعاً والأول أصح قاله السيوطي، وقال ابن زيد خير لمن يطيع الله.
_________
(1) روى ابن الجوزي في تفسيره سبباً لنزول هذه الآية:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستلف من بعضهم (اليهود) شعيراً فأبى إلا على رهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أعطاني لأوفيته إني لأمين في السماء أمين في الأرض ".(2/407)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)(2/408)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
(وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم) هذه الجملة سيقت لبيان أن بعض أهل الكتاب لهم حظ من الدين وليسوا كسائرهم في فضائحهم التي حكاها الله عنهم فيما سبق وفيما سيأتي، فإن هذا البعض يجمعون بين الإيمان بالله وبما أنزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزله على أنبيائهم حال كونهم (خاشعين لله لا يشترون) تصريح بمخالفتهم للمحرفين والجملة حال (بآيات الله) التي عندهم في التوراة والإنجيل (ثمناً قليلاً) من الدنيا بالتحريف والتبديل كما يفعله سائرهم بل يحكون كتاب الله كما هو.
(أولئك) أي هذه الطائفة الصالحة من أهل الكتاب من حيث اتصافهم بهذه الصفات الحميدة (لهم أجرهم) الذي وعدهم الله سبحانه بقوله (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) وتقديم الخبر يفيد اختصاص ذلك الأجر بهم (عند ربهم) يوفيه إليهم يوم القيامة.
أخرج النسائي والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس قال: لما مات النجاشي قال - صلى الله عليه وسلم - " صلوا عليه " قالوا يا رسول الله نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل الله، يعني هذه الآية (1)، وفي الباب أحاديث.
_________
(1) ابن كثير 1/ 441. رواه ابن جرير 7/ 497 وإسناده ضعيف وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى على النجاشي صلاة الجنازة الغائبة وهي ثابتة صحيحة.(2/408)
وقال مجاهد: هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وعن الحسن قال هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين اتبعوا محمداً - صلى الله عليه وسلم -.
(إن الله سريع الحساب) يحاسب الخلق في قدر نصف نهار من أيام الدنيا فيجازي كل أحد على قدر عمله لنفوذ علمه في كل شيء، والمراد سرعة وصول الأجر الموعود به إليهم.(2/409)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا) هذه الآية العاشرة من قوله سبحانه (إن في خلق السموات) ختم بها هذه السورة لما اشتملت عليه من الوصايا التي جمعت خير الدنيا والآخرة؛ فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، والصبر حبس النفس؛ وقد تقدم تحقيق معناه وهو لفظ عام تحته أنواع من المعاني، وقد خصه بعضهم بالصبر على طاعة الله، وقيل على أداء الفرائض وقيل على تلاوة القرآن؛ وقيل على أمر الله ونهيه؛ وقيل على الجهاد؛ وقيل على البلاء وقيل على أحكام الكتاب والسنة، واللفظ أوسع من ذلك.
(وصابروا) المصابرة مصابرة الأعداء قاله الجمهور أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب، ولا تكونوا أضعف فيكونوا أشد منكم صبراً وخص المصابرة بالذكر بعد أن ذكر الصبر لكونها أشد منه وأشق وأكمل وأفضل من الصبر على ما سواه، فهو كعطف الصلاة الوسطى على الصلوات، وقيل المعنى صابروا على الصلوات وقيل صابروا الأنفس عن شهواتها، وقيل صابروا الوعد الذي وعدتم ولا تيأسوا والقول الأول هو المعنى العربي.
وقد روى عن السلف غير هذا في قصر الصبر على نوع من أنواع الطاعات والمصابرة على نوع آخر، ولا تقوم بذلك حجة، فالواجب الرجوع إلى المدلول اللغوي وقد قدمناه.(2/409)
(ورابطوا) أي أقيموا في الثغور مرابطين خيلكم فيها كما يربطها أعداؤكم، وهذا قول جمهور المفسرين، وعن محمد بن كعب القرظي قال: اصبروا على دينكم وصابروا الوعد الذي وعدتكم، ورابطوا عدوي وعدوكم.
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزو يرابط فيه، والرباط اللغوي هو الأول، ولا ينافيه تسميته - صلى الله عليه وسلم - لغيره رباطاً، ويمكن إطلاق الرباط على المعنى الأول وعلى انتظار الصلاة، قال الخليل: الرباط ملازمة الثغور ومواظبة الصلاة، وهكذا قال وهو من أئمة اللغة.
وحكى ابن فارس عن الشيباني أنه قال: يقال ماء مترابط دائم لا يبرح، وهو يقتضي تعدية الرباط إلى غير ارتباط الخيل في الثغور، قال الخازن كل مقيم بثغر يدفع عمن وراءه وإن لم يكن له مركوب مربوط.
وعن أبي هريرة: قال أما إنه لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلوات في مواقيتها ثم يذكرون الله فيها.
وقد ثبت في الصحيح وغيره من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط (1) ".
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الرباط، وفيها التصريح بأنه الرباط في سبيل الله، وهو يرد ما قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ندب إلى الرباط في سبيل الله وهو الجهاد، فيحمل ما في الآية عليه.
_________
(1) مسلم 251.(2/410)
وقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سمى حراسة الجيش رباطاً فأخرج الطبراني في الأوسط بسند جيد عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أجر الرابط فقال: من رابط ليلة حارساً من وراء السلمين كان له أجر من خلفه ممن صام وصلى (1).
(واتقوا الله) في جميع أحوالكم، ولا تخالفوا ما شرعه لكم (لعلكم تفلحون) أي تكونون من جملة الفائزين بكل مطلوب، الناجين من كل الكروب.
وقد ورد في فضل هذه العشر الآيات التي في آخر هذه السورة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أخرجه ابن السني وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة، وفي إسناده مظاهر بن أسلم وهو ضعيف (2).
ومن حديث ابن عباس في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قرأ هذه العشر الآيات لما استيقظ، وأخرج الدارمي عن عثمان بن عفان قال: من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام الليلة.
تمت بعون الله سورة آل عمران
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 6135. زاد المسير 534.
(2) ابن كثير 1/ 441.(2/411)
خاتمة الجزء الثاني
تم بعون الله سبحانه وتعالى الجزء الثاني من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء الثالث وأوله تفسير سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا.(2/413)
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري 1248 - 1307 هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الثالث
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت(3/1)
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
1412 هـ - 1992 م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب 8355 - تلكس LE 20437 SCS
صَيدَا - صَ. ب 221 - تلكس LE 29198(3/2)
فتح البيان في مقاصد القرآن(3/3)
الجزء الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النساءمن أول آية
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
إلى الآية 89 من سورة المائدة(3/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النساء
مدنية كلها وهي مائة وخمس وسبعون آية قال القرطبي: إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) قال النقاش: وقيل نزلت عند هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة. وقال علقمة وغيرة: صدرها مكية. وقال النحاس هذة الآية مكية.
قال القرطبي: والصحيح الأول فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني قد بنى بها ولا خلاف بين العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بنى بعائشة بالمدينة. ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها. وقد ورد في فضل هذه السورة أخبار آثار كثيرة ذكرت في محلها.(3/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)(3/9)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
(يا أيها الناس) المراد بهم الموجودون عند الخطاب من بني آدم وهم أهل مكة، ويدخل فيه من سيوجد بدليل خارجي وهو الإجماع على أنهم مكلفون بما كلف به الموجودون.
وعند الحنابلة خطاب المشافهة يتناول القاصرين عن درجة التكليف فينتظم في سلكهم من الحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامة أو هو بطريق تغليب الموجودين على من لم يوجد كما غلب المذكور على الإناث في قوله (اتقوا ربكم) لاختصاص ذلك وبجمع المذكر وعدم تناوله حقيقة للإناث عند غير الحنابلة، وقد تقدم في البقرة معنى التقوى والرب.
(الذي خلقكم) فإن خلقه تعالى لهم على هذا النمط البديع من أقوى الدواعي إلى الاتقاء من موجبات نقمته، ومن أتم الزواجر عن كفران نعمته، وذلك لأنه ينبىء عن قدرة شاملة لجميع المقدورات التي من جملتها عقابهم، وعن نعمة كاملة لا يقادر قدرها.
(من نفس واحدة) آدم عليه السلام (خلق منها زوجها) حواء هذا أيضاً من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة، و (مِن) لابتداء الغاية في الموضعين وخلقها منه لم يكن بتوليد كخلق الأولاد من الآباء فلا يلزم منه ثبوت حكم البنتية والأختية فيها. قال كعب ووهب(3/9)
وابن اسحق: خلقت قبل دخول الجنة، وقال ابن مسعود وابن عباس: إنما خلقت في الجنة بعد دخوله إياها.
(وبثّ) فرق ونشر (منهما) الضمير راجع إلى آدم وحواء المعبّر عنهما بالنفس والزوج (رجالاً كثيراً) وصف مؤكد لما تفيده صيغة الجمع لكونها من جموع الكثرة وقيل هو نعت لمصدر محذوف أي بثاً كثيراً (ونساء) كثيرة، وترك التصريح به استغناء واكتفاء بالوصف الأول.
(واتقوا الله الذي تساءلون به) أي تعاطون به، قاله ابن عباس، وقال الربيع تعاقدون وتعاهدون، وقيل تتحالفون به، وقيل تعظمونه، والمعاني متقاربة، وقال البيضاوي: أي يسأل بعضكم بعضاً بالله.
(والأرحام) بالنصب عطفاً على محل الجار والمجرور، كقولك مررت بزيد وعمرا، وينصره قراءة (وبالأرحام) فإنهم كانوا يقرنون بينهما في السؤال والمناشدة فيقولون أسألك بالله وبالرحم، وأنشدك الله والرحم أو عطفاً على الاسم الجليل أي اتقوا الله والأرحام فلا تقطعوها فإنها مما أمر الله به أن يوصل، وهي الأولى.
وقرىء والأرحام بالجر وأنكره البصريون والكوفيون وسيبويه والزجاج، وحكى أبو علي الفارسي أن المبرد قال: لو صليت خلف إمام يقرأ (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) بالجر لأخذت نعلي ومضيت.
وقد رد الإمام أبو نصر القشيري ما قاله القادحون في قراءة الجر فقال: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين لأن القراآت التي قرأ بها أئمة القرآن ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تواتراً، ولا يخفى أن دعوى التواتر باطلة، يعرف ذلك من يعرف الأسانيد التي رووها بها، ولكن ينبغي أن يحتج للجواز بورود ذلك في أشعار العرب، ومنه قوله تعالى (وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين).(3/10)
وقيل التقدير: واتقوا قطع مودّة الأرحام فإنّ قطع الرحم من أكبر الكبائر، وصلة الأرحام باب لكل خير فتزيد في العمر وتبارك في الرزق، وقطعها سبب لكل شر، ولذلك وصل تقوى الرحم بتقوى الله.
وصلة الرحم تختلف باختلاف الناس فتارة يكون عادته مع رحمه الصلة بالإحسان، وتارة بالخدمة وقضاء الحاجة، وتارة بالمكاتبة، وتارة بحسن العبارة وغير ذلك.
وقرىء بالرفع على الإبتداء والخبر مقدر أي والأرحام صلوها أو والأرحام أهل أن توصل، أو والأرحام كذلك أي مما يتقى أو يتساءل به، وقيل إن الرفع على الإغراء عند من يرفع به، وجوّز الواحدى نصبه على الإغراء.
والأرحام اسم لجميع الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره، لا خلاف في هذا بين أهل الشرع واللغة، وقد خصص الإمام أبو حنيفة الرحم بالحرم في منع الرجوع في الهبة مع موافقته على أن معناها أعم، ولا وجه لهذا التخصيص.
قال القرطبي: اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرّمة انتهى، وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة، روى الشيخان عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله " (1) وإنما استعير اسم الرحم للقرابة لأن الأقارب يتراحمون ويعطف بعضهم على بعض.
(إن الله كان عليكم رقيباً) حافظاً يعلم السر وأخفى، والرقيب المراقب، وهي صيغة مبالغة من رقب يرقب رقباً ورقوباً ورقباناً إذا أحدّ النظر لأمر يريد تحقيقه.
_________
(1) صحيح مسلم 2555 - البخاري 2045.(3/11)
وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)(3/12)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
(وآتوا) أعطوا (اليتامى أموالهم) شروع في موارد الاتقاء ومظانّه، وتقديم ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم وملابستهم للأرحام، والخطاب للأولياء والأوصياء، واليتيم من لا أب له، وقد خصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم، وقد تقدم تفسير معناه في البقرة مستوفى.
وأطلق اسم اليتيم عليهم عند إعطائهم أموالهم مع أنهم لا يعطونها إلا بعد ارتفاع اسم اليتيم بالبلوغ مجازاً باعتبار ما كانوا عليه، ويجوز أن يراد باليتامى المعنى الحقيقي. وبالإيتاء ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة لا دفعها جميعها، هذه الآية مقيدة بالأخرى وهي قوله تعالى: (فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم) فلا يكون مجرد ارتفاع اليتيم بالبلوغ مسوغاً لدفع أموالهم إليهم حتى يؤنس عنهم الرشد.
(ولا تتبدّلوا الخبيث) هو مال اليتيم وإن كان جيداً لكونه حراماً (بالطيّب) وهو مال الولي لكونه حلالاً وإن كان رديئاً فالباء داخلة على المتروك نهي لهم عن أن يصنعوا صنع الجاهلية في أموال اليتامى، فإنهم كانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى ويعوّضونه بالرديء من أموالهم، ولا يرون بذلك بأساً.
وقيل المعنى لا تأكلوا أموال اليتامى وهي محرمة خبيثة وتدعوا الطيب من أموالكم، وقيل المراد لا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله، والأول أولى فإن تبدل الشيء بالشيء في اللغة أخذ(3/12)
مكانه، وكذلك استبداله ومنه قوله تعالى (ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضلّ سواء السبيل) وقوله (اتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) وأما التبديل فقد يستعمل كذلك كما في قوله (وبدلناهم بجنتيهم جنتين) وأخرى بالعكس كما في قولك بدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتماً، نص عليه الأزهري.
وذهب جماعة من المفسرين إلى أن المنهي عنه في هذه الآية يعني (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) هو الخلط فيكون الفعل مضمناً معنى الضم أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم، وهذا نهي عن منكر آخر كانوا يفعلونه بأموال اليتامى، وخص النهي بالمضموم وإن كان أكل مال اليتيم حراماً وإن لم يضم إلى مال الوصي، لأن أكل ماله مع الاستغناء عنه أقبح، فلذلك خص النهي به أو لأنهم كانوا يأكلونه مع الاستغناء عنه، فجاء النهي على ما وقع منهم فالقيد للتشنيع.
وإذا كان التقييد لهذا الغرض لم يلزم القائل بمفهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها، قاله الكرخي، ثم نسخ هذا بقوله تعالى (وإن تخالطوهم فإخوانكم) وقيل إن إلى بمعنى مع كقوله تعالى (من أنصاري إلى الله) والأول أولى.
(إنه) أي أكل مال اليتيم من غير حق أو التبديل المفهوم من (لا تتبدلوا) أو المراد كلاهما ذهاباً بها مذهب اسم الإشارة نحو (عوان بين ذلك) والأول أولى لأنه أقرب مذكور (كان حوباً) قرىء بضم الحاء وبفتحها، وحابا بالألف لغات في المصدر، والفتح لغة تميم، وهو الإثم، يقال حاب الرجل يحوب حوباً إذا أثم واكتسب الإثم، وأصله الزجر للإبل فسمي الإثم حوباً لأنه يزجر عنه، والحوبة الحاجة والحوب أيضاً الوحشة والتحوب التحزن.(3/13)
عن سعيد بن جبير قال إن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عمه فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية يقول: لا تستبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم. وعن مجاهد قال: لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال الذي قدر لك، ولا تأكلوا أموالهم مع أموالكم تخلطونها فتأكلونها جميعاً إنه كان إثماً (كبيراً) وعن ابن زيد قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا يورثون الصغار، يأخذه الكبير، فنصيبه من الميراث طيب، وهذا الذي يأخذ خبيث.(3/14)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
(وإن خفتم ألّا تقسطوا في اليتامى فانكحوا) وجه ارتباط الجزاء بالشرط أن الرجل كان يكفل اليتيمة لكونه ولياً لها ويريد أن يتزوجها فلا يقسط لها في مهرها أي لا يعدل فيه ولا يعطيها ما يعطيها غيره من الأزواج، فنهاهم الله أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى ما هو لهن من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.
فهذا سبب نزول الآية فهو نهي يخص هذه الصورة، قال جماعة من السلف إن هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أول الإسلام من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما يشاء فقصرهم بهذه الآية على أربع، فيكون وجه ارتباط الجزاء بالشرط أنهم إذا خافوا أن لا يقسطوا في اليتامى فكذلك يخافون أن لا يقسطوا في النساء، لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء، والخوف من الأضداد فإن المخوف قد يكون معلوماً، وقد يكون مظنوناً.
ولهذا اختلف الأئمة في معناه في الآية فقال أبو عبيد: خفتم بمعنى أيقنتم، وقال الآخرون بمعنى ظننتم، قال ابن عطيه وهو الذي اختاره الحداق: وإنه على بابه من الظن لا من اليقين.(3/14)
والمعنى من غلب على ظنه التقصير في العدل لليتيمة فليتركها وينكح غيرها.
والمعروف عند أهل اللغة أن أقسط بمعنى عدل وقسط بمعنى جار لأن الهمزة تأتي للسلب فيقال أقسط إذا أزال القسط أي الجور والظلم، ولذلك جاء (وأما القاسطون) الآية، (وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) وجاء قسط قسطاً من باب ضرب، وقسوطاً جار وعدل فهو من الأضداد، قاله ابن القطاع، والإسم القسط.
و" ما " في قوله (ما طاب لكم) موصولة وجاء بما مكان " من " لأنهما قد يتعاقبان فيقع كل واحد منهما مكان الآخر كما في قوله (والسماء وما بناها) (ومنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على أربع).
قال بعضهم: وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء وهن ناقصات العقول، وقال البصريون: إن (ما) يقع للنعوت كما يقع لما لا يعقل، يقال ما عندك فيقال ظريف وكريم، وقيل هي لنوع من يعقل، فالمعنى فانكحوا النوع الطيب من النساء أي الحلال وما حرمه الله فليس بطيب، وقيل إن (ما) هنا مديَّة أي ما دمتم مستحسنين للنكاح، وضعفه ابن عطية.
قال الفراء: إن (ما) ههنا مصدرية، قال النحاس: وهذا بعيد جداً، وقيل إنها نكرة موصوفة أي انكحوا جنساً طيباً وعدداً طيباً، والأول أولى، وقرىء فانكحوا من طاب لكم.
وقد اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له، وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة.
و" من " في قوله (من النساء) إما بيانية أو تبعيضية لأن المراد غير اليتائم(3/15)
بشهادة قرينة المقام أي فانكحوا من استطابتها نفوسكم من الأجنبيات، وفي إيثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى مع أنه المقصود بالذات مزيد لطف في استنزالهم، فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه.
على أن وصف النساء بالطيب على الوجه الذي أشير إليه، فيه مبالغة في الاستمالة إليهن، والترغيب فيهن، وكل ذلك للاعتناء بصرفهم عن نكاح اليتامى وهو السر في توجيه النهي الضمني إلى النكاح المترقب.
(مثنى وثلاث ورباع) أي اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً، وهذه الألفاظ المعدولة فيها خلاف، وهل يجوز فيها القياس أو يقتصر فيها على السماع، فالأول قول الكوفيين وأبي إسحق وغيره، والثاني قول البصريين.
والمسموع من ذلك أحد عشر لفظاً أحاد وموحد، وثناء ومثنى، وثلاث ومثلث، ورباع ومربع، ومخمس، وعشار ومعشر، ولم يسمع خماس ولا غيره من بقية العقد. وجمهور النحاة على منع صرفها وأجاز الفراء صرفها وإن كان المنع عنده أولى.
وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع. وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد كما يقال للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم أو هذا المال الذي في البدرة درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة.
وهذا مسلّم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عينّ مكانه، أما لو كان مطلقاً كما يقال اقتسموا الدراهم، ويراد به ما كسبوه فليس المعنى هكذا، والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول، على أن من قال لقوم يقتسمون مالاً معيناً كبيراً اقتسموه مثنى وثلاث ورباع فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين وبعضه ثلاثة ثلاثة وبعضه أربعة أربعة كان هذا هو المعنى العربي.(3/16)
ومعلوم أنه إذا قال القائل: جاءني القوم مثنى، وهم مائة ألف كان المعنى أنهم جاءوه اثنين اثنين، وهكذا جاءني القوم ثلاث ورباع.
والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد كما في قوله تعالى (اقتلوا المشركين، أقيموا الصلاة، آتوا الزكاة) ونحوها.
فمعنى قوله (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً، هذا ما يقتضيه لغة العرب. فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه.
ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) فإنه وإن كان خطاب للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد، فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنّة لا بالقرآن.
وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة، وكأنه قال انكحوا مجموع هذا العدد المذكور، فهذا جهل بالمعنى العربي، ولو قال انكحوا اثنتين وثلاثاً وأربعاً، كان هذا القول له وجه، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا.
وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون (أو) لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني.
وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اختر منهن وفي لفظ أمسك منهن أربعاً وفارق سائرهن (1)، وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق.
_________
(1) الدارقطني 2/ 1492.(3/17)
وعن نوفل بن معاوية الديلي قال أسلمت وعندي خمس نسوة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمسك أربعاً وفارق الأخرى، أخرجه الشافعي في مسنده.
وأخرج ابن ماجه والنحاس في ناسخه عن قيس بن الحارث الأسدي قال أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال اختر منهن أربعاً وخلّ سائرهن ففعلت، وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقي.
وعن الحكم قال أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن المملوك لا يجمع من النساء فوق اثنتين، وفي بعض التفاسير هنا خلط وخبط تركناه لأنه تطويل بلا طائل، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
(فإن خفتم ألا تعدلوا) بين الزوجات في القسم والنفقة ونحوهما (فواحدة) أي فانكحوا واحدة وفيه المنع من الزيادة على الواحدة لمن خاف ذلك.
(أو) انكحوا واقتصروا على (ما ملكت أيمانكم) من السراري وإن كثر عددهن كما يفيده الموصول، إذ ليس لهن من الحقوق ما للزوجات، والمراد نكاحهن بطريق الملك لا بطريق النكاح، وفيه دليل على أنه لا حق للمملوكات في القسم كما يدل على ذلك جعله قسيماً للواحدة في الأمن من عدم العدل، وإسناد الملك إلى اليمين لكونها المباشرة لقبض الأموال وإقباضها ولسائر الأمور التي تنسب إلى الشخص في الغالب.
(ذلك) أي نكاح الأربعة فقط أو الواحدة أو التسري (أدنى) أقرب إلى (ألا تعولوا) تجوروا من عال الرجل يعول إذا مال وجار ومنه قولهم عال السهم عن الهدف أي مال عنه، وعال الميزان إذا مال.
والمعنى إن خفتم عدم العدل بين الزوجات فهذه التي أمرتم بها أقرب إلى عدم الجور، وهو قول أكثر المفسرين.(3/18)
وقال الكسائي يقال عال الرجل يعيل إذا افتقر فصار عالة، ومنه قوله تعالى (وإن خفتم عيلة) وقيل المعنى أن لا تضلوا، وقال الشافعي أن لا تكثر عيالكم، قال الثعلبي وما قال هذا غيره، وإنما يقال أعال يعيل إذا كثر عياله.
وذكر ابن العربي أن عال يأتي لسبعة معان (الأول) مال (الثاني) زاد (الثالث) جار (الرابع) افتقر (الخامس) أثقل (السادس) قام بمعونة العيال ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - وابدأ بمن تعول (1) (السابع) غلب ومنه عيل صبري، قال ويقال أعال الرجل كثر عياله، وأما عال بمعنى كثر عياله فلا يصح.
ويجاب عن إنكار الثعلبي لما قاله الشافعي، وكذلك إنكار ابن العربي بأنه قد سبق الشافعي إلى القول به زيد بن أسلم وجابر بن زيد، وهما إمامان من أئمة المسلمين لا يفسران القرآن هما والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية، وقد أخرج ذلك عنهما الدارقطني في سننه.
وقد حكاه القرطبي عن الكسائي وأبي عمرو الدوري وابن الأعرابى، وقال أبو حاتم كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا ولعله لغة، وقال الدوري هي لغة حِمْير.
قال ابن عطية: قول الشافعي نفسه حجة لأنه عربي فصيح، وقال الأزهري: والذي اعترض عليه وخطّأه عَجِل ولم يتثبت فيما قال، ولا ينبغي للحضرمي أن يعجل إلى إنكاره ما لا يحفظه من لغات العرب أهـ.
وبسط الرازي في هذا المقام من تفسيره. ورد على أبي بكر الرازي ثم قال: الطعن لا يصدر إلا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة.
وقرأ طلحة بن مصرف: أن لا تعيلوا بضم التاء، وهو حجة الشافعي.
_________
(1) البخاري كتاب الزكاة الباب 18.(3/19)
وقدح الزجاج في تأويل عال من العيال بأن الله سبحانه قد أباح كثرة السراري، وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى أن لا تكثر، وهذا القدح غير صحيح لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال الحرائر ذوات الحقوق الواجبة.
وقد حكى ابن الأعرابي أن العرب تقول عال الرجل إذا كثر عياله، وكفى بهذا، وقد ورد عال لمعان غير السبعة التي ذكرها ابن العربي منها عال اشتد وتفاقم، حكاه الجوهري، وعال الرجل في الأرض إذا ضرب فيها حكاه الهروي، وعال إذا أعجز حكاه الأحمر، فهذه ثلاثة معان غير السبعة، والرابع عال كثر عياله، فحمله معاني عال أحد عشر معنى.
وعن قتادة في الآية قال: يقول إن خفت أن لا تعدل في أربع فثلاثاً وإلا فاثنتين وإلا فواحدة فإن خفت أن لا تعدل في واحدة فما ملكت يمينك، وعن الربيع مثله، وعن الضحاك قال ألا تعدلوا في المجامعة والحب وفيه نظر، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك " (1) يعني في حبه لعائشة، والله تعالى يقول (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) وعن السدي " أو ملكت أيمانكم " قال: السراري.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[ذلك أدنى أن لا تعدلوا] قال أن لا تجوروا قال ابن أبي حاتم هذا حديث خطأ، والصحيح عن عائشة موقوف، وعن ابن عباس موقوف (2).
وعن ابن عباس قال أن لا تميلوا، وعن مجاهد وأبي رزين وأبي مالك والضحاك مثله، وعن زيد بن أسلم أن لا يكثر من تعولوا، وعن سفيان بن عيينة أن لا تفتقروا.
_________
(1) أبو داود كتاب النكاح الباب 38 - الترمذي كتاب النكاح الباب 41.
(2) ابن كثير 2/ 451.(3/20)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
(وآتوا) الخطاب للأزواج وقيل للأولياء (النساء صدقاتهنّ) بضم الدال جمع صدقة كسمرة قال الأخفش وبنو تميم يقولون صدقة والجمع صدقات وإن شئت فتحت وإن شئت أسكنت.
(نحلة) بكسر النون وضمها لغتان، وأصلها العطاء نحلت فلاناً أعطيته، وعلى هذا فهي منصوبة على المصدرية لأن الإيتاء بمعنى الإعطاء وقيل النحلة التدين فمعنى نحلة تديناً قاله الزجاج وعلى هذا فهي منصوبة على المفعول له، وقال قتادة الفريضة، وعلى هذا فهي منصوبة على الحال وقيل طيبة النفس، قال أبو عبيد: ولا تكون النحلة إلا عن طيبة نفس، وقال ابن عباس: المهر، قالت عائشة: واجبة، وقال ابن جريج: فريضة مسماة وعن قتادة مثله.
ومعنى الآية على كون الخطاب للأزواج أعطوا النساء اللاتي نكحتموهن مهورهن التي لهن عليكم عطية أو ديانة منكم أو فريضة عليكم أو طيّبة من أنفسكم.
ومعناها على كون الخطاب للأولياء أعطوا النساء من قراباتكم التي قبضتم مهورهن من أزواجهن تلك المهور، وقد كان الولي يأخذ مهر قريبته في الجاهلية ولا يعطيها شيئاً. حكى ذلك عن أبي صالح والكلبي. والأول أولى وهو الأشبه بظاهر الآية وعليه الأكثر لأن الله تعالى خاطب الناكحين فيما قبله كما تقدم، فهذا أيضاً خطاب لهم.
وفي الآية دليل على أن الصّداق واجب على الأزواج للنساء، وهو مجمع عليه كما قال القرطبي، قال: وأجمع العلماء على أنه لا حد لكثيره واختلفوا في قليله.
(فإن طبن لكم) يعني النساء المتزوجات للأزواج (عن شيء منه) قال(3/21)
ابن عباس: إذا كان من غير ضرار ولا خديعة فهو هنيء مريء كما قال الله تعالى والضمير في (منه) راجع إلى الصداق الذي هو واحد الصدقات، أو إلى المذكور وهو الصدقات، أو هو بمنزلة اسم الإشارة كأنه قال من ذلك.
والمعنى فإن طبن النساء لكم أيها الأزواج أو الأولياء عن شيء كائن من المهر، و (من) فيها وجهان أحدهما أنها للتبعيض ولذلك لا يجوز لها أن تهبه كل الصداق، وإليه ذهب الليث (والثاني) أنها للبيان، ولذلك يجوز أن تهبه المهر كله، وفي الكرخي وتذكير الضمير يعود على الصداق المراد به الجنس، قل أو كثر فيكون حملاً على المعنى.
(نفساً) نصب على التمييز لأن نفساً في معنى الجنس، وجيء بالتمييز مفرداً وإن كان قبله جمعاً لعدم اللبس، إذ من المعلوم أن الكل لسن مشتركات في نفس واحدة أي فإن طابت نفوسهن عن شيء من الصداق.
وفي طبن دليل على أن المعتبر في تحليل ذلك منهن لهم إنما هو طيبة النفس لا مجرد ما يصدر منها من الألفاظ التي لا يتحقق معها طيبة النفس، فإذا ظهر منها ما يدل على عدم طيبة النفس نفسها لم يحل للزوج ولا للولي وإن كانت قد تلفظت بالهبة أو النذر أو نحوهما.
وما أقوى دلالة هذه الآية على عدم اعتبار ما يصدر من النساء من الألفاظ المفيدة للتمليك بمجردها لنقصان عقولهن وضعف إدراكهن وسرعة انخداعهن وانجذابهن إلى ما يراد منهن بأيسر ترغيب أو ترهيب.
(فكلوه) أي فخذوا ذلك الشيء الذي طابت به نفوسهن وتصرفوا فيه بأنواع التصرفات وخص الأكل لأنه معظم ما يراد بالمال وإن كان سائر الإنتفاعات به جائز كالأكل (هنيئاً مريئاً) يقال هناه الطعام والشراب يهنيه ومراه وأمراه من الهنا والمرا، والفعل هنا ومرأ أي أتى من غير مشقة ولا غيظ، وقيل هو الطيب الذي لا تنغيص فيه وقيل المحمود العاقبة الطيب الهضم؛ وقيل ما لا إثم فيه؛ والمقصود هنا أنه حلال لهم خالص عن الشوائب.(3/22)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا (5)
(ولا تؤتوا) أيها الأولياء (السفهاء) المبذرين من الرجال والنساء والصبيان (أموالكم) هذا رجوع إلى بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى وقد تقدم الأمر بدفع أموالهم إليهم في قوله (وآتوا اليتامى أموالهم) فبينّ سبحانه ههنا أن السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه؛ وقد تقدم في البقرة معنى السفيه لغة.
واختلف أهل العلم في هؤلاء السفهاء من هم فقال سعيد بن جبير: هم اليتامى لا تؤتوهم أموالهم، قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية، وقال مالك: هم الأولاد الصغار لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها ويبقوا بلا شيء. وقال مجاهد: هم النساء قال النحاس وغيره هذا القول لا يصح إنما تقول العرب سفايه أو سفيهات.
واختلفوا في وجه إضافة الأموال إلى المخاطبين وهي للسفهاء فقيل أضافها إليهم لأدنى ملابسة فإنها بأيديهم وهم الناظرون فيها كقوله (فسلّموا على أنفسكم) وقوله (فاقتلوا أنفسكم) أي ليسلّم بعضكم على بعض وليقتل بعضكم بعضاً، وقيل أضافها إليهم لأنها من جنس أموالهم؛ فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق في الأصل.
وقيل المراد أموال المخاطبين حقيقة؛ وبه قال أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة؛ والمراد النهي عن دفعها إلى من لا يحسن تدبيرها كالنساء والصبيان ومن هو ضعيف الإدراك لا يهتدي إلى وجوه النفع التي تحصل المال ولا يتجنب وجوه الضرر التي تهلكه وتذهب به.(3/23)
(التي جعل الله) أي صيّرها أو خلقها وأوجدها (لكم) حال كونها (قياماً) يعني قوام معايشكم، قاله ابن عباس، والقيام والقوام ما يقيمك، يقال فلان قيام أهله وقوام بيته، وهو الذي يقيم شأنه أي يصلحه، وهو منصوب على المصدر أي فيقومون بها قياماً.
وقال الأخفش: المعنى قائمة بأموركم، فذهب إلى أنها نفع، وقال البصريون: قيماً جمع قيمة كديمة وديم أي جعلها الله قيمة للأشياء، وخطأ أبو علي الفارسي هذا القول وقال هي مصدر كقيام وقوام.
والمعنى أنها صلاح للحال وثبات له.
فأما على قول من قال إن المراد أموالهم على ما يقتضيه ظاهر الإضافة فالمعنى واضح، وأما على قول من قال إنها أموال اليتامى فالمعنى أنها من جنس ما تقوم به معايشكم ويصلح به حالكم من الأموال، قال الفراء الأكثر في كلام العرب النساء اللواتي والأموال التي وكذا غير الأموال ذكره النحاس.
(وارزقوهم فيها) أي أطعموهم منها، قال ابن عباس: أنفقوا عليهم أي اجعلوا لهم فيها رزقاً أو افرضوا لهم، وآثر التعبير بفي على من مع أن المعنى عليها إشارة إلى أنه ينبغي للولي أن يتجر لموليه في ماله ويربحه له حتى تكون نفقته عليه من الربح لا من أصل المال، فالمعنى واجعلوها مكاناً لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا فيها وتربحوها لها.
(واكسوهم) هذا فيمن تلزم نفقته وكسوته من الزوجات والأولاد ونحوهم، وأما على قول من قال إن الأموال هي أموال اليتامى فالمعنى اتجروا فيها حتى تربحوا وتنفقوهم من الأرباح، أو جعلوا لهم من أموالهم رزقاً ينفقونه على أنفسهم ويكتسون به.
وقد استدل بهذه الآية على جواز الحجر على السفهاء وبه قال الجمهور،(3/24)
وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلاً، واستدل بها أيضاً على وجوب نفقة القرابة، والخلاف في ذلك معروف في مواطنه.
(وقولوا لهم قولاً معروفاً) أي كلاماً ليّناً تطيب به نفوسهم، وقال مجاهد: أمروا أن يقولوا لهم قولاً جميلاً في البر والصلة قيل معناه ادعوا لهم بارك الله فيكم وحاطكم وصنع لكم، وقيل معناه: عدوهم وعداً حسناً قاله ابن جريج أي بإعطائهم أموالهم كأن يقول الولي لليتيم مالك عندي وأنا أمين عليه، فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك، ويقول الأب لابنه مالي سيصير إليك، وأنت إن شاء الله تعالى صاحبه ونحو ذلك، وذلك لأجل تطييب خواطرهم، ولأجل أن يجدّوا في أسباب الرشد.
والظاهر من الآية ما يصدق عليه مسمى القول الجميل ففيه إرشاد إلى حسن الخلق مع الأهل والأولاد أو مع الأيتام المكفولين، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما صح عنه " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " (1) وعن ابن عباس في الآية لا تعمد إلى مالك وما خوّلك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنتك ثم تضطر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم، وعنه لا تسلّط السفيه من ولدك على مالك، وأمره أن يرزقه منه ويكسوه، وعنه قال: هم بنوك والنساء.
وعن أبي أمامة مرفوعاً عند ابن أبي حاتم أن السفهاء النساء التي أطاعت قيمها. وعن أبي هريرة قال: هم الخدم وهم شياطين الإنس، وقال ابن مسعود: هم النساء والصبيان؛ وعن حضرمي أن رجلاً عمد فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق فقال الله (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) الآية.
وعن ابن جبير قال: هم اليتامى والنساء وعن عكرمة قال هو مال اليتيم يكون عندك يقول لا تؤته إياه وأنفق عليه حتى يبلغ.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 3309.(3/25)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
(وابتلوا اليتامى) شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم، وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق، والنهي عنه عند كون أصحابها سفهاء، والابتلاء الاختبار، وقد تقدم تحقيقه، وقد اختلفوا في معنى الاختبار فقيل هو أن يتأمّل الوصي أخلاق يتيمه ليعلم بنجابته وحسن تصرفه فيدفع إليه ماله إذا بلغ النكاح وآنس منه الرشد، وقيل معنى الإختبار أن يدفع إليه شيئاً من ماله ويأمره بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله.
وقيل معنى الاختبار أن يرد النظر إليه في نفقة الدار ليعرف كيف تدبيره، وإن كانت جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها، وهذا الخطاب للأولياء، والاختبار واجب على الولي، وقيل نزلت هذه الآية في ثابت بن رفاعة وعمه.
(حتى إذا بلغوا النكاح) المراد ببلوغ النكاح بلوغ الحلم لقوله تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم) ومن علامات البلوغ الإنبات، وبلوغ خمس عشرة سنة. وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة، وهذه العلامات تعم الذكر والأنثى، وتختص الأنثى بالحبل والحيض.
(فإن آنستم) أبصرتم ورأيتم، ومنه قوله (آنس من جانب الطور ناراً) قال الأزهري: تقول العرب اذهب فاستأنس هل ترى أحداً معناه تبصر، وقيل: هو هنا بمعنى وجد وعلم أي فإن وجدتم وعلمتم.(3/26)
(منهم رشداً) بضم الراء وفتحها قيل هما لغتان، واختلف أهل العلم في معنى الرشد ههنا فقيل الصلاح في العقل والدين، وقيل في العقل خاصة، قال سعيد بن جبير والشعبي: إنه لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده وإن كان شيخاً، قال الضحاك: وإن كان بلغ مائة سنة.
وجمهور العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر، وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا يحجر على الحر البالغ وإن كان أفسق الناس وأشدهم تبذيراً، وبه قال النخعي وزفر.
وظاهر النظم القرآني أنها لا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد بلوغ غاية هي بلوغ النكاح مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد، فلا بد من مجموع الأمرين، فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ وإن كانوا معروفين بالرشد، ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم، والمراد بالرشد نوعه وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله وعدم التبذير بها ووضعها في مواضعها.
(فادفعوا إليهم أموالهم) من غير تأخير إلى حد البلوغ (ولا تأكلوها) أيها الأولياء (إسرافاً وبداراً أن يكبروا) الإسراف في اللغة الإفراط ومجاوزة الحد بغير حق، وقال النضر بن شميل: السرف التبذير، والبدار المبادرة أي لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف وأكل مبادرة لكبرهم أو لا تأكلوا لأجل السرف ولأجل المبادرة أو لا تأكلوها مسرفين ومبادرين لكبرهم، وتقولوا ننفق أموال اليتامى فيما نشتهي قبل أن يبلغوا فينزعونها من أيدينا.
(ومن كان) من الأولياء (غنياً فليستعفف) أي يعف عن مال اليتيم ويمتنع من أكله (ومن كان فقيراً فليأكل) منه (بالمعروف) بيّن سبحانه ما يحل(3/27)
لهم من أموال اليتامى، فأمر الغني بالاستعفاف وتوفير مال الصبي عليه وعدم تناوله منه، وسوغ للفقير أن يأكل بالمعروف.
واختلف أهل العلم فيه ما هو فقال قوم هو القرض إذا احتاج إليه، ويقضي متى أيسر الله عليه، وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة السلماني وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية ومقاتل والأوزاعي وأبو وائل، وقال النخعي وعطاء والحسن وقتادة: لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف، وبه قال جمهور الفقهاء وهذا بالنظم القرآني ألصق فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير فرض.
والمراد بالمعروف المتعارف به بين الناس فلا يترفه بأموال اليتامى ويبالغ في التنعم بالمأكول والمشروب والملبوس، ولا يدع نفسه عن سد الفاقة وستر العورة، قال عطاء وعكرمة: يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف ولا يكتسي ولا يلبس الكتان ولا الحلل، ولكن يأكل ما يسد به الجوع ويلبس ما يستر العورة.
وقال الحسن: يأكل من تمر نخله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه، فأما الذهب والفضة فلا يأخذ منه شيئاً فإن أخذ وجب عليه رده، وقال الكلبي: المعروف هو ركوب الدابة وخدمة الخادم، وليس له أن يأكل من ماله شيئاً، وقال قوم: هو أن يأخذ من ماله بقدر قيامه وأجرة عمله، ولا قضاء عليه، وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم، والأول أولى.
وقال ابن عباس في الآية نسختها (إن الذين يأكلون أموال اليتامى) الآية والخطاب في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين مما يصلحهم كالأب والجد ووصيهما.
وقال بعض أهل العلم: المراد بالآية اليتيم إن كان غنياً وسّع عليه وعف(3/28)
عن ماله، وإن كان فقيراً كان الإنفاق عليه بقدر ما يحصل له، وهذا القول في غاية السقوط.
وعن ابن عباس قال: إن كان فقيراً أخذ من فضل اللبن وأخذ من فضل القوت ولا يجاوزه وما يستر عورته من الثياب، فإن أيسر قضاه وإن أعسر فهو في حل.
أخرج البيهقي وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم عن ابن عمر أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال ليس لي مال ولي يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثّل مالاً ومن غير أن تقي مالك بماله (1).
(فإذا) حصل مقتضى الدفع و (دفعتم إليهم أموالهم) بعد رعاية الشرائط المذكورة: (فأشهدوا عليهم) أنهم قد قبضوها منكم لتندفع عنكم التهم، وتأمنوا عاقبة الدعاوى الصادرة منهم، وقيل إن الإشهاد المشروع هو على ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم، وقيل هو على رد ما استقرضه إلى أموالهم.
وظاهر النظم القرآني مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم، وهو يعمّ الإنفاق قبل الرشد والدفع للجميع إليهم بعد الرشد، وهذا أمر إرشاد وليس للوجوب (وكفى بالله حسيباً) لأعمالكم شاهداً عليكم في كل شيء تعملونه، ومن جملة ذلك معاملتكم اليتامى في أموالهم، وفيه وعيد عظيم، والباء زائدة أي كفى الله، قال أبو البقاء: زيدت لتدل على معنى الأمر إذ التقدير اكتف بالله، وهذا القول سبقه إليه مكي والزجاج.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 4373.(3/29)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
(للرجال) يعني المذكور من أولاد الميت وعصبته (نصيب) حظ (مما ترك) من الميراث (الوالدان والأقربون) المتوفّون، لما ذكر سبحانه حكم أموال اليتامى وصلتها بأحكام المواريث وكيفية قسمتها بين الورثة وأفرد سبحانه ذكر النساء بعد ذكر الرجال على الاستقلال لأجل الاعتناء بأمرهن، وللإيذان بأصالتهنّ في استحقاق الإرث، وللمبالغة في إبطال ما عليه الجاهلية فقال (للنساء) أي الإناث من أولاد الميت (نصيب) حظ (مما ترك الوالدان والأقربون) أي من المال المخلّف عن الميت، وفي ذكر القرابة بيان لعلة الميراث مع التعميم لما يصدق عليه مسمّى القربة من دون تخصيص.
(مما قلّ منه أو كثر) بدل من قوله (مما ترك) بإعادة الجار، والضمير في (منه) راجع إلى المبدل منه، وهذا الأمر مراد في الجملة الأولى أيضاً محذوف للتعويل على المذكور، وفائدته دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل وآلة الحرب للرجال، وتحقيق أن لكل من الفريقين حقاً من كل ما دقّ وجلّ.
وقد أجمل سبحانه في هذه المواضع قدر النصيب المفروض، ثم أنزل قوله (يوصيكم الله في أولادكم) فبيّن ميراث كل فرد جعله الله (نصيباً مفروضاً) وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، والحنفية أيضاً قائلون بجواز تأخيره، والفرض ما فرضه الله تعالى وهو آكد من الواجب أو مقطوعاً بتسليمه إليهم، فلا يسقط بإسقاطهم، ففي الآية دليل على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه بالإعراض، قاله البيضاوي.(3/30)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)(3/31)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
(وإذا حضر القسمة) يعني قسمة الميراث (أولو القربى) المراد بالقرابة هنا غير الوارثين لكونه عاصباً محجوباً أو لكونه من ذوي الأرحام (و) كذا (اليتامى والمساكين) من الأجانب، وإنما قدم اليتامى لشدة ضعفهم وحاجتهم (فارزقوهم منه) شرع الله سبحانه أنهم إذا حضروا قسمة التركة كان لهم منه رزق فيرضخ لهم المتقاسمون شيئاً منها قبل القسمة.
وقد ذهب قوم إلى أن الآية محكمة وأن الأمر للندب، وذهب آخرون إلى أنها منسوخة بقوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم) والأول أرجح لأن المذكور في الآية لقرابة غير الوارثين ليس هو من جملة الميراث حتى يقال إنها منسوخة بآية المواريث، إلا أنه إن قيل: إن أولي القربى المذكورين هنا هم الوارثون كان للنسخ وجه.
وقالت طائفة إن هذا الرضخ لغير الوارث من القرابة واجب بمقدار ما تطيب به أنفس الورثة. وهو معنى الأمر الحقيقي فلا يصار إلى الندب إلا لقرينة، والضمير في قوله (منه) راجع إلى المال المقسوم المدلول عليه بالقسمة، وقيل راجع إلى ما ترك؛ وهذا خطاب للورثة الكاملين.
(و) قوله (قولوا) خطاب لأولياء اليتامى إذا كان الورثة صغاراً (لهم) أي للأصناف الثلاثة (قولاً معروفاً) وهو القول الجميل الذي ليس(3/31)
فيه منّ بما صار إليهم من الرضخ ولا أذى. أو أن يعتذروا إليهم عن عدم الإعطاء أصلاً، وعن ابن عباس قال: هي محكمة وليست بمنسوخة وقد قضى بها أبو موسى.
وقال مجاهد: هي واجبة على أهل الميراث ما طابت به أنفسهم، وكذا قال الحسن والزهري، وقال ابن عباس: يرضخ لهم، فإن كان في ماله تقصير اعتذر إليهم فهو قوله (قولاً معروفاً) وعن عائشة أنها لم تنسخ ولكن تهاون الناس في العمل بها، وعن سعيد بن المسيب قال: هي منسوخة أي بآية الميراث، وعن سعيد بن جبير قال: إن كانوا كباراً يرضخوا، وإن كانوا صغاراً اعتذروا إليهم.(3/32)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
(وليخش) أي ليخف على اليتامى (الذين لو تركوا) أي قاربوا أن يتركوا (من خلفهم) أي بعد موتهم (ذرية ضعافاً) أولاداً صغاراً (خافوا عليهم) الفقر والضياع، وهذا الخطاب للأوصياء كما ذهب إليه طائفة من المفسرين، وفيه وعظ لهم بأن يفعلوا باليتامى الذين في حجورهم ما يحبون أن يفعل بأولادهم من بعدهم.
وبعضهم جعل الخطاب لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء وإليه ذهب البيضاوي؛ أو أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافاً مثلهم هل يجوزون حرمانهم، أو أمر للمؤمنين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية، والأول أولى.
(فليتّقوا الله) يعني في الأمر الذي تقدم ذكره. قالت طائفة: المراد جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس وإن لم يكونوا في حجورهم، وقال آخرون: إن المراد بهم من يحضر الميت عند موته أمروا بتقوى الله،(3/32)
والتقوى مسبّبة عن الخوف الذي هو الخشية فلذلك ذكرت فاء السببية، ففي الآية الجمع بين المبدأ والمنتهى (وليقولوا) للمحتضر (قولاً سديداً) صواباً من إرشاده إلى التخلص عن حقوق الله وحقوق بني آدم، وإلى الوصية بالقرب المقربة إلى الله سبحانه، وإلى ترك التبذير بماله وإحرام ورثته كما يخشون على ورثتهم من بعدهم لو تركوهم فقراء عالة يتكففون الناس.
وقال ابن عطية: الناس صنفان يصلح لأحدهما أن يقال له عند موته ما لا يصلح للآخر، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثته بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية ويحمل على أن يقدم لنفسه، وإذا ترك ورثته ضعفاء مفلسين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط فإنّ أجره في قصده ذلك كأجره في المساكين.
قال القرطبي: وهذا التفصيل صحيح والمعنى وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع من بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم، ثمّ أمرهم بتقوى الله والقول السديد للمحتضرين أولاً، ولأولادهم من بعدهم على ما سبق.(3/33)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
(إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى) استئناف جيء به لتقرير ما فصل من الأوامر والنواهي يتضمن النهي عن ظلم الأيتام من الأولياء والأوصياء (ظلماً) حراماً بغير حق (إنما يأكلون في بطونهم ناراً) المراد بأكل النار ما يكون سبباً للنار تعبيراً بالمسبب عن السبب، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية، والمعنى سيأكلون يوم القيامة، وهذا على المجاز، وقيل بطونهم أوعية للنار بأن يخلق الله لهم ناراً يأكلونها في بطونهم، وهذا على الحقيقة، وقيل غير ذلك.
قال السدي: يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأذنيه وعينيه وأنفه يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم، وإنما خص(3/33)
الآكل بالذكر وإن كان المراد سائر أنواع الإتلافات وجميع التصرفات المتلفة للمال لأن الضرر يحصل بكل ذلك لليتيم، فعبّر عن الجميع بالأكل لأنه معظم المقصود، وذكر البطون للتأكيد كقولك رأيت بعيني وسمعت بأذني.
(وسيصلون سعيراً) بأكلهم أموال اليتامى، وقرىء سيصلون من التصلية لكثرة الفعل مرة بعد أخرى؛ وقرأ الباقون بفتح الياء من صلى النار يصلاها، والصلا هو التسخن بقرب النار أو بمباشرتها، والسعير الجمر المشتعل، وقيل النار الموقدة.
أخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً فقيل يا رسول الله من هم؟ قال ألم تر أن الله يقول (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً) الآية (1).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال حدثنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ليلة أسري به قال " نظرت فإذا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكّل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار فيقذف في أحدهم حتى يخرج من أسافلهم ولهم خوار وصراخ، فقلت يا جبرائيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً الآية (2).
وقال زيد بن أسلم: هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم ويأكلون أموالهم.
_________
(1) ابن كثير 1/ 456.
(2) قال السدي: يبعث آكل مال اليتيم ظلماً ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه، وأذنيه، وأنفه، وعينيه، يعرفه من رآه يأكل مال اليتيم أخرجه ابن جرير 8/ 26 من طريق أسباط.(3/34)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
(يوصيكم الله في أولادكم) هذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى (للرجال نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون) من أحكام المواريث، وقد استدل بذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذه الآية بطولها ركن من أركان الدين وعمدة من عمد الأحكام، وأم من أمهات الآيات لاشتمالها على ما يهم من علم الفرائض، وقد كان هذا العلم من أجل علوم الصحابة رضي الله عنهم وأكثر مناظراتهم فيه، وسيأتي بعد كمال تفسير ما اشتمل عليه كلام الله من الفرائض، ذكر بعد فضائل هذا العلم إن شاء الله تعالى.
وبدأ بالأولاد لأنهم أقرب الورثة إلى الميت وأكثر بقاء بعد المورث، والمراد بالوصية في الأولاد الوصية في شأن ميراثهم، وقد اختلفوا هل يدخل أولاد الأولاد أم لا؟ فقالت الشافعية إنهم يدخلون مجازاً لا حقيقة، وقالت الحنفية: إنه يتناولهم لفظ الأولاد حقيقة إذا لم يوجد أولاد الصلب.
ولا خلاف أن بني البنين كالبنين في الميراث مع عدمهم، وإنما هذا الخلاف في دلالة لفظ الأولاد على أولادهم مع عدمهم، ويدخل في لفظ الأولاد من كان منهم كافراً ويخرج بالسنة، وكذلك يدخل القاتل عمداً ويخرج أيضاً بالسنة والإجماع، ويدخل فيه الخنثى.(3/35)
قال القرطبي: وأجمع العلماء أنه يورث من حيث يبول، فإن بال منهما فمن حيث سبق، فإن خرج البول منهما من غير سبق أحدهما فله نصف نصيب الذكر، ونصف نصيب الأنثى، وقيل يعطى أقل النصيبين وهو نصيب الأنثى، قاله يحيى بن آدم، وهو قول للشافعي.
وهذه الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من الموارثة بالحلف والهجرة والمعاقدة، وقد أجمع العلماء على أنه إذا كان مع الأولاد من له فرض مسمى أعطيه وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين للحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ " ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر " إلا إذا كان ساقطاً معهم كالإخوة لأم (1).
(للذكر مثل حظ الأنثيين) جملة مستأنفة لبيان الوصية في الأولاد، فلا بدّ من تقدير ضمير يرجع إليهم أي يوصيكم الله في أولادكم للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، والمراد حال اجتماع المذكور والإناث، وأما حال الإنفراد فللذكر جميع الميراث وللأنثى النصف وللأنثيين فصاعداً الثلثان (2).
وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه لأن القصد إلى بيان فضله والتنبيه على أن التضعيف كاف في التفضيل فلا يحرمن بالكلية وقد اشتركا في الجهة، وإن فائدة التعصيب أن العاصب إذا انفرد حاز المال كله.
(فإن كنّ) الأولاد المتروكات والتأنيث باعتبار الخبر أو البنات أو المولودات (نساء) ليس معهن ذكر (فوق اثنتين) أي زائدات على إثنتين على أن فوق صفة لنساء أو يكون خبراً ثانياً لكان (فلهن ثلثا ما ترك) الميت المدلول عليه بقرينة المقام.
_________
(1) إنما زاد نصيب الرجل في الميراث لما يجب عليه من الأعباء كالمهر والنفقة.
(2) مسلم 1615 البخاري 2496.(3/36)
وظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاث من البنات فصاعداً، ولم يسم للأنثيين فريضة، ولهذا اختلف أهل العلم في فريضتهما، فذهب الجمهور إلى أن لهما إذا انفردتا عن البنين الثلثين، وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف.
احتج الجمهور بالقياس على الأختين فإن الله سبحانه قال في شأنهما فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين كما ألحقوا الأخوات إذا زدن على اثنتين بالبنات في الاشتراك في الثلثين.
وقيل في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث كان للإبنتين إذا انفردتا الثلثان، هكذا احتجّ بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد، قال النحاس: وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين.
وأيضاً للمخالف أن يقول إذا ترك بنتين وابناً فللبنتين النصف، فهذا دليل على أن هذا فرضهما ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة النصف إذا انفردت بقوله (وإن كانت واحدة فلها النصف) كان فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة، وأوجب القياس على الأختين الإقتصار للبنتين على الثلثين.
وقيل: إن فوق زائدة والمعنى إن كن نساء اثنتين كقوله تعالى (فاضربوا فوق الأعناق) أي الأعناق، ورد هذا النحاس وابن عطية فقالا: هو خطأ لأن الظروف وجميع الأسماء لا يجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى وقال ابن عطية: ولأن قوله (فوق الأعناق) هو الفصيح، وليس فوق زائدة بل هي محكمة المعنى، لأن ضربة العنق إنما يجب أن يكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ كما قال دريد بن الصمة: اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال انتهى.(3/37)
وأيضاً لو كان لفظ فوق زائداً كما قالوا لقال فلهما ثلثا ما ترك ولم يقل فلهن ثلثا ما ترك.
وأوضح ما يحتج به للجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقي في سننه عن جابر قال جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيداً وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً، ولا تنكحان إلا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث (يوصيكم الله في أولادكم) الآية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عمهما فقال: اعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك، أخرجوه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال الترمذي ولا يعرف إلا من حديثه (1).
(وإن كانت واحدة) قرىء بالرفع على أن كان تامة بمعنى فإن وجدت بنت واحدة أو حدثت واحدة؛ وقرىء بالنصب، قال النحاس: وهذه قراءة حسنة أي وإن كانت أي المتروكة أو المولودة واحدة (فلها النصف) يعني فرضاً لها.
(ولأبويه) أي الميت وهو كناية عن غير مذكور، وجاز ذلك لدلالة الكلام عليه والمراد بالأبوين الأب والأم والتثنية على لفظ الأب للتغليب، وهذا شروع في إرث الأصول (لكل واحد منهما السدس مما ترك) بدل من لأبويه بتكرير العامل، قاله الزمخشري، وفائدة هذا البدل أنه لو قيل ولأبويه السدس لكان ظاهرها اشتراكهما فيه، ولو قيل لأبويه السدسان لأوهم قسمة السدسين عليهما بالسوية وعلى خلافها.
_________
(1) المستدرك كتاب الفرائض 4/ 334.(3/38)
وقد اختلف العلماء في الجدّ هل هو بمنزلة الأب فيسقط به الأخوة أم لا؟
فذهب أبو بكر الصديق إلى أنه بمنزلة الأب، ولم يخالفه أحد من الصحابة أيام خلافته، واختلفوا في ذلك بعد وفاته فقال بقول أبي بكر: ابن عباس وعبد الله ابن الزبير وعائشة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة وعطاء وطاوس والحسن وقتادة وأبو حنيفة وأبو ثور وإسحق، واحتجوا بمثل قوله تعالى (ملّة أبيكم إبراهيم) وقوله (يا بني آدم) وقوله - صلى الله عليه وسلم - إرموا يا بني إسماعيل.
وذهب علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريث الجدّ مع الأخوة لأبوين أو لأب ولا ينقص معهم من الثلث ولا ينقص مع ذوي الفروض من السدس في قول زيد ومالك والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي، وقيل يشرك بين الجد والأخوة إلى السدس ولا ينقصه من السدس شيئاً مع ذوي الفروض وغيرهم، وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة.
وذهب الجمهور إلى أن الجد يسقط بني الأخوة، وروى الشعبي عن علي أنه أجرى بني الأخوة في المقاسمة مجرى الأخوة.
وأجمع العلماء أن للجدة السدس إذا لم تكن للميت أم، وأجمعوا على أنها ساقطة مع وجود الأم، وأجمعوا على أن الأب لا يسقط الجدة أم الأم.
واختلفوا في توريث الجدة وابنها حي، فروى عن زيد بن ثابت وعثمان وعلي أنها لا ترث وابنها حي، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وروى عن عمر وابن مسعود وأبي موسى أنها ترث معه، وروى أيضاً عن علي وعثمان وبه قال شريح وجابر بن زيد وعبيد الله بن الحسن وشريك وأحمد وإسحق وابن المنذر.
(إن كان له ولد) الولد يقع على الذكر والأنثى لكنه إذا كان الموجود الذكر مع الأولاد وحده أو مع الأنثى منهم فليس للجد إلا الثلث، وإن كان الموجود أنثى كان للجد السدس بالفرض وهو عصبة فيما عدا السدس وأولاد ابن الميت كأولاد الميت.(3/39)
(فإن لم يكن له ولد) ولا ولد ابن لما تقدم من الإجماع (وورثه أبواه) منفردين عن سائر الورثة أو مع زوج (فلأمّه الثلث) أي ثلث المال كما رهب إليه الجمهور من أن الأم لا تأخذ ثلث التركة إلا إذا لم يكن للميت وارث غير الأبوين، أما لو كان معهما أحد الزوجين فليس للأم إلا ثلث الباقي بعد الموجودين من الزوجين.
وروى عن ابن عباس أن للأم ثلث الأصل مع أحد الزوجين وهو يستلزم تفضيل الأم على الأب في مسئلة زوج وأبوين مع الاتفاق على أنه أفضل منها عند انفرادهما عن أحد الزوجين.
(فإن كان له إخوة) يعني ذكوراً أو إناثاً اثنين فصاعداً (فلأمه السدس) يعني لأم الميت سدس التركة إذا كان معها أب، وإطلاق الإخوة يدل على أنه لا فرق بين الإخوة لأبوين أو لأحدهما، وقد أجمع أهل العلم على أن الإثنين من الإخوة يقومان مقام الثلاثة فصاعداً في حجب الأم إلى السدس إلا ما يروى عن ابن عباس أنه جعل الاثنين كالواحد في عدم الحجب، وأجمعوا أيضاً أن الأختين فصاعداً كالأخوين في حجب الأم.
(من بعد وصية يوصي بها أو دين) يعني أن هذه الأنصبة والسهام إنما تقسم بعد قضاء الدين وإنفاذ وصية الميت في ثلثه، قرىء يوصى بفتح الصاد وبكسرها واختار الكسر أبو عبيد وأبو حاتم، لأنه جرى ذكر الميت قبل هذا.
واختلف في وجه تقديم الوصية على الدين مع كونه مقدماً عليها بالإجماع مقيل المقصود تقديم الأمرين على الميراث من غير قصد إلى الترتيب بينهما، وقيل لما كانت الوصية أقل لزوماً من الدين قدمت إهتماماً بها، وقيل قدمت لكثرة وقوعها فصارت كالأمر اللازم لكل ميت وقيل قدمت لكونها حظ المساكين والفقراء، وأخر الدين لكونه حظ غريم يطلبه بقوة وسلطان.
وقيل لما كانت الوصية ناشئة من جهة الميت قدمت بخلاف الدين فإنه(3/40)
ثابت مؤدى ذكر أو لم يذكر، وقيل قدمت لكونها تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، فربما يشق على الورثة إخراجها بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة بأدائه؛ وهذه الوصية مقيدة بقوله (غير مضار) كما سيأتي.
وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وغيرهم عن علي قال: إنكم تقرؤون هذه الآية من بعد وصية يوصي بها أو دين وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالدين قبل الوصية؛ وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلاّت.
(آباؤكم وأبناؤكم) قيل خبره مقدر أي هم المقسوم عليهم أو خبره (لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً) أي نفعه في الدعاء لكم والصدقة عنكم كما في الحديث الصحيح " أو ولد صالح يدعو له " (1) وقال ابن عباس والحسن قد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه.
وقال بعض المفسرين إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله أن يرفع إليه أباه؛ وإذا كان الأب أرفع درجة من ابنه سأل الله أن يرفع ابنه إليه؛ وقيل المراد النفع في الدنيا والآخرة قاله ابن زيد.
وقيل المعنى أنكم لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم أمن وصى منهم فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعاً أو من ترك الوصية ووفر عليكم عرض الدنيا، وقوى هذا صاحب الكشاف قال لأن الجملة اعتراضية ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه ويناسبه.
(فريضة من الله) نصب على المصدر المؤكد، وقيل على الحال، والأول أولى، والمعنى ما قدر من المواريث لأهلها فريضة واجبة (إن الله كان عليماً) بقسمة المواريث (حكيماً) حكم بقسمتها وبيّنها لأهلها، وقال الزجاج: عليماً بالأشياء قبل خلقها، حكيماً فيما يقدره ويمضيه منها.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 805.(3/41)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
(ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهنّ ولد) منكم أو من
غيركم، الخطاب هنا للرجال والمراد بالولد ولد الصلب أو ولد الولد؛ ذكراً كان أو أنثى لما قدّمنا من الإجماع (فإن كان لهن ولد فلكم الرّبع مما تركن) وهذا مجمع عليه لم يختلف أهل العلم في أن للزوج مع عدم الولد النصف ومع وجوده وإن سفل الربع (من بعد وصيّة يوصين بها أو دين) الكلام فيه كما تقدم أي حالة كونهن غير مضارّات في الوصية، وألحق بالولد في ذلك ولد الإبن بالإجماع وهذا ميراث الأزواج من الزوجات.
وقال تعالى في ميراث الزوجات من الأزواج (ولهن) أي الزوجات تعددن أوْلاً (الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد) منهن أو من غيرهن (فإن كان لكم ولد فلهنّ الثمن مما تركتم) هذا النصيب مع الولد والنصيب مع عدمه تنفرد به الواحدة من الزوجات ويشترك فيه الأكثر عن الواحدة، لا خلاف في ذلك.(3/42)
يعني أن الواحدة من النساء لها الربع أو الثمن، وكذلك لو كن أربع زوجات فإنهن يشتركن مع الربع أو الثمن، واسم الولد يطلق على الذكر والأنثى ولا فرق بين الولد وولد الابن، وولد البنت في ذلك، وسواء كان الولد للرجل من الزوجة أو من غيرها (من بعد وصية توصون بها أو دين) أي من بعد أحد هذين منفرداً أو مضموماً إلى الآخر حال كونكم غير مضارّين في الوصية، والكلام في الوصية والدين كما تقدم.
(وإن كان رجل) ميت (يورث) على البناء للمفعول من ورث لا من أورث (كلالة) مصدر من تكلله النسب أي أحاط به وبه سمي الإكليل لإحاطته بالرأس وهو الميت الذي لا ولد له ولا والد، هذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعلي وجمهور أهل العلم، وبه قال صاحب كتاب العين وأبو منصور اللغوي وابن عرفة والقتيبي وأبو عبيد وابن الأنباري، وقد قيل إنها إجماع، وقال ابن كثير: وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف بل جميعهم، وقد حكى الإجماع غير واحد وورد فيه حديث مرفوع انتهى. (1)
وقال في الجمل هذا أحسن ما قيل في تفسير الكلالة، ويدل على صحته أن اشتقاق الكلالة من كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة بينهما فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه.
وروى أبو حاتم والأثرم عن أبي عبيدة قال: الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة، قال أبو عمرو بن عبد البر ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له ولم يذكره في شرط الكلالة غيره، وما يروى عن أبي بكر وعمر من أن الكلالة من لا ولد له خاصة فقد رجعا عنه.
_________
(1) ابن كثير 1/ 460.(3/43)
وقال زيد الكلالة: الحي والميت جميعاً وإنما سموا القرابة كلالة لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم بخلاف الابن والأب فإنهما طرفان له، فإذا ذهبا تكلّله النسب.
وقيل إن الكلالة مأخوذة من الكلال وهو الإعياء فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء، قال ابن الأعرابي: إن الكلالة بنو العم الأباعد.
وبالجملة من قرأ يورث كلالة بكسر الراء مشددة وهو بعض الكوفيين أو مخففة وهو الحسن وأيوب جعل الكلالة القرابة. ومن قرأ يورث بفتح الراء وهم الجمهور احتمل أن يكون الكلالة الميت واحتمل أن تكون القرابة.
وقد روى عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس والشعبي أن الكلالة ما كان سوى الولد والوالد من الورثة.
قال الطبري: الصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولده ووالده لصحة خبر جابر قلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة أفأوصي بمالي كلّه قال لا. انتهى.
وروى عن عطاء أنه قال الكلالة المال، وقال ابن الأعرابي وهذا قول ضعيف لا وجه له.
وقال صاحب الكشاف إن الكلالة تطلق على ثلاثة: على من لا يخلف ولداً ولا والداً، وعلى من ليس بولد ولا والمد من المخلّفين، وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد انتهى.
وفي السمين: هذه الآية مما ينبغي أن يطول فيها القول لإشكالها واضطراب أقوال الناس فيها ثم قال بعد ذكر الاختلاف فيها فقد تخلص مما(3/44)
تقدم أنها إما لميت الموروث أو الورثة أو المال الموروث أو الإرث أو القرابة، ثم تكلم في اشتقاقها وإعرابها والذي ذكرناه هو أحسن ما قيل فيها.
(أو امرأة) معطوف على رجل مقيد بما قيد به أي كانت المرأة الموروثة خالية من الوالد والولد (وله أخ أو أخت) قرأ سعد بن أبي وقاص وابن مسعود (من أم) والقراءة الشاذة كخبر الآحاد لأنها ليست من قبل الرأي، وأطلق الشافعي الاحتجاج بها فيما حكاه البويطي عنه في باب الرضاع وباب تحريم الجمع وعليه جمهور أصحابه لأنها منقولة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يلزم من انتفاء خصوص قرآنيّتها انتفاء خصوص خبريّتها، قاله الكرخي.
قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الإخوة ههنا هم الإخوة لأم، قال: ولا خلاف بين أهل العلم أن الأخوة المذكورين في قوله تعالى (وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) هم الإخوة لأبوين أو لأب.
وأفرد الضمير في قوله (وله أخ أو أخت) لأن المراد كل واحد منهما كما جرت بذلك عادة العرب إذا ذكروا اسمين مستويين في الحكم فإنهم قد يذكرون الضمير الراجع إليهما مفرداً كما في قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة) وقوله (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) وقد يذكرونه مثنى كما في قوله (إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما) وقد قدمنا في هذا كلاماً أطول من المذكور هنا.
(فلكلّ واحد منهما السدس) مما ترك المورث (فإن كانوا أكثر من ذلك) الأخ المفرد والأخت المنفردة بواحد وذلك بأن يكون الموجود اثنين فصاعداً ذكرين أو انثيين أو ذكراً وأنثى، وقد استدل بذلك على أن الذكر كالأنثى من الأخوة لأم لأن الله شرك بينهم في الثلث ولم يذكر فضل الذكر على الأنثى كما ذكره في البنين والإخوة لأبوين أو لأب، قال القرطبي: وهذا أجمل.(3/45)
ودلت الآية على أن الاخوة لأم إذا استكملت بهم المسئلة كانوا أقدم من الإخوة لأبوين أو لأب، ذلك في المسئلة المسماة بالحمارية، وهي إذا تركت الميتة زوجاً وأماً وأخوين لأم وإخوة لأبوين، فإن للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين لأم الثلث ولا شيء للأخوة لأبوين.
ووجه ذلك أنه قد وجد الشرط الذي يرث عنده الإخوة من الأم وهو كون الميت كلالة ويؤيد هذا حديث ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأول رجل ذكر وهو في الصحيحين وغيرهما، وقد قرر الشوكاني دلالة الآية والحديث على ذلك في الرسالة التي سماها المباحث الدرية في المسائل الحمارية، وفي هذه المسئلة خلاف بين الصحابة فمن بعدهم معروف.
(فهم شركاء في الثلث) يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم لإدلائهم بمحض الأنوثة (من بعد وصيّة يوصى بها أو دين) الكلام فيه كما تقدم، وظاهر الآية يدل على جواز الوصية بكل المال وببعضه، ولكن ورد في السنة ما يدل على تقييد هذا المطلق وتخصيصه وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعد بن أبي وقاص قال " الثلث والثلث كثير " أخرجه البخاري ومسلم (1)، ففي هذا دليل على أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث وأن النقصان عن الثلث جائز.
(غير مضارّ) أي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الإضرار كان يقر بشيء ليس عليه أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الإضرار بالورثة أو يوصي لوارث مطلقاً أو لغيره بزيادة على الثلث ولم يجزه الورثة، وهذا القيد راجع إلى الوصية والدين المذكورين فهو قيد لهما فما صدر من الإقرارات بالديون أو الوصايا المنهي عنها أو التي لا مقصد لصاحبها إلا المضارة لورثته فهو باطل مردود لا ينفذ منه شيء لا الثلث ولا دونه.
_________
(1) مسلم 1629 - البخاري 1318.(3/46)
قال القرطبي: وأجمع على أن الوصية للوارث لا تجوز انتهى.
قال أبو السعود في تفسيره وتخصيص القيد بهذا المقام لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم.
أخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه واللفظ له والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ثم يقول أبو هريرة اقرؤا إن شئتم (تلك حدود الله إلى قوله عذاب مهين) وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه مقال معروف (1).
وأخرج ابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من قطع ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة يوم القيامة ".
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه يعوده في مرضه فقال: إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنة لي أفاتصدق بالثلثين، قال لا قال فالشطر، قال لا، قال فالثلث، قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. (2)
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 1619. وفي رواية " إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار " وقرأ أبو هريرة ها هنا: " (من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار ... حتى بلغ الفوز العظيم).
(2) مسلم 1629 - البخاري 1318.(3/47)
وأخرج ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم، يعني الوصية.
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الثلث كثير، وقال عمر بن الخطاب الثلث وسط لا بخس ولا شطط.
وعن علي قال: لأن أوصي بالخمس أحب إلى من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث ومن أوصى بالثلث لم يترك.
(وصية من الله) نصب على المصدر المؤكد أي يوصيكم بذلك وصية كائنة من الله، قال ابن عطية: ويصح أن يعمل فيها مضار، والمعنى أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزاً فيكون وصية على هذا مفعولاً به لأن اسم الفاعل قد اعتمد على ذي الحال أو لكونه منفياً معنى.
وفي كون هذه الوصية من الله سبحانه دليل على أنه قد وصى عباده بهذه التفاصيل المذكورة في الفرائض، وإن كل وصية من عباده يخالفها فهي مسبوقة بوصية الله وذلك كالوصايا المتضمنة لتفضيل بعض الورثة على بعض أو المشتملة على الضرار بوجه من الوجوه (والله عليم حليم) قال الخطابي: الحليم ذو الصفح والأناة الذي لا يستفزه غضب، ولا يستخفه جهل جاهل (1).
_________
(1) جاء في كتاب الكبائر للامام الذهبي/234.
قال ابن عباس: يريد ما أحل الله من الميراث (ومن يطع الله ورسوله) في شأن المواريث (يدخل جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله) قال مجاهد فيما فرض الله من المواريث.
وقال عكرمة عن ابن عباس من لم يرض يقسم الله ويتعد ما قال الله (يدخله ناراً).
وقال الكلبي يعني يكفر بقسمة الله المواريث ويتعدى حدوده استحلالاً (يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين).
وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من فر بميراث وارث قطع الله ميراثه من الجنة ".
وقال عليه الصلاة والسلام: " أن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " صححه الترمذي.(3/48)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
والإشارة بقوله(3/49)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
(تلك حدود الله) إلى الأحكام المتقدمة من مال اليتامى والوصايا والأنكحة والمواريث، وسماها حدوداً لكونها لا تجوز مجاوزتها ولا يحل تعديها.
(ومن يطع الله ورسوله) في قسمة المواريث وغيرها من الأحكام الشرعية كما يفيده عموم اللفظ (يدخله) بالياء والنون (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم) الذي لا فوز وراءه وهكذا قوله(3/49)
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
(ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله) بالوجهين (ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين) أي وله بعد إدخاله النار عذاب ذو إهانة لا يعرف كنهه.
روعي في الضمائر في الآيتين وفي خالداً لفظ (من) وفي خالدين معناها، قال الضحاك: والمعصية هنا الشرك.
وقال ابن عباس في معنى الآية: ومن لم يرض بقسمة الله ويتعد ما حده، وقال الكلبي: يكفر بقسمة المواريث فإذا كفر كان حكمه حكم الكفار في الخلود في النار إذا لم يتب قبل موته وإذا مات وهو مصر على ذلك كان مخلداً في النار، فلا دليل في الآية للمعتزلة على أن العصاة والفساق من أهل الإيمان يخلدون في النار.
وقد ورد في الترغيب في تعلم الفرائض وتعليمها ما أخرجه الحاكم(3/49)
والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تعلموا الفرائض وعلموها الناس وإني امرؤ مقبوض، وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها (1).
وأخرجا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله وصلى الله عليه وسلم - تعلموا الفرائض وعلموها فإنه نصف العلم وأنه ينسى وهو أول ما ينزع من أمتي، وأخرجه ابن ماجه والدارقطني ولفظهما هو أول علم ينسى وهو أول شيء ينزع من أمتي (2).
قد روي عن عمرو ابن مسعود وأنس آثار في الترغيب في الفرائض، وكذلك روي عن جماعة من التابعين ومن بعدهم.
وهذا العلم من أعظم العلوم قدراً وأشرفها ذخراً وأفضلها ذكراً، وهو ركن من أركان الشريعة، وفرع من فروعها في الحقيقة، اشتغل الصدر الأول من الصحابة بتحصيلها وتكلموا في فروعها وأصولها، ويكفي في فضلها أن الله تولى قسمتها بنفسه وأنزلها في كتابه مبينة في محل قدسه، وقد حث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تعليمها كما ذكرنا.
وقد ذكر بعض المفسرين أحكام الفرائض وأسباب الإرث في هذا المقام من تفسيره وإنما محلها كتب الفروع، وذكروا من تخاريج هذا العلم ما لم يكن له مستند إلا محض الرأي. وليس مجرد الرأي مستحقاً للتدوين. فلكل عالم رأيه واجتهاده مع عدم الدليل ولا حجة في اجتهاد بعض أهل العلم على البعض الآخر، ويكفيك منها ما ثبت في الكتاب والسنة وما عرض لك وما لم يكن فيهما فاجتهد فيه برأيك عملاً بحديث معاذ المشهور (3).
_________
(1) المستدرك كتاب الفرائض 4/ 333.
(2) المستدرك كتاب الفراثض 4/ 332 - الدارقطني كتاب الفرائض 4/ 67.
(3) المسند 5/ 230.
[ص:51]
حدثنا عبد الله: حدثني أبي ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن أبي عون عن الحرث بن عمر وبن أخي المغيرة بن شعبة عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن فقال كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال اجتهد رأي لا آلو قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم.(3/50)
والسهام المحدودة في كتاب الله العزيز ستة: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس كما تقدم تفسيره آنفاً، والذي وردت به السنة المطهرة أنه يجب الابتداء بذوي الفروض المقدرة وما بقي فللعصبة والأخوات مع البنات عصبة، ولبنت الابن مع البنت السدس تكملة للثلثين، وكذا الأخت لأب مع الأخت لأبوين وللجدة أو الجدات السدس مع عدم الأم، وهو للجد مع من لا يسقطه ولا ميراث للاخوة والأخوات مطلقاً مع الابن أو ابن الابن أو الأب، وفي ميراثهم مع الجد خلاف، ويرثون مع البنات إلا الإخوة للام ويسقط الأخ لأب مع الأخ لأبوين.
وأولو الأرحام يتوارثون وهم أقدم من بيت المال، فإن تزاحمت الفرائض فالعول، ولا يرث ولد الملاعنة والزانية إلا من أمه وقرابتها والعكس، ولا يرث المولود إلا إذا استهل، وميراث العتيق لمعتقه ويسقط بالعصبات وله الباقي بعد ذوي السهام، ويحرم بيع الولاء. وهبته، ولا توارث بين أهل ملَّتين ولا يرث القاتل من المقتول.
هذا جميع ما ثبت بالسنة المطهرة فاشدد عليه يديك.(3/51)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)(3/52)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
(واللاتي يأتين الفاحشة) لما ذكر سبحانه في هذه السورة الإحسان إلى النساء وإيصال صدقاتهن إليهن وميراثهن مع الرجال، ذكر التغليظ عليهن فيما يأتين به من الفاحشة لئلا يتوهمن أنه يسوغ لهن ترك التعفف.
واللاتي جمع التي بحسب المعنى دون اللفظ وفيه لغات ويقال في جمع الجمع اللواتي واللوائي واللوات واللواء، والفاحشة الفعلة القبيحة وهي مصدر كالعافية والعاقبة، والمراد بها هنا الزنا خاصة، وإتيانها فعلها ومباشرتها.
(من نسائكم) هن المسلمات (فاستشهدوا عليهن أربعة) خطاب للأزواج أو للحكام، قال عمر بن الخطاب إنما جعل الله الشهود أربعة ستراً يستركم به دون فواحشكم (منكم) المراد به الرجال المسلمون.
(فإن شهدوا) عليهن بها (فأمسكوهنّ) احبسوهن (في البيوت) وامنعوهن من مخالطة الناس، لأن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز إلى الرجال، فإذا حبست في البيت لم تقدر على الزنا، عن ابن عباس قال: كانت المرأة إذا فجرت حبست في البيت فإن ماتت ماتت، وإن عاشت عاشت حتى نزلت الآية في سورة النور (الزانية والزاني فاجلدوا) فجعل الله لهن سبيلاً فمن عمل شيئاً جلد وأرسل، وقد روي عنه من وجوه (1).
_________
(1) أخرجه ابن جرير 8/ 84 وأبو داود 4/ 202؛ وقد كان الرجم من الأمم التي سبقتنا.(3/52)
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبس المذكور وكذلك الأذى باقيان مع الجلد لأنه لا تعارض بينهما بل الجمع ممكن، قال الخطابي: ليست منسوخة لأن قوله (فامسكوهن) يدل على أن إمساكهن في البيوت ممتدّ إلى غاية هي قوله (حتى) أي إلى أن (يتوفاهن الموت) أي ملائكة الموت عند انقضاء آجالهن (أو يجعل الله لهن سبيلاً) وذلك السبيل كان مجملاً، فلما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم (1) رواه مسلم من حديث عبادة، صار هذا الحديث بياناً لتلك الآية لا نسخاً له.
_________
(1) مسلم 1690. ورواه أحمد 5/ 318 والشافعي في الرسالة 129/ 247 ومسلم 3/ 1316 وأبو داود 4/ 202 باختلاف في الروايات.(3/53)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
(واللّذان يأتيانها منكم) أي الفاحشة وهي الزنا واللواط، وهذان قولان للمفسرين وسيرجح الثاني بأمور، واللذان تثنية الذي، وكان القياس أن يقال اللذيان، قال سيبويه: حذفت الياء ليفرق بين الأسماء الممكنة وبين الأسماء المبهمة.
والمراد (باللذان) هنا الزاني والزانية تغليباً، وقيل الآية الأولى في النساء خاصة محصنات وغير محصنات، والثانية في الرجال خاصة وجاء بلفظ التثنية لبيان صنفي الرجال من أحصن ومن لم يحصن، فعقوبة النساء وعقوبة الرجال الأذى، واختار هذا النحاس ورواه عن ابن عباس ورواه القرطبي عن مجاهد وغيره واستحسنه.
وقال السدي وقتادة وغيرهما: الآية الأولى في النساء المحصنات ويدخل معهن الرجال المحصنون، والآية الثانية في الرجل والمرأة البكرين، ورجحه الطبري وضعفه النحاس، وقال تغليب المؤنث على المذكر بعيد.(3/53)
وقال ابن عطيه: إن معنى هذا القول تام إلا أن لفظ الآية يضيق عنه وقيل كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل، فخصّت المرأة بالذكر في الإمساك ثم جمعاً في الإيذاء، قال قتادة كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعاً.
(فآذوهما) واختلف المفسرون في تفسير الأذى فقيل التوبيخ والتعيير وقيل السب والجفاء من دون تعيير وتقريع، وقيل النيل باللسان والضرب بالنعال وقد ذهب قوم إلى أن الاذى منسوخ بالحد كالحبس إن أريد به الزنا وكذا إن أريد اللواط عند الشافعي، لكن المفعول به لا يرجم عنده وإن كان محصناً بل يجلد ويغرب، وأما الفاعل فيرجم إن كان محصناً، وارادة اللواط أظهر بدليل تثنية الضمير، وقيل ليس بمنسوخ كما تقدم في الحبس، وقد قال بالنسخ جماعة من التابعين كمجاهد وقتادة والحسن وسعيد بن جبير والسدي.
(فإن تابا) من الفاحشة (وأصلحا) العمل فيما بعد (فأعرضوا عنهما) أي اتركوهما وكفوا عنهما الأذى (إن الله كان تواباً رحيماً) وهذا كان قبل نزول الحدود في ابتداء الإسلام على ما تقدم من الخلاف، فثبت الجلد على البكر بنص الكتاب وثبت الرجم على الثيب المحصن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجم ماعزاً وكان قد أحصن.(3/54)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
(إنما التوبة على الله) إستئناف لبيان أن التوبة ليست بمقبولة على الإطلاق كما ينبىء عنه قوله (تواباً رحيماً) بل إنما يقبل من البعض دون البعض كما بينه النظم القرآني ههنا، وقيل المعنى إنما التوبة على فضل الله ورحمته لعباده.
وقيل المعنى إنما التوبة واجبة على الله، وهذا على مذهب المعتزلة لأنهم يوجبون على الله عز وجل واجبات من جملتها قبول توبة التائبين.
وقال أهل المعاني: المعنى أوجب على نفسه من غير إيجاب أحد عليه لأنه يفعل ما يريد، وقيل على هنا بمعنى عند، وقيل بمعنى من.
وقد اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون) وذهب الجمهور إلى أنها تصح من ذنب دون ذنب خلافا للمعتزلة.
وقيل إن قوله (على الله) هو الخبر، وقوله الآتي (للذين) متعلق بما تعلق به الخبر، إلا أن الذي يقتضيه المقام ويستدعيه النظام هو كون للذين خبراً، وقال أبو حيان التقدير إنما قبول التوبة مترتب على فضل الله، فتكون (على) هنا باقية على أصلها.
(للَّذين يعملون السوء) أي العمل السيء والمعصية متصفين (بجهالة) أو جاهلين إذا عصوا، قال أبو العالية هذه للمؤمنين، وقد حكى القرطبي عن قتادة أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن كل(3/55)
معصية فهي بجهالة عمداً كانت أو جهلاً، وحكى عن الضحاك ومجاهد أن الجهالة هنا العمد.
وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة، ومنه قوله تعالى (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) وقال الزجاج: معنى بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية، وقيل معناه أنهم لا يعلمون كنه العقوبة، ذكره ابن فورك وضعفه ابن عطية.
وعن أبي العالية أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة، وعن ابن عباس قال: من عمل السوء فهو جاهل من جهالته عمل السوء.
(ثم يتوبون من قريب) معناه قبل أن يحضرهم الموت كما يدل عليه قوله (حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) وبه قال أبو مجلز والضحاك وعكرمة وغيرهم، وقيل المراد قبل المعاينة للملائكة وغلبة المرء على نفسه.
ومن للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب، وهو ما عدا وقت حضور الموت، وإنما كان الزمن الذي بين فعل المعصية وبين وقت الغرغرة قريباً ولو كان سنين لأن كل ما هو آت قريب وإن طال قليل.
وفيه تنبيه على أن الإنسان ينبغي له أن يتوقع في كل ساعة نزول الموت به، وقيل معناه قبل المرض وهو ضعيف بل باطل لما قدمنا ولما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر (1).
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 1899. زاد المسير 5/ 37.(3/56)
وقيل معناه يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار، قال ابن عباس: في الحياة والصحة، وقال الضحاك: كل شيء قبل الموت فهو قريب له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت. فإذا تاب حين ينظر ملك الموت فليس له ذلك، وقال الحسن القريب ما لم يغرغر.
وقد وردت أحاديث كثيرة في قبول توبة العبد ما لم يغرغر ذكرها ابن كثير في تفسيره، ومنها الحديث الذي قدمنا ذكره، والغرغرة أن يجعل المشروب في فم المريض فيردّه في الحلق ولا يصل إلى جوفه، ولا يقدر على بلعه. وذلك عند بلوغ الروح إلى الحلقوم. وقيل الغرغرة تردد الروح في الحلق.
(فأولئك يتوب الله عليهم) هو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم ويقبل توبتهم بعد بيانه أن التوبة لهم مقصورة عليهم (وكان الله عليماً) بما في قلوبهم من التصديق فحكم بالتوبة قبل الموت ولو بقدر فواق ناقة، وقيل علم أنه أتى بتلك المعصية باستيلاء الشهوة والجهالة عليه فحكم بالتوبة لمن تاب عنها وأناب عن قريب (حكيماً) في صنعه (1).
_________
(1) وقد وردت الأحاديث في التوبة كثيرة منها:
- عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون " رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي وإسناده حسن ".
- عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلكم الران الذي ذكره الله تعالى، رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حديث حسن صحيح.(3/57)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
(وليست التوبة للّذين يعملون السيئآت) الذنوب، فيه تصريح بما فهم من حصر التوبة فيما سبق على من عمل السوء بجهالة ثم تاب عن قريب، قال أبو العالية: هذه لأهل النفاق وبه قال سعيد بن جبير، قال ابن عباس: يريد أهل الشرك أي الكفار، وقال الثوري: هم المسلمون. ألا ترى أنه قال ولا الذين يموتون وهم كفار.
(حتى) حرف ابتداء، وجملة (إذا حضر أحدهم الموت) غاية لا قبلها، وهذا وجه حسن وحضور الموت حضور علاماته وبلوغ المريض إلى حالة السياق ومصيره مغلوباً على نفسه مشغولاً بخروجها من بدنه، وهو وقت الغرغرة المذكورة في الحديث السابق وهي بلوغ روحه حلقومه، قاله الهروي.
(قال) عند مشاهدة ما هو فيه (إني تبت الآن) أي وقت حضور الموت حين لا يقبل من كافر إيمان ولا من عاص توبة، قال تعالى (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) قيل قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة بل المانع من قبولها مشاهدة الأحوال التي لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا بحال، ولذلك لم تقبل توبة فرعون ولا إيمانه حين أدركه الغرق.
(ولا الذين يموتون وهم كفار) إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب، قال أبو العالية هذه لأهل الشرك وروى عن الربيع مثله مع أنه لا توبة لهم رأساً، وإنما ذكروا مبالغة في بيان عدم قبول توبة من حضرهم الموت، وإن وجودها كعدمها أي ليست التوبة لهؤلاء ولا لهؤلاء (أولئك أعتدنا لهم) أي أحضرنا وهيأنا لهم وأعددنا (عذاباً أليماً) مؤلماً.(3/58)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
(يا أيها الذين آمنوا لا يحلّ لكم) أيها الأولياء (أن ترثوا النساء) أى ذاتهن (كرهاً) بالفتح والضم لغتان أي مكرهين على ذلك، هذا متصل بما تقدم من ذكر الزوجات، والمقصود نفي الظلم عنهن، ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها وهو ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس قال كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بأمرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤا زوجوها وإن شاؤا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت (1).
وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها، وفي لفظ لابن جرير وابن أبي حاتم عنه فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها.
وقد روى هذا السبب بألفاظ فمعناها لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم وتحبسوهن لأنفسكم.
(ولا) يحل لكم أن (تعضلوهن) عن أن يتزوجهن غيركم ضراراً (لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) أي لتأخذوا ميراثهن إذا متن أو ليدفعن إليكم
_________
(1) الأثر رواه البخاري في " صحيحه " 8/ 186 ولفظه: " كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك " ورواه ابن جرير 8/ 104، وأبو داود في " سننه " 2/ 310.
أخرجه ابن جرير 8/ 105 وابن مردويه، ورجال إسناده ثقات.(3/59)
صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح، وقيل الخطاب لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طمعاً في إرثهن أو يفتدين ببعض مهورهن، واختاره ابن عطية، وأصل العضل المنع أي لا تمنعوهن من الأزواج ودليل ذلك قوله:
(إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) فإنها إذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بما لها إجماعاً من الأمة، وإنما ذلك للزوج، قال الحسن: إذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى ويرد إلى زوجها ما أخذت منه، وقال أبو قلابة إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه، وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن.
وقال قوم الفاحشة البذاء باللسان وسوء العشرة قولاً وفعلاً، وقال مالك وجماعة من أهل العلم للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك.
هذا كله على أن الخطاب في قوله (ولا تعضلوهن) للأزواج، وقد عرفت ما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله (ولا تعضلوهن) لمن خوطب بقوله (لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرهاً) فيكون المعنى ولا يحل لكم أن تمنعوهن من الزواج لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن أي ما آتاهن من ترثونه إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فحينئذ يجوز لكم حبسهن عن الأزواج.
ولا يخفى ما في هذا من التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج وتستعف من الزنا.
وكما أن جعل قوله: (ولا تعضلوهن) خطاباً للأولياء فيه التعسّف، كذلك جعل قوله (ولا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً) خطاباً للأزواج فيه تعسف ظاهر مع مخالفته بسبب نزول الآية الذي ذكرناه.
والأولى أن يقال أن الخطاب في قوله (ولا يحل لكم) للمسلمين أي لا(3/60)
يحل لكم معاشر السلمين أن ترثوا النساء كرهاً كما كانت تفعله الجاهلية، ولا يحل لكم معاشر المسلمين أن تعضلوا أزواجكم أي تحبسوهن عندكم مع عدم رغبتكم فيهنّ، بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهن من المهور يفتدين به من الحبس والبقاء تحتكم وفي عندتكم مع كراهتكم لهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فحينئذ يجوز لكم مخالعتهن ببعض ما آتيتموهن (1).
والإستثناء من أعم الأحوال والأوقات أو من أعم العلل أي لا يحل لكم عضلهن في حال أو وقت أو لعلة إلا في حال أو وقت أو لأجل إتيانهنّ بها فإن السبب حينئذ يكون من جهتهن وأنتم معذورون في طلب الخلع.
وقال الكرخي: الاستثناء متصل وعليه جرى القاضي كالكشاف وهو استثناء من زمان عام أو من علة عامة، وهذا أولى لأن الأول يحتاج إلى حذف زمان مضاف، وقيل منقطع واختاره الكواشي كأبي البقاء.
والمبيّنة قرىء بفتح الياء وكسرها أي بينت بيّنها من يدعيها وأوضحها وأظهرها أو هي بينة أي الزنا والنشوز، وقرأ ابن عباس: بكسر الموحدة من أبان الشيء فهو مبين.
(وعاشروهن بالمعروف) أي بما هو معروف في هذه الشريعة وبين أهلها من حسن المعاشرة والإجمال في القول والنفقة والمبيت، وهو خطاب
_________
(1) اختار الإمام أبو جعفر الطبري في " تفسيره " 8/ 113 قول من قال. نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها، والإضرار بها، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق. وإنما قلنا: ذلك أولى بالصحة، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة إلا لأحد رجلين: إما لزوجها بالتضييق عليها، وحبسها على نفسه وهو لها كاره، مضارة منه لها بذلك، ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك، أو لوليها الذي إليه إنكاحها، وإذا كان لا سبيل إلا عضلها لأحد غيرهما، وكان الولي معلوماً أنه ليس مما آتاها شيئاً، فيقال إن عضلها عن النكاح: " عضلها ليذهب ببعض ما آتاها " كان معلوماً أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها، هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضراراً لتفتدي منه.(3/61)
للأزواج أو لما هو أعم، وذلك مختلف باختلاف الأزواج في الغنى والفقر والرفاعة والوضاعة، قال السدي: عاشروهن أي خالطوهن، وقال ابن جرير صحفه بعض الرواة وإنما هو خالقوهن، وعن عكرمة حقها عليك الصحبة الحسنة والكسوة والرزق المعروف.
(فإن كرهتموهن) بسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة ولا نشوز فعسى أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة وتبدلها بالمحبة فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة، وحصول الأولاد، فيكون الجزاء على هذا محذوفاً مدلولاً عليه بعلته أي فإن كرهتموهن فاصبروا ولا تفارقوهن بمجرد هذه النفرة.
(فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) عن ابن عباس قال: الخير الكثير أن يعطف عليها فيرزق ولدها، ويجعل الله في ولدها خيراً كثيراً، وعن السدي نحوه، وقال مقاتل: يطلقها فتتزوج من بعده رجلاً فيجعل الله له منها ولداً، ويجعل الله في تزويجها خيراً كثيراً، وعن الحسن نحوه.
وقيل في الآية ندب إلى إمساك المرأة مع الكراهة لها لأنه إذا كره صحبتها وتحمل ذلك المكروه طلباً للثواب، وأنفق عليها وأحسن هو صحبتها استحق الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة. (1)
_________
(1) في صحيح مسلم 2/ 109 عن أبي هريرة مرفوعاً " لا يفرك مؤمن مؤمنه إن كره منها خلقاً رضي منها آخر، وقال: غيره .. والفرك: البغض.(3/62)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
(وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) الخطاب للرجال وأراد بالزوج الزوجة، قيل لما ذكر الله في الآية الأولى مضارّة الزوجات إذا أتين بفاحشة وهي إما النشوز أو الزنا، بين في هذه الآية تحريم المضارة إن لم يكن من قبلها نشوز ولا زنا، ونهى عن بخس الرجل حق المرأة إذا أراد طلاقها واستبدال غيرها.
(و) قد (آتيتم إحداهن) وهي المرغوب عنها والمراد بالإيتاء والالتزام والضمان كما في قوله (إذا سلّمتم ما آتيتم) أي ما التزمتم وما ضمنتم فلا يرد أن حرمة الأخذ ثابتة وإن لم يكن قد آتاها المسمى، بل كان في ذمته أو يده، والواو للحال، وقيل للعطف وليس بظاهر.
(قنطاراً) قد تقدم بيانه في آل عمران والمراد به هنا المال الكثير، وفي الآية دليل على جواز المغالاة في المهور (فلا تأخذوا منه شيئاً) قيل هي محكمة وقيل هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة (ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله) والأولى أن الكل محكم والمراد هنا غير المختلعة فلا يحلّ لزوجها أن يأخذ مما آتاها شيئاً.
وقال ابن عباس: إن كرهت امرأتك وأعجبك غيرها فطلقت هذه وتزوجت تلك فأعط هذه مهرها وإن كان قنطاراً، أخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى قال السيوطي بسند جيد: إن عمر نهى الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فاعترضت له امرأة من قريش فقالت أما سمعت ما أنزل الله يقول (وآتيتم إحداهن قنطاراً) فقال اللهم غفراً كل الناس أفقه من عمر، فركب المنبر فقال أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا(3/63)
النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب، قال أبو يعلى: وأظنه قال فمن طابت نفسه فليفعل، قال ابن كثير إسناده جيد قوي، وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة هذا أحدها (1).
وقيل المعنى لو جعلتم ذلك القدر لهن صداقاً فلا تأخذوا منه شيئاً وذلك أن سوء العشرة إما أن يكون من قبل الزوج أو من قبل الزوجة، فإن كان من قبل الزوج وأراد طلاق المرأة فلا يحل له أن يأخذ شيئاً من صداقها، وإن كان النشوز من قبل المرأة جاز له ذلك.
(أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً) الاستفهام للإنكار والتقريع، والجملة مقرّرة للجملة الأولى المشتملة على النهي (2).
_________
(1) ابن كثير 1/ 467.
وخطب عمر رضي الله عنه فقال: ألا لا تغالوا في صَدُقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما أصدق قط آمرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية. فقامت إليه آمرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا! أليس الله سبحانه وتعالى يقول:، (وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً)؟ فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وفي رواية فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر!. وفي أخرى: آمرأة أصابت ورجل أخطأ. وترك الإنكار. أخرجه أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي العجفاء السلمي قال: خطب عمر الناس، فذكره إلى قوله: اثنتي عشرة أوقية، ولم يذكر: " فقامت إليه امرأة إلى آخره ". وأخرجه ابن ماجة في سننه عن أبي العجفاء.
(2) وروق ابن العاص 5/ 101 القرطبي.(3/64)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
(وكيف) كلمة تعجب (تأخذونه) إنكار بعد إنكار مشتمل على العلة التي تقتضي منع الأخذ وهى الإفضاء، والمعنى لأي وجه تفعلون مثل هذا الفعل، وكيف يليق بالعاقل أن يسترد شيئاً بذله لزوجته عن طيب نفس، وقيل هو استفهام معناه التوبيخ والتعظيم لأخذ المهر بغير حله.
ثم ذكر السبب فقال (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) قال الهروي والكلبي: وهو إذا كان في لحاف واحد جامع أو لم يجامع، وقال الفراء: الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وإن لم يجامعها وبه قال أبو حنيفه، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي واختاره الزجاج: أن الإفضاء في هذه الآية الجماع ولكن الله يكنى وبه قال الشافعي.
وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة يقال للشيء المختلط فضاء ويقال القوم فوضاً وفضاء أي مختلطون لا أمير عليهم، وقيل الوصول: يقال أفضى إليه أي وصل.
(وأخذن منكم) وهذا الإسناد مجاز عقلي لأن الآخذ للعهد حقيقة هو الله لكن بولغ فيه حتى جعل كأنهن الآخذات له (ميثاقاً غليظاً) وهو عقد النكاح ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - " فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله (1) وقيل هو قوله تعالى (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) قاله ابن عباس، وقيل هو الأولاد.
كان ابن عمر إذا نكح قال: نكحتك على ما أمر الله به إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، قال قتادة: وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرّحن بإحسان، وعن أنس بن مالك نحوه، وعلى هذا هو قول العاقد عند العقد وعلى الأول هو كلمة النكاح المعقودة على الصداق.
_________
(1) أبو داود كتاب المناسك باب 56 - الإمام أحمد 5/ 72.(3/65)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً (22)
(ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) نهى عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم، وإنما خص هذا النكاح بالنهي ولم ينتظم في سلك نكاح المحرمات الآتية مبالغة في الزجر عنه حيث كانوا مصرين على تعاطيه.
ومن المعلوم أن المحرمات بالمصاهرة أربع: زوجة الأب وزوجة الأبن وأم الزوجة وبنت الزوجة، وكلها يحصل فيه التحريم بمجرد العقد وإن لم يحصل دخول إلا الربيبة فلا تحريم إلا بشرط الدخول بأمها وهذا يستفاد من الآيات فإنها لم تقيد بالدخول إلا في الربيبة على ما سيأتي. والمراد آباؤكم من نسب أو رضاع.
(إلا ما قد سلف) استثناء منقطع لأن الماضي لا يستثنى من المستقبل أي لكن ما قد سلف في الجاهلية فاجتنبوه ودعوه فإنه مغفور عنه، وقيل إلا بمعنى بعد أي بعد ما سلف وقيل المعنى ولا ما سلف، وقيل هو استثناء متصل من قوله ما نكح آباؤكم يفيد المبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعليق بالمحال، يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوا فلا يحل لكم غيره.
وقيل معناه إلا ما سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بإمرأة فإنه يجوز للإبن تزوجها قاله ابن زيد. والأول أولى.
ثم بين سبحانه وجه النهي عنه فقال (إنه كان فاحشة ومقتاً) هذه الجملة تدل على أنه من أشد المحرمات وأقبحها، وقد كانت الجاهلية تسميه بنكاح المقت، قال ثعلب سألت ابن الإعرابي عن نكاح المقت فقال: هو أن(3/66)
يتزوج الرجل أمرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها ويقال لهذا الضيزن، وأصل المقت البغض من مقته يمقته مقتاً فهو ممقوت ومقيت، والعرب تسمى ولد الرجل من أمرأة أبيه مقيتاً، وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن أبي عمرو ابن أمية (1).
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن البراء قال: لقيت خالي ومعه الراية قلت أين تريد قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله.
(وساء سبيلاً) أي ساء سبيل ذلك النكاح لأنه يؤدي إلى مقت الله، وقيل التقدير ساء سبيله وقيل مقولاً في حقه ساء سبيلاً فإن ألسنة الأمم كافة لم تنزل ناطقة بذلك في الأمصار والأعصار، وقيل مراتب القبح ثلاث: وقد وصف الله هذا النكاح بكل ذلك، فقوله (فاحشة) مرتبة قبحه العقلي، وقوله (مقتاً) مرتبة قبحه الشرعي، وقوله (ساء سبيلاً) مرتبة قبحه العادي، وما اجتمعت فيه هذه المراتب فقد بلغ أقصى مراتب القبح.
_________
(1) وكانت هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي. ألا ترى أن عمرو ابن أمية خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافرا وأبا معيط، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره؛ فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما. ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف تزوج بعد أبيه امرأته فاخته بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكان أمية قتل عنها. ومن ذلك منظور بن زبان خلف على مليكة بنت خارجة، وكانت تحت أبيه زبان بن سيار. ومن ذلك حصن ابن أبي قيس تزوج آمرأة أبيه كبيشة بنت معن. والأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه. وقال الأشعث بن سوار: توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه امرأة أبيه فقالت: إني أعدك ولداً، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره؛ فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية.(3/67)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
(حرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين).
قد بين الله سبحانه في هذه الآية ما يحل وما يحرم من النساء، فحرّم سبعاً من النسب وستاً من الرضاع والصهر، وألحقت السنة المتواترة تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، ووقع عليه الإجماع.
والسبع المحرمات من النسب الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت.
والمحرمات بالصهر والرضاع: الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء والربائب وحلائل الأبناء والجمع بين الأختين، فهؤلاء ست، والسابعة منكوحات الآباء والثامنة الجمع بين المرأة وعمتها.(3/68)
قال الطحاوي: وكل هذا من المحكم المتفق عليه، وغير جائز نكاح واحدة منهن بالإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن أزواجهن فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم، وقال بعض السلف الأم والربيبة سواء لا تحرم واحدة منهما إلا بالدخول بالأخرى.
قالوا ومعنى قوله وأمهات نسائكم أي اللاتي دخلتم بهن وزعموا أن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعاً، رواه خلاس عن علي بن أبي طالب، وروي عن ابن عباس وجابر وزيد بن ثابت وابن الزبير ومجاهد.
قال القرطبي: ورواية خلاس عن علي لا تقوم به الحجة ولا تصح روايته عند أهل الحديث، والصحيح عنه مثل قول الجماعة وقد أجيب عن قولهم إن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب بأن ذلك لا يجوز من جهة الإعراب أن يكون اللاتي دخلتم بهن نعتاً لهما جميعاً لأن الخبرين مختلفان.
قال ابن المنذر: والصحيح قول الجمهور لدخول جميع أمهات النساء في قوله وأمهات نسائكم.
ومما يدل على ما ذهب إليه الجمهور ما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالأبنة أم لم يدخل، وإذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة (1).
قال ابن كثير في تفسيره مستدلاً للجمهور: وقد روي في ذلك خبر، غير
_________
(1) الترمذي كتاب النكاح باب 25.(3/69)
أن في إسناده نظراً فذكر هذا الحديث، ثم قال وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه فإن الاجماع حجة على صحة القول به يغني عن الاستشهاد على صحته بغيره (1).
وقال في الكشاف: وقد اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى انتهى، ودعوى الإجماع مدفوعة بخلاف من تقدم.
واعلم أنه يدخل في لفظ الامهات أمهاتهن وجدّاتهن وأم الأب وجداته وإن علون لأن كلهن أمهات لمن ولده من ولدنه وإن سفل، ويدخل في لفظ البنات بنات الأولاد وان سفلن، والأخوات تصدق على الأخت لأبوين أو لأحدهما والعمة اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه أو أحدهما، وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب الأم.
والخالة اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو إحداهما وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك، وبنت الأخ اسم لكل أنثى لاخيك عليها ولادة بواسطة ومباشرة وإن بعدت، وكذلك بنت الأخت وأمهات الرضاعة مطلق مقيد بما ورد في السنة، من كون الرضاع في الحولين إلا في مثل قصة إرضاع سالم مولى أبي حذيفة.
ظاهر النظم القرآني أنه يثبت حكم الرضاع بما يصدق عليه مسمى الرضاع لغة وشرعاً، ولكنه قد ورد تقييده بخمس رضعات في أحاديث صحيحة عن جماعة من الصحابة وتقرير ذلك وتحقيقه يطول، وقد استوفاه الشوكاني في مصنفاته وقرر ما هو الحق في كثير من مباحث الرضاع.
_________
(1) ابن كثير 1/ 471.(3/70)
والأخت من الرضاع هي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك أو مع من قبلك أو بعدك من الإخوة والأخوات، ويلحق بذلك بالسنة البنات منها وهن من أرضعتهن موطوآته والعمات والخالات وبنات الأخت منها لحديث: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " رواه البخاري ومسلم (1).
والأخت من الأم هي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر وأمهات النساء من نسب أو رضاع قد تقدم الكلام عليها على اعتبار الدخول وعدمه.
والربيبة بنت امرأة الرجل من غيره سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة فعيلة بمعنى مفعولة.
قال القرطبي: واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها دخل بالأم وإن لم تكن الربيبة في حجره، وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا: لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج، فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم فله أن يتزوج بها، وقد روى ذلك عن علي.
قال ابن المنذر والطحاوي لم يثبت ذلك عن علي لأن رواية إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي، وإبراهيم هذا لا يعرف، وقال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا عن علي: وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم.
والحجور جمع حجر بفتح الحاء وكسرها مقدم الثوب، والمراد لازم الكون في الحجور وهو الكون في تربيتهم، والمراد أنهن في حضانة أمهاتهن تحت حماية أزواجهن كما هو الغالب، وقيل المراد بالحجور البيوت أي في بيوتكم، حكاه الأثرم عن أبي عبيدة وقيل هي صفة موافقة للغالب فلا مفهوم لها.
_________
(1) مسلم 1444، البخاري 1285.(3/71)
والباء في دخلتم بهن للتعدية أي دخلتم الخلوة بهن، والمراد لازمه العادي وهو الوطء أي جامعتموهن، فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم في نكاح الربائب إذا فارقتموهن أو متن، وهو تصريح بما دل عليه مفهوم ما قبله.
وقد اختلف أهل العلم في معنى الدخول الموجب لتحريم الربائب، فروى عن ابن عباس أنه قال: الدخول الجماع وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث: إن الزوج إذا لمس الأم بشهوة حرمت عليه ابنتها، وهو أحد قولي الشافعي، وقال أبو السعود معنى الدخول بهن إدخالهن الستر والباء للتعدية وهي كناية عن الجماع كقولهم بنى عليها وضرب عليها الحجاب، وفي حكمه اللمس ونظائره انتهى ورجحه الخفاجي.
ورد على البيضاوي في قوله رداً على أبي حنيفة تصريح بعد إشعار دفعاً للقياس بأن صريح الآية غير مراد قطعاً بل ما اشتهر من معناها الكنائي.
وقال ابن جرير الطبري: وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها وقبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع انتهى.
وهكذا حكى الإجماع القرطبي فقال: وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها، واختلفوا في النظر فقال الكوفيون إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة وكذا قال الثوري ولم يذكر الشهوة، وقال ابن أبي ليلى: لا تحرم بالنظر حتى يلمس وهو قول الشافعي.
والذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف هو النظر في معنى(3/72)
الدخول شرعاً أو لغة فإن كان خاصاً بالجماع فلا وجه لإلحاق غيره به من لمس أو نظر أو غيرهما، وإن كان معناه أوسع من الجماع بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع كان مناط التحريم هو ذلك.
وأما الربيبة في ملك اليمين فقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كره ذلك وقال ابن عباس: أحلتهما آية وحرمتهما آية ولم أكن لأفعله، وقال ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل أن يطأ امرأة وابنتها من ملك اليمين لأن الله حرم ذلك في النكاح قال (وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم) وملك اليمين عقدهم تبع للنكاح إلا ما روى عن عمر وابن عباس، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم انتهى.
والحلائل جمع حليلة وهي الزوجة سميت بذلك لأنها تحل مع الزوج حيث حل فهي فعيلة بمعنى فاعلة، وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال فهي حليلة بمعنى محلّلة وقيل لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه.
وقد أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء كان مع العقد وطء أم لم يكن لقوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) وقوله (وحلائل أبنائكم) واختلف الفقهاء في العقد إذا كان فاسداً هل يقتضي التحريم أم لا كما هو مبين في كتب الفروع.
قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار أن الرجل إذا وطىء امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده، وأجمع العلماء على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه، فإذا اشترى جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه، لا أعلمهم يختلفون فيه فوجب تحريم ذلك تسليماً لهم، ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم، قال: ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلاف ما قلناه.(3/73)
وقوله (الذين من أصلابكم) وصف للأبناء أي دون من تبنّيتم من أولاد غيركم كما كانوا يفعلونه في الجاهلية، ومنه قوله تعالى (فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً) ومنه قوله تعالى (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) ومنه (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) فلكم نكاح حلائلهم.
وأما زوجة الابن من الرضاع فقد ذهب الجمهور إلى أنها تحرم على أبيه، وقد قيل انها إجماع مع أن الإبن من الرضاع ليس من أولاد الصلب، ووجهه ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) " وإن كان مقتضى مفهوم الآية تحليلهن، ولا خلاف في أن أولاد الأولاد وإن سفلوا بمنزلة أولاد الصلب في تحريم نكاح نسائهم على آبائهم.
وقد اختلف أهل العلم في وطء الزنا هل يقتضي التحريم أم لا، فقال أكثر أهل العلم إذا أصاب رجل امرأة بزنا لم يحرم عليه نكاحها بذلك، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنى بأمها أو ابنتها، وحسبه أن يقام عليه الحد، وكذلك يجوز له عندهم أن يتزوج بأم من زنى بها وبابنتها.
وقالت طائفة من أهل العلم: إن الزنى يقتضي التحريم، وحكى ذلك عن عمران بن حصين والشعبي وعطاء والحسن والثورى وأحمد وإسحق وأصحاب الرأي، وحكى ذلك عن مالك والصحيح عنه كقول الجمهور، احتج الجمهور بقوله تعالى (وأمهات نسائكم) وبقوله (وحلائل أبنائكم) والموطوأة بالزنا لا يصدق عليها أنها من نسائهم ولا من حلائل أبنائهم.
وقد أخرج الدارقطني عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: لا يحرم الحرام الحلال.
_________
(1) مسلم 1444 - البخاري 1285. الدارقطني كتاب النكاح 3/ 268.(3/74)
واحتج المحرّمون بما روى في قصة جريج الثابتة في الصحيح أنه قال: يا غلام من أبوك؟ فقال فلان الراعي فنسب الإبن نفسه إلى أبيه من الزنا. وهذا احتجاج ساقط، واحتجوا أيضاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينظر الله إلا رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها ". ولم يفصل بين الحلال والحرام ويجاب عنه بأن هذا مطلق مقيّد بما ورد من الأدلة الدالّة على أن الحرام لا يحرم الحلال.
ثم اختلفوا في اللواط هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال الثوري إذا لاط بالصبي حرمت عليه أمه وهو قول أحمد بن حنبل قال إذا تلوّط بابن امرأته أو ابنها أو أخيها حرمت عليه امرأته، وقال الأوزاعي إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها لأنها بنت من قد دخل به.
ولا يخفى ما في قول هؤلاء من الضعف والسقوط النازل عن قول القائلين بأن وطء الحرام يقتضي التحريم بدرجات لعدم صلاحية ما تمسك به أولئك من الشُبه على ما زعمه هؤلاء من اقتضاء اللواط للتحريم.
والجمع بين الأختين من نسب أو رضاع يشمل الجمع بينهما بالنكاح والوطء بملك اليمين، وقيل إن الآية خاصة بالجمع في النكاح لا في ملك اليمين، وأما في الوطء بالملك فلا حق بالنكاح، وقد أجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد نكاح، واختلفوا في الأختين بملك اليمين فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما في الوطء بالملك، وأجمعوا على أنه يجوز الجمع بينهما في الملك فقط. وقد توقف بعض السلف في الجمع بين الأختين في الوطء بالملك وسيأتي بيان ذلك.
واختلفوا في جواز عقد النكاح على أخت الجارية التي توطأ بالملك فقال الأوزاعي: إذا وطىء جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها. وقال الشافعي: ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت.(3/75)
وقد ذهبت الظاهرية إلى جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما يجوز الجمع بينهما في الملك، قال ابن عبد البر بعد أن ذكر ما روى عن عثمان بن عفان من جواز الجمع بين الأختين في الوطء بالملك، وقد روى مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس، ولكنهم اختلف عليهم ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز ولا بالعراق ولا ما وراءها من المشرق ولا بالشام ولا المغرب إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونفى القياس، وقد ترك من تعمد ذلك، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح.
وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله (حرّمت عليكم أمهاتكم) الآية أن النكاح بملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء، فكذلك يجب أن يكون قياساً ونظراً الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب، وكذلك هو عند جمهورهم وهي الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها والله المحمود انتهى.
وأقول ههنا إشكال وهو أنه قد تقرر أن النكاح يقال على العقد فقط وعلى الوطء فقط، والخلاف في كون أحدهما حقيقة والاخر مجازاً وكونهما حقيقتين معروف. فإن حملنا هذا التحريم المذكور في قوله (حرّمت عليكم أمهاتكم) الخ على أن المراد تحريم العقد عليهن لم يكن في قوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) دلالة على تحريم الجمع بين المملوكتين في الوطء بالملك وما وقع من إجماع المسلمين على أن قوله (حرمت عليكم أمهاتكم) إلى آخره تستوي فيه الحرائر والإماء والعقد والملك لا يستلزم أن يكون محل الخلاف وهو الجمع بين الأختين في الوطء، بملك اليمين مثل محل الإجماع، ومجرد القياس في مثل هذا الموطن لا تقوم به الحجة لما يرد عليه من النقوض.
وإن حملنا التحريم المذكور في الآية على الوطء فقط لم يصح ذلك الإجماع على تحريم عقد النكاح على جميع المذكورات من أول الآية إلى آخرها،(3/76)
فلم يبق إلا حمل التحريم في الآية على تحريم عقد النكاح، فيحتاج القائل بتحريم الجمع بين الأختين في الوطء بالملك إلى دليل، ولا ينفعه أن ذلك قول الجمهور، فالحق لا يعرف بالرجال فإن جاء به خالصاً عن شوب الكدر فيها ونعمت وإلا كان الأصل الحل.
ولا يصح حمل النكاح في الآية على معنييه جميعاً أعني العقد والوطء، لأنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو ممنوع، أو من باب الجمع بين معنيي المشترك وفيه الخلاف المعروف في الأصول، فتدبر هذا.
وقال السيوطي: ويلحق بهما أي بالأختين بالسنّة الجمع بينها وبين عمتها أو خالتها، ويجوز نكاح كل واحدة على الإنفراد وملكهما معاً ويطأ واحدة انتهى.
قلت: قد اختلف أهل العلم إذا كان الرجل يطأ مملوكته بالملك ثم أراد أن يطأ أختها بالملك أيضاً فقال علي وابن عمر والحسن البصري، والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحق: لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق أو بأن يزوجها.
قال ابن المنذر: وفيه قول ثان لقتادة وهو أنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها ثم يمسك عنهما حتى تستبريء المحرمة ثم يغشى الثانية، وفيه قول ثالث وهو أنه لا يقرب واحدة منهما هكذا قاله الحكم وحماد، وروي معنى ذلك عن النخعي.
وقال مالك إذا كان عنده أختان بملك فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك أو تزويج أو بيع أو عتق أو(3/77)
كتابة أو إخدام طويل، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرّم الأخرى، ولم يوكل ذلك إلى أمانته لأنه متهم (1).
قال القرطبي: وقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقاً يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها حتى تنقضي عدّة المطلقة، واختلفوا إذا طلقها لا يملك رجعتها فقالت طائفة ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلقها روي ذلك عن علي وزيد بن ثابت ومجاهد وعطاء والنخعي والثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي.
وقالت طائفة: له أن ينكح أختها، وينكح الرابعة لمن كان تحته أربع وطلق واحدة منهن طلاقاً بائناً، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبي ثور وأبي عبيد، قال ابن المنذر: ولا أحسبه إلا قول مالك، وهو أيضاً إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت وعطاء.
وقوله (إلا ما قد سلف) يحتمل أن يكون معناه ما تقدم من قوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) ويحتمل معنى آخر وهو جواز ما سلف، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحاً وإذا جرى في الإسلام خيّر بين الأختين، والصواب الإحتمال الأول (وإن الله كان غفوراً) لما سلف منكم قبل النهي (رحيماً) بكم في ذلك.
_________
(1) وقد روى فيروز الديلمي قال: أسلمت وعندي أختان فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " طلق إحداهما " رواه 4/ 232 وأبو داود 3/ 158 والترمذي 3/ 436 وابن ماجة 1/ 627. وفي رواية " اختر أيتهما شئت ".(3/78)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
(والمحصنات من النساء) عطف على المحرمات المذكورات أي وحرمت عليكم ذوات الأزواج، وأصل التحصن التمنع ومنه قوله تعالى (ليحصنكم من بأسكم) أي ليمنعكم، ومنه الحصان بكسر الحاء للفرس لأنه يمنع صاحبه من الهلاك، والحصان بفتح الحاء المرأة العفيفة لمنعها نفسها والمصدر الحصانة بفتح الحاء.
والمراد بالمحصنات هنا الأزواج. وقد ورد الإحصان في القرآن لمعان أحدها التزوج كما في هذه الآية وكما في قوله (محصنين غير مسافحين) والثاني يراد به الحرية، ومنه قوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات) وقوله (والمحصنات من المؤمنأت والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) والثالث يراد به العفة، ومنه قوله تعالى (محصنات غير مسافحات) والرابع الإسلام ومنه قوله تعالى (فإذا أحصنّ) أي أسلمن.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية فقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قلابة ومكحول والزهري: المراد بالمحصنات هنا المسبيّات ذوات الأزواج خاصة أي هن محرمات عليكم أن تنكحوهن قبل مفارقة أزواجهن، وقد قرىء المحصنات بفتح الصاد وكسرها فالفتح على أن الأزواج أحصنوهن، والكسر على أنهن أحصن فروجهن من غير أزواجهن أو أحصن أزواجهن.(3/79)
(إلا ما ملكت أيمانكم) بالسبي من أرض الحرب فإن تلك حلال لكم وطؤهن وإن كان لها زوج في دار الحرب بعد الإستبراء وهو قول الشافعي، أي أن السباء يقطع العصمة، وبه قال ابن وهب وابن عبد الحكم وروياه عن مالك، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحق وأبو ثور.
والإستثناء متصل لأن المستثنى المزوجات، لكن فيه شائبة انقطاع من حيث أن المستثنى منه نكاح المتزوجات، والمستثنى وطء الزوجات، وقد صرح السمين بأنه منقطع، واختلفوا في استبرائها بماذا يكون كما هو مدون في كتب الفروع.
وقالت طائفة: المحصنات في هذه الآية العفائف، وبه قال أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر، ومعنى الآية عقدهم كل النساء حرام إلا ما ملكت إيمانكم أي تملكون عصمتهن بالنكاح وتملكون الرقبة بالشراء، وحكى ابن جرير الطبري: أن رجلاً قار لسعيد بن جبير ما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئاً فقال كان ابن عباس لا يعلمها.
وروى ابن جرير أيضاً عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل انتهى، ومعنى الآية والله أعلم أوضح لا سترة به أي وحرمت عليكم المحصنات من النساء أي المزوجات أعمّ من أن يكن مسلمات أو كافرات إلا ما ملكت إيمانكم منهن إما بسبي فإنها تحل وإن كانت ذات زوج، أو بشراء فإنها تحل ولو كانت مزوجة وينفسخ النكاح الذي كان عليها بخروجها عن ملك سيدها الذي زوجها، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(كتاب الله عليكم) أي كتب ذلك كتاباً وفرضه فرضاً، وقيل الزموا كتاب الله أو عليكم كتاب الله، وروي عن عبيدة السلماني أن قوله هذا إشارة(3/80)
إلى قوله تعالى: (مثنى وثلاث ورباع) وهو بعيد جداً. بل هو إشارة إلى التحريم المذكور في قوله: (حرّمت عليكم) إلى آخر الآية.
وفي قوله (وأحل لكم ما وراء ذلكم) دلالة على أنه يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات، وهذا عام مخصوص بما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، ومن ذلك نكاح المعتدة، ومن ذلك أن من كان في نكاحه حرة لا يجوز له نكاح الأمة، ومن ذلك القادر على الحرة لا يجوز له نكاح الأمة، ومن ذلك من عنده أربع زوجات لا يجوز له نكاح خامسة، ومن ذلك الملاعنة فإنها محرمة على الملاعن أبداً.
وقيل لا حاجة للتنبيه على هذا لأن الكلام في التحريم على التأبيد، وما ذكره من الأقسام لا يحرم مؤبداً بل لعارض يزول. نعم يظهر ما قالوه في الملاعنة لأن تحريمها مؤبّد، وقد أبعد من قال إن تحريم الجمع بين المذكورات مأخوذ من الآية هذه لأنه حرم الجمع بين الأختين فيكون ما في معناه في حكمه، وهو الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها، وكذلك يحرم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح حرّة فإنه يخصص هذا العموم.
لأجل (أن تبتغو بأموالكم) النساء اللاتي أحلهن الله لكم ولا تبتغوا بها الحرام فتذهب، وقيل هو بدل من (ما) في قوله (ما وراء ذلكم) والأول أولى. وأراد سبحانه بالأموال المذكورة ما يدفعونه في مهور الحرائر وأثمان الإماء (محصنين) الإحصان العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم والعقاب أي حال كونكم متزوجين ومتسرّين متعفّفين عن الزنا (غير مسافحين) أي غير زانين؛ والسفاح الزنا وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه، فكأنه سبحانه أمرهم بأن يطلبوا بأموالهم النساء على وجه النكاح لا على وجه السفاح.
(فما استمتعتم به منهن) قد اختلف أهل العلم في معنى الآية فقال(3/81)
الحسن ومجاهد وغيرهما: فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الشرعي، وعلى هذا فالآية واردة في النكاح الصحيح وأن الزوج متى وطئها ولو مرة وجب عليه مهرها المسمى أو مهر المثل، ولكن يرد على هذا أنها تتكرر مع قوله سابقاً (وآتوا النساء صدقاتهن) وقال الجمهور: إن المراد بهذه الآية نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام حيث كان الرجل ينكح المرأة وقتاً معلوماً ليلة أو ليلتين أو أسبوعاً بثوب أو غيره ويقضي منها وطره ثم يسرحها، ويؤيد ذلك قراءة أُبَيّ بن كعب وابن عباس وسعيد بن جبير (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) ثم نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما صح ذلك من حديث علي قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر (1)، وهو في الصحيحين وغيرهما.
وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يوم فتح مكة: يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، والله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عقده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً (2)، وفي لفظ لمسلم أن ذلك كان في حجة الوداع، فهذا هو الناسخ، وقال سعيد بن جبير نسختها آية الميراث إذ المتعة لا ميراث فيها.
وقالت عائشة والقاسم بن محمد تحريمها ونسخها في القرآن، وذلك قوله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ولا ما ملكت أيمانهم، فإن من شأن الزوجة أن ترث وتورث، وليست المستمتع بها كذلك والأحاديث في تحليل المتعة ثم تحريمها وهل كان نسخها مرة أو مرتين مذكورة في كتب الحديث، وقد روى عن ابن عباس أنه قال بجواز المتعة وأنها باقية لم تنسخ، وروى عنه أنه رجع عن ذلك عقد أن بلغه الناسخ، وقد قال بجوازها جماعة
_________
(1) مسلم 1407 - البخاري 1908.
(2) مسلم 1406.(3/82)
من الروافض، ولا اعتبار بأقوالهم، وقد أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسئلة وتقوية ما قاله المجوزون لها، وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه، وقد طوّل الشوكاني البحث ودفع الشبهة الباطلة التي تمسك بها المجوزون لها في شرحه للمنتقى فليرجع إليه.
وقال ابن العربي: وأما متعة النساء فهي من غرائب الشريعة لأنها أبيحت في صدر الإسلام ثم حرمت يوم خيبر ثم أبيحت في غزوة أوطاس ثم حرمت بعد ذلك، واستقر الأمر على التحريم، وليس لها أخت في الشريعة إلا مسئلة القبلة، فإن النسخ طرأ عليها مرتين ثم استقرت حكاه القرطبي عنه.
(فآتوهن أجورهن) أي مهورهن التي فرضتم لهن، وإنما سمي المهر أجراً لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين (فريضة) أي مفروضة مسماة، وقد كمل بهذا الوصف ما قبله ودخل به على ما بعده فهي مصدر مؤكد أو حال من أجورهن.
(ولا جناح عليكم) ولا عليهن (فيما تراضيتم به) أنتم وهن (من بعد الفريضة) أي من زيادة ونقصان في المهر، فإن ذلك سائغ عند التراضي.
هذا عند من قال إن الآية في النكاح الشرعي، وأما عند الجمهور القائلين بأنها في المتعة فالمعنى التراضي في زيادة مدة المتعة أو نقصانها أو في زيادة ما دفعه إليها إلى مقابل الاستمتاع بها أو نقصانه، وقيل ما تراضيتم به من الإبراء من المهر والافتداء والاعتياض، وقال الزجاج: معناه لا جناح عليكم أن تهب المرأة للزوج مهرها وأن يهب الرجل للمرأة التي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه.
(إن الله كان عليماً) بما يصلحكم في مناكحكم وغيرها من سائر أموالكم أو عليماً بالأشياء قبل خلقها (حكيماً) فيما دبر لكم من التدبير وفيما يأمركم وينهاكم عنه ولا يدخل حكمه خلل ولا زلل أو فيما فرض لكم من عقد النكاح الذي به حفظت الأنساب.(3/83)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
(ومن) شرطية أو موصولة (لم يستطع منكم طولاً) الطول الغنى والسعة قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وأبو زيد ومالك والشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور وجمهور أهل العلم، وإنما سمي الغنى طولاً لأنه ينال به من المراد ما لا ينال مع الفقر، والطول كناية عما يصرف إلى المهر والنفقة يقال طال يطول طولاً في الأفضال والقدرة، وفلان ذو طول أي ذو قدرة في ماله، والطول بالضم ضد القصر، وقال قتادة والنخعي وعطاء والثوري: إن الطول الصبر.
ومعنى الآية عندهم أن من كان يهوى أمة حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها فإن له أن يتزوجها إذا لم يملك نفسه، وخاف أن يبغي بها، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة، وقال أبو حنيفة وهو يروي عن مالك: إن الطول المرأة الحرة فمن كان تحته حرة لم يحل له أن ينكح الأمة ومن لم يكن تحته حرة جاز له أن يتزوج أمة ولو كان غنياً، وبه قال أبو يوسف واختاره ابن جرير واحتج له.
والقول الأول هو المطابق لمعنى الآية ولا يخلو ما عداه عن تكلف، فلا(3/84)
يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة إلا إذا كان لا يقدر على أن يتزوج بالحرة لعدم وجود ما يحتاج إليه في نكاحها من مهر وغيره.
(أن ينكح المحصنات) الحرائر (المؤمنات) هو جري على الغالب فلا مفهوم له، ومعنى الآية فمن لم يستطع منكم غنى وسعة في ماله يقدر بها على نكاح المحصنات المؤمنات (فممّا) أي فلينكح مما (ملكت أيمانكم) يعني جارية أخيك المؤمن، ودخلت الفاء في قوله (فمما ملكت) لتضمن المبتدأ معنى الشرط وقد عرفت أنه لا يجوز للرجل الحر أن يتزوج بالمملوكة إلا بشرط عدم القدرة على الحرة كما ذهب إليه الشافعي، والشرط الثاني ما سيذكره الله سبحانه آخر الآية من قوله (ذلك لمن خشي العنت منكم) فلا يحل للفقير أن يتزوج بالمملوكة إلا إذا كان يخشى على نفسه العنت.
والمراد هنا الأمة المملوكة للغير، وأما أمة الإنسان نفسه فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز له أن يتزوجها وهي تحت ملكه لتعارض الحقوق واختلافها.
(من فتياتكم المؤمنات) وقد استدل بهذا على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية، وبه قال أهل الحجاز وجوّزه أهل العراق، والفتيات جمع فتاة وهي الشابة من النساء والعرب تقول للمملوك فتى وللمملوكة فتاة، وفي الحديث الصحيح: لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقل فتاي وفتاتي (1).
(والله أعلم بإيمانكم) فيه تسلية لمن ينكح الأمة إذا اجتمع فيه الشرطان المذكوران أي كلكم بنو آدم وأكرمكم عقد الله أتقاكم فلا تستنكفوا من الزواج بالإماء عقد الضرورة فربما كان إيمان بعض الإماء أفضل من إيمان بعض الحرائر، والجملة اعتراضية تفيد أن الإيمان كاف في نكاح الأمة المؤمنة ولو ظاهراً، ولا يشترط في ذلك أن يعلم إيمانها علماً يقيناً فإن ذلك لا يطلع عليه إلا الله تعالى.
_________
(1) مسلم 2249 - البخاري 1251.(3/85)
(بعضكم من) جنس (بعض) أي أنهم متصلون في الأنساب، لأنهم جميعاً بنو آدم ومتصلون في الدين لأنهم جميعاً أهل ملة واحدة وكتابهم واحد ونبيهم واحد، والمراد بهذا توطية نفوس العرب لأنهم كانوا يستهجنون أولاد الإماء ويستصغرونهم ويغضون منهم ويسمون ابن الأمة الهجين، فاعلم الله أن ذلك أمر لا يلتفت إليه فلا يتداخلنكم شموخ وأنفة من التزويج بالإماء فإنكم متساوون في النسب إلى آدم.
وقال ابن عباس: يريد أن المؤمنين بعضهم أكفاء بعض، أي فلا يترفع الحر عن نكاح الأمة عند الحاجة إليه.
(فانكحوهن بإذن أهلهن) أي بإذن المالكين لهن ومواليهن لأن منافعهن لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له، واتفق أهل العلم على أن نكاح الأمة بغير إذن سيدها باطل لأن الله تعالى جعل إذن السيد شرطاً في جواز نكاح الأمة.
(وآتوهن أجورهن بالمعروف) أي أدوا إليهن مهورهن بما هو المعروف في الشرع من غير مطل ولا نقص ولا ضرار، وقيل مهور أمثالهن، وقد استدلّ بهذا من قال إن الأمة أحق بمهرها من سيدها، وإليه ذهب مالك وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد وإنما أضافها إليهن لأن التأدية إليهن تأدية إلى سيدهن لكونهن ماله.
(محصنات) عفائف حال (غير مسافحات) زانيات جهراً أي غير معلنات بالزنا، وهذا الشرط على سبيل الندب بناء على المشهور من جواز نكاح الزواني ولو كنّ إماء، قاله الخطيب.
(ولا متخذات أخدان) أخلاء يزنون بهن سراً، والأخدان الأخلاء،(3/86)
والخدن والخدين المخادن أي المصاحب، وقيل ذات الخدن هي التي تزني سراً فهو مقابل للمسافحة، وهي التي تجاهر بالزنا وقيل المسافحة المبذولة وذات الخدن التي تزني بواحد. وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنا ولا تعيب اتخاذ الأخدان، ثم رفع الإسلام جميع ذلك فقال الله (ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وقال أبو زيد الأخدان الأصدقاء على الفاحشة.
(فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) المراد بالإحصان هنا الإسلام، روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأنس والأسود بن يزيد. وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وعطاء والنخعي والشعبي والسدي، وروى عن عمر بن الخطاب بإسناد منقطع وهو الذي نصّ عليه الشافعي، وبه قال الجمهور، وقال ابن عباس وأبو الدرداء ومجاهد وعكرمة وطاوس والحسن وقتادة وغيرهم أنه التزويج، وروى عن الشافعي.
فعلى القول الأول لا حدَّ على الأمة الكافرة، وعلى الثاني لا حد على الأمة التي لم تتزوج، وقال القاسم: وسالم إحصانها إسلامها وعفافها، وقال ابن جرير: إن معنى القراءتين مختلف، فمن قرأ أحصن بضم الهمزة فمعناه التزويج، ومن قرأ بفتح الهمزة فمعناه الإسلام.
قال قوم إن الإحصان المذكور في الآية هو التزوج ولكن الحد واجب على الأمة المسلمة إذا زنت قبل أن تتزوج بالسنة، وبه قال الزهري.
قال ابن عبد البر: ظاهر قول الله عز وجل يقتضي أنه لا حد على الأمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن وكان ذلك زيادة بيان.
قال القرطبي: ظهر المسلم حمى لا يستباح إلا بيقين ولا يقين مع الأختلاف لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد.(3/87)
قال ابن كثير في تفسيره: والأظهر والله أعلم أن المراد بالإحصان هنا التزويج لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه (ومن لم يستطع منكم طولاً إلى قوله فإذا أحصن) الآية فالسياق كله في الفتيات المؤمنات، فتعين أن المراد بقوله (فإذ أحصن) أي تزوجن كما فسره به ابن عباس ومن تبعه (1).
قال: وعلى كلا القولين إشكال على مذهب الجمهور لأنهم يقولون إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة أو كافرة مزوّجة أو بكراً مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة من الإماء، قد اختلفت أجوبتهم عن ذلك.
ثم ذكر أن منهم من أجاب وهم الجمهور بتقديم منطوق الأحاديث على هذا المفهوم، ومنهم من عمل على مفهوم الآية وقال إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها، إنما تضرب تأديباً قال وهو المحكي عن ابن عباس وإليه ذهب طاوس وسعيد بن جبير وأبو عبيد وداود الظاهري في رواية عنه.
فهؤلاء قدموا مفهوم الآية على العموم، وأجابوا عن مثل حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال: إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير (2)، بإن المراد بالجلد هنا التأديب. وهو تعسف.
وأيضاً قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد، الحديث (3).
_________
(1) ابن كثير 1/ 476.
(2) مسلم 1703 - البخاري 1088.
(3) مسلم 1703 - البخاري 1088.(3/88)
ولمسلم من حديث علي: يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها، الحديث.
وأما ما أخرجه سعيد بن منصور وابن خزيمة والبيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، " وليس على الأمة حد حتى تحصن بزوج فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات من العذاب " فقد قال ابن خزيمة والبيهقي إن رفعه خطأ والصواب وقفه.
والفاحشة هنا الزنا فعليهن نصف ما على المحصنات أي الحرائر الأبكار إذا زنين، لأن الثيب عليها الرجم، وهو لا يبعّض، وقيل المراد بالمحصنات هنا المزوجات لأن عليها الجلد والرجم، والرجم لا يتبعّض فصار عليهن نصف ما عليهن من الجلد، فيجلدن خمسين ويغرّبن نصف سنة.
والمراد بالعذاب هنا الجلد، وإنما نقص حد الإماء عن حد الحرائر لأنهن أضعف، وقيل لأنهن لا يصلن إلا مرادهن كما تصل الحرائر، وقيل لأن العقوبة تجب على قدر النعمة كما في قوله تعالى (يضاعف لها العذاب ضعفين) ولم يذكر الله سبحانه في هذه الآية العبيد وهم لاحقون بالإماء بطريق القياس وكما يكون على الإماء والعبيد نصف الحد في الزنا كذلك يكون عليهم نصف الحد في القذف والشرب.
(ذلك) أي نكاح المملوكات عقد عدم الطول (لمن خشي العنت) العنت الوقوع في الإثم وقيل الزنا وأصله في اللغة انكسار العظم بعد الجبر ثم استعير لكل مشقة، وأريد به هنا ما يجر إليه الزنا من العقاب الدنيوي والأخروي، والمعنى ذلك لمن خاف أن تحمله شدة الشبق والغلمة وشدة الشهوة على الزنا.(3/89)
وإنما سمي الزنا بالعنت لما يعقبه من المشقة وهي شدة العزوبة فأباح الله تعالى نكاح الأمة بثلاثة شروط: عدم القدرة على نكاح الحرة وخوف العنت وكون الأمة مؤمنة، وفي القاموس العنت الفساد والإثم والهلاك ودخول المشقة على الإنسان ولقاء الشدة والزنا والوهي والإنكسار واكتساب المآثم، وأعنته غيره وعنته تعنيتاً شدد عليه وألزمه ما يصعب عليه (1).
(منكم) بخلاف من لا يخافه من الأحرار فلا يحل له نكاحها، وكذا من استطاع طول حرة، وعليه الشافعي وكذا مالك وأحمد.
(أن تصبروا) أي صبركم عن نكاح الإماء (خير لكم) من نكاحهن لأن نكاحهن يفضي إلى إرقاق الولد والغض من النفس (والله غفور رحيم) هذا كالتأكيد لما تقدم (2).
_________
(1) وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أيما حر تزوج بأمةٍ فقد أرق نصفه. يعني يصير ولده رقيقاً؛ فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق الولد. وقال سعيد بن جبير: ما نكاح الأمة من الزنى إلا قريب، قال الله تعالى: (وأن تصبروا خير لكم)، أي عن نكاح الإماء. وفي سنن ابن ماجة عن الضحاك بن مزاحم قال: سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أراد أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليتزوج الحرائر "، ورواه أبو إسحاق الثعلبي من حديث يونس بن مرداس، وكان خادماً لأنس، وزاد: فقال أبو هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت - أو قال: فساد البيت ".
(2) قال الطبري: والصواب من القول في قوله (ذلك لمن خشي العنت منكم) ذلكن لمن خاف منكم ضرراً في دينه وبدنه.(3/90)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)(3/91)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
(يريد الله ليبينّ لكم) استئناف مسوق لتقرير ما سبق من الأحكام وبيان كونها جارية على مناهج المهتدين من الأنبياء والصالحين، واللام هنا لام كي التي تعاقب أن، ومنه (يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم) (وأمرت لأعدل بينكم وأمرنا لنسلم لرب العالمين) وهذا مذهب الكوفيين، وخطأ الزجاج هذا القول.
وقيل اللام زائدة لتأكيد معنى الاستقبال أو لتأكيد إرادة التبيين، وبه قال الزمخشري والسمين .. ومعنى الآية يريد الله أن يبين لكم مصالح دينكم وما يحل لكم وما يحرم عليكم، وقيل يبين لكم ما يقربكم منه، وقيل يبين أن الصبر عن نكاح الأمة خير لكم.
(ويهديكم سنن الذين من قبلكم) أي طرقهم في تحريم الأمهات والبنات والأخوات فإنها كانت محرمة على من قبلكم وهم الأنبياء وأتباعهم لتقتدوا بهم (و) يريد أن (يتوب عليكم) يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته فتوبوا إليه وتلافوا ما فرط منكم بالتوبة يغفر لكم ذنوبكم (والله عليم) بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم (حكيم) فيما دبر أمورهم.(3/91)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
(والله يريد أن يتوب عليكم) هذا تأكيد لما قد فهم من قوله ويتوب عليكم المتقدم، وقيل الأول معناه الإرشاد إلى الطاعات، والثاني فعل أشباهها.(3/91)
وقيل إن الثاني لبيان كمال منفعة إرادته سبحانه، وكمال ضرر ما يريده الذين يتبعون الشهوات، وليس المراد به مجرد إرادة التوبة حتى يكون من باب التكرير للتأكيد.
قيل هذه الإرادة منه سبحانه في جميع أحكام الشرع، وقيل في نكاح الأمة فقط، وقال ابن عباس: معناه يريد أن يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى، وقيل معناه يدلكم على ما يكون سبباً لتوبتكم التي يغفر لكم بها ما سلف من ذنوبكم، وقيل معناه إن وقع منكم تقصير في دينه فيتوب عليكم ويغفر لكم.
(ويريد الذين يتبعون الشهوات) المراد بالشهوات هنا ما حرمه الشرع دون ما أحله، اختلف في تعيين متبعي الشهوات فقيل هم الزناة وقيل اليهود والنصارى وقيل اليهود خاصة، وقيل هم المجوس لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب وبنت الأخ، والأول أولى.
(أن تميلوا) تعدلوا عن الحق وقصد السبيل بالمعصية فتكونوا مثلهم (ميلاً عظيماً) يعني بإتيانكم ما حرم الله عليكم، والميل العدول عن طريق الاستواء، ووصف الميل بالعظيم بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة نادراً.(3/92)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
(يريد الله أن يخفف) يسهل (عنكم) أحكام الشرع بما مر من الترخيص أو بكل ما فيه تخفيف عليكم (وخلق الإنسان ضعيفاً) عاجزاً غير قادر على ملك نفسه ودفعها عن شهوتها قليل الصبر عن النساء، فلا صبر له عنهن وفاء يحق التكليف. فهو محتاج من هذه الحيثية إلى التخفيف، فلهذا أراد الله سبحانه التخفيف، وقيل هو ضعيف في أصل الخلقة لأنه خلق من ماء مهين، وقيل إنه لضعفه يستميله الهوى فهو ضعيف العزم عن الهوى.(3/92)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
(يا أيها الذين آمنوا) شروع في بيان بعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان المحرمات المتعلقة بالإبضاع (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) يعني بالحرام الذي لا يحل في الشرع، والباطل ما ليس بحق، ووجوه ذلك كثيرة كالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور، وأخذ الأموال باليمين الكاذبة ونحو ذلك، ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع.
وإنما خص الأكل بالذكر ونهى عنه تنبيهاً على غيره من جميع التصرفات الواقعة على وجه الباطل، لأن معظم المقصود من المال الأكل، وقيل يدخل فيه أكل مال نفسه بالباطل ومال غيره، أما أكل ماله بالباطل فهو إنفاقه في المعاصي، وأما أكل مال غيره فقد تقدم معناه، وقيل يدخل في أكل المال بالباطل جميع العقود الفاسدة.
(إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة، وهذا الاستثناء منقطع أي لكن أموال تجارة صادرة عن تراض منكم وطيب نفس جائزة بينكم ولكم أن تأكلوها، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالاً لكم لأن التجارة ليست من جنس أكل المال بالباطل، ولأن الاستثناء وقع على الكون، والكون معنى من المعاني ليس مالاً من الأموال، فكان إلا هنا بمعنى لكن.
وقوله عن تراض صفة لتجارة أي كائنة عن تراض، وإنما نص الله(3/93)
سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات كالهبة والصدقة لكونها أكثرها وأغلبها، ولأن أسباب الرزق متعلقة بها غالباً، ولأنها أرفق بذوي المروآت بخلاف الإيهاب وطلب الصدقات.
وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز، ومنه قوله تعالى (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم) وقوله تعالى (يرجون تجارة لن تبور).
واختلف العلماء في التراضي فقالت طائفة تمام وجوده بافتراق الأبدان بعد عقد البيع أو بأن يقول أحدهما لصاحبه اختر، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والليث وابن عيينة وإسحق وغيرهم، وقال مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فيرتفع بذلك الخيار.
وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته.
وقرىء تجارة بالرفع على أن كان تامة وبالنصب على أنها ناقصة.
وروى الطبراني وابن أبي حاتم قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود قال: إنها يعني هذه الآية محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة.
وعن عكرمة والحسن قالا: كان الرجل يتحرج أن يأكل عقد أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية فنسخ ذلك الآية التي في النور (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم) الآية.
وأخرج ابن ماجة وابن المنذر عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما البيع عن تراض " (1).
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 2319.(3/94)
(ولا تقتلوا أنفسكم) أي لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضاً إلا بسبب أثبته الشرع، وإنما قال أنفسكم لأنهم أهل دين واحد فهم كنفس واحدة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في حجة الوداع: ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض (1).
وقيل إن هذا نهي للإنسان عن قتل نفسه بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجَّأ بها في بطنه أي يضرب بها نفسه في نار جهنم مخلداً فيها أبداً (2)، وفي الباب أحاديث.
أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي يعني لا يفعل شيئاً يستحق به القتل مثل أن يقتل فيقتل به فيكون هو الذي تسبب في قتل نفسه بكسب الجريمة، وقيل لا تقتلوا بأكل المال بالباطل وقيل لا تهلكوا أنفسكم بأن تعملوا عملاً ربما أدى إلى قتلها، أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة.
ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني، ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل فقرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجاجه، وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما.
(إنّ الله كان بكم رحيماً) ومن رحمته بكم أن نهاكم عن كل شيء تستوجبون به مشقة أو محنة، وقيل إن الله تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم ليكون ذلك توبة لهم، وكان بكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحيماً حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة.
_________
(1) مسلم 66 - البخاري 894.
(2) مسلم 109 - البخاري 721.(3/95)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا (31)(3/96)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
(ومن يفعل ذلك) أي القتل خاصّة أو أكل أموال الناس باطلاً، وقيل هو إشارة إلى كل ما نهى عنه في هذه السورة، وقال ابن جرير: إنه عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد وهو قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً) لأن كل ما نهى عنه من أول السورة، قرن به وعيد إلا من قوله (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم) فإنه لا وعيد بعده إلا قوله ذلك.
(عدواناً) على الغير (وظلماً) على النفس لا جهلاً ونسياناً وسفهاً، وعلى هذا لا يرد أنه كيف قدم الأخص على الأعم إذ التجاوز عن العدل جور ثم طغيان ثم تعدّ، والكل ظلم، والعدوان تجاوز الحد. والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وقيل إن معنى العدوان والظلم واحد، وتكريره لقصد التأكيد إلا أن يقال إن العطف باعتبار التغاير في المفهوم كما تقدم، وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق، كالقصاص وقتل المرتد وسائر الحدود الشرعية وكذلك القتل الخطأ.
(فسوف نصليه) أي ندخله في الآخرة (ناراً) عظيمة يحترق فيها، وقرىء نصليه بفتح النون وهو على هذا منقول من صلى ومنه شاة مصلية (وكان ذلك) أي إصلاؤه النار (على الله يسيراً) هيناً لأنه لا يعجزه شيء.(3/96)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
(إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) أي الذنوب التي نهاكم الله عنها، وفي الكلام حذف أي وتفعلوا الطاعات (نكفِّر عنكم) أصل التكفير الستر والتغطية، وفي الشرع إماطة المستحق من العقاب بثواب أزيد أو بتوبة أي نغفر(3/96)
لكم (سيآتكم) أي ذنوبكم التي هي صغائر، فالتكفير ليس مرتباً على الاجتناب وحده.
وحملُ السيئآت على الصغائر هنا متعينّ لذكر الكبائر قبلها. وجعل اجتنابها شرط لتكفير السيئآت: واجتناب الشيء المباعدة عنه وتركه جانباً، والكبيرة ما كبر وعظم من الذنوب وعظمت عقوبته.
وقد اختلف أهل الأصول في تحقيق معنى الكبائر ثم في عددها فأما في تحقيقها فقيل: إن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها كما يقال الزنا صغيرة بالإضافة إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالإضافة إلى الزنا، وقد روى نحو هذا عن الإسفرايني والجويني والقشيري وغيرهم.
قالوا المراد بالكبائر التي يكون اجتنابها سبباً لتكفير السيآت هي الشرك، واستدلوا على ذلك بقراءة من قرأ إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه، وعلى قراءة الجمع فالمراد أجناس الكفر واستدلوا على ما قالوه بقوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) قالوا فهذه الآية مقيدة لقوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه.
وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية، قال سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة.
وقال جماعة من أهل الأصول الكبائر كل ذنب رتّب الله عليه الحد أو صرح بالوعيد فيه وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره، وقد ذكر الشوكاني جُلّ ذلك في نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، وقد ذكر رضي الله عنه في إرشاد الفحول من النصوص عليها فوق الثلاثين.(3/97)
وأما الأختلاف في عددها فقيل إنها سبع وقيل سبعون وقيل سبعمائة وقيل غير منحصرة ولكن بعضها أكبر من بعض، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (1).
وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس وقال ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت (2).
وفي لفظ عند البخاري عن ابن عمرو عنه صلى الله عليه وآله وسلم واليمين الغموس.
وأخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قالوا وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه (3).
وعن ابن مسعود قال سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندّاً، وهو خلقك، قلت إن ذلك لعظيم (4) ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك، أخرجه البخاري والأحاديث في تعداد الكبائر وتعيينها
_________
(1) مسلم 89 - البخاري 1325.
(2) مسلم 87 - البخاري 1291.
(3) مسلم 90 - البخاري 2310.
(4) البخاري كتاب التفسير سورة 2.(3/98)
كثيرة جداً فمن رام الوقوف على ما ورد في ذلك فعليه بكتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر فإنه قد جمع فأوعى.
وقد ثبت من الأدلة المتقدمة أن من الذنوب كبائر وصغائر، وإليه ذهب الجمهور.
واعلم أنه لا بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيآت بمجرد اجتناب الكبائر بما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلس على المنبر ثم قال " والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويؤدي الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصفّق، ثم تلا هذه الآية (1).
وعن ابن مسعود قال إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، لقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها، قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) الآية وقوله تعالى (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) الآية وقوله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء،) وقوله تعالى (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك) الآية وقوله تعالى (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه) الآية.
(وندخلكم مدخلاً كريماً) يعني حسناً شريفاً مرضياً أي مدخلاً تكرمون فيه، والمراد بالمدخل بضم الميم وفتحها كما قرىء بهما في الآية مكان الدخول وهو الجنة ويجوز أن يكون مصدراً.
_________
(1) المستدرك كتاب الصلاة 1/ 200.(3/99)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
(ولا تتمنّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض) التمني نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي، فنهى الله سبحانه المؤمنين عن التمني لأن فيه تعلق البال ونسيان الآجال، قاله القرطبي، وفيه النهي عن أن يتمنى الإنسان ما فضل الله به غيره من الناس عليه، فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقسمة التي قسمها الله بين عباده على مقتضى إرادته وحكمته البالغة، وفيه أيضاً نوع من الحسد المنهي عنه إذا صحبه إرادة زوال تلك النعمة عن الغير.
وعبارة القرطبي فيدخل فيه أن يتمنى الرجل حال الآخر من دين أو دنيا على أن يذهب ما عند الآخر، وهذا هو الحسد بعينه، وهو الذي ذمه الله تعالى أيضاً، ويدخل فيه خطبة الرجل على خطبة أخيه وبيعه على بيعه لأنه داعية إلى الحسد والمقت انتهى.
قد اختلف العلماء في الغبطة هل تجوز أم لا؟ وهي أن يكون له حال مثل حال صاحبه من دون أن يتمنى زوال ذلك الحال عن صاحبه فذهب الجمهور إلى جواز ذلك، واستدلوا بالحديث الصحيح: " لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار، وقد بوّب عليه البخارى باب الاغتباط في العلم والحكم (1).
_________
(1) مسلم 716 - البخاري 9/ 65.(3/100)
وعموم لفظ الآية يقتضي تحريم تمني ما وقع به التفضيل سواء كان مصحوباً بما يصير به من جنس الحسد أم لا، وما ورد في السنة من جواز ذلك في أمور معينة يكون مخصصاً لهذا العموم، ومن الناس من منع من الغبطة أيضاً كالإمام مالك قال لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين أو الدنيا.
ونحوه قال الحسن: وسبب نزول الآية ما قال قتادة أن النساء قلن لو جعل أنصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال، وقال الرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(للرّجال نصيب ممّا اكتسبوا وللنساء نصيب ممّا اكتسبن) فيه تخصيص بعد التعميم، ورجوع إلى ما يتضمنه سبب نزول الآية من أن أم سلمة قالت: يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو ولا نقاتل فنستشهد، وإنما لنا نصف الميراث فنزلت، أخرجه عبد الرزاق وابن منصور وابن حميد والترمذي والحاكم والبيهقي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم. وقد روي نحو هذا السبب من طرق بألفاظ مختلفة (1).
والمعنى في الآية أن الله جعل لكل من الفريقين نصيباً على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته، وعبّر عن ذلك المجهول لكل فريق من فريقي النساء والرجال بالنصيب مما اكتسبوا على طريق الإستعارة التبعية، شبه اقتضاء حال كل فريق لنصيبه باكتسابه إياه.
قال قتادة: للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب والعقاب، وللنساء كذلك، وللمرأة الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها كما للرجال، وقال ابن عباس: المراد بذلك الميراث والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة للذكر مثل حظّ
_________
(1) زاد المسير 68.(3/101)
الأنثيين، فنهى الله عن التمني على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد لأن الله أعلم بمصالحهم منهم فوضع القسمة بينهم على التفاوت على ما علم من مصالحهم (1).
(واسألوا الله من فضله) هذا الأمر يدل على وجوب سؤال الله سبحانه كما قاله جماعة من أهل العلم، وعن مجاهد قال: ليس بعرض الدنيا، وعن سعيد بن جبير قال: العبادة ليس من أمر الدنيا، وأخرج الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل " (2) قال ابن عباس: الفضل الرزق. وقيل الفضل خزائن نعمه التي لا نفاذ لها (إن الله كان بكل شيء عليماً) أي بما يكون صلاحاً للسائلين فليقتصر السائل على المجمل في الطلب.
_________
(1) رواه الترمذي وفي رواية " فإنه يحب أن يسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج ".
وروى ابن ماجه عن أبي هريرة من لم يسأل الله غضب عليه.
(2) رواه الإمام أحمد في " المسند " 6/ 322 والترمذي 2/ 127 والحاكم 2/ 305، عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة. قال الحاكم: هذا حديث على شرط الشيخين إن كان سمع مجاهد من أم سلمة، ووافقه الذهبي على تصحيحه. قال الشيخ أحمد شاكر: وأما حكم الترمذي في روايته من طريق ابن عيينة بأنه حديث مرسل، فانه جزم بلا دليل، ومجاهد أدرك أم سلمة يقيناً وعاصرها.
فإنه ولد سنة 21، وأم سلمة ماتت بعد سنة 60 على اليقين، والمعاصرة من الراوي الثقة تحمل على الاتصال إلا أن يكون الراوي مدلساً، ولم يزعم أحد أن مجاهداً مدلس إلا كلمة قالها القطب الحلبي في " شرح البخاري " حكاها عنه الحافظ في " التهذيب " 10/ 44، ثم عقب عليها بقوله: ولم أر من نسبه إلى التدليس. وقال الحافظ أيضاً في " الفتح ": 6/ 194 رداً على من زعم أن مجاهداً لم يسمع من عبد الله ابن عمرو: لكن سماع مجاهد من عبد الله بن عمرو ثابت وليس بمدلس.
قال ابن كثير: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية، قال: ولا يتمنى الرجل فيقول: ليت
أن لي مال فلان وأهله، فنهى الله عن ذلك، ولكن ليسأل الله من فضله. وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا، وهو الظاهر من الآية، ولا يرد على هذا ما ثبت في صحيح البخاري 9/ 65 " لا حسد إلا من اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، فيقول رجل: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثله " فإن هذا شيء غير ما نهت عنه الآية، وذلك أن الحديث حض على تمني مثل نعمة هذا، والآية نهت عن تمني وعين نعمة هذا.(3/102)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
(ولكلّ) من الرجال والنساء مفعول ثان قدم لتأكيد الشمول (جعلنا موالي) يلون ميراثهم وهو جمع مولى يطلق على المعتق والمعتق والناصر وابن العم والجار، والمراد هنا العصبة أي ولكل أحد جعلنا عصبة يرثون ما أبقت الفرائض، فلا حق للحليف فيها وهم يرثون (مما ترك الوالدان والأقربون) من ميراثهم وهم الموروثون وقيل هم الوارثون، والأول أولى لأنه مروي عن ابن عباس وغيره.
وهذه الجملة مقررة لمضمون ما قبلها أي ليتبع كل واحد ما قسم الله له من الميراث ولا يتمنّى ما فضّل الله به غيره عليه، وقد قيل إن هذه الآية منسوخة لقوله تعالى بعدها (والذين عقدت أيمانكم) وقيل العكس كما روى ذلك ابن جرير، وذهب الجمهور إلى أن الناسخ لقوله تعالى (والذين عقدت أيمانكم) قوله تعالى (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض).
(والذين عقدت أيمانكم) أي الحلفاء الذين عاهدتموهم في الجاهلية على النصر والإرث فالمراد به موالي الموالاة فقد كان الرجل من أهل الجاهلية يعاقد الرجل أي يحالفه فيستحق من ميراثه نصيباً، ثم ثبت في صدر الإسلام بهذه الآية ثم نسخ بقوله (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) وهذا أحد قولين في معنى الآية.
والآخر ما أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عباس ولكل جعلنا موالي ورثة والذين عقدت أيمانكم، قال المهاجرون: لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلما(3/103)
نزلت (ولكلّ جعلنا موالي) نسخت ثم قال (والذين عقدت أيمانكم (1))
(فآتوهم نصيبهم) من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصي له، وفي الباب أحاديث بطرق وألفاظ، وفي الجلالين نصيبهم حظوظهم من الميراث وهو السدس وهو منسوخ كما تقدم، وقرىء عقّدت بتشديد القاف على التكثير أي والذين عقّدت لهم أيمانكم الحلف أو عقّدت عهودهم أيمانكم والتقدير على قراءة الجمهور والذين عاقدتهم أيمانكم، والأيمان جمع يمين يحتمل أن يراد به القسم أو اليد أو هما جميعاً، ونسبة المعاقدة أو العقد إلى الأيمان مجاز، وقيل التقدير عقدت ذوو أيمانكم والمعاقدة المحالفة والمعاهدة (2).
(إن الله كان على كل شيء شهيداً) قال عطاء: يريد أنه لم يغب عنه علم ما خلق وبرأ، فعلى هذا الشهيد بمعنى الشاهد والمراد منه علمه بجميع الأشياء، وقيل الشهيد هو الشاهد على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه، فعلى هذا الشاهد بمعنى الخبر وفيه وعد للطائعين ووعيد للعصاة المخالفين.
_________
(1) أخرجه البخاري 8/ 186، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في " سننه " عن ابن عباس، وتمام الحديث: " فلما نزلت: ولكل جعلنا موالي " نسخت، ثم قال: " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصى له.
(2) وروى مسلم في " صحيحه " 4/ 1961، والإمام أحمد في " المسند " 4/ 83، وأبو داود وابن جرير، والنسائي، عن جبير بن مطعم، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة " قال القرطبي في " المفهم " معنى: لا حلف، لا يتحالف أهل الإسلام كما كان أهل الجاهلية، كانوا يتحالفون، وذلك أن المتحالفين كانا يتناصران في كل شيء فيمنع الرجل حليفه وإن كان ظالماً، ويقوم دونه، ويدفع عنه بكل ممكن حتى يمنع الحقوق، وينتصر به على الظلم والفساد، ولما جاء الشرع بالانتصاف من الظالم، وأنه يؤخذ ما عليه من الحق لا يمنعه أحد من ذلك، وحد الحدود، وبين الأحكام؛ أبطل ما كانت الجاهلية عليه من ذلك.(3/104)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
(الرجال قوّامون) مسلطون (على النساء) كلام مستأنف سيق لبيان سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث تفصيلاً إثر بيان تفاوت استحقاقهم إجمالاً، وعلل ذلك بأمرين (أولهما) وهبي والثاني كسبي، والمعنى أنهم يقومون بالذب عنهن كما يقوم الحكام والأمراء بالذب عن الرعية، وهم أيضاً يقومون بما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن.
وجاء بصيغة المبالغة لتدلّ على أصالتها في هذا الأمر، وهو جمع قوّام وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب، يشير به إلى أن المراد قيام الولاة على الرعايا قال ابن عباس: أمّروا عليهن فعلى المرأة أن تطيع زوجها في طاعة الله.
(بما) الباء سببية وما مصدرية (فضّل الله) والضمير في قوله (بعضهم على بعض) للرجال والنساء أي إنما استحقوا هذه المزيّة لتفضيل الله إياهم عليهن بما فضلهم به من كون فيهم الأنبياء والخلفاء والسلاطين والحكام والأئمة والغزاة، وزيادة العقل والدين والشهادة والجمعة والجماعات، وأن الرجل يتزوج بأربع نسوة ولا يجوز للمرأة غير زوج واحد، وزيادة النصيب والتعصيب في الميراث، وبيده الطلاق والنكاح والرجعة وإليه الانتساب، وغير ذلك من الأمور، فكل هذا يدل على فضل الرجال على النساء.(3/105)
(وبما أنفقوا) أي وبسبب الإنفاق وبما دفعوه في مهورهن (من أموالهم) وكذلك ما ينفقونه في الجهاد وما يلزمهم في العقل والدية، وقد استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته وكسوتها، وبه قال مالك والشافعي وغيرهما.
(فالصالحات) أي المحسنات العاملات بالخير من النساء (قانتات) أي مطيعات لله قائمات بما يجب عليهن من حقوق الله وحقوق أزواجهن (حافظات للغيب) لما يجب حفظه عقد غيبة أزواجهن عنهن من حفظ نفوسهن وفروجهن وحفظ أموالهن.
و" ما " في قوله (بما حفظ الله) مصدرية أي بحفظ الله إياهن ومعونته وتسديده أو حافظات له بما استحفظهن من أداء الأمانة إلى أزواجهن على الوجه الذي أمر الله به، أو حافظات له بحفظ الله لهن بما أوصى به الأزواج في شأنهن من حسن العشرة.
وقريء بما حفظ الله بنصب الاسم الشريف والمعنى بما حفظن أمر الله أو دينه فحذف الضمير الراجع إليهن للعلم به، وما على هذه القراءة مصدرية أو موصولة كالقراءة الأولى، أي بحفظهن الله أو بالذي حفظن الله به وقال السدي: تحفظ على زوجها ماله وفرجها حتى يرجع كما أمرها الله.
(واللاتي تخافون نشوزهنّ) هذا خطاب للأزواج، قيل الخوف هنا على بابه وهو حالة تحدث في القلب عقد حدوث أمر مكروه أو عقد ظن حدوثه، وقيل المراد بالخوف هنا العلم، والنشوز العصيان وقد تقدم بيان أصل معناه في اللغة.
قال ابن فارس: يقال نشزت المرأة استصعبت على بعلها، ونشز بعلها(3/106)
عليها إذا ضربها وجفاها، ودلالات النشوز تكون بالقول وبالفعل بأن رفعت صوتها عليه ولم تجبه إذا دعاهما، ولم تبادر إلى أمره إذا أمرها، أو لا تخضع له إذا خاطبها أو لا تقوم له إذا دخل عليها.
(فعظوهنّ) أي ذكروهن بما أوجبه الله عليهن من الطاعة وحسن المعاشرة ورغّبوهن ورهّبوهن إذا ظهر منهن أمارات النشوز وهو أن يقول لها اتقي الله وخافيه فإن لي عليك حقاً، وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو ذلك، فإن أصرت على ذلك هجرها في المضجع كما قال تعالى:
(واهجروهن في المضاجع) يقال هجره أي تباعد منه، والمضاجع جمع مضجع وهو محلّ الاضطجاع أي تباعدوا عن مضاجعتهن ولا تدخلوهن تحت ما تجعلونه عليكم حال الاضطجاع من الثياب، وقيل هو أن يوليها ظهره عند الاضطجاع في الفراش، وقيل هو كناية عن ترك جماعها، وقيل لا تبيت معه في البيت الذي يضطجع فيه.
(واضربوهن) إن لم ينزعن بالهجران ضرباً غير مبرح ولا شائن، وظاهر النظم القرآني أنه يجوز للزوج أن يفعل جميع هذه الأمور عند مخافة النشوز، وقيل حكم الآية مشروع على الترتيب وإن دلّ ظاهر العطف بالواو على الجمع لأن الترتيب مستفاد من قرينة المقام، وسوق الكلام للرفق في إصلاحهن وإدخالهن تحت الطاعة.
فالأمور الثلاثة مرتبة أي لأنها لدفع الضرر كدفع الصائل فاعتبر فيها الأخف فالأخف وقيل إنه لا يهجرها إلا بعد عدم تأثير الوعظ فإن أثّر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر، وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب، وقال الشافعي: الضرب مباح وتركه أفضل، وفي الجمل: إن كلاً من الهجر والضرب مقيد بعلم(3/107)
النشوز، ولا يجوز بمجرد الظن.
(فإن أطعنكم) كما يجب وقمن لواجب حقكم وتركن النشوز (فلا تبغوا عليهن سبيلا) أي لا تتعرضوا لهن بشيء مما يكرهن لا بقول ولا بفعل، وقيل المعنى لا تكلفوهن الحب لكم فإنه لا يدخل تحت اختيارهن (إن الله كان علياً كبيراً) إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب أي وإن كنتم تقدرون عليهن فاذكروا قدرة الله عليكم فإنها فوق كل قدرة وهو بالمرصاد لكم.
عن ابن عباس قال: تلك المرأة تنشز وتستخفّ بحق زوجها ولا تطيع أمره، فأمره الله أن يعظها ويذكرها بالله ويعظم حقه عليها فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد فإن رجعت وإلا ضربها ضرباً غير مبرح ولا يكسر لها عظماً ولا يجرح لها جرحاً فإن أطاعتك فلا تجني عليها العلل، وعنه قال يهجرها بلسانه ويغلظ لها بالقول ولا يدع الجماع، وسئل عن ضرب غير مبرح فقال: بالسواك ونحوه.
وقد أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد خطبة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيها أنه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً (1).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن زمعة قال: قال رسول
_________
(1) الترمذي كتاب الرضاع.(3/108)
الله - صلى الله عليه وسلم -: أيضرب أحدكم أمرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم (1).
وفي هذه دليل على أن الأولى ترك الضرب للنساء فإن احتاج فلا يوالي بالضرب على موضع واحد من بدنها وليتّق الوجه لأنه مجمع المحاسن، ولا يبلغ بالضرب عشرة أسواط، وقيل ينبغي أن يكون الضرب بالمنديل واليد، ولا يضرب بالسوط والعصا (2).
وبالجملة فالتخفيف بأبلغ شيء أولى في هذا الباب، قيل حكم الآية مشروع على الترتيب وقيل هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز، وأما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل والأول أولى، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته أخرجه أبو داود (3).
_________
(1) ولطم رجل زوجته فاستعدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الخبر في الأصول كلها معزو لابن عباس، وقد بحثت في كتب " التفسير " فلم أجد أحداً عزاه إليه، ولا نقله عنه، وقد ذكره ابن جرير 7/ 291 عن الحسن، وابن جريج، والسدي، وفي " الدر المنثور " 2/ 151، واخرج ابن أبي حاتم من طريق أشعث بن عبد الملك، عن الحسن، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير منها طريق قتادة عن الحسن. وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق جرير بن حازم، عن الحسن. وأخرج ابن مردويه عن علي قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) البخاري كتاب النكاح باب 93.
(3) وذكر ابن جرير 8/ 291 عن الحسن وابن جريج والسدي، وفي الدر المنثور 2/ 151 وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وابن المنذر وغيرهم .. عن علي أن رجلاً لطم زوجته لطمة فاستعدت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت هذه الآية (الرجال قوامون).
وروى الترمذي القرطبي 5/ 173.
ورواه أبو داود/التفاح/42.(3/109)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
(وإن خفتم شقاق بينهما) قد تقدم معنى الشقاق في البقرة وأصله أن كل واحد منهما يأخذ شقاً غير شق صاحبه أي ناحية غير ناحيته، وأضيف الشقاق إلى الظرف لإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى (بل مكر الليل والنهار) وقولهم يا سارق الليلة أهل الدار، والضمير في بينهما للزوجين لأنه قد تقدم ذكر ما يدل عليهما وهو ذكر الرجال والنساء.
(فابعثوا) إلى الزوجين برضاهما، قيل المخاطب بذلك الإمام أو نائبه لأن تنفيذ الأحكام الشرعية إليه. وقيل كل أحد من صالحي الأمة وقيل هو خطاب للزوجين (حكماً) رجلاً عدلاً (من أهله) أقاربه (وحكماً من أهلها) أي من يصلح للحكم بينهما، من يصلح لذلك عقل وديناً وانصافاً، وإنما نص الله سبحانه على أن الحكمين يكونان من أهل الزوجين لأنهما أقدر بمعرفة أحوالهما، فإذا لم يوجد الحكمان منهم كانا من غيرهم.
وهذا إذا أشكل أمرهما، ولم يتبين من هو المسيء منهما فأما إذا عرف المسيء فإنه يؤخذ لصاحبه الحق منه، والبعث واجب وكون الحكمين من أهلهما مندوب.
(إن يريدا إصلاحاً) أي الحكمان وقيل الزوجان والأول أولى، أي على الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما، فإن قدرا على ذلك عملا عليه، وإن أعياهما إصلاح حالهما ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد ولا توكيل بالفرقة من الزوجين، وبه قال مالك والأوزاعي واسحق، وهو مروى عن عثمان وعلي وابن عباس والشعبي والنخعي(3/110)
والشافعي، وحكاه ابن كثير عن الجمهور قالوا لأن الله تعالى قال (فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها) وهذا نص من الله سبحانه أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان (1).
وقال الكوفيون وعطاء وابن زيد والحكم وهو أحد قولي الشافعي: إن التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في البلد لا إليهما ما لم يوكلهما الزوجان، أو يأمرهما الإمام أو الحاكم، لأنهما رسولان شاهدان، فليس إليهما التفريق، ويرشد إلى هذا قوله إن يريدا أي الحكمان إصلاحاً يوفق الله بينهما لاقتصاره على ذكر الإصلاح دون التفريق.
ومعنى إن يريدا إصلاحاً (يوفق الله بينهما) أي يوقع الألفة والموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الألفة وحسن المعاشرة، ومعنى الإرادة خلوص نيتهما لصلاح الحال بين الزوجين.
وقيل إن الضمير في قوله بينهما للحكمين كما في قوله (إن يريدا إصلاحاً) أي يوفق بين الحكمين في اتحاد كلمتهما وحصول مقصودهما، وقيل كلا الضميرين للزوجين أي إن يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله به بينهما الألفة والوفاق.
وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما ولا يلزم قبول قولهما بلا خلاف، وعن ابن عباس قال: بعثت أنا ومعاوية حكمين فقيل لنا إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، والذي بعثهما عثمان.
(إن الله كان عليماً خبيراً) يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المتفرقين، وفيه وعيد شديد للزوجين والحكمين إن سلكوا غير طريق الحق.
_________
(1) ابن كثير 1/ 493.(3/111)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36)
(واعبدوا الله) يعني وحِّدوه وأطيعوه، وعبادة الله عبارة عن كل فعل يأتي به العبد لمجرد الله ويدخل فيه جميع أعمال القلوب وأفعال الجوارح (ولا تشركوا به) العطف للتأسيس و (شيئاً) إما مفعول به أي شيئاً من الأشياء من غير فرق بين حي وميت وجماد وحيوان، وإما مصدر أي شيئاً من الإشراك من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر، والواضح والخفي.
(و) أحسنوا (بالوالدين إحساناً) برّاً ولين جانب، وقد دل ذكر الإحسان إليهما بعد الأمر بعبادة الله والنهي عن الإشراك به على عظم حقهما، ومثله (أن اشكر لي ولوالديك) فأمر سبحانه بأن يشكرا معه وهو أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ويسعى في تحصيل مرادهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة، وقد وردت أحاديث كثيرة في حقوقهما وهي معروفة.
(وبذي القربى) أي صاحب القرابة وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه وإن كان بعيداً، وقيل ذو رحمة من قبل أمه وأبيه، وعن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " من سرّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه " أخرجه البخاري ومسلم (1)، وقد تقدم نظيره في البقرة إلا أنه هنا قال بإعادة الباء وذلك لأنها في حق هذه الأمة فالاعتناء بها أكثر، وإعادة
_________
(1) مسلم 2557 - البخاري 1044.(3/112)
الباء تدل على زيادة التأكيد فناسب ذلك هنا بخلاف آية البقرة فإنها في حق بني إسرائيل.
(واليتامى والمساكين) وقد تقدم تفسيرهم، والمعنى وأحسنوا إليهم إلى آخر ما هو مذكور في هذه الآية، إنما أمر بالإحسان إليهم لأن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز: الصغر وعدم المشفق، والمسكين هو الذي ركبه ذل الفاقة والفقر فتمسكن لذلك.
وعن سهل بن سعد قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبّابة والوسطى، وفرج بينهما شيئاً " أخرجه البخاري (1).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال: وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم لا يفطر " أخرجه الشيخان (2).
(والجار ذي القربى) أي القريب منك جواره وقيل هو من له مع الجوار في الدار قُرْب في النسب أو الدين (والجار الجنب) يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع مذكراً كان أو مؤنثاً، قاله السمين أي المجانب وهو مقابل للجار ذي القربى والمراد من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة.
وفي ذلك دليل على تعميم الجيران بالإحسان إليهم سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة، وعلى أن الجوار حرمة مرعية مأمور بها.
وفيه ردٌّ على من يظن أن الجار مختص بالملاصق دون من بينه وبينه حائل، أو مختص بالقريب دون البعيد.
_________
(1) البخاري، كتاب الطلاق باب 25.
(2) مسلم 2982 البخاري 2170.(3/113)
وقيل المراد بالجار الجنب هنا هو الغريب، وقيل هو الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبين المجاور له، وقرىء الجنب بفتح الجيم وسكون النون أي ذي الجنب وهو الناحية، وقيل المراد بالجار ذي القربى المسلم، وبالجار الجنب اليهودي والنصراني.
وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي عليه يصدق مسمى الجوار ويثبت لصاحبه الحق فروي عن الأوزاعي والحسن أنه إلى حدّ أربعين داراً من كل ناحية وروي عن الزهري نحوه، وقيل من سمع إقامة الصلاة، وقيل إذا جمعتهما محلة وقيل من سمع النداء.
والأولى أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع فإن وجد فيه ما يقتضي بيانه وأنه يكون جار إلى حد كذا من الدور أو من مسافة الأرض، كان العمل عليه متعيناً، وإن لم يوجد رجع إلى معناه لغة أو عرفاً، ولم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار كذا، ولا ورد في لغة العرب أيضاً ما يفيد ذلك، بل المراد بالجار في اللغة المجاور ويطلق على معان.
قال في القاموس: الجار المجاور، والذي أجرته من أن يظلم، والمجير والمستجير والشريك في التجارة وزوج المرأة وهي جارته، وفرج المرأة وما قرب من المنازل والاست كالجارة والقاسم والحليف والناصر انتهى.
قال القرطبي في تفسيره: وروى أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني نزلت محلة قوم وإن أقربهم إلي جواراً أشدهم لي أذى فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر وعمر وعلياً يصيحون على أبواب المساجد ألا إن أربعين داراً جار، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه أهـ.(3/114)
قال الشوكاني: ولو ثبت هذا لكان مغنياً عن غيره، ولكنه رواه كما ترى من غير عزو له إلى أحد كتب الحديث المعروفة، وهو وإن كان إماماً في علم الرواية فلا تقوم الحجة بما يرويه بغير سند مذكور، ولا نقل عن كتاب مشهور، ولا سيما وهو يذكر الواهيات كثيراً كما يفعل في تذكرته انتهى.
أقول هذا الحديث بلفظه أخرجه الطبراني كما ذكر في الترغيب والترهيب وروى السيوطي في الجامع الصغير " الجوار أربعون داراً " أخرجه البيهقي عن عائشة. قال المناوي في شرحه: وروي عن عائشة أوصاني جبريل بالجار إلى أربعين داراً، وكلاهما ضعيف (1)، والمعروف المرسل الذي أخرجه أبو داود، وهكذا نقل عن السيوطي ثم قال:
ولفظ مرسل أبي داود حق الجوار أربعون داراً هكذا وهكذا، وأشار قداماً ويميناً وخلفاً. قال الزركشي: سنده صحيح. قال ابن حجر: رجاله ثقات، ورواه أبو يعلى عن أبي هريرة مرفوعاً باللفظ المذكور ولكن سنده كما قال الزركشي ضعيف، قال ابن حجر: فيه عبد السلام بن أبي الحبوب منكر الحديث انتهى.
فهذا يؤيد أصل ما نقله القرطبى والله أعلم.
وقد ورد في القرآن ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة، قال الله تعالى (لئن لم ينته المنافقون إلى قوله ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً) فجعل اجتماعهم في المدينة جواراً، وأما الأعراف في مسمى الجوار فهي تختلف باختلاف أهلها، ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة واصطلاحات متواضعة.
_________
(1) ولعل الحديث المروي عن أبي ذر قال: قال رسول الله،- صلى الله عليه وسلم -: " يا أبا ذر إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك " رواه مسلم 4/ 2052.(3/115)
(والصاحب بالجنب) الباء بمعنى (في) أو على بابها وهو الأولى ومعناه الملابسة أي حال كونه ملتبساً بالجنب أي بالقرب بجنبه، قيل هو الرفيق في السفر قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك، وقال علي ابن أبي طالب وابن مسعود وابن أبي ليلى هو الزوجة والمرأة، وقال ابن جريج: هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك.
وقال زيد ابن أسلم: هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر وامرأتك التي تضاجعك، ولا يبعد أن تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها وهو كل من صدق عليه أنه صاحب بالجنب أي بجنبك كمن يقف بجنبك في تحصيل علم أو تعلّم صناعة أو مباشرة تجارة أو نحو ذلك، فإنه صحبك وحصل بجنبك، ومنهم من قعد في مسجد أو مجلس أو غير ذلك مع أدق صحبة بينك وبينه.
(وابن السبيل) قال مجاهد: هو الذي يجتاز بك ماراً، والسبيل الطريق فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه، فالأولى تفسيره بمن هو على سفر، فإن على القيم أن يحسن إليه، وقيل هو المنقطع به في سفره للحج أو للغزو أو مطلقاً، والأظهر أن يقول المسافر من غير قيد الانقطاع، وقيل هو الضيف قاله القارىء، وقد وردت أحاديث صحيحة في إكرام الضيف وجائزته ثلاثة أيام في الصحيحين وغيرهما.
(و) أحسنوا إلى (ما ملكت أيمانكم) من الأرقاء إحساناً، وهم العبيد والإماء، وقيل أعم فيشمل الحيوانات وهي غير الأرقاء أكثر في يد الإنسان منهم فغلب جانب الكثرة، وأمر الله بالإحسان إلى كل مملوك آدمي وغيره قاله القارىء، والأول أولى.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم يطعمون مما يطعم(3/116)
مالكهم، ويلبسون مما يلبس قال مجاهد: فما خوّلك الله فأحسن صحبته، كل هذا أوصى الله به، وعن مقاتل نحوه.
والإحسان إليهم أن لا يكلفهم ما لا يطيقونه ولا يؤذيهم بالكلام الخشن، وأن يعطيهم من الطعام الكسوة ما يحتاجون إليه بقدر الكفاية، وعن علي بن أبي طالب قال: كان آخر كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الصلاة واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم " (1) وقد ورد مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بر الوالدين وفي صلة القرابة وفي الإحسان إلى اليتامى والجار، وفي القيام بما يحتاج إليه المماليك أحاديث كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة لا حاجة بنا إلى بسطها هنا.
وقوله (إن الله) علة لمحذوف تقديره ولا تفتخروا عليهم لأن الله (لا يحب من كان مختالاً) ذا الخيلاء وهو الكبر والتيه اسم فاعل من اختال يختال أي تكبر وأعجب بنفسه أي لا يحب من كان متكبراً تائها على الناس (فخوراً) مفتخراً عليهم، والفخر المدح للنفس والتطاول وتعديد المناقب والمحاسن.
وخص هاتين الصفتين لأنهما يحملان صاحبهما على الأنفة مما ندب الله إليه في هذه الآية يعني يأنف من أقاربه الفقراء ومن جيرانه الضعفاء وغيرهم، ولا يلتفت إليهم، ومن كان متكبراً لا يقوم بحقوق الناس، وقد ورد في ذم الاختيال والكبر والفخر ما هو معروف.
_________
(1) روى مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " للعبد المملوك المصلح أجران " والذي نفسُ أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك.
وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين ".(3/117)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
(الذين يبخلون) البخل المذموم في الشرع هو الامتناع من أداء ما أوجب الله، وهؤلاء المذكورون في هذه الآية ضموا إلى ما وقعوا فيه من البخل الذي هو أشر خصال الشر، ما هو أقبح منه وأدل على سقوط نفس فاعله وبلوغه في الرذالة إلى غايتها (و) هو أنهم مع بخلهم بأموالهم وبما منحوا به وكتمهم لما أنعم الله به عليهم من فضله (يأمرون الناس بالبخل) كأنهم يجدون في صدورهم من جود غيرهم بماله حرجاً ومضاضة، فلا كثر الله في عباده من أمثالكم.
هذه أموالكم قد بخلتم بها لكونكم تظنون انتقاصها بإخراج بعضها في مواضعه فما بالكم بخلتم بأموال غيركم مع أنه لا يلحقكم في ذلك ضرر، وهل هذا إلا غاية اللؤم ونهاية الحمق والرقاعة وقبح الطباع وسوء الأختيار، وقد قيل إن المراد بهذه الآية اليهود فإنهم جمعوا بين الإختيال والفخر والبخل بالمال، وكتمان ما أنزل الله في التوراة، وفي البخل أربع لغات فتح الباء والخاء وضمهما وفتح الباء مع سكون الخاء وضم الباء مع سكون الخاء وقرىء بها جميعاً، وقرأ الجمهور بالأخيرة.
(ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) من صفة محمد أو من العلم أو الغنى، قيل المراد بها المنافقون ولا يخفى أن اللفظ أوسع من ذلك وأكثر شمولاً وأعم فائدة (وأعتدنا للكافرين) يعني الجاحدين لنعمة الله عليهم (عذاباً مهيناً) في الآخرة، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " خصلتان لا تجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق " أخرجه الترمذي واستغربه.(3/118)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
(والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) عطف على قوله (الذين يبخلون) ووجه ذلك أن الأولين قد فرطوا بالبخل وبأمر الناس به وبكتم ما آتاهم الله من فضله، وهؤلاء أفرطوا ببذل أموالهم في غير مواضعها لمجرد الرياء والسمعة، وليقال ما أسخاهم وما أجودهم كما يفعله من يريد أن يتسامع الناس بأنه كريم، ويتطاول على غيره بذلك ويشمخ بأنفه عليه، مع ما ضم إلى هذا الإنفاق الذي يعود عليه بالضرر من عدم الإيمان بالله واليوم الآخر أي لا يصدقون بتوحيد الله ولا بالمعاد الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن.
وكررت لا وكذلك الباء إشعاراً بأن الإيمان بكل منهما منتف على حد، قيل نزلت في اليهود، وقيل في المنافقين، وقيل في مشركي مكة.
(ومن يكن الشيطان له قريناً) في الكلام إضمار والتقدير ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فقرينهم الشيطان، ومن يكن الخ، والقرين المقارن وهو الصاحب والخليل فعيل بمعنى مفاعل كالخليط والجليس، والقرين الحبل لأنه يقرن به بين البعيرين، والمعنى من قبل من الشيطان في الدنيا فقد قارنه فيها أو فهو قرينه في النار (فساء) الشيطان (قريناً) وبئس الصاحب وبئس الخليل هو.
وفيه تقريع لهم على طاعة الشيطان، وقيل هذا في الآخرة يجعل الله الشياطين قرناءهم في النار يقرن مع كل كافر شيطان في سلسلة من النار، والأول أولى وألصق بظاهر الآية.(3/119)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)(3/120)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
(وماذا عليهم) أي على هذه الطوائف (لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله) ابتغاء لوجهه وامتثالاً لأمره، أي وماذا يكون عليهم من ضرر ووبال لو فعلوا ذلك (وكان الله بهم عليماً) فيه وعيد لهم وتهديد وتوبيخ على الجهل بمكان المنفعة.(3/120)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
(إنّ الله لا يظلم مثقال) مفعال من الثقل كالمقدار من القدر أي لا يظلم شيئاً مقدار (ذرة) واحدة الذرّ وهي النمل الصغار، وقيل رأس النملة، وقيل الخردلة، وقيل كل جزء من أجزاء الهباء الذي يظهر فيما يدخل من الشمس من كوّة أو غيرها ذرة، والأول هو المعنى اللغوي الذي يجب حمل القرآن عليه.
والمراد من هذا الكلام أن الله لا يظلم كثيراً ولا قليلاً أي لا يبخسهم من ثواب أعمالهم ولا يزيد في عقاب ذنوبهم وزن ذرة فضلاً عما فوقها، ومناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة.
(وإن تك حسنة) قرأ أهل الحجاز بالرفع أي أن توجد حسنة على أن كان هي التامة لا الناقصة، وقرأ من عداهم بالنصب أي إن تك فعلته حسنة وحذفت منه النون من غير قياس تشبيهاً بحرف العلة وتخفيفاً لكثرة الاستعمال.(3/120)
وقال الزجاج: الأصل في (تك) تكون فسقطت الضمة للجزم والواو لسكونها وسكون النون، وسقوط النون لكثرة الاستعمال تشبيهاً بحروف اللين لأنها ساكنة فحذفت استخفافاً، وقيل إن التقدير إن يك مثقال الذرة حسنة (يضاعفها) أنث ضمير المثقال لكونه مضافاً إلى المؤنث، والأول أولى.
وقرأ الحسن (نضاعفها) بالنون والباقون بالياء وهي الأرجح، وقد تقدم الكلام في المضاعفة والمراد مضاعفة ثواب الحسنة لأن مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مما لا يعقل.
عن سعيد بن جبير: وإن يك حسنة وزن ذرة زادت على سيآته يضاعفها، فأما المشرك فيخفف بها عنه العذاب ولا يخرج من النار أبداً، قال قتادة: لأن تفضل حسناتي على سيآتي بمثقال ذرة أحب إلي من الدنيا وما فيها، وفي الباب أحاديث يطول ذكرها وهذا عند الحساب.
(ويؤت) أي يعط صاحبها (من لدنه) أي من عقده على نهج التفضل زائداً على ما وعده في مقابلة العمل (أجراً عظيماً) يعني الجنة، قال أبو هريرة: إذا قال الله أجراً عظيماً فمن يقدر قدره.(3/121)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
(فكيف) يكون حال هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين أو حال كفار قريش خاصة يوم القيامة؛ هذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع (إذا جئنا من كل أمة بشهيد) قال ابن عباس: إنه يؤتى بنبي كل أمة يشهد عليها ولها (وجئنا بك على هؤلاء) أي الأنبياء أو جميع الأمم أو المنافقين أو المشركين، وقيل على المؤمنين (شهيداً).
عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقرأ عليّ القرآن قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم إني أحب(3/121)
أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) قال حسبك الآن، فإذا عيناه تذرفان، أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري وأخرجه الحاكم وصحّحه من حديث عمرو بن حريث (1).
_________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده 3550 والبخاري 9/ 81 عن عبد الله بن مسعود. وفي رواية رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل وهذا لفظ مسلم 1/ 551 والمستدرك 3/ 319.(3/122)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
(يومئذ يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول) فيما أمرهم به من التوحيد (لو تسوّى بهم الأرض) وقرىء تسوى بفتح التاء وتشديد السين وبفتحها وتخفيف السين أي أن الأرض هي التي تسوى بهم أي أنهم تمنوا لو انفتحت لهم الأرض فساخوا فيها، وقيل بهم بمعنى عليهم، وعلى القراءة الأولى أي بالبناء للمفعول معناه لو سوى الله بهم الأرض فيجعلهم والأرض سواء حتى لا يبعثوا.
(ولا يكتمون الله حديثاً) أي أنهم لا يقدرون على الكتم في مواطن دون مواطن، قال ابن عباس لا يكتمون أي بجوارحهم ولا يقدرون على ذلك يعني تشهد عليهم الجوارح والأعضاء والزمان والمكان فلم يستطيعوا الكتمان، قال الزجاج: هذا كلام مستأنف لأن ما عملوه ظاهر عقد الله لا يقدرون على كتمانه، وقال بعضهم: المعنى يودون أن الأرض سوّيت بهم وأنهم لم يكتموا حديثاً لأنه ظهر كذبهم.(3/122)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
(يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) جعل الخطاب خاصاً بالمؤمنين لأنهم الذين كانوا يقربون الصلاة حال السكر، وأما الكفار فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى، قال أهل اللغة: إذا قيل لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تتلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه.
والمراد هنا النهي عن التلبس بالصلاة وغشيانها، وبه قال جماعة من المفسرين، وإليه ذهب أبو حنيفة، وقال آخرون المراد مواضع الصلاة وبه قال الشافعي، وعلى هذا فلا بد من تقدير مضاف، ويقوّي هذا قوله (ولا جنباً إلا عابري سبيل).
وقالت طائفة: المراد الصلاة ومواضعها معاً لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين، فكانا متلازمين، وسكارى جمع سكران مثل كسالى جمع كسلان، وقرىء سكرى بالفتح وهو تكسير سكران، وقرأ الأعمش: سكرى كحبلى.
والسكر لغة السدّ، ومنه قيل لما يعرض للمرء من شرب المسكر لأنه يسد ما بين المرء وعقله وأكثر ما يقال السكر لإزالة العقل بالمسكر، وقد يقال ذلك لإزالته بغضب ونحوه من عشق وغيره، والسكر بالفتح وسكون الكاف حبس الماء وبالكسر نفس الموضع المسدود، وأما السكر بفتحهما فما يسكر به من(3/123)
المشروب، ومنه (سكراً ورزقاً حسناً) وقد ذهب العلماء كافة إلى أن المراد بالسكر هنا سكر الخمر إلا الضحاك فإنه قال سكر النوم، وقال ابن عباس: النعاس، وسيأتي بيان سبب نزول الآية وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال.
(حتى تعلموا ما تقولون) هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر أي حتى يزول عنكم أثر السكر وتعلموا ما تقولونه وتصحوا وتفيقوا من السكر. فإن السكران لا يعلم ما يقوله.
وقد تمسك بهذا من قال إن طلاق السكران لا يقع، لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد، وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة وهو قول الليث بن سعد وإسحق وأبي ثور والمزني واختاره الطحاوي وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز والسكران معتوه كالموسوس.
وأجازت طائفة وقوع طلاقه وهو محكي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين، وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي. واختلف قول الشافعي في ذلك. وقال مالك: يلزمه الطلاق والقود في الجراح والقتل ولا يلزمه النكاح والبيع.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسّنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والضياء في المختارة عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا وحضرت الصالاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله هذه الآية، وأخرج ابن جرير وابن المنذر أن الذي صلّى بهم عبد الرحمن. وروى بألفاظ من طرق (1).
_________
(1) أخرجه أبو داود 3/ 445 والترمذي 2/ 128 وابن جرير 8/ 376 والإمام أحمد 1/ 379.(3/124)
(ولا جنباً إلا عابري سبيل) الجنب لا يؤنّث ولا يثنّى ولا يجمع لأنه ملحق بالمصدر كالبعد والقرب، قال الفراء: جنب الرجل وأجنب من الجنابة وهو المشهور في اللغة والفصيح وبه جاء القرآن، وقيل يجمع الجنب في لغة على أجناب مثل عنق وأعناق وطنب وأطناب.
والمعنى جنباً بإيلاج وإنزال ونصبه على الحال، والاستثناء مفرغ أي لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل، والمراد به هنا السفر، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم. وهذا قول علي وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم قالوا: لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال إلا المسافر فإنه يتيمّم، لأن الماء قد يعدم في السفر لا في الحضر، فإن الغالب أنه لا يعدم.
وقال ابن مسعود وعكرمة، والنخعي وعمرو بن دينار ومالك والشافعي: " عابر السبيل " هو المجتاز في المسجد وهو مروي عن ابن عباس، فيكون معنى الآية على هذا لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب.
وفي القول الأول قوة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي، وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر، وأن معناه أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء كما يكون في المسافر.
وفي القول الثاني قوة من جهة عدم التكلف في معنى قوله (إلا عابري سبيل) وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها.
وبالجملة فالحال الأولى أعني قوله (وأنتم سكارى) تقوي بقاء الصلاة(3/125)
على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف؛ وسبب نزول الآية كما سبق يقوّي ذلك، وقوله (إلا عابري سبيل) يقوي تقدير المضاف أي لا تقربوا مواضع الصلاة.
ويمكن أن يقال إن بعض قيود النهي أعني لا تقربوا وهو قوله (وأنتم سكارى) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي، وبعض قيود النهي وهو قوله (إلا عابري سبيل) يدل على أن المراد مواضع الصلاة، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيّد كل واحد منهما بقيد وهما لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب.
وغاية ما يقال في هذا أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز بتأويل مشهور، وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين: والأولى قول من قال: (ولا جنباً إلا عابري سبيل) إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله (وإن كنتم مرضى أو على سفر) الآية فكان معلوماً بذلك أي أن قوله (ولا جنباً إلا عابري سبيل) لو كان معنيّاً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله (وإن كنتم مرضى أو على سفر) معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك.
فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها أيضاً جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل، قال: وعابر السبيل المجتاز مرّاً وقطعاً، يقال منه عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبراً وعبوراً ومنه قيل عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه ومنه قيل للناقة القوية هي عبر أسفار لقوتها على قطع الأسفار.(3/126)
قال ابن كثير: وهذا الذي نصره يعني ابن جرير هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية انتهى (1).
(حتى تغتسلوا) غاية للنهي عن قربان الصلاة أو مواضعها حال الجنابة، والمعنى لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل، وعن علي قال نزلت في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي، وقال ابن عباس إن لم تجدوا الماء فقد أحللت أن تمسحوا بالأرض، وعن مجاهد قال لا يمر الجنب ولا الحائض في المسجد، وإنما أنزلت (ولا جنباً إلا عابري سبيل) للمسافر يتيمم ثم يصلي.
(وإن كنتم مرضى) المرض عبارة عن خروج البدن عن حد الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ، وهو على ضربين: كبير ويسير، والمراد هنا أن يخاف على نفسه التلف أو الضرر باستعمال الماء أو كان ضعيفاً في بدنه لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء، وروى عن الحسن أنه يتطهر وإن مات، وهذا باطل يدفعه قوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقوله (ولا تقتلوا أنفسكم) وقوله (يريد الله بكم اليسر).
(أو على سفر) فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر، والخلاف مبسوط في كتب الفقه وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر، وقال قوم لا بد من ذلك، وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر، واختلفوا في الحاضر فذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة ومحمد إلى أنه يجوز في الحضر والسفر، وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف.
(أو جاء أحد منكم من الغائط) هو المكان المنخفض المطمئن من
_________
(1) ابن كثير 1/ 502.(3/127)
الأرض، والمجيء منه كناية عن الحدث والجمع الغيطان والأغواط، وكانت العرب تقصد هذا الصنف من الواضع لقضاء الحاجة تستراً عن أعين الناس، ثم يسمى الحدث الخارج من الإنسان غائطاً توسعاً من باب تسمية الشيء باسم مكانه، ويدخل في الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء.
(أو لامستم النساء) وقرىء لمستم قيل المراد بما في القراءتين الجماع، وقيل المراد به مطلق المباشرة، وقيل إنه لمجمع الأمرين جميعاً وقال المبرد الأولى في اللغة أن يكون (لامستم) بمعنى قبّلتم ونحوه (ولمستم) بمعنى غشيتم.
واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال: فقالت فرقة الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع قالوا: والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء، وقد روى هذا عن عمر وابن مسعود، قال ابن عبد البر لم يقل بقولهما في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار انتهى.
وأيضاً الأحاديث الصحيحة تدفعه وتبطله كحديث عمار وعمران بن حصين وأبي ذر في تيمم الجنب، وقالت طائفة هو الجماع كما في قوله (ثمّ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) وقوله (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) وهو يروى عن علي وأبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وطاوس والحسن وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل بن حيان وأبي حنيفة.
وقال مالك الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا الْتذّ، فإن لمسها بغير شهوة فلا وضوء، وبه قال أحمد واسحق، وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا، وحكاه القرطبي عن ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة.(3/128)
قال الأوزاعي: إذا كان اللمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقضه لقوله تعالى (فلمسوه بأيديهم).
وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه، وليس الأمر كذلك، فقد اختلفت الصحابة ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية، وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة والكسائي بلفظ أو لمستم وهي محتملة بلا شك ولا شبهة، ومع الاحتمال فلا تقوم الحجة بالمحتمل.
وهذا الحكم تعم به البلوى وثبت به التكليف العام فلا يحل إثباته بمحتمل قد وقع النزاع في مفهومه.
وإذا عرفت هذا فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من أجنب ولم يجد الماء فكان الجنب داخلاً في هذا الحكم بهذا الدليل، وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك، وأما وجوب الوضوء أو التيمم على من لمس المرأة بيده أو بشيء من بدنه فلا يصح القول به استدلالاً بهذه الآية لما عرفت من الاحتمال.
وأما ما استدلوا به من أنه - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل فقال يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها وليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها؟ فأنزل الله (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئآت ذلك ذكرى للذاكرين) أخرجه أحمد والترمذي والنسائي من حديث معاذ، قالوا فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها، فلا يخفاك أنه لا دلالة لهذا الحديث على محل النزاع فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله سبحانه في هذه الآية إذ لا صلاة إلا بوضوء.(3/129)
وأيضاً فالحديث منقطع لأنه من رواية ابن أبي ليلى عن معاذ ولم يلقه.
وإذا عرفت هذا فالأصل البراءة عن هذا الحكم فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة، وأيضاً قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ ثم يقبّل ثم يصلي ولا يتوضأ، وقد روى هذا الحديث بألفاظ مختلفة رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبي داود والنسائي وابن ماجه.
(فلم تجدوا ماء) تتطهرون به للصلاة بعد الطلب والتفتيش، وهذا القيد إن كان راجعاً إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط وهو المرض والسفر والمجيء من الغائط وملامسة النساء كان فيه دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يسوغان التيمم، بل لا بد مع وجود أحد السببين من عدم الماء فلا يجوز للمريض والمسافر أن يتيمما إلا إذا لم يجدا ماء.
ولكنه يشكل على هذا أن الصحيح والمقيم كالمريض والمسافر إذا لم يجدا الماء تيمما، فلا بد من فائدة في التنصيص على المرض والسفر، فقيل وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنّة للعجز عن الوصول إلى الماء وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب.
وإن كان راجعاً إلى الصورتين الأخيرتين أعني قوله (أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء) كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال وهو أن من صدق عليه اسم المريض أو المسافر جاز له التيمم وإن كان واجداً للماء قادراً على استعماله، وقد قيل: إنه رجع هذا القيد إلى الأخيرين مع كونه معتبراً في الأولين لندرة وقوعه فيهما، وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط وتوجيه بارد.
وقال مالك: ومن تابعه ذكر الله المرض والسفر في شرط التيمم إعتباراً(3/130)
بالأغلب فيمن لم يجد الماء بخلاف الحاضر فإن الغالب وجوده فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه اهـ.
والظاهر أن المرض بمجرده مسوغ للتيمم وإن كان الماء موجوداً إذا كان يتضرر باستعماله في الحال أو في المال ولا تعتبر خشية التلف، فالله سبحانه يقول (والله يريد بكم اليسر) ويقول (ما جعل عليكم في الدين من حرج) والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " الدين يسر (1) " ويقول: " يسروا ولا تعسروا (2) " وقال " قتلوه قتلهم الله (3) " ويقول " أمرت بالشريعة السمحة (4) ".
فإذا قلنا: إن قيد عدم وجود الماء راجع إلى الجميع كان وجه التنصيص على المريض هو أنه يجوز له التيمم والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضره فيكون إعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضره، فإن في مجرد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنة لعجزه عن الطلب لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف، وأما وجه التنصيص على المسافر فلا شك أن الضرب في الأرض مظنة لإعواز الماء في بعض البقاع دون بعض.
(فتيمّموا) التيمم لغة القصد يقال تيممت الشيء قصدته، وتيممت الصيد تعمدته، وتيممته بسهمي ورمحي قصدته دون من سواه، قال ابن السكيت: قوله تيمموا أي اقصدوا ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب.
وقال ابن الأعرابي في قولهم: قد تيمم الرجل معناه قد مسح التراب على وجهه، وهذا خلط منهما للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي، فإن العرب لا تعرف
_________
(1) الحديث: إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلاّ غلبه
(2) مسلم 1734 - البخاري 61.
(3) رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني وصححه ابن السكن.
(4) الإمام أحمد 6/ 116.(3/131)
التيمم بمعنى مسح الوجه واليدين وإنما هو معنى شرعي فقط.
وظاهر الأمر الوجوب وهو مجمع على ذلك، والأحاديث في هذا الباب كثيرة وتفاصيل التيمم وصفاته مبينة في السنة المطهرة ومقالات أهل العلم مدونة في كتب الفقه.
والتيمم من خصائص هذه الأمة، عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء أخرجه مسلم (1). وكان سبب التيمم انقطاع عقد لعائشة في بعض الأسفار وقصته في الصحيحين.
(صعيداً طيّباً) الصعيد وجه الأرض سواء كان عليه تراب أم لم يكن قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج، قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة، قال الله تعالى (وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً) أي أرضاً غليظة لا تنبت شيئاً وقال تعالى (فتصبح صعيداً زلقاً) وإنما سمي صعيداً لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض.
قال قتادة الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات، وقال ابن زيد المستوى من الأرض، وبه قال الليث، وقال الفراء هو التراب، وبه قال أبو عبيدة، وجمع الصعيد صعدات.
وقد اختلف أهل العلم فيما يجزىء التيمم به فقال مالك وأبو حنيفة والثوري والطبراني أنه يجزىء بوجه الأرض كله تراباً كان أو رملاً أو حجارة، وحملوا قوله (طيباً) على الطاهر الذي ليس بنجس، وقال الشافعي وأحمد
_________
(1) مسلم 522.(3/132)
وأصحابهما أنه لا يجزىء التيمم إلا بالتراب فقط، واستدلوا بقوله تعالى (صعيداً زلقاً) أي تراباً أملس طيباً، وكذلك استدلوا بقوله (طيباً) قالوا: والطيب التراب الذي ينبت.
وقد تنوزع في معنى الطيب فقيل الطاهر كما تقدم وقيل المنبت كما هنا، وقيل الحلال، والمحتمل لا تقوم به حجة.
ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز لكان الحق ما قاله الأولون لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا الطهور إذا لم نجد الماء وفي لفظ وجعل ترابها لنا طهوراً (1) " فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية أو مخصص لعمومه أو مقيد لإطلاقه.
ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم بالصعيد أي خذ من غباره انتهى، والحجر الصلد لا غبار له.
(فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) هذا المسح مطلق يتناول المسح بضربة أو ضربتين، ويتناول المسح إلى المرفقين أو إلى الرسغين، وقد بينته السنة بياناً شافياً، وقد جمع الشوكاني بين ما ورد في المسح بضربة وبضربتين وما ورد في المسح إلى الرسغ وإلى المرفقين في شرحه للمنتقى وغيره من مؤلفاته بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
والحاصل أن أحاديث الضربتين لا يخلو جميع طرقها من مقال، ولو
_________
(1) مسلم 522.(3/133)
صحت لكان الأخذ بها متعيّناً لما فيها من الزيادة، فالحق الوقوف على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار من الاقتصار على ضربة واحدة حتى تصبح الزيادة على ذلك المقدار.
قال الخطابي: لم يختلف أحد من العلماء في أنه لا يلزم مسح ما وراء المرفقين، واحتجوا بالقياس على الوضوء وهو فاسد الاعتبار.
قال الحافظ: إن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهم وعمار، وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه والراجح عدم رفعه انتهى، فالحق مع أهل المذهب الأول حتى يقوم دليل يجب المصير إليه، ولا شك أن الأحاديث المشتملة على الزيادة أولى بالقبول، ولكن إذا كانت صالحة للاحتجاج بها، وليس في الباب شيء من ذلك (1).
(إن الله كان عفوّاً غفوراً) أي عفا عنكم وغفر لكم تقصيركم ورحمكم بالترخيص لكم والتوسعة عليكم.
_________
(1) البخاري 8/ 189، ومسلم 279، ولفظه عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء (أو بذات الجيش) انقطع عقد لي، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبالناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس ليسوا على ماء، وليس معهم ماء قالت: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فخذي. فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم " فتيمموا ".
وروى عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: التيمم ضربة للوجه والكفين رواه البخاري 1/ 377 ومسلم 1/ 280 وغيرهما.(3/134)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)(3/135)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
(ألم تر) كلام مستأنف مسوق لتعجيب المؤمنين من سوء حال اليهود والتحذير من موالاتهم والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية من المسلمين، وتوجيهه إليه - صلى الله عليه وسلم - هنا مع توجيهه فيما بعد إلى الكل معاً للإيذان بكمال شهرة شناعة حالهم، وأنها بلغت من الظهور إلى حيث يتعجب منها كل من يراها، والرؤية هنا بصرية.
(إلى الذين أوتوا نصيباً) حظاً (من الكتاب) التوراة والمراد أحبار اليهود (يشترون الضلالة) المراد بالاشتراء الاستبدال، وقد تقدم تحقيق معناه، والمعنى أن اليهود استبدلوا الضلالة وهي البقاء على اليهودية بالهدى أي بعد وضوح الحجة على صحة نبوة نبينا- صلى الله عليه وسلم -، وقيل يأخذون الرشا ويحرفون التوراة.
(ويريدون أن تضلّوا السبيل) عطف على قوله يشترون مشارك له في بيان سوء صنيعهم وضعف اختيارهم، أي لم يكتفوا بما جنوه على أنفسهم من استبدال الضلالة بالهدى، بل أرادوا مع ضلالهم أن يتوصلوا بكتمهم وجحدهم إلى أن تضلوا أنتم أيها المؤمنون السبيل المستقيم الذي هو سبيل الحق، قال تعالى (ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء).(3/135)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
(والله أعلم) منكم (بأعدائكم) أيها المؤمنون، وما يريدونه بكم من الإضلال فيخبركم بهم لتجتنبوهم، والجملة اعتراضية (وكفى بالله ولياً) متولياً أمركم وقائماً به وحافظاً لكم منهم، ومن كان الله وليه لم يضره أحد (وكفى بالله نصيراً) ينصركم في مواطن الحرب ويمنعكم من كيدهم، فاكتفوا بولايته ونصره ولا تتولوا غيره ولا تستنصروه.(3/135)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً (46)
(من الذين هادوا) قوم (يحرّفون الكلم عن مواضعه) وقال الفراء التقدير من الذين هادوا من يحرفون كقوله (وما منّا إلا له مقام معلوم) أي من له مقام، وأنكره المبرد والزجاج وقيل بيان لقوله (الذين أوتوا نصيباً من الكتاب) والتحريف الإمالة والإزالة أي يميلونه ويزيلونه عن مواضعه ويجعلون مكانه غيره، أو المراد أنهم يتأولونه على غير تأويله، وإليه ذهبت طائفة من الفقهاء والمحدثين.
وقال ابن عباس: يحرفون حدود الله في التوراة، وقال مجاهد: تبديل اليهود التوراة، وذمهم الله عز وجل بذلك لأنهم يفعلونه عناداً وبغياً وإيثاراً لعرض الدنيا.
قال الحافظ ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان: وقد اختلف في التوراة التي بأيديهم هل هي مبدلة أم التبديل وقع في التأويل دون التنزيل؟ على ثلاثة أقوال قالت طائفة: كلها أو أكثرها مبدّل، وغلا بعضهم حتى قال يجوز الاستجمار بها، وقالت طائفة من أئمة الحديث والفقه والكلام إنما وقع التبديل في التأويل.
قال البخاري في صحيحه يحرفون يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله ولكنهم يتأولونه على غير تأويله، وهو اختيار الرازي أيضاً،(3/136)
وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع بين الفضلاء فأجاز هذا المذهب ووهى غيره، فأنكر عليه فأظهر خمسة عشر نقلا به.
ومن حجة هؤلاء أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها وانتشرت جنوباً وشمالاً، ولا يعلم عدد نسخها إلا الله فيمتنع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ حتى لا تبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة، وهذا مما يحيله العقل، قالوا: وقد قال الله لنبيه (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) قالوا: وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم ولم يمكنهم تغييرها من التوراة ولذا لما قرؤها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضع القارىء يده على آية الرجم، فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفعها فإذا هي تلوح تحتها.
وتوسطت طائفة فقالوا: قد زيد فيها وغير أشياء يسيرة جداً، واختاره شيخنا في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، قال وهذا كما في التوراة عقدهم أن الله سبحانه قال لإبراهيم: اذبح ابنك بكرك أو وحيدك إسحق.
قلت والزيادة باطلة من وجوه عشرة الأول: أن بكره ووحيده اسمعيل باتفاق الملل الثلاث.
الثاني: أنه سبحانه أمر إبراهيم أن ينقل هاجر وابنها اسمعيل عن سارة ويسكنها في برية مكة لئلا تغار سارة فأمره بإبعاد السرية وولدها عنها فكيف يؤمر بعد هذا بذبح ابن سارة وابقاء ابن السرية، وهذا مما لا تقتضيه الحكمة.
الثالث: أن قصة الذبح كانت بمكة قطعاً ولذا جعل الله سبحانه ذبح الهدايا والقرابين بمكة تذكيراً للأئمة بما كان من إبراهيم وولده هنالك.
الرابع: أن الله بشر سارة أم إسحق بإسحق ومن ورائه يعقوب فبشرها بهما جميعاً فكيف يأمر بعد ذلك بذبح إسحق وقد بشر أبويه بولد ولده.(3/137)
الخامس: أن الله لما ذكر قصة الذبح وتسليمه نفسه لله وإقدام إبراهيم على ذبحه وفرغ من قصته قال بعدها وبشرناها بإسحق نبياً من الصالحين، فشكر الله له استسلامه وبذل ولده له، وجعل من آياته على ذلك أن آتاه إسحق فنجى إسمعيل من الذبح وزاد عليه إسحق.
السادس: أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه الولد فأجاب دعاءه وبشره به فلما بلغ معه السعي أمره بذبحه قال تعالى (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين. رب هب لي من الصالحين. فبشرناه بغلام حليم) فهذا دليل أن هذا الولد إنما بشر به بعد دعائه وسؤاله ربه أن يهب له ولداً وهذا المبشر به هو المأمور بذبحه قطعاً بنص القرآن، وأما إسحق فإنه بشر به من غير دعوة منه بل على كبر السن وكون مثله لا يولد له، وإنما كانت البشارة به لامرأته سارة، ولذا تعجبت من حصول الولد منها.
السابع: أن إبراهيم لم يقدم بإسحق إلى مكة البتّة، ولم يفرق بينه وبين أمه، وكيف يأمره الله أن يذهب بابن امرأته فيذبحه بموضع ضرّتها وفي بلدها ويدع ابن ضرتها.
الثامن: أن الله لما اتخذ إبراهيم خليلاً، والخلّة تتضمن أن يكون قلبه كله متعلقاً بربه ليس فيه سعة لغيره، فلما سأل الولد وهب له إسمعيل فتعلّق به شعبة من قلبه، فأراد خليله أن تخلص تلك الشعبة له فامتحنه بذبح ولده، فلما امتثل خلصت تلك الخلة فنسخ الأمر بذبحه لحصول الغرض وهو العزم وتوطين النفس على الامتثال، ومن المعلوم أن هذا إنما يكون في أول الأولاد لا في آخرها، فلما حصل هذا المقصود مع الولد الأول لم يحتج إلى مثله مع الولد الآخر، فإنه لو زاحمت محبة الولد الآخر الخلة لأمر بذبحه، فلو كان المأمور بذبحه هو الولد الآخر لكان قد أقره في الأول على مزاحمة الخلة به مدة طويلة، ثم أمره بما يزيل المزاحم بعد ذلك وهو خلاف مقتضى الحكمة فليتأمل.(3/138)
التاسع: أن إبراهيم إنما رزق إسحق على الكبر، وإسمعيل رزقه في عنفوان شبابه، والعادة أن القلب أعلق بالأول.
العاشر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفتخر بأنه ابن الذبيحين يعني أباه عبد الله وجده إسمعيل، والمقصود أن هذه اللفظة مما زاده في التوراة انتهى ملخصاً.
قال الخفاجي: في العناية في تفسير الفاتحة وأما الإنجيل ففيه تبديل وتحريف في بعض ألفاظه ومعانيه وهو مختلف النسخ، والأناجيل أربعة كما فصله بعضهم في كتاب عقده لذلك سماه المفيد في التوحيد انتهى.
(ويقولون سمعنا) قولك (وعصينا) أمرك (واسمع) حال كونك (غير مسمع) كلاماً أصلاً بصمم أو موت وهو يحتمل أن يكون دعاء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى اسمع لا سمعت أو غير مسمع كلاماً ترضاه.
ويحتمل أن يكون المعنى اسمع منا غير مسمع جواباً كانوا يخاطبون به النبي - صلى الله عليه وسلم - استهزاء به مظهرين له إرادة المعنى الأخير، وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأول، وقال ابن عباس: غير مقبول.
وقد تقدم الكلام في (وراعنا) أي يريدون بذلك نسبته إلى الرعونة وقيل معناه ارعنا سمعك، ومثل ذلك لا يخاطب به الأنبياء، وهي كلمة سب بلغتهم.
ومعنى (ليّاً بألسنتهم) أنهم يلوونها عن الحق أي يميلونها إلى ما في قلوبهم، وأصل الليّ الفتل أي فتلاً بها وصرفاً للكلام عن نهجه إلى نسبة السب حيث وضعوا (غير مسمع) موضع لا سمعت مكروهاً، وأجروا راعنا المشابهة(3/139)
لراعنا مجرى انظرنا أو فتلاً بها وضماً لما يظهرونه من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرونه من السب والتحقير (1).
(وطعناً) أي قدحاً (في الدّين) بقولهم لو كان نبياً لعلم أنا نسبه، فأطلع الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك (ولو أنهم قالوا سمعنا) قولك (وأطعنا) أمرك (واسمع) ما نقول (وانظرنا) أي أفهمنا لا تعجل علينا أي لو قالوا هذا مكان قولهم سمعنا وعصينا وراعنا بلسان المقال أو الحال (لكان خيراً لهم) مما قالوه (وأقوم) أي أعدل وأولى من قولهم الأول وهو قولهم سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا لما في هذا من المخالفة وسوء الأدب واحتمال الذم في راعنا.
(ولكن) لم يسلكوا ذلك المسلك الحسن، ولم يأتوا بما هو خير لهم وأقوم، بل استمروا على كفرهم ولهذا (لعنهم الله بكفرهم) أي خذلهم وأبعدهم بسبب كفرهم (فلا يؤمنون) بعد ذلك (إلا) إيماناً (قليلاً) وهو الإيمان ببعض الكتب دون بعض، وببعض الرسل دون بعض، وقيل هو اعترافهم بأن الله خلقهم ورزقهم وقيل إلا نفر قليل كعبد الله بن سلام، وعبّر الزمخشري وابن عطية عن هذا القليل بالعدم يعني أنهم لا يؤمنون ألبتة.
_________
(1) في " مشكل القرآن " 291: هؤلاء قوم من اليهود كانوا يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حدثهم وأمرهم: سمعنا، ويقولون في أنفسهم: عصينا، وإن أرادوا أن يكلموه بشيء قالوا له: اسمع يا أبا القاسم، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت، ويقولون له: راعنا، ويوهمونه في ظاهر اللفظ أنهم يريدون: انتظرنا، حتى نكلمك بما نريد، كما تقول العرب: أعرني سمعك وراعني، أي: انتظرني وترفق بي وتلوم علي، هذا ونحوه، وإنما يريد سبه بالرعونة في لغتهم، فقال الله سبحانه: (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه) ويقولون كذا وكذا، ويقولون: (راعنا لياً بألسنتهم) أي: قلباً للكلام بها، (وطعناً في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا) مكان قولهم: سمعنا وعصينا، وقالوا: واسمع، مكان قولهم: لا سمعت، وانظرنا، مكان قولهم: راعنا لكان خيراً لهم وأقوم.(3/140)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)
(يا أيها الذين أوتوا الكتاب) الخطاب لليهود، ولم يقل هنا أوتوا نصيباً من الكتاب لأن المقصود فيما سبق بيان خطئهم في التحريف، وهو إنما وقع في بعض التوراة والمقصود هنا بيان خطئهم في عدم إيمانهم بالقرآن وهو مصدّق لجميع التوراة فناسب التعبير هنا بإيتائهم الكتاب (آمنوا بما نزلنا) يعني القرآن (مصدقاً لما معكم) يعني التوراة ومعنى تصديقه إياها نزوله حسبما نعت لهم فيها أو كونه موافقاً لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش.
وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأمم والأعصار فليس بمخالفة في الحقيقة، بل هو عين الموافقة من حيث أن كلا منهما حق بالإضافة إلى عصره، متضمن للحكمة التي عليها يدور فلك التشريع حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر، ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: " لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي ".
ثم قرن بهذا الأمر الوعيد الشديد الوارد على أبلغ وجه وأكده فقال (من قبل أن نطمس وجوهاً) أصل الطمس استئصال أثر الشيء بالمحو وإزالة الأعلام، ومنه (فإذا النجوم طمست) يقال طمس الأثر أي محاه كله ومنه (ربنا اطمس على أموالهم) أي أهلكها، ويقال مطموس البصر ومنه (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم) أي أعميناهم.(3/141)
واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين وهو محو تخطيط صور الوجوه، قال ابن عباس يجعلها كخف البعير، وقيل نعميها فيكون المراد بالوجه العين، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق، فذهب إلى الأول طائفة، وإلى الآخر آخرون، وفي تنكير الوجوه المفيد للتكثير تهويل للخطب، وفي إبهامها لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الإيمان.
وعلى الأول فالمراد بقوله (فنردّها على أدبارها) نجعلها أقفاء أي نذهب بآثار الوجه وتخطيطه حتى يصير على هيئة القفا. وقيل أنه بعد الطمس يردها إلى مواضع القفا والقفا إلى مواضعها، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله (فنردها على أدبارها).
فإن قيل كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم، فقيل: إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين، وقال المبرد الوعيد باق منتظر، وقال لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة، وقيل هو مختص بيوم القيامة، وقيل المراد طمس القلب والبصيرة وقيل المراد محو آثارهم من المدينة وردهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام من حيث جاؤوا، والأول أولى.
والضمير في (أو نلعنهم) عائد إلى أصحاب الوجوه (كما لعنّا أصحاب السبت) وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير، وقيل المراد نفس اللعنة، وهم ملعونون بكل لسان، والمراد وقوع أحد الأمرين إما الطمس أو اللعن، وقد وقع اللعن، ولكنه يقوي الأول تشبيه هذا اللعن بلعن أهل السبت (وكان أمر الله مفعولاً) أي كائناً موجوداً لا محالة إن لم يؤمنوا أو يراد بالأمر المأمور، والمعنى أنه متى أراده كان كقوله (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).(3/142)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49)(3/143)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
(إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، ولا يختص بكفار أهل الحرب، لأن اليهود قالوا عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقالوا ثالث ثلاثة.
ولا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته، وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
قال ابن جرير قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذّبه وإن شاء عفا عنه ما لم تكن كبيرته شركاً بالله عز وجل، وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلاً منه ورحمة وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة.
وقد تقدم قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم) وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئآت من اجتنب الكبائر فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئآته.
عن ابن عمر بسند صحيح قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا - صلى الله عليه وسلم - (إن الله لا يغفر) الآية وقال: إني ادّخرت دعوتي(3/143)
وشفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا.
وعن ابن عباس قال في هذه الآية: إن الله حرم المغفرة على من مات وهو كافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم يؤيسهم عن المغفرة وأخرج الترمذي وحسنه عن علي قال: ما في القرآن أحب إلي من هذه الآية (إن الله لا يغفر أن يشرك به) الآية.
وعن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله ما الوجبتان قال: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك به دخل النار، أخرجه مسلم (1).
(ومن يشرك بالله) يعني يجعل معه شريكاً غيره، إظهار في موضع الإضمار لإدخال الرّوع (فقد افترى) أي اختلق وفعل، لأن الافتراء كما يطلق على القول حقيقة يطلق على الفعل مجازاً كما صححه التفتازاني (إثماً عظيماً) يعني ذنباً كبيراً غير مغفور إن مات عليه.
_________
(1) روي عن أبي ذر قوله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة ...(3/144)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
(ألم تر إلى الذين يزكّون أنفسهم) أي يمدحونها، تعجيب من حالهم، وقد اتفق المفسرون على أن المراد اليهود، واختلفوا في معنى الذي زكّوا به أنفسهم فقال الحسن وقتادة: هو قولهم (نحن أبناء الله وأحباؤه) وقولهم (لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى).
وقال الضحاك: هو قولهم لا ذنوب لنا ونحن كالأطفال، وقيل قولهم إن آباءهم يشفعون لهم، وقيل: ثناء بعضهم على بعض، ومعنى التزكية التطهير والتنزيه فلا يبعد صدقها على جميع هذه التفاسير وعلى غيرها، واللفظ يتناول كلّ من زكّى نفسه بحق أو بباطل من اليهود وغيرهم، وكل من ذكر نفسه(3/144)
بصلاح أو وصفها بزكاء العمل أو بزيادة الطاعة والتقوى أو بزيادة الزلفى عند الله.
ويدخل في هذا التلقب بالألقاب المتضمنة للتزكية كمحيي الدين وعز الدين وسلطان العارفين ونحوها، فهذه الأشياء لا يعلمها إلا الله تعالى فلهذا قال (بل الله يزكّي من يشاء) أي بل ذلك إليه سبحانه، فهو العالم بمن يستحق التزكية من عباده ومن لا يستحقها، فليدع العباد تزكية أنفسهم ويفوضوا أمر ذلك إلى الله سبحانه، فإنّ تزكيتهم لأنفسهم مجرد دعاوى فاسدة تحمل عليها محبة النفس وطلب العلو والترفع والتفاخر، ومثل هذه الآية قوله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى).
(ولا يظلمون) هؤلاء المزكون أنفسهم من أعمالهم (فتيلاً) هو الخيط الذي في نواة الثمر، وقيل القشرة التي حول النواة وقيل هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما فهو فتيل بمعنى مفتول، والمراد هنا الكناية عن الشيء الحقير، ومثله ولا يظلمون نقيراً، وهو النكتة التي في ظهر النواة.
والمعنى أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم لأنفسهم بقدر هذا الذنب، ولا يظلمون بالزيادة على ما يستحقون، ويجوز أن يعود الضمير إلى (من يشاء) أي لا يظلم هؤلاء الذين يزكيهم الله فتيلاً مما يستحقونه من الثواب.
وقد ضربت العرب المثل في القلّة بأربعة أشياء اجتمعت في النواة وهي الفتيل والنقير وهو النقرة التي في ظهر النواة، والقطمير وهو القشر الرقيق فوقها، وهذه الثلاثة واردة في الكتاب العزيز، والثفروق وهو ما بين النواة والقمع الذي يكون في رأس الثمرة كالعلاقة بينهما.(3/145)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
ثم عجّب النبي - صلى الله عليه وسلم - من تزكيتهم لأنفسهم فقال(3/146)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
(انظر كيف يفترون على الله الكذب) في قولهم ذلك، والافتراء الاختلاق ومنه افترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه، وفريت الشيء قطعته، والافتراء والكذب متقاربان معنى أو معناهما واحد.
وفي قوله (وكفى به إثماً مبيناً) من تعظيم الذنب وتهويله ما لا يخفى أي كفى بالافتراء وحده وبالأولى إذا انضم إلى التزكية، والتنكير في إثماً للتشديد.(3/146)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
(ألم تر) تعجيب من حالهم بعد التعجيب الأول (إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب) هم اليهود (يؤمنون بالجبت والطاغوت) اختلف المفسرون في معنى الجبت والطاغوت فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية الجبت الساحر بلسان الحبشة والطاغوت الكاهن، وروي عن عمر بن الخطاب أن الجبت السحر والطاغوت الشيطان.
وروي عن ابن مسعود أن الجبت والطاغوت هنا كعب بن الأشرف، وقال قتادة الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن، وروي عن مالك أن الطاغوت ما عبد من دون الله، والجبت الشيطان، وقيل هما كل معبود من دون الله أو مطاع في معصية الله، وقيل هما صنمان كانا لقريش وهما اللذان سجد اليهود لهما لمرضاة قريش.(3/146)
وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه فأبدلت التاء من السين قاله قطرب، وقيل إبليس والطاغوت أولياؤه، وعن قطن ابن قبيصة عن أبيه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: العيافة والطيرة والطرق من الجبت أخرجه أبو داود (1)، وقال الطرق الزجر والعيافة الخط.
وقيل العيافه هي زجر الطير، والطرق هو ضرب الحجارة والحمى على طريق الكهانة، والطيرة هو أن يتطير بالشيء فيرى الشؤم فيه والشر منه، وقيل هو من التطيّر وهو زجر الطير، والخط هو ضرب الرمل لاستخراج الضمير.
(ويقولون) أي اليهود (للذين كفروا) كأبي سفيان وأصحابه، واللام للتبليغ أو للعلة كنظائرها (هؤلاء) أي أنتم (أهدى من الذين آمنوا) بمحمد (سبيلاً) أي أقوم دينا وأرشد طريقاً.
_________
(1) وروى ابن جرير 8/ 466 عن ابن عباس، قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة، قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال: نعم. قالوا: ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السًدانة، وأهل السقاية؟ قال: أنتم خير منه. قال: فأنزلت: (إن شانئك هو الأبتر) [الكوثر: 3] وأنزلت (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) إلى قوله: (فلن تجد له نصيراً) وإسناده صحيح. وزاد السيوطي نسبته في " الدر " 2/ 171 لأحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وقولهم: " ألا ترى إلى هذا الصنبور الأبتر " في " النهاية " الصنبور: سعفات تنبت في جذع النخلة، لا في الأرض، ثم قالوا: للرجل الفرد الضعيف الذليل الذي لا أهل له ولا عقب ولا ناصر " صنبور ".(3/147)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
(أولئك) القائلون (الذين لعنهم الله) أي طردهم وأبعدهم من رحمته (ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً) يدفع عنه ما نزل به من عذاب الله وسخطه، وفي الآية وعد للمؤمنين بأنهم المنصورون عليهم فإن المؤمنين بضد هؤلاء فهم الذين قرّبهم الله ومن يقربه الله فلن تجد له خاذلاً.(3/147)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)(3/148)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
(أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً) أم منقطعة والاستفهام للإنكار يعني ليس لهم نصيب من الملك، والفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف أي إن جعل لهم نصيب فإذن لا يعطون نقيراً منه لشدة بخلهم وقوة حسدهم.
وهذا ذم لهم بالبخل بعد أن ذمهم بالجهل، لعدم جريهم على مقتضى العلم، وسيأتي ذمهم بالحسد، والأول قوة عملية والثاني علمية، والأول مقدم كما بينه الفخر، وقيل المعنى بل لهم نصيب من الملك على أن معنى أم الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني، وقيل التقدير أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب، الآية.
والنقير النقطة والنقرة في ظهر النواة، وقيل ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض، والنقير أيضاً خشبة تنقر وينبذ فيها.
وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النقير كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، والنقير الأصل يقال فلان كريم النقير أي كريم الأصل، والمراد هنا المعنى الأول والمقصود به المبالغة في الحقارة كالقطمير والفتيل، والنقير يضرب به المثل في الشيء الحقير التافه الذي لا قيمة له، وفي القلة والحقارة.
وإذن هنا ملغاة غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز قال سيبويه: إذن في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء التي تلغى إذا(3/148)
لم يكن الكلام معتمداً عليها، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلاً نصبت.(3/149)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
(أم) منقطعة مفيدة للانتقال عن توبيخهم بأمر إلى توبيخهم بآخر أي بل (يحسدون الناس) يعني اليهود يحسدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط فهو عام أريد به الخاص وأطلق عليه لفظ الناس لأنه جمع كل الخصال الحميدة التي تفرقت في الناس على حد قول القائل: أنت الناس كل الناس أيها الرجل.
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
أو يحسدونه هو وأصحابه وأصل الحسد تمنى زوال النعمة عمن هو مستحق لها، وربما يكون ذلك مع سعي في زوالها وهو أقبح مما قبلها لأن البخل منع لما في أيديهم، والحسد منع لما عقد الله واعتراض عليه، والاستفهام للإنكار أي لا ينبغي ذلك.
(على ما آتاهم الله من فضله) من النبوة والنصر وقهر الأعداء، وقيل حسدوه على ما أحل الله له من النساء، وكانت له يومئذ تسع نسوة والأول أولى.
(فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة) هذا إلزام لليهود بما يعترفون به ولا ينكرونه وهو مسلّم عندهم أي ليس ما آتينا محمداً وأصحابه من فضلنا بأبدع حتى تحسدهم اليهود على ذلك فهم يعلمون بما آتينا آل إبراهيم وهم أسلاف محمد - صلى الله عليه وسلم - وأبناء أعمامه.
وفيه حسم لمادة حسدهم واستبعادهم المبنيّين على توهم عدم استحقاق الحسود ما أوتيه من الفضل ببيان استحقاقه له بطريق الوراثة كابراً عن كابر،(3/149)
وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر، وقد تقدّم تفسير الكتاب والحكمة يعني التوراة والنبوة وقد حصل في آل إبراهيم جماعة كثيرة جمعوا بين الملك والنبوة مثل داود وسليمان.
(وآتيناهم ملكاً عظيماً) فلم يشغلهم ذلك عن أمر النبوة، ومن فسر الفضل بكثرة النساء قال: الملك العظيم في حق داود وسليمان بكثرة النساء، فإنه كان لداود مائة امرأة ولسليمان ألف امرأة ثلثمائة حرة وسبعمائة سرية، ولم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ إلا تسع نسوة، وقيل هو ملك سليمان واختاره ابن جرير وهو الأولى (1).
_________
(1) قال ابن جرير 8/ 479: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول قتادة وابن جريج الذي ذكرناه قبل، أن معنى " الفصل " في هذا الموضع: النبوة التي فضل الله بها محمداً، وشرف بها العرب، إذ آتاها رجلاً منهم دون غيرهم، لما ذكرنا من أن دلالة ظاهر هذه الآية تدل على أنها تقريظ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، رحمة الله عليهم، على ما قد بينا قبل، وليس النكاح وتزويج النساء -وإن كان من فضل الله جل ثناؤه الذي آتاه عباده- بتقريظ لهم ومدح.(3/150)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
(فمنهم) أي من اليهود (من آمن به) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - كعبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل الضمير في به راجع إلى ما ذكر من حديث آل إبراهيم، وقيل الضمير راجع إلى إبراهيم، والمعنى فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم (ومنهم من صدّ) أعرض (عنه) ولم يؤمن. وقيل الضمير يرجع إلى الكتاب، والأول أولى (وكفى بجهنم سعيراً) أي ناراً مسعّرة لمن لا يؤمن. وهو إشارة لقياس طويت فيه الكبرى أي هؤلاء صدوا عنه ومن صد عنه كفى بجهنم سعيراً لهم، ينتج هؤلاء كفى بجهنم سعيراً لهم.(3/150)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
وقوله (إن الذين كفروا) تقرير لهذا وبيان لكيفية عذابهم وعذاب جميع من كفر (بآياتنا) الظاهر عدم تخصيصه ببعض الآيات دون بعض (سوف) كلمة تذكر للتهديد، قاله سيبويه وتنوب عنها السين (نصليهم) أي ندخلهم (ناراً) يحترقون فيها.
(كلما نضجت) أي احترقت (جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها) أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق جلداً آخر غير محترق، فإن ذلك أبلغ في العذاب للشخص لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في الجلد المحترق.
وقيل المراد بالجلود السرابيل التي ذكرها الله في قوله (سرابيلهم من قطران) ولا موجب لترك المعنى الحقيقي ههنا، وإن جاز إطلاق الجلود على السرابيل مجازاً، وقيل المعنى أعدنا الجلد الأول جديداً، ويأبى ذلك معنى التبديل، قال ابن عمر: يبدلون جلوداً بيضاء أمثال القراطيس.
وقال معاذ: تبدل في ساعة مائة مرة فقال عمر هكذا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الطبراني بسند ضعيف، والبغوي بغير سند. وقال كعب عشرين ومائة مرة وعن ابن مسعود أن غلظ جلد الكافر إثنان وأربعون ذراعاً وقال الحسن، تأكلهم النار في كل يوم سبعين ألف مرة.
(ليذوقوا العذاب) أي ليحصل لهم الذوق الكامل لذلك التبديل ويقاسوا شدته، وقيل معناه ليدوم لهم العذاب ولا ينقطع (إن الله كان عزيزاً) في انتقامه ممن ينتقم من خلقه لا يغلبه شيء ولا يمنع عليه أحد (حكيماً) في تدبيره وقضائه وأنه لا يفعل إلا ما هو الصواب.(3/151)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
ثم أتبع وصف حال الكفار بوصف حال المؤمنين فقال(3/152)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات) وهو لف ونشر مشوّش على حد قوله (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) وعلى عادته تعالى من ذكر الوعيد مع الوعد وعكسه (سندخلهم) أي يوم القيامة (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً) قد تقدم تفسير الجنات وجري الأنهار من تحتها، وذلك الخلود بغير نهاية ولا انقطاع وليس المراد طول المكث.
(لهم فيها أزواج مطهّرة) من الأدناس التي تكون في نساء الدنيا ومن كل قذر وسوء الخلق (وندخلهم ظلاً ظليلاً) الظل الظليل الذي لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك، وقيل هو مجموع ظل الأشجار والقصور. وقيل الظل الظليل هو الدائم الذي لا يزول، واشتقاق الصفة من لفظ الموصوف للمبالغة كما يقال ليل أليل، قال الربيع بن أنس: هو ظل العرش الذي لا يزول، وقيل هو ظل الجنة والأول أولى.(3/152)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
(إنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها) هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع، لأن الظاهر أن الخطاب يشمل جميع الناس قاطبة في جميع الأمانات، وقد روى عن علي وزيد بن أسلم وشهر ابن حوشب أنها خطاب لولاة المسلمين والأول أظهر، ووُرودها على سبب كما سيأتي لا ينافي ما فيها من العموم فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول.(3/152)
قال الواحدي: أجمع المفسرون عليه، انتهى، ويدخل الولاة في هذا الخطاب دخولاً أولياً فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات ورد الظلامات، وتحري العدل في أحكامهم، ويدخل غيرهم من الناس في الخطاب فيجب عليهم رد ما لديهم من الأمانات والتحري في الشهادات والأخبار.
وممن قال بعموم هذا الخطاب البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأُبيُّ ابن كعب، واختاره جمهور المفسرين ومنهم ابن جرير، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار كما قال ابن المنذر.
والأمانات جمع أمانة وهي مصدر بمعنى المفعول.
ْوقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة وقبض مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة فنزل جبريل عليه السلام بردّ المفتاح فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن طلحة فرده إليه وقرأ هذه الآية (1).
وعن ابن جريج أن هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة لما قبض منه صلى الله عليه وآله وسلم مفتاح الكعبة فدعاه ودفعه إليه. وقال هاك خالدة تالدة أي مستمرة إلى آخر الزمان قديمة متأصلة، وقد روى هذا المعنى بطرق كثيرة.
وأخرج أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أدّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك (2) "، وقد ثبت في الصحيح أن من خان إذا اؤتمن ففيه خصلة من خصال النفاق (3).
_________
(1) قال السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 174: أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس مطولاً. قلت: والكلبي وأبو صالح ضعيفان لا يحتج بهما.
(2) قال ابن كثير في تفسير الآية: يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك " رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
(3) صحيح الجامع الصغير 16.(3/153)
(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا الحكم بالرأي المجرد، فإن ذلك ليس من الحق في شيء إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله ورسوله، وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص.
وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله ولا بما هو أقرب إليهما فهو لا يدري ما هو العدل لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته، فضلاً عن أن يحكم بها بين عباد الله.
عن علي قال: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل وأن يؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا وأصل العدل هو المساواة في الأشياء، فكل ما خرج عن الظلم والاعتداء سمّي عدلاً.
قيل: ينبغي العدل بين الخصمين في خمسة أشياء في الدخول عليه والجلوس بين يديه والإقبال عليهما والاستماع منهما والحكم بالحق فيما لهما وعليهما فيجب على الحاكم أن يأخذ الحق ممن وجب عليه لمن وجب له، ويكون مقصوده بحكمه إيصال الحق إلى مستحقّه، وأن لا يمتزج ذلك بغرض آخر، وقد ورد في فضل العادلين من الولاة أحاديث.
(إنّ الله نعمّا يعظكم به) أي نعم الشيء الذي يعظكم به وهو أداء، الأمانات والحكم بالعدل على وفق السنة والكتاب دون الرأي البحت والعقل الصرف تقليداً للأحبار والرهبان من غير حجة نيّرة وبرهان واضح (إن الله كان سميعاً بصيراً) فإذا حكمتم فهو يسمع حكمكم، وإذا أديتم الأمانة فهو يبصر فعلكم.(3/154)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) لما أمر الله سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق أمر الناس بطاعتهم هنا، وطاعة الله عز وجل هي امتثال أوامره ونواهيه وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه، وأولو الأمر: هم الأئمة والسلاطين والقضاة وأمراء الحق ولاة العدل كالخلفاء الراشدين ومن يقتدي بهم من المهتدين، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية.
والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الله كما ثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقال جابر بن عبد الله ومجاهد: إن أولي الأمر هم أهل القرآن والعلم، وبه قال مالك والضحاك، وروي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن كيسان: هم أهل العقل والرأي، وعن ابن عباس قال: هم الفقهاء والعلماء الذين يعلّمون الناس معالم دينهم وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد، والراجح القول الأول لصحة الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله وللمسليمن مصلحة فإذا زال عن الكتاب والسنة فلا طاعة له، وإنما تجب طاعته فيما وافق الحق.
عن ابن عباس قال نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سريّة وقصته معروفة (1).
_________
(1) أنظر البخاري 8/ 190 ومسلم 3/ 1465 وأحمد 2/ 622.(3/155)
قال عطاء طاعة الله والرسول اتباع الكتاب والسنة، وأولي الأمر، قال أولي الفقه والعلم، وعن أبي هريرة قال: أولو الأمر هم الأمراء وفي لفظ هم أمراء السرايا وقال جابر بن عبد الله: هم أهل العلم وعن مجاهد وأبي العالية نحوه.
وقد وردت أحاديث كثيرة في طاعة الأمراء ثابتة في الصحيحين وغيرهما مقيّدة بأن يكون ذلك في المعروف وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله.
ومن جملة ما استدل به المقلدة هذه الآية قالوا: وأولو الأمر هم العلماء، والجواب أن للمفسرين في تفسيرها قولين أحدهما أنهم الأمراء، والثاني أنهم العلماء كما تقدم ولا يمتنع إرادة الطائفتين من الآية الكريمة، ولكن أين هذا من الدلالة على مراد المقلدين فإنه لا طاعة لأحدهما إلا إذا أمروا بطاعة الله على وفق سنة رسوله وشريعته.
وأيضاً العلماء إنما أرشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم ونهوهم عن ذلك كما روي عن الأئمة الأربعة وغيرهم فطاعتهم ترك تقليدهم (1) ولو فرضنا أن في العلماء من يرشد الناس إلى التقليد ويرغبهم فيه لكان يرشد إلى معصية الله، ولا طاعة له بنص حديث من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
_________
(1) البخاري: 8/ 190، ومسلم: 3/ 1465. قال الحافظ في " الفتح ": كذا ذكره -أي: البخاري- مختصراً، والمعنى: نزلت في قصة عبد الله بن حذافة، أي، المقصود منها في قصته قوله: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله) - الآية. قلت: وقصة حذافة بطولها رواها الإمام أحمد 2/ 622، والبخاري 13/ 109، ومسلم 3/ 1469 عن علي رضي الله عنه، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا ناراً، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النار، فكانوا كذلك، وسكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا، ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف ".(3/156)
وإنما قلنا إنه يرشد إلى معصية الله لأن من أرشد هؤلاء العامة الذين لا يعقلون الحجج ولا يعرفون الصواب من الخطأ إلى التمسّك بالتقليد، كان هذا الإرشاد منه مستلزماً لإرشادهم إلى ترك العمل بالكتاب والسنة إلا بواسطة آراء العلماء الذين يقلدونهم، فما عملوا به عملوا به وما لم يعملوا به، لم يعملوا به ولا يلتفتون إلى كتاب وسنة بل من شرط التقليد الذي أصيبوا به أن يقبل من إمامه رأيه ولا يعوّل على روايته ولا يسأله عن كتاب ولا سنة، فإن سأله عنهما خرج عن التقليد لأنه قد صار مطالباً بالحجة.
ومن جملة ما يجب فيه طاعة أولى الأمر تدبير الحروب التي تدهم الناس والانتفاع بآرائهم فيها وفي غيرها من تدبير أمر المعاش وجلب المصالح ودفع المفاسد الدنيوية، ولا يبعد أن تكون هذه الطاعة في هذه الأمور التي ليست من الشريعة هي المرادة بالأمر بطاعتهم لأنه لو كان المراد طاعتهم في الأمور التي شرعها الله ورسوله لكان ذلك داخلاً تحت طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا يبعد أيضاً أن تكون الطاعة لهم في الأمور الشرعية في مثل الواجبات المخيّرة وواجبات الكفاية، فإذا أمروا بواجب من الواجبات المخيرة أو ألزموا بعض الأشخاص الدخول في واجبات الكفاية لزم ذلك، فهذا أمر شرعي وجب فيه الطاعة.
وبالجملة فهذه الطاعة لأولي الأمر المذكورة في الآية هي الطاعة التي ثبتت في الأحاديث المتواترة في طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله أو يرى المأمور كفراً بواحاً، فهذه الأحاديث مفسرة لما في الكتاب العزيز، وليس ذلك من التقليد في شيء بل هو في طاعة الأمراء الذين غالبهم الجهل والبعد عن العلم في تدبير المحاربات وسياسة الأجناد وجلب مصالح العباد، وأما الأمور(3/157)
الشرعية الحضة فقد أغنى عنها كتاب الله العزيز وسنة رسوله المطهرة صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا الذي سقناه هو عمدة أدلة المجوزين للتقليد وقد أبطلناه كما عرفت، ولهم شبه غير ما حررناه.
(فإن تنازعتم) المنازعة المجاذبة والنزع الجذب كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها والمراد بالأختلاف المجادلة، والظاهر أنه خطاب مستقل مستأنف موجّه للمجتهدين، ولا يصح أن يكون لأولي الأمر إلا على طريق الالتفات، وليس المراد فإن تنازعتم أيها الرعايا مع أولي الأمر المجتهدين لأن المقلد ليس له أن ينازع المجتهد في حكمه، قاله أبو السعود على ما في الجمل، والأولى ما قدمناه.
وظاهر قوله (في شيء) يتناول أمور الدين والدنيا ولكنه لما قال (فردّوه إلى الله والرسول) تبين به أن الشيء المتنازع فيه يختص بأمور الدين دون أمور الدنيا، والمعنى في شيء غير منصوص نصاً صريحاً من الأمور المختلف فيها كندب الموتر وضمان العارية ونحوهما، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه العزيز، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته المطهرة بعد موته، وأما في حياته فالرد إليه سؤاله.
هذا معنى الرد إليهما، وقيل معنى الرد أن يقول لما لا يعلم " الله ورسوله أعلم " وهو قول ساقط وتفسير بارد، وليس الرد في هذه الآية إلا الرد المذكور في قوله تعالى (ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
والرد إلى كتاب الله وسنة رسوله واجب، فإن وجد ذلك الحكم في كتاب الله أخذ به، فإن لم يوجد فيه ففي سنة رسوله، فإن لم يوجد فيها فسبيله(3/158)
الاجتهاد، ولا يلتفت عند وجود الحكم فيهما أو في أحدهما إلى غيرهما من آراء الرجال وغيرهم فإنه مشاقّة لله ولرسوله من بعد ما تبين له الهدى.
وفي قوله (إن كنتم تؤمنون) دليل على أن هذا الرد متحتم على المتنازعين وأنه شأن من يؤمن (بالله واليوم الآخر) وفي الآية دليل على أن من لا يعتقد وجوب متابعة الكتاب والسنة والحكم بالنصوص القرآنية والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يكون مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر.
(ذلك) أي الرد المأمور به (خير وأحسن تأويلاً) أي مرجعاً وأحمد عاقبة من الأول يقال آل يؤول إلى كذا أي صار إليه، والمعنى أن ذلك الرد خير لكم في حد ذاته من غير اعتبار فضله على شيء يشاركه في أصل الخيرية من التنازع والقول بالرأي وأحسن مآلاً مرجعاً ترجعون إليه، ويجوز أن يكون المعنى أن الرد أحسن تأويلاً من تأويلكم الذي صرتم إليه عند التنازع، وقال قتادة: ذلك أحسن ثواباً وخير عاقبة، وقال مجاهد: أحسن جزاء.
واعلم أن هذه الآية الشريفة مشتملة على أكثر علم أصول الفقه لأن الفقهاء زعموا أن أصول الشريعة أربع الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهذه الآية مشتملة على تقرير هذه الأصول الأربعة بهذا الترتيب.
أما الكتاب والسنة فقد وقعت الإشارة إليهما بقوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فدلت على وجوب متابعة الكتاب والسنة، وقوله تعالى (وأولي الأمر منكم) يدل على أن إجماع الأمة حجة لأن الله تعالى أمر بطاعتهم على سبيل الجزم، وهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والمراد بهم أهل الحل والعقد، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة.(3/159)
وقوله (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول) يدل على أن القياس حجة.
وهذه الآية دالة على أن الكتاب والسنة مقدمان على القياس مطلقاً فلا يجوز ترك العمل بهما بسبب القياس، ولا يجوز تخصيصهما بسبب القياس ألبتة سواء كان القياس جلياً أو خفياً، وسواء كان النص مخصوصاً قبل ذلك أم لا.
ومما يدل عليه أن قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول أمر بطاعة الكتاب والسنة وهذا الأمر مطلق فثبت أن متابعتهما سواء حصل قياس يعارضهما أو يخصصهما أو لم يوجد واجب.
ومما يؤكد ذلك وجوه أخرى (أحدها) أن كلمة (إن) على قول الأكثرين للإشتراط وعلى هذا كان قوله (فإن تنازعتم) صريحاً في أنه لا يجوز العدول إلى القياس إلا عند فقدان الأصول (الثاني) أنه تعالى أخر ذكر القياس عن ذكر الأصول الثلاثة وهذا مشعر بأن العمل به مؤخر عن الأصول الثلاثة.
(الثالث) أنه صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر هذا الترتيب في قصة معاذ حيث أخر الاجتهاد عن الكتاب، وعلق جوازه على عدم وجدان الكتاب والسنة بقوله " فإن لم تجد ".
(الرابع) أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ثم إن إبليس لم يدفع هذا النص بالكلية بل خصص نفسه عن ذلك العموم بقياس، ثم أجمع العقلاء على أنه جعل القياس مقدماً على النص وصار بذلك السبب ملعوناً، وهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس تقديم للقياس على النص وأنه غير جائز.
(الخامس) أن القرآن مقطوع في متنه لأنه ثبت بالتواتر، والقياس ليس كذلك بل هو مظنون من جميع الجهات، والقطوع راجح على المظنون.(3/160)
(السادس) قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) وإذا وجدنا عموم الكتاب حاصلاً في الواقعة ثم إنا لا نحكم به بل حكمنا بالقياس لزم الدخول تحت هذا العموم.
(السابع) قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) فإذا كان عموم القرآن حاضراً ثم قدمنا القياس المخصص عليه لزم التقديم بين يدي الله ورسوله.
(الثامن) قوله تعالى (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله) إلى قوله (إن تتبعون إلا الظنّ) جعل اتباع الظن من صفات الكفار، ومن الموجبات القوية في مذمتهم، فهذا يقتضي أن لا يجوز العمل بالقياس ألبتّة ترك هذا النص لما بينا أنه يدل على جواز العمل بالقياس، لكنه إنما دل على ذلك عند فقدان النصوص فوجب عند وجدانها أن يبقى على الأصل.
(التاسع) أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والقياس يفرق عقل الإنسان الضعيف وكل من له عقل صحيح علم أن الأول أقوى بالمتابعة وأحرى.
وأيضاً هذه الآية دالة على أن ما سوى هذه الأصول الأربعة مردود باطل وليس للمكلف أن يتمسك بشيء سوى هذه الأصول، فالقول بالاستحسان الذي يقول به أبو حنيفة، والقول بالإستصلاح الذي يقول به مالك إن كان المراد به أحد هذه الأمور الأربعة فهو تغيير عبارة ولا فائدة فيه، وإن كان مغايراً لهذه الأربعة كان القول به باطلاً قطعاً لدلالة هذه الآية على بطلانه.
والأمر في قوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) للوجوب وبه زعم كثير من الفقهاء واعترض عليه المتكلمون بما لا يغني عن جوع، وهذه الآية دالة على أن ظاهر الأمر للوجوب ولا شك أنه أصل معتبر في الشرع.(3/161)
وفي الآية دلالة على أن شرط الإستدلال بالقياس في المسألة أن لا يكون فيها نص من الكتاب والسنة لأن قوله (فإن تنازعتم في شيء فردّوه) مشعر بهذا الإشتراط، ومعنى تنازعتم اختلفتم، قال الزجاج: أي قال كل فريق القول قولي والمنازعة عبارة عن مجاذبة كل واحد من الخصمين لحجة مصححة لقوله أو محاولة جذب قوله ونزعه إياه عما يفسده، وآخر الآية يقتضي أن من لم يطع الله والرسول لا يكون مؤمناً (1).
والكلام في الآية إستنباطاً وتفقهاً ورداً وتعقباً يطول، وقد بسط القول فيه الرازي في تفسيره والذي ذكرناه حاصل ما يتعلق بالتفسير منه.
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " النكتة في إعادة العامل في " الرسول " دون " أولي الأمر " مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى، كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف، هما القرآن والسنة، فكأن التقدير: وأطيعوا الله فيما قضى عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن، وما ينصه عليكم من السنة، والمعنى: أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم به من الوحي الذي ليس بقرآن. قلت: وقد روى أبو داود 4/ 279 بسند صحيح عن المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرم الله ".(3/162)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا (60)
(ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) فيه تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من حال هؤلاء الذين ادّعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، وما أنزل على من قبله من الأنبياء، فجاؤا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها، ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلاً وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله وعلى من قبله أن يكفروا به.
وقد تقدم تفسير الطاغوت والإختلاف في معناه، وبسند قال السيوطي: صحيح عن ابن عباس قال كان برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر ناس إليه من المسلمين فأنزل هذه الآية.
وعنه كان الجلاس بن الصامت قبل توبته ومعتّب بن قشير ورافع بن زيد كانوا يدعون الإسلام فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية فنزلت الآية، وبذلك يتضح معناها.
(ويريد الشيطان أن يضلّهم) عن طريق الهدى والحق (ضلالاً بعيداً) مستمراً إلى الموت.(3/163)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)(3/164)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
(وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول) تكملة لمادة التعجب ببيان إعراضهم صريحاً عن التحاكم إلى كتاب الله ورسوله إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت (رأيت المنافقين) أي أبصرتهم كما هو الظاهر (يصدّون عنك صدوداً) اسم للمصدر وهو الصد عند الخليل وعند الكوفيين أنهما مصدران أي يعرضون عنك وعن حكمك إعراضاً وأي إعراض، وإنما أعرضوا لأنهم علموا أنه يحكم بالحق الصريح ولا يقبل الرّشا.(3/164)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
(فكيف) بيان لعاقبة أمرهم وما صار إليه حالهم أي كيف يكون حالهم (إذا أصابتهم مصيبة) أي وقت إصابتهم فإنهم يعجزون عند ذلك ولا يقدرون على الدفع والمراد (بما قدمت أيديهم) ما فعلوه من المعاصي التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت (ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً) أي يعتذرون عن فعلهم، وهو عطف على " أصابتهم " ويحلفون ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان لا الإساءة والتوفيق بين الخصمين لا المخالفة لك (1).
_________
(1) قال أبو جعفر في تفسير الآية: يعني بذلك جل ثناؤه، فكيف بهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك، وما أنزل من قبلك (إذا أصابتهم مصيبة) بمعني إذا نزلت بهم نقمه من الله (بما قدمت أيديهم) يعني بذنوبهم التي سلفت منهم، (ثم جاؤوك يحلفون بالله) يقول: ثم جاؤوك يحلفون بالله كذباً وزوراً (إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً) وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أنهم لا يردعهم عن النفاق العبر والنقم، وأنهم أن تأتهم عقوبة من الله على تحاكمهم إلى الطاغوت لم ينيبوا ولم يتوبوا، ولكنهم يحلفون بالله كذباً وجرأة على الله: ما أردنا باحتكامنا إليه إلا الإحسان من بعضنا إلى بعض، والصواب فيما احتكمنا فيه إليه.(3/164)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا (63)
وقال ابن كيسان: معناه ما أردنا إلا عدلاً وحقاً مثل قوله (وليحلفنّ إن أردنا إلا الحسنى) فكذبهم الله بقوله (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم) من النفاق والعداوة للحق، وكذبهم في عذرهم، قال الزجاج: معناه قد علم الله أنهم منافقون (فأعرض عنهم) أي عن عقابهم بالصفح، وقيل عن قبول اعتذارهم، وقيل أعرض عنهم في الملا، وقل لهم في الخلا، لأنه في السر أنجع، وقيل هذا الإعراض منسوخ بآية القتال.
(وعظهم) أي خوّفهم من النفاق والكفر والكذب والكيد وعذاب الآخرة باللسان (وقل لهم في أنفسهم) أي في حق أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المنطوية على الشرور التي يعلمها الله، وقيل معناه قل لهم خالياً بهم ليس معهم غيرهم (قولاً بليغاً) أي بالغاً في وعظهم ومؤثراً فيهم، واصلاً إلا كنه المراد مطابقاً لما سيق له من المقصود، وذلك بأن يوعدهم بسفك دمائهم وسبي نسائهم وسلب أموالهم، والإيذان بأن ما في قلوبهم من مكنونات الشر والنفاق غير خاف على الله تعالى، وأن ذلك مستوجب لأشد العقوبات.
والبلاغة إيصال المعنى إلا الفهم في أحسن صورة من اللفظ، وقيل حسن العبارة مع صحة المعنى، وقيل سرعة الإيجاز مع الإفهام وحسن التصرف من غير إضجار، وقيل ما قل لفظه وكثر معناه، وقيل ما طابق لفظه معناه ولم يكن لفظه إلا السمع أسبق من معناه إلا القلب.
وقيل المراد بالقول البليغ ما كان مشتملاً على الترغيب والترهيب والإعذار والإنذار والوعد والوعيد، وإذا كان كذلك عظم وقعه في القلوب وأثر في النفوس.(3/165)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
(وما أرسلنا من رسول) من زائدة للتوكيد قاله الزجاج، والمعنى وما أرسلنا رسولاً (إلا ليطاع) فيما أمر به ونهى عنه، وهذه لام كي، والاستثناء مفرغ أي ما أرسلنا لشيء من الأشياء إلا للطاعة (بإذن الله) بعلمه وقيل بأمره وقيل بتوفيقه، وفيه توبيخ وتقريع للمنافقين الذين تركوا حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضوا بحكم الطاغوت.
(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك من الطاغوت وغيره (جاؤوك) متوسّلين إليك تائبين من النفاق متنصلين عن جناياتهم ومخالفاتهم (فاستغفروا الله) لذنوبهم بالتوبة والإخلاص وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعاً لهم فاستغفرت لهم، وإنما قال (واستغفر لهم الرسول) على طريقة الالتفات لقصد التفخيم لشأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً لاستغفاره وإجلالاً للمجيء إليه (لوجدوا الله تواباً رحيماً) أي كثير التوبة عليهم والرحمة لهم.
وهذا المجيء يختص بزمان حياته صلى الله عليه وآله وسلم، وليس المجيء إليه يعني إلى مرقده المنوّر بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم مما تدل عليه هذه الآية كما قرره في (الصارم المنكى (1)) ولهذا لم يذهب إلا هذا الاحتمال البعيد أحد من سلف الأمة وأئمتها لا من الصحابة ولا من التابعين ولا ممن تبعهم بالإحسان.
_________
(1) البخاري 5/ 26، ومسلم 4/ 1830، ولفظه عن عروة، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.(3/166)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
قال ابن جرير: قوله (فلا) رد على ما تقدم ذكره تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ثم استأنف القسم بقوله (وربّك لا يؤمنون) وقيل إنه قدم (لا) على القسم اهتماماً بالنفي وإظهاراً لقوته ثم كرره بعد القسم تأكيداً، وقيل (لا) مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي، قاله الزمخشري، والتقدير: فوربّك لا يؤمنون كما في قوله (فلا أقسم بمواقع النجوم).
(حتى) غاية أي ينتفى عنهم الإيمان إلى أن (يحكّموك) أي يجعلوك حكماً بينهم في جميع أمورهم، لا يحكمون أحداً غيرك وقيل معناه يتحاكمون إليك، ولا ملجىء لذلك (فيما شجر) أي اختلف (بينهم) واختلط ومنه الشجر لاختلاف أغصانه، ومنه تشاجر الرياح أي اختلافها.
(ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت) قيل هو معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام أي فتقضي بينهم ثم لا يجدوا، والحرج الضيق وقيل الشك، ومنه قيل للشجر الملتف حرج وحرجة وجمعها حراج وقيل الحرج الإثم أي لا يجدودن في أنفسهم إثماً بأنكارهم ما قضيت به (ويسلّموا تسليماً) أي ينقادوا لأمرك وقضائك إنقياداً لا يخالفونه في شيء بظاهرهم وباطنهم، قال الزجاج: تسليماً مصدر مؤكد أي ويسلّمون لحكمك تسليماً لا يدخلون على أنفسهم شكاً ولا شبهة فيه.
والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم كما يؤيد ذلك قوله (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) فلا يختص بالمقصودين بقوله (يريدون(3/167)
أن يتحاكموا إلى الطاغوت) وهذا في حياته - صلى الله عليه وسلم -، وأما بعد موته فتحكيم الكتاب والسنة تحكم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة أو في أحدهما، وكان يعقل ما يرد عليه من حجج الكتاب والسنة بأن يكون عالماً باللغة العربية وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان، عارفاً بما يحتاج إليه من علم الأصول بصيراً بالسنة المطهرة مميزاً بين الصحيح وما يلحق به، والضعيف وما يلحق به، منصفاً غير متعصب لمذهب من المذاهب ولا لنحلة من النحل، ورعاً لا يحيف ولا يميل في حكمه.
فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوة، مترجم عنها، حاكم بأحكامها، وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود، وترجف له الأفئدة فإنه أولاً أقسم سبحانه بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت) فضم إلى التحكيم أمراً آخر هو عدم وجود حرج أي حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان، وانثلاج قلب وطيب نفس.
ثم لم يكتف بهذا كله بل ضم إليه قوله (ويسلّموا) أي يذعنوا وينقادوا ظاهراً وباطناً.
ثم لم يكتف بذلك بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال (تسليماً) فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ثم لا يجد الحرج في صدره بما قضى عليه ويسلم لحكمه وشرعه تسليماً لا يخالطه رد، ولا تشوبه مخالفة.(3/168)
قال الرازي: ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس، لأنه يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه على الاطلاق، وأنه لا يجوز العدول منه إلى غيره.
ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف، وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس.
وقوله (ثمّ لا يجدوا) إلى آخره مشعر بذلك لأنه متى خطر بباله قياس يفضي إلى نقيض مدلول النص فهناك يحصل الحرج في النفس، فبين تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يلتفت إلى ذلك الحرج ويسلم للنصّ تسليماً كلياً، وهذا الكلام قوي حسن لمن أنصف انتهى.
أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن عبد الله بن الزبير أن الزبير خاصم رجلاً من الانصار قد شهد بدراً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شراج من الحرة وكانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري وقال يا رسول الله إن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك (1).
واستوعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ (2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصاري استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك.
_________
(1) سبق ذكره.
(2) أي أغضب.(3/169)
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن الأسود أن سبب نزول الآية أنه اختصم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان فقضى بينهما فقال المقضي عليه ردّنا إلى عمر، فردهما فقتل عمر الذي قال: ردّنا، ونزلت الآية فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دم المقتول وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن مكحول فذكر نحوه، وبين أن الذي قتله عمر كان منافقاً، وهما مرسلان والقصة غريبة، وابن لهيعة فيه ضعف (1).
_________
(1) وفي سبب نزول الآية أربعة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي، فأتيا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقضى لليهودي، فلما خرجا، قال المنافق: ننطلق إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إليه، فقصّا عليه القصة، فقال: رويداً حتى أخرج إليكما، فدخل البيت، فاشتمل على السيف، ثم خرج، فضرب به المنافق حتى برد، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله ورسوله، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
والثاني: أن أبا بردة الأسلمي كان كاهناً يقضي بين اليهود، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة، عن ابن عباس.
والثالث: أن يهودياً ومنافقاً كانت بينهما خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي، لأنه لا يأخذ الرشوة، ودعا المنافق إلى حكامهم، لأنهم يأخذون الرشوة، فلما اختلفا، اجتمعا أن يحكما كاهناً، فنزلت هذه الآية، هذا قول الشعبي.
والرابع: أن رجلاً من بني النضير قتل رجلاً من بني قريظة، فاختصموا، فقال المنافقون منهم: انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن، فقال المسلمون من الفريقين: بل إلى النبي فأبى المنافقون فأتوا الكاهن.(3/170)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)(3/171)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
(ولو أنا كتبنا عليهم) أي على هؤلاء الموجودين من اليهود والمنافقين كما كتبنا على بني اسرائيل (1) (أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم) والمعنى لو كتب ذلك على المسلمين ما فعله إلا القليل منهم، والضمير في فعلوه راجع إلى المكتوب الذي دل عليه كتبنا أو إلى القتل والخروج المدلول عليهما بالفعلين، وتوحيد الضمير في مثل هذا قد قدمنا وجهه، وقرىء قليل بالرفع على البدل وبالنصب على الاستثناء والرفع عند النحاة أجود.
(ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به) من اتّباع الشرع والانقياد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لكان) ذلك (خيراً لهم) وأنفع في الدنيا والآخرة من غيره على تقدير أن الغير فيه خير، وهذا إذا كان على بابه، ويحتمل أنه بمعنى أصل الفعل أي لحصل لهم خيرهما (وأشدّ تثبيتاً) لإقدامهم على الحق فلا يضطربون في أمر دينهم.
_________
(1) ابن جرير 8/ 526 ونقله ابن كثير عن ابن أبي حاتم أيضاً.(3/171)
وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)
(وإذاً) أي وقت فعلهم لما يوعظون به (لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً) أي ثوابا وافراً جزيلاً وهو الجنة(3/171)
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
(ولهديناهم صراطاً مستقيماً) لا عوج فيه ليصلوا إلى الخير الذي يناله من امتثل ما أمر به وانقاد لمن يدعوه إلى الحق، قال ابن عباس: يعني دين الإسلام وقيل الأعمال الصالحة المؤدية إلى الصراط الذي يمر عليه الناس إلى الجنة.(3/171)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
(ومن يطع الله والرسول) كلام مستأنف لبيان فضل طاعة الله والرسول فيما أمرا به إيجاب أمر أو ندب، أو فيما نهيا عنه نهي تحريم أو كراهة، فالمراد بالطاعة الإنقياد التام لجميع الأوامر والنواهي.
والإشارة بقوله (فأولئك) أي المطيعين كما يفيده من (مع الذين أنعم الله عليهم) بدخول الجنة والوصول إلى ما أعد الله لهم (من النبيين) بيان للذين، وفي الآية سلوك طريق التدلّي فإن منزلة كل واحد من الأصناف الأربعة أعلى من منزلة ما بعده.
(والصدّيقين والشهداء والصالحين) الصدّيق المبالغ في الصدق كما تفيده الصيغة، وقيل هم فضلاً، أتباع الأنبياء، والشهداء من ثبت لهم الشهادة في سبيل الله أو الذين استشهدوا يوم أحد والأول أولى، والصالحون أهل الأعمال الصالحة، وقيل المراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبالصديقين أبو بكر، وبالشهداء عمر وعثمان وعلي وبالصالحين سائر الصحابة، والعموم أولى ولا وجه للتخصيص.
(وحسن أولئك) الأصناف الأربعة وفيه معنى التعجب كأنه قال: وما أحسن أولئك (رفيقاً) في الجنة، والرفيق مأخوذ من الرفق وهو لين الجانب والمراد به المصاحب لارتفاقك بصحبته، ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض، وإنما وحّد الرفيق وهو صفة الجمع لأن العرب تعبّر به عن الواحد والجمع.
وقيل معناه: وحسن كل واحد من أولئك رفيقاً في الجنة بأن يستمتع فيها(3/172)
برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم وإن كان مقرهم في الدرجات العالية بالنسبة إلى غيرهم.
وأخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والضياء المقدسي في صفة الجنة وحسنه عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي وإنك لأحب إليّ من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل جبريل بهذه الآية (1).
وقيل نزلت في ثوبان مولى (2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان شديد الحب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قليل الصبر عنه.
وعن أنس أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: وما أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحبّ الله ورسوله فقال: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء أشد فرحاً بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنت مع من أحببت، قال أنس فأنا أحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بأعمالهم، أخرجه الشيخان.
أقول: وأنا أيضاً أحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأتباعهم وأهل بيته وسلف الأمة وأئمتها سيما المحدثين منهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين حباً شديداً وأرجو أن يجمعني الله معهم في دار رحمته وكرامته بمنّه ولطفه، فإنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.
_________
(1) ابن جرير 8/ 534 وأبو نعيم في الحلية 8/ 125.
(2) ذكره الواحدي في أسباب النزول.(3/173)
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)(3/174)
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
(ذلك) أي ما ذكر من وصف الثواب أو كونهم مع من ذكر (الفضل) كائن (من الله) يعني الذي أعطى الله المطيعين من الأجر العظيم فضل تفضل به عليهم لا أنهم نالوه بطاعتهم (وكفى بالله عليماً) بجزاء من أطاعه، أو بعباده فهو يوفقهم لطاعته، فثقوا بما أخبركم به ولا ينبئك مثل خبير.
وفيه دليل على أنهم لم ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم، بل إنما نالوها بفضل الله ورحمته، ويدل عليه ما روى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يدخل أحد منكم عمله الجنة قيل: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلاّ أن يتغمّدني الله منه بفضل ورحمة أخرجه البخاري، ولمسلم نحوه (1).
_________
(1) مسلم 2816 - البخاري 35.(3/174)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
(يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) هذا خطاب لخُلّص المؤمنين وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله، والحذر والحذر لغتان كالمثل والمثل قال الفرا: أكثر الكلام الحذر، والحذر مسموع أيضاً يقال خذ حذرك أي إحذر وتيقظ له، قيل معنى الآية الأمر لهم بأخذ السلاح حذراً لأن به الحذر.
(فانفروا) نفر ينفر بكسر الفاء نفيراً ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفوراً، والمعنى إنهضوا لقتال العدو، أو النفير اسم للقوم الذين ينفرون. وأصله من النفار والنفور والنفر وهو الفزع، ومنه قوله تعالى (ولوا على أدبارهم(3/174)
نفوراً) أي نافرين، يقال نفر إليه أي فزع، والنفر الجماعة كالقوم والرهط والإسم النفر بفتحتين.
وقوله (ثُبات) جمع ثبة أي جماعة من الرجال فوق العشرة وقيل فوق الإثنين، والمعنى انفروا جماعات متفرقات سرية بعد سرية (أو انفروا جميعاً) أي مجتمعين جيشاً واحداً، ومعنى الآية الأمر لهم بأن ينفروا على أحد الوصفين ليكون ذلك أشد على عدوهم، وليأمنوا من أن يتخطفهم الأعداء إذا نفر كل واحد منهم وحده أو نحو ذلك.
وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى (انفروا خفافاً وثقالاً) وبقوله (إلا تنفروا يعذّبكم) والصحيح أن الآيتين جميعاً محكمتان (إحداهما) في الوقت الذي يحتاج فيه إلى نفور الجميع، (والأخرى) عند الاكتفاء بنفور البعض دون البعض (1).
_________
(1) قال أبو سليمان الدمشقي والأمر في ذلك بحسب ما يراه الإمام وليس في هذا المنسوخ بذلك.(3/175)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
(وإن منكم لمن ليبطّئن) التبطئة والإبطاء التأخر، والمراد المنافقون كانوا يقعدون عن الخروج ويقعدون غيرهم، والمعنى أن من دخلائكم وجنسكم ومن أظهر إيمانه لكم نفاقاً من يبطّيء المؤمنين ويثبّطهم، واللام في قوله (لمن) لام توكيد للإبتداء، وفي قوله (ليبطّئن) لام جواب القسم (1).
(فإن أصابتكم مصيبة) من قتل أو هزيمة أو ذهاب مال (قال) هذا المنافق (قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً) أي حاضر الوقعة حتى يصيبني ما أصابهم.
_________
(1) قال ابن الجوزي أنها نزلت في المنافقين كانوا يتأملون عن الجهاد ..(3/175)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)(3/176)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
(ولئن) لام قسم (أصابكم فضل من الله) أي غنيمة أو فتح ونسبة إضافة الفضل إلى جانب الله تعالى دون إصابة المصيبة من العادات الشريفة التنزيليّة، كما في قوله (وإذا مرضت فهو يشفين) وتقديم الشرطية الأولى لما أن مضمونها لمقصدهم أوفق، وأثر نفاقهم فيها أظهر.
(ليقولنّ) هذا المنافق قول نادم حاسد (كأن لم تكن بينكم وبينه مودّة) أي معرفة وصداقة حقيقية، وإلا فالمودة الظاهرة حاصلة بالفعل جملة معترضة، وقيل إن في الكلام تقديماً وتأخيراً، وقيل المعنى كأن لم نعاقدكم على الجهاد (يا) للتنبيه لا للنداء لدخولها على الحرف (ليتني كنت معهم) أي في تلك الغزوة التي فيها المؤمنون (فأفوز) معهم (فوزاً عظيماً) أفوز بالنصب على جواب التمني، وقرأ الحسن بالرفع أي فآخذ نصيباً وافراً من الغنيمة (1).
_________
(1) مسلم 1876 - البخاري 34. زاد المسير 2/ 131.(3/176)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
(فليقاتل في سبيل الله) قدم الظرف على الفاعل للإهتمام به (الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة) أي يبيعونها بها وهم المؤمنون، فالفاء جواب شرط مقدر أي إن أبطأ وتأخر هؤلاء عن القتال فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة أو الذين يشرونها ويختارونها على الآخرة وهم المبطئون، والمعنى حثهم على ترك ما حكى عنهم.
(ومن يقاتل في سبيل الله) لإعلاء دينه (فيُقتل) أي فيستشهد (أو(3/176)
يغلب) يعني يظفر بعدوه من الكفار، وذكر هذين الأمرين للإشارة إلى أن حق المجاهد أن يوطن نفسه على أحدهما ولا يخطر بباله القسم الثالث وهو مجرد أخذ المال (فسوف نؤتيه) في كلتا الحالتين الشهادة أو الظفر (أجراً عظيماً) يعني ثواباً وافراً.
وعد الله المقاتلين في سبيله بأنه سيؤتيهم أجراً عظيماً لا يقادر قدره، وذلك أنه إذا قتل فاز بالشهادة التي هي أعلى درجات الأجور، وان غلب وظفر كان له أجر من قاتل في سبيل الله مع ما قد ناله من العلو في الدنيا والغنيمة، وظاهر هذا يقتضي التسوية بين من قتل شهيداً أو انقلب غانماً.
وربما يقال إن التسوية بينهما إنما هي في إيتاء الأجر العظيم، ولا يلزم أن يكون أجرهما مستوياً فإن كون الشيء عظيماً هو من الأمور النسبية التي يكون بعضها عظيماً بالنسبة إلي ما هو دونه، وحقيراً بالنسبة إلى ما فوقه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو على ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة، أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم (1).
_________
(1) قال ابن عطية: المنافق يعاطي المؤمنين المودة، ويعاهد على التزام كلف الإسلام، ثم يتخلف نفاقاً وشكاً وكفراً بالله ورسوله، ثم يتمنى عندما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين فعلى هذا يجيء قوله تعالى: (كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) التفاتة بليغة، واعتراضاً بين القائل والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم " البحر المحيط " 3/ 293.(3/177)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)(3/178)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) خطاب للمؤمنين المأمورين بالقتال على طريق الالتفات (و) سبيل (المستضعفين من الرجال والنساء والولدان) حتى تخلصوهم من الأسر وتريحوهم مما هم فيه من الجهد، ويجوز أن يكون منصوباً على الأختصاص أي وأخص المستضعفين فإنهم من أعظم ما يصدق عليه سبيل الله، واختار الأول الزجاج والأزهري.
وقال محمد بن يزيد اختار أن يكون المعنى وفي المستضعفين فيكون عطفاً على السبيل لا على الجلالة وإن كانت أقرب على ما في تفسير الكواشي، لأن خلاص المستضعفين من أيدي المشركين سبيل الله لا سبيلهم.
والمراد بالمستضعفين هنا من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال الكفار، وهم الذين كان يدعو لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والستضعفين من المؤمنين كما في الصحيح.
وفيه دليل على أن الجهاد واجب، والمعنى لا عذر لكم في ترك الجهاد وقد بلغ حال المستضعفين ما بلغ من الضعف والأذى.
وقد أخرج البخاري عن ابن عباس قال: أنا وأمي من المستضعفين وفي رواية قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله وأنا من الولدان وأمي من النساء، ولا(3/178)
يبعد أن يقال إن لفظ الآية أوسع من هذا، والاعتبار بعموم اللفظ لولا تقييده بقوله (الذين يقولون) داعين (ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها) فإنه يشعر باختصاص ذلك بالمستضعفين الكائنين في مكة لأنه قد أجمع المفسرون على أن المراد بالقرية الظالم أهلها مكة (واجعل لنا من لدنك ولياً) يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا (واجعل لنا من لدنك نصيرًا) ينصرنا على أعدائنا.
وقد استجاب الله دعاءهم وجعل لهم من لدنه خير ولي وخير ناصر، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - فتولّى أمرهم ونصرهم واستنقذهم من أيدي المشركين يوم فتح مكة، وقال السيوطي: يسرّ لبعضهم الخروج وبقي بعضهم إلى أن فتحت مكة، وولّى - صلى الله عليه وسلم - عتاب بن أسيد فأنصف مظلومهم من ظالمهم انتهى، وكان ابن ثماني عشرة سنة قال الخازن: فكان يأخذ للضعيف من القوي وينصر المظلومين على الظالمين.(3/179)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله) يعني في طاعة الله وإعلاء كلمته، وابتغاء مرضاته، وهذا ترغيب للمؤمنين وتنشيط لهم بأن قتالهم لهذا المقصد لا لغيره (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) أي الشيطان أو الكهان أو الأصنام وتفسير الطاغوت هنا بالشيطان أولى لقوله (فقاتلوا أولياء الشيطان) وهم الكفار (إن كيد الشيطان) أي مكره ومكر من اتَّبعه من الكفار (كان ضعيفاً) فلا يقاوم نصر الله وتأييده.
وعن ابن عباس قال: إذا رأيتم الشيطان فلا تخافوه واحملوا عليه إن كيده كان ضعيفاً واهياً، وقال مجاهد كان الشيطان يتراءى لي في الصلاة فكنت أذكر قول ابن عباس فأحمل عليه فيذهب عني، والكيد السعي في الفساد على جهة الاحتيال.(3/179)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)
(ألم تر إلى الذين قيل لهم كفّوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) قيل هم جماعة من الصحابة أمروا بترك القتال في مكة بعد أن تسرعوا إليه فلما كتب عليهم بالمدينة ثبطوا عن القتال من غير شك في الدين بل خوفاً من الموت وفزعاً من هول القتل، وقال مجاهد: إنها نزلت في اليهود، وقيل في المنافقين أسلموا قبل فرض القتال، فلما فرض كرهوه، وهذا أشبه بالسياق لقوله (وقالوا ربنا -إلى قوله- قريب) وقوله إن تصبهم حسنة الآية، ويبعد صدور مثل هذا من الصحابة، وفيه دليل على أن فرض الصلاة والزكاة كان قبل فرض الجهاد.
(فلما كتب عليهم القتال) أي فرض عليهم جهاد المشركين وأمروا بالخروج إلى بدر (إذا فريق منهم) أي جماعة من الذين سألوا أن يفرض عليهم الجهاد (يخشون الناس) أي يخافون مشركي مكة (كخشية الله أو أشد خشية) أو للتنويع على أن معنى خشية بعضهم كخشية الله وخشية بعضهم أشد منها (وقالوا) جزعاً من الموت (ربنا لم كتبت علينا القتال) أي لم فرضت علينا الجهاد (لولا) هلا (أخّرتنا) يريدون المهلة (إلى أجل) أي وقت آخر (قريب) من الوقت الذي فرض عليهم فيه القتال.
والقائلون لهذا القول هم المنافقون، وقيل قاله بعض المؤمنين خوفاً وجبناً لا اعتقاداً ثم تابوا منه، وقال السدي: إلى أجل يعني إلى موت، فأمره الله(3/180)
سبحانه بأن يجيب عليهم فقال (قل متاع الدنيا) أي منفعتها والاستمتاع بها (قليل) سريع الفناء زائل لا يدوم لصاحبه آيل إلى الفناء (والآخرة) أي ثوابها (خير) من المتاع القليل (لمن اتّقى) الشرك والمعصية منكم ورغب في الثواب الدائم (ولا تظلمون فتيلاً) أي قدر قشرة يعني شيئاً حقيراً يسيراً وقد تقدم تفسير الفتيل قريباً.
وإذا كنتم توفّون أجوركم ولا تنقصون شيئاً منها فكيف ترغبون عن ذلك، وتشتغلون بمتاع الدنيا مع قلته وانقطاعه؟.
أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا نبي الله كنّا في عزّة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم، فلما حوّله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله هذه الآية (1) وعن قتادة نحوه.
_________
(1) ذكره الواحدي عن الكلبي، وروى ابن جرير 8/ 549 عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة! فقال: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا، فلما حوله الله إلى المدينة، أمر بالقتال فكفوا، فأنزل الله تبارك وتعالى:. (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم) الآية، وإسناده جيد، ورواه الحاكم في " المستدرك " مع اختلاف في لفظه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.(3/181)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)(3/182)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
(أينما تكونوا يدرككم الموت) كلام مبتدأ مسوق من قبله تعالى بطريق تلوين الخطاب وصرف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المخاطبين اعتناء بإلزامهم إثر بيان حقارة الدنيا وعلو شأن الآخرة، وفيه حث لمن قعد عن القتال خشية الموت، وبيان لفساد ما خالطه من الجبن وخامره من الخشية، فإن الموت إذا كان كائناً لا محالة، فمن لم يمت بالسيف مات بغيره (ولو كنتم في بروج) جمع برج وهو البناء المرتفع (مشيّدة) من شاد القصر إذا رفعه وطلاه بالشيد وهو الجص.
وقد اختلف في هذه البروج ما هي فقيل الحصون والقلاع التي في الأرض وقيل هي القصور المحصنة الرفيعة، قال الزجاج والقتبي: معنى مشيدة مطولة وقيل المراد بالبروج بروج في سماء الدنيا مبنية حكاه مكي عن مالك، وقال: ألا ترى إلى قوله (والسماء ذات البروج) (وجعل فيها بروجاً) (ولقد جعلنا في السماء بروجاً) وقيل إن المراد بالبروج المشيدة هنا قصور من حديد.
(وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله) هذا وما بعده مختص بالمنافقين أي إن تصبهم نعمة نسبوها إلى الله تعالى (وإن تصبهم سيئة) أي بلية ونقمة (يقولوا هذه من عندك) أي نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرد الله ذلك عليهم بقوله (قل كلّ) من النعمة والبلية (من عند الله) خلقا وإيجاداً من غير أن يكون له مدخل في وقوع شيء منهما بوجه من(3/182)
الوجوه وليس كما تزعمون، فأما الحسنة فإنعام من الله وأما السيئة فابتلاء منه.
ثم نسبهم إلى الجهل وعدم الفهم فقال (فما لهؤلاء القوم) أي فما بال هؤلاء المنافقين أو ما شأن اليهود الذين قالوا ما قالوا (لا يكادون) لا يقاربون (يفقهون حديثاً) من الأحاديث أصلاً أو معاني القرآن، وأن الأشياء كلها من الله.(3/183)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
(ما أصابك من حسنة) هذا الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس أو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعريضاً لأمّته أي ما أصابك من خصب ورخاء وخير ونعمة وصحة وسلامة (فمن الله) بفضله ورحمته إحساناً منه إليك، وتفضّلاً منه عليك (وما أصابك من سيئة) أي جهد وبلاء وشدة ومكروه ومشقة وأذى (فمن نفسك) أي بذنب أتيته وخطيئة اكتسبتها نفسك فعوقبت عليه، وقيل هذا من كلام الذين لا يفقهون حديثاً، وقيل إن ألف الاستفهام مضمرة أي أفمن نفسك ومثله قوله تعالى (وتلك نعمة تمنّها علي) والمعنى أو تلك نعمة ومثله قوله تعالى (فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي) أي أهذا ربي.
وقد ورد في الكتاب العزيز ما يفيد مفاد هذه الآية كقوله تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) وقوله (أو لمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنىّ هذا قل هو من عند أنفسكم).
وقد يظن أن قوله (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) مناف لقوله (كل من عند الله) ولقوله (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله) وقوله (نبلوكم بالشر والخير فتنة) وقوله (وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال).
وليس الأمر كذلك فالجمع ممكن فإضافة الأشياء كلها إلى الله حقيقة،(3/183)
وإلى فعل العبد مجازية، قال قتادة: حسنة أي نعمة وسيئة أي مصيبة (كل من عند الله) أي النعم والمصائب، وعن أبي العالية قال: إن تصبهم حسنة هذه في السراء والضراء (وما أصابك من حسنة) قال: هذه في الحسنات والسيآت.
وعن ابن عباس قال: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك وأما السيئة فابتلاك بها، وما أصابك من سيئة قال: ما أصابه يوم أحد أن شجّ وجهه وكسرت رباعيّته.
وقد تعلّق بظاهر هذه الآية القدرية وقالوا نفى الله السيئة عن نفسه ونسبها إلى الإنسان ولا متعلّق لهم بها لأنه ليس المراد منها الكسب، بل ما يصيب الناس من النعم والمحن، ولو كانت على ما يقول أهل القدر لقال ما أصبت من حسنة وما أصبت من سيئة ولم يقل ما أصابك، وقال ابن الأنباري: الفعلان راجعان إلى الله يعني ما أصابك الله به من حسنة ومن سيئة.
(وأرسلناك للناس رسولاً) فيه البيان لعموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الجميع كما يفيده التأكيد بالصدر والعموم في الناس ومثله قوله (وما أرسلناك إلا كافة للناس)، وقوله (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) وفيه جلالة منصبه ومكانته عند الله وبيان بطلان زعمهم الفاسد في حقه بناء على جهلهم بشأنه الجليل.
(وكفى بالله شهيداً) على ذلك أو على أن الحسنة والسيئة منه، والأول أولى، والمعنى شهيداً على إرسالك للناس أو على تبليغك ما أرسلت به إلى الناس.(3/184)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)(3/185)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
(من يطع الرسول فقد أطاع الله) فيه أن طاعة الرسول طاعة لله، وفي هذه من النداء بشرف رسول الله وعلو شأنه وارتفاع مرتبته ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه.
ووجهه أن الرسول لا يأمر إلا بما أمر الله به، ولا ينهي إلا ما نهى عنه، ولولا بيانه صلى الله عليه وآله وسلم ما كنا نعرف كل فريضة في كتاب الله كالحج والصلاة والزكاة والصوم كيف نأتيها، وقال الحسن: جعل الله طاعة رسوله طاعته وقامت به الحجة على المسلمين.
(ومن تولّى) أي أعرض عن طاعته (فما أرسلناك عليهم حفيظاً) أي حافظاً لأعمالهم، إنما عليك البلاغ، قيل وقد نسخ هذا بآية السيف.(3/185)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
(ويقولون) أمرنا أو شأننا (طاعة) أو نطيع طاعة، وهذه في المنافقين في قول أكثر المفسرين أي يقولون إذا كانوا عندك طاعة أي آمنا بك وصدقناك (فإذا برزوا) أي خرجوا (من عندك بيّت) أي زوّر (طائفة منهم) أي من هؤلاء القائلين وهم رؤساؤهم، ومن للتبعيض والتبييت التبديل يقال بيّت الرجل الأمر إذا في بره ليلاً ومنه قوله تعالى (إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول).
(غير الذي تقول) لهم أنت وتأمرهم به أو غير الذي تقول لك هي من(3/185)
الطاعة لك وقيل معناه غيروا وبدلوا وحرفوا قولك فيما عهدت إليهم (والله يكتب) أي يثبت في صحائف أعمالهم (ما يبيّتون) أي ما يزوّرون ويغيّرون ويقدّرون، وقال ابن عباس. ما يسرون من النفاق ليجازيهم عليه ويحفظه عليهم، وقال الزجاج: المعنى ينزّله عليك في الكتاب.
(فأعرض عنهم) أي دعهم وشأنهم حتى يمكن الانتقام منهم وقيل معناه لا تخبر بأسمائهم وقيل لا تعاقبهم، وقيل لا تغتر بإسلامهم (وتوكل على الله) أي ثق به وفوض أمرك إليه في شأنهم (وكفى بالله وكيلا) ناصراً لك عليهم، أمره بالتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه، قيل وهذا منسوخ بآية السيف.(3/186)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
(أفلا يتدبّرون القرآن) الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر أي يعرضون عن القرآن فلا يتدبرونه يقال تدبرت الشيء تفكرت في عاقبته وتأملته ثم استعمل في كل تأمل، والتدبر أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما يصير إليه عاقبته.
ودلت هذه الآية وقوله تعالى (أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها) على وجوب التدبر للقرآن ليعرف معناه، والمعنى أنهم لو تدبروه حق تدبره لوجدوه مؤتلفاً غير مختلف، صحيح المعاني قوي المباني، بالغاً في البلاغة إلى أعلى درجاتها، قال ابن عباس: أفلا يتفكرون فيرون تصديق بعضه لبعض وما فيه من الواعظ والذكر والأمر والنهي، وأن أحداً من الخلق لا يقدر عليه.
(ولو كان من عند غير الله) كما يزعمون (لوجدوا فيه اختلافاً) أي تفاوتاً وتناقضاً (كثيراً) قاله ابن عباس، ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات والسور لأن المراد اختلاف التناقض والتفاوت وعدم المطابقة للواقع، وهذا شأن كلام البشر لا سيما إذا طال وتعرض قائله للإخبار بالغيب فإنه لا يوجد منه صحيحاً مطابقاً للواقع إلا القليل النادر. عن قتادة يقول: أن قول الله لا يختلف وهو حق ليس فيه باطل وأن قول الناس يختلف.(3/186)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً (83)
(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) يقال أذاع الشيء وأذاع به إذا أفشاه وأظهره، وهؤلاء جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئاً من أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم أفشوه وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك، وقيل هم المنافقون كانوا يستخبرون عن حالهم ثم يشيعونه قبل أن يحدث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(ولو ردّوه إلى الرسول) حتى يكون هو الذي يتحدث به ويظهره (وإلى أولي الأمر منهم) وهم أهل العلم والبصيرة والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) أي يستخرجونه بتدبّرهم وصحة عقولهم.
والمعنى أنهم لو تركوا إذاعة الأخبار حتى يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يذيعها، أو يكون أولو الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك لأنهم يعلمون بما ينبغي أن يفشى ويكتم، والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته والنبط الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر عند حفرها، وقيل أن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها فتحصل بذلك المفسدة.
وفي الآية إشارة إلى جواز القياس، وأن من العلم ما يدرك بالنص وهو الكتاب والسنة ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس عليهما.(3/187)
(ولولا فضل الله) أي ما تفضل الله به (عليكم ورحمته) من إرسال رسوله وإنزال كتابه (لا تبعتم الشيطان) فيما يأمركم به فبقيتم على كفركم (إلا قليلاً) منكم أو إلا اتباعاً قليلاً، وقيل أذاعوا به إلا قليلاً منهم فإنه لم يذع ولم يفش، قاله الكسائي والأخفش والفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم وابن جرير، وقيل المعنى لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلاً منهم، قاله الزجاج وبه قال الحسن وقتادة واختاره ابن قتيبة والأول أولى (1).
_________
(1) قوله تعالى: (وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف) في سبب نزولها قولان.
أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اعتزل نساءه، دخل عمر المسجد، فسمع الناس يقولون: طلق رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه، فدخل على النبي عليه السلام فسأله أطلقت نساءك؟ قال: " لا " فخرج فنادى: ألا إن رسول الله لم يطلق نساءه. فنزلت هذه الآية. فكان هو الذي استنبط الأمر. انفرد بإخراجه مسلم، من حديث ابن عباس، عن عمر.
مسلم 1/ 1105 وهو حديث طويل فيه فوائد عظيمة، وتوجيهات قيمة، فارجع إليه.
والثاني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت أو غلبت، تحدثوا بذلك، وأفشوه، ولم يصبروا حتى يكون النبي هو المتحدث به. فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
وقد نص كلامه في " جامع البيان " 8/ 568، 571: وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين غازية بأنهم قد أمنوا من عدوهم بغلبتهم إياهم (أو الخوف) يقول: أو تخوفهم من عدوهم بإصابة عدوهم منهم، (أذاعوا به) يقول: أفشوه وبثوه في الناس قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل ما أتى سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ولو ردوا الأمر الذي نالهم من عدوهم والمسلمين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى أولي أمرهم، يعني: وإلى أمرائهم وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر حتى يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو ذوو أمرهم هم الذين يتولون الخبر عن ذلك، بعد أن تثبت عندهم صحته، أو بطوله، فيصححوه إن كان صحيحاً، أو يبطلوه إن كان باطلاً، لعلم حقيقة ذلك الخبر الذي جاءهم به، الذين يبحثون عنه.(3/188)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)(3/189)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
(فقاتل في سبيل الله لا تكلّف إلا نفسك) الفاء في قوله فقاتل قيل هي متعلقة بقوله (ومن يقاتل في سبيل الله) إلى آخره أي من أجل هذا فقاتل، وقيل متعلقة بقوله (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله فقاتل) وقيل تقديره إذا كان الأمر ما ذكر من عدم طاعة المنافقين فقاتل، أو إذا أفردوك أو تركوك فقاتل.
قال الزجاج: أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاد وإن قاتل وحده لأنه قد ضمن له النصر، قال ابن عطية: هذا ظاهر اللفظ إلا أنه لم يجىء في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة، والمعنى والله أعلم أنه خطاب له في اللفظ، وفي المعنى له ولأمّته أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك يقال له فقاتل في سبيل الله لا تكلف غير نفسك ولا تلزم فعل غيرك وهو استئناف مقرر لما قبله، لأن اختصاص تكليفه بفعل نفسه من موجبات مباشرته للقتال وحده.
وقرىء لا تكلف بالجزم على النهي وقرىء بالنون.
وفي الآية دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أشجع الناس وأعلمهم بأمور القتال، إذ لو لم يكن كذلك لما أمره بذلك، ولقد اقتدى به أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قتال أهل الردة على الخروج ولو وحده.(3/189)
(وحرّض المؤمنين) أي وحضهم على القتال والجهاد يقال حرضت فلاناً على كذا إذا أمرته به وحارض فلان على الأمر وأكب عليه وواظب عليه بمعنى واحد، والمعنى ليس عليك في شأنهم إلا التحريض والترغيب في الثواب فحسب لا التعنيف بهم.
(عسى الله أن يكف) فيه إطماع للمؤمنين بكفّ (بأس الذين كفروا) عنهم، والإطماع من الله عز وجل واجب فهو وعد منه سبحانه ووعده كائن لا محالة (والله أشدّ) أي أعظم (بأساً) أي صولة وسلطاناً وشدة وقوة (وأشد تنكيلاً) عقوبة وعذاباً يقال نكلت بالرجل تنكيلاً من النكال وهو العذاب والمنكّل الشيء الذي ينكل بالإنسان.(3/190)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
(من يشفع شفاعة حسنة) أصل الشفاعة والشفعة ونحوهما من الشفع وهو الزوج ومنه الشفيع لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا، ومنه ناقة شفوع إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة، وناقة شفيع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها، والشفع ضمّ واحد إلى واحد، والشفعة ضم ملك الشريك إلى ملكك فالشفاعة ضمّ غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال منفعة إلى المشفوع له، والشفاعة الحسنة هي في البرّ والطاعة فمن شفع في الخير لينفع (1).
(يكن له نصيب) حظ (منها) أي من أجرها، وقد بيّن النصيب في حديث من دعا لأخيه بظهر الغيب استجيب له، وقال له الملك آمين ولك بمثل " هذا " (1) فهذا بيان لمقدار النصيب الموعود به قاله أبو السعود، وعن أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً فجاء رجل يسأل
_________
(1) القرطبي 5/ 296.(3/190)
فأقبل علينا بوجهه وقال: اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء أخرجه الشيخان.
(ومن يشفع شفاعة سيئة) الظاهر أن إطلاق الشفاعة هنا من قبيل المشاكلة لأن حقيقتها اللغوية تقتضي أنها لا تكون إلا في الخير، قال الخازن: هي النميمة والغيبة ونقل الحديث لإيقاع العداوة بين الناس، وقيل المراد دعاء اليهود على المسلمين وقيل معناه من يشفع كفره بقتال المؤمنين.
(يكن له كفل منها) أي من وزرها والكفل الوزر، واشتقاقه من الكساء الذي يجعله الراكب على سنام البعير لئلا يسقط، يقال اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيباً منه، ويستعمل في النصيب من الخير والشر، ومن استعماله في الخير قوله تعالى (يؤتكم كفلين من رحمته).
(وكان الله على كل شيء مقيتاً) أي مقتدراً قاله الكسائي، وقال الفراء: المقيت الذي يعطي كل إنسان قوته، يقال قته أقوته قوتاً وأقته أقيته إقاتة فأنا قائت ومقيت، وحكى الكسائي: أقات يقيت وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ، قال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القوت والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان، وقال ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر والحافظ والشاهد، وقال مجاهد: مقيتاً أي شهيداً حسيباً حفيظاً، وقال سعيد ابن جبير وابن زيد قادراً قديراً وعن الضحاك المقيت الرزاق (1).
_________
(1) والشافع يؤجر فيما يجوز وإن لم يُشفع؛ لأنه تعالى قال: (من يشفع) ولم يقل يشفع. وفي صحيح مسلم " أشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما أحب ".
وجاء في الحديث: " كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت " و " يقيت " ذكره الثعلبي: وحكى ابن فارس في المجمل: المقيت المقتدر، والمقيت الحافظ والشاهد، وما عنده قيت ليلة وقوت ليلة. والله أعلم.(3/191)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)(3/192)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
(وإذا حييتم بتحية) ترغيب في فرد شائع من أفراد الشفاعة الحسنة بعد الترغيب فيها على الإطلاق، فإن تحية السلام شفاعة من الله للمسلم عليه، وأصل التحية تفعلة من حييت، والأصل تحيية مثل ترضية وأصلها الدعاء بالحياة والتحية السلام.
وهذا المعنى هو المراد هنا ومثله قوله تعالى (وإذا جاؤوك حيّوك بما لم يحييّك به الله) وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين، وروى عن مالك أن المراد بالتحية هنا تشميت العاطس، وقال أصحاب أبي حنيفة التحية هنا الهدية لقوله (أو ردوها) ولا يمكن رد السلام بعينه وهذا فاسد لا ينبغي الإلتفات إليه.
والمراد بقوله (فحيّوا بأحسن منها) أي بأن يزيد في الجواب على ما قاله المبتدىء بالتحية، فإذا قال المبتدىء السلام عليكم قال المجيب وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا زاد المبتدىء لفظاً زاد المجيب على جملة ما جاء به المبتدىء لفظاً أو ألفاظاً نحو: وبركاته وتحياته ومرضاته.
قال القرطبي: أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغّب فيها ورده فريضة لقوله (فحيّوا بأحسن منها) وإنما اختار الشرع لفظ السلام على لفظ حيّاك الله لأنه أتم وأحسن وأكمل ولأن السلام من أسمائه تعالى.
(أو ردّوها) أي ردوا عليه كما سلم عليكم واقتصروا على مثل اللفظ الذي جاء به المبتديء فظاهر الآية أنه لو رد عليه بأقل مما سلم عليه به أنه لا(3/192)
يكفي، وظاهر كلام الفقهاء أنه يكفي، وحملوا الآية على أنه الأكمل.
واختلفوا إذا رد واحد من جماعة هل يجزىء أوْلاً؟ فذهب مالك والشافعي إلى الإجزاء وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجزىء عن غيره، ويرد عليهم حديث علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزىء عن الجلوس أن يرد أحدهم (1) أخرجه أبو داود وفي إسناده سعيد بن خالد الخزاعي المدني وليس به بأس، وقد ضعفه بعضهم، وقد حسّن الحديث ابن عبد البر.
وقد ورد في السنة المطهرة في تعيين من يبتديء بالسلام ومن يستحقّ التحية ومن لا يستحقها وفي فضل السلام والحث عليه وكيفية السلام وما له من الأحكام ما يغني عن البسط ههنا.
(إن الله كان على كل شيء حسيباً) يحاسبكم على كل شيء وقيل معناه مجازياً وقيل كافياً من قولهم أحسبني كذا أي كفاني ومثله حسبك.
_________
(1) وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلق الله عز وجل آدم على صورته طوله ستون ذراعاً فلما خلقه قال اذهب فسلم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحييونك فإنها تحيتك وتحيّة ذريتك -قال: فذهب فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله- قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم وطوله ستون ذراعاً فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن ".(3/193)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
(الله لا إله إلا هو ليجمعنّكم) بالحشر (إلى) حساب (يوم القيامة) أي يوم القيام من القبور، وقيل إلى بمعنى في واختاره القاضي كالكشاف وقيل إنها زائدة (لا ريب فيه) أي في يوم القيامة أو في الجمع أي جمعاً لا ريب فيه، وهذه الآية نزلت في منكري البعث (ومن أصدق من الله حديثاً) إنكار لأن يكون أحد أصدق منه سبحانه، والصاد الأصل وقد تبدل زاياً لقرب مخرجها منها، ولهذا قرأ حمزة والكسائي ومن أزدق بالزاي.(3/193)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)(3/194)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
(فما لكم) الاستفهام للإنكار والمعنى أي شيء كائن لكم (في المنافقين) أي في أمرهم وشأنهم، قال القرطبي: والمراد بهم هنا عبد الله بن أبيّ وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا كما تقدم في آل عمران، حال كونكم (فئتين) في ذلك وحاصله الإنكار على المخاطبين أن يكون لهم شيء يوجب اختلافهم في شأن المنافقين.
وسبب نزول الآية به يتضح المعنى فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم فرقتين، فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول لا فأنزل الله (فما لكم في المنافقين) الآية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها طيبة وأنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة (1)، هذا أصح ما روى في سبب نزول الآية وقد رويت أسباب غير ذلك.
(والله أركسهم) حكى الفراء والنضر بن شميل والكسائي أركسهم وركسهم أي ردهم إلى الكفر ونكسهم، فالركس والنكس قلب الشيء على رأسه أو رد أوله إلى آخره والمنكوس المركوس (بما كسبوا) الباء للسببية أي أركسهم بسبب كسبهم وهو لحوقهم بدار الكفر.
_________
(1) زاد المسير 2/ 153.(3/194)
والاستفهام في قوله (أتريدون) للتقريع والتوبيخ (أن تهدوا من أضل الله) وهذا خطاب للفئة التي دافعت عن المنافقين، وفيه دليل على أن من أضله الله لا ينجح فيه هداية البشر (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) (ومن يضلل الله) عن الهدى (فلن تجد له سبيلاً) أي طريقاً إلى الهداية.(3/195)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
(ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هؤلاء المنافقين، وإيضاح أنهم يودون أن يكفر المؤمنون كما كفروا، ويتمنون ذلك عناداً وغلواً في الكفر وتمادياً في الضلال، وقيل ودوا كفركم ككفرهم وودوا مساواتكم لهم (فلا تتخذوا منهم أولياء) أي إذا كان حالهم ما ذكر من ودادة كفركم فلا تتخذوهم أولياء وجمع الأولياء لمراعاة جمعية المخاطبين، فالمراد النهي عن أن يُتخذ منهم وليّ ولو واحداً.
(حتى يهاجروا في سبيل الله) هجرة صحيحة تحقق إيمانهم، والمراد بالهجرة هنا الخروج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقتال في سبيله مخلصين صابرين محتسبين، قال عكرمة: هي هجرة أخرى (1).
(فان تولّوا) عن الهجرة للقتال في سبيل الله (فخذوهم) إذا قدرتم عليهم (واقتلوهم حيث وجدتموهم) في الحل والحرم، فإن حكمهم حكم سائر المشركين قتلاً وأسراً (ولا تتخذوا منهم ولياً) توالونه (ولا نصيراً) تستنصرون به.
_________
(1) " المسند " 5/ 184، والبخاري: 8/ 193 ومسلم 4/ 2142. قال الحافظ في " الفتح " وهذا هو الصحيح في سبب نزولها. وفي " الفتح ": وقوله: " رجع ناس ممن خرج معه " يعني عبد الله بن أبي وأصحابه، وقد ورد ذلك صريحاً في رواية موسى بن عقبة في " المغازي "، وأن عبد الله بن أبي كان وافق رأيه رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإقامة بالمدينة، فلما أشار غيره بالخروج، وأجابهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج، قال عبد الله بن أبي: أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا؟ فرجع بثلث الناس.(3/195)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)
(إلا الذين) هذا مستثنى من الأخذ والقتل فقط، وأما الموالاة فحرام مطلقاً لا تجوز بحال (يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) بالجوار والحلف فلا تقتلوهم لما بينكم وبينهم عهد وميثاق، فإن العهد يشملهم، هذا أصح ما قيل في معنى الآية، وقيل الاتصال هنا هو اتصال النسب: والمعنى إلا الذين ينتسبون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، قاله أبو عبيدة (1).
وقد أنكر ذلك عليه أهل العلم لأن النسب لا يمنع من القتال بالإجماع، فقد كان بين السلمين وبين المشركين أنساب ولم يمنع ذلك من القتال.
وقد اختلف في هؤلاء القوم الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ميثاق، فقيل هم قريش كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ميثاق، والذين يصلون إلى قريش هم بنو مدلج وقيل نزلت في هلال ابن عويم وسراقة بن جعثم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهد، وقيل خزاعة، وقيل بنو بكر بن زيد.
(أو جاؤوكم حصرت صدورهم) والحصر الضيق والإنقباض، وقال محمد بن يزيد المبرد: هو دعاء عليهم كما تقول لعن الله الكافر، وضعفه بعض المفسرين، وقيل أو بمعنى الواو (أن يقاتلوكم) مع قومهم (أو يقاتلوا قومهم) معكم فضاقت صدورهم عن قتال الطائفتين وكرهوا ذلك.
_________
(1) زاد السير 2/ 157 و158.(3/196)
(ولو شاء الله لسلّطهم عليكم) ابتلاء منه لكم واختباراً كما قال سبحانه: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) أو تمحيصاً لكم أو عقوبة بذنوبكم، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فألقى في قلوبهم الرعب (فلقاتلوكم) يذكر الله منّته على المسلمين بكف بأس المعاهدين (1).
(فإن اعتزلوكم) عن قتالكم (فلم يقاتلوكم) أي لم يعترضوا لقتالكم (وألقوا إليكم السلم) أي استسلموا لكم وانقادوا (فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً) أي طريقاً فلا يحل لكم قتلهم ولا أسرهم ولا نهب أموالهم، فهذا الاستسلام يمنع من ذلك ويحرمه، قيل هذا منسوخ بآية القتال، وقيل محكمة محمولة على المعاهدين وهذا هو الظاهر (2).
_________
(1) قال ابن كثير رحمه الله: ثم استثنى الله سبحانه من هؤلاء فقال: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق) أي: إلا الذين لجؤوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة، أو عقد ذمة، فاجعلوا حكمهم كحكمهم، وهذا قول السدي، وابن زيد، وابن جرير وانظر تفصيل القول في " المغني " 10/ 513، و " نيل الأوطار " 8/ 176.
(2) وقال ابن كثير 1/ 533: وروي ابن أبي حاتم، حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة، عن علي ابن زيد بن جدعان، عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم، قال: لما ظهر يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم، قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة. فقالوا: صَهْ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوه ما تريد؟ قال: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا، لم تخشن قلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - بيد خالد ابن الوليد، فقال: اذهب معه فافعل ما يريد، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن أسلمت قريش أسلموا، فأنزل الله (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونوا سواء فلا تتخذوا منهم أولياء).(3/197)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
(ستجدون آخرين) والسين للاستمرار لا للاستقبال كقوله تعالى سيقول السفهاء قال السفاقسي: والحق أنها للاستقبال في الاستمرار للفعل لا في ابتدائه (يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم) فيظهرون لكم الإسلام ويظهرون لقومهم الكفر ليأمنوا من كلا الطائفتين، وهم قوم من أهل تهامة طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليأمنوا عنده وعند قومهم، وقيل هم قوم من أهل مكة.
وقيل نزلت في نعيم بن مسعود فإنه كان يأمن المسلمين والمشركين، وقيل في قوم من المنافقين، وقيل في أسد وغطفان.
(كلما ردّوا إلى الفتنة) أي دعاهم قومهم إليها وطلبوا منهم قتال المسلمين (أركسوا فيها) أي قلبوا فرجعوا إلى قومهم وقاتلوا المسلمين ومعنى الارتكاس الانتكاس.
(فإن لم يعتزلوكم) يعني هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، لم يكفوا عن قتالكم حتى يسيروا إلى مكة (ويلقوا إليكم السلم) أي يستسلمون لكم ويدخلون في عهدكم وصلحكم وينسلخون عن قومهم (ويكفّوا أيديهم) عن قتالكم (فخذوهم) يعني أسرى (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) أي حيث وجدتموهم وتمكنتم منهم.
(وأولئكم) الموصوفون بتلك الصفات (جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً) أي حجة واضحة تتسلطون بها عليهم وتقهرونهم بها بسبب ما في قلوبهم من المرض وما في صدورهم من الدغل وارتكاسهم في الفتنة بأيسر عمل وأقل سعي.(3/198)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
(وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً) هذا النفي هو بمعنى النهي المقتضي للتحريم كقوله تعالى (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) ولو كان هذا النفي على معناه لكان خبراً وهو يستلزم صدقه فلا يوجد مؤمن قتل مؤمناً قط، وقيل المعنى ما كان له ذلك في عهد الله، وقيل ما كان له ذلك فيما سلف كما ليس له الآن ذلك بوجه.
ثم استثنى منه استثناء منقطعاً فقال (إلا خطأً) أي ما كان له أن يقتله ألبتّة لكن إن قتله خطأ فعليه كذا، هذا قول سيبويه والزجاج، وقيل هو استثناء متصل، والمعنى وما ثبت ولا وجد ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطاً إذ هو مغلوب حينئذ، وقيل المعنى ولا خطأً.
قال النحاس: ولا يعرف ذلك في كلام العرب ولا يصح في العنى لأن الخطأ لا يحظر، وقيل المعنى لا ينبغي أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده فيكون قوله (خطأ) منتصباً بأنه مفعول له.
ووجوه الخطأ كثيرة ويضبطها عدم القصد، والخطأ اسم من أخطأ خطأ إذا لم يتعمد، أخرج ابن جرير عن عكرمة قال كان الحرث بن يزيد من بني(3/199)
عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ثم خرج مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني الحرث فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فنزلت (وما كان لمؤمن) الآية فقرأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال له: قم فحرر، أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن السدي بأطول من هذا، وقد روي من طرق غير هذه، وقال ابن زيد نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سريّة فحمل عليه بالسيف فقال لا إله إلا الله فضربه.
(ومن قتل مؤمناً خطئاً) بأن قصد رمي غيره كصيد أو شجرة فأصابه أو ضربه بما لا يقتل غالباً (فتحرير) أي فعليه تحرير (رقبة) أي نسمة (مؤمنة) يعتقها كفارة عن قتل الخطأ، وعبّر بالرقبة عن جميع الذات.
واختلف العلماء في تفسير الرقبة المؤمنة فقيل هي التي صلت وعقلت الإيمان فلا تجزىء الصغيرة، وبه قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم، وقال عطاء بن أبي رباح إنها تجزىء الصغيرة المولودة بين المسلمين.
وقال جماعة منهم مالك والشافعي يجزيء كل من حكم له بوجوب الصلاة عليه إن مات، ولا يجزيء في قول جمهور العلماء أعمى ولا مقعد ولا أشل، ويجزىء عند الأكثر الأعرج والأعور، قال مالك: إلا أن يكون عرجاً شديداً، ولا يجزىء عند أكثرهم المجنون، وفي المقام تفاصيل طويلة مذكورة في علم الفروع.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والبيهقي عن أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال: يا رسول الله إن عليّ عتق رقبة مؤمنة فقال لها: أين الله، فأشارت إلى السماء بأصبعها فقال: فمن أنا(3/200)
فأشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى السماء أي أنت رسول الله فقال أعتقها فإنها مؤمنة (1)، وقد روى من طرق وهو في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي.
(ودية) هي ما يعطى عوضاً عن دم المقتول إلى ورثته (مسلّمة) أي مدفوعة مؤداة (إلى أهله) المراد بهم الورثة، وأجناس الدية وتفاصيلها قد بينتها السنة المطهرة، وقد وردت أحاديث في تقدير الدية، وفي الفرق بين دية الخطأ ودية شبه العمد، ودية المسلم ودية الكافر، وهي معروفة فلا حاجة لنا في ذكرها في هذا الموضوع.
(إلا أن يصدّقوا) أي إلا أن يتصدق أهل المقتول على القاتل بالدية بأن يعفوا عنها، فسمى العفو عنها صدقة ترغيباً فيه، وهذه الجملة المستثناة متعلقة بقوله (ودية مسلّمة) أي فعليه دية مسلمة إلا أن يقع العفو من الورثة عنها.
(فإن كان) المقتول (من قوم عدو لكم) وهم الكفار الحربيون (وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) هذه مسئلة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم ثم أسلم ولم يهاجر، وهم يظنون أنه لم يسلم، وأنه باق على دين قومه فلا دية على قاتله، بل عليه تحرير رقبة مؤمنة.
واختلفوا في وجه سقوط الدية فقيل وجهه أن أولياء القتيل كفار لا حق لهم في الدية، وقيل وجهه أن هذا الذي آمن ولم يهاجر حرمته قليلة لقول الله تعالى (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء) وقال بعض أهل العلم: إن ديته واجبة لبيت المال.
(وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) أي عهد مؤقت أو مؤبد كأهل
_________
(1) مسلم 537.(3/201)
الذمّة، وقرأ الحسن وهو مؤمن (فدية) أي فعلى قاتله دية (مسلّمة) مؤداة (إلى أهله) من أهل الإسلام وهم ورثته وهي ثلث دية المؤمن إن كان يهودياً أو نصرانياً، وثلثا عشرها إن كان مجوسياً (وتحرير رقبة مؤمنة) على قاتله كما تقدم (1).
(فمن لم يجد) أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها (فصيام) أي فعليه صيام (شهرين متتابعين) لم يفصل بين يومين من أيام صومها إفطار في نهار، فلو أفطر استأنف، هذا قول الجمهور، وأما الإفطار لعذر شرعي كالحيض ونحوه فلا يوجب الاستئناف، واختلف في الإفطار لعروض المرض، ولم يذكر الله سبحانه الإنتقال إلى الطعام كالظهار، وبه أخذ الشافعي.
(توبة) أي شرع ذلك لكم قبولاً لتوبتكم أو تاب عليكمٍ توبة أو حال كونه ذا توبة كائنة من الله، قال سعيد بن جبير: يعني تجاوزاً من الله لهذه الأمة حيث جعل في قتل الخطأ الكفارة (وكان الله عليماً) بمن قتل خطأً (حكيماً) فيما حكم به عليه من الدية والكفارة، وأحكام الديات محلها كتب الفروع فلا نطول بذكرها.
_________
(1) في " الكافي " 3/ 78: ودية الكتابي نصف دية المسلم، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ودية المعاهد نصف دية المسلم " رواه أبو داود. وروي عنه: أن ديته ثلث الدية، لما روي أن عمر: جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، إلا أنه رجع عن هذه الرواية، وقال: كنت أذهب إلى أن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، فأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم. قلت: أما حديث عمرو بن شعيب فرواه أيضاً أحمد والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن ماجة، وهو حديث حسن. وأما أثر عمر فقد رواه عنه سعيد بن المسيب، وهو منقطع، لأن سعيداً لم يسمع من عمر.(3/202)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
(ومن يقتل مؤمناً متعمداً) أى قاصداً لقتله، لما بين سبحانه حكم القاتل خطأ بين حكم القاتل عمداً، وقد اختلف العلماء في معنى العمد فقال عطاء والنخعي وغيرهما: هو القتل بحديدة كالسيف والخنجر وسنان الرمح ونحو ذلك من المحدود، أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها (1).
وقال الجمهور: إنه كل قتل من قاتل قاصد للفعل بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بغير ذلك، وقيده بعض أهل العلم بأن يكون بما يقتل مثله في العادة.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: عمد وشبه عمد وخطأ، واستدلوا على ذلك بأدلة ليس هذا مقام بسطها.
وذهب آخرون إلى أنه ينقسم إلى قسمين عمد وخطأ، ولا ثالث لهما، واستدلوا بأنه ليس في القرآن إلا القسمان، ويجاب عن ذلك بأن اقتصار القرآن على القسمين لا ينفي ثبوت قسم ثالث بالسنة وقد ثبت ذلك بالسنة.
(فجزاؤه جهنم خالداً فيها) أي فجُعل جزاؤه ذلك بكفره وارتداده أو حكم عليه بها، وهو الذي استثناه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة عمّن أمّنه من أهلها فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة (وغضب الله عليه) لأجل كفره وقتله المؤمن متعمداً (ولعنه) طرده عن رحمته (وأعد له عذاباً عظيماً) في النار.
وقد جاءت هذه الآية بتغليظ عقوبة القاتل عمداً فجمع الله له فيها بين كون جهنم جزاء له أي يستحقها بسبب هذا الذنب، وبين كونه خالداً فيها،
_________
(1) زاد المسير 2/ 166.(3/203)
وبين غضب الله ولعنته له وإعداده له عذاباً عظيماً، وليس وراء هذا التشديد تشديد، ولا مثل هذا الوعيد وعيد.
وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف فيها علماء أهل الكوفة فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية (ومن يقتل مؤمناً متعمداً) وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء، وقد روى النسائي عنه وعن زيد بن ثابت نحوه.
وممّن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة وعبد الله بن عمرو وأبو سلمة وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم نقله ابن أبي حاتم عنه.
وذهب الجمهور إلى أن التوبة منه مقبولة واستدلوا بمثل قوله تعالى (إن الحسنات يذهبن السيئآت) وقوله (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) وقوله (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وقوله (وإني لغفار لمن تاب).
قالوا أيضاً: والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان فيكون معناهما: فجزاؤه جهنم إلا من تاب لا سيما وقد اتحد السبب وهو القتل والموجب وهو التوعّد بالعقاب.
واستدلوا أيضاً بالحديث المذكور في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " ثم قال: فمن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه (1)، وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره في الذي قتل مائة نفس.
_________
(1) مسلم 1709 - البخاري 18.(3/204)
وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي إلى أن القاتل عمداً داخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب، وقد أوضح الشوكاني في شرحه على المنتقى متمسك كل فريق، والحق أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص بل هو مفتوح لكل من قصده ورام للدخول منه، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله ويقبل من صاحبه الخروج منه والدخول في باب التوبة فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمداً.
لكن لا بد في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل وتسليم نفسه للقصاص أن كان واجباً أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجباً وكان القاتل غنياً متمكناً من تسليمها أو بعضها، وأما مجرد التوبة من القاتل عمداً وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد من دون اعتراف ولا تسليم نفس فنحن لا نقطع بقبولها، والله أرحم الراحمين هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.
وقد تعلقت المعتزلة وغيرهم بهذه الآية على أن الفاسق يخلد في النار، والجواب أن الآية نزلت في كافر قتل مسلماً، وهو مقيس بن ضبابة، وهي على هذا مخصوصة، وقيل المعنى من قتل مسلماً مستحلاً لقتله وهو كفر، وعن أبي مجلز قال: هي جزاؤه فإن شاء الله أن يتجاوز عن جزائه فعل، أخرجه أبو داود.
وقيل الخلود لا يقتضي التأبيد بل معناه طول المكث. قاله البيضاوي.
وقد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحيحة إخراج جميع الموحدين من النار، قال الكرخي: الظاهر أنه أراد التشديد والتخويف والزجر العظيم عن قتل المؤمن لا أنه أراد بعدم قبول توبته عدمه حقيقة، وظاهره أن الآية من المحكم لأنه لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي ولو بلفظ الخبر، أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله نسخ ومنه الوعد والوعيد قاله الجلال في الإتقان.(3/205)
قال أبو السعود: في الآية الكريمة من التهديد الشديد والوعيد الأكيد وفنون الإبراق والإرعاد ما تراه، وقد تأيّدت بما روى من الأخبار الشداد، كقوله - صلى الله عليه وسلم - " والذي نفسي بيده لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مؤمن " (1) وقوله: " لو أن رجلاً قتل بالمشرق وآخر رضي بالمغرب لأشرك في دمه " وقوله: " من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله " (2) ونحو ذلك من القوارع.
ولا متمسك للمعتزلة فيها لأن المراد بالخلود هو المكث الطويل لا الدوام، وقد روي مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " هو جزاؤه إن جازاه ".
قال الواحدي: والأصل في ذلك أن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد، وإن امتنع أن يحلف الوعد، وبهذا وردت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال " من وعده الله على عمله ثواباً فهو منجزه له، ومن أوعده على عمله عقاباً فهو بالخيار ".
والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل المذكور، لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه بذلك، كيف لا وقد قال الله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) ولو كان هذا إخباراً بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها لعارضة قوله تعالى (ويعفو عن كثير) انتهى كلام أبي السعود ملخصاً.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 4954.
(2) ضعيف الجامع الصغير 5455.(3/206)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
(يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا) هذا متصل بذكر الجهاد والقتال، والضرب السير في الأرض، تقول العرب ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيرهما، وتقول ضربت الأرض بدون في، إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يخرج الرجلان يضربان الغائط ".
والتبيّن هو التأمل وهي قراءة الجماعة، إلا حمزة فإنه قرأ (فتثبتوا) من التثبت، واختار القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم قالا: لأن من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبت، وإنما خص السفر بالأمر بالتبين مع أن التبيُنّ والتثبت في أمر القتل واجبان حضراً وسفراً بلا خلاف لأن الحادثة التي هي سب نزول الآية كانت في السفر (1).
(ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام) وقريء السلم ومعناهما واحد، واختار أبو عبيد (السلام) وخالفه أهل النظر فقالوا السلم هنا أشبه لأنه بمعنى الانقياد والتسليم، والمراد هنا لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم (لست مؤمناً) فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام وقيل هما بمعنى الإسلام أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام أي كلمته وهي الشهادة لست مؤمناً.
_________
(1) ضعيف الجامع الصغير 6351.(3/207)
وقيل هما بمعنى التسليم وهو تحية أهل الإسلام أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم فقال السلام عليكم لست مؤمناً، وإنما قلت هذا تقيّة لنفسك ومالك، والمراد نهي المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه ويقولوا إنه إنما جاء بذلك تعوذاً وتقيّة.
ومؤمناً من أمّنته إذا أجرته فهو مؤمّن، وقيل المعنى لست من أهل الإيمان.
وقد استدل بهذه الآية على أن من قتل كافراً بعد أن قال لا إله إلا الله قتل به لأنه قد عصم بهذه الكلمة دمه وماله وأهله، وإنما أسقط القتل عمن وقع منه ذلك في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم تأولوا فظنوا أن من قالها خوفاً من السلاح لا يكون مسلماً ولا يصير بها دمه معصوماً، وأنه لا بد أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف.
وفي حكم التكلم بكلمة الإسلام إظهار الإنقياد بأن يقول أنا مسلم أو أنا على دينكم، لما عرفت من أن معنى الآية الاستسلام والانقياد، وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام من قول أو عمل، ومن جملة ذلك كلمة الشهادة وكلمة التسليم، فالقولان الآخران في معنى الآية داخلان تحت القول الأول.
وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: لحق ناس من المسلمين رجلاً معه غنيمة له فقال السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته، فنزلت هذه الآية، وفي سبب النزول روايات كثيرة وهذا الذي ذكرناه أحسنها.
(تبتغون عرض الحياة الدنيا) أي لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة، على أن يكون النهي راجعاً إلى القيد والقيد لا إلى القيد فقط، وسمي متاع الدنيا عرضاً لأنه عارض زائل غير ثابت.(3/208)
قال أبو عبيدة: يقال جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء، وأما العرض بسكون الراء فهو ما سوى الدنانير والدراهم، فكل عرض بالسكون عرض بالفتح، وليس كل عرض بالفتح عرضاً بالسكون، وفي كتاب العين: العرض ما نيل من الدنيا ومنه قوله تعالى (تريدون عرض الدنيا) وجمعه عروض.
وفي المجمل لإبن فارس: والعرض ما يعترض للإنسان من مرض ونحوه وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو كثر، والعرض من الأثاث ما كان غير نقد.
(فعند الله) هو تعليل للنهي أي عند الله مما هو حلال لكم من دون ارتكاب محظور (مغانم كثيرة) تغنمونها وتستغنون بها عن قتل من قد استسلم وانقاد وإغنام ماله، وقيل فعنده ثواب كثير لمن اتقى قتل المؤمن، والمغانم جمع مغنم وهو يصلح للمصدر والزمان والمكان، ثم يطلق على ما يؤخذ من مال العدو، إطلاقاً للمصدر على اسم المفعول نحو ضرب الأمير.
(كذلك كنتم من قبل) أي كنتم مثل الرجل المذكور في مبادئ الإسلام كفاراً فحقنت دماؤكم لما تكلمتم بكلمة الشهادة أو كذلك كنتم من قبل تخفون إيمانكم عن قومكم خوفاً على أنفسكم حتى منّ الله عليكم بإعزاز دينه فأظهرتم الإيمان وأعلنتم به.
(فمنّ الله عليكم) يعني بالإسلام والهداية فلا تقتلوا من قال لا إله إلا الله أو منّ عليكم بإعلان الإسلام بعد الإختفاء، وقيل بالتوبة (فتبيّنوا) ولا تعجلوا بقتل مؤمن، وكرر الأمر بالتبين للتأكيد عليهم لكونه واجباً لا فسحة فيه ولا رخصة (إن الله كان بما تعملون خبيراً) فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.(3/209)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
(لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في
سبيل الله بأموالهم وأنفسهم).
التفاوت بين درجات من قعد عن الجهاد من غير عذر، ودرجات من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه وإن كان معلوماً لكن أراد سبحانه بهذا الإخبار تنشيط المجاهدين ليرغبوا، وتبكيت القاعدين ليأنفوا، ونحوه قوله تعالى (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) فهو تحريك لطالب العلم، وتوبيخ على الرضا بالجهل.
وغير أولي الضرر بالرفع على أنه صفة للقاعدين كما قال الأخفش لأنهم لا يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير وبكسر الراء على أنه وصف للمؤمنين وبفتحها على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين أي إلا أولي الضرر فإنهم يستوون مع المجاهدين.
ويجوز أن يكون منتصباً على الحال من القاعدين أي لا يستوي القاعدون الأصحاء في حال صحتهم، وجازت الحال منهم لأن لفظهم لفظ المعرفة.
قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار من مرض أو عاهة من عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها لأنها أضرت بهم حتى منعتهم عن الجهاد، وظاهر النظم القرآني أن صاحب العذر يعطى مثل أجر المجاهد، وقيل يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله المجاهد بالتضعيف لأجل المباشرة.(3/210)
قال القرطبي: والأول أصح إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك " إن بالمدينة رجالاً ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيراً إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر (1) " قال وفي هذا المعنى ما ورد في الخبر إذا مرض العبد قال الله تعالى اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إلي.
وقد أخرج البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أملى عليه (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وفخذه على فخذي (غير أولي الضرر) وأخرجه أيضاً سعيد بن منصور وأحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه من حديث خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه.
وعن ابن عباس قال (غير أولي الضرر) المتخلفون عن بدر، والخارجون إلى بدر، وعنه قال: نزلت في قوم كانت تشغلهم أمراض وأوجاع فأنزل الله عذرهم من السماء، وعن أنس بن مالك قال: نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم، ولقد رأيته في بعض مشاهد المسلمين معه اللواء.
(وفضّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) هذا بيان لما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم الاستواء إجمالاً، والمراد هنا غير أولي الضرر حملاً للمطلق على المقيد.
وقال هنا (درجة) وقال فيما بعد (درجات) فقال قوم التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد، وقال آخرون: فضّل الله
_________
(1) صحيح الجامع 2032 عن جابر.(3/211)
المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة، وفضّل الله المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر بدرجات، قاله ابن جريج والسدي وغيرهما، وقيل إن معنى درجة علواً أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح (1).
(وكلًّا) مفعول أول لقوله (وعد الله) قدم عليه لإفادة القصر أي كل واحد من المجاهدين والقاعدين وعده الله (الحسنى) أي المثوبة وهي الجنة، قاله قتادة (وفضّل الله المجاهدين على القاعدين) الذين لا عذر لهم ولا ضرر (أجراً عظيماً) أي ثواباً جزيلاً.
_________
(1) قال زيد بن ثابت: إني لقاعد إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ غشيته السكينة، ثم سري عنه، فقال: " اكتب " (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون) الآية، فقام ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ فوالله ما قضى كلامه حتى غشيت رسول الله السكينة، ثم سري عنه، فقال: اقرأ فقرأت لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: غير أولي الضرر) فألحقتها.
" المسند " 5/ 184، والبخاري 8/ 195، وأبو داود 3/ 17، والترمذي 4/ 92 والنسائي 6/ 9، ولفظه عند البخاري عن ابن شهاب قال: حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت- أخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) فجاء ابن أم مكتوم وهو يملها علي قال: يا رسول الله والله لو أستطيع الجهاد معك لجاهدت وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفخذه على فخذي، فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله (غير أولي الضرر). ويملها: بضم أوله وكسر الراء، قال: لما نزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، زيداً فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم، فشكا ضرارته، فأنزل الله (غير أولي الضرر).(3/212)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
ثم فسر ذلك بقوله(3/213)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
(درجات منه) أي من الأجر أو من الله يعني منازل بعضها فوق بعض من الكرامة، قال ابن زيد الدرجات هن سبع ذكرها الله في سورة براءة يعني قوله (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة إلى قوله إلا كتب لهم).
وعن ابن جريج قال: كان يقال الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الهجرة درجة.
وعن ابن محيريز قال: الدرجات سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين سنة.
وأخرج البخاري والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجّر أنهار الجنة (1).
(ومغفرة) لذنوبهم يسترها ويصفح عنها (ورحمة) رأفة بهم، والمعنى غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة (وكان الله غفوراً) لذنوبهم بتكفير العذر (رحيماً) بهم بتوفير الأجر، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
_________
(1) أخرجه الترمذي 3/ 326 والحاكم 1/ 80 وأحمد 5/ 316 و 321 وابن ماجه 2/ 590.(3/213)
فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: أيما عبد من عبادي خرج مجاهداً في سبيل الله ابتغاء مرضاتي ضمنت له إن أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة وإن قبضته غفرت له ورحمته (1)، أخرجه النسائي.
_________
(1) النسائي/3126. زاد السير 175.(3/214)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
(إنّ الذين توفّاهم الملائكة) يحتمل أن يكون ماضياً وحذفت منه علامة التأنيث لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي، ويحتمل أن يكون مستقبلاً، والأصل تتوفاهم، عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار وقيل تقبض أرواحهم، وهو الأظهر.
والمراد بالملائكة ملك الموت وحده، وإنما ذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم لقوله تعالى (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) وقيل ملك الموت وأعوانه، وعلى الأول يكون المراد بالملائكة الزبانية الذين يلون تعذيب الكفار.
(ظالمي أنفسهم) بالمقام مع الكفار وترك الهجرة، نزل فيمن أسلم ولم يهاجر حين كانت الهجرة فريضة وخرج مع المشركين إلى بدر مرتداً فقتل كافراً (قالوا فيم كنتم) سؤال توبيخ أي في أي شيء كنتم من أمر دينكم قيل المعنى أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو كنتم مشركين، قاله القرطبي.
وقيل: إن معنى السؤال التقريع لهم بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين، قال أبو حيان: أي في أي حالة كنتم بدليل الجواب أي في حالة قوة أو ضعف.
(قالوا) على وجه الكذب معتذرين (كنّا مستضعفين) عاجزين عن(3/214)
الهجرة (في الأرض) مكة لأن سبب النزول من أسلم بها ولم يهاجر، وهذا اعتذار غير صحيح إذ كانوا يستطيعون الحيلة ويهتدون السبيل.
ثم أوقفتهم الملائكة على ذنبهم وألزمتهم الحجة وقطعت معذرتهم حيث (قالوا ألم تكن أرض الله واسعة) قيل المراد بهذه الأرض المدينة والأولى العموم اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو الحق، فيراد بالأرض كل بقعة من بقاع الأرض تصلح للهجرة إليها، ويراد بالأرض الأولى كل أرض ينبغي الهجرة منها.
(فتهاجروا فيها) وتخرجوا من بين أظهر المشركين، قال الواحدي: فيه أن الله لم يرض بإسلام أهل مكة حتى يهاجروا (فأولئك مأواهم) أي منزلهم (جهنم وساءت) أي جهنم (مصيراً) أي مكاناً يصيرون إليه.
والآية تدل على أن من لم يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يجب بأي سبب كان وعلم أنه يتمكن من إقامته في غيره، حقَّت عليه المهاجرة، وفي الباب أحاديث ذكرناها في جواب سؤال عن الهجرة من أرض الهند اليوم بالفارسية فليرجع إليه.(3/215)
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)(3/216)
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
(إلا المستضعفين) الذين صدقوا في استضعافهم (من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً) استثناء من الضمير في مأواهم، وقيل هو استثناء منقطع لعدم دخول المستضعفين في الموصول وضميره، والمراد بهم من الرجال الزمناء ونحوهم، والولدان كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام.
وإنما ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم لقصد المبالغة في أمر الهجرة، وإبهام أنها تجب لو استطاعها غير الملكف فكيف من كان مكلفاً، وقيل أراد بالولدان المراهقين والمماليك.
والحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص، أي لا يجدون حيلة في الخروج منها لفقرهم وعجزهم، ولا طريقاً إلى ذلك، وقيل السبيل سبيل المدينة، عن ابن جريج في قوله (حيلة) قال قوة، وعن عكرمة قال نهوضاً إلى المدينة وسبيلاً أي طريقاً إليها.(3/216)
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
(فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم) إشارة إلى المستضعفين الموصوفين بما ذكر، وجيء بكلمة الإطماع لتأكيد أمر الهجرة حتى يظن أن تركها ممن لا تجب عليه يكون ذنباً يجب طلب العفو عنه، وقال الكرخي: يعفو عن خطر الهجرة بحيث يحتاج المعذور إلى العفو، قال ابن عباس كنت أنا وأمي من المستضعفين أنا من الولدان وأمي من النساء.
(وكان الله عفواً غفوراً) مبالغاً في المغفرة لهم ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج.(3/216)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
(ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً) هذه الجملة متضمّنة للترغيب في الهجرة والتنشيط إليها، وفيه دليل على أنّ الهجرة لا بد أن تكون بقصد صحيح، ونية خالصة غير مشوبة بشيء من أمور الدنيا، ومنه الحديث الصحيح " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (1) ".
وقد اختلف في معنى الآية فقال ابن عباس وجماعة من التابعين ومن بعدهم المراغم المتحوّل والمذهب من أرض إلى أرض، وقال مجاهد: المراغم المتزحزح عما يكره، وقال ابن زيد: المراغم المهاجر، وبه قال أبو عبيدة: قال النحاس: هذه الأقوال متفقة المعاني، فالمراغم المذهب والمتحوّل وهو الموضع الذي يراغم فيه وهو مشتق من الرغام وهو التراب، ورغم أنف فلان أي لصق بالتراب، وراغمت فلاناً أي هجرته وعاديته، ولم أبال أن رغم أنفه.
وهذا من الأمثال التي جرت في كلامهم بأسماء الأعضاء ولا يراد أعيانها بل وضعوها لمعان غير معاني الأسماء الظاهرة، ولاحظ لظاهر الأسماء من طريق الحقيقة، ومنه قولهم: كلامه تحت قدمي، وحاجته خلف ظهري، يريدون الإهمال وعدم الإحتفال.
وقيل إنما سمي المهاجر مراغماً لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه
_________
(1) جزء من حديث طويل سبق ذكره.(3/217)
وهجرهم فسمي خروجه مراغماً، وسمي مسيره إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هجرة، والحاصل في معنى الآية أن المهاجر يجد في الأرض مكاناً يسكن فيه على رغم أنف قومه الذين هاجرهم أي على ذلّهم وهوانهم.
(وسعة) أي في البلاد وقيل بالرزق وقال عطاء سعة أي رخاء، وقيل في إظهار الدين أو في تبدل الخوف بالأمن أو من الضلال إلى الهدى، ولا مانع من حمل السعة على ما هو أعم من ذلك.
(ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله) أي إلى حيث أمر الله ورسوله، قالوا كل هجرة في غرض ديني من طلب علم أو حج أو جهاد أو نحو ذلك فهي هجرة إلى الله ورسوله (ثمّ يدركه الموت) قبل أن يصل إلى مطلوبه وهو المكان الذي قصد الهجرة إليه أو الأمر الذي قصد الهجرة له.
(فقد وقع أجره على الله) أي ثبت ذلك عنده ثبوتاً لا يتخلف، يعني وجب أجر هجرته عليه بإيجابه على نفسه بحكم الوعد والتفضل والكرم، لا وجوب استحقاق، قيل ويدخل فيه من قصد فعل طاعة ثم عجز عن إتمامها كتب الله له ثواب تلك الطاعة كاملاً (وكان الله غفوراً رحيما) أي كثير المغفرة كثير الرحمة.
وقد استدل بهذه الآية على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك أو بدار يعمل فيها بمعاصي الله جهاراً إذا كان قادراً على الهجرة، ولم يكن من المستضعفين لما في هذه الآية الكريمة من العموم وإن كان السبب خاصاً كما تقدم، وظاهرها عدم الفرق بين مكان ومكان وزمان وزمان.
وقد ورد في الهجرة أحاديث، وورد ما يدل على أن لا هجرة بعد الفتح، وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في شرحه على المنتقى.(3/218)
عن ابن عباس بسند رجاله ثقات قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجراً فقال لقومه: احملوني فأخرجوني من أرض الشرك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزل الوحي أي هذه الآية (1).
وأخرج ابن سعد وأحمد والحاكم وصححه عن عبد الله بن عتيك قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول " من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله وأين المجاهدون في سبيل الله، فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله، يعني بحتف أنفه على فراشه، والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن قتل قعصا فقد استوجب الجنة (2).
وأخرج أبو يعلى والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خرج حاجّاً فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمراً فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازياً في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة، قال ابن كثير وهذا حديث غريب من هذا الوجه (3).
_________
(1) زاد السير/180
(2) المستدرك 2/ 88.
(3) مشكاة المصابيح 2539.(3/219)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
(وإذا ضربتم في الأرض) هذا شروع في بيان كيفية الصلاة عند الضرورات من السفر ولقاء العدو والمرض والمطر، وفيه تأكيد لعزيمة المهاجر على الهجرة وترغيب له فيها لما فيه من تخفيف المؤنة أي إذا سافرتم أيَّ مسافرة كانت، ولذلك لم تقيد بما قيد به المهاجرة وقد تقدم تفسير الضرب في الأرض قريباً.
(فليس عليكم جناح) أي وزر وحرج في (أن تقصروا من الصلاة) يعني من أربع ركعات إلى ركعتين وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء، وأصل القصر في اللغة التضييق وقيل هو ضم الشيء إلى أصله، وفسّر ابن الجوزي القصر بالنقص، ولم أره لأحد من أهل التفسير واللغة، ومن للتبعيض.
وفي الآية دليل على أن القصر ليس بواجب إليه ذهب الجمهور، وذهب الأقلون إلى أنه واجب ومنهم عمر بن عبد العزيز والكوفيون والقاضي إسمعيل وحماد بن أبي سليمان، وهو مروي عن مالك، واستدلوا بحديث عائشة الثابت في الصحيح " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأُقرت في السفر " ولا يقدح في ذلك مخالفتها لما روت، فالعمل على الرواية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومثله حديث يعلى بن أمية قال سألت عمر بن الخطاب قلت: (ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) وقد(3/220)
أمن الناس فقال لي عمر عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك فقال: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن (1).
وظاهر قوله (فاقبلوا صدقته) أن القصر واجب، وظاهر هذا الشرط أعني (إن خفتم أن يفتنكم) أي يغتالكم ويقتلكم في الصلاة (الذين كفروا) أن القصر لا يجوز في السفر إلا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن، ولكنه قد تقرر بالسنة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصر مع الأمن كما عرفت.
فالقصر مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من القصر مع الأمن.
وقد قيل إن الشرط خرج مخرج الغالب، لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار، ولهذا قال يعلى بن أمية لعمر كما تقدم.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو، فمن كان آمناً فلا قصر له، وإليه ذهب داود الظاهري.
وذهب آخرون إلى أن قوله (إن خفتم) ليس متصلاً بما قبله، وأن الكلام تم عند قوله (من الصلاة) ثم افتتح فقال (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف.
_________
(1) صحيح الجامع 3656 وصحيح أبو داود/1083.(3/221)
قال الفراء أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل، وربيعة وقيس وأسد وجميع أهل نجد يقولون أفتنت الرجل، وفرق الخليل وسيبويه بينهما فقالا: فتنته جعلت فيه فتنة مثل كحلته، وأفتنته جعلته مفتناً، وزعم الأصمعي أنه لا يعرف أفتنته، والمراد بالفتنة القتال والتعرض بما يكره (إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً) معترض ذكر معنى هذا الجرجاني والمهدوي وغيرهما، ورده القشيري والقاضي أبو بكر بن العربي.(3/222)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
وقد حكى القرطبي عن ابن عباس معنى ما ذكره الجرجاني ومن معه، ومما يرد هذا ويدفعه الواو في قوله الآتي (وإذا كنت فيهم) وقد تكلف بعض المفسرين فقال: إن الواو زائدة وأن الجواب للشرط المذكور أعني قوله (إن خفتم) هو قوله (فلتقم طائفة).
وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة وهي حديث عمر الذي قدمنا ذكره وما ورد في معناه، وعن أمية أنه سأل ابن عمر أرأيت قصر الصلاة في السفر، إنا لا نجدها في كتاب الله إنما نجد ذكر صلاة الخوف، فقال: يا ابن أخي إن الله أرسل محمداً ولا نعلم شيئاً، فإنما نفعل كما رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل، وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرجه النسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي.
وعن حارثة أن وهب الخزاعي قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين، أخرجه الشيخان وغيرهما، وعن ابن عباس قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئاً ركعتين، أخرجه الترمذي وصححه والنسائي.(3/223)
(وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) هذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولمن بعده من أهل الأمر حكمه كما هو معروف في الأصول، ومثله قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة) ونحوه، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء.
وشذ أبو يوسف وإسمعيل بن علية فقالا: لا تصلي صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن هذا الخطاب خاص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالا: ولا يلحق غيره به لما له صلى الله عليه وآله وسلم من المزية العظمى.
وهذا مدفوع فقد أمرنا الله باتباع رسوله والتأسي به وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: صلّوا كما رأيتموني أصلي (1)، والصحابة أعرف بمعاني القرآن وقد صلّوها بعد موته في غير مرة كما ذلك معروف.
والمعنى إذا كنت يا محمد في أصحابك وشهدت معهم القتال وأردت إقامة الصلاة بهم كقوله (وإذا قمتم إلى الصلاة) وقوله (إذا قرأت القرآن) وقال السمين: الضمير المجرور يعود على الضاربين في الأرض، وقيل على الخائفين وهما محتملان.
(فلتقم طائفة منهم معك) يعني بعد أن تجعلهم طائفتين: طائفة تقف بإزاء العدو، وطائفة تقوم منهم معك في الصلاة، وإنما لم يصرح به لظهوره (وليأخذوا أسلحتهم) أي الطائفة التي تصلي معك، وقيل الضمير راجع إلى الطائفة التي بإزاء العدو والأول أظهر، لأن الطائفة القائمة بإزاء العدو لابد أن تكون قائمة بأسلحتها، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك من كان في الصلاة لأنه يظن أن ذلك ممنوع منه حال الصلاة، فأمره الله بأن يكون آخذاً لسلاحه أي غير واضع له.
_________
(1) المشكاة/1160.(3/224)
وليس المراد الأخذ باليد، بل المراد أن يكونوا حاملين لسلاحهم ليتناولوه من قرب إذا احتاجوا إليه، وليكون ذلك أقطع لرجاء عدوهم من إمكان فرصة فيهم.
وقد قال بإرجاع الضمير إلى الطائفة القائمة بإزاء العدو ابن عباس، قال: لأن المصليّة لا تحارب، وقد قال غيره: إن الضمير راجع إلى المصلية، وجوز الزجاج والنحاس أن يكون ذلك أمراً للطائفتين جميعا لأنه أرهب للعدو.
وقد أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة أهل الظاهر حملاً للأمر على الوجوب، وذهب أبو حنيفة إلى أن المصلين لا يحملون السلاح وأن ذلك يبطل الصلاة وهو مدفوع بما في هذه الآية وبما في الأحاديث الصحيحة، والسلاح ما يقاتل به وجمعه أسلحة، وهو مذكر وقيل مؤنث باعتبار الشوكة يقال سلاح كحمار وسلح كضلع، وسلح كصرد، وسلحان كسلطان، قاله أبو بكر بن زيد.
(فإذا سجدوا) أي القائمون في الصلاة (فليكونوا) أي الطائفة القائمة بإزاء العدو (من ورائكم) أي من وراء المصلين، ويحتمل أن يكون المعنى فإذا سجد المصلون معه أي أتموا الركعة تعبيراً بالسجود عن جميع الركعة أو عن جميع الصلاة فليكونوا من ورائكم أي فلينصرفوا بعد الفراغ إلى مقابلة العدو للحراسة.
(ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا) وهي القائمة في مقابلة العدو التي لم تصل (فليصلوا معك) على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى (وليأخذوا) أي هذه الطائفة الأخرى (حذرهم) أي ما يتحرزون به من العدو كالدرع ونحوها (وأسلحتهم) زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح، قيل وجهه أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شغل شاغل، وأما في(3/225)
المرة الأولى فربما يظنونهم قائمين للحرب، وقيل لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت لأنه أخر الصلاة.
ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي كل طائفة من الطائفتين، وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة، وصفات متعددة وكلها صحيحة مجزية، من فعل واحدة منها فقد فعل ما أمر به، ومن ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها فقد أبعد عن الصواب، وقد أوضحنا هذا في شرحنا لبلوغ المرام وفي شرحنا للدرر البهية.
(ودّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة) هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم الله بالحذر وأخذ السلاح أي ودوا غفلتكم عن أخذ السلاح وعن الحذر إذا قمتم إلى الصلاة ليصلوا إلى مقصودهم وينالوا فرصتهم فيشدون عليكم شدة واحدة ويحملون عليكم حملة واحدة، والأمتعة ما يتمتع به في الحرب، ومنه الزاد والراحلة، والخطاب للفريقين بطريق الالتفات.
(ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم) رخص لهم سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من مطر، وفي حال المرض لأنه يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح، وعن ابن عباس قال: نزلت في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً، أخرجه البخاري وغيره.
ثم أمرهم بأخذ الحذر فقال (وخذوا حذركم) لئلا يأتيهم العدو على غرة وهم غافلون، والمعنى راقبوا عدوكم ولا تغفلوا عنه، أمرهم بالتحفظ والتحرز والاحتياط، وهذا يفيد إيجاب حملها عند عدم العذر وهو أحد قولين للشافعي، والثاني أنه سنة ورجحه الشيخان (إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً) يهانون به أخبر أنه يهين عدوهم لتقوى قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لتوقع غلبتهم عليهم وإنما هو تعبد من الله.(3/226)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
(فإذا قضيتم الصلاة) أي فرغتم من صلاة الخوف وهو أحد معاني القضاء، ومثله (فإذا قضيتم مناسككم) و (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) (فاذكروا الله) الأمر للندب لأنه في الفضائل (قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم) في جميع الأحوال حتى في حال القتال، قال ابن عباس بالليل والنهار وفي البر والبحر وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة والسرّ والعلانية وعلى كل حال.
وعن ابن مسعود أنه بلغه أن قوماً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فقال إنما هذه إذا لم يستطع الرجل أن يصلي قائماً صلى قاعداً، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو إثر صلاة الخوف أي فإذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله في هذه الأحوال، وقيل معناها إذا صليتم فصلوا قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم حسبما تقتضيه الحال عند ملاحمة القتال، فهي مثل قوله (فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً).
والمعنى أن ما أنتم عليه من الخوف جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه، وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله في كل أحيانه أخرجه الشيخان.
(فإذا اطمأننتم) أي أمنتم بعد ما وضعت الحرب أوزارها وسكنت قلوبكم، والطمأنينة سكون النفس من الخوف (فأقيموا الصلاة) أي فأتوا بالصلاة التي دخل وقتها على الصفة المشروعة من الأذكار والأركان، ولا تفعلوا(3/227)
ما أمكن فإن ذلك إنما هو في حال الخوف، وقيل المعنى في الآية أنهم يقضون ما صلوه في حال المسايفة لأنها حالة قلق وانزعاج وتقصير في الأذكار والأركان، وهو مروي عن الشافعي، والأول أرجح وقال مجاهد: فإذا اطمأننتم أي إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة فأقيموا الصلاة، قال أتمّوها أربعاً من غير قصر، وعن قتادة وابن المنذر نحوه (1).
(إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً) أي فرضاً محدوداً معيناً، والكتاب هنا بمعنى المكتوب يعني مؤقتة في أوقات محدودة فلا يجوز إخراجها عن أوقاتها على أي حال كان من خوف أو أمن، وقيل المعنى فرضاً واجباً مقدراً في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين، يقال وقّته فهو موقوت ووقّته فهو مؤقت.
والمقصود أن الله افترض على عباده الصلوات وكتبها عليهم في أوقاتها المحدودة لا يجوز لأحد أن يأتي بها في غير ذلك الوقت إلا لعذر شرعي من نوم أو سهو أو نحوهما، قال ابن عباس: موقوتاً مفروضاً، والوقوت الواجب، فلا بد أن تؤدى في كل وقت حسبما قدّر فيه.
_________
(1) القرطبي 374.(3/228)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
(ولا تهنوا في ابتغاء القوم) من وهن بالكسر في الماضي أو من وهن بالفتح أي لا تضعفوا في طلبهم وقتالهم وأظهروا القوة والجلد، وقريء تهانوا من الإهانة مبنياً للمفعول أي لا تتعاطوا من الجبن والخور ما يكون سبباً في إهانتكم.
(إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون) تعليل للنهي المذكور قبله أي ليس ما تجدونه من ألم الجراح ومزاولة القتال مختصاً بكم، بل هو أمر مشترك بينكم وبينهم، فليسوا بأولى منكم بالصبر على حر القتال ومرارة الحرب.
ومع ذلك فلكم عليهم مزيّة لا توجد فيهم (و) هي أنكم (ترجون من الله) من الأجر وعظيم الجزاء (ما لا يرجون) لكفرهم وجحودهم فأنتم أحق بالصبر منهم وأولى بعدم الضعف منهم، فإن أنفسكم قوية لأنها ترى الموت مغنماً وهم يرونه مغرماً، ونظير هذه الآية قوله تعالى (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله).
وقيل: إن الرجاء هنا بمعنى الخوف لأن من رجا شيئاً فهو غير قاطع بحصوله فلا يخلو من خوف ما يرجو، وقال الفراء والزجاج: لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي كقوله تعالى: (مالكم لا ترجون لله وقاراً) أي لا تخافون له عظمة.
(وكان الله عليماً حكيماً) لا يأمركم بشيء إلا وهو يعلم أنه مصلحة لكم.(3/229)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)(3/230)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
(إنا أنزلنا إليك الكتاب) أي القرآن (بالحق) أي متلبساً به، والحق الصدق أو الأمر والنهي والفصل بين الناس (لتحكم بين الناس بما أراك) أي أعلمك (الله) إما بوحي أو بما هو جار على سنن ما قد أوحى إليك به، وليس المراد هنا رؤية العين لأن الحكم لا يرى بل المراد ما عرّفه الله به وأرشده إليه، وإنما سمي العلم اليقيني رؤية لأنه جرى مجرى الرؤية في قوة الظهور.
روي عن عمر أنه قال: لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ليجهد رأيه لأن الرأي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان مصيباً لأن الله كان يريه إياه، وإن رأى أحدنا يكون ظناً ولا يكون علماً، وقد دلت هذه الآية على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يحكم إلا بالوحي الإلهي.
(ولا تكن للخائنين) أي لأجلهم (خصيماً) مخاصماً عنهم مجادلاً للمحقين بسببهم، وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق، ونزلت هذه الآية في بني الأبيرق، وقد رويت هذه القصة مختصرة ومطولة عن جماعة من التابعين عند أهل السنن وغيرهم لا نطوّل بذكرها (1).
_________
(1) روى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس أن نفراً من الأنصار غزوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم فأظن بها رجل من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده، فانطلقوا إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ليلاً فقالوا يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان وقد [ص:231] أحطنا بذلك علماً فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله (إنا أنزلنا الكتاب بالحق ليحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً) ورواه الترمذي والحاكم وابن جرير وغيرهم بأطول من هذا قلت إسناده ضعيف جداً.(3/230)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
(واستغفر الله) أمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار، قال ابن جرير: إن المعنى استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين، وقيل المعنى واستغفر الله للمذنبين من أمتك والمخاصمين بالباطل والأول أرجح (إن الله كان غفوراً رحيماً).
وقد تمسك بهذه الآية من يرى جواز صدور الذنب من الأنبياء وقالوا لو لم يقع منه - صلى الله عليه وسلم - ذنب لما أمر بالاستغفار، والجواب عنه بوجوه ذكرها الخازن في تفسيره (1).
_________
(1) لا شك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما يتحدث أو يعمل كرسول، أي مبلغاً أو داعياً فهو معصوم، أما إذا كان يتحدث أو يعمل من عند نفسه في الأمور العامة التي ليست جزءاً من الرسالة فهو بشر، يمكن أن يخطىء، ويغلب أن يصيب، وقد وضح الرسول ذلك بقوله في الحديث الذي رواه رافع بن خديج " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأي فأنا بشر " وكان الصحابة يفرقون بين محمد النبي ومحمد الإنسان، يتضح ذلك في المثال الذي حدث في غزوة بدر، فإن الرسول اختار مكاناً ليهىء فيه جنده للقتال، فسأله أحدهم: هل هذا الاختيار وحي من الله أو اجتهاد من عندك؟ فأجابه - صلى الله عليه وسلم -: بل هو اجتهاد من عندي، فقال الرجل هناك مكان أصلح من هذا، فانتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليه.(3/231)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)(3/232)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
(ولا تجادل) أي لا تحاجج (عن الذين يختانون) أي يخونون (أنفسهم) بالمعاصي، والمجادلة مأخوذ من الجدل وهو الفتل، وقيل مأخوذ من الجدالة وهي وجه الأرض لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يلقى صاحبه عليها، وسمى ذلك خيانة لأنفسهم لأن ضرر معصيتهم راجع إليهم (إن الله لا يحب) عدم المحبة كناية عن البغض، وإنما قال (من كان خواناً أثيماً) على المبالغة لأنه تعالى علم منه الإفراط في الخيانة وركوب المآثم.(3/232)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
(يستخفون من الناس) يستترون منه كقوله (من هو مستخف بالليل) أى مستتر قيل معناه يستحيون من الناس (ولا يستخفون من الله) أي لا يستترون ولا يستحيون منه (وهو) أي والحال أنه (معهم) بالعلم والقدرة في جميع أحوالهم، عالم بما فيه فكيف يستخفون منه، وكفى بذلك زجراً للإنسان عن ارتكاب الذنوب.
وكفى بهذه الآية ناعية على ما هم من قلة الحياء والخشية من ربهم مع علمهم أنهم في حضرته لا سترة ولا غيبة (إذ يبيّتون) أى يدبرون الرأي بينهم، وسماه تبييتاً لأن الغالب أن تكون إدارة الرأي بالليل (ما لا يرضى من القول) أي من الرأي الذي أداروه بينهم وسماه قولاً لأنه لا يحصل إلا بعد المقاولة بينهم (وكان الله بما يعملون محيطاً) عالماً علم إحاطة لا يخفى عليه شيء من أسرار عباده وهو مطلع عليهم، لا تخفى عليه خافية.(3/232)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)(3/233)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
(ها أنتم هؤلاء) يعني القوم الذين جادلوا عن صاحبهم السارق، قال الزجاج: أولاء بمعنى الذين، والخطاب هنا على طريق الالتفات للإيذان بأنّ تعديد جناياتهم يوجب مشافهتهم بالتوبيخ والتقريع (جادلتم) أى خاصمتم (عنهم) وحاججتم، وأصل الجدال شدة الفتل لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يفتل صاحبه عما هو عليه.
(في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة) الاستفهام للإنكار والتوبيخ أي فمن يخاصم ويجادل الله عنهم عند تعذيبهم بذنوبهم (أم من يكون عليهم وكيلاً) أي مجادلاً ومخاصماً، الوكيل في الأصل القائم بتدبير الأمور، والمعنى من ذاك يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه، ومن يكون محامياً عنهم من بأس الله إذا نزل بهم.(3/233)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
(ومن يعمل سوءاً) هذا من تمام القصة السابقة والمراد بالسوء القبيح الذي يسوء به غيره (أو يظلم نفسه) بفعل معصية من المعاصي أو ذنب من الذنوب التي لا تتعدى إلى غيره (ثم يستغافر الله) يطلب منه أن يغفر له ما قارفه من الذنب (يجد الله غفوراً) لذنبه (رحيماً) به وفيه ترغيب لمن وقع منه السرق من بني أبيرق أن يتوب إلى الله ويستغفره وأنه غفور لمن يستغفره رحيم به.
وقال الضحاك: إن هذه الآية نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة أشرك بالله وقتل حمزة ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال هل لي من توبة فنزلت، وعلى كل(3/233)
حال فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فهي لكل عبد من عباد الله أذنب ذنباً ثم استغفر الله سبحانه.
وعن ابن عباس قال: أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً ثم استغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال، وعن ابن مسعود من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء ثم استغفر الله غفر له (ومن يعمل سوءاً) الآية (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) الآية.
وقد ورد في قبول الاستغفار وأنه يمحو الذنب أحاديث كثيرة مدونة في كتب السنة، وفي هذه الآية دليل على حكمين.
(أحدهما) أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب الكبائر والصغائر.
(والثاني) أن مجرد الاستغفار كاف كما هو ظاهر الآية وقيل: إنه مقيد بالتوبة (1).
_________
(1) روى الإمام أحمد في " المسند " 1/ 174 عن علي رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من مسلم يذنب ذنباً ثم يتوضأ فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله تعالى لذلك الذنب إلا غفر له " وقرأ هاتين الآيتين: (ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً) (والذين إذا فعلوا فاحشة، أو ظلموا أنفسهم ... ) الآية [آل عمران: 135] ورواه الترمذي: 2/ 257، وابن حبان في " صحيحه " وهو حديث حسن. وقد ذكر في " التهذيب " 1/ 268 تحسينه عن ابن عدي.(3/234)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)(3/235)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
(ومن يكسب إثماً) من الآثام بذنب يذنبه وهو إجمال بعد تفصيل (فإنّما يكسبه على نفسه) أي فعاقبته عائده عليه ولا يضر غيره، والكسب ما يجر به الإنسان إلى نفسه نفعاً أو يدفع ضرراً، ولهذا لا يسمى فعل الرب كسباً، قاله القرطبي (وكان الله عليماً) بما في قلب عبده عند إقدامه على التوبه (حكيماً) لا يعاقب بالذنب غير فاعله ويتجاوز عن التائب ويغفر له ويقبل توبته.(3/235)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
(ومن يكسب خطيئة أو إثماً) قيل هما بمعنى واحد كرر للتأكيد، وقال الطبري إن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، وقيل الخطيئة الصغيرة، والإثم الكبيرة، وقيل الأول ذنب بينه وبين ربه والثاني ذنب في مظالم العباد، وقيل الخطيئة هي المختصة بفاعله والإثم المتعدي إلى الغير.
(ثمّ يرم به بريئاً) منه، توحيد الضمير لكون العطف بأو، أو لتغليب الإثم على الخطيئة وقيل إنه يرجع إلى الكسب (فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً) لما كانت الذنوب لازمة لفاعلها كانت كالثقل الذي يحمل، ومثله (وليحملنّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) والبهتان مأخوذ من البهت وهو الكذب على البرىء بما يتبهّت له ويتحير منه.
يقال بهته بهتاً وبهتاناً إذا قال عليه ما لم يقل، ويقال بهت الرجل بالكسر إذا دهش وتحير، وبهت بالضم ومنه (فبهت الذي كفر) والمبين الواضح.(3/235)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
(ولولا فضل الله عليك ورحمته) خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد بهذا الفضل والرحمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نبهه على الحق في قصة بني أبيرق وقيل المراد بهما العصمة والنبوة (لهمّت طائفة منهم) أي من الجماعة الذين عضدوا بني أبيرق يعني من بني ظفر، وهم قوم طعمة (أن يضلّوك) عن القضاء الحق وتوخّي طريق العدل أو يخطئوك في الحكم ويلبسوا عليك الأمر.
(وما يضلّون إلا أنفسهم) لأن وبال ذلك عائد عليهم بسبب تعاونهم على الإثم (وما يضرّونك من شيء) لأن الله سبحانه هو عاصمك من الناس، ولأنك عملت بالظاهر فلا ضرر عليك في الحكم به قبل نزول الوحي، ومن زائدة.
(وأنزل الله عليك الكتاب) قيل هذا ابتداء كلام وقيل الواو للحال أي وما يضرونك من شيء حال إنزال الله عليك القرآن أو مع إنزال الله ذلك عليك، فالجملة في معنى العلة لما قبله (والحكمة) أي القضاء بها (وعلّمك) أي بالوحي من أحكام الشرع وأمور الدين أو علم الغيب وخفيات الأمور أو من أحوال المنافقين وكيدهم أو من ضمائر القلوب (ما لم تكن تعلم) من الوحي، وقال قتادة: علمه الله بيان الدنيا والآخرة وبين حلاله وحرامه ليحتج بذلك على خلقه وقال الضحاك: علمه الخير والشر.
(وكان فضل الله عليك عظيماً) فيما علمك وأنعم عليك لأنه لا فضل أعظم من النبوة التامة، والرسالة العامة، وفيه تنبيه منه سبحانه لرسوله على ما حباه من ألطافه، وما شمله من فضله وإحسانه ليقوم بواجب حقه،(3/236)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
(لا خير في كثير من نجواهم) النجوى السر بين الاثنين أو الجماعة، تقول ناجيت فلاناً مناجاة ونجاء وهم يتنجون ويتناجون ونجوت فلاناً أنجوه نجوى أي ناجيته، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه أي خلصته وأفردته والنجوة من الإرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله، فالنجوى المسارة مصدر، وقد يسمى به الجماعة كما يقال قوم عدل قال الله تعالى (وإذ هم نجوى) وقيل النجوى جمع نجيّ، نقله الكرماني.
وقد قال جماعة من المفسرين: إن النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الإثنين سواء كان ذلك سراً أو جهراً، وبه قال الزجاج، والآية عامة في حق جميع الناس كما اختاره البغوي والكواشي كالواحدي وقيل عائد إلى قوم طعمة، والأول أولى.
(إلا من أمر بصدقة) أي حث عليها، والظاهر أنها صدقة التطوع وقيل إنها صدقة الفرض والأول أولى، والاستثناء متصل كما اختاره القاضي كالكشاف وقيل منقطع لأن (من) للأشخاص وليست من جنس التناجي فيكون بمعنى لكن في لغة الحجاز.
(أو معروف) لفظ عام يشمل جميع أنواع الجميل وفنون أعمال البر، وقال مقاتل: المعروف هنا الفرض، والأول أولى، ومنه الحديث كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وقيل المعروف إغاثة الملهوف والقرض وإعانة المحتاج وأعمال البر كلها معروف لأن العقول تعرفها.(3/237)
(أو إصلاح بين الناس) عطف خاص على عام قاله أبو حيان، وفيه أنه لا يكون بأو، وهو عام في الدماء والأعراض والأموال وفي كل شيء يقع التداعي فيه.
وقد أخرج عبد الله بن حميد والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كلام ابن آدم كلّه عليه لا له إلا أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو ذكر الله عز وجل (1) ".
قال سفيان الثوري هذا في كتاب الله يعني هذه الآية وقوله تعالى (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً) وقوله (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
وقد وردت أحاديث صحيحة في الصمت والتحذير عن آفات اللسان والترغيب في حفظه وفي الحث على الإصلاح بين الناس، ولعل وجه تخصيص هذه الثلاثة بالذكر، أن عمل الخير المتعدي للناس إما إيصال منفعة أو دفع مضرة، والمنفعة إما جسمانية وإليه الإشارة بقوله إلا من أمر بصدقة وإما روحانية وإليه الإشارة بالأمر بالمعروف، ودفع الضرر أشير إليه بقوله أو إصلاح بين الناس قاله أبو السعود.
(ومن يفعل ذلك) إشارة إلى الأمور المذكورة، جعل مجرد الأمر بها خيرًا ثم رغب في فعلها بقوله هذا لأن فعلها أقرب إلى الله من مجرد الأمر بها إذ خيرية الأمر بها إنما هي لكونه وسيلة إلى فعلها أو أراد ومن يأمر بذلك، فعبر عن الأمر بالفعل لأن الأمر بالفعل أيضاً فعل من الأفعال.
_________
(1) ابن ماجة كتاب الفتن باب 12.(3/238)
(إبتغاء مرضات الله) علة للفعل لأن من فعلها لغير ذلك فهو غير مستحق لهذا المدح والجزاء بل قد يكون غير ناج من الوزر، وإنما الأعمال بالنيات (فسوف نؤتيه) في الآخرة إذا فعل ذلك ابتغاء لمرضات الله (أجراً عظيماً) لا حد له ولا يعلم قدره إلا الله.
وأخرج أبو نصر السجزي في الإنابة عن أنس قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أنزل على القرآن يا أعرابي (لا خير في كثير من نجواهم) إلى قوله (عظيماً) يا أعرابي الأجر العظيم الجنة "، قال الأعرابي: الحمد لله الذي هدانا للإسلام.(3/239)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
(ومن يشاقق الرسول) المشاقة المعاداة والمخالفة (من بعد ما تبيّن) أي وضح وظهر (له الهدى) بأن يعلم صحة الرسالة بالبراهين الدالة على ذلك ثم يفعل المشاقة (ويتبع غير سبيل المؤمنين) أي غير طريقهم وهو ما هم عليه من دين الإسلام والتمسك بأحكامه في الاعتقاد والعمل والقول (نوّله ما تولّى) أي نجعله والياً لما تولاه واختاره من الضلال بأن نخلي بينه وبينه في الدنيا ونتركه وما اختاره لنفسه.
(ونصله) أي نلزمه وندخله في الآخرة، وأصله من الصلّى وهو لزوم النار وقت الاستدفاء (جهنم وساءت مصيراً) مرجعاً هي، وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على حجية الإجماع لقوله (ويتبع غير سبيل المؤمين).
ولا حجة في ذلك عندي لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره كما يفيده اللفظ ويشهد به السبب، فلا يصدق على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية اجتهد في بعض مسائل الدين فأداه اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين، فإنه إنما رام السلوك في سبيل المؤمنين وهو الدين القويم والملة الحنيفية، ولم يتبع غير سبيلهم.
وقد أخرج الترمذي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبداً، ويد الله على الجماعة فمن شذَّ شذ في النار "، (1) وأخرجه الترمذي والبيهقي أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً.
_________
(1) الترمذي كتاب الفتن/7.(3/240)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)(3/241)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
(إن الله لا يغفر أن يشرك به) هذا نص صريح بأن الشرك غير مغفور إذا مات صاحبه عليه لقوله (قل للذين كفروا) الآية (ويغفر ما دون ذلك) أي ما دون الشرك (لمن يشاء) من أهل التوحيد وهذه المشيئة فيمن لم يتب من ذنوبه من الموحدين فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه.
(ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً) أي ذهب عن طريق الهدى وحرم الخير كله إذا مات على شركه، لأن الشرك أعظم أنواع الضلال وأبعدها من الصواب والاستقامة، كما أنه افتراء وإثم عظيم ولذلك جعل الجزاء في هذه الشرطية (فقد ضل) وفيما سبق (فقد افترى إثماً عظيماً) حسبما يقتضيه سياق النظم الكريم وسياقه.
وفي السمين ختمت الآية المتقدمة بقوله فقد افترى وهذه بقوله فقد ضل لأن الأولى في شأن أهل الكتاب وهم عندهم علم بصحة نبوته وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع، ومع ذلك فقد كابروا في ذلك وافتروا على الله، وهذه في شأن قوم مشركين. ليس لهم كتاب ولا عندهم علم، فناسب وصفهم بالضلال.
وأيضاً قد تقدم هنا ذكر الهدى وهو ضد الضلال اهـ.
وقد تقدم تفسير هذه الآية وتكريرها بلفظها في موضعين من هذه السورة للتأكيد وقيل كررت هنا لأجل قصة بني أبيرق، وقيل: إنها نزلت هنا بسبب غير قصة بني أبيرق وهو ما رواه الثعلبي والقرطبي في تفسيريهما عن الضحاك أن(3/241)
شيخاً من الأعراب جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلا أني لم أشرك بالله شيئاً مذ عرفته وآمنت به، ولم اتخذ من دونه ولياً ولم أوقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له وإني لنادم وتائب ومستغفر فما حالي عند الله فأنزل الله تعالى هذه الآية أخرجه الترمذي، عن علي أنه قال ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية قال الترمذي حسن غريب.(3/242)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
(إن يدعون من دونه إلا إناثاً) تعليل لما قبلها أي ما يدعون من دون الله إلا أصناماً لها أسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة قاله أبي بن كعب، وقيل المراد بالإناث الأموات التي لا روح لها كالخشبة والحجر، قاله ابن عباس، قال الزجاج: الموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث تقول هذه الحجر تعجبني، وهذه الدرهم تنفعني وقد يطلق الأنثى على الجمادات.
وقيل المراد بالإناث الملائكة لقولهم الملائكة بنات الله قال الضحاك: اتخذوهن أرباباً وصوروهن صور الجواري فحلوا وقلدوا وقالوا هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده يعنون الملائكة، وقرىء إلا وثناً بضم الواو والثاء جمع وثن، رويت هذه عن عائشة، وقرأ ابن عباس: إلا أثناً جمع وثن أيضاً وقرأ الحسن إلا أنثاً جمع أنيث كغدير وغدر، وحكى الطبري أنه جمع أناث كثمار وثمر.
وعلى جميع هذه القراآت فهذا الكلام خارج مخرج التوبيخ للمشركين والإزراء عليهم، والتضعيف لعقولهم لكونهم عبدوا من دون الله نوعاً ضعيفاً، وقال الحسن: كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونها يسمونها أنثى بني فلان فأنزل الله هذه الآية.(3/242)
(وإن) ما (يدعون) من دون الله (إلا شيطاناً مريداً) وهو إبليس لعنه الله، لأنهم إذا أطاعوه فيما سوّل لهم فقد عبدوه، وتقدم اشتقاق لفظ الشيطان والمريد المتمرد العاتي من مرد إذا عتا، قال الأزهري: المريد الخارج عن الطاعة وقد مرد الرجل مروداً إذا عتا وخرج عن الطاعة فهو مارد ومريد ومتمرد.
وقال ابن عرفة: هو الذي ظهر شره يقال شجرة مرداء إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها، ومنه قيل للرجل أمرد أي ظاهر مكان الشعر من عارضيه، وقال ابن عباس: لكل صنم شيطان يدخل في جوفه ويتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم والأول أولى.(3/243)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)(3/244)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
(لعنه الله) قيل مستأنفة وقيل دعاء عليه، أصل اللعن الطرد والإبعاد، وقد تقدم تفسيره وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط (وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً) معطوف على قوله لعنه الله والجملتان صفة لشيطان أي شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله له وبين هذا القول الشنيع، أو حال على إضمار قد أي وقد قال، أو استئناف، ولأتخذن جواب قسم محذوف، والنصيب المفروض هو المقطوع المقدر أي لأجعلن قطعة مقدرة من عباد الله تحت غوايتي وفي جانب إضلالي حتى أخرجهم من عبادة الله إلى الكفر به.
عن مقاتل بن حيان قال هذا إبليس يقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، وعن الربيع بن أنس مثله.
قلت: وهذا صحيح معنى ويعضد، قوله تعالى لآدم يوم القيامة أخرج من ذريتك بعث النار فيقول يا رب وما بعث النار؟ فيقول الله تعالى أخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فعند ذلك تشيب الأطفال من شدة الهول، أخرجه مسلم.
فنصيب الشيطان هو بعث النار، والمعنى لأتخذن منهم حظاً مقدراً معلوماً فكل ما أطيع فيه إبليس فهو نصيبه ومفروضه، وأصل الفرض القطع، وهذا النصيب هم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه.(3/244)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
(ولأضلّنّهم) اللام جواب قسم محذوف، والإضلال الصرف عن طريق الهداية إلى طريق الغواية والمراد به التزيين والوسوسة وإلا فليس إليه من الإضلال شيء، قال بعضهم لو كان الإضلال إلى إبليس لأضلّ جميع الخلق وهكذا اللام في قوله (ولأمنينهم) والمراد بالأماني التي يمنيهم بها الشيطان هي الأماني الباطلة الناشئة عن تسويله ووسوسته قال ابن عباس يريد تسويف التوبة وتأخيره.
قال الكلبي: أمنيهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث، وقيل إدراك الجنة مع المعاصي وقيل أُزيّن لهم ركوب الأهواء والأهوال الداعية إلى العصيان وقيل طول البقاء في الدنيا ونعيمها ليؤثروها على الآخرة، ولا مانع من حمل اللفظ على الجميع.
(ولآمرنَّهم فليبتكنّ آذان الأنعام) أي ولآمرنهم بتبتيك آذانها أي تقطيعها فليبتكنها بموجب أمري والبتك القطع ومنه سيف باتك يقال بتكة وبتكة مخففاً ومشدداً، وقد فعل الكفار ذلك امتثالاً لأمر الشيطان واتباعاً لرسمه فشقوا آذان البحائر والسوائب (1) كما ذلك معروف، قال قتادة: التبتيك في البحيرة والسائبة يبتكون آذانها لطواغيتهم (ولآمرنّهم فليغيرنَّ خلق الله) بموجب أمري لهم.
واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو فقالت طائفة: هو الخصي وفقء العين وقطع الأذن، وقال آخرون: إن المراد هو أن الله سبحانه خلق الشمس والقمر والأحجار والنار ونحوها من المخلوقات لما خلقها له فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة وبه قال الزجاج، وقيل المراد تغيير الفطرة التي فطر الله
_________
(1) البحيرة هي الناقة تشق أذنها وتخلى للطواغيت إذا ولدت خمسة أبطن آخرها ذكر والسائبة هي الناقة تسيب للأصنام لنحو برء من مرض أو نجاة في حرب.(3/245)
الناس عليها وقيل نفي الأنساب واستلحاقها أو بتغير الشيب بالسواد أو بالتحريم والتحليل أو بالتخنث أو بتغيير دين الإسلام، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور حملاً شمولياً أو بدلياً.
وقد رخص طائفة من العلماء في خصي البهائم إذا قصد بذلك زيادة الانتفاع به لسمن أو غيره، وكره ذلك آخرون وأما خصي بني آدم فحرام، وقد كره قوم شراء الخصي، قال القرطبي: لم يختلفوا أن خصي بني آدم لا يحل ولا يجوز وأنه مثلة، وتغيير لخلق الله، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حد ولا قود قاله أبو عمرو بن عبد البر.
أخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن خصي البهائم والخيل، وأخرج ابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس قال نهى - صلى الله عليه وسلم - عن صبر الروح وإخصاء البهائم.
وعن ابن عباس فليغيرنّ خلق الله قال دين الله، وعن الضحاك وسعيد ابن جبير مثله، وعن الحسن قال الوشم ووصل الشعر، وهذه الجمل الخمسة المحكية عن اللعين مما نطق به لسانه مقالاً أو حالاً، وما فيها من اللامات الخمس للقسم كما تقدم.
(ومن يتخذ الشيطان وليّاً من دون الله) باتباعه وامتثال ما يأمر به وإيثار ما يدعو إليه من دون اتباع لا أمر الله به ولا امتثال له، وقيل الولي من الموالاة وهو الناصر (فقد خسر) بتضييع رأس ماله الفطري (خسراناً مبيناً) أي واضحاً ظاهراً لأن طاعة الشيطان توصله إلى نار جهنم المؤبدة عليه وهي غاية الخسران.(3/246)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)(3/247)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)
(يعدهم) المواعيد الباطلة كطول العمر (ويمنّيهم) الأماني العاطلة في الدنيا، عطف خاص للاهتمام، (وما يعدهم الشيطان) أي بما يوقعه في خواطرهم من الوساوس الفارغة (إلا غروراً) يغرهم به ويظهر لهم فيه النفع وهو ضرر محض، قال ابن عرفه: الغرور ما رأيت له ظاهراً تحبه وله باطن مكروه وهذه الجملة اعتراضية.(3/247)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
(أولئك) إشارة إلى أولياء الشيطان بمراعاة معنى (من) وهذا مبتدأ وقوله (مأواهم) مبتدأ ثان وقوله (جهنم) خبر للثاني والجملة خبر للأول (ولا يجدون عنها محيصاً) أي معدلاً من حاص يحييص، وقيل منجًى ومخلصاً ومحيداً ومهرباً وقيل الحيص هو الروغان بنفور والمحيص اسم مكان أو مصدر.(3/247)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
(الذين آمنوا وعملوا الصالحات) بيان لوعد الله المؤمنين عقب بيان وعد الشيطان للكافرين (سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار) أي من تحت المساكن والغرف (خالدين فيها أبداً) بلا انتهاء ولا غاية، والأبد عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا انقطاع له.
(وعد الله حقاً) قال في الكشاف مصدران الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره، ووجهه أن الأول مؤكد لمضمون الجملة الاسمية ومضمونها وعد، والثاني مؤكد لغيره أي حق ذلك حقاً (ومن أصدق من الله قيلاً) هذه الجملة مؤكده لما قبلها، والقيل مصدر قال كالقول والقال والاستفهام بمعنى النفي أي لا أحد أصدق قولاً من الله عز وجل، وقيل إن قيلاً اسم لا مصدر، وإنه منتصب على التمييز قاله ابن السكيت.(3/247)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)(3/248)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
(ليس) دخول الجنة أو الفضل أو القرب من الله أو الأمر منوطاً (بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب) بل بالعمل الصالح والإيمان كما يدل على ذلك سبب نزول الآية، وقيل الضمير يعود إلى ما وعد الله وهو بعيد، ومن أماني أهل الكتاب قولهم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، وقولهم (نحن أبناء الله وأحباؤه) وقولهم (لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة).
وعن مسروق قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام فقال هؤلاء نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء نحن أفضل منكم، فنزلت، وقد ورد معنى هذه الرواية من طرق كثيرة مختصرة ومطولة، والأماني جمع أمنية أفعولة من التمنية، والتمني تقدير الشيء في النفس وتصويره فيها والأمنية هي الصورة الحاصلة في النفس، وقيل الخطاب للمسلمين ولليهود والنصارى وقيل لمشركي مكة في قولهم لا نبعث ولا نحاسب.
(من يعمل سوءاً يجز به) قال الحسن: هذا في حق الكفار، ولا وجه له، وقال ابن عباس: هي عامة في كل من عمل سوءاً.
وفي هذه الجملة ما ترجف له القلوب من الوعيد الشديد وقد كان لها في صدور المسلمين عند نزولها موقع عظيم كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة قال لما نزلت (من يعمل سوءاً يجز به) بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم(3/248)
كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها (1).
أخرج عبد بن حميد والترمذي وابن المنذر عن أبي بكر الصديق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له لما نزلت هذه الآية: أما أنت وأصحابك يا أبا بكر فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة (2).
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهمّ يهمّه إلا كفّر الله به من سيآته (3) وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة (ولا يجد له من دون الله) أي غيره (ولياً) يحفظه (ولا نصيراً) يمنعه منه.
_________
(1) مسلم 2574.
(2) ضعيف الجامع 1335.
(3) مسلم 2573 والبخاري 2235.(3/249)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
(ومن يعمل مِنَ) من للتبعيض أي بعض (الصالحات) وهي الفرائض قاله ابن عباس، وقال الطبري من زائدة عند قوم وهو ضعيف لأن المكلف لا يطيق عمل كل الصالحات، حال كونه (من ذكر أو أنثى وهو مؤمن) أي حال كونه مؤمناً، والحال الأولى لبيان من يعمل، والحال الأخرى لإفادة اشتراط الإيمان في كل عمل صالح، وفيه إشارة إلى أن الأعمال ليست من الإيمان.
(فأولئك) إشارة إلى العامل المتصف بالإيمان، قرىء (يدخلون الجنة) على البناء للمجهول وللمعلوم والجمع باعتبار معنى (من) كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها (ولا يظلمون نقيراً) أي قدر النقير وهو النقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة، وهذا على سبيل المبالغة في نفي الظلم ووعد بتوفية جزاء أعمالهم من غير نقصان، كيف والمجازي أرحم الراحمين.(3/249)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)(3/250)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
(ومن) أي لا أحد فهو استفهام إنكاري (أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) أي أخلص نفسه له حال كونه محسناً أي عاملاً للحسنات، وقيل معنى أسلم فوض أمره إلى الله، وقال ابن عباس: هو محسن يريد هو موحد لله عز وجل لا يشرك به شيئاً، وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء فإذا انقاد لله فقد انقاد له جميع الأعضاء لأنها تابعة له.
(واتبع ملة إبراهيم حنيفاً) أي اتبع دين إبراهيم حال كون المتبع مائلاً عن الأديان الباطلة إلى دين الحق وهو الإسلام، وخص إبراهيم للاتفاق على مدحه حتى من اليهود والنصارى (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) أي جعله صفوة له وخصه بكراماته، وفيه إظهار في مقام الإضمار لتفخيم شأنه، والتنصيص على أنه متفق على مدحه.
وفائدة هذه الجملة تأكيد وجوب اتباع ملته لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلاً كان جديراً بأن يتبع ملته، قال ثعلب إنما سمي الخليل خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إلا ملأته، وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم، وقيل هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب، وقد كان إبراهيم عليه السلام محبوباً لله ومحباً له، وقيل الخليل من الاختصاص، فالله سبحانه اختص إبراهيم برسالته في ذلك الوقت واختاره لها، واختار هذا النحاس.
قال الزجاج: معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل، أخرج الحاكم(3/250)
وصححه عن جندب أنه سمِع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول قبل أن يتوفى: " إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً (1) " وأخرج الحاكم أيضاً وصححه عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (2)، وفي تعريف الخلة والسبب الذي من أجله اتخذ الله إبراهيم خليلاً أقوال ذكرها أهل التفسير (3).
_________
(1) المستدرك 2/ 550.
(2) المستدرك 2/ 469.
(3) روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: " يا جبريل لم أتخذ الله إبراهيم خليلاً؟ قال: " لإطعامه الطعام " - رواه السيوطي في الدر 20/ 230 ونسبه للبيهقي في شعب الإيمان.
وفي رواية أن الناس أصابتهم سنة فأقبلوا إلى باب إبراهيم عليه السلام يطلبون الطعام، وكانت له ميرة
من صديق له بمصر في كل سنة.
فبعث غلمانه بالإبل إلى صديقه فلم يعطهم شيئاً، فقالوا: لو احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فملؤوا الغرائر رملاً، ثم أتوا إبراهيم عليه السلام فاعلموه، فاهتم إبراهيم لأجل الخلق، فنام وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان ففتحت الغرائر فإذا دقيق حواري فأمرت الخبازين فخبزوا، وأطعموا الناس، فاستيقظ إبراهيم فقال من أين هذا الطعام فقالت: من عند خليلك المصري فقال: لا بل من عند خليلي الله عز وجل فيومئذ أتخذ الله خليلاً انتهى. قال ابن كثير وفي صحيحه هذا ووقوعه نظر وغايته أن يكون خبراً إسرائيلياً لا يصدق ولا يكذب.(3/251)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
(ولله ما في السموات وما في الأرض) ملكاً وخلقاً وعبيداً، فيه إشارة إلى أنه سبحانه اتخذ إبراهيم خليلاً لطاعته لا لحاجته ولا للتكثر به والاعتضاد بمخاللته، وإنما قال (ما) ولم يقل (من) لأنه ذهب به مذهب الجنس والذي يعقل إذا ذكر وأريد به الجنس ذكر بلفظ (ما) قيل مستأنفة لتقرير وجوب طاعة الله وقيل لبيان أن الخلة لا تخرج إبراهيم عن رتبة العبودية.
(وكان الله بكل شيء محيطاً) هذه الجملة مقررة لمعنى الجملة التي قبلها أي أحاط بكل شيء علماً وقدرة لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.(3/251)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
(ويستفتونك) يطلبون منك الفتوى وهي بالواو فتفتح الفاء، وبالياء فتضم وهي اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم واستفتيته سألته أن يفتي، والجمع الفتاوى بكسر الواو على الأصل، وقيل يجوز الفتح للتخفيف.
(في) شأن (النساء) وميراثهن (قل) لهم (الله يفتيكم فيهن) سبب نزول هذه الآية سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغيره فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم إن الله يبين لكم حكم ما سألتم عنه.
وهذه الآية رجوع إلا ما افتتحت به السورة من أمر النساء وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم (الله يفتيكم) قال مجاهد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان شيئاً، كانوا يقولون لا يغزون ولا يغنمون خيراً ففرض الله لهن الميراث حقاً واجباً.
وعن إبراهيم قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها وحبسوها من التزويج حتى تموت فيرثونها فأنزل الله هذا.
(وما يتلى عليكم في الكتاب) أي القرآن الذي يتلى عليكم يفتيكم فيهن، والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى قوله تعالى (وإن خفتم ألا تقسطوا(3/252)
في اليتامى) وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، والغرض منه تعظيم حال هذه الآية التي تتلى عليكم، وأنها في اللوح المحفوظ وأن العدل والإنصاف في حقوق اليتامى من أعظم الأمور عند الله التي تجب مراعاتها وأن الخل بها ظالم.
(في يتامى النساء) فيه خمسة أوجه (أحدها) أنه بدل من (في الكتاب) وهو بدل اشتمال ولا بد من حذف مضاف أي في حكم يتامى (الثاني) أن يتعلق بيتلى قاله أبو البقاء (الثالث) أنه بدل من فيهن بإعادة العامل (الرابع) أن يتعلق بنفس الكتاب أي فيما كتب في حكم اليتامى (الخامس) أنه حال أي كائناً في حكم يتامى والإضافة من باب إضافة الصفة إلى الموصوف إذ الأصل في النساء اليتامى.
(اللاتي لا تؤتونهنّ ما كتب) أي فرض (لهن) من الميراث وقيل من الصداق وغيره وذلك لأنهم كانوا يورثون الرجال دون النساء، والكبار دون الصغار (وترغبون أن تنكحوهن) بجمالهن ومالهن بتقدير (في) أو لعدم جمالهن ودمامتهن بتقدير عن، والآية محتملة للوجهين (والمستضعفين من الولدان) عطف على قوله (يتامى النساء) وما يتلى في حقهن هو قوله (يوصيكم الله في أولادكم) الآية.
وقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا من كان مستضعفاً من الولدان كما سلف، وإنما يورثون الرجال القائمين بالقتال وسائر الأمور.
(و) يأمركم (أن تقوموا لليتامى بالقسط) أي العدل في مهورهن ومواريثهن (وما تفعلوا من خير) في حقوق المذكورين أو من شر ففيه اكتفاء (فإن الله كان به عليماً) يجازيكم بحسب فعلكم من خير وشر.(3/253)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
(وإن امرأة) مرفوع بفعل يفسره (خافت) أي توقعت ما يخاف من زوجها وقيل معناه تيقنت، وهو خطأ (من بعلها) أي زوجها، والبعل هو السيد (نشوزاً) دوام النشوز قاله الزجاج يعني ترفعاً عليها بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها لبغضها وطموح عينه إلى أجمل منها (أو إعراضاً) عنها بوجهه، قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز التباعد، والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها.
(فلا جناح عليهما) أي لا حرج ولا إثم على الزوج والمرأة قال أبو السعود: الجناح عن الزوج ظاهر لأنه يأخذ شيئاً من قبلها، والأخذ مظنة الجناح، ومظنة أن يكون من قبيل الرشوة الحرمة، وأما نفي الجناح عنها مع أن الذي هو من قبلها هو الدفع لا الأخذ فلبيان أن الصلح ليس من قبيل الرشوة الحرمة للمعطى والآخذ اهـ.
(أن يصلحا) من المصالحة على قراءة الجمهور وظاهر الآية أنها تجوز المصالحة عند مخافة أي نشوز أو أي إعراض، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وظاهرها أنه يجوز التصالح بأي نوع من أنواعه إما بإسقاط التوبة أو بعضها أو بعض النفقة أو بعض المهر.
وقرأ الكوفيون (أن يصلحا) من الإصلاح والأول أولى لأن قاعدة العرب أن الفعل إذا كان بين اثنين فصاعداً قيل تصالح الرجلان أو القوم لا أصلح.(3/254)
(بينهما صلحا) أي في القسمة والنفقة، قال ابن عباس: فإن صالحته على بعض حقها جاز وإن أنكرت ذلك بعد الصلح كان ذلك لها، ولها حقها (والصلح) لفظ عام يقتضي أن الصلح الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف (خير) على الإطلاق أو خير من الفرقة أو من الخصومة أو من النشوز والإعراض، وهذه الجملة اعتراضية قاله الزمخشري، واللام في الصلح للجنس أو للعهد.
قد أخرج الترمذي وحسّنه وابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل ونزلت هذه الآية (1)، قال ابن عباس: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
وأخرج أبو داود والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة أن سبب نزول الآية هو قصة سودة المذكورة، وأخرج البخاري وغيره عنها في الآية قالت: الرجل يكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول أجعلك من شأني في حلّ فنزلت هذه الآية، وقد ورد عن جماعة من الصحابة نحو هذا.
وثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت: لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقسم لها بيوم سودة.
(وأحضرت الأنفس الشحّ) أي شدة البخل، وهذا إخبار منه سبحانه بأن الشح في كل واحد منهما بل في كل الأنفس الإنسانية كائن، وأنه جعل كأنه حاضر لها لا يغيب عنها بحال من الأحوال، وأن ذلك بحكم الجِبلّة والطبيعة فالرجل يشح بما يلزمه للمرأة من حسن العشرة وحسن النفقة ونحو
_________
(1) زاد المسير 217/ 493.(3/255)
ذلك، والمرأة تشح على الرجل بحقوقها اللازمة للزوج فلا تترك له شيئاً منها، وشح الأنفس بخلها بما يلزمها أو يحسن فعله لوجه من الوجوه، ومنه (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) عن ابن عباس: هواه في الشيء يحرص عليه والشح أقبح البخل وحقيقته الحرص على منع الخير.
(وإن تحسنوا) أيها الأزواج الصحبة والعشرة (وتتقوا) ما لا يجوز من النشوز والإعراض في حق المرأة فإنها أمانة عندكم، وقيل المعنى إن تحسنوا بالإقامة معها على الكراهة وتتقوا ظلمها والجور (فإن الله كان بما تعملون خبيراً) فيجازيكم الله يا معشر الأزواج بما تستحقّونه.(3/256)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء (1)) أخبر سبحانه بنفي استطاعتهم للعدل بين النساء على الوجه الذي لا ميل فيه البتّة لما جبلت عليه الطباع البشرية من ميل النفس إلى هذه دون هذه، وزيادة هذه في المحبة ونقصان هذه، وذلك بحكم الخلقة بحيث لا يملكون قلوبهم ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية، ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم اللهم: هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك (2)، رواه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن المنذر عن عائشة وإسناده صحيح.
قال ابن مسعود: العدل بين النساء الجماع، وقال الحسن: الحب وكذا المحادثة والمجالسة والنظر إليهن والتمتّع (ولو حرصتم) يعني على العدل والتسوية بينهن في الحب وميل القلب.
_________
(1) يظن بعض الناس أن هذه الآية تمنع تعدد الزوجات وفاته أن آخرها صريح في الإباحة حيث تقول (فلا تميلوا كل الميل) فهذا لا يقال لصاحب الزوجة الواحدة وتضم إلى هذا أن من الثابت أن بعض الصحابة كانوا يتزوجون أكثر من واحدة وقصة حفصة بنت عمر معروفة وهي أنها لما مات زوجها عرضها عمر على عثمان وعمر كان يعلم أن عثمان متزوج.
(2) وكذلك يأخذ بعضهم على الإسلام أنه يبيح الزوجات ويظن أنه بذلك يدافع عن المرأة وأن التعدد ضار بها وقد قرأنا كلمة للأستاذ العقاد جاء فيها (والأمر الذي يغفل عنه الكثيرون أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام إنما هو في حقيقته رخصة للمرأة التي تريده باختيارها، وليس رخصة للرجل إذا أراد فمهما يكن من إرادة الرجل فهو لا يستطيع البناء بامرأة واحدة لا تختاره فضلاً عن الجمع بين امرأتين أو أربع على هواه وإذا كان قبول المرأة شرطاً واجباً لصحة كل زواج فالرخصة إذاً في مصلحة المرأة التي تختاره وترى من أحوالها في الأسرة أنها هي الرابحة في هذا الاختيار. [ص:258]
ولقد عرفنا نحن كما عرف غيرنا أحوالاً غير نادرة كانت المرأة توازن فيها بين جميع الاعتبارات فتخرج من هذه الموازنة بتفضيل تعدد الزوجات على ما عداه).(3/257)
(فلا تميلوا كلّ الميل) إلى التي تحبونها في القسم والنفقة، ولما كانوا لا يستطيعون ذلك ولو حرصوا عليه وبالغوا فيه نهاهم عز وجل عن أن يميلوا كل الميل، لأن ترك ذلك وتجنّب الجور كل الجور في وسعهم وداخل تحت طاقتهم، فلا يجوز لهم أن يميلوا عن إحداهن إلى الأخرى كل الميل.
(فتذروها) أي الأخرى الممال عنها (كالمعلّقة) التي ليست ذات زوج ولا مطلقة تشبيهاً بالشيء الذي هو معلق غير مستقر على شيء لا في السماء ولا في الأرض، أي لا أيِّماً ولا ذات زوج، وقرأ أبي بن كعب فتذروها كالمسجونة لا هي مخلصة فتتزوج، ولا هي ذات بعل فيحسن إليها.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد وأهل السنن عن أُبَيّ هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط (1).
(وإن تصلحوا) ما أفسدتم من الأمور التي تركتم ما يجب عليكم فيها من عشرة النساء والعدل بينهن في القسم والحب (وتتقوا) الجور في القسم وكل الميل الذي نهيتم عنه (فإن الله كان غفوراً رحيماً) بكم لا يؤاخذكم بما فرط منكم من الميل إلى بعضهن دون بعض.
_________
(1) صحيح الجامع 6391 وسلسلة الأحاديث الصحيحة 277. أبو داود كتاب النكاح 38 - النسائي كتاب النساء باب 2.(3/258)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)(3/259)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
(وإن يتفرّقا) أي لم يتصالحا بل فارق كل واحد منهما صاحبه بالطلاق (يغن الله كلاً) منهما أي يجعله مستغنياً عن الآخر بأن يهيء للرجل امرأة توافقه وتقر بها عينه، والمرأة رجلاً تغتبط بصحبته ويرزقهما (من سعته) رزقاً يغنيهما به عن الحاجة، وفي هذا تسلية لكل واحد من الزوجين بعد الطلاق (وكان الله واسعاً حكيماً) واسع الفضل والرحمة، وقيل القدرة والعلم والرزق صادرة أفعاله على جهة الإحكام والإتقان.(3/259)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
(ولله ما في السموات وما في الأرض) هذه جملة مستأنفة لتقرير كمال سعته سبحانه وشمول قدرته لأن من ملكهما لا تفنى خزائنه (ولقد وصيّنا الذين أوتوا الكتاب) أي أمرناهم فيما أنزلناه عليهم من الكتب، واللام في الكتاب للجنس (من قبلكم) من اليهود والنصارى وأصحاب الكتب القديمة (وإيّاكم) يا أهل القرآن في كتابكم (أن اتقوا الله) أي أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وقال الأخفش بأن اتقوا الله.
ويجوز أن تكون أن مفسرة لأن التوصية في معنى القول وهو أن توحدوه وتطيعوه وتحذروه وتخافوه ولا تخالفوا أمره، والمعنى أن الأمر بتقوى الله شريعة قديمة أوصى الله بها جميع الأمم السالفة في كتبهم على ألسن رسلهم.(3/259)
(وإن تكفروا) أي وقلنا لهم ولكم إن تكفروا وتجاحدوا ما أوصاكم به (فإنّ لله ما في السموات وما في الأرض) خلقاً وملكاً وعبيداً فلا يضره كفركم، وفائدة هذا التكرير التأكيد ليتنبه العباد على سعة ملكه وينظروا في ذلك ويعلموا أنه غني عن خلقه (وكان الله غنياً) عن جميع خلقه (حميداً) مستحمداً إليهم قاله ابن عباس، وعن علي مثله.(3/260)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
(ولله ما في السموات وما في الأرض) أي عبيداً وملكاً قيل تكريرها تعديد لا هو موجب تقواه لأن التقوى والخشية أصل كل خير، وقيل كلام مبتدأ سيق للمخاطبين توطئة لا بعده من الشرطية غير داخل تحت القول المحكي (وكفى بالله وكيلاً) أي حفيظاً قاله قتادة، وقال ابن عباس شهيداً على أن له فيهن عبيداً وقيل دافعاً ومجيراً.(3/260)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
(إن يشأ يذهبكم) أي يفنكم (أيها الناس) ويستأصلكم بالمرة، قال ابن عباس: يريد المشركين والمنافقين (ويأت) أي يوجد دفعة مكانكم (بآخرين) أي بقوم آخرين من البشر، أو خلقاً مكان الإنس غيركم هم خير منكم، وهو كقوله تعالى (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) (وكان الله على ذلك) أي على أن يهلك من خلقه ما شاء ويأتي بآخرين من بعدهم (قديراً) لا يمتنع عليه شيء أراده ولم يزل ولا يزال موصوفاً بالقدرة على جميع الأشياء (1).
_________
(1) قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديراً) أي: هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه، كما قال: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) [محمد: 38] وقال بعض السلف: ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره.(3/260)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)(3/261)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
(من كان يريد ثواب الدنيا) هو من يطلب بعمله شيئاً من الدنيا كالمجاهد يطلب الغنيمة دون الأجر (فعند الله) أي فما باله يقتصر على أدنى الثوابين وأحقر الأجرين وهلاّ طلب بعمله ما عند الله سبحانه وهو (ثواب الدنيا والآخرة) فيحرزهما جميعاً ويفوز بهما، ظاهر الآية العموم، وقال ابن جرير الطبري: إنها خاصة بالمشركين والمنافقين (وكان الله سميعاً) أي يسمع ما يقولونه (بصيراً) أي يبصر ما يفعلونه، وهذا تذييل بمعنى التوبيخ.(3/261)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين) صيغة مبالغة أي ليتكرر ويدم منكم القيام (بالقسط) وهو العدل في شهادتكم وفي جميع أموركم، ومن عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة قوّاماً (شهداء) بالحق، وقيل بالوحدانية جمع شهيد قياساً أو شاهد على غير قياس وهو خبر بعد خبر لكان أو حال، قال ابن عطية: والحال فيه ضعيفة في المعنى لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط والأول أولى، و (لله) أي لمرضاته وثوابه.
(ولو على أنفسكم) متعلّق بشهداء، هذا المعنى هو الظاهر من الآية وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق (أو الوالدين والأقربين) أي من ذوي رحمه وأقاربه، فأما شهادته على والديه فبأن يشهد عليهما بحق للغير، وكذلك الشهادة على الأقربين، وذكر الأبوين لوجوب بِرّهما وكونهما أحب الخلق إليه،(3/261)
ثم ذكر الأقربين لأنهم مظنة المودة والتعصب، فإذا شهدوا على هؤلاء بما عليهم فالأجنبي من الناس أحرى أن يشهدوا عليه، وقد قيل: إن معنى الشهادة على النفس أن يشهد بحق على من يخشى لحوق ضرر منه على نفسه، وهو بعيد.
(إن يكن) المشهود عليه من الأقارب أو الأجانب (غنيّا) فلا يراعى لأجل غنائه استجلاباً لنفعه أو استدفاعاً لضره فتترك الشهادة عليه (أو فقيراً) فلا يراعى لفقره رحمة له وإشفاقاً عليه فتترك الشهادة عليه، وقرأ ابن مسعود: إن يكن غني أو فقير على إن كان تامة، وإنما قال (فالله أولى بهما) ولم يقل به مع أن التخيير إنما يدل على الحصول لواحد لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما.
وقيل رد الضمير إلى المعنى دون اللفظ، وقال الأخفش: تكون أو بمعنى الواو، وقيل: إنه يجوز ذلك مع تقدم ذكرهما كما في قوله تعالى (وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) وقد تقدم في مثل هذا ما هو أبسط مما هنا، وقرأ أُبَيّ فالله أولى بهم.
(فلا تتّبعوا الهوى) في الشهادة (أن تعدلوا) إما من العدل كأنه قال: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، واختاره الزمخشري أو من العدول واختاره القاضي كأنه قال: فلا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق أو كراهة أن تعدلوا عنه.
(وإن تلووا) من اللَّي يقال لويت فلاناً حقه إذا دفعت عنه والمراد لي الشهادة ميلاً إلى المشهود عليه، وقرأ الكوفيون وإن تلوا من الولاية أي وإن تلوا الشهادة وتتركوا ما يجب عليكم من تأديتها على وجه الحق، وقد قيل إن هذه القراءة تفيد معنيين الولاية والإعراض، والقراءة الأولى تفيد معنى واحداً، وهو الإعراض.(3/262)
وزعم بعض النحويين أن القراءة الثانية غلط ولحن لأنه لا معنى للولاية هنا، قال النحاس: وغيره وليس يلزم هذا ولكن يكون تلوا بمعنى تلووا، والمعنى ما قال ابن عباس: يلوي لسانه بغير الحق ولا يقيم الشهادة على وجهها.
(أو تعرضوا) عن تأدية الشهادة من الأصل، وقيل معناه التحريف والتبديل في الشهادة، وقيل هو خطاب مع الحكام أن يميلوا مع أحد الخصمين أو يعرضوا عنه بالكلية (فإنّ الله كان بما تعملون) من اللَّيّ والإعراض أو من كل عمل (خبيراً) وفي هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة كما يجب عليه.
وقد روي أن هذه الآية تعم القاضي والشهود أما الشهود فظاهر، وأما القاضي فذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين أو يلوي عن الكلام معه، وقيل هي خاصة باليهود، قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم لا يهابون غنياً لغنائه ولا يرحمون مسكيناً لمسكنته، وقال الرجلان يجلسان عند القاضي فيكون لَيُّ القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر (1).
_________
(1) وروى ابن جرير 9/ 403 عن السدي " إن فقيراً وغنياً اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان (ميله) مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغني فنزلت هذه الآية.(3/263)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137)(3/264)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
(يا أيّها الذين آمنوا) خطاب لكافة المسلمين، وذكر ذلك عقب الأمر بالعدل لأنه لا يكون العدل إلا بعد الاتصاف بالإيمان، فهو من ذكر السبب بعد المسبب (آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل) أي اثبتوا على إيمانكم وداوموا عليه، على حد، فاعلم أنه لا إله إلا الله، ويا أيها النبي اتق الله، والكتاب هو القرآن واللام للعهد، والكتاب الثاني هو كل كتاب واللام للجنس.
وقيل: إن الآية نزلت في المنافقين، والمعنى يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله، وقيل نزلت في المشركين، والمعنى يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله، وهما ضعيفان.
(ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر) أي بشيء من ذلك كما جرى عليه القاضي كالكشاف، وذكر الرسول فيما سبق لذكر الكتاب الذي أنزل عليه، وذكر الرسل هنا لذكر الكتب جملة فناسبه ذكر الرسل جملة، وجمع أيضاً لما أن الكفر بكتاب أو رسول كفر بالكل، قاله الكرخي.
وتقديم الملائكة على الرسل لأنهم الوسائط بين الله وبين رسله، قال الضحاك: يعني بذلك أهل الكتاب كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل وأقروا على أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فلما بعث الله رسوله(3/264)
دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد والقرآن، وذكرهم الذي أخذ عليهم من الميثاق فمنهم من صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - واتبعه ومنهم من كفر.
(فقد ضلّ) عن القصد لأن الكفر ببعضه كفر بكله (ضلالاً بعيداً) عن الحق بحيث يعسر العود منه إلى سواء الطريق، وقول القاضي: بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه، لا يصح إلا إذا كانت الآية في جمع مخصوص علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه.
والظاهر أنه لا يحتاج إلى هذه المبالغة بل المراد ما أشرنا إليه لأن الذين يكفرون بما ذكر قد يسلم بعضهم، وزيادة الملائكة واليوم الآخر في جانب الكفر لما أنه بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمان أصلاً، وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو رسول كفر بالكل.(3/265)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
(إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً) أخبر الله سبحانه عن هذه الطائفة التي آمنت ثم كفرت ثم آمنت ثم كفرت ثم ازدادت كفراً بعد ذلك كله أنه (لم يكن الله) سبحانه (ليغفر لهم) ذنوبهم ما أقاموا عليه (ولا ليهديهم سبيلاً) طريقاً يتوصلون به إلى الحق ويسلكونه إلى الخير لأنه يبعد منهم كل البعد أن يخلصوا لله ويؤمنوا إيماناً صحيحاً لأن قلوبهم قد تعودت الكفر وتمرنت على الردة، وكان الإيمان عندهم أهون شيء وأدونه، لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم.
وفي هذا إشارة إلى أن الكفر بعد التوبة مغفور ولو بعد ألف مرة كما قاله الأصفهاني وغيره، وهذا الاضطراب منهم تارة يدَّعون أنهم مؤمنون، وتارة يمرقون من الإيمان ويرجعون إلى ما هو دأبهم وشأنهم من الكفر المستمر والجحود الدائم، يدل أبلغ دلالة على أنهم متلاعبون بالدين ليست لهم نية صحيحة ولا قصد خالص.(3/265)
قيل المراد بهؤلاء اليهود، فإنهم آمنوا بموسى والتوراة ثم كفروا بعبادتهم العجل ثم آمنوا به عند عوده إليهم، ثم كفروا بعيسى والإنجيل ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، والمراد بازدياد الكفر أنهم استمروا على ذلك كما هو الظاهر من حالهم، وإلا فالكافر إذا آمن وأخلص إيمانه وأقلع عن الكفر فقد هداه الله السبيل الوجب للمغفرة، والإسلام يجب ما قبله، ولكن لما كان هذا مستبعداً منهم جداً كان غفران ذنوبهم وهدايتهم إلى سبيل الحق مستبعداً (1).
وعن قتادة قال: هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعن ابن زيد قال: هؤلاء المنافقون آمنوا مرتين ثم كفروا مرتين ثم ازدادوا كفراً بعد ذلك بموتهم على الكفر، وذلك لأن من تكرر منه الإيمان والكفر بعد الإيمان مرات كثيرة دل على أنه لا وقع للإيمان في قلبه، ومن كان كذلك لا يكون مؤمناً بالله إيماناً كاملاً صحيحاً وازديادهم الكفر هو استهزاؤهم وتلاعبهم بالإيمان.
قال علي: لا تقبل توبته أي توبة مثل هذا المتلاعب، وذهب أكثر أهل العلم إلى أن توبته مقبولة، وظاهر القرآن مع علي.
_________
(1) قال ابن الجوزي: أنها في اليهود آمنوا بموسى، ثم كفروا بعد موسى، ثم آمنوا بعُزيْر، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، هذا قول ابن عباس. وروى عن قتادة قال: آمنوا بموسى، ثم كفروا بعبادة العجل، ثم آمنوا به بعد عوده، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد.(3/266)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)(3/267)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
(بشّر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً) مؤلماً هو عذاب النار، إطلاق البشارة على ما هو شر خالص لهم، تهكّم بهم، وقد مر تحقيقه، وقيل البشارة كل خبر تتغير به بشرة الوجه ساراً كان ذلك الخبر أو غير سار، والأول أولى وقيل المعنى: إجعل موضع بشارتك لهم العذاب لأن العرب تقول تحيتك الضرب أي هذا يدل من تحيتك.(3/267)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
(الذين يتخذون الكافرين أولياء) وصف للمنافقين أو منصوب على الذم أي يجعلون الكفار أولياء لهم يوالونهم على كفرهم ويمالؤونهم على ضلالهم (من دون المنافقين) حال من فاعل يتخذون أي يتخذون الكفرة متجاوزين ولاية المؤمنين لما يتوهمون فيهم من القوة، ولقولهم إن ملك محمد سيزول.
(أيبتغون عندهم العزّة) هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والجملة معترضة أي لا يجدونها عندهم (فإن العزة لله جميعا) هذه الجملة تعليل لما تقدم من توبيخهم بابتغاء العزة عند الكافرين، وجميع أنواع العزة وأفرادها مختص بالله سبحانه في الدنيا والآخرة، ولا ينالها إلا أولياؤه الذين كتب لهم العزة، وما كان منها مع غيره فهو من فضله وتفضله كما في قوله (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين).
وهذا يقتضي بطلان التعزّز بغيره سبحانه واستحالة الانتفاع به، وعزة الكفار ليس معتدّاً بها بالنسبة إلى عزة المؤمنين لأنه لا يعز إلا من أعزه الله، والعزة الغلبة يقال عنه بعزه عزا إذا غلبه.(3/267)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
(وقد نزّل عليكم في الكتاب) الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق لأن من أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل ما أنزل الله، وقيل: إنه خطاب للمنافقين فقط كما يفيده التشديد والتوبيخ، والكتاب هو القرآن والذي أنزله الله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) وهذا نزل بمكة لأنه قد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود حال سخريتهم بالقرآن واستهزائهم به فنهوا عن ذلك.
ثمّ إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين، وكان المنافقون يجلسون إليهم ويخوضون معهم في الاستهزاء بالقرآن فنهى الله المؤمنين عن القعود معهم بقوله (أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها) أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله، فأوقع السماع على الآيات، والمراد سماع الكفر والاستهزاء.
(فلا تقعدوا معهم) ما داموا كذلك (حتى) غاية للنهي (يخوضوا في حديث غيره) أي حديث الكفر والاستهزاء.
وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية، كما يقع كثيراً من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء(3/268)
الرجال بالكتاب والسنة، ولم يبق في أيديهم سوى قال إمام مذهبنا كذا، وقال فلان من أتباعه بكذا، وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسئلة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ولم يرفعوا إلى ما قاله رأساً، ولا بالوا به بالة وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع.
بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه القائل، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل، مقدماً على الله وعلى كتابه وعلى رسوله فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها، والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم كما أوضح الشوكاني ذلك في القول المفيد وأدب الطلب، اللهم انفعنا بما علمتنا واجعلنا من المتقيدين بالكتاب والسنة، وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار، يا مجيب السائلين.
قال ابن عباس: دخل في هذه الآية كل محدث في الدين وكل مبتدع إلى يوم القيامة.
(إنكم إذاً مثلهم) مستأنفة سيقت لتعليل النهي أي أنكم إن فعلتم ذلك وقعدتم معهم ولم تنتهوا فأنتم مثلهم في الكفر واستتباع العذاب (1)، قيل
_________
(1) روى الإمام أحمد 2/ 148 بترتيب الساعاتي، والترمذي 4/ 20 وحسنه، والنسائي 1/ 198 من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر " وهو حديث صحيح. قال ابن حجر: أخرجه النسائي من حديث جابر مرفوعاً وإسناده جيد، قلت: وليس في النسائي الشطر الثاني من الحديث، وأخرجه الترمذي من وجه آخر بسند فيه ضعف، وأبو داود في " سننه " 3/ 477 عن ابن عمر بسند فيه انقطاع، وأحمد 1/ 210 عن عمر- بسند فيه مجهول. وفي " القرطبي " 522/ 417! فكل من جلس مجلس معصية، ولم ينكر عليهم أن يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكر عليهم، فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.(3/269)
وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل:
*وكل قرين بالمقارن يقتدي*
وهذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم إلا ما يروى عن الكلبي فإنه قال: هي منسوخة بقوله تعالى (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء) وهو مردود فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزؤن بها.
قال أهل العلم: هذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر، ومن رضي بمنكر أو خالط أهله كان في الإثم بمنزلتهم إذا رضي به وإن لم يباشره، فإن جلس إليهم ولم يرض بفعلهم، بل كان ساخطاً له وإنما جلس على التقيّة والخوف فالأمر فيه أهون من المجالسة مع الرضا، وإن جلس مع صاحب بدعة أو منكر ولم يخض في بدعه أو منكره فيجوز الجلوس معه مع الكراهة، وقيل لا يجوز بحال والأول أولى.
(إنّ الله جامع المنافقين والكافرين) هذا تعليل لكونهم مثلهم في الكفر، قيل وهم القاعدون والمقعود إليهم عند من جعل الخطاب موجهاً إلى المنافقين، وعن سعيد بن جبير قال: إن الله جامع المنافقين من أهل المدينة والمشركين من أهل مكة الذين خاضوا واستهزؤا بالقرآن (في جهنم جميعاً) كما اجتمعوا في الدنيا على الكفر والاستهزاء.(3/270)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
(الذين يتربّصون بكم) أي ينتظرون بكم ما يتجدد ويحدث لكم من خير أو شر، يقال تربصت الأمر تربصاً انتظرته، والربصة وزان غرفة اسم منة، وتربصت الأمر بفلان انتظرت وقوعه به، والخطاب في (بكم) للمؤمنين والموصول صفة للمنافقين أو بدل منهم فقط دون الكافرين لأن التربص المذكور هو من المنافقين دون الكافرين، وعليه جرى القاضي كالكشاف ويجوز أن يكون على الذم.
(فإن كان لكم فتح) هذه الجملة والتي بعدها حكاية لتربصهم أي إن حصل لكم فتح (من الله) بالنصر على من يخالفكم من الكفار وبالظفر على عدوكم وغنيمة تنالون منهم (قالوا) لكم (ألم نكن معكم) في الإتصاف بظاهر الإسلام والتزام أحكامه والمظاهرة والتسويد وتكثير العدد.
(وإن كان للكافرين نصيب) من الغلب لكم والظفر بكم (قالوا) للكافرين (ألم نستحوذ عليكم) أي ألم نقهركم ونغلبكم ونتمكن منكم ولكن أبقينا عليكم، وقيل المعنى أنهم قالوا للكفار الذين ظفروا بالمسلمين ألم نستحوذ عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم.
والأول أولى فإن معنى الاستحواذ الغلب يقال استحوذ على كذا أي غلب عليه، ومنه قوله تعالى (استحوذ عليهم الشيطان) ولا يصح أن يقال ألم نغلبكم حتى هابكم المسلمون، ولكن المعنى ألم نغلبكم يا معشر الكافرين ونتمكن منكم فتركناكم وأبقينا عليكم حتى حصل لكم هذا الظفر بالمسلمين.(3/271)
وسمي ظفر المسلمين فتحاً، وظفر الكافرين نصيباً تعظيماً لشأن المسلمين وتحقيراً لحظ الكافرين لتضمّن الأول نصرة دين الله وإعلاء كلمته، ولهذا أضاف الفتح إليه تعالى، وحظ الكافرين في ظفرهم دنيوي سريع الزوال، قاله الكرخي.
(ونمنعكم من المؤمنين) بتخذيلهم وتثبيطهم عنكم حتى ضعفت قلوبهم عن الدفع لكم وعجزوا عن الانتصاف منكم، والمراد أنهم يميلون إلى من له الغلب والظفر من الطائفتين، ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة (1).
وهذا شأن المنافقين أبعدهم الله وشأن من حذا حذوهم من أهل الإسلام من التظهّر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى، والميل إلى من معه الحظ من الدنيا في مال أو جاه فيلقاه بالتملق والتودد والخضوع والذلة، ويلقى من لا حظ له من الدنيا بالغلظة وسوء الخلق ويزدري به ويكافحه بكل مكروه، فقبّح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها.
(فالله يحكم بينكم) وبينهم (يوم القيامة) بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله، ففي هذا اليوم تنكشف الحقائق وتظهر الضمائر، وإن حقنوا في الدنيا دماءهم وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقاً، وقيل يحكم بأن يدخلكم الجنة ويدخلهم النار (2).
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق: 51، وابن جرير 9/ 327 بإسناد صحيح، والحاكم 2/ 309. وصححه ووافقه الذهبي، والسيوطي في " الدر " 2/ 235.
(2) ذكر القرطبي في " تفسيره " 5/ 419 للآية التأويل الثالث: وهو أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً منه إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر، ويتقاعدوا عن التوبة، فيكون تسليط العدو من قبلهم.(3/272)
(ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) هذا في يوم القيامة إذا كان المراد بالسبيل النصر والغلب، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة يعني أن حجة المؤمنين غالبة في الدنيا على الكافرين وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة، قال ابن عطية: قال جميع أهل التأويل: إن المراد بذلك يوم القيامة، وبه قال علي وابن عباس.
قال ابن العربي وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله يعنى قوله (فالله يحكم بينكم يوم القيامة) وذلك يسقط فائدته إذ يكون تكراراً، هذا معنى كلامه.
وقيل المعنى أن الله لا يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين يمحو به دولتهم بالكلية ويذهب آثارها، ويستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً. وقيل: إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل، ولا تاركين للنهي عن المنكر، كما قال تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) قال ابن العربي: وهذا نفيس جداً وقيل إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً شرعاً فإن وجد فبخلاف الشرع فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة.
هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل منها أن الكافر لا يرث المسلم، ومنها أن الكافر إذا استولى على مال المسلم لم يملكه، ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبداً مسلماً، ومنها أن المسلم لا يُقتل بالذمي إلى غير ذلك من الأحكام.(3/273)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً (142)
(إنّ المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم، وقد تقدم معنى الخدع في البقرة ومخادعتهم لله هي أنهم يفعلون فعل الخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية.
ومعنى كون الله خادعهم أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه وذلك بأنه تركهم على ما هم عليه من التظهّر بالإسلام في الدنيا فعصم به أموالهم ودماءهم، وأخّر عقوبتهم إلى الدار الآخرة فجازاهم على خداعهم بالدّرك الأسفل من النار.
قال في الكشاف: والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه وقال الحسن: في قوله (يخادعون الله) يلقى على كل مؤمن ومنافق نور يمشون به يوم القيامة حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفيء نور المنافقين ومضى المؤمنون بنورهم، فتلك خديعة الله إياهم، وعن السدي ومجاهد وسعيد بن جبير نحوا نحوه ولا أدري من أين جاء لهم هذا التفسير فإن مثله لا ينقل إلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(وإذا قاموا إلى الصلاة) مع المؤمنين (قاموا كسالى) جمع كسلان والمراد أنهم يصلّون وهم متكاسلون متثاقلون لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً، وقرىء كسلى والكسل الفتور والتواني وأكسل إذا جامع ولم ينزل وفتر.
(يراؤون الناس) أي لا يقومون إلى الصلاة إلا لأجل الرياء والسمعة لا(3/274)
لأجل الدين، قال قتادة: والله لولا الناس ما صلّى منافق، والرياء إظهار الجميل ليراه الناس لا لاتباع أمر الله وقد تقدم بيانه، والمراآة المفاعلة قاله الزمخشري والجملة حال وقيل استئناف وقيل بدل وفيه نظر.
(ولا يذكرون الله إلا) ذكراً (قليلاً) أو لا يصلّون إلا صلاة قليلة، ووصف الذكر بالقلة لعدم الإخلاص أو لكونه غير مقبول أو لكونه قليلاً في نفسه، لأن الذي يفعل الطاعة لقصد الرياء إنما يفعلها في المجامع ولا يفعلها خالياً كالمخلص، قال ابن عباس: إنما قلّ ذلك لأنهم يفعلونه رياء سمعة ولو أرادوا بذلك القليل وجه الله لكان كثيراً.
عن ابن جريج في الآية قال نزلت في عبد الله بن أُبَيّ وأبي عامر بن النعمان، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة وصف صلاة المنافق وأنه يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً (1).
_________
(1) أخرج الإمام مسلم 1/ 451 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار ". وفي " المسند " عن أبي هريرة رضي الله عنه " ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار " وروى الإمام مالك في " الموطأ " 1/ 220 عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً " ورواه مسلم 1/ 434، والترمذي 1/ 301، والنسائي 1/ 254.(3/275)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)(3/276)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
(مذبذبين بين ذلك) أي بين الإيمان والكفر المعلومين من المقام، والمذبذب المتردد بين أمرين والذبذبة الاضطراب، يقال ذبذبه فتذبذب، قال ابن جني: المذبذب القلق الذي لا يثبت على حال، فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين، لا مخلصين الإيمان، ولا مصرحين بالكفر.
قال في الكشاف: وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين مرة بعد أخرى أي يذاد ويدفع فلا يقر في جانب واحد، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب كأن المعنى كلما مال إلى جانب ذب عنه انتهى، وانتصاب مذبذبين إما على الحال أو على الذم.
(لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) أي لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين، قال مجاهد: هم المنافقون لا إلى هؤلاء أي أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا إلى هؤلاء أي اليهود.
وثبت في الصحيح عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة فلا تدري أيهما تتبع (1) " العائرة بالعين المهملة المتحيرة المترددة، ومعنى تعير تتردد وتذهب يميناً وشمالاً، مرة إلى هذه ومرة إلى هذه لا تدري إلى أين تذهب.
_________
(1) صحيح الجامع الصغير 5729. زاد السير/232.(3/276)
(ومن يضلل الله) أي يخذله ويسلبه التوفيق (فلن تجد له سبيلاً) أي طريقاً توصله إلى الحق.(3/277)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
(يا أيها الذين آمنوا) خطاب للمؤمنين الخلص (لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) أي لا تجعلوهم خاصة لكم وبطانة توالونهم من دون إخوانكم من المؤمنين كما فعل المنافقون من موالاتهم للكافرين.
(أتريدون) الاستفهام للتقريع والتوبيخ، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال أتجعلون للمبالغة في إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه لا ينبغي أن يصدر عن العاقل إرادته فضلاً عن صدور نفسه (أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً) أي حجة بينة يعذبكم بها بسبب ارتكابكم لما نهاكم عنه من موالاة الكافرين (1).
قال قتادة: إن لله السلطان على خلقه ولكنه يقول عذراً مبيناً، وعن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة والله سبحانه أعلم، والسلطان يذكر ويؤنث فتذكيره باعتبار البرهان، وتأنيثه باعتبار الحجة إلا أن التأنيث أكثر عند الفصحاء، وقال الفراء: التذكير أشهر وهي لغة القرآن.
_________
(1) رواه الإمام أحمد 7/ 129، ومسلم 4/ 2146 وابن جرير 9/ 333. والشاة العائرة: هي المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع، من قولهم: عار الفرس والكلب وغيرهما يعير عياراً: إذا ذهب كأنه منفلت من صاحبه، فهو يتردد هنا وهنا. وقوله: تعير إلى هذه مرة. أي: تذهب في ترددها إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة.(3/277)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)(3/278)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
(إن المنافقين في الدّرك الأسفل من النار) أي في الطبق الذي في قعر جهنم، قرىء الدرك بسكون الراء وتحريكها، قال أبو علي: هما لغتان والجمع أدراك وقيل جمع المحرك أدراك مثل جمل وأجمال، وجمع الساكن أدرك مثل فلس وأفلس، قال النحاس: والتحريك أفصح.
والدرك الطبقة والنار دركات سبع بعضها فوق بعض، وسميت طبقاتها دركات لأنها متداركة متتابعة، فالمنافق في الدرك الأسفل منها وهي الهاوية لغلظ كفره وكثرة غوائله، وأعلى الدركات جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية، وقد يسمى جميعها باسم الطبقة العليا أعاذنا الله من عذابها.
وقيل الدرك بيت مقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم، وإنما كان المنافق أشد عذاباً من الكافر لأنه أمن السيف في الدنيا فاستحق الدرك الأسفل في الآخرة تعديلاً، ولأنه مثله في الكفر وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله.
قال ابن مسعود: الدرك الأسفل توابيت من حديد مقفلة عليهم، وفي لفظ مبهمة عليهم، أي مغلقة لا يهتدى لمكان فتحها، وعن أبي هريرة نحوه (1).
(ولن تجد لهم نصيراً) يخلصهم من ذلك الدرك، والخطاب لكل من يصلح له أو للنبي - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) زاد المسير 234.(3/278)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
(إلا الذين تابوا) من النفاق (وأصلحوا) ما أفسدوا(3/278)
من أحوالهم وأعمالهم (واعتصموا بالله) أي تمسكوا بعهده ووثقوا به، والاعتصام به التمسك به والوثوق بوعده (وأخلصوا دينهم لله) أي جعلوه خالصاً له غير مشوب بطاعة غيره، فهذه الأمور الأربعة إذا حصلت فقد كمل الإيمان وذلك قوله (1).
(فأولئك) الذين اتصفوا بالصفات السابقة الأربعة والإشارة بما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة. وعلو الطبقة (مع المؤمنين) فيما يؤتونه، قال الفراء: أي من المؤمنين يعني الذين لم يصدر منهم نفاق أصلاً.
قال القتيبي: حاد عن كلامهم غضباً عليهم فقال أولئك مع المؤمنين ولم يقل هم المؤمنون انتهى، والظاهر أن معنى (مع) هو معتبر هنا أي فأولئك مصاحبون للمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة ثم بين ما أعد الله للمؤمنين الذين هؤلاء معهم فقال:
(وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً) في الآخرة وحذفت الياء من (يؤتى) في الخط كما حذفت في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله (يوم يدع الداع، وسندع الزبانية، ويوم يناد المناد) ونحوها فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين، فجاء الرسم تابعاً للفظ، والقراء يقفون عليه دون ياء اتباعاً للخط الكريم إلا يعقوب والكسائي وحمزة فإنهم يقفون بالياء نظراً إلى الأصل.
_________
(1) قال السيوطي في " الدر " 2/ 236 رواه ابن أبي شيبة، وهناد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في صفة الناس عن ابن مسعود. قلت: وفي سنده انقطاع، لأن خيثمة بن عبد الرحمن الراوي عن ابن مسعود لم يسمع منه، ذكره الإمام أحمد، ورواه ابن أبي حاتم من طريق حماد ابن سلمة: أخبرنا علي بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن أن ابن مسعود ... وعلي بن يزيد ضعيف، والقاسم بن عبد الرحمن صدوق يرسل كثيراً وفي " الطبري " 9/ 339 عن أبي هريرة (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) قال: " في توابيت ترتج عليهم " وفي تفسير ابن كثير 1/ 570: ووراه ابن أبي حاتم بسند حسن، ولفظه: " الدرك الأسفل: بيوت لها أبواب تطبق عليهم، فتوقد من تحتهم ومن فوقهم ".(3/279)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)(3/280)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
(ما يفعل الله بعذابكم) هذه الجملة متضمنة لبيان أنه لا غرض له سبحانه في التعذيب إلا مجرد المجازاة للعصاة، والاستفهام للتقرير والمعنى أي منفعة له في عذابكم (إن شكرتم وآمنتم) فإن ذلك لا يزيد في ملكه كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه (وكان الله شاكراً عليماً) أي يشكر عباده على طاعته فيثيبهم عليها، ويتقبلها منهم، والشكر في اللغة الظهور، يقال دابة شكور إذا ظهر من سمنها فوق ما تعطى من العلف.(3/280)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
(لا يحبّ الله) نفي الحب كناية عن البغض أي يبغض (الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) قرىء على البناء للمجهول وعلى البناء للمعلوم، واختلف أهل العلم في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظُلم فقيل هو أن يدعو على من ظلمه، وقيل لا بأس بأن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول فلان ظلمني أو هو ظالم أو نحو ذلك، وقيل معناه إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه فهو مباح له، والآية على هذا في الإكراه وكذا قال قطرب.
والظاهر من الآية أنه يجوز لمن ظُلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح بلفظ " ليُّ الواجد ظلم يُحلّ عرضه وعقوبته ".
وأما على القراءة الثانية فالاستثناء منقطع أي إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له.(3/280)
وقال قوم معنى الكلام لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلماً وعدواناً وهو ظالم في ذلك، وهذا شأن كثير من الظلمة فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه وينالون من عرضه.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم فقال سوءاً فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه، وعن ابن عباس قال: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً فإنه رخص له أن يدعو على من ظلمه، وإن يصبر فهو خير له.
وقد أخرج ابن أبي شيبة والترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من دعا على من ظلمه فقد انتصر (1)، وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: المتسابان ما قالاه فعلى الباديء منهما ما لم يعتد المظلوم (2).
قال الحسن: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ولكن ليقل اللهم أعِني عليه اللهم استخرج لي حقي، اللهم حل بيني وبين ما يريد ونحوه من الدعاء.
وقيل نزلت في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه فله أن يشكو ما صنع به، وبه قال مجاهد والأول أولى (3).
_________
(1) ضعيف الجامع/5588.
(2) مسلم 2587.
(3) ابن جرير 9/ 347 ونسبه السيوطي في " الدر " للفريابي وعبد بن حميد وجاء في " تفسير ابن كثير " 1/ 570: قال ابن عباس في تفسير الآية: يقول: لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله. (إلا من ظلم) وإن صبر فهو خير له.
[ص:282]
وروى أبو داود [2/ 157] عن عائشة قالت: سرق لها شيء، فجعلت تدعو عليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تسبخي عنه " (قال الخطابي: لا تسبخي عنه، أي: لا تخففي عنه بدعائك) وقال الحسن البصري: لا يدع عليه، وليقل: اللهم أعني عليه، واستخرج حقي منه. وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الآية: هو الرجل يشتمك فتشتمه لكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه، لقوله: " (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل) وروى أبو داود [4/ 377]، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " المستبان ما قالا فعلى الباديء منهما ما لم يعتد المظلوم " [قلت: ورواه أحمد في المسند/19414 والبخاري في " الأدب المفرد " 1/ 512، ومسلم 4/ 2000، والترمذي 3/ 139.(3/281)
وقال مقاتل: نزلت في أبي بكر الصديق وذلك أن رجلاً نال منه والنبي حاضر فسكت عنه أبو بكر مراراً ثم رد عليه، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبو بكر: يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئاً حتى إذا رددت عليه قمت، قال: إن ملكاً كان يجيب عنك فلما رددت عليه ذهب الملك وجاء الشيطان فقمت (1) ونزلت هذه الآية.
(وكان الله سميعاً عليماً) هذا تحذير للظالم بأن الله يسمع ما يصدر منه ويعلم به.
ثم بعد أن أباح للمظلوم أن يجهر بالسوء ندب إلى ما هو الأولى والأفضل فقال:
_________
(1) مسند أحمد/2 - 426(3/282)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
(إن تبدوا خيراً أو تخفوه) يدخل في هاتين الكلمتين جميع أعمال البر وجميع دفع الضرر (أو تعفوا عن سوء) تصابون به (فإن الله كان عفواً) عن عباده (قديراً) على الإنتقام منهم بما كسبت أيديهم فاقتدوا به سبحانه فإنّه يعفو مع القدرة.(3/282)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150)
(إن الذين يكفرون بالله ورسله) لما فرغ سبحانه عن ذكر المشركين والمنافقين، ذكر الكفار من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكان ذلك كالكفر بجميع الرسل والكتب المنزلة والكفر بذلك كفر بالله.
وينبغي حمل هذه الآية على أنه استلزم ذلك كفرهم ببعض الكتب والرسل لا أنهم كفروا بالله ورسله جميعاً، فإن أهل الكتاب لم يكفروا بالله، ولا بجميع رسله لكنهم لما كفروا بالبعض كان ذلك كفراً بالله وبجميع الرسل.
(ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) يعني أنهم كفروا بالرسل بسبب كفرهم ببعضهم وآمنوا بالله فكان ذلك تفريقاً بين الله وبين رسله (ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض) وهم اليهود آمنوا. بموسى وكفروا بعيسى ومحمد، وكذلك النصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد (ويريدون أن يتخذوا بين ذلك) أي الإيمان والكفر (سبيلاً) أي ديناً متوسطاً بينهما.
قال قتادة: أولئك أعداء الله اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة وبموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بالقرآن ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، اتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله، وعن السدي وابن جريج نحوه.(3/283)
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)(3/284)
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
(أولئك هم الكافرون) أي الكاملون في الكفر (حقّاً) مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي حق ذلك حقاً أو بمعنى كفراً حقاً، وقال أبو البقاء: كافرون من غير شك، وقد طعن الواحدي في هذا التوجيه فقال الكفر لا يكون حقاً بوجه من الوجوه، والجواب أن الحق هنا ليس يراد به ما يقابل الباطل بل المراد أنه كائن لا محالة وأن كفرهم مقطوع به.
(وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً) يهانون فيه في الآخرة وهو عذاب النار، وإنما أظهر في مقام الإضمار ذماً لهم وتذكيراً لوصفهم أو المراد جميع الكافرين.(3/284)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
(والذين آمنوا بالله ورسله) كلهم (ولم يفرّقوا بين أحدهم) أي من الرسل بل آمنوا بجميعهم ولم يقولوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ودخول (بين) على أحد لكونه عاماً في المفرد مذكراً ومؤنثاً ومثنّاهما وجمعهما، وقد تقدم تحقيقه.
(أولئك) يعني من هذه صفتهم (سوف يؤتيهم أجورهم) يعني جزاء إيمانهم بالله وبجميع كتبه ورسله وثواب أعمالهم (وكان الله غفوراً رحيماً) يستر السيئآت ويقبل الحسنات، والآية تدل على بطلان قول المعتزلة في تخليد مرتكب الكبيرة ممن آمن بالله ورسله.(3/284)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)(3/285)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
(يسألك أهل الكتاب أن تنزّل عليهم كتاباً من السماء) هم اليهود سألوه - صلى الله عليه وسلم - أن يرقى إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتاباً مكتوباً فيما يدعيه يدل على صدقه دفعة واحدة كما أتى موسى بالتوراة، تعنتاً منهم أبعدهم الله (فقد سألوا موسى) سؤالاً (أكبر من ذلك) السؤال (فقالوا أرنا الله جهرة) أي عياناً، وقد تقدم معناه في البقرة، وجهرة نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة.
(فأخذتهم الصاعقة) هي النار التي نزلت عليهم من السماء فأهلكتهم (بظلمهم) في سؤالهم الباطل لامتناع الرؤية عياناً في هذه الحالة، وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة، فقد جاءت بذلك الأحاديث المتواترة، ومن استدل بهذه الآية على امتناع الرؤية يوم القيامة فقد غلط غلطاً بيناً.
ثم لم يكتفوا بهذا السؤال الباطل الذي نشأ منهم بسبب ظلمهم بعد ما رأوا المعجزات بل ضموا إليه ما هو أقبح منه وهو عبادة العجل (ثم اتخذوا العجل) إلهاً، وفي الكلام تقدير أي فأحييناهم فاتخذوا العجل (من بعد ما جاءتهم البينات) البراهين والدلائل والمعجزات الواضحات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها لا التوراة لأنها لم تنزل عليهم بعد.
(فعفونا عن ذلك) أي عما كان منهم من التعنت وعبادة العجل، وفيه(3/285)
استدعاء لهم إلى التوبة كأنه قيل إن أولئك الذين أجرموا قد تابوا فعفونا عنهم، فتوبوا أنتم حتى نعفو عنكم (وآتينا موسى سلطاناً مبيناً) أي حجّة بينة وهي الآيات التي جاء بها، وسميت سلطاناً لأن من جاء بها قهر خصمه، ومن ذلك أمر الله سبحانه له بأن يأمرهم بقتل أنفسهم توبة عن معصيتهم فإنه من جملة السلطان الذي قهرهم به، والسلاطة القهر.(3/286)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
(ورفعنا فوقهم الطور) أي الجبل المسمى بالطور (بميثاقهم) الباء للسببية أي بسبب ميثاقهم ليعطوه لأنه روي أنهم امتنعوا من قبول شريعة موسى فرفع الله عليهم الطور فقبلوها، وقيل إن المعنى بسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ عليهم وهو العمل بما في التوراة، وقد تقدم رفع الجبل في البقرة، وكذلك تفسير قوله:
(وقلنا لهم) على لسان موسى والطور مظل عليهم، قاله الجلال وأبو السعود والنسفي والخازن والبيضاوي، وهذا التقييد سبق قلم لأن قصة فتح القرية كانت بعد خروجهم من التّيه وقصة رفع الجبل فوق رؤسهم كانت عقب نزول التوراة قبل دخولهم التيه.
(ادخلوا الباب) أي باب القرية، قال قتادة: كنا نحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس، وقيل هو إيلياء وقيل هو أريحاء وقيل هو اسم قرية، وقيل باب القبة التي كانوا يصلون إليها، فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام.
(سجّداً) فخالفوا ودخلوا وهم يزحفون على أستاههم (وقلنا لهم لا تعدوا) أي لا تعتدوا فهو من الإعتداء بدليل إجماع السبعة على اعتدوا منكم (في السبت) فتأخذوا ما أمرتم بتركه فيه من الحيتان، وقد تقدم تفسير ذلك (وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) هو العهد الذي أخذه عليهم في التوراة، وقيل إنه عهد مؤكد باليمين فسمي غليظاً لذلك.(3/286)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)(3/287)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
(فبما نقضهم ميثاقهم) التقدير فبنقضهم ميثاقهم لعنّاهم وسخطنا عليهم وفعلنا بهم ما فعلنا، وما مزيدة للتوكيد والباء للسببية، وقال الكسائي: وهو متعلق بما قبله، والمعنى فأخذتهم الصاعقة بسبب نقضهم ميثاقهم وما بعده، وأنكر ذلك ابن جرير الطبري وغيره لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، والذين قتلوا الأنبياء ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برميهم بالبهتان.
قال المهدوي وغيره: وهذا لا يلزم لأنه يجوز أن يخبر عنهم والمراد آباؤهم، وقال الزجاج: المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، لأن هذه القصة ممتدة إلى قوله (فبظلم من الذين هادوا حرمنا) ونقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل المعنى فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم، وقيل المعنى فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلاً.
(وكفرهم بآيات الله) أي كتبه التي حرفوها وجحودهم بآياته الدالة على صدق أنبيائه (وقتلهم الأنبياء) يعني بعد قيام الحجة والدلالة على صحة نبوتهم، والمراد بالأنبياء يحيى وزكريا (بغير حق) أي بغير استحقاق لذلك القتل (وقولهم قلوبنا غلف) جمع أغلف وهو المغطى بالغلاف أي قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول.
وقيل إن غلف جمع غلاف والمعنى أن قلوبهم أوعية للعلم فلا حاجة(3/287)
لهم إلى علم غير ما قد حوته قلوبهم، وهو كقولهم (قلوبنا في أكنّة) وغرضهم بهذا رد حجة الرسل.
(بل طبع الله عليها بكفرهم) هذا إضراب عن الكلام الأول أي ليس عدم قبولهم للحق بسبب كونها غلفاً بحسب مقصدهم الذي يريدونه بل بحسب الطبع من الله عليها، والطبع الختم، وقد تقدم إيضاح معناه في البقرة وهي مطبوع من الله عليها بسبب كفرهم فلا تعي وعظاً، أي أحدث عليها صورة مانعة عن وصول الحق إليها، وقيل الباء للآلة.
(فلا يؤمنون إلا) إيماناً أو زماناً (قليلاً) أو إلا قليلاً منهم كعبد الله بن سلام ومن أسلم منهم معه وجرى عليه البيضاوي وغيره.(3/288)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
(وبكفرهم) هذا التكرير لإفادة أنهم كفروا كفراً بعد كفر، وقيل: إن المراد بهذا الكفر كفرهم بالمسيح فحذف لدلالة ما بعده عليه، وذلك أنهم أنكروا قدرة الله على خلق الولد من غير أب والمنكر لها كافر، وهو معطوف على (فبما نقضهم) أو على بكفرهم الذي بعد طبع، وقد أوضح الزمخشري ذلك غاية الإيضاح، واعترض وأجاب أحسن جواب.
(وقولهم على مريم بهتاناً) هو الكذب المفرط الذي يتعجب منه، وهو هنا رميها بيوسف النجار، وكان من الصالحين، وقال ابن عباس: رموها بالزنا وإنما سماه (عظيماً) لأنه قد ظهر عند ولادة مريم من المعجزات ما يدل على براءتها من ذلك.(3/288)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
(وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم) هو من جملة جناياتهم، وذنوبهم لأنهم كذبوا بأنهم قتلوه وافتخروا بقتله، قال أبو حيان: لم نعلم كيفية القتل ولا من ألقي عليه الشَّبه ولم يصح بذلك حديث.
(رسول الله) ذكروه بالرسالة استهزاء لأنهم ينكرونها ولا يعترفون بأنه نبي، أو هذا من كلامه تعالى لمدحه وتنزيهه عن مغالاتهم فيه، وما ادعوه من أنهم قتلوه قد اشتمل على بيان صفته وإيضاح حقيقته الإنجيل وما فيه هو من تحريف النصارى أبعدهم الله فقد كذبوا وصدق الله القائل في كتابه العزيز:
(وما قتلوه وما صلبوه) جملة حالية (ولكن شبّه لهم) أي ألقي شبه عيسى على غيره حتى قتل وصلب وقيل لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه.
أخرج سعيد بن منصور والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردوية عن ابن عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين فخرج عليهم من عين في النبت ورأسه يقطر ماء فقال: إن منكم من يكفر بي إثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيّكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي فقام شاب من أحدثهم سِنّاً فقال له: اجلس ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: أنا فقال: أنت ذاك فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء.(3/289)
قال: وجاء الطلب من يهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به.
وافترقوا ثلاث فرق فقالت طائفة كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء فهؤلاء اليعقوبية، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله عليه (فآمنت طائفة من بني إسرائيل) يعني الطائفة التي آمنت في زمن عيسى (وكفرت طائفة) يعني التي كفرت في زمن عيسى (فأيّدنا الذين آمنوا) في زمن عيسى بإظهار محمد دينهم على دين الكافرين.
قال ابن كثير بعد أن ساقه بهذا اللفظ عند ابن أبي حاتم قال حدثنا أحمد ابن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس (1).
وصدق ابن كثير فهؤلاء كلهم من رجال الصحيح، وأخرجه النسائي من حديث أبي كريب عن أبي معاوية بنحوه، وقد رويت قصته عليه السلام من طرق بألفاظ مختلفة، وساقها عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر على صفة قريبة مما في الإنجيل.
(وإن الذين اختلفوا فيه) أي في شأن عيسى وهم النصارى فقال بعضهم قتلناه، وقال من عاين رفعه إلى السماء ما قتلناه.
وقيل إن الاختلاف بينهم هو أن النسطورية من النصارى قالوا: صلب
_________
(1) تفسير ابن كثير/574.(3/290)
عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته، وقالت الملكانية وقع القتل والصلب على المسيح بكمال ناسوته ولاهوته، ولهم من جنس هذا الأختلاف كلام طويل لا أصل له ولهذا قال الله (وإن الذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه) أيَ في تردد من قتله لا يخرج إلى حيّز الصحة ولا إلى حيز البطلان في اعتقادهم، بل هم مترددون مرتابون في شكهم يعمهون وفي جهلهم يتحيرون.
(ما لهم به من علم) من زائدة لتوكيد نفي العلم (إلا اتباع الظن) الاستثناء منقطع وهو الصحيح الذي لم يذكر الجمهور غيره، وهي لغة الحجاز أي لكنهم يتبعون الظن في قتله ولم يعرفوا حقيقة ذلك المقتول هل هو عيسى أو غيره، لأن الظن واتباعه ليس من جنس العلم الذي هو اليقين، إذ الظن الطرف الراجح، وقيل استثناء مما قبله والأول أولى.
قال أبو البقاء إنه متصل لأن العلم والظن يجمعهما مطلق الإدراك انتهى، لا يقال إن اتباع الظن ينافي الشك الذي أخبر الله عنهم بأنهم فيه لأن المراد هنا بالشك التردد كما قدمنا، والظن نوع منه، وليس المراد به هنا ترجح أحد الجانبين.
(وما قتلوه يقيناً) أي قتلاً يقيناً، وهذا على أن الضمير في قتلوه لعيسى، وقيل: إنه يعود إلى الظن، قاله ابن عباس، والمعنى ما قتلوا ظنهم يقيناً، قال أبو عبيدة: ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقيناً لقال وما قتلوه فقط، وقيل إن المعنى وما قتلوا الذي شبه لهم، وقيل المعنى بل رفعه الله إليه يقيناً، وهو خطأ لأنه لا يعمل ما بعدى بل فيما قبلها.
وذكر السمين فيه خمسة أوجه ولا وجه لهذه الأقوال، والضمائر قبل قتلوه وبعده لعيسى، وذكر اليقين هنا لقصد التهكم بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة.(3/291)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)(3/292)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
(بل رفعه الله اليه) أي إلى موضع لا يجري فيه حكم غير الله كما في الفخر، وهذا الوضع هو السماء الثالثة كما في حديث الجامع الصغير، وفي بعض المعاريج أنه في السماء الثانية، رد عليهم وإثبات لما هو الصحيح، وقد تقدم ذكر رفعه عليه السلام في آل عمران بما فيه كفاية (وكان الله عزيزاً حكيماً) في إنجاء عيسى وتخليصه من اليهود وانتقامه منهم ورفعه إليه.(3/292)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
(وإن من أهل الكتاب) أي اليهود والنصارى، والمعنى وما منهم أحد (إلا) والله (ليؤمننّ) والضمير في (به) راجع إلى عيسى، وبه قال ابن عباس وأكثر المفسرين، وفي (قبل موته) راجع إلى ما دل عليه الكلام وهو لفظ أحد المقدر أو الكتابي المدلول عليه بأهل الكتاب، وقال ابن عباس: قبل موت عيسى، وعنه أيضاً قال: قبل موت اليهودي، وفيه دليل على أنه لا يموت يهودي ولا نصراني إلا وقد آمن بالمسيح.
وقيل كلا الضميرين لعيسى، والمعنى أنه لا يموت عيسى حتى يؤمن به كل كتابي في عصره، وقيل الضمير الأول لله وقيل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبه قال عكرمة وهذا القول لا وجه له لأنه لم يجر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر قبل هذه الآية حتى يرجع الضمير إليه.
وقد اختار كون الضميرين لعيسى ابن جرير، وبه قال جماعة من السلف وهو الظاهر لأنه تقدم ذكر عيسى فكان عود الضمير إليه أولى، والمراد بالإيمان به حين يعاين ملك الموت فلا ينفعه إيمان.(3/292)
قال شهر بن حوشب: اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودُبُره، ويقال يا عدو الله أتاك عيسى نبياً فكذبت به فيقول آمنت بأنه عبد الله ورسوله، ويقال للنصراني أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه الله وابن الله فيقول آمنت أنه عبد الله، فأهل الكتاب يؤمنون به حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان.
أو عند نزوله في آخر الزمان كما وردت بذلك الأحاديث المتواترة قال ابن عباس: سيدرك أناس من أهل الكتاب عيسى حين يبعث فيؤمنون به، وعنه قال: ليس يهودي يموت أبداً حتى يؤمن بعيسى، قيل لابن عباس أرأيت إن خر من فوق بيت قال: تكلم به في الهواء، فقيل إن ضرب عنق أحدهم، قال: يتلجلج بها لسانه، وقد روى نحو هذا عنه من طرق، وقال به جماعة من التابعين.
وذهب كثير من التابعين فمن بعدهم إلى أن المراد قبل موت عيسى كما روي عن ابن عباس قبل هذا، وقيّده كثير منهم بأنه يؤمن به من أدركه عند نزوله إلى الأرض حتى تصير الملة كلها إسلامية.
وقال الزجاج: هذا القول بعيد لعموم قوله تعالى (وإن من أهل الكتاب) والذين يبقون يومئذ يعني عند نزوله شرذمة قليلة منهم.
وأجيب بأن المراد بهذا العموم الذين يشاهدون ذلك الوقت ويدركون نزوله فيؤمنون به، وصحح الطبري هذا القول، وقد تواترت الأحاديث بنزول عيسى حسبما أوضح ذلك الشوكاني في مؤلف مستقل يتضمن ذكر ما ورد في المنتظر والدجال والمسيح، وغيره في غيره.
(ويوم القيامة يكون) عيسى (عليهم) أي على أهل الكتاب (شهيداً) يشهد على اليهود بالتكذيب له والطعن فيه، وعلى النصارى بالغلو فيه حتى قالوا: هو ابن الله، وقال قتادة: يكون شهيداً على أن قد بلغ رسالة ربه وأقر على نفسه بالعبودية.(3/293)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
(فبظلم) الباء للسببية، والتنكير، والتنوين للتعظيم، أي بسبب ظلم عظيم لا بسبب شيء آخر كما زعموا أنها كانت محرمة على من قبلهم (من الذين هادوا) لعل ذكرهم بهذا العنوان للإيذان بكمال ظلمهم بتذكير وقوعه بعدما هادوا أي تابوا ورجعوا عن عبادة العجل (حرّمنا عليهم طيبات أحلّت لهم) الطيبات المذكورة هي ما نصه الله سبحانه في سورة الأنعام (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) الآية.
قال الواحدى: وأما وجه تحريم الطيبات عليهم كيف كان ومتى كان وعلى لسان من حرم فلم أجد فيه شيئاً أنتهي إليه فتركته، قال الخازن: ولقد أنصف الواحدي فيما قال فإن هذه الآية في غاية الإشكال انتهى.
قلت: ولهذا لم يذكر الرازي والشوكاني في تفسيرهما ما ذكره المفسرون في معنى الظلم المذكور في الآية وذكرا لها تفسيراً إجمالياً، فكانوا كلما ارتكبوا معصية من المعاصي التي اقترفوها يحرم الله عليهم نوعاً من الطيبات التي كانت حلالاً لهم ولمن تقدمهم من أسلافهم عقوبة لهم، وكانوا مع ذلك يفترون على الله سبحانه ويقولون لسنا بأول من حرمت عليه، وإنما كانت محرمة على إبراهيم ونوح ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا فكذبهم الله تعالى في مواضع كثيرة وبكتهم بقوله (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة) الآية قاله أبو السعود.
(وبصدّهم) أنفسهم وغيرهم (عن سبيل الله) وهو اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وبتحريفهم وقتلهم الأنبياء وما صدر منهم من الذنوب المعروفة (كثيراً) أي بصدهم ناساً كثيراً أو صداً كثيراً أو زماناً كثيراً، والأول أولى.(3/294)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)(3/295)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
(وأخذهم الربا) أي معاملتهم فيما بينهم بالربا وأكلهم له وهو محرّم عليهم (وقد نهوا عنه) في التوراة (وأكلهم أموال الناس بالباطل) كالرشوة والسحت الذي كانوا يأخذونه، وهذه الذنوب الأربعة هي التي شدّد عليهم بسببها في الدنيا والآخرة، أما التشديد في الدنيا فهو ما تقدم من تحريم الطيبات وأما التشديد في الآخرة فهو المراد بقوله (وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً) وإنما قال منهم لأن الله علم أن قوماً منهم سيؤمنون فيأمنون من العذاب.(3/295)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
(لكن الراسخون في العلم منهم) استدراك من قوله تعالى (وأعتدنا) الآية أو من الذين هادوا، وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلاً وآجلا وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا: إن هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل وأنت تحلها فنزل (لكن الراسخون) والراسخ هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه، والرسوخ الثبوت وقد تقدم الكلام عليه في آل عمران والمراد بهم عبد الله ابن سلام وكعب الأحبار ونحوهما.
(والمؤمنون) بالله ورسوله، والمراد أما من آمن من أهل الكتاب أو من المهاجرين والأنصار أو من الجميع (يؤمنون بما أنزل إليك) أي القرآن (وما أنزل من قبلك) أي سائر الكتب المنزلة على الأنبياء (والمقيمين الصلاة) قرأ جماعة المقيمون على العطف على ما قبله، وكذا في مصحف ابن مسعود تنزيلاً(3/295)
للتغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي، ونصب مقيمين على قراءة الجمهور هو على المدح والتعظيم عند سيبويه وهو أولى الأعاريب.
وقال الخليل والكسائي: هو معطوف على قوله (بما أنزل إليك) واستبعده الأخفش، ووجهه محمد بن يزيد المبرد.
وعن عائشة أنها سئلت عن المقيمين وعن قوله إن هذان لساحران والصابئون في المائدة فقالت: يا ابن أخي الكتّاب أخطأوا، وروي عن عثمان بن عفان أنه لما فرغ من المصحف أتى به قال: أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، فقيل له ألا تغيره فقال دعوه فإنه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً (1).
_________
(1) قال السخاوي: هذا الأثر ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع، لأن عثمان رضي الله عنه جعل للناس إماماً يقتدون به، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها؟ وقد كتب مصاحف سبعة، وليس فيها اختلاف قط إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع، كيف يقيمه غيرهم؟ وقد نقل ابن هشام في شرح " شذور الذهب ": 50 عن الإمام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله أنه قال: وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ (إن هذان) لحن، وأن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتها. وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه:
أحدها: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتسارعون إلى إنكار أدق النكرات، فكيف يقرؤون اللحن في القرآن مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته.
والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام، فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف.
والثالث: أن الاحتجاح بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم، لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي.
والرابع: أنه قد ثبت في " الصحيح " أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب " التابوت " بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك، ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنه، فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش.
قال ابن عباس: قال عدي بن زيد، وسكين: يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشرٍ من شيءٍ بعد موسى، فنزلت هذه الآية. سيرة ابن هشام 1/ 562، وابن جرير 9/ 400 عن ابن عباس، وفي سنده محمد ابن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، ذكره ابن حبان في " الثقات " وقال الذهبي: لا يعرف. وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد من بني قينقاع، ذكرهم ابن هشام في " السيرة " في الأعداء من يهود.(3/296)
قال ابن الأنباري: وما روي عن عثمان لا يصح لأنه متصل ومحال أن يؤخر عثمان شيئاً فاسداً ليصلحه غيره، ولأن القرآن منقول بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه.
وقال الزمخشري في الكشاف: ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوع لحن في خط المصحف وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب، يعني كتاب سيبويه ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص والمدح من الافتنان وهو باب واسع قد ذكره سيبويه على أمثلةٍ وشواهد، وربما خفي عليه أن السابقين الأولين كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذبِّ الطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله عز وجل ثلمة يسدَها من بعدهم، وخرقاً يرفوه من يلحق بهم، انتهى.
وقد رجح سيبويه كثير من أئمة النحو والتفسير واختاره الزجاج، ورجح قول الخليل والكسائي ابن جرير الطبري والقفال.
(والمؤتون الزكاة) عطف على والمؤمنون، لأنه من صفتهم (والمؤمنون) يؤمنون (بالله واليوم الآخر) هم مؤمنو أهل الكتاب وصفوا أولاً بالرسوخ في العلم ثم بالإيمان بكتب الله وأنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤمنون بالله واليوم الآخر، وقيل المراد بهم المؤمنون من المهاجرين والأنصار من هذه الأمة كما سلف وأنهم جامعون بين هذه الأوصاف.
(أولئك) أي الراسخون، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم في الفضل (سنؤتيهم) أي سنعطيهم على ما كان منهم من طاعة الله واتباع أمره، والسين لتأكيد الوعد (أجراً) ثواباً (عظيماً) وهو الجنة، والتنكير للتفخيم، وهذا الإعراب أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك حيث وعد الأولون بالعذاب الأليم، ووعد الآخرون بالأجر العظيم.(3/297)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)(3/298)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
(إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح) هذا متصل بقوله يسألك أهل الكتاب، والمعنى أن أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - كأمر من تقدّمه من الأنبياء، فما بالكم تطلبون منه ما لم يطلبه أحد من المعاصرين للرسل، والوحي إعلام في خفاء، يقال وحى إليه بالكلام وحياً وأوحى يوحي إيحاء.
وخص نوحاً لكونه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع وأول نذير على الشرك وأول من عُذّبت أمته لردهم دعوته، وأهلك أهل الأرض بدعائه، وكان أبا البشر كآدم وأطول الأنبياء عمراً، وصبر على أذى قومه طول عمره، وقيل غير ذلك أي إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح أو حال كونه مشبهاً بايحائنا إلى نوح.
(والنبيّين من بعده) كهود وصالح وشعيب وغيرهم (وأوحينا إلى إبراهيم) وهو ابن تارخ واسم تارخ آزر (و) بعث بعده (إسمعيل) فمات بمكة (وإسحق) أي ثم بعث أخاه اسحق فمات بالشام (ويعقوب) وهو إسرائيل ابن اسحق ثم يوسف بن يعقوب ثم شعيب بن نويب ثم هود بن عبد الله ثم صالح بن أسف ثم موسى وهرون ابني عمران ثم أيوب ثم الخضر ثم داود بن ايشا ثم سليمان بن داود ثم يونس بن متى ثم إلياس، ثم ذا الكفل واسمه عويدياً وهو من سبط يهوذا بن يعقوب وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران ألف سنة وسبعمائة سنة.
قال الزبير بن بكار: كل نبي ذُكر في القرآن فهو من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح وهود ولوط وصالح، ولم يكن من العرب الأنبياء إلا خمسة هود(3/298)
وصالح وإسمعيل وشعيب ومحمد- صلى الله عليه وسلم -، وإنما سُمّوا عرباً لأنه لم يتكلم بالعربية غيرهم، ذكره القرطبي.
(والأسباط) هم أولاد يعقوب وكانوا إثني عشر، ومنهم يوسف نبي رسول باتفاق، وفي البقية خلاف (وعيسى وأيوب ويونس) فيه ست لغات أفصحها واو خالصة ونون مضمومة وهي لغة الحجاز (وهرون وسليمان) وخص هؤلاء بالذكر بعد دخولهم في لفظ النبيين تشريفاً لهم كقوله (وملائكته ورسله وجبريل).
وقدم عيسى على أيوب ومن بعده مع كونهم في زمان قبل زمانه رداً على اليهود الذين كفروا به، وأيضاً فالواو ليست إلا لمطلق الجمع، والمعنى أن الله تعالى أوحى إلى هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه الآية وأنتم يا معشر اليهود معترفون بذلك، وما أنزل الله على أحد من هؤلاء كتاباً جملة واحدة، فلما لم يكن ذلك قادحاً في نبوتهم فكذلك لم يكن إنزال القرآن مفرقاً على محمد قادحاً في نبوّته بل قد أنزل عليه كما أنزل عليهم.
(وآتينا داود زبوراً) أي كتاباً مزبوراً يعني مكتوباً، والزبور بالفتح كتاب داود، قال القرطبي: وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام وإنما هي حكم ومواعظ انتهى.
قلت: هو مائة وخمسون مزموراً، والمزمور فصل يشتمل على كلام لداود يستغيث بالله من خصومه ويدعو الله عليهم ويستنصره، وتارة يأتي بمواعظ وكان يقول ذلك في الغالب في الكنيسة، ويستعمل مع تكلمه بذلك شيئاً من الآلات التي لها نغمات حسنة كما هو مصرح بذلك في كثير من تلك المزمورات، والزبر والكتابة، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب كالرسول والحلوب والركوب.(3/299)
وقرأ حمزة زبوراً بضم الزاي جمع زبر كفلس وفلوس، والزبر بمعنى المزبور، والأصل في الكلمة التوثيق يقال بئر مزبورة أي مطوية بالحجارة والكتاب سمي زبوراً لقوة الوثيقة به.
عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك لقد أُعطيت مزماراً من مزامير آل داود، أخرجه الشيخان (1)، قال الحميدي: زاد البرقاني قلت: والله يا رسول الله لو علمت أنك تسمع لقراءتي لحبَّرتها لك تحبيراً، والتحبير تحسين الصوت بالقراءة، وإنما لم يذكر موسى في هذه الآية لأن الله أنزل عليه التوراة جملة واحدة (2).
_________
(1) مسلم 793 والبخاري/2097.
(2) قال ابن عباس: قال عدي بن زيد، وسكين: يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشرٍ من شيءٍ بعد موسى، فنزلت هذه الآية سيرة ابن هشام 1/ 562، وابن جرير 9/ 400 عن ابن عباس، وفي سنده محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، ذكره ابن حبان في " الثقات " وقال الذهبي: لا يعرف. وسكين بن أبي سكين، وعدي بن زيد من بني قينُقاع، ذكرهم ابن هشام في " السيرة " في الأعداء من يهود.(3/300)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
(و) أرسلنا (رسلاً) وقرأ أُبَيّ: رسل بالرفع على تقدير ومنهم (قد قصصناهم عليك) أي سميناهم لك في القرآن وعرفناك أخبارهم، وإلى من بعثوا من الأمم وما حصل لهم من قومهم، ومعنى (من قبل) أنه قصهم عليه من قبل هذه السورة أو من قبل هذا اليوم (ورسلاً لم نقصصهم عليك) أي لم نُسمّهم لك ولم نعرفك أخبارهم.
وقيل إنه لما قص الله في كتابه بعض أسماء أنبيائه ولم يذكر أسماء بعض قالت اليهود: ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى فنزل (وكلّم الله موسى) بلا واسطة أي أزال عنه الحجاب حتى سمع كلام الله سبحانه، والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحي خصّ به موسى من بينهم، ولم يكن ذلك قادحاً(3/300)
في نبوة سائر الأنبياء، فكيف يتوهم أن نزول التوراة جملة قادح في نبوة من أنزل عليه الكتاب مفصلاً.
قرأ الجمهور برفع الاسم الشريف على أن الله هو الذي كلم موسى، وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب بنصب الاسم الشريف على أن موسى هو الذي كلم الله سبحانه، و (تكليماً) مصدر مؤكد، وفائدة التأكيد دفع توهم كون التكليم مجازاً كما قال الفراء أن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر، فإذا أُكد لم يكن إلا حقيقة الكلام.
قال النحاس: وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً، وفيه ردّ على من يقول إن الله خلق كلاماً في محل فسمع موسى ذلك الكلام.(3/301)
أخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن حبّان في صحيحه والحاكم وابن عساكر عن أبي ذَرّ قال: قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، قلت كم الرسل منهم قال: ثلثمائة وثلاثة عشر جَمّ غفير، وأخرج نحوه ابن حاتم عن أبي أمامة مرفوعاً إلا أنه قال: والرسل ثلثمائة وخمسة عشر (1).
وأخرج أبو يعلى والحاكم بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان فيمن خلا من إخواني الأنبياء ثمانية آلاف نبي ثم كان عيسى ثم كنت أنا بعده (2).
_________
(1) مسند أحمد 5/ 178.
(2) المستدرك 2/ 598.(3/302)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [النساء: 165]
(رسلاً مبشّرين) لأهل الطاعات بالجنة (ومنذرين) لأهل المعاصي بالعذاب (لئلا) اللام لام كي وتتعلق بمنذرين على المختار للبصريين، وبمبشرين عند الكوفيين، فإن المسألة من باب التنازع، والأول أولى، وله في القرآن نظائر، وقيل تتعلق بمحذوف أي أرسلناهم كيلاً:
(يكون للنّاس على الله حجّة) أي معذرة يعتذرون بها كما في قوله تعالى: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتَّبع آياتك) وسميت المعذرة حجة مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة تنبيهاً على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضّلاً منه ورحمة.
(بعد) إرسال (الرسل) وإنزال الكتب وفيه دليل على أنه لو لم يبعث الرسل لكان للناس عليه حجة في ترك التوحيد والطاعة، وعلى أن الله لا يعذب الخلق قبل بعثه الرسل كما قال تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) وفيه حجة لأهل السنة على أن معرفة الله لا تثبت إلا بالسمع (وكان الله عزيزاً) لا يغالبه مغالب (حكيماً) في أفعاله التي من جملتها إرسال الرسل.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين، وفي لفظ مسلم ولا شخص أحب إليه العذر من الله، الحديث (1).
_________
(1) مسلم 2750 والبخاري 2003.(3/303)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
(لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالاً بَعِيدًا (167))
(لكن الله يشهد بما أنزل إليك) هذا الاستدراك من محذوف مقدر كأنهم قالوا ما نشهد لك يا محمد بهذا أي الوحي والنبوة فنزل (لكن الله يشهد) وشهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل هذا القرآن البالغ في الفصاحة والبلاغة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن المعارضة والإتيان بمثله فكان ذلك معجزاً، وإظهار المعجزة شهادة بكون المدعي صادقاً لا جرم قال الله تعالى ذلك.
(أنزله بعلمه) جملة حالية أي متلبساً بعلمه الذي لا يعلمه غيره من كونك أهل لما أصطفاك الله له من النبوة وأنزله عليك من القرآن واستعدادك لاقتباس الأنوار القدسية، وفيه نفي قول المعتزلة في إنكار الصفات فإنه أثبت لنفسه العلم، وقيل العلم هنا بمعنى المعلوم أي بمعلومه مما يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم.
(والملائكة يشهدون) بأن الله أنزله عليك ويشهدون بتصديقك، وإنما عرفت شهادة الملائكة لأن الله تعالى إذا شهد بشيء شهدت الملائكة به (وكفى بالله شهيداً) على صحة نبوتك حيث نصب لها معجزات باهرة وحججاً ظاهرة مغنية عن الاستشهاد بغيرها وإن لم يشهد معه أحد.
وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شهادة أهل الكتاب له، وشهادة الله سبحانه هي ما نصبه من المعجزات الدالة على صحة النبوة فإن وجود هذه المعجزات شهادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بصدق ما أخبر به(3/304)
من هذا أو غيره، عن ابن عباس قال: دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم: إنّي والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله، قالوا: ما نعلم ذلك فأنزل الله هذه الآية (1).
_________
(1) سيرة ابن هشام 2/ 211 وابن جرير 9/ 49 عن ابن عباس قال: دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة من يهود، فقال لهم: " إني لأعلم والله أنكم لتعلمون أني رسول الله " فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله عز وجل:. (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً) وزاد السيوطي نسبته في " الدر " 2/ 248 إلى ابن المنذر، والبيهقي في " الدلائل ". قلت: وفي سنده محمد مولى زيد بن ثابت وهو مجهول كما تقدم.
تفسير ابن كثير 1/ 589.(3/305)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
(إن الذين كفروا) بالله وبكل ما يجب الإيمان به أو بهذا الأمر الخاص، وهو ما في هذا المقام (وصدّوا) الناس (عن سبيل الله) وهو دين الإسلام بإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبقولهم ما نجد صفته في كتابنا وإنما النبوة في ولد هارون وداود، وبقولهم إن شرع موسى لا ينسخ.
(قد ضلّوا ضلالاً بعيداً) عن الحق والصواب بما فعلوا لأنهم مع كفرهم منعوا غيرهم عن الحق، فجمعوا بين الضلال والإضلال ولأن المضل يكون أغرق في الضلال وأبعد من الانقطاع منه.(3/305)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)(3/306)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)
(إن الذين كفروا) بجحدهم (وظلموا) غيرهم بصدهم عن السبيل أو ظلموا محمداً: كتمانهم نبوته أو ظلموا أنفسهم بكفرهم، ويجوز الحمل على جميع هذه المعاني (ولم يكن الله ليغفر لهم) إذا استمروا على كفرهم وماتوا كافرين (ولا ليهديهم طريقاً) من الطرق(3/306)
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
(إلا طريق جهنم) لكونهم اقترفوا ما يوجب لهم ذلك بسوء اختيارهم وفرط شقائهم وجحدوا الواضح وعاندوا البيّن أي يدخلهم جهنم، والاستثناء متصل لأنه من جنس الأول والأول عام لأنه نكرة في سياق النفي وإن أريد به طريق خاص أي عمل صالح، فالاستثناء منقطع قاله الكرخي.
(خالدين فيها) وهي حال مقدرة (أبداً) منصوب على الظرفية توكيد خالدين وهو لدفع احتمال أن الخلود هنا يراد به المكث الطويل (وكان ذلك) أي تخليدهم في جهنم أو ترك المغفرة لهم والهداية مع الخلود في جهنم (على الله يسيراً) لأنه سبحانه لا يصعب عليه شيء من مراداته إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.(3/306)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
(يا أيها الناس) خطاب عام يدخل فيه جميع الكفار من اليهود والنصارى وعبدة الأصنام وغيرهم، وقيل هو خطاب لمشركي مكة والعبرة بمفهوم اللفظ وهو عام (قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم) أي محمد - صلى الله عليه وسلم - بدين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، أو بالقرآن الذي هو الحق من عند(3/306)
ربكم وهو تكرير للشهادة وتقرير لحقيَّة المشهود به، وتمهيد لما بعده من الأمر بالإيمان.
(فآمنوا) قال سيبويه والخليل أي اقصدوا أو آتوا (خيراً لكم) وقال الفراء: فآمنوا إيماناً خيراً لكم، وقال أبو عبيدة والكسائي: فآمنوا يكن الإيمان خيراً لكم، وأقوى هذه الأقوال الثالث ثم الأول ثم الثاني على ضعف فيه.
(وإن تكفروا) أي وإن تستمروا على كفركم وتجحدوا رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وتُكذّبوا بما جاءكم به من الحق (فإن لله ما في السموات والأرض) من مخلوقاته وأنتم من جملتهم، ومن كان خالقاً لكم ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم.
ففي هذه الجملة وعيد لهم مع إيضاح وجه البرهان وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان، لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله) وهو يعم ما اشتملتا عليه وما تركبتا منه (وكان الله عليماً) بمن يؤمن ومن يكفر (حكيماً) لا يسوي بينهما في الجزاء.(3/307)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)(3/308)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
(يا أهل الكتاب) قيل نزلت في النصارى وقيل فيهم وفي اليهود (لا تغلوا في دينكم) الغلوّ هو التجاوز في الحد، ومنه غلا السعر يغلو غلاء وغلا الرجل في الأمر غلواً، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فتجاوزت لداتها، والمراد بالآية النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى.
فمن الإفراط غلوّ النصارى في عيسى حتى جعلوه رباً، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة، وما أحسن قول الشاعر:
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
(ولا تقولوا على الله إلا الحق) وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله، ولا تقولوا الباطل كقول اليهود عزيز ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله، وهذا الاسثناء مفرغ (إنما المسيح عيسى ابن مريم) الجملة تعليل للنهي، وقد تقدم الكلام على المسيح في آل عمران والمعنى ليس له نسب غير هذا، وأنه (رسول الله) فمن زعم غير هذا فقد أشرك وكفر.
(وكلمته) أي كونه بقوله كن فكان بشراً من غير أب، وقيل كلمته بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبريل بقوله (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه) وقيل الكلمة هاهنا بمعنى الآية ومنه (وصدّقت(3/308)
بكلمات ربها) وقوله ما نفدت كلمات الله (ألقاها إلى مريم) أي أوصلها إليها (وروح) أي ذو روح (منه) وسمي روحاً لأنه حصل من الريح الحاصل من نفخ جبريل، أي أرسل جبريل فنفخ في جيب درع مريم فحملت بإذن الله، وهذه الإضافة للتفضيل والتشريف وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى.
وقيل قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحاً ويضاف إلى الله فيقال هذا روح من الله أي من خلقه كما يقال في النعمة أنها من الله.
وقيل روح منه أي من خلقه كما قال تعالى (وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه) أي من خلقه، وقيل رحمة منه، وقيل برهان منه، وكان عيسى برهاناً وحجة على قومه.
والمعنى روح كائنة منه وجعلت الروح منه سبحانه وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ، والمعنى ليس هو كما زعمتم ابن الله وإلهاً معه أو ثالث ثلاثة لأن ذا الروح مركّب، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركّب إليه.
وعن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول الله، هو روح الله وكلمته أخرجه من البتول العذراء لم يقربها بشر، فتناول عوداً من الأرض فرفعه فقال يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه.
وعن ابن مسعود بأطول من هذا. وأخرج البخاري عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (1).
_________
(1) صحيح الجامع 7240.(3/309)
وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان له من العمل أخرجه الشيخان (1).
(فآمنوا بالله ورسله) أي بأنه سبحانه إله واحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ وبأن رسله صادقون مبلّغون عن الله ما أمرهم بتبليغه، ولا تكذبوهم ولا تغلوا فيهم فتجعلوا بعضهم آلهة (ولا تقولوا ثلاثة) قال الزجاج أي لا تقولوا آلهتنا ثلاثة.
وقال الفراء وأبو عبيد أي لا تقولوا هم ثلاثة كقوله سيقولون ثلاثة، وقال أبو علي الفارسي: لا تقولوا هو ثالث ثلاثة فحذف المبتدأ والمضاف، والنصارى مع تفرّق مذاهبهم متفقون على التثليث، ويعنون بالثلاثة الثلاثة الأقانيم فيجعلونه سبحانه جوهراً واحداً وله ثلاثة أقانيم ويعنون بالأقانيم أقنوم الوجود وأقنوم الحياة وأقنوم العلم، وإنما يعبرون عن الأقنانيم بالأب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب الوجود وبالروح الحياة وبالابن المسيح، وقيل المراد بالآلهة الثلاثة الله سبحانه وتعالى ومريم والمسيح.
وقد اختبط النصارى في هذا اختباطاً طويلاً، ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها اسم الإنجيل عندهم على اختلاف كثير في عيسى، فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان وتارة يوصف بأنه ابن الله وتارة يوصف بأنه ابن الرب، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين.
والحق ما أخبرنا الله به في القرآن، وما خالفه في التوراة والإنجيل أو الزبور فهو من تحريف المحرفين وتلاعب المتلاعبين.
_________
(1) صحيح الجامع 6196.(3/310)
ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام، وحاصل ما فيها جميعاً أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه الله، وذكر ما جرى له من المعجزات والمراجعات لليهود ونحوهم، فاختلفت ألفاظهم، واتفقت معانيها، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ والضبط، وذكر ما قاله عيسى وقيل له، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء ولا أنزل على عيسى من عنده كتاباً، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها.
وهكذا الزبور فإنه من أوله إلى آخره من كلام داود عليه السلام.
وكلام الله أصدق وكتابه أحقّ، وقد أخبرنا أن الإنجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم وأن الزبور كتابه آتاه داود: وأنزله عليه.
(انتهوا خيراً لكم) أي انتهوا عن التثليث ولا تقولوا الآلهة ثلاثة وانتصاب خيراً هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله فآمنوا خيراً لكم.
(إنّما الله إله واحد) لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد (سبحانه) أي أسبحه تسبيحاً عن (أن يكون له ولد) لأن الولد جزء من الأب، وهو متعال عن التجزئة وصفات الحدوث ولكن جعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور.
(له ما في السموات وما في الأرض) ملكاً وخلقاً وعبيداً، وما جعلتموه له شريكاً أو ولداً هو من جملة ذلك والمملوك المخلوق لا يكون شريكاً ولا ولداً (وكفى بالله وكيلاً) مستقلاً بتدبير خلقه يكل الخلق أمورهم إليه، لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فلا حاجة إلى ولد يعينه، وقيل شهيداً على ذلك.(3/311)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)(3/312)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
(لن يستنكف) أي لا يتكبر ولا يأنف (المسيح) الذي زعمتم إنه إله عن (أن يكون عبداً لله) أصل يستنكف نكف، وباقي الحروف زائدة، يقال نكفت من الشيء واستنكفت منه وأنكفته أن نزّهته عما يستنكف منه.
قال الزجاج: استنكف أي أنف مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خديك، وقيل هو من النّكف وهو العيب يقال ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف أي عيب، ومعنى الأول لن يأنف عن العبودية ولن يتنزه عنها، ومعنى الثاني لن يعيب العبودية ولن ينقطع عنها.
(ولا الملائكة المقربون) أي ولن يستنكف حملة العرش وأفاضل الملائكة مثل جبريل وغيره عن أن يكونوا عباداً لله، وهذا من أحسن الاستطراد، ذكر للردّ على من زعم أنها آلهة أو بنات الله كما رد بما قبله على النصارى الزاعمين ذلك المقصود خطابهم.
وقد استدل بهذا القائلون بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وقرر صاحب الكشاف وجه الدلالة بما لا يسن ولا يغني من جوع، وادعى أن الذوق قاض بذلك، ونعم الذوق العربي إذا خالطه محبة المذهب، وشابه شوائب الجمود كان هكذا.(3/312)
وكلّ من يفهم لغة العرب يعلم أنّ من قال: لا يأنف من هذه المقالة إمام ولا مأموم أو لا كبير ولا صغير أو لا جليل ولا حقير لم يدل هذا على أن المعطوف أعظم شأناً من المعطوف عليه، وعلى كل حال فما أبرد الاشتغال بهذه المسئلة وما أقل فائدتها وما أبعدها عن أن تكون مركزاً من المراكز الدينية وجسراً من الجسور الشرعية.
(ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر) أي يأنف تكبراً ويعد نفسه كبيراً على العبادة (فسيحشرهم إليه جميعاً) المستنكف وغيره فيجازي كلاًّ بعمله، لا يملكون لأنفسهم شيئاً، وترك ذكر غير المستنكف هنا لدلالة أول الكلام عليه ولكون الحشر لكلا الطائفتين.(3/313)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
(فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفّيهم أجورهم) أي ثواب أعمالهم من غير أن يفوتهم منها شيء (ويزيدهم من فضله) ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أي على وجه التفصيل وإحاطة العلم بها، وإلا فسائر نعيم الجنان يخطر على قلوبنا ونسمعه من السنة لكن على وجه الإجمال.
وأخرج ابن المنذر وغيره بسند ضعيف عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا، وقد ساقه ابن كثير في تفسيره ثم قال هذا إسناد لا يثبت وإذا روي عن ابن مسعود موقوفاً فهو جيد (1).
(وأمّا الذين استنكفوا واستكبروا) عن عبادته (فيعذّبهم) بسبب استنكافهم واستكبارهم (عذاباً أليماً) هو عذاب النار (ولا يجدون لهم من دون الله وليّاً) يواليهم (ولا نصيراً) ينصرهم.
_________
(1) ابن كثير 1/ 592.(3/313)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)(3/314)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
(يا أيّها الناس) خطاب للكافة (قد جاءكم برهان من ربكم) بما أنزله عليكم من كتبه وبمن أرسله إليكم من رسله، وما نصبه لهم من المعجزات.
والبرهان ما يبرهن به على المطلوب، قال قتادة: البرهان البينة؛ وقال مجاهد: الحجة وقيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتقدير كائن من ربكم أو من براهين ربكم، وقيل من لإبتداء الغاية.
(وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً) وهو القرآن وسماه نوراً لأنه يهتدى به من ظلمة الضلال.(3/314)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
(فأما) أي فمنكم من آمن ومنكم من كفر فأما (الذين آمنوا بالله) أي صدّقوا بوحدانيته وبما أرسل من رسول وأنزل من كتاب، وترك الشق الآخر إشارة إلى إهمالهم لأنهم في حيّز الطرح (واعتصموا به) أي بالله أو بالقرآن وقيل بالنور المذكور (فسيدخلهم في رحمة منه) يرحمهم بها، قال ابن عباس: الرحمة الجنة سمّيت باسم محلّها.
(وفضل) يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة كالنظر إلى وجهه الكريم وغيره من مواهب الجنة (ويهديهم إليه) أي إلى امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه الله سبحانه وتعالى باعتبار مصيرهم إلى جزائه وتفضله، قال أبو علي الفارسي: الهاء في إليه راجعة إلى ما تقدم من اسم الله، وقيل إلى القرآن وقيل إلى الفضل وقيل إلى الرحمة والفضل لأنهما بمعنى الثواب، وأخر هذا مع أنه سابق في الوجود الخارجي على ما قبله تعجيلاً للمسرة والفرح على حد: سعد في دارك.
(صراطاً) أي طريقاً يسلكونه إليه (مستقيماً) لا عوج فيه وهو التمسك بدين الإسلام وترك غيره من الأديان.(3/314)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
(يستفتونك) ختم السورة بذكر الأموال كما أنه افتتحها بذلك لتحصل المشاكلة بين المبدأ والختام، وجملة ما في هذه السورة من آيات المواريث ثلاثة
الأولى: في بيان إرث الأصول والفروع.
والثانية: في بيان إرث الزوجين والأخوة والأخوات من الأم.
والثالثة: وهي هذه في إرث الأخوة والأخوات الأشقاء أو لأب، وأما أولو الأرحام فمذكورون في آخر الأنفال، والمستفتي عن الكلالة هو جابر كما سيأتي، وعن قتادة أن الصحابة أهمهم شأن الكلالة فسألوا عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله هذه الآية.
(قل الله يفتيكم في الكلالة) قد تقدم الكلام في الكلالة في أول هذه السورة واسم الكلالة يقع على الوارث وعلى الموروث، فإن وقع على الأول فهم من سوى الوالد والولد، وإن وقع على الثاني فهو من مات ولا يرثه أحد الأبوين ولا أحد الأولاد.
قد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال: دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صَبّ علي فعقلت فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث فنزلت آية الفرائض، وعنه عند ابن سعد وابن أبي حاتم بلفظ أنزلت في قل الله يفتيكم في الكلالة.(3/315)
وعن عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تورث الكلالة فأنزل الله هذه الآية، وأخرج مالك ومسلم وابن جرير والبيهقي عن عمر قال: ما سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء أكثر مما سألته في الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري وقال: ما يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر قال: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا، وقد أوضحنا الكلام لغة وخلافاً واستدلالاً وترجيحاً في شأن الكلالة في أوائل هذه السورة فلا نعيده.
(إن امرؤ هلك) أي إن هلك امرؤ، هلك كما تقدم في قوله: (وإن امرأة خافت) والمعنى مات وسمي الموت هلاكاً لأنه إعدام في الحقيقة (ليس له ولد) إما صفة لامرؤ أو حال كما قاله صاحب الكشاف، ولا وجه للمنع من كونه حالاً والأول رجحه الكرخي.
والولد يطلق على الذكر والأنثى، واقتصر على عدم الولد هنا مع أن عدم الوالد معتبر في الكلالة اتكالاً على ظهور ذلك، قيل والمراد هنا الابن وهو أحد معنيي المشترك لأن البنت لا تسقط الأخت.
(وله أخت) المراد بالأخت هنا هي الأخت لأبوين أو لأب لا لأم فإن فرضها السدس كما ذكر سابقاً (فلها) أي لأخت الميت (نصف ما ترك).
وقد ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن الأخوات لأبوين أو لأب عصبة للبنات وإن لم يكن معهن أخ، وذهب ابن عباس إلى أن الاخوات لا يعصبن البنات، وإليه ذهب داود الظاهري وطائفة،(3/316)
وقالوا إنه لا ميراث للأخت لأبوين أو لأب مع البنت، واحتجوا بظاهر هذه الآية فإنه جعل عدم الولد المتناول للذكر والأنثى قيداً في ميراث الأخت.
وهذا استدلال صحيح لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث الأخت مع البنت، وهو ما ثبت في الصحيح أن معاذاً قضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بنت وأخت فجعل للبنت النصف، وللأخت النصف، وكذا صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في بنت وبنت ابن وأخت فجعل للبنت النصف ولبنت الابن السدس وللأخت الباقي، فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون البنت.
(وهو) أي الأخ (يرثها) أي كذلك يرث الأخت جميع ما تركت (إن لم يكن لها ولد) ذكر، إن كان المراد بإرثه لها حيازته لجميع ما تركته، وإن كان المراد ثبوت ميراثه لها فالجملة أعمّ من يكون كلاًّ أو بعضاً صح تفسير الولد بما يتناول الذكر والأنثى، فإن كان لها ولد ذكر فلا شيء له أو أنثى فله ما فضل عن نصيبها، ولو كانت الأخت أو الأخ من أم ففرضه السدس كما تقدم في أول السورة.
واقتصر سبحانه في هذه الآية على نفي الولد مع كون الأب يسقط الأخ كما يسقطه الولد الذكر لأن المراد بيان سقوط الأخ مع الولد فقط هنا، وأما سقوطه مع الأب فقد تبين بالسنة كما ثبت في الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم - ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر، والأب أولى من الأخ (1).
(فإن كانتا) أي فإن كان من يرث بالإخوة (اثنتين) أي أختين فصاعداً لأنها نزلت في جابر وقد مات عن أخوات سبع أو تسع والعطف على
_________
(1) مسلم/1615 والبخاري/2496.(3/317)
الشرطية السابقة والتأنيث والتثنية وكذلك الجمع في قوله وإن كانوا أخوة باعتبار الخبر (فلهما الثلثان مما ترك) الأخ إن لم يكن له ولد كما سلف، وما فوق الإثنتين من الأخوات يكون لهن الثلثان بالأولى.
(وإن كانوا) أي من يرث بالإخوة (إخوة) أي وأخوات فغلب المذكور على الإناث أو فيه اكتفاء بدليل (رجالاً ونساء) أي مختلطين ذكوراً وإناثاً (فللذّكر) منهم (مثل حظ الأنثيين) تعصيباً (يبين الله لكم) حكم الكلالة وسائر الأحكام كراهة (أن تضلّوا) هكذا حكاه القرطبي عن البصريين وبه قال في الكشاف وتبعه القاضي ورجحه.
وقال الكسائي: المعنى لئلا تضلوا، ووافقه الفراء وغيره من الكوفيين قال أبو عبيد: رويت للكسائي حديث ابن عمر لا يدعو أحدكم على ولده أن يوافق من الله ساعة إجابة فاستحسنه أي لئلا يوافق (والله بكل شيء) من الأشياء التي هذه الأحكام المذكورة منها (عليم) أي كثير العلم يعلم مصالح العباد، في المبدأ والمعاد، وفيما كلفهم من الأحكام.
وهذه السورة اشتمل أولها على كمال تنزه الله وسعة قدرته، وآخرها اشتمل على بيان كمال العلم وهذان الوصفان بهما تثبت الربوبية والألوهية والجلال والعزة، وبهما يجب أن يكون العبد منقاداً للتكاليف، قاله أبو حيان.
روى الشيخان عن البراء أنها آخر آية نزلت من الفرائض، وروي عن ابن عباس: آخر آية نزلت آية الربا، وآخر سورة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - بعد ما نزلت سورة النصر عاش عاماً ونزلت بعدها براءة وهي آخر سورة نزلت كاملة، فعاش - صلى الله عليه وسلم - بعدها ستة أشهر، ثم نزلت في طريق حجة الوداع (يستفتونك) الآية فسُمّيت آية الصيف لأنها نزلت في الصيف، ثم نزلت وهو واقف بعرفة (اليوم أكملت لكم دينكم) فعاش بعدها واحداً وثمانين يوماً ثم نزلت آية الربا ثم نزلت (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله) فعاش بعدها واحداً وعشرين يوماً.(3/318)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة
هي مائة وثلاث وعشرون آية، قال القرطبي: هي مدنية بالإجماع، وبه قال قتادة، وعن محمد ابن كعب قال إنها نزلت في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة، وأخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المائدة في آخر القرآن تنزيلاً. فأحلوا حلالها وحرموا حرامها، ورد هذا الحديث من قول عائشة وليس هو بحديث عن رسول الله وقد ساقه ابن كثير ج 2 ص 2.
وعن عمر بن شرحبيل قال: لم يسنخ من المائدة شيء، وقال الشعبي إلا هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ)، وزاد ابن عباس: (فَإِن جَاؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) قال ميسرة: إن الله أنزل في هذه السورة ثمانية عشر حكماً لم ينزلها في غيرها من سور القرآن وهي قوله: (وَالمُنْخَنِقَةُ) إلى قوله: (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْت).(3/319)
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)(3/321)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
(يا أيها الذين آمنوا) هذه الآية التي افتتح الله تعالى بها هذه السورة إلى قوله (إن الله يحكم ما يريد) فيها من البلاغة ما يتقاصر عنده القوى البشرية مع شمولها لأحكام عدة منها الوفاء بالعقود، ومنها تحليل بهيمة الأنعام، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحل، ومنها تحريم الصيد على المحرم، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
وقد حكى النقاش أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً ثم استثنى بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا.
(أوفوا) يقال أوفى ووفى لغتان، والوفاء القيام بموجب العقد، وكذا الإيفاء (بالعقود) العهود وأصلها الرُّبوط واحدها عند، يقال عقدت الحبل والعهد فهو يستعمل في الأجسام والمعاني، وإذا استعمل في المعاني كما هنا أفاد أنه شديد الإحكام قوي التوثيق.
قيل المراد بالعقود هي التي عندها الله على عباده وألزمهم بها من الأحكام، وقيل هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات والأمانات(3/321)
ونحوها، والأولى شمول الآية للأمرين جميعاً، ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض، قال الزجاج: المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم بعضكم على بعض انتهى.
والعقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن خالفهما فهو رد لا يجب الوفاء به ولا يحل، قال ابن عباس: أوفوا بالعقود أي ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله، لا تغدروا ولا تنكثوا.
وعن قتادة قال: هي عقود الجاهلية الحلف، وعنه قال ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: أوفوا بعقد الجاهلية، ولا تحدثوا عقداً في الإسلام (1)، وقال ابن جريج الخطاب لأهل الكتاب: أي العقود التي عهدتها إليكم في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به، وما أبعده.
وقيل هو خطاب للمؤمنين وهذا هو الظاهر، والعقود خمس: عقد اليمين وعند النكاح وعند العهد وعقد البيع وعقد الشركة، وزاد بعضهم وعقد الحلف، قال الطبري: وأولى الأقوال ما قاله ابن عباس، وقد تقدم لأن الله تعالى أتبعه بالبيان عما أحل لعباده وحرم عليهم فقال:
(أحلت لكم بهيمة الأنعام) الخطاب للذين آمنوا خاصة، والبهيمة اسم لكل ذي أربع من الحيوان لكن خص في التعارف بما عدا السباع والضواري من الوحوش، وإنما سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها، ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم، وبهيمة للشجاع الذي لا
_________
(1) صحيح الجامع/2550.(3/322)
يدري من أين يؤتى وحلقة مبهمة لا يدري أين طرفاها، قال الزجاج: كل حي لا يميز فهو بهيمة.
والأنعام اسم للإبل والبقر والغنم سميت بذلك لما في مشيها من اللين، وقيل بهيمة الأنعام وحشيّها كالظباء وبقر الوحش والحمر الوحشية وغير ذلك قاله الكلبي، وحكاه ابن جرير والطبري عن قوم، وحكاه غيره عن السدي والربيع وقتادة والضحاك.
قال ابن عطية وهذا قول حسن: وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج وما انضاف إليها من سائر الحيوانات يقال له أنعام مجموعة معها، وكأن المفترس كالأسد كل ذي ناب خارج عن حد الأنعام، ولا يدخل فيها ذوات الحوافر في قول جميع أهل اللغة، فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع.
وقيل بهيمة الأنعام ما لم يكن صيداً لأن الصيد يسمى وحشياً لا بهيمة، وقيل بهيمة الأنعام الأجِنَّة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام فهي تؤكل من دون ذكاة قاله ابن عباس (1).
وعلى القول الأول أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم تكون الإضافة بيانية من إضافة الجنس إلى أخص منه، أو هي بمعنى (من) لأن البهيمة أعم فأضيف إلى أخص كثوب خز، قاله الكرخي، والأول أولى.
_________
(1) في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ذكاة الجنين ذكاة أمه " رواه أبو داود: 3/ 136، والترمذي 1/ 178، وابن ماجه: 2/ 1067 من حديث جابر وهو حديث صحيح. وفي " المغني " 11/ 51: إذا خرج الجنين ميتاً من بطن أمه بعد ذبحها أو وجد ميّتاً في بطنها، أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح فهو حلال. روي هذا عن عمر وعلي وبه قال سعيد ابن المسيب، والنخعي، والشافعي، وإسحاق وابن المنذر.(3/323)
ويلحق بها ما يحل مما هو خارج عنها بالقياس بل وبالنصوص التي في الكتاب والسنة كقوله تعالى (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة) الآية، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: يحرم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير، فإنه يدلّ بمفهومه على أن ما عداه حلال، وكذلك سائر النصوص الخاصة بنوع كما في كتب السنة المطهرة.
(إلا ما يتلى عليكم) في القرآن تحريمه استثناء من قوله (أحلت لكم بهيمة الأنعام) أي إلا مدلول ما يتلى عليكم فإنه ليس بحلال، والمتلوّ هو ما نص الله على تحريمه نحو قوله تعالى (حرّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) وذلك عشرة أشياء أولها الميتة وآخرها ما ذبح على النصب (1).
قال ابن عباس: هذا ما حرم الله من بهيمة الأنعام، ويلحق به ما صرحت السنة بتحريمه وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون المراد به إلا ما يتلى عليكم الآن، ويحتمل أن يكون المراد به في مستقبل الزمان فيدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ويحتمل الأمرين جميعاً.
(غير محلّي الصيد) ذهب البصريون إلى أن قوله الأول استثناء من بهيمة الأنعام وقوله: (غير محلّي الصيد) استثناء آخر منه أيضاً، فالإستثناآن جميعاً من بهيمة الأنعام، والتقدير أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون.
وقيل الاستثناء الأول من بهيمة الأنعام، والثاني هو من الاستثناء الأول، ورد بأن هذا يستلزم إباحة الصيد في حال الإحرام لأنه مستثنى من المحظور
_________
(1) وفي " القرطبي " 3/ 35: قوله تعالى: (إلا ما يتلى عليكم) أي: يقرأ عليكم في القرآن والسنة من قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة) وقوله عليه الصلاة والسلام: " وكل ذي ناب من السباع حرام ".(3/324)
فيكون مباحاً، وقيل التقدير أحلت لكم بهيمة الأنعام غير مُحلّي الصيد أي الاصطياد في البر، وأكل صيده.
ومعنى عدم إحلالهم له تقرير حرمته عملاً واعتقاداً وهو شائع في الكتاب والسنة، ونصب غير على الحال من ضمير لكم، وعليه كلام الجمهور، وذهب إليه الزمخشري وتعقب وأجيب.
ومعنى هذا التقييد أي (وأنتم حرم) ظاهر عند من يخص بهيمة الأنعام بالحيوانات الوحشية البرية التي يحل أكلها، كأنه قال: أحل لكم صيد البر إلا في حال الإحرام، وأما على قول من يجعل الإضافة بيانية فالمعنى أحلت لكم بهيمة هي الأنعام حال تحريم الصيد عليكم بدخولكم في الإحرام لكونكم محتاجين إلى ذلك، فيكون المراد بهذا التقييد الامتنان عليهم بتحليل ما عدا ما هو محرم عليهم في تلك الحال.
والمراد بالحرم من هو محرم بالحج أو العمرة أو بهما، وسمي محرماً لكونه يحرم عليه الصيد والطيب والنساء، وهكذا وجه تسمية الحرم حرماً، والإحرام إحراماً (إن الله يحكم ما يريد) من الأحكام المخالفة لما كانت العرب تعتاده، فهو مالك الكل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا اعتراض عليه، لا ما يقوله المعتزلة من مراعاتة المصالح، قاله أبو حيان (1).
_________
(1) البيت للمضرب بن كعب بن زهير بن أبي سُلمى، وهو في " مجاز القرآن " 1/ 145 و " السمط ": 2/ 791، و " الاقتضاب ": 475، و " شرح أدب الكاتب " للجواليقي: 411 و " القرطبي ": 6/ 36. قال البطليوسي: سمي المضرب، لأنه شبب بامرأة، فغار أخوها لذلك، فضربه بالسيف ضربات عديدة، ويروى لشبل بن الصامت المري وبعده.
قصدت بعيني شادنٍ وتبسمت ... بعجفاء عن غرٍ لهن غروب
وأراد بالغر: أسنانها، والغروب: جمع غرب، وهو حد الأسنان. وصف أنَّ محبوبته لقيها وهو محرم ملب، فتورع عن الكلام معها ومعنى " ميئي ": ارجعي. و " الحرام ": المحرم. و " لبيب " ها هنا بمعنى: ملب وهو نادر، لأن فعيلاً لا يستعمل بمعنى " مفعل " و " بعد " بمعنى: " مع " وقوله: " ميئي إليك " أمر بعد أمر على معنى التأكيد في إبعادها عن نفسه.(3/325)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)(3/326)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
(يا أيها الذين آمنوا لا تحلّوا شعائر الله) الشعائر جمع شعيرة على وزن فعيلة، قال ابن فارس: ويقال للواحدة شعارة وهو أحسن، ومنه الإشعار للهدي، والمشاعر المعالم واحدها مشعر وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات، قيل المراد بها هنا جميع مناسك الحج وقيل الصفا والمروة والهدي والبدن.
والمعنى على هذين القولين: لا تُحلّوا هذه الأمور بأن يقع منكم الإخلال بشيء منها أو بأن تحولوا بينها وبين من أراد فعلها.
ذكر سبحانه النهي عن أن يُحلوا شعائر الله عقب ذكره تحريم صيد المحرم.
وإشعار الهدي أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل دمه فيكون ذلك علامة هدي، وهو سنة في الإبل والبقر دون الغنم، ويدل عليه أحاديث صحيحة في كتب السنة المطهرة، وقيل المراد بالشعائر هنا فرائض الله ومنه (ومن يعظّم شعائر الله) وقيل هي حرمات الله، وقال ابن عباس: هي أن تصيد وأنت محرم، وقيل شرائع الله ومعالم دينه، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا بما يدل عليه السياق.(3/326)
(ولا الشهر الحرام) المراد به الجنس فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم وهي أربعة: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب. لا تحلوها بالقتال فيها.
وقيل المراد به هنا شهر الحج فقط وقيل ذو القعدة وقيل رجب، ذكرهما ابن جرير، والأول أولى.
(ولا الهدي) هو ما يهدى إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة، الواحدة هدية، نهاهم سبحانه عن أن يحلّوا حرمة الهدي بأن يأخذوه على صاحبه أو يحولوا بينه وبين المكان الذي يهدى إليه، وعطف الهدي على الشعائر مع دخوله تحتها لقصد التنبيه على مزيد خصوصيته والتشديد في شأنه.
(ولا القلائد) جمع قلادة وهي ما تُقلَّد به الهدي من نعل أو نحوه، وما تشد في عنق البعير وغيره، وإحلالها بأن تؤخذ غصباً، وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد النهي عن إحلال الهدي، وقيل المراد بالقلائد المقلّدات بها ويكون عطفه على الهدي لزيادة التوصية بالهدي، والأول أولى.
وقيل المراد بالقلائد ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم، فهو على حذف مضاف أي ولا أصحاب القلائد، وقيل أراد بالقلائد نفس القلائد فهو نهي عن أخذ لحاء شجر الحرم حتى يتقلد به طلباً للأمر، قاله مجاهد وعطاء وغيرهما.
(ولا آمّين البيت الحرام) أي قاصديه، من قولهم أممت كذا أي قصدته، والمعنى لا تمنعوا من قصد البيت الحرام لحج أو عمرة أو ليسكن فيه، وقيل لا تحلوا قتال قوم أو أذى قوم آمّين.
وقال ابن عباس: سبب نزول هذه الآية أن المشركين كانوا يحجون ويعتمرون ويهدون الهدايا، ويعظمون حرمة المشاعر، وينحرون في حجهم،(3/327)
فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فنزلت هذه الآية إلى آخرها، فيكون ذلك منسوخاً بقوله (أقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وقوله (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحجّن بعد العام مشرك (1) وبه قال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأكثر المفسرين.
وقال قوم الآية محكمة وهي في المسلمين، قال الواحدي: وذهب جماعة إلى أنه لا منسوخ في هذه السورة، وأن هذه محكمة وقال آخرون: لم ينسخ من ذلك شيء سوى القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلدونها من لحاء شجر الحرم.
والظاهر ما عليه جمهور العلماء من نسخ هذه الآية لإجماع العلماء على أن الله تعالى قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها، وكذلك أجمعوا على منع من قصد البيت بحج أو عمرة من المشركين والله أعلم.
(يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً) قال جمهور المفسرين: معناه يبغون الفضل والرزق والأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوان الله تعالى، وقيل كان منهم من يطلب التجارة ومنهم من يبتغي بالحج رضوان الله، ويكون هذا الابتغاء للرضوان بحسب اعتقادهم وفي ظنهم عند من جعل الآية في المشركين، وقيل المراد بالفضل هنا الثواب لا الأرباح في التجارة.
(وإذا حللتم فاصطادوا) هذا تصريح بما أفاده مفهوم (وأنتم حرم) أباح لهم الصيد بعد أن حظره عليهم لزوال السبب الذي حرم لأجله وهو الإحرام، ومثله قوله تعالى (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) والأمر للإباحة لأن الله حرم الصيد على المحرم حالة الإحرام بقوله (غير محلي الصيد وأنتم حرم) وأباحه له إذا حل من إحرامه بقوله (وإذا حللتم فاصطادوا)
_________
(1) صحيح الجامع/7508.(3/328)
وإنما قلنا أمر إباحة لأنه ليس بواجب على المحرم إذا حل من إحرامه أن يصطاد، وقرئ أحللتم وهي لغة في حل، يقال أحل من إحرامه كما يقال حل.
(ولا يجرمنّكم) تأمّل هذا النهي، فإن الذين صدوا المسلمين عن دخول مكة كانوا كفاراً حربيين، فكيف ينهى عن التعرض لهم وعن مقاتلتهم، فلا يظهر إلا أن هذا النهي منسوخ، ولم أر من نبّه عليه، أو يقال أن النهي عن التعرض لهم من حيث عقد الصلح الذي وقع في الحديبية فبسببه صاروا مؤمنين، وحينئذ فلا يجوز التعرض لهم، ولم أر من نبّه على هذا أيضاً.
قال ابن فارس: جرم وأجرم ولا جرم بمعنى قولك لا بد ولا محالة وأصلها من جرم أي كسب، وقيل المعنى لا يحملنكم قاله الكسائي وثعلب وهو يتعدى إلى مفعولين، يقال جرمني كذا على بغضك أي حملني عليه، وقال أبو عبيدة والفراء: المعنى لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الجور، والجريمة والجارم بمعنى الكاسب.
والمعنى في الآية لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء عليهم أو لا يكسبنكم بغضهم اعتداءكم الحق إلى الباطل، ويقال جرم يجرم جرماً إذا قطع، قال علي بن عيسى الرماني: وهو الأصل فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره، وجرم بمعنى كسب لإنقطاعه إلى الكسب، وجرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه، قال الخليل: معنى لا جرم أن لهم النار لقد حق أن لهم النار.
وقال الكسائي: جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي اكتسب، وقرأ ابن مسعود لا يجرمنكم بضم الياء، والمعنى لا يكسبنكم، ولا يعرف البصريون أجرم، وإنما يقولون جرم لا غير.
(شنآن قوم) مصدر مضاف لمفعوله لا إلى فاعله كما قيل، والشنآن(3/329)
البغض يقال شنئت الرجل اشنؤه شنأً وشنآناً، كل ذلك إذا أبغضته، وقد أنكر أبو حاتم وأبو عبيدة شنآناً بسكون النون لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة، وخالفهما غيرهما فقال ليس هذا مصدراً، ولكنه اسم فاعل على وزن كسلان وغضبان، وقيل سماعي مخالف للقياس من وجهين، تعدى فعله وكسر عينه لأنه لا يقاس إلا في مفتوحها اللازم.
(أن صدوكم) بفتح الهمزة مفعول لأجله أي لأن صدوكم وهي قراءة واضحة، والمعنى على قراءة الشرطية بكسر الهمزة لا يحملنكم بغضهم إن وقع منهم الصد لكم.
(عن المسجد الحرام أن تعتدوا) أي على الإعتداء عليهم بالقتل وأخذ المال، وقال النحاس: وأما إن صدوكم بكسر (إن) فالعلماء الجلّة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء، منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، وكان المشركون صدوا المؤمنين عام الحديبية سنة ست، فالصد كان قبل الآية.
ولما نهاهم عن الاعتداء أمرهم بالتعاون على البر والتقوى فقال (وتعاونوا على البر والتقوى) أي ليعن بعضكم بعضاً على ذلك، وهو يشمل كل أمر يصدق عليه أنه من البر والتقوى كائناً ما كان، قيل إن البر والتقوى لفظان لمعنى واحد وكرر للتأكيد، وقال ابن عطية: إن البر يتناول الواجب والمندوب، والتقوى يختص بالواجب، وقال الماوردي: إن في البر رضا الناس، وفي التقوى رضا الله، فمن جمع بينهما فقد تمت سعادته، قال ابن عباس: البر ما أمرت به والتقوى ما نهيت عنه.
(ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) أي لا يعن بعضكم بعضاً على ذلك والإثم كل فعل أو قول يوجب إثم فاعله أو قائده، والعدوان التعدي على(3/330)
الناس بما فيه ظلم، فلا يبقى نوع من أنواع الموجبات للإثم، ولا نوع من أنواع الظلم للناس إلا وهو داخل تحت هذا النهي لصدق هذين النوعين على كل ما يوجد فيه معناهما، وقيل الإثم هو الكفر والعدوان هو الظلم، وقيل الإثم المعاصي والعدوان البدعة، والأول أولى.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه عن وابصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال له: البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك (1).
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي عن النواس بن سمعان قال سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم، فقال: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس (2).
وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أُمامة أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإثم فقال: ما حاك في نفسك فدعه، قال فما الإيمان، قال من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن (3).
(واتقوا الله إنّ الله شديد العقاب) أمر سبحانه عباده بالتقوى وتوعد من خالف ما أمر به فتركه أو خالف ما نهى عنه ففعله، ففيه تهديد عظيم ووعيد شديد.
_________
(1) صحيح الجامع 2978.
(2) مسلم 2553.
(3) مسند أحمد 5/ 382.(3/331)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)(3/332)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
(حرّمت عليكم) هذا شروع في تفصيل المحرمات التي أشار إليها سبحانه بقوله (إلا ما يتلى عليكم) بالإجمال، وحاصل ما ذكر في هذا البيان أحد عشر شيئاً كلها من قبيل الطعوم إلا الأخير، وهو الاستقسام بالأزلام.
(الميتة) المراد البهيمة التي تموت حتف أنفها أي أكلها (والدم) وما هنا من تحريم مطلق الدم مقيد بكونه مسفوحاً كما تقدم، حملاً للمطلق على المقيد، وقد ورد في السنة تخصيص الميتة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدّمان فالكبد والطحال (1) أخرجه الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وفي إسناده مقال، ويقويه حديث وهو الطهور ماؤه والحل ميتته " (2) وهو عند أحمد وأهل السنن وغيرهم وصححه جماعة منهم ابن خزيمة وابن حبان، وقد أطال الشوكاني الكلام عليه في شرحه للمنتقى.
(ولحم الخنزير) قيل كله نجس، وإنما خص اللحم لأنه معظم المقصود
_________
(1) الدارقطني 4/ 272.
(2) صحيح الجامع 6925.(3/332)
بالأكل (وما أهل لغير الله به) أي ما ذكر على ذبحه أو عند ذبحه غير اسم الله تعالى، والإهلال رفع الصوت لغير الله كان يقول باسم اللات والعزى ونحو ذلك، فحرمه الله بهذه الآية وبقوله (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه).
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم في الكلام على هذه الآية: إن ظاهرها أنه ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، والعبادة لغير الله أعظم من الاستعانة بغير الله، فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه لحرم وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكن تجتمع في الذبيحة مانعات، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح اهـ.
وكلامه في هذا الباب واسع جداً .. وكذلك كلام غيره من أهل العلم، ولا حاجة بنا هنا إلى تكرير ما قد أسلفناه في سورة البقرة من أحكام هذه الأربعة ففيه ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
(والمنخنقة) هي التي تموت بالخنق، وهو حبس النفس سواء كان ذلك بفعلها كأن تدخل رأسها في حبل أو بين عودين أو بفعل آدمي أو غيره، وقد كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها، والفرق بينهما أن الميتة تموت بلا سبب أحد والمنخنقة تموت بسبب الخنق.
(والموقوذة) هي التي تضرب بحجر أو عصا حتى تموت من غير تذكية(3/333)
يقال وقذه يقذه وقذا فهو وقيذ، والوقذ شدة الضرب حتى يسترخي ويشرف على الموت وبابه وعد، وشاة موقوذة قتلت بالخشب، وفلان وقيذ أي مثخن ضرباً، وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك فيضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى تموت ثم يأكلونها.
وقال ابن عبد البر: واختلف العلماء قديماً وحديثاً في الصيد بالبندق والحجر والمعراض، ويعني بالبندق قوس البندقية، وبالمعراض السهم الذي لا ريش له أو العصا التي رأسها محدود، قال: فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته على ما روى عن ابن عمر وهو قول مالك وأبى حنيفة أصحابه والثوري والشافعي، وخالفهم الشاميون في ذلك.
قال الأوزاعي: في المعراض كُلْه خزنى أو لم يخزق فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأساً، قال ابن عبد البر: هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر، والمعروف عن ابن عمر ما ذكر مالك عن نافع، قال: والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة حديث عديّ بن حاتم وفيه ما أصاب بغرضه فلا تأكل فإنه وقيذ انتهى.
(قلت) والحديث في الصحيحين وغيرهما عن عدي قال: قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب فقال: إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصاب بعرضة فإنما هو وقيذ فلا تأكله (1)، فقد اعتبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخزنى وعدمه، فالحق أنه لا يحل إلا ما خزق لا ما صدم، فلا بد من التذكية قبل الموت وإلا كان وقيذاً.
_________
(1) مسلم 1929؛ والبخاري 141.(3/334)
قال الشوكاني: وأما البنادق المعروفة الآن وهي بنادق الحديد التي يجعل فيها البارود والرصاص ويرمى بها فلم يتكلم عليها أهل العلم لتأخر حدوثها فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية إلا في المائة العاشرة من الهجرة، وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات ولم يتمكن الصائد من تذكيته حيّاً، والذي يظهر لي أنه حلال لأنها تخزنى وتدخل في الغالب من جانب منه وتخرج من الجانب الآخر وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح السابق: إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، فاعتبر الخزق في تحليل الصيد انتهى.
والحاصل أن جملة ما يحل الصيد به من الآلات هذه البنادق الجديدة التي يرمى بها بالبارود والرصاص، فإن الرصاصة يحصل بها خزق زائد على خزق السهم والرمح والسيف، ولها في ذلك عمل يفوق كل آلة، ويظهر لك ذلك بأنك لو وضعت ريشاً أو نحوه فوق رماد دقيق أو تراب دقيق وغرزت فيه شيئاً يسيراً من أصلها ثم ضربتها بالسيف المحدد أو نحو ذلك من الآلات لم يقطعها وهي على هذه الحالة، ولو رميتها بهذه البنادق لقطعتها.
فلا وجه لجعلها قاتلة بالصدم لا من عقل ولا من نقل من النهي عن أكل ما رمي بالبندقية، كما في رواية من حديث عدي بن حاتم عند أحمد بلفظ ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت، فالمراد بالبندقة هنا هي التي تتخذ من طين فيرمى بها بعد أن تيبس.
وفي صحيح البخاري قال ابن عمر في المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة، وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن، وهكذا ما صيد بحصى الخذف فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن المغفل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف وقال: إنها لا تصيد(3/335)
صيداً ولا تنكيء عدواً لكنها تكسر السن وتفقأ العين (1)، ومثل هذا ما قتل بالرمي بالحجارة غير المحدودة إذا لم تخزق فإنه وقيذ لا يحل، وأما إذا خزقت حل.
(والمتردّية) هي التي تتردى من علو كالسطح والجبل ونحوهما إلى سفل فتموت من غير فرق بين أن تردى من جبل أو بئر أو مدفن أو غيرها، والتردي مأخوذ من الردى وهو الهلاك، وسواء تردت بنفسها أو ردّاها غيرها.
(والنطيحة) هي فعيلة بمعنى مفعولة وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية، وقال قوم: إن فعيلة بمعنى فاعلة لأن الدابتين تتناطحان فتموتان وقال نطيحة ولم يقل نطيح مع أنه قياس فعيل لأن لزوم الحذف مختص بما كان من هذا الباب صفة لوصوف مذكور، فإن لم يذكر ثبتت التاء للنقل من الوصفية إلى الإسمية، وفي القاموس نطحه كمنعه وضربه أصابه بقرنه.
(وما أكل السبع) أي ما افترسه منه ذو ناب كالأسد والنمر والذئب والفهد والضبع ونحوها، والمراد هنا ما أكل بعضه السبع لأن ما أكله السبع كله قد فني فلا حكم له، وإنما الحكم لا بقي منه، والسبع اسم يقع على كل حيوان له ناب ويعدو على الناس والدواب فيفترس بنابه، ومن العرب من يخص اسم السبع بالأسد، وكانت العرب إذا أكل السبع شاة ثم خلصوها منه أكلوها وإن ماتت ولم يذكوها.
(إلا ما ذكّيتم) استثناء متصل عند الجمهور وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقاً وفيه حياة، وقال المدنيون وهو الشهور من مذهب مالك وهو أحد قولي الشافعي أنه إذا بلغ السبع منها إلى ما لا حياة معه فإنها لا تؤكل.
_________
(1) مسلم 1954؛ والبخاري 2046.(3/336)
وحكاه في الموطأ عن زيد بن ثابت وإليه ذهب إسماعيل القاضي فيكون الاستثناء على هذا منقطعاً أي حرمت عليكم هذه الأشياء لكن ما ذكيتم فهو الذي يحل ولا يحرم، والأول أولى، والذكاة في كلام العرب الذبح، قاله قطرب وغيره.
وأصل الذكاة في اللغة التمام أي تمام استكمال القوة، والذكاء حدة القلب وسرعة الفطنة، والذكاة ما تذكى منه النار، ومنه أذكيت الحرب والنار أوقدتهما، وذكاء اسم الشمس، والمراد هنا إلا ما أدركتم ذكاته على التمام، والتذكية في الشرع عبارة عن أنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور، والعقر في غير المقدور، مقرونًا بالقصد لله وذكر اسمه عليه.
وأما الآلة التي يقع بها الذكاة فذهب الجمهور إلى أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج فهو آلة للذكاة ما خلا السن والعظم، وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة.
(و) حرم (ما ذبح على النصب) أي ما قصد بذبحه النصب، ولم يذكر اسمها عند ذبحه بل قصد تعظيمها بذبحه فـ (على) بمعنى اللام فليس هذا مكرراً مع ما سبق، إذ ذاك فيما ذكر عند ذبحه اسم الصنم، وهذا قصد بذبحه تعظيم الصنم من غير ذكره، وقال ابن فارس: النصب حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح، والنصاب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد، وقيل النصب جمع واحده نصاب كحمار وحمر، وقرأ الجحدري كالحبل والجمل والجمع أنصاب كالأحبال والأجمال.
قال مجاهد: هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها، وقيل كان حول الكعبة ثلثمائة وستون حجراً منصوبة قال ابن عباس: هن الأصنام المنصوبة، قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وتنضح بالدم ما أقبل من(3/337)
البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة، فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال فأنزل الله (وما ذبح على النصب).
والمعنى والنية بذلك تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز، ولهذا قيل: إن على بمعنى اللام أي لأجلها، قاله قطرب، وهو على هذا داخل فيما أُهلَّ به لغير الله وخص بالذكر لتأكيد تحريمه، ولدفع ما كانوا يظنونه من أن ذلك لتشريف البيت وتعظيمه.
(وأن تستقسموا بالأزلام) وهي قداح الميسر، واحدها زلم. والأزلام للعرب ثلاثة أنواع أحدها مكتوب فيه افعل والآخر مكتوب فيه لا تفعل والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه، فإذا فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج واحداً منها فإن خرج الأوّل فعل ما عزم عليه، وإن خرج الثاني تركه وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين.
وإنما قيل لهذا الفعل استقسام لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون فعله كما يقال استسقى أي استدعى السقيا، فالاستقسام طلب القسم والنصيب والحكم من القداح، وجملة قداح الميسر عشرة وكانوا يضربون بها في المقامرة.
وقيل إن الأزلام كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها، وقيل هي النرد وقيل الشطرنج، وإنما حرم الله الاستقسام بالأزلام لأنه تعرض لدعوى علم الغيب وضرب من الكهانة، قال الزجاج: لا فرق بين هذا وبين قول المنجمين لا تخرج من أجل نجم كذا وأخرج لطلوع نجم كذا، وأنكر ذلك في شرح التأويلات بما لا يسمن ولا يغني من جوع.(3/338)
(ذلكم) إشارة إلى الاستقسام بالأزلام خاصة أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا (فسق) لأنه وإن أشبه القرعة فهو دخول في علم الغيب وذلك حرام لقوله تعالى (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً) وقال (لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) والفسق الخروج من الحد، وقد تقدم بيان معناه، وفي هذا وعيد شديد لأن الفسق هو أشد الكفر لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر.
(اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) المراد باليوم الذي نزلت فيه الآية هو يوم فتح مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع، وقيل سنة ثمان، وقيل إن ذلك هو يوم عرفة فنزلت هذه الآية والنبي صلى الله عليه وآله وسلم واقف بعرفة، وقيل المراد باليوم الحاضر وما يتصل به ولم يرد يوماً معيناً أي حصل لهم اليأس من إبطال أمر دينكم وأن يردوكم إلى دينهم كما كانوا يزعمون، واليأس انقطاع الرجاء وهو ضد الطمع.
(فلا تخشوهم) أي لا تخافوا الكفار أن يغلبوكم أو يبطلوا دينكم فقد زال الخوف عنكم بإظهار دينكم (وآخشون) فأنا القادر على كل شيء إن نصرتكم فلا غالب لكم، وإن خذلتكم لم يستطع غيري أن ينصركم.
(اليوم) المراد يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع، هكذا ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب، وقيل نزلت في يوم الحج الأكبر، وقال ابن عباس: نزلت في يوم عيدين، في يوم جمعة وعرفة أخرجه الترمذي وقال حسن غريب.
(أكملت لكم دينكم) أي جعلته كاملاً غير محتاج إلى إكمال لظهوره على الأديان كلها وغلبته لها، ولكمال أحكامه التي يحتاج المسلمون إليها من الحلال والحرام والمشتبه، والفرائض والسنن والحدود والأحكام وما تضمنه(3/339)
الكتاب والسنة من ذلك، ولا يخفى ما يستفاد من تقديم قوله (لكم).
قال الجمهور: المراد بالإكمال هنا نزول معظم الفرائض والتحليل والتحريم قالوا: وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير كآية الربا وآية الكلالة ونحوهما، وقيل لم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض، هذا معنى قول ابن عباس.
قال سعيد بن جبير وقتادة: معناه أي حيث لم يحج معكم مشرك وخلا الموسم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين، وقيل إكماله أنه لا يزول ولا ينسخ ويبقى إلى آخر الدهر، وقيل المعنى أنهم آمنوا بكل نبي وكل كتاب ولم يكن هذا لغير هذه الأمة، وقال ابن الأنباري: اليوم أكملت شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت.
وهذه أقوال ضعيفة ولا معنى للإكمال إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه الشرع إما بالنص على كل فرد فرد أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة.
ومما يؤدي ذلك قوله تعالى ميه (ما فرّطنا في الكتاب من شيء) وقوله (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: تركتكم على الواضحة ليلها كنهارها (1) وجاءت نصوص الكتاب العزيز بإكمال الدين وبما يفيد هذا المعنى ويصحح دلالته ويؤيد برهانه.
ويكفي في دفع الرأي وأنه ليس من الدين قول الله تعالى هذا فإنه إذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه لأنه إن كان من الدين في
_________
(1) الموطأ الحدود باب 10.(3/340)
اعتقادهم فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم، وهذا فيه ردّ للقرآن، وإن لم يكن من الدين فأي فائدة في الإشتغال بما ليس منه وما ليس منه فهو رد بنص السنة المطهرة كما ثبت في الصحيح.
وهذه حجة قاهرة ودليل باهر لا يمكن أهل الرأي أن يدفعوه بدافع أبداً، فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصكّ به وجوه أهل الرأي وترغم به آنافهم وتدحض به حجتهم فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه ولم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل، فمن جاء بشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له إن الله أصدق منك، ومن أصدق من الله قيلاً، إذهب لا حاجة لنا في رأيك.
وليت المقلِدة فهموا هذه الآية حق الفهم حتى يستريحوا ويريحوا، وقد أخبرنا في محكم كتابه أن القرآن أحاط بكل شيء فقال ما فرطنا في الكتاب من شيء وقال (تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة) ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) وقال نتحكم بين الناس بما أراك وقال (إن الحكم إلا لله يقصّ الحق وهو خير الفاصلين) وقال (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) وفي آية هم الظالمون وفي أخرى هم الفاسقون.
وأمر عباده أيضاً في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وهذه أعم آية في القرآن وأبينها في الأخذ بالسنة المطهرة، وقال (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز وقال (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) وقال (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).(3/341)
والاستكثار من الاستدلال على وجوب طاعة الله وطاعة رسوله لا يأتي بعائدة ولا فائدة زائدة فليس أحد من المسلمين يخالف في ذلك، ومن أنكره فهو خارج عن حزب المسلمين.
إنّما أوردنا هذه الآيات الكريمة والبينات العظيمة تلييناً لقلب المقلّد الذي قد جمد وصار كالجلمد فإنه إذا سمع مثل هذه الأوامر القرآنية ربما امتثلها وأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - طاعة لأوامره، فإن هذه الطاعة وإن كانت معلومه لكل مسلم لكن الإنسان قد يذهل عن القوارع الفرقانية والزواجر المحمدية، فإذا ذُكّر بها ذكر، ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين عليه غير متزحزحين عنه فإنه يقع في قلبه أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه، وما كان مخالفاً له فليس من الإسلام في شيء، فإذا راجع نفسه رجع.
ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب ثم سمع قبل أن يتمرن بالعلم ويعرف ما قاله الناس خلاف ذلك المألوف استنكره وأباه قلبه، ونفر عنه طبعه، وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر. ولكن إذا وازن العاقل بعقله بين من اتبع أحد أئمة المذاهب في مسئلة من مسائله التي رواها عنه المقلد، ولا مستند لذلك العالم فيها بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل، وبين من تمسك في تلك المسئلة بخصوصها بالدليل الثابث في القرآن أو السنة أفاده العقل بأن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل لا جامع بينهما لأن من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به، واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة أولها وآخرها وحيّها وميتها.
والعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره، والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة واسترواء النص، وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسئلة، فيفيدونه النص إن(3/342)
كان ممن يعقل الحجة إذا دل عليها أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها، فهم رواة وهو مسترو، وهذا عامل بالرواية لا بالرأي، والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة، وذلك في سؤاله يطالب بالحجة لا بالرأي فهو قابل لرواية الغير لا لرأيه، وهما من هذه الحيثية متقابلان، فانظر كم الفرق بين المنزلتين.
والكلام في ذلك يطول ويستدعي استغراق الأوراق الكثيرة وهو مبسوط في مواطنه، وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ وبالله التوفيق.
وفي الآية دلالة على بطلان القياس، وعلى أنه تعالى قد نص على الحكم في جميع الوقائع إذ لو بقي بعضها غير مبيّن الحكم لم يكن الدين كاملاً، وإذا حصل النص في جميع الوقائع فالقياس إن كان على وفق النص كان عبثاً، وإن كان على خلافه كان باطلاً، وقد أجاب مثبتو القياس عن هذا بما لا يكفي في الجواب والله أعلم بالصواب.
(وأتممت عليكم نعمتي) بإكمال الدين المشتمل على الأحكام وبفتح مكة وقهر الكفار وإياسهم عن الظهور عليكم كما وعدتكم بقولي ولأتم نعمتي عليكم، وقال ابن عباس: حكم لهم بدخول الجنة.
(ورضيت لكم الإسلام ديناً) أي أخبرتكم برضائي به لكم، فالجملة مستأنفة لا معطوفة على (أكملت) وإلا كان مفهوم ذلك أنه لم يرض لهم الإسلام ديناً قبل ذلك، وليس كذلك فإنه سبحانه لم يزل راضياً لأمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالإسلام، فلا يكون لاختصاص الرضا بهذا اليوم كثير فائدة إن حملناه على ظاهره.
ويحتمل أن يريد رضيت لكم الإسلام الذي أنتم عليه اليوم ديناً باقياً إلى(3/343)
انقضاء أيام الدنيا، وديناً منتصب على التمييز، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، قال ابن عباس: أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً، وقد أتمه فلا ينقص أبداً، وقد رضيه فلا يسخطه أبداً.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن طارق بن شهاب قال: قالت اليهود لعمر إنكم تقرؤن آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال وأي آية قالوا (اليوم أكملت لكم دينكم) قال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والساعة التي نزلت فيها نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشية عرفة في يوم الجمعة، أشار عمر إلى أن ذلك اليوم يوم عيد لنا.
قال ابن عباس: فمكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية أحداً وثمانين يوماً ثم قبضه الله إليه، أخرجه البيهقي ومات - صلى الله عليه وسلم - يوم الأثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول، وقيل لاثنتي عشرة ليلة وهو الأصح سنة إحدى عشرة من الهجرة.
قال ابن عباس: كان في ذلك اليوم خمسة أعياد يوم الجمعة ويوم عرفة وعيد لليهود وعيد للنصارى وعيد للمجوس، ولم تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم واحد قبله ولا بعده.
(فمن اضطر في مخمصة) هذا متصل بذكر المحرمات، وما بينهما اعتراض أي من دعته الضرورة في مخمصة أي مجاعة إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرمات، والخمص ضمور البطن، ورجل خميص وخمصان، وامرأة خميصة ومنه أخمص القدم لدقتها وهي صفحة محمودة في النساء، ويستعمل كثيراً في الجوع، ووقعت هذه الآية هنا وفي البقرة والأنعام والنحل ولم يذكر جواب الشرط إلا في البقرة فيقدر في غيرها وهو (فلا إثم عليه).(3/344)
(غير متجانف لإثم) الجنف الميل والإثم الحرام، أي حال كون المضطر في مخمصة غير مائل لإثم وهو بمعنى غير باغ ولا عاد وكل مائل فهو متجانف وجنف، وقرئ متجنّف وهو أن يأكل فوق الشبع وهو قول فقهاء العراق، قال ابن عطية: وهو أبلغ من متجانف، وقيل المعنى غير متعرض لمعصية في مخمصة وهو قول فقهاء الحجاز، وقال ابن عباس: غير متعمّد لإثم (1).
(فإن الله غفور) له (رحيم) به لا يؤاخذه بما ألجأته إليه الضرورة في الجوع مع عدم ميله بأكل ما حرم عليه إلى الإثم بأن يكون باغياً على غيره أو متعدياً لما دعت إليه الضرورة حسبما تقدم.
وهذه الآية من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى ومتصلة بها، ومن قوله (ذلكم فسق) إلى هنا اعتراض وقع بين الكلامين، والغرض منه تأكيد ما تقدم ذكره في معنى التحريم لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل.
_________
(1) وفي " المسند " 8/ 170 و " صحيح ابن حبان " عن ابن عمر مرفوعاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب أن تؤتي رخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته " لفظ ابن حبان. [قلت: وفي " المجمع " 3/ 162 رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، والبزار والطبراني في " الأوسط " وإسناده حسن] وفي لفظ لأحمد 7/ 238 " من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة ". ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها وقد يكون مندوباً، وقد يكون مباحاً، بحسب الأحوال.
وقد روى الإمام أحمد 5/ 218 عن أبي واقد الليثي، أنهم قالوا: يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال: " إذا لم تصطحبوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفئوا بقلاً، فشأنكم بها ".
تفرد به أحمد من هذا الوجه.(3/345)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
(يسألونك ماذا أحلّ لهم) هذا شروع في بيان ما أحل الله لهم من الطعام بعد بيان ما حرمه الله عليهم، والمعنى أي شيء أحل لهم أو ما الذي أحل لهم من المطاعم إجمالاً ومن الصيد ومن طعام أهل الكتاب ومن نسائهم.
(قل أحل لكم الطيبات) وهي ما يستلذ أكله ويستطيبه أصحاب الطباع السليمة مما أحله الله لعباده أو مما لم يرد نص بتحريمه من كتاب أو سنة أو إجماع عند من يقول بحجيته ولا قياس كذلك، وقيل هي الحلال وقد سبق الكلام في هذا، وقيل الطيبات الذبائح أي ما ذبح على اسم الله عز وجل لأنها طابت بالتذكية وهو تخصيص للعام بغير مخصص، والسبب والسياق لا يصلحان لذلك.
والعبرة في الاستطابة والاستلذاذ بأهل الروءة والأخلاق الجميلة من العرب فإن أهل البادية منهم يستطيبون أكل جميع الحيوانات فلا عبرة بهم لقوله تعالى (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) فإن الخبيث غير مستطاب فصارت هذه الآية الكريمة نصاً فيما يحل ويحرم من الأطعمة.
(وما علّمتم من الجوارح) أي أحل لكم صيد ما علمتم، وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية علمتم بضم العين وكسر اللام أي علمتم من أمر الجوارح والصيد بها.
قال القرطبي: وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل(3/346)
على أن الإباحة تناولت ما علمنا من الجوارح وهو ينظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع إلا ما خصه الدليل، وهو الأكل، والجوارح الكواسب من الكلاب، وسباع الطير.
قال: أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود وعلمه مسلم ولم يأكل من صيده الذي صاده وأثّر فيه بجرح أو تنييب وصاد به مسلم، وذكر اسم الله عند إرساله، أن صيده صحيح يؤكل بلا خلاف، فإن انخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف.
فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبه ذلك وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب، يقال جرح فلان واجترح إذا اكتسب، ومنه الجارحة لأنها يكتسب بها، ومنه اجتراح السيئات، ومنه قوله تعالى (ويعلم ما جرحتم بالنهار) وقوله (أم حسب الذين اجترحوا السيئات).
(مكلّبين) المكلب معلم الكلاب لكيفية الاصطياد ومؤدبها ومضريها بالصيد، وخص معلم الكلاب وإن كان معلم سائر الجوارح مثله لأن الاصطياد بالكلاب هو الغالب. ولم يكتف بقوله (وما علّمتم من الجوارح) مع أن التكليب هو في اللغة التعليم، لقصد التأكيد لما لا بد منه من التعليم، وفسره في الجلالين بالإرسال فليتأمل مستنده في هذا التفسير، والتفاسير فسرته بالتعليم.
وفائدة التقييد المبالغة في التعليم لما أن اسم المكلّب لا يقع إلا على التحرير في علمهم، وقيل إن السبع يسمى كلباً فيدخل فيه كل سبع يصاد به لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، قال في(3/347)
الكشاف فأكله الأسد، قال الطيبي: هذا حديث موضوع قال الخفاجي وليس كما قال بل هو حديث صحيح أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أبي نوفل قال الحاكم وهو صحيح الإسناد. (1).
(قلت) وليس لحكم الحاكم بالصحة حكم عند الحفاظ ما لم يحكم ناقد منهم بصحته فلينظر في سنده وقيل إن هذه الآية خاصة بالكلاب، وقد حكى ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال ما يصاد بالبزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فهو لك حلال وإلا فلا تطعمه.
قال ابن المنذر: وسئل أبو جعفر عن البازي هل يحل صيده قال: لا إلا أن تدرك ذكاته، وقال الضحاك والسدي وما علمتم من الجوارح مكلبين هي الكلاب خاصة، فإن كان الكلب الأسود بهيماً فكرّه صيده الحسن وقتادة والنخعي، وقال أحمد: ما أعرف أحداً يرخص فيه إذا كان بهيماً، وبه قال ابن راهويه، فأما عامة أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم.
واحتج من منع من صيد الكلب الأسود بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الكلب الأسود شيطان (2)، أخرجه مسلم وغيره، والحق أنه يحل صيد كل ما يدخل تحت عموم الجوارح من غير فرق بين الكلب وغيره، وبين الأسود وغيره، وبين الطير وغيره، ويؤيد هذا أن سبب نزول الآية سؤال عدي ابن أبي حاتم عن صيد البازي.
(تعلّمونهن) أي تعلمون الجوارح الاصطياد وتؤدبوهن، والجملة مستأنفة أو حالية ومنعه أبو البقاء أو اعتراضيه (مما) أي من آداب الصيد
_________
(1) المستدرك 2/ 539.
(2) مسلم/510.(3/348)
(علمكم الله) أي مما أدركتموه بما خلقه فيكم من العقل الذي تهتدون به إلى تعليمها وتدريبها حتى تصير قابلة لإمساك الصيد عند إرسالكم لها.
(فكلوا مما أمسكن عليكم) الفاء للتفريع والجملة متفرعة على ما تقدم من تحليل صيد ما علموه من الجوارح، ومن في (مما) للتبعيض لأن بعض الصيد لا يؤكل كالجلد والعظم والدم والفرث وما أكله الكلب ونحوه، وفيه دليل على أنه لا بد أن يمسكه على صاحبه فإن أكل منه فإنما أمسكه على نفسه، في الحديث كما الثابت في الصحيح.
وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يحل أكل الصيد الذي يقصده الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال.
وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي وهو مروي عن سلمان الفارسي وسعد ابن أبي وقاص وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وروي عن علي وابن عباس والحسن البصري والزهري وربيعة بن مالك والشافعي في القديم أنه يؤكل صيده.
ويرد عليهم قوله تعالى (مما أمسكن عليكم) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعدي بن حاتم: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك (1)، وهو في الصحيحين وغيرهما، وفي لفظ لهما فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه.
وأما ما أخرجه أبو داود بإسناد جيد من حديث أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه (2)، وقد أخرجه أيضاً بإسناد جيد من حديث عمرو بن
_________
(1) مسلم 1929.
(2) صحيح الجامع 311.(3/349)
شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه أيضاً النسائي (1)، فقد جمع بعض الشافعية بين هذه الأحاديث بأنه إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن أبي حاتم، وإن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه الانتظار وجاع فأكل من الصيد لجوعه لا لكونه أمسكه على نفسه فإنه لا يؤثّر ذلك ولا يحرم به الصيد، وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني وحديث عمرو بن شعيب، وهذا جمع حسن.
وقال آخرون أنه إذا أكل الكلب منه حرم لحديث عدي بن حاتم، وإن أكل غيره لم يحرم للحديثين الآخرين وقيل يحمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أمسكه وخلاه، ثم عاد فأكل منه، وقد سلك كثير من أهل العلم طريق الترجيح ولم يسلكوا طريق الجمع لما فيها من البعد، قالوا وحديث عدي بن حاتم أرجح لكونه في الصحيحين، وقد قرر الشوكاني هذا المسلك في شرحه للمنتقى بما يزيد الناظر فيه بصيرة.
(واذكروا اسم الله عليه) الضمير في عليه يعود إلى (ما علّمتم) أي سموا عليه عند إرساله أو لما أمسكن عليكم أي سموا عليه إذا أردتم ذكاته، وقيل يعود على المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكل كأنه قيل اذكروا اسم الله على الأكل وفيه بعد.
وقد ذهب الجمهور إلى وجوب التسمية عند إرسال الجارح واستدلوا بهذه الآية، ويؤيده حديث عدي بن حاتم الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ: إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله (2).
وقال بعض أهل العلم أن المراد التسمية عند الأكل، قال القرطبي: وهو
_________
(1) البخاري/141.
(2) زاد المسير/294.(3/350)
الأظهر، واستدلوا بالأحاديث التي فيها الإرشاد إلى التسمية وهذا خطأ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد وقّت التسمية بإرسال الكلب وإرسال السهم. ومشروعية التسمية عند الأكل حكم آخر ومسئلة غير هذه المسئلة، فلا وجه لحمل ما ورد في الكتاب والسنة هنا على ما ورد في التسمية عند الأكل، ولا ملجئ إلى ذلك.
وفي لفظ في الصحيحين من حديث عدي: إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فكل (1)، وقد ذهب جماعة إلى أن التسمية شرط، وذهب آخرون إلى أنها سنة فقط، وذهب جماعة إلى أنها شرط على الذاكر لا الناسي، وهذا أقوى الأقوال وأرجحها (واتقوا الله) فيما أحل لكم وحرم عليكم واحذروا مخالفة أمره في هذا كله (إن الله سريع الحساب) أي حسابه سبحانه سريع إتيانه وكل آت قريب، وفيه تخويف لمن خالف أمره وفعل ما نهى عنه.
_________
(1) عن جابر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب -حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله، ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها وقال: " عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان " وروى أبو داود 3/ 144، والدارمي 2/ 90 عن عبد الله بن مغفل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم ".
هذا تحقيق المذهب وروى البخاري 21/ 92 " بشرح العيني " ومسلم 3/ 1531 عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إني أرسل كلبي وأسمي. قال: " إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ، فقتل، فكل، وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه ". قلت: إني أرسل كلبي فأجد معه كلباً آخر، لا أدري أيهما أخذ؟ قال: " فلا تأكل فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره ".(3/351)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
(اليوم أحلّ لكم الطيّبات) هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى وهي قوله: (أحل لكم الطيبات) وقد تقدم بيان الطيبات، ويحتمل أن يراد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه أو اليوم الذي تقدم ذكره في قوله: (اليوم يئس، واليوم أكملت) وقيل ليس المراد باليوم يوماً معيناً.
وقال أبو السعود: المراد بالأيام الثلاثة وقت واحد، وإنما كرر للتأكيد ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره، وقال القرطبي: أعاد ذكر اليوم تأكيداً، وقيل أشار بذكر اليوم إلى وقت محمد، كما تقول هذه أيام فلان أي هذا أوان ظهوركم انتهى، وفيه بعد.
(وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم) بخلاف الذين تمسكوا بغير التوراة والإنجيل كصحف إبراهيم فلا تحل ذبائحهم، والحاصل أن حل الذبيحة تابع لحل المناكحة على التفصيل المقرر في الفروع، والطعام اسم لما يؤكل ومنه الذبائح وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبائح، ورجحه الخازن.
وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتاب من غير فرق بين اللحم وغيره حلال للمسلمين وإن كانوا لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم، وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)(3/352)
وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال وإن ذكر اليهودي على ذبيحته اسم عزير، وذكر النصراني على ذبيحته اسم المسيح، وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة ابن الصامت وابن عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول.
وقال علي وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل، وهو قول طاوس والحسن وتمسكوا بقوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) ويدل عليه أيضاً قوله: (وما أهلّ به لغير الله).
وقال مالك: إنه يكره ولا يحرم، وسئل الشعبي وعطاء عنه فقالا يحل فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله، وأما مع عدم العلم فقد حكى الطبري وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية، ولما ورد في السنة من أكله صلى الله عليه وآله وسلم من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية وهو في الصحيح، وكذلك جراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر وعلم بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الصحيح أيضاً وغير ذلك.
والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود والنصارى، وقيل ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأما من دخل بعده وهم متنصّرو العرب من بني تغلب فلا تحل ذبيحتهم، وبه قال علي وابن مسعود ومذهب الشافعي أن من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن فإنه لا تحل ذبيحته.
وسئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس بها ثم قرأ (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) وبه قال الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي(3/353)
وعكرمة وهو مذهب أبي حنيفة.
وأما المجوس فذهب الجمهور إلى أنها لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم لأنهم ليسوا بأهل كتاب على المشهور عند أهل العلم، وكذا سائر أهل الشرك من مشركي العرب وعبدة الأصنام ومن لا كتاب له، وخالف ذلك أبو ثور وأنكر عليه الفقهاء ذلك حتى قال أحمد: أبو ثور كاسمه في هذه المسئلة.
وكأنه تمسك بما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً أنه قال في المجوس " سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب " ولم يثبت بهذا اللفظ، وعلى فرض أن له أصلاً ففيه زيادة تدفع ما قاله وهي قوله " غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم " وقد رواه بهذه الزيادة جماعة ممن لا خبرة له بفن الحديث من المفسرين والفقهاء، ولم يثبت الأصل ولا الزيادة بل الذي ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر.
وأما بنو تغلب فكان علي بن أبي طالب ينهى عن ذبائحهم لأنهم عرب، وكان يقول إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر، وهكذا سائر العرب المتنصرة كتنوخ وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم، قال ابن كثير (1) وهو قول غير واحد من السلف والخلف.
وروي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري أنهما كانا لا يريان بأساً بذبيحة نصارى بني تغلب، وقال القرطبي وقال جمهور الأمة: إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو من غيرهم وكذلك اليهود قال ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام يجوز أكله، وزعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً وإن ذكروا غير اسم الله
_________
(1) تفسير ابن كثير 2/ 20.(3/354)
فيكون هذا ناسخاً لقوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) وليس الأمر كذلك ولا وجه للنسخ.
(وطعامكم حل لهم) أي وطعام المسلمين حلال لأهل الكتاب، وفيه دليل على أنه يجوز للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من ذبائحهم، وهذا من باب المكافأة والمجازاة، وإخبار المسلمين بأن ما يأخذونه منهم من أعواض الطعام حلال لهم بطريق الدلالة الالتزامية، وهذا يدل على أنهم مخاطبون بشريعتنا.
قال الزجاج: معناه ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم، فجعل الخطاب للمؤمنين على معنى أن التحليل يعود على إطعامنا إياهم لا إليهم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله تعالى أن نطعمهم من ذبائحنا، وقيل: إن الفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة من الجانبين، وإباحة الذبائح حاصلة فيهما، فذكر الله ذلك تنبيهاً على التمييز بين النوعين.
ثم قال: (والمحصنات من المؤمنات) اختلف في تفسير المحصنات هنا فقيل العفائف قاله ابن عباس، وقيل الحرائر، قاله مجاهد، وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في البقرة والنساء، والمحصنات مبتدأ ومن المؤمنات وصف له والخبر محذوف أي حل لكم (1).
وذكرهن توطئة وتمهيداً لقوله (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من
_________
(1) في " الأم " للشافعي 5/ 6 " ولا يحل نكاح حرائر من دان من العرب دين اليهودية والنصرانية، لأن أصل دينهم كان الحنيفية، ثم ضلوا بعبادة الأوثان، وإنما انتقلوا إلى دين أهل الكتاب بعده، لا بأنهم كانوا الذين دانوا بالتوراة والإنجيل فضلوا عنها وأحدثوا فيها، إنما ضلوا عن الحنيفية ولم يكونوا كذلك، لا تحل ذبائحهم، وكذلك كل أعجمي كان أصل دين من مضى من آبائه عبادة الأوثان ولم يكن من أهل الكتابين المشهورين، التوراة والإنجيل، فدان دينهم، لم يحل نكاح نسائهم ".(3/355)
قبلكم) والمراد به الحرائر، قاله ابن عباس دون الإماء فلا تدخل الأمة المؤمنة في هذا التحليل، ومن أجاز نكاحهن أجازه بشرطين: خوف العنت وعدم طَوْل الحرة، هكذا قال الجمهور، وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف أن هذه الآية تعم كل كتابية حرة أو أمة.
وقال الحسن والشعبي والنخعي والضحاك يريد العفائف، قيل المراد بأهل الكتاب هنا الإسرائيليات وبه قال الشافعي وهو تخصيص بغير المخصص، وقال عبد الله بن عمر لا تحل النصرانية قال: ولا أعلم شركاً أكبر من أن تقول ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: (ولا تنكحوا الشركات حتى يؤمنَّ) الآية.
ويجاب عنه بأن هذه الآية للكتابيات من عموم الشركات فيبنى العام على الخاص.
وقد استدل من حرّم نكاح الإماء الكتابيات بهذه الآية لأنه حملها على الحرائر، وبقوله تعالى: (فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم، وخالفهم من قال إن الآية تعم أو تخص العفائف كما تقدم.
والحاصل أنه يدخل تحت هذه الآية الحرة العفيفة من الكتابيات على جميع الأقوال إلا على قول ابن عمر في النصرانية، ويدخل تحتها الحرة التي ليست بعفيفة، والأمة العفيفة على قول من يقول إنه يجوز استعمال المشترك في كلا معنييه.
وأما من لم يجوز ذلك فإن حمل المحصنات هنا على الحرائر لم يقل بجواز نكاح الأمة عفيفة كانت أو غير عفيفة إلا بدليل آخر، ويقول بجواز نكاح(3/356)
ْالحرة عفيفة كانت أو غير عفيفة، وإن حمل المحصنات هنا على العفائف قال: بجواز نكاح الحرة العفيفة والأمة العفيفة دون غير العفيفة منهما، ومذهب أبي حنيفة أنه يجوز التزويج بالأمة الكتابية لعموم هذه الآية.
(إذا آتيتموهن أجورهن) أي مهورهن وهو العوض الذي يبذله الزوج للمرأة، وجواب إذا محذوف أي فهن حلال أو هي ظرف لخبر المحصنات المقدر أي حل لكم، وهذا الشرط بيان للأكمل والأولى لا لصحة العقد إذ لا تتوقف على دفع المهر ولا على التزامه كما لا يخفى.
(محصنين) أي حال كونكم اعفّاء بالنكاح وكذا قوله (غير مسافحين) أي غير مجاهرين بالزنا (ولا متخذي أخدان) الخدان يقع على الذكر والأنثى وهو الصديق في السر، والجمع أخدان أي لم يتخذوا معشوقات، فقد شرط الله في الرجال العفة وعدم المجاهرة بالزنا وعدم اتخاذ أخدان كما شرط في النساء أن يكن محصنات.
(ومن يكفر بالإيمان) أي بشرائع الإسلام والباء بمعنى عن أي يرتد، والمراد بالكفر هنا الارتداد (فقد حبط عمله) أي بطل فلا يعتد به ولو عاد إلى الإسلام ولا يثاب عليه (وهو في الآخرة من الخاسرين) إذا مات عليه، يعني أن تزوُّج المسلمين إياهن ليس بالذي يخرجهن من الكفر.(3/357)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
(يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة) أي إذا أردتم القيام تعبيراً بالسبّب عن السبب كما في قوله (وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) لأن القيام متسبب عن الإرادة والإرادة سببه، والمراد بالقيام الاشتغال بها والتلبس بها من قيام أو غيره.
وقد اختلف أهل العلم في هذا الأمر عند إرادة القيام إلى الصلاة فقالت طائفة هو عام في كل قيام إليها سواء كان القائم متطهراً أو محدثاً فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ وهو مروي عن علي وعكرمة، وهذا القول يقتضي وجوب الوضوء عند كل صلاة وهو ظاهر الآية، وإليه ذهب داود الظاهري، قال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤن لكل صلاة.
وقال طائفة أخرى: إن هذا الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ضعيف، فإن الخطاب للمؤمنين والأمر لهم، وقالت طائفة: الأمر للندب طلباً للفضل، وقال آخرون إن الوضوء لكل صلاة كان فرضاً عليهم بهذه الآية ثم نسخ في فتح مكة.(3/358)
وقال جماعة: هذا الأمر خاص بمن كان محدثاً، وقال آخرون: المراد إذا قمتم من النوم إلى الصلاة فيعم الخطاب كل قائم من نوم، وقد أخرج أحمد ومسلم وأهل السنن عن بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله فقال: عمداً فعلته يا عمر، وهو مروي من طرق كثيرة بألفاظ متفقة في المعنى (1).
وأخرج البخاري وأحمد وأهل السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوضأ عند كل صلاة قال: قلت فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث.
فتقرر بما ذكر أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وبه قال جمهور أهل العلم وهو الحق، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق أربع صلوات بوضوء واحد، وفي الباب أحاديث، والتقدير إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر، وهذا أحد اختصارات القرآن وهو كثير جداً.
وفروض الوضوء في هذه الآية أربعة: الأول قوله: (فاغسلوا وجوهكم) الوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة وهو عضو مشتمل على أعضاء وله طول وعرض، فحدُّه في الطول من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللَّحيَين، وفي العرض من الأذن إلى الأذن، وقد ورد الدليل بتخليل اللحية، واختلف العلماء في غسل ما استرسل، والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه.
_________
(1) مسلم/277.(3/359)
وقد اختلف أهل العلم أيضاً هل يعتبر في الغسل الدلك باليد أم يكفي إمرار الماء والخلاف في ذلك معروف، والمرجع اللغة العربية فإن ثبت فيها أن الدلك داخل في مسمى الغسل كان معتبراً وإلا فلا.
قال في شمس العلوم: غسل الشيء غسلاً إذا أجرى عليه الماء ودلكه انتهى.
وأما المضمضة والإستنشاق فإذا لم يكن لفظ الوجه يشمل باطن الفم والأنف فقد ثبت غسلهما بالسنة الصحيحة، والخلاف في الوجوب وعدمه معروف، وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في مؤلفاته.
وقد استدل الشافعي على وجوب النية عند غسل الوجه بهذه الآية وبقوله: إنما الأعمال بالنيات (1) لأن الوضوء مأمور به وكل مأمور به يجب أن يكون منويّاً، ويدل له قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) والإخلاص عبارة عن النية الصالحة.
واستدل أبو حنيفة بها لعدم وجوب النية فيه لأن الله أوجب غسل الأربعة في هذه الآية ولم يجب النية فيها فإيجابها زيادة على النص وهي نسخ، ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس.
والجواب أن إيجابها بدلالة القرآن كما تقدم، والجواب عن الزيادة والنسخ قد ذكرناه في حصول المأمول فليرجع إليه.
والفرض الثاني قوله: (وأيديكم إلى المرافق) إلى للغاية وأما كون ما بعدها يدخل فيما قبلها فمحل خلاف، وقد ذهب سيبويه وجماعة إلى أن ما
_________
(1) البخاري 11 مسلم/1907.(3/360)
بعدها إن كان من نوع ما قبلها دخل وإلا فلا، ويعزى لأبي العباس، وقيل إنها بمعنى (مع) وذهب قوم إلى أنها تفيد الغاية مطلقاً، وأما الدخول وعدمه فأمر يدور مع الدليل.
وقيل إن ما بعدها لا يدخل فيما قبلها، قال سليمان الجمل وهو الأصح عند النحاة انتهى، وهذه الأقوال دلائلها في كتاب شرح التسهيل.
وقد ذهب الجمهور إلى أن المرافق تغسل واستدلوا بما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه (1)، وفيه القاسم وهو متروك وجده عبد الله بن محمد وهو ضعيف، والمرفق بالكسر هو من الإنسان أعلى الذراع وأسفل العضد.
والفرض الثالث (وامسحوا برؤوسكم) قيل الباء زائدة والمعنى امسحوا رؤوسكم وذلك يقتضي تعميم المسح لجميع الرأس، وقيل هي للتبعيض وذلك يقتضي أنه يجزئ مسح بعضه، واستدل القائلون بالتعميم بقوله تعالى في التيمم: (فامسحوا بوجوهكم) ولا يجزئ فيه مسح بعض الوجه اتفاقاً، وقيل إنها للإلصاق أي ألصقوا أيديكم برؤوسكم وهو مذهب سيبويه وبه قال الزمخشري لكن في شرح المهذب عن جماعة من أهل العربية أن الباء إذا دخلت على متعدد كما في الآية تكون للتبعيض، أو على غير متعدد كما في (وليطّوفوا بالبيت) تكون للإلصاق.
وعلى كل حال فقد ورد في السنة المطهرة ما يفيد أنه يكفي مسح بعض الرأس كما أوضحناه في مؤلفاتنا، فكان هذا دليل على المطلوب، غير محتمل كاحتمال الآية على فرض أنها محتملة.
_________
(1) الدارقطني 1/ 83.(3/361)
ولا شك أن من أمر غيره بأن يمسح رأسه كان ممتثلاً بفعل ما يصدق عليه مسمى المسح، وليس في لغة العرب ما يقتضي أنه لا بد في مثل هذا الفعل من مسح جميع الرأس، وهكذا سائر الأفعال المتعدية نحو اضرب زيد أو اطعنه أو ارجمه فإنه يوجد المعنى العربي بوقوع الضرب والطعن والرجم على عضو من أعضائه.
ولا يقول قائل من أهل اللغة أو من هو عالم بها: إنه لا يكون ضارباً إلا بإيقاع الضرب على كل جزء من أجزاء زيد، وكذلك الطعن والرجم وسائر الأفعال فاعرف هذا حتى يتبين لك ما هو الصواب من الأقوال في مسح الرأس.
فإن قلت يلزم مثل هذا في غسل الوجه واليدين والرجلين قلت ملتزم لولا البيان من السنة في الوجه والتحديد بالغاية في اليدين والرجلين بخلاف الرأس فإنه ورد في السنة مسح الكل ومسح البعض.
والفرض الرابع قوله (وأرجلكم) قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص بنصب الأرجل وهي قراءة الحسن البصري والأعمش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة بالجر، وقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين لأنها معطوفة على الوجه، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم والأئمة الأربعة وأصحابهم، وقراءة الجر تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الرجلين لأنها معطوفة على الرأس، وإليه ذهب ابن جرير الطبري وبه تعلق وهو مروي عن ابن عباس.
قال ابن العربي: واتفقت الأمة على وجوب غسلهما وما علمت من رد ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وقيل إنه منصوب في المعنى عطفاً على الأيدي المغسولة، وإنما خفض على الجوار، وهذا وإن كان(3/362)
وارداً إلا أن التخريج عليه ضعيف لضعف الجوار من حيث الجملة.
وأيضاً فإن الخفض على الجوار إنما ورد في النعت لا في العطف، وقد ورد في التوكيد قليلاً في ضرورة الشعر، وقيل إنها إنما جرت للتنبيه على عدم الإسراف في استعمال الماء فيها لأنها مظنة لصب الماء كبيراً فعطفت على الممسوح والمراد غسلها، وإليه ذهب الزمخشري.
وقيل إنها مجرورة بحرف جر، دل عليه المعنى ويتعلق هذا الحرف بفعل محذوف تقديره وافعلوا بأرجلكم غسلاً، قال أبو البقاء وحذف حرف الجر وإبقاء الجر جائز، وقيل إنه معطوف على رؤوسكم لفظاً ومعنى ثم نسخ ذلك وجوب الغسل وهو حكم باق، وبه قال جماعة أو يحمل مسح الأرجل على بعض الأحوال وهو لبس الخف، ويعزى للشافعي.
قال القرطبي: قد روي عن ابن عباس أنه. قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، قال: وكان عكرمة يمسح رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح، وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح، قال: وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسحتين، قال: وذهب ابن جرير الطبري والحسن البصري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح وجعل القراءتين كالروايتين، وقواه النحاس، وقال داود الظاهري يجب الجمع بينهما.
أقول الحق أن الدليل القرآني قد دل على جواز الغسل والمسح لثبوت قراءة النصب والجر ثبوتاً لا ينكر، وقد تعسف القائلون بالغسل فحملوا الجر على الجوار وأنه ليس للعطف على مدخول الباء في مسح الرأس بل هو معطوف على الوجوه، فلما جاور المجرور إنجر، وتعسف القائلون بالمسح فحملوا قراءة النصب على العطف على محل الجار والمجرور في قوله: (برؤوسكم) كما أن قراءة الجر عطف على لفظ المجرور.(3/363)
وكل ذلك ناشئ عن عدم الإنصاف عند عروض الاختلاف، ولو وجد أحد القائلين بأحد التأويلين اسماً مجروراً في رواية ومنصوباً في أخرى مما يتعلق به الاختلاف ووجد قبله منصوباً لفظاً ومجروراً لما شك أن النصب عطف على المنصوب، والجر عطف على المجرور.
وإذا تقرر لك هذا كان الدليل القرآني قاضياً بمشروعية كل واحد منهما على انفراده لا على مشروعية الجمع بينهما. وإن قال به قائل فهو من الضعف بمكان لأن الجمع بين الأمرين لم يثبت في شيء من الشريعة.
انظر الأعضاء المتقدمة على هذا العضو من أعضاء الوضوء فإن الله سبحانه شرع في الوجه الغسل فقط، وكذلك في اليدين، وشرع في الرأس المسح فقط، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد بين للأمة أن المفروض عليهم هو غسل الرجلين لا مسحهما فتواترت الأحاديث عن الصحابة في حكاية وضوئه - صلى الله عليه وسلم - وكلها مصرحة بالغسل ولم يأت في شيء منها المسح إلا في مسح الخفين.
فإن كانت الآية مجملة في الرجلين باعتبار احتمالها للغسل والمسح فالواجب الغسل بما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - من البيان المستمر جميع عمره.
وإن كان ذلك لا يوجب الإجماع فقد ورد في السنة الأمر بالغسل وروداً ظاهراً وثبت بالأحاديث الصحيحة من فعله - صلى الله عليه وسلم - وقوله غسل الرجلين فقط وثبت عنه أنه قال: " ويل للأعقاب من النار وويل للعراقيب من النار " (1) أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، وأحمد وابن ماجة من حديث عائشة، وابن ماجة أيضاً من حديث جابر، والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث ابن عمر، وأحمد والبخاري ومسلم أيضاً من حديث أبي هريرة.
_________
(1) مسلم 242 والبخاري 132.(3/364)
فأفاد وجوب غسل الرجلين وأنه لا يجزئ مسحهما لأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطا ولا سيما المواضع الخفية كالأعقاب والعراقيب، فلو كان مجزئاً لما قال ويل للأعقاب من النار، ولما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - ذلك.
وقد ثبت عنه أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " (1) أخرجه الطبراني من حديث معاوية بن قرة عن أبيه عن جده، والدارقطني من حديث ابن عمر وأبي هريرة وزيد بن ثابت وابن ماجة من حديث ابن عمرو وأُبَيّ بن كعب، وابن السكن من حديث أنس، وابن أبي حاتم من حديث عائشة، وفي جميع الطرق المذكورة مقال، لكنها يقوي بعضها بعضاً.
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رجلاً توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: ارجع فأحسن وضوءك فخرج وتوضأ ثم صلى (2).
ومن ذلك أيضاً أحاديث الأعرابي الذي أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الوضوء لما رأى عقبه جافاً يلوح، ومنها الأمر بتخليل الأصابع فإنه يستلزم الأمر بالغسل لأن المسح لا تخليل فيه.
وبهذا يتقرر أن الحق ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الغسل وعدم إجزاء المسح، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال اجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غسل القدمين وأما المسح على الخفين فهو ثابت بالأحاديث المتواترة وهو بدل عن الغسل لا عن المسح.
_________
(1) الدارقطني 1/ 80.
(2) مسلم 343.(3/365)
(إلى الكعبين) أي معهما كما بينت السنة، والكلام فيه كالكلام في قوله: (إلى المرافق) وقد قيل في وجه جمع المرافق وتثنية الكعاب أنه لما كان في كل رجل كعبان ولم يكن في كل يد إلا مرفق واحد ثنيت الكعاب تنبيهاً على أن لكل رجل كعبين بخلاف المرافق فإنها جمعت لأنه لما كان في كل يد مرفق واحد لم يتوهم وجود غيره، ذكر معنى هذا ابن عطية.
وقال الكواشي: ثنّى الكعبين، وجمع المرافق لنفي توهم أن كل واحدة من الرجلين كعبين، وإنما في كل واحدة كعب واحد له طرفان من جانبي الرجل، بخلاف المرفق فهي أبعد عن الوهم انتهى.
وفي هذه الآية دليل قاطع على وجوب غسل الكعبين، والمعنى أغسلوا أرجلكم مع الكعبين والكعبان هما العظمان الناتئان في كل رجل عند مفصل الساق والقدم، وإليه ذهب جمهور العلماء من أهل اللغة والفقه، وهذان العظمان من الساق.
وبقي من فرائض الوضوء النية والتسمية ولم يذكرا في هذه الآية بل وردت بهما السنة، وقيل إن في هذه الآية ما يدل على النية لأنه لما قال إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم كان تقدير الكلام فاغسلوا وجوهكم لها، وذلك هو النية المعتبرة، وقد أشرنا إليه فيما تقدم.
والفصل بين الأيدي والأرجل المغسولة بالرأس الممسوح يفيد، وجوب الترتيب في طهارة هذه الأعضاء وعليه الشافعي، ويؤخذ من السنة وجوب النية فيه كغيره من العبادات، وقد ورد في صفة الوضوء وفضله من الأحاديث الصحيحة الكثير الطيب لا نطول بذكرها هنا.
(وإن كنتم جنباً فاطهروا) أي فاغسلوا بالماء، وقد ذهب عمر بن(3/366)
الخطاب وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم ألبتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء استدلالاً بهذه الآية، وذهب الجمهور إلى وجوب التيمم للجنابة مع عدم الماء، وهذه الآية هي للواجد على أن التطهر هو أعم من الحاصل بالماء أو بما هو عوض عنه مع عدمه وهو التراب.
وقد صح عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور للأحاديث الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء. وقد تقدم تفسير الجنب في النساء، والمراد بالجنابة هي الحاصلة بدخول حشفة أو نزول مني، وهذا هو حقيقتها الشرعية، وانظر لِمَ لَمْ يجعلوها شاملة للحيض والنفاس مع أنه أفيد.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء يخلل بها أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاثة غرفات بيديه ثم يفيض على سائر جسده، أخرجه الشيخان (1).
(وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه).
_________
(1) روى مسلم 1/ 209، وأبو داود 1/ 80، والنسائي 1/ 92، والترمذي 1/ 78، وابن ماجه 1/ 159 عن عقب: بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي فروحتها بعشي، فأدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً يحدث الناس، فأدركت من قوله: " ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة " فقلت: ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر، قال: إن قد رأيتك جئت آنفاً، قال: " ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله وروسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء " وزاد الترمذي بعد قوله " ورسوله " " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " وسندها حسن. وروى مالك 1/ 32، ومسلم 1/ 215، والترمذي 1/ 6 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء.(3/367)
قد تقدم تفسير هذا وأحكامه في سورة النساء مستوفى، ومن في قوله منه لابتداء الغاية وقيل للتبعيض، قيل ووجه تكرير هذا هو استيفاء الكلام في أنواع الطهارة، وفيه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب.
(ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) أي ما يريد بأمركم بالطهارة بالماء أو بالتراب التضييق عليكم في الدين ومنه قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) والجعل هنا بمعنى الإيجاد والخلق، ومن مزيدة فيه أو بمعنى التصيير.
ثم قال: (ولكن يريد ليطهركم) من الذنوب والخطايا لأن الوضوء تكفير لها وقيل من الحدث الأصغر والأكبر (وليتم نعمته عليكم) أي بالترخيص لكم والتيمم عند عدم الماء أو بما شرعه لكم من الشرائع التي عرضكم بها للثواب وما تحتاجون إليه من أمر دينكم، قال سعيد بن جبير: تمام النعمة دخول الجنة، لم يتم نعمته على عبد لم يدخل الجنة (لعلكم تشكرون) نعمته عليكم فتستحقون بالشكر ثواب الشاكرين.
وقد اشتملت هذه الآية على سبعة أمور كلها مثنى، طهارتان أصل وبدل والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وإن آلتيهما مائع جامد، وموجبهما حدث أصغر أو أكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليها تطهير الذنوب وإتمام النعمة قاله البيضاوي وذكره أبو السعود.
قال الخفاجي: الأصل الماء والبدل التراب والمستوعب الغسل وغيره الوضوء والمحدود بقوله: (إلى المرافق وإلى الكعبين) وغيره ما سواه وهذا ظاهر.(3/368)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)(3/369)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
(واذكروا نعمة الله عليكم) يعني ما أنعم به عليكم من النعم كلها وقيل هي الإسلام (وميثاقه الذي واثقكم به) الميثاق العهد قيل المراد به هنا ما أخذه على بني آدم كما قال: (وإذا أخذ ربك من بني آدم) الآية قال مجاهد وغيره ونحن وإن لم نذكره فقد أخبرنا الله به، وقيل هو خطاب لليهود والعهد ما أخذه عليهم في التوراة.
وذهب جمهور المفسرين من السلف فمن بعدهم إلى أنه العهد الذي أخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقب: عليهم وهو السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأضافه تعالى إلى نفسه لأنه عن أمره وإذنه كمال قال: إنما يبايعون الله.
(إذ قلتم) للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين بايعتموه (سمعنا وأطعنا) أي وقت قولكم هذا القول (واتقوا الله) فيما أخذه عليكم من الميثاق فلا تنقضوه (إن الله عليم بذات الصدور) وهي ما تخفيه الصدور لكونها مختصة بها لا يعلمها أحد ولهذا أطلق عليها ذات التي بمعنى الصاحب، وإذا كان سبحانه عالماً بها فكيف بما كان ظاهراً جلياً.(3/369)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين) قد تقدم تفسيرها في النساء وصيغة المبالغة في قوامين تفيد أنهم مأمورون بأن يقوموا بها أتم قيام (لله) أي(3/369)
لأجله تعظيماً لأمره وطمعاً في ثوابه (شهداء بالقسط) أي العدل.
(ولا يجرمّنكم شنآن قوم) أي لا يحملنكم بغض قوم أو يكسبنكم وهما متقاربان، وقيل الخطاب مختص بقريش لأنها نزلت فيهم وعليها يجري القاضي كالكشاف وغيرهما على أن الخطاب عام وهو الحق لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال عبد الله بن كثير نزلت في يهود خيبر ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستعينهم في دية فهمّوا أن يقتلوه فذلك قوله: (ولا يجرمنكم شنآن قوم) الآية (1).
(على أن لا تعدلوا) أي على ترك العدل فيهم لعداوتهم وكتم الشهادة، وقد تقدم الكلام على ذلك مستوفى (اعدلوا) أمر بالعدل في كل أحد القريب والبعيد والصديق والعدو، وتصريح بوجوبه بعدما علم من النهي عن تركه التزاماً (هو) أي العدل المدلول عليه بقوله اعدلوا (أقرب للتقوى) التي أمرتم بها غير مرة أي أقرب لأن تتقوا الله أو لأن تتقوا النار (واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).
_________
(1) أخرجه ابن جرير 10/ 96 عن عبد الله بن كثير.(3/370)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)(3/371)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
(وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي وفوا بالعهود، والعموم أولى (لهم مغفرة وأجر عظيم) هذه الجملة في محل النصب على أنها المفعول الثاني لقوله: (وعد) على معنى وعدهم أن لهم مغفرة أو وعدهم مغفرة، فوقعت الجملة موقع المفرد فأغنت عنه، وذكر الجمل والزمخشري في الآية احتمالات أخر لا نطوّل بذكرها، وإذا وعدهم أنجز لهم الوعد فإنه تعالى لا يخلف والميعاد الأجر العظيم هو الجنة.(3/371)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
(والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) أي ملابسوها، والجملة مستأنفة أتى بها اسمية دالة على الثبوت والاستقرار، ولم يؤت بها في سياق الوعيد كما أتى بالجملة قبلها في سياق الوعد حسماً لرجائهم، وهذه الآية نص قاطع في أن الخلود في النار ليس إلا للكفار، لأن المصاحبة تقتضي الملازمة.(3/371)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم) يعني بالقتل والبطش بكم، يقال بسط إليه يده إذا بطش به، وبسط إليه لسانه إذا شتمه، وذكر الهم للإيذان بوقوعها عند مزيد الحاجة إليها.
(فكفّ أيديهم عنكم) أي صرفهم عنكم وحال بينكم وبين ما أرادوه(3/371)
بكم، أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل منزلاً فتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها فعلق النبي - صلى الله عليه وسلم - سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه وسلة ثم أقبل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله، قال الأعرابي مرتين أو ثلاثاً: من يمنعك مني، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الله، فشام الأعرابي السيف فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه، قال معمر: وكان قتادة يذكر نحوه ويذكر أن قوماً من العرب أرادوا أن يفتكوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسلوا هذا الإعرابي (1).
وأخرج الحاكم وصححه عنه بنحوه، وذكر أن اسم الرجل غورث بن الحرث، وأنه لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " الله " سقط السيف من يده فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال من يمنعك مني، قال: كن خير آخذ، قال: فشهد أن لا إله إلا الله.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أن بني النضير همّوا أن يطرحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه، فجاء جبريل فأخبره بما هموا فقام ومن معه فنزلت إذ همّ قوم، وقصة الأعرابي وهو غورث ثابتة في الصحيح.
(واتقوا الله) فيما أمركم به ونهاكم عنه (وعلى الله) لا على غيره (فليتوكل المؤمنون) فإنه هو الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها.
_________
(1) رواه أبو نعيم في " دلائل النبوة ": 152 عن طريق ابن إسحاق قال: حدثني عمرو بن عبيد عن جابر أن رجلاً ... وقد سقط من إسناده الحسن، فقد رواه ابن هشام في " السيرة " 2/ 205 عن ابن إسحاق وحدثني عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر بن عبد الله، ورواه عبد الرزاق في " تفسيره " ص: 6 من طريق معمر عن الزهري ذكره عن أبي سلمة عن جابر. وقصة هذا الأعرابي -هو غورث بن الحارث- ثابتة في " الصحيحين " بدون ذكر السبب، البخاري 7/ 330، ومسلم 1/ 576.(3/372)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
(ولقد أخذ الله ميثاق بني اسرائيل) كلام مستأنف يتضمن ذكر بعض ما صدر من بني إسرائيل من الخيانة، وقد تقدم بيان الميثاق الذي أخذه الله عليهم وأن الميثاق هو العهد باليمين، وإسناد الأخذ إلى الله من حيث أنه أمر به موسى، وإلا فالآخذ هو موسى بأمر الله له بذلك.
(وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً) اختلف المفسرون في كيفية بعث هؤلاء النقباء بعد الإجماع منهم على أن النقيب كبير القوم القائم بأمورهم الذي ينقّب عنها وعن مصالحهم فيها، والنقاب الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة، ويقال نقيب القوم لشاهدهم وضمينهم، والنقيب الطريق في الجبل، هذا أصله وسمي به نقيب القوم لأنه طريق إلى معرفة أمورهم والنقيب أعلى مكاناً من العريف، وقيل مشتق من التنقيب وهو التفتيش، ومنه (فنقّبوا في البلاد).
فقيل المراد ببعث هؤلاء النقباء أنهم بعثوا على الإطلاع على الجبارين والنظر في قوتهم ومنعتهم، فساروا ليختبروا حال من بها ويخبروا بذلك، فاطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بها فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني اسرائيل وأن يعلموا به موسى عليه السلام، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فأخبروا قراباتهم ففشا الخبر حتى بطل أمر الغزو، وقالوا: اذهب أنت وربك فقاتلا.(3/373)
وقيل إن هؤلاء النقباء كفل كل واحد منهم على سبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله، وهذا معنى بعثهم.
وقيل لما توجه النقباء لتجسس أحوال الجبارين لقيهم عوج بن عنق وكان كذا وكذا، وهذه القصة ذكرها كثير من المفسرين، والمحققون من أهل الحديث على أنها لا أصل لها ولا عوج ولا عنق، وقال ابن عباس: النقيب الضمين، وقال قتادة: هو الشهيد على قومه، وقيل هو الأمين الكفيل، وقيل هو الباحث عن القوم وعن أحوالهم والمعاني متقاربة.
(وقال الله إني معكم) أي قال ذلك لبني إسرائيل وقيل للنقباء وهو الأولى والمعنى إني معكم بالنصر والعون (لئن) اللام هي الموطئة للقسم أي والله لئن (أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي) تأخير الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع كونهما من الفروع المترتّبة عليه لما أنهم كانوا معترفين بوجوبهما مع ارتكابهم تكذيب بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام.
(وعزّرتموهم) التعزير التعظيم والتوقير، ويطلق التعزير على الضرب دون الحد والرد، يقال عزرت فلاناً إذا أدبته ورددته عن القبيح، والمعنى عظمتموهم على الأول، أو: رددتم عنهم أعداءهم ومنعتموهم على الثاني، وقال ابن عباس: أي أعنتموهم، وقال مجاهد: نصرتموهم.
(وأقرضتم الله قرضاً حسناً) أي أنفقتم في وجوه الخير، والحسن قيل هو ما طابت به النفس، وقيل ما ابتغي به وجه الله، وقيل الحلال وقيل المراد بالزكاة الواجبة، وبالقرض الصدقة المندوبة وخصّها بالذكر تنبيهاً على شرفها (لأكفرنّ عنكم سيآتكم) إشارة إلى إزالة العذاب (ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار) إشارة إلى إيصال الثواب (فمن كفر بعد ذلك) الميثاق (منكم) أو بعد الشرط المذكور (فقد ضلّ سواء السبيل) فقد أخطأ وسط الطريق المستقيم.(3/374)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
(فبما نقضهم ميثاقهم) الباء للسببية وما زائدة أي بسبب نقضهم، قال ابن عباس: هو ميثاق أخذه الله على أهل التوبة فنقضوه (لعنّاهم) أي طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا أو مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية، وحقيقة اللعن في اللغة الطرد والإبعاد فاستعماله بالمعنيين الآخرين كما فعل البيضاوي وأبو السعود مجاز باستعماله في لازم معناه وهو الحقارة بما ذكر، لكنه لا قرينة في الكلام عليه.
(وجعلنا قلوبهم قاسية) أي صلبة لا تعي خيراً ولا تعقله وغليظة يابسة لا تلين ولا رحمة فيها لأن القسوة خلاف الرقة، وقيل: المعنى أن قلوبهم ليست خالصة الإيمان بل مشوبة بالكفر والنفاق.
(يحرّفون الكلم) الذي في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وغيره (عن مواضعه) جملة مستأنفة لبيان حالهم أو حالية أي يبدلونه بغيره أو يتأولونه على غير تأويله، وقيل يزيلونه ويميلونه، قال ابن عباس: يعني حدود الله.
قال عبد الرحمن بن خلدون في كتاب العبر: وأما ما يقال من أن علماءهم بدلوا مواضع من التوراة بحسب أغراضهم في ديانتهم، فقد قال ابن عباس على ما نقل عنه البخاري في صحيحه أن ذلك بعيد، وقال: معاذ الله أن تعمد أمة من الأمم إلى كتابها المنزّل على نبيها فتبدله، أو ما في معناه.
قال: وإنما بدلوه وحرفوه بالتأويل، ويشهد لذلك قوله تعالى (وعندهم(3/375)
التوراة فيها حكم الله) ولو بدلوا من التوراة ألفاظها لم يكن عندهم التوراة التي فيها حكم الله، وما وقع في القرآن من نسبة التحريف والتبديل فيها إليهم فإنما المعنى به التأويل، اللهم إلا أن يطرقها التبديل في الكلمات على طريق الغفلة وعدم الضبط، وتحريف من لا يحسن الكتابة بنسخها فذلك يمكن في العادة لا سيما وملكهم قد ذهب، وجماعتهم انتشرت في الآفاق، واستوى الضابط منهم وغير الضابط، والعالم والجاهل، ولم يكن وازع يحفظ لهم ذلك لذهاب القدرة بذهاب الملك فتطرق من أجل ذلك إلى صحف التوراة في الغالب تبديل وتحريف غير متعمد من علمائهم وأحبارهم، ويمكن مع ذلك الوقوف على الصحيح منها إذا تحرى القاصد لذلك بالبحث عنه انتهى.
والحاصل أنهم يقولون إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه وإن خالفكم فاحذروه.
(ونسوا حظاً مما ذكروا به) أي الكتاب وما أمروا به من الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبيان نعته وصفته.
(ولا تزال تطلع على خائنة منهم) الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والخائنة الخيانة، وقيل التقدير فرقة خائنة، وقد يقع للمبالغة نحو علامة ونسابة إذا أردت المبالغة في وصفه بالخيانة، وقيل خائنة معصية، قاله ابن عباس، قال مجاهد: هم يهود مثل الذي هموا به من النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم دخل عليهم حائطهم، وقال قتادة: خائنة كذب وفجور.
(إلا قليلاً منهم) يعني أنهم لم يخونوا ولم ينقضوا العهد وهم عبد الله بن سلام وأصحابه ولم يؤمر يومئذ بقتالهم، فأمره الله أن يعفو عنهم ويصفح فقال: (فاعف عنهم واصفح) ثم نسخ ذلك في براءة فقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) الآية، وقيل هو خاص بالعاهدين وأنها غير منسوخة (إن الله يحب المحسنين) أي إذا عفوت عنهم فإنك تحسن وهو يحب أهل الإحسان.(3/376)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
(ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم) أي في التوحيد والإيمان والإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما جاء به، قال الكوفيون: الضمير في ميثاقهم راجع إلى بنى اسرائيل أي أخذنا من النصارى مثل ميثاق المذكورين قبلهم من بني إسرائيل، وقال: (من الذين قالوا إنا نصارى) ولم يقل من النصارى للإيذان بأنهم كاذبون في دعوى النصرانية وأنهم أنصار الله، ولأنهم الذين ابتدعوا هذا الاسم وسمّوا به أنفسهم لا أن الله سماهم به.
(فنسوا) من الميثاق المأخوذ عليهم (حظّاً) أي نصيباً وافراً عقب أخذه عليهم (مما ذكّروا به) من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم (فأغرينا) أي ألصقنا ذلك بهم، مأخوذ من الغري وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه، يقال غرى بالشيء يغري غرياً وغراء أي أولع به حتى كأنه صار ملتصقاً به ومثل الإغراء التحريش، وأغريت الكلب أي أولعته بالصيد.
والمراد بقوله: (بينهم) اليهود والنصارى لتقدم ذكرهم جميعاً، وقيل بين النصارى خاصة لأنهم أقرب مذكور، وذلك لأنهم افترقوا إلى اليعقوبية والنسطورية والملكانية، وكقول بعضهم بعضاً، وتظاهروا بالعداوة في ذات بينهم، قال النخعي: أغرى بعضهم بعض الخصومات والجدال في الدين.
قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معنى أغرينا بينهم (العداوة والبغضاء): أن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم، فكل فرقة مأمورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها (إلى يوم القيامة) بالأهواء المختلفة (وسوف ينبّئهم الله بما كانوا يصنعون) أي سيلقون جزاء نقض الميثاق. وفيه تهديد لهم ووعيد.(3/377)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا) الألف واللام في الكتاب للجنس، والخطاب لليهود والنصارى (يبيّن لكم كثيراً مما كنتم تخفون) كآية الرجم (1) وقصة أصحاب السبت الممسوخين قردة (من الكتاب) أي التوراة والإنجيل.
(ويعفو عن كثير) مما تخفونه فيترك بيانه لعدم اشتماله على ما يجب بيانه عليه من الأحكام الشرعية، فإن ما لم يكن كذلك لا فائدة تتعلق ببيانه إلا مجرد اقتضاء حكم، وقيل المعنى يعفو عن كثير فيتجاوزه ولا يخبركم به، وقيل يعفو عن كثير منكم فلا يؤاخذكم بما يصدر منكم، قال قتادة يعفو عن كثير من الذنوب.
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) جملة مستأنفة مشتملة على بيان أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد تضمنت بعثته فوائد غير ما تقدم من مجرد البيان، قال الزجاج النور محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل الإسلام، والكتاب المبين القرآن فإنه المبين.
_________
(1) ابن جرير 10/ 141 والحاكم في المستدرك 4/ 359 وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(3/378)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
والضمير في(3/379)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
(يهدى به الله) راجع إلى الكتاب أو إليه وإلى النور لكونهما كالشيء الواحد (من اتبع رضوانه) أي ما رضيه وهو دين الإسلام (سبل السلام) طرق السلامة من العذاب الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة، وقيل المراد بالسلام الإسلام، وعن السدي قال سبيل السلام هي سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه وبعث به رسله وهو الإسلام.
(ويخرجهم من الظلمات) أي الكفر (إلى النور) أي إلى الإسلام (ويهديهم إلى صراط مستقيم) أي إلى طريق يتوصلون بها إلى الحق لا عوج فيها ولا مخافة، وهذه الهداية غير الهداية إلى سبل السلام وإنما عطفت عليها تنزيلاً للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي.(3/379)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
(لقد كفر الذين قالوا إن الله) ضمير الفصل يفيد الحصر (المسيح ابن مريم) قيل وقد قال بذلك بعض طوائف النصارى، وقال ابن عباس: هؤلاء نصارى نجران وهو مذهب اليعقوبية والملكانية من النصارى، وقيل لم يقل به أحد منهم ولكن استلزم قولهم إن الله هو المسيح لا غيره وقد تقدم في آخر سورة النساء ما يكفي ويغني عن التكرار.(3/379)
(قل فمن يملك من الله شيئاً) الاستفهام للتوبيخ والتقريع، والملك الضبط والحفظ والقدرة من قولهم ملكت على فلان أمره أي قدرت عليه أي فمن يقدر أن يمنع.
(إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه) وإذا لم يقدر أحد أن يمنع من ذلك فلا إله إلا الله ولا ربّ غيره ولا معبود بحق سواه، ولو كان المسيح إلهاً كما يزعم النصارى لكان له من الأمر شيء ولقدر أن يدفع عن نفسه أقل حال، ولم يقدر على أن يدفع عن أمه الموت عند نزوله بها.
وتخصيصها بالذكر مع دخولها في عموم (ومن في الأرض جميعاً) لكون الدفع منه عنها أولى وأحق من غيرها فهو إذا لم يقدر على الدفع عنها أعجز عن أن يدفع عن غيرها، وذكر من في الأرض للدلالة على شمول قدرته وأنه إذا أراد شيئاً كان لا معارض له في أمره، ولا مشارك له في قضائه.
(ولله ملك السموات والأرض وما بينهما) أي ما بين النوعين من المخلوقات فإنها ملكه وأهلها عبيده، وعيسى وأمه من جملة عبيده.
(يخلق ما يشاء) جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنه سبحانه خالق الخلق بحسب مشيئته من غير اعتراض عليه فيما خلق، لأنه خلق آدم من غير أب وأم وخلق عيسى من أم بلا أب: وخلق سائر الخلق من أب وأم (والله على كل شيء قدير) لا يستصعب عليه شيء.(3/380)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
(وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه) أثبتت اليهود لأنفسها ما أثبتته لعزير حيث قالوا عزير ابن الله، وأثبتت النصارى لأنفسها ما أثبتته للمسيح حيث قالوا المسيح ابن الله، وقيل هو على حذف مضاف أي نحن أتباع أبناء الله، وقيل أبناء أنبياء الله، ونظيره (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) قاله الكرخي.
وهكذا أثبتوا لأنفسهم أنهم أحباء الله بمجرد الدعاوى الباطلة والأماني العاطلة، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم فقال: (قل فلم يعذبكم بذنوبكم) أي إن كنتم كما تزعمون فما باله يعذبكم بما تقترفونه من الذنوب بالقتل والمسخ، وبالنار في يوم القيامة كما تعترفون بذلك بقولكم: (لن تمسّنا النار إلا أياماً معدودة) فإن الابن من جنس أبيه لا يصدر عنه ما يستحيل على الأب، وأنتم تذنبون والحبيب لا يعذب حبيبه وأنتم تعذبون، فهذا يدل على أنكم كاذبون في هذه الدعوى، وهذا البرهان هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف.
وأخرج أحمد في مسنده عن أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من أصحابه وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني، فسعت فأخذته فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا، والله لا يلقي حبيبه في النار، وإسناده في المسند هكذا: حدثنا ابن(3/381)
عدي عن حميد عن أنس فذكره (1).
ومعنى الآية يشير إلى معنى هذا الحديث، ولهذا قال بعض مشايخ الصوفية لبعض الفقهاء أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه، فلم يرد عليه فتلا الصوفي هذه الآية.
وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا والله لا يعذب الله حبيبه ولكن الله قد يبتليه في الدنيا.
(بل أنتم بشر ممن خلق) عطف على مقدر يدل عليه الكلام أي فلستم حينئذ كذلك بل أنتم بشر من جنس من خلقه الله تعالى يحاسبهم على الخير والشر، ويجازي كل عامل بعمله.
(يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) قال السدي: أي يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذبه لا اعتراض عليه لأنه القادر الفعال بالإختيار.
(ولله ملك السموات والأرض وما بينهما) من الموجودات لا شريك له في ذلك فيعارضه، وفيه دليل على أنه تعالى لا ولد له، لأن من يملك السموات والأرض يستحيل أن يكون له شبيه من خلقه أو شريك في ملكه (وإليه المصير) أي تصيرون إليه وحده: عند انتقالكم من دار الدنيا إلى دار الآخرة.
_________
(1) روى ابن ماجة نظيره في الزهد/35. ورد ورواه الإمام أحمد بن حنبل في المسند 3/ 104.(3/382)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبينّ لكم على فترة من الرسل) المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، والرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمبيَّن هو ما شرعه الله لعباده، وحذف للعلم به لأن بعثة الرسل إنما هي بذلك، والفترة أصلها السكون، يقال فتر الشيء سكن، وقيل هي الانقطاع قاله أبو عليّ الفارسي وغيره، ومنه فتر الماء إذا انقطع عما كان عليه من البرد إلى السخونة، وفتر الرجل عن عمله إذا انقطع عما كان عليه من الجد فيه، وامرأة فاترة الطرف أي منقطعة عن حدة النظر، والمعنى أنه انقطع الرسل قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - مدة من الزمان (1).
واختلف في قدر مدة تلك الفترة، قال سلمان: فترة ما بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ستمائة سنة، أخرجه البخاري، قال قتادة: كانت الفترة بين عيسى ومحمد ستمائة سنة وما شاء الله من ذلك، وعنه قال: خمسمائة سنة وستون سنة، وعن الكلبي خمسمائة سنة وأربعون سنة، وقال ابن جريج كانت خمسمائة سنة، وقال الضحاك: وكانت أربعمائة سنة ونصفا وثلاثين سنة.
وعن ابن عباس قال: كان بين موسى وعيسى ألف سنة وتسعمائة سنة،
_________
(1) أن معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقب: بن وهب، قالوا: يا معشر اليهود اتقوا الله، والله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه بصفته. فقال وهب بن يهوذا، ورافع: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله بعد موسى من كتاب، ولا أرسل رسولاً بشيراً ولا نذيراً [بعده]، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
في " الطبري "، و " السيرة "، و " الدر المنثور ": " يهودا " بالدال.
ابن هشام 1/ 5563 وابن جرير 10/ 155 وفي سنده محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت وهو مجهول وزاد السيوطي نسبته في " الدر " 2/ 229 لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في " الدلائل ".(3/383)
ولم تكن بينهما فترة فإنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء كما قال تعالى: (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعزّزنا بثالث) والذي عزز به شمعون وكان من الحواريين وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة وأربعة وثلاثين سنة، وقد قيل غير ما ذكرناه.
قال الرازي: والفائدة في بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - عند فترة الرسل هي أن التحريف والتغيير قد كان تطرق إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول أزمانها، وسبب ذلك اختلاط الحق بالباطل والكذب بالصدق، فصار ذلك عذراً ظاهراً في إعراض الخلق عن العبادات لأن لهم أن يقولوا يا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادتك ولكننا ما عرفنا كيف نعبدك فبعث الله في هذا الوقت محمداً - صلى الله عليه وسلم - لإزالة هذا العذر، فذلك: قوله تعالى:
(أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حين فترة أي كراهة أن تقولوا هذا القول معتذرين عن تفريطكم، ومن زائدة للمبالغة في نفي المجيء، والفاء في قوله: (فقد جاءكم) هي الفصيحة (بشير ونذير) وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - لإزالة هذا العذر (والله على كل شيء قدير) ومن جملة مقدوراته إرسال رسوله على فترة من الرسل.(3/384)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
(وإذ قال موسى لقومه) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما فعلت بنو إسرائيل بعد أخذ الميثاق، وإذ نصب على أنه مفعول لفعل مقدر خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - بطريق تلوين الخطاب، وصرفه عن أهل الكتاب ليعدد عليهم ما صدر عن بعضهم من الجنايات، أي واذكر لهم وقت قول موسى لقومه ناصحاً لهم ومستميلاً لهم بإضافتهم إليه.
(يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم) وقرأ ابن كثير يا قوم بضم الميم، وكذا قرأ فيما أشبهه، تقديره يا أيها القوم اذكروا نعمة الله عليكم وقت هذا الجعل، وإيقاع الذكر على الوقت مع كون المقصود ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة لأن الأمر بذكر الوقت أمر بذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني، ولأن الوقت مشتمل على ما وقع فيه تفصيلاً فإذا استحضر كان ما وقع فيه حاضراً بتفاصيله كأنه مشاهد عياناً.
(إذ جعل فيكم أنبياء) أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم في وقت جعله أو اذكروا نعمته كائنة عليكم في وقت جعله فيما بينكم من أقربائكم أنبياء ذوي عدد كثير، وأولي شأن خطير، حيث لم يبعث من أمة من الأمم ما بعث من بني إسرائيل من الأنبياء.
(وجعلكم ملوكاً) أي فيكم ومنكم، وإنما حذف الظرف لظهور أن معنى الكلام على تقديره، وممكن أن يقال: إن منصب النبوة لما كان لعظم قدره وجلالة رتبته بحيث لا ينسب إلى غيره من هُولَهُ قال فيه: (إذ جعل فيكم أنبياء) ولما كان منصب الملك مما يجوز نسبته إلى غير من قام به كما يقول قرابة(3/385)
الملك نحن الملوك قال فيه: (وجعلكم ملوكاً) وقيل المراد بالملك أنهم ملكوا أمرهم بعد أن كانوا مملوكين لفرعون، فهم جميعا ملوك بهذا المعنى.
وقيل معناه أنه جعلهم ذوي منازل لا يدخل عليهم غيرهم إلا بإذن وقيل غير ذلك، قال قتادة: ملكهم الخدم، وكانوا أول من ملك الخدم، ولم يكن لمن قبلهم خدم، وقال ابن عباس: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمى ملكاً، وعنه قال: الزوجة والخادم والبيت، وعنه قال: المرأة والخادم (1).
وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية ومن كان مسكنه واسعاً وفيه ماء جار فهو ملك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً، وأخرج ابن جرير والزبير بن بكار عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كان بيت له وخادم فهو ملك (2).
وأخرج أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم في الآية قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم زوجة ومسكن وخادم، وعن ابن عمرو بن العاص أنه سأله رجل: ألسنا من فقراء الهاجرين؟ قال: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال:
_________
(1) ابن كثير 2/ 36.
(2) روى مسلم في " صحيحه " 18/ 110 بشرح النووي، وابن جرير 10/ 161 عن أبي عبد الرحمن الحُبُليِّ قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل، فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين، فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي اليها؟ فقال: نعم. قال ألك مسكن تسكنه؟ قال: فأنت من الأغنياء. قال: فإن لي خادماً، قال: فأنت من الملوك.(3/386)
إن لي خادماً قال فأنت من الملوك، وقال مجاهد جعل لهم أزواجاً وخدماً وبيوتاً (1).
وقد ثبت في الحديث الصحيح " من أصبح منكم معافى في جسده آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " (2) والظاهر أن المراد بالآية الملك الحقيقي، ولو كان بمعنى آخر لما كان للامتنان به كثير معنى.
فإن قلت: قد جعل غيرهم ملوكاً كما جعلهم، قلت قد كثر الملوك فيهم كما كثر الأنبياء، فهذا وجه الامتنان.
(وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين) أي من المن والسلوى والحجر والغمام وكثرة الأنبياء وكثرة الملوك وفلق البحر وإهلاك عدوكم وغير ذلك، والمراد عالمي زمانهم أو الأمم الخالية إلى زمانهم.
وقيل: إن الخطاب ههنا لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو عدول عن الظاهر لغير موجب والصواب ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أنه من كلام موسى لقومه، وخاطبهم بهذا الخطاب توطئة وتمهيداً لما بعده من أمره لهم بدخول الأرض المقدسة.
_________
(1) ابن كثير 2/ 36.
(2) صحيح الجامع 5918.(3/387)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)(3/388)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
(يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة) أي المطهرة وقيل المباركة، قال الكلبي: صعد إبراهيم جبل لبنان فقيل له انظر فما أدرك بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك.
وقد اختلف في تعيينها فقال قتادة؛ هي الشام كلها، وقال مجاهد: الطور وما حوله، وقال معاذ بن جبل: هي ما بين العريش إلى الفرات، وقال السدي وابن عباس وغيرهما: هي أريحاء، وقال الزجاج: دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وقول قتادة: يجمع هذه الأقوال المذكورة بعده.
(التي كتب الله) أي قسمها وقدرها (لكم) في سابق علمه وجعلها مسكناً لكم، وقال السدي: التي أمركم الله بها، وقال قتادة: أمر القوم بها كما أمروا بالصلاة والزكاة والحج والعمرة، وقال الكرخي: أمركم بدخولها أو كتب في اللوح المحفوظ أنها لكم إن آمنتم وأطعتم، فلا ينافيه قوله: (فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة) لأن الوعد مشروط بقيد الطاعة، فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط.
(ولا ترتدّوا على أدباركم) أي لا ترجعوا عن أمري وتتركوا طاعتي وما أوجبته عليكم من قتال الجبارين جبناً وفشلاً (فتنقلبوا) بسبب ذلك (خاسرين) لخيري الدنيا والآخرة.(3/388)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
(قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين) قال الزجاج: الجبار من الآدميين العاتي وهو الذي يجبر الناس على ما يريد، وأصله على هذا من الإجبار وهو(3/388)
الإكراه فإنه يجبر غيره على ما يريده، يقال أجبره إذا أكرهه، وقيل هو مأخوذ من جبر العظم، فأصل الجبار على هذا المصلح لأمر نفسه ثم استعمل في كل من جر إلى نفسه نفعاً بحق أو باطل، وقيل إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه.
قال الفراء: لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين جبار من أجبر، ودرّاك من أدرك، والمراد هنا أنهم قوم عظام طوال متعاظمون قيل هم قوم من بقية قوم عاد، وقيل هم من ولد عيص بن اسحق، وقيل هم من الروم، ويقال إن منهم عوج بن عنق المشهور بالطول المفرط، وعنق بنت آدم، قيل كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع.
قال ابن كثير: وهذا شيء يستحي من ذكره، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً ثم لم يزل الخلق ينقص (1).
ثم ذكروا أن هذا الرجل كان كافراً، وأنه كان ولد زنية وأنه امتنع من ركوب السفينة وأن الطوفان لم يصل إلى ركبتيه، وهذا كذب وافتراء فإن الله ذكر أن نوحاً دعا أهل الأرض من الكافرين فقال (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) وقال تعالى (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين) وقال تعالى (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
وإذا كان ابن نوح الكافر غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر ولد زنية، هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع، ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق نظر والله أعلم اهـ كلامه.
قلت: لم يأت في أمر هذا الرجل ما يقتضى تطويل الكلام في شأنه وما هذه بأول كذبة اشتهرت في الناس، ولسنا بملزومين بدفع الأكاذيب التي
_________
(1) ابن كثير 2/ 38.(3/389)
وضعها القُصاص ونفقت (1) عند من لا يميز بين الصحيح والسقيم، فكم في بطون دفاتر التفاسير من أكاذيب وبلايا وأقاصيص كلها حديث خرافة، وما أحق من لا تمييز عنده لفن الرواية ولا معرفة أن يدع التعرض لتفسير كتاب الله ويضع هذه الحماقات والأضحوكات في المواضع المناسبة لها من كتب القصاص، وهي في الخازن أيضاً عفا الله عنا وعنه.
(وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها) من غير صنع من قبلنا فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها (فإن يخرجوا منها) بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها (فإنا داخلون) حينئذ، هذا تصريح بما هو مفهوم من الجملة التي قبل هذه الجملة لبيان أن امتناعهم من الدخول ليس إلا لهذا السبب.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين فسار بمن معه حتى نزل قريباً من المدينة وهي أريحاء فبعث إليهم اثني عشر عيناً (2) من كل سبط منهم عين ليأتوه بخبر القوم فدخلوا المدينة فرأوا أمراً عظيماً من هيئتهم وجسمهم وعظمهم، فدخلوا حائطاً لبعضهم فجاء صاحب الحائط ليجني الثمار من حائطه فجعل يجني الثمار فنظر إلى آثارهم فتتبعهم، فكلما أصاب واحداً منهم أخذه فجعله في كمّه مع الفاكهة حتى التقط الاثني عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال الملك قد رأيتم شأننا وأمرنا اذهبوا فأخبروا صاحبكم، قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوه من أمرهم، فقال اكتموا عنا فجعل الرجل يخبر أباه وصديقه ويقول اكتم عني، فأشيع ذلك في عسكرهم ولم يكتم منهم إلا رجلان يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وهما اللذان أنزل الله فيهما (قال رجلان من الذين يخافون)، وقد روى نحو هذا مما يتضمن المبالغة في وصف هؤلاء وعظم أجسامهم ولا فائدة في بسط ذلك فغالبه من أكاذيب القصاص كما قدمنا.
_________
(1) راجت.
(2) العين في الجيش وهو بمثابة رجل مخابرات.(3/390)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
(قال رجلان) هما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا أو ابن فانيا وكان من الاثني عشر نقيباً كما مر بيان ذلك (من الذين يخافون) من الله عز وجل ويراقبونه، وقيل من الجبارين أي هذان الرجلان من جملة القوم الذين يخافون من الجبارين، وقيل من الذين يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم، وقيل إن الواو في يخافون لبني إسرائيل أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل وقرئ يخافون بضم الياء أي يخافهم غيرهم.
(أنعم الله عليهما) صفة ثانية لرجلان أي أنعم عليهما بالإيمان واليقين بحصول ما وعدوا به من النصر والظفر، وقيل أنعم عليهما بالعصمة فكتما ما اطلعا عليه من حالهم إلا عن موسى بخلاف بقية النقباء فأفشوه فجبنوا، وقيل إنها جملة معترضة وهو أيضاً ظاهر، وقيل حال من الضمير في يخافون أو من رجلان.
(ادخلوا عليهم الباب) أي باب بلد الجبارين وامنعوهم من الخروج إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالاً بخلاف ما إذا دخلتم عليهم القرية بغتة فإنهم لا يقدرون فيها على الكر والفر (فإذا ادخلتموه فإنكم غالبون) قالا: هذه المقالة لبني إسرائيل، والظاهر أنهما قد علما بذلك من خبر موسى أو قالاه ثقة بوعد الله أو كانا قد عرفا أن الجبارين قد ملئت قلوبهم خوفاً ورعباً.
(وعلى الله فتوكلوا) أي ثقوا بالله بعد ترتيب الأسباب، ولا تعتمدوا عليها فإنها غير مؤثرة والله معكم وناصركم (إن كنتم مؤمنين) إذ الإيمان به يقتضي التوكل عليه وهو قطع العلائق، وترك التملق للخلائق.(3/391)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
فلما قالا ذلك أراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوا أمرهما، و(3/392)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
(قالوا) ما أخبر الله عنهم (يا موسى إنا لن ندخلها) وكان هذا القول منهم فشلاً وجبناً أو عناداً وجراءة على الله ورسوله (أبداً) يعني مدة حياتنا تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول (ما داموا فيها) بيان للأبد أي مقيمين فيها.
(فاذهب أنت وربك فقاتلا) قالوا: هذا جهلاً بالله عز وجل وبصفاته وكفراً بما يجب له أو استهانة بالله ورسوله، وقيل أرادوا بالذهاب الإرادة والقصد، وقيل أرادوا بالرب هرون وكان أكبر من موسى وكان موسى يطيعه، والأول أولى (إنا ههنا قاعدون) أي لا نبرح ههنا لا نتقدم معك ولا نتأخر عن هذا الموضع، وقيل أرادوا بذلك عدم التقدم لا عدم التأخر.(3/392)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
(قال) موسى (رب إني لا أملك إلا نفسي) يحتمل أن يعطف (وأخي) على نفسي وأن يعطف على الضمير في (إني) أي إني لا أملك إلا نفسي، وإن أخي لا يملك إلا نفسه، وفيه ستة أوجه ذكرها السمين، قال: هذا تحسراً وتحزناً واستجلاباً للنصر من الله عز وجل، وإنما قال (وأخي) وإن كان معه في طاعته يوشع بن نون وكالب بن يوفنا لاختصاص هارون به ولمزيد الاعتناء بأخيه أو المعنى وأخي في الدين والأول أولى.
(فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) أي افصل بيننا يعني نفسه وأخاه وبينهم، وميزنا عن جملتهم ولا تلحقنا بهم في العقوبة، وقيل المعنى فاقض بيننا وبينهم، وقيل إنما أراد في الآخرة.(3/392)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
(قال فإنها) أي الأرض المقدسة (محرمة عليهم) أي على هؤلاء العصاة بسبب امتناعهم من قتال الجبارين (أربعين سنة) ظرف للتحريم أي أنه محرم عليهم دخولها هذه المدة لا زيادة عليها فلا يخالف هذا التحريم، ما تقدم من قوله (التي كتب الله لكم) فإنها مكتوبه لمن بقي منهم بعد هذه المدة، وقيل إنه لم يدخلها أحد ممن قال إنا لن ندخلها فيكون توقيت التحريم بهذه المدة باعتبار ذراريهم.
وقيل إن أربعين سنة ظرف لقوله (يتيهون في الأرض) أي يتيهون هذا المقدار فيكون التحريم مطلقاً والمؤقت هو التيه، وهو في اللغة الحيرة يقال منه تاه يتيه تيهاً أو توها إذا تحيّر فالمعنى يتحيرون في الأرض، قيل إن هذه الأرض التي تاهوا فيها كانت صغيرة نحو ستة فراسخ كانوا يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وكانوا سيارة مستمرين على ذلك لا قرار لهم.
وقيل ستة فراسخ في اثني عشر فرسخاً، وقيل تسع فراسخ في ثلاثين فرسخاً، وكان القوم ستمائة ألف مقاتل.
واختلف أهل العلم هل كان معهم موسى وهرون أم لا؟ فقيل لم يكونا معهم، لأن التيه عقوبة، وقيل كانا معهم لكن سهل الله عليهما ذلك كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
وقد قيل كيف تقع هذه الجماعة من العقلاء في مثل هذه الأرض اليسيرة في هذه المدة الطويلة؟ قال أبو علي يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هم عليها إذا ناموا إلى المكان الذي ابتدأوا منه، وقد يكون بغير ذلك من الأسباب(3/393)
المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارقة للعادة (فلا تأس على القوم الفاسقين) أي لا تحزن عليهم لأنهم أهل مخالفة وخروج عن الطاعة.
قال الزجاج: ويجوز أن يكون خطاباً لحمد - صلى الله عليه وسلم - أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل.
وأخرج ابن جرير وابن حاتم عن ابن عباس قال: تاهوا أربعين سنة فهلك موسى وهرون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، وهو الذي افتتحها وهو الذي قيل له اليوم يوم جمعة فهمّوا بافتتاحها، فدنت الشمس للغروب فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا فنادى الشمس أني مأمور وأنت مأمورة فوقفت حتى افتتحها، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط فقربوه إلى النار فلم تأت فقال فيكم الغلول، فدعا رؤوس الأسباط وهم اثنا عشر رجلاً فبايعهم فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال: الغلول عندك، فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت وأسنان من لؤلؤ فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلتها.
وعنه قال خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق ولا تدرن، وكان عمر موسى مائة سنة وعشرين سنة ومات بعد هارون بسنة عليهما الصلاة والسلام.
وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعاً قصة ردّ الشمس لنبيٍ من الأنبياء ولم يسم يوشع، واختلف الناس في حبس الشمس فقيل ردت إلى ورائها، وقيل وقفت ولم ترد، وقيل بطء حركتها، ومات يوشع ودفن في جبل أفرأيتم وله مائة سنة وست وعشرون سنة، وقيل الذي فتح أريحاء هو موسى وكان يوشع على مقدمته، وهذا أصح واختاره الطبري والقرطبي.(3/394)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)(3/395)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
(واتل عليهم نبأ ابني آدم) وجه اتصال هذا بما قبله التنبيه من الله على أن ظلم اليهود ونقضهم المواثيق والعهود هو كظلم ابن آدم لأخيه، فالداء قديم، والشر أصيل، وقد اختلف أهل العلم في ابني آدم المذكورين هل هما لصلبه أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الأول، وذهب الحسن والضحاك إلى الثاني، وقالا: " إنهما كانا من بني إسرائيل، فضرب بهما المثل في إبانة حسد اليهود، وكانت بينهما خصومة فتقرّبا بقربانين ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل ".
قال ابن عطية: " هذا وهم، كيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب "،، قال الجمهور من الصحابة فمن بعدهم اسمهما قابيل وهابيل.
(بالحق) أي تلاوة متلبسة بالحق، واختاره الزمخشري أو نبأ متلبساً بالحق، (إذ قربا قرباناً) القربان اسم لما يتقرب به إلى الله عز وجل من صدقة أو ذبيحة أو نسك أو غير ذلك مما يتقرب به، قاله الزمخشري، وقيل مصدر أطلق على الشيء المتقرب به، قاله أبو علي الفارسي وكان قربان قابيل حزمة من سنبل لأنه كان صاحب زرع، واختارها من أردأ زرعه حتى إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها، وكان قربان هابيل كبشاً لأنه كان صاحب غنم أخذه من أجود غنمه.
(فتقبل) القربان (من أحدهما) وهو هابيل فرفع إلى الجنة فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدى به الذبيح عليه السلام، وكذا قال جماعة من السلف،(3/395)
وقيل نزلت نار من السماء فأكلت قربانه (ولم يتقبل من الآخر) أي قابيل فحسده وأضمر الحسد في نفسه إلى أن حج آدم.
(قال لأقتلنك) قيل سبب هذا القربان أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى إلا شيثاً عليه السلام فإنها ولدته منفرداً، وكان آدم عليه السلام يزوج الذكر من هذا البطن بالأنثى من الآخر، ولا تحل له أخته التي ولدت معه، فولدت مع قابيل أخت جميلة وإسمها إقليما، ومع هابيل أخت ليست كذلك وإسمها ليوذا، فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل أنا أحق بأختي فأمره آدم فلم يأتمر وزجره فلم ينزجر، فاتفقوا على القربان وأنه يتزوجها من تقبل قربانه، قاله ابن عباس، قال ابن كثير في تفسيره إسناده جيد، وكذا قال السيوطي في الدر المنثور.
(قال إنما يتقبل الله من المتقين) استئناف كالأول كأنه قيل فماذا قال الذي تقبل. قربانه فقال: قال الخ، وإنما للحصر أي إنما يتقبل القربان من المتقين لا من غيرهم، وكأنه يقول لأخيه إنما أتيت من قبل نفسك لا من قبلي، فإن عدم تقبل قربانك بسبب عدم تقواك وأن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال، وعن ابن عباس قال: كان من شأن بني آدم أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه، وإنما كان القربان يقربه الرجل فبينما ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قرباناً ثم ذكر ما قررناه.(3/396)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
(لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني) أي لئن قصدت قتلي واللام هي الموطِّئة للقسم (ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) هذا استسلام للقتل من هابيل كما ورد في الحديث " إذا كانت الفتنة فكن كخير ابني آدم " وتلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية قال مجاهد: كان الفرض عليهم حينئذ أن لا يسل أحد سيفاً، وأن لا يمنع ممن يريد قتله، وعن ابن جريج نحوه.(3/396)
قال القرطبي: قال علماؤنا وذلك مما يجوز ورود التعبد به إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعاً، وفي وجوب ذلك عليه خلاف والأصح وجوب ذلك لما فيه من النهي عن المنكر، وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه الدفع، واحتجوا بحديث أبي ذر، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة وكف اليد عند الشبهة على ما بيناه في كتاب التذكرة إهـ كلامه.
وحديث أبي ذر المشار إليه هو عند مسلم وأهل السنن إلا النسائي وفيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: " يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً كيف تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك قال: فإن لم أترك؟ قال: فأت من أنت منهم فكن فيهم، قال: فآخذ سلاحي؟ قال إذن تشاركهم فيما فيه ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك كي يبوء بإثمه وإثمك " (1)، وفي معناه أحاديث عن جماعة من الصحابة، وقيل معناه ما كنت بمبتديك بالقتل (2).
(إني أخاف الله) في بسط يدي إليك إن بسطتها لقتلك أن يعاقبني على ذلك (رب العالمين) قيل: كان المقتول أقوى من القاتل وأبطش منه ولكنه تحرج عن قتل أخيه فاستسلم له خوفاً من الله، لأن الدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت.
_________
(1) أحمد بن حنبل 5/ 149.
(2) جاء في " المسند " 5/ 226، والبخاري 6/ 262، 12/ 169، 13/ 256، ومسلم 1303، والترمذي 2/ 92، والنسائي 7/ 82، وابن ماجه 2/ 873 من حديث ابن مسعود مرفوعاً، ولفظه " لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل " وقوله: " كفل منها " الكفل، بكسر أوله وسكون الفاء: النصيب، وأكثر ما يطلق على الأجر، والضعف على الإثم. ومنه قوله تعالى: (كفلين من رحمته) [الحديث: 28] ووقع على الإثم في قوله تعالى: (ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) [النساء: 85].(3/397)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)(3/398)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
(إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) وهذا تعليل ثان لامتناعه من المقاتلة بعد التعليل الأول، واختلف المفسرون في المعنى فقيل أراد هابيل أني أريد أن تبوء بالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصاً على قتلك، وبإثمك الذي تحملته بسبب قتلي، وقيل المراد بإثمي الذي يختص بي بسبب سيئاتي فيطرح عليك بسبب ظلمك لي، وتبوء بإثمك في قتلي.
وهذا يوافق معناه معنى ما ثبت في صحيح مسلم في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " يؤتى يوم القيامة بالظالم والظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه " (1)، ومثله قوله تعالى: (وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم) وقيل المعنى أني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) أي أن لا تميد بكم، وقوله: (يبين الله لكم أن تضلوا) أي أن لا تضلوا.
وقال أكثر العلماء: إن المعنى أني أريد أن تبوء بإثمي أي بإثم قتلك لي وإثمك الذي قد صار عليك بذنوبك من قبل قتلي، قال الثعلبي هذا قول عامة المفسرين. وقيل المعنى أن تبوء بعقاب إثمي وإثمك فحذف المضاف،
_________
(1) الباب العاشر من كتاب المظالم في صحيح البخاري- الباب الثاني من كتاب القيامة في صحيح الترمذي.(3/398)
وقيل هو على وجه الإنكار كقوله تعالى: (وتلك نعمة) أي أو تلك نعمة، قاله القشيري ووجهه بأن إرادة القتل معصية.
وسئل أبو الحسن بن كيسان كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار فقال: وقعت الإرادة بعدما بسط يده إليه بالقتل، وهذا بعيد جداً وكذلك الذي قبله، وقال الزمخشري: ليس ذلك بحقيقة الإرادة لكنه لما علم أنه يقتله لا محالة ووطّن نفسه على الاستسلام للقتل طلباً للثواب فكأنه صار مريداً لقتله مجازاً، وإن لم يكن مريداً حقيقة إهـ وأصل باء رجع إلى المباءة وهي المنزل (وباؤا بغضب من الله) أي رجعوا (1).
(فتكون من أصحاب النار) أي الملازمين لها (وذلك جزاء الظالمين) أي جهنم جزاء من قتل أخاه ظلماً.
_________
(1) قال القرطبي 6/ 136: قال علماؤنا: وذلك مما يجوز التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعاً، وفي وجوب ذلك عليه خلاف، والأصح وجوب ذلك، لما فيه من النهي عن المنكر. وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه الدفع، واحتجوا بحديث أبي ذر، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة، وكف اليد عند الشبهة على ما بيناه في كتاب " التذكرة " قلت: حديث أبي ذر في " المسند " 5/ 149، وأبي داود 4/ 124، وابن ماجه 2/ 1308 وفيه " أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً، يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أقعد في بيتك، وأغلق عليك بابك.
قال: فإن لم أترك؟ قال: فات من أنت منهم، قال: فآخذ سلاحي؟ قال: إذن تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف، فألق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك " وفي معناه أحاديث عن جماعة من الصحابة، انظر " سنن أبي داود " كتاب الفتن.(3/399)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
(فطوّعت له نفسه) أي سهلت نفسه عليه الأمر وشجعته وزينت له وصورت له أن (قتل أخيه) طوع يده سهل عليه، يقال تطوع الشيء أي سهل وانقاد، وطوّعه فلان له أي سهله، قال الهروي، طوعت وطاوعت واحد، يقال طاع له كذا إذا أتاه طوعاً، وفي ذكر تطويع نفسه له بعدما تقدم من قول قابيل لأقتلنك، وقول هابيل لتقتلني، دليل على أن التطويع لم يكن قد حصل له عند تلك المقاولة.(3/399)
(فقتله) قال ابن جريج ومجاهد وغيرهما: روي أنه جهل كيف يقتل أخاه فجاءه ابليس بطائر أو حيوان غيره فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل وقيل غير ذلك مما يحتاج إلى تصحيح الرواية.
أخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في الآية قالوا: فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفنه.
وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل " (1).
واختلف في موضع قتله فقال ابن عباس: على جبل نود، وقيل على عقب: حراء وقيل بالبصرة عند مسجدها الأعظم، وكان عمر هابيل يوم قتل عشرين سنة.
(فأصبح من الخاسرين) قال ابن عباس: خسر دنياه وآخرته، أما دنياه فأسخط والديه وبقي بلا أخ وأما آخرته فأسخط ربه وصار إلى النار.
_________
(1) مسلم 1677 - البخاري 1575.(3/400)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
(فبعث الله غراباً يبحث في الأرض) أي يحفرها وينثر ترابها وينبش بمنقاره برجليه ويثيره على غراب ميت معه حتى واراه (ليريه) الله أو الغراب (كيف يواري سوأة أخيه) أي عورته وجيفته وما لا يجوز أن ينكشف من جسده، قيل: إنه لما قتل أخاه لم يدر كيف يواريه لكونه أول ميت مات من بني(3/400)
آدم، فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فحفر له ثم حثى عليه.
فلما رآه قابيل (قال يا ويلتا) كلمة تحسر وتحزن وتلهف وجزع، والألف بدل من ياء المتكلم كأنه دعا ويلته أن تحضر في ذلك الوقت وتلزمه، وقال الكرخي: أي يا هلاكي تعال، والويلة الهلكة وتستعمل عند وقوع الداهية العظيمة، وفيه اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب، وأصل النداء أن يكون لمن يعقل وقد ينادى ما لا يعقل مجازاً.
(أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) الذي وارى الغراب الآخر، والكلام خارج مخرج التعجب منه من عدم اهتدائه لمواراة أخيه كما اهتدى الغراب إلى ذلك (فأواري سوأة أخي) يعني فأستر جيفته وعورته عن الأعين (فأصبح من النادمين) قيل لم يكن ندمه ندم توبة بل ندم لفقده لا على قتله وقيل غير ذلك.
روي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض، فالسودان من ولده وكان آدم يومئذ بمكة فاشتاك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه فقال آدم قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند فوجد قابيل قد قتل هابيل، قال الزمخشري ويروى أنه رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا محول ملحون، وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر.
قال الرازي: ولقد صدق صاحب الكشاف فيما قال فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق إلا بالحمقاء من المتعلمين فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة.(3/401)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)(3/402)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
(من أجل ذلك) القاتل وجريرته وبسبب معصيته، وقال الزجاج: أي من جنايته قال يقال أجل الرجل على أهله شراً يأجل أجلاً إذا جنى، مثل أخذ يأخذ أخذاً (كتبنا على بني إسرائيل) أي فرضنا وأوجبنا عليهم يعني أن نبأ ابني آدم هو الذي تسبب عنه الكتب المذكورة على بني إسرائيل، وعلى هذا جمهور المفسرين، وخص بني إسرائيل بالذكر لأن السياق في تعداد جناياتهم، ولأنهم أوّل أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس ووقع التغليظ فيهم إذ ذاك لكثرة سفكهم للدماء وقتلهم للأنبياء.
وهذا مشكل لأنه لا مناسبة بين واقعة قابيل وهابيل، وبين وجوب القصاص على بني إسرائيل، قال بعضهم هو من تمام الكلام الذي قبله، والمعنى فأصبح من النادمين من أجل ذلك، يعني من أجل أنه قتل هابيل ولم يواره، ويروى عن نافع أنه كان يقف على قوله من أجل ذلك ويجعله من تمام الكلام الأول.
فعلى هذا يزول الإشكال ولكن جمهور المفسرين وأصحاب المعاني على أنه ابتداء كلام متعلق بكتبنا فلا يوقف عليه، وفي السيد على الكشاف وخص بني إسرائيل مع أن الحكم عام لكثرة القتل فيهم حتى إنهم تجرَّؤوا على قتل الأنبياء إهـ وقيل غير ذلك.
(أنه من قتل نفساً) واحدة من هذه النفوس ظلماً (بغير نفس) توجب القصاص فيخرج عن هذا من قتل نفساً بنفس قصاصاً، وقد تقرر أن كل(3/402)
حكم مشروط بتحقق أحد شيئين فنقيضه مشروط بانتفائهما معاً، وكل حكم مشروط بتحققهما معاً فنقيضه مشروط بانتفاء أحدهما ضرورة أن نقيض كل شيء مشروط بنقيض شرطه.
(أو فساد في الأرض) فيستحق به القتل، وقد اختلف في هذا الفساد المذكور في هذه الآية ماذا هو فقيل هو الشرك والكفر بعد الإيمان، وقيل قطع الطريق.
وظاهر النظم القرآني أنه ما يصدق عليه أنه فساد في الأرض، فالشرك فساد في الأرض وقطع الطريق فساد في الأرض، وسفك الدماء وهتك الحرم ونهب الأموال فساد في الأرض، والبغي على عباد الله بغير حق فساد في الأرض، وهدم البنيان وقطع الأشجار وتغوير الأنهار فساد في الأرض، فعرفت بهذا أنه يصدق على هذه الأنواع أنها فساد في الأرض، وهكذا الفساد الذي يأتي في قوله: (ويسعون في الأرض فساداً) يصدق على هذه الأنواع، وسيأتي تمام الكلام على معنى الفساد قريباً.
(فكأنما قتل الناس جميعاً) أي في الذنب قاله الحسن، واختلف المفسرون في تحقيق هذا التشبيه للقطع بأن عقاب من قتل الناس جميعاً أشد من عقاب من قتل واحداً منهم، فروي عن ابن عباس أنه قال: المعنى من قتل نبياً أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعاً.
(ومن أحياها) بأن شدّ عضده ونصره (فكأنما أحيا الناس جميعاً) أي في الأجر قاله الحسن، وروي عن مجاهد أنه قال: أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمداً جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً، فلو قتل الناس جميعاً لم يزد على هذا، قال ومن سلم من قتلها فلم يقتل أحداً فكأنما أحيا الناس جميعاً.
وقال ابن زيد المعنى: أن من قتل نفساً فيلزمه من القود والقصاص ما يلزمه من قتل الناس جميعاً ومن أحياها أي من عفا عمن وجب قتله فله من(3/403)
الثواب مثل ثواب من أحيا الناس جميعاً، وحكي عن الحسن أنه العفو بعد القدرة يعني أحياناً، وروي عن مجاهد أن إحياءها إنجاؤها من غرق أو حرق أو هدم أو هلكة.
وقيل: المعنى أن من قتل نفساً فالمؤمنون كلهم خصماؤه لأنه قد وتر الجميع، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً أي وجب على الكل شكره، وقيل المعنى أن من استحل واحداً فقد استحل الجميع، لأنه أنكر الشرع، ومن تورع عن قتل مسلم فكأنما تورع عن قتل جميعهم فقد سلموا منه.
وعلى كل حال فالإحياء هنا عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة، فهو مجاز إذ المعنى الحقيقي مختص بالله عز وجل، والمراد بهذا التشبيه في جانب القتل ْتهويل أمر القتل وتعظيم أمره في النفوس حتى ينزجر عنه أهل الجرآة والجسارة، وفي جانب الإحياء الترغيب في العفو عن الجناة واستنقاذ المتورطين في الهلكات، ولذلك صدر النظم الكريم بضمير الشأن المنبي عن كمال شهرته ونباهته وتبادره إلى الأذهان.
سئل الحسن عن هذه الآية أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل، فقال: أي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا.
(ولقد جاءتهم) أي بني إسرائيل (رسلنا بالبينات) الدلالات الواضحات، جملة مستقلة مؤكدة باللام الموطئة للقسم متضمنة للإخبار بأن الرسل عليهم الصلاة والسلام قد جاؤا العباد بما شرعه الله لهم من الأحكام التي من جملتها أمر القتل.
وثم في قوله: (ثم إن كثيراً منهم) للتراخي الرتبي والاستبعاد العقلي (بعد ذلك) أي ما ذكر مما كتبه الله على بني إسرائيل من تحريم القتل (في الأرض لمسرفون) في القتل لا ينتهون عنه، أو لمجاوزون الحق لا يبالون بعظمته.(3/404)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
(إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) قد اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية فذهب الجمهور إلى أنها نزلت في العرنيين (1) وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: إنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع الطريق ويسعى في الأرض بالفساد قال ابن المنذر: قول مالك صحيح.
قال أبو ثور محتجاً لهذا القول إن قوله في هذه الآية: (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) يدل على أنها نزلت في غير أهل الشرك لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم، فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام أهـ.
وهكذا يدل على هذا قوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " الإسلام يهدم ما قبله " (2)، أخرجه مسلم وغيره.
وحكى ابن جرير في تفسيره عن بعض أهل العلم أن هذه الآية أعني آية المحاربة نسخت فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العرنيين، ووقف الأمر على هذه الحدود.
وروي عن محمد بن سيرين أنه قال: كان هذا قبل أن ينزل الحدود يعني
_________
(1) هم أناس جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأظهروا الإسلام ثم مرضوا من جو المدينة، فبعثهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في إبل خارج المدينة ليتداووا بألبانها وأبوالها، فقتلوا الراعي وساقوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث وراءهم فأحضرهم وعاقبهم بما هو معلوم.
(2) مسلم 121.(3/405)
فعله صلى الله عليه وآله واسم بالعرنيين، وبهذا قال جماعة من أهل العلم، وذهب جماعة آخرون إلى أن فعله - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المثلة، والقائل بهذا مطالب ببيان تأخر الناسخ.
والحق أن هذه الآية تعم المشرك وغيره ممن ارتكب ما تضمنته ولا اعتبار بخصوص السبب بل الاعتبار بعموم اللفظ.
قال القرطبي في تفسيره: ولا خلاف بين أهل العلم في أن حكم هذه الآية مرتب على المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود انتهى.
ومعنى قوله مرتب أي ثابت، قيل المراد بمحاربة الله المذكورة في الآية هي محاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومحاربة المسلمين في عصره ومن بعد عصره بطريق العبارة دون الدلالة ودون القياس، لأن ورود النص ليس بطريق المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول فيحتاج في تعميم الخطاب لغيرهم إلى دليل آخر.
وقيل إنها جعلت محاربة المسلمين محاربة لله ولرسوله إكباراً لحربهم وتعظيماً لأذيّتهم، لأن الله سبحانه لا يحارب ولا يغالب، والأولى أن تفسر محاربة الله سبحانه بمعاصيه ومخالفة شرائعه، ومحاربة الرسول تحمل على معناها الحقيقي وحكم أمته حكمه وهم أُسوته.
(ويسمعون في الأرض فساداً) بحمل السلاح والخروج على الناس وقتل النفس وأخذ الأموال وقطع الطريق، والسعي فيها فساداً يطلق على أنواع من الشرك كما قدمنا قريباً، وانتصاب فساداً على الصدرية أو على أنه مفعول له أي للفساد أو على الحال بالتأويل أي مفسدين.
وقال ابن كثير في تفسيره: قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب أن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض، وقد قال تعالى: (وإذا(3/406)
تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) انتهى.
وإذا تقرر لك ما قررناه من عموم الآية ومن معنى المحاربة والسعي في الأرض فساداً فاعلم أن ذلك يصدق على كل من وقع منه ذلك، سواء كان مسلماً أو كافراً، في مصر أو غير مصر، في قليل وكثير وجليل وحقير، وأن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية من القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف أو النفي من الأرض.
ولكن لا يكون هذا حكم من فعل أي ذنب من الذنوب بل من كان ذنبه هو التعدي على دماء العباد وأقوالهم فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم في كتاب الله أو سنة رسوله كالسرقة وما يجب فيه القصاص، لأنا نعلم أنه قد كان في زمنه صلى الله عليه وسلم من تقع منه ذنوب ومعاص غير ذلك ولا يجري عليه - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم المذكور في هذه الآية.
وبهذا يعرف ضعف ما روي عن مجاهد في تفسير المحاربة المذكورة في هذه الآية أنها الزنا والسرقة، ووجه ذلك أن هذين الذنبين قد ورد في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لهما حكم غير هذا الحكم.
وإذا عرفت ما هو الظاهر من معنى هذه الآية على مقتضى لغة العرب التي أمرنا أن نفسر كتاب الله وسنة رسوله بها، فإياك أن تغتر بشيء من التفاصيل المروية، والمذاهب المحكية إلا أن يأتيك الدليل الموجب لتخصيص هذا العموم، أو تقييد هذا المعنى المفهوم، من لغة العرب فأنت وذاك، إعمل به وضعه في موضعه، وأما ما عداه:
فدع عنك نهباً صيح في حجراته ... وهات حديثاً ما حديث الرواحل.
على أنا سنذكر من هذه المذاهب ما تسمعه.
اعلم أنه قد اختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة، فقال ابن(3/407)
عباس وسعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وأبو ثور: إن من شهر السلاح في قبة الإسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله. وبهذا قال مالك وصرح بأن المحارب عنده من حمل على الناس في مصر أو في برية أو كابرهم على أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا دخل ولا عداوة.
قال ابن المنذر: اختلف على مالك في هذه المسألة فأثبت المحاربة في مصر مرة ونفى ذلك أخرى، وروى عن ابن عباس غير ما تقدم فقال في قطّاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض.
وروي عن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والسدي وعطاء على اختلاف في الرواية عن بعضهم وحكاه ابن كثير عن الجمهور، وقال أيضاً وهكذا عن غير واحد من السلف والأئمة.
وقال أبو حنيفة: وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه إن شاء قطع يده ورجله وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه، وقال أبو يوسف: القتل يأتي على كل شيء، ونحوه قول الأوزاعي.
وقال الشافعي: إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي، لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وإذا قتل قتل وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب، وروي عنه أنه قال: يصلب ثلاثة أيام.
وقال أحمد: إن قتل قتل وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي.(3/408)