رأسي من الهمّ؛ إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني، وضحك في وجهي فكان ما يسرّني أنّ لي بها الخلد في الدنيا، ثم إنّ أبا بكر لحقني فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ما قال لي شيئاً إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي، فقال: أبشر ثم لحقني عمر فقلت له: مثل قولي لأبي بكر، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وروي «أنه صلى الله عليه وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتل منهم، ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر يقود فرسه، وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبيّ، واقتتلا فصرخ جهجه: يا للمهاجرين، وسنان يا للأنصار فأعان جهجاهاً جعال من فقراء المهاجرين، ولطم سناناً، فقال عبد الله لجعال: وأنت هناك وقال: ما صحبنا محمداً إلا لتلطم وجوهنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل، عنى بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لقومه: ماذا فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث، فقال: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمد في عز من الرحمن وقوّة من المسلمين، فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب، فأخبر زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله، فقال: إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب، قال: فإن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصارياً، قال: فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه؟ وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله: أنت صاحب الكلام الذي بلغني، قال: والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك، وإنّ زيداً لكاذب فهو قوله تعالى: {اتخذوا إيمانهم جنة} فقال الحاضرون: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام عسى أن يكون قد وهم» .
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لعلك غضبت عليه، قال: لا، قال: فلعله أخطأ سمعك، قال: لا، قال: فلعله شبه عليك، قال: لا، فلما نزلت لحق صلى الله عليه وسلم زيداً من خلفه فعرك أذنه، وقال: وعت أذنك يا غلام إنّ الله قد صدقك وكذب المنافقين» .
تنبيه:: سئل حذيفة بن اليمان عن المنافق فقال: الذي يصف الإيمان ولا يعمل به.
وروى أبو هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» وروى عبد الله بن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهنّ كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» وروي عن الحسن أنه ذكر هذا الحديث فقال: إنّ بني يعقوب حدثوا فكذبوا، ووعدوا فأخلفوا، وائتمنوا فخانوا، إنما هذا القول من النبيّ صلى الله عليه وسلم على سبيل الإنذار للمسلمين، والتحذير لهم أن يعتادوا هذه الخصال شفقة أن تفضي بهم إلى النفاق، وليس المعنى أنّ من ندرت منه هذه الخصال من غير اختيار واعتياد أنه منافق وقال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن إذا حدث صدق، وإذا وعد نجز، وإذا ائتمن وفى»(4/293)
والمعنى المؤمن الكامل {فصدّوا} أي: فسبب لهم اتخاذهم هذا أن أعرضوا بأنفسهم مع سوء البواطن وحرارة ما في الصدور، وحملوا غيرهم على الإعراض {عن سبيل الله} أي: عن طريق الملك الأعظم الذي شرعه لعباده ليصلوا به إلى محل رضوانه، ووصلوا إلى ذلك بخداعهم ومكرهم بجراءتهم على الأيمان الخائنة {إنهم ساء ما كانوا} أي: جبلة وطبعاً {يعملون} أي: يجدّدون عمله مستمرّين عليه بما هو كالجبلة من جراءتهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وخلص عباده بالأيمان الخائنة.
ولما كانت المعاصي تعمي القلوب فكيف بأعظمها علله بقوله تعالى:
{ذلك} أي: سوء عملهم {بأنهم آمنوا ثم كفروا} .
فإن قيل: إنّ المنافقين لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم، فما معنى قوله تعالى: {آمنوا ثم كفروا} ؟ أجيب: بثلاثة أوجه:
أحدها: آمنوا، أي: نطقوا بكلمة الشهادة، وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام، ثم كفروا أي: ثم ظهر كفرهم بعد ذلك، وتبين بما اطلع عليه من قولهم إن كان ما يقول محمد حقاً، فنحن حمير، وقولهم في غزوة تبوك: أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات، ونحوه قوله: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} (التوبة: 74)
أي: وظهر كفرهم بعد أن أسلموا، ونحوه {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (التوبة: 66)
والثاني: آمنوا أي: نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام بقوله تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا} إلى قوله {إنما نحن مستهزؤن} (البقرة: 14)
وهذا إعلام من الله تعالى بأنّ المنافقين كفار.
الثالث: أن يراد أنّ ذلك في قوم آمنوا ثم ارتدّوا {فطبع} أي: فحصل الطبع وهو الختم مع أنه معلوم أنه لا يقدر على ذلك غيره سبحانه {على قلوبهم} أي: لأجل اجترائهم على ما هو أكبر الكبائر على وجه النفاق {فهم} أي: فتسبب عن ذلك أنهم {لا يفقهون} أي: لا يقع لهم فقه في شيء من الأشياء، فهم لا يميزون صواباً من خطأ، ولا حقاً من باطل.
{وإذا رأيتهم} أي: أيها الرسول على ما لك من الفطنة ونفوذ الفراسة، أو أيها الرائي كائناً من كان بعين البصر {تعجبك أجسامهم} لضخامتها وصباحتها، فإنّ عنايتهم كلها بصلاح ظواهرهم وترفيه أنفسهم، فهم أشباح وقوالب ليس وراءها ألباب وحقائق.
قال ابن عباس: كان ابن أبيّ جسيماً صحيحاً فصيحاً ذلق اللسان، وقوم من المنافقين في مثل صفته وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم ويستندون فيه، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم {وإن يقولوا} أي: يوجد منهم قول في وقت من الأوقات {تسمع لقولهم} أي: لفصاحته فيلذذ السمع ويروق الفكر {كأنهم} أي: في حسن ظواهرهم وسوء بواطنهم، وفي عدم الانتفاع بهم في شيء {خشب} جمع كثرة لخشبة، وهو دليل على كثرتهم {مسندة} أي: قطعت من مغارسها ممالة إلى الجدار. وقرأ أبو عمرو والكسائي بسكون الشين، والباقون بضمها {يحسبون} أي: لضعف عقولهم وكثرة ارتيابهم لكثرة ما يباشرون من سوء أعمالهم {كل صيحة} أي: من نداء مناد في إنشاد ضالة، أو انفلات دابة، أو نحو ذلك واقعة {عليهم} وضارّة لهم لجبنهم وهلعهم لما في قلوبهم من الرعب أن ينزل فيهم ما يبيح دماءهم. ومنه أخذ الأخطل:(4/294)
*مازلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلا تكرّ عليهم ورجالاً*
ومنه قول الآخر:
*كأنّ بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل*
*يخال إليه أنّ كل ثنية ... تيممها ترمي إليه بقاتل*
{هم العدوّ} أي: الكامل العداوة بما دل عليه الأخبار بالمفرد الذي يقع على الجمع، إشارة إلى إنهم في شدّة عداوتهم للإسلام وأهله، وكمال قصدهم وشدّة سعيهم فيه على قلب رجل واحد، وإن أظهروا التودّد في الكلام، والتقرّب به إلى أهل الإسلام فإنّ ألسنتهم معكم إذا لقوكم، وقلوبهم عليكم مع أعدائكم فهم عيون لهم عليكم {فاحذرهم} لأنّ أعدى عدوّك من يعاشرك وتحت ضلوعه الداء لكنه يكون بلطف الله دائم الخذلان منكوساً في أكثر تقلباته بيد القهر والحرمان لسرّ قوله تعالى: {قاتلهم الله} أي: أحلهم الملك المحيط قدرة وعلماً محل من يقاتله عدوّ قاهر له أشدّ مقاتلة على عادة الفعل الذي يكون بين اثنين.
وقال ابن عباس: أي لعنهم الله، وقال أبو مالك: هي كلمة ذم وتوبيخ، وقد تقول العرب: قاتله الله ما أشعره فيضعونه موضع التعجب {أنى} أي: كيف، ومن أيّ جهة {يؤفكون} أي: يصرفهم عن قبح ما هم عليه صارف ما كائن ما كان ليرجعوا عما هم عليه، وقال ابن عباس: أنى يؤفكون، أي: يكذبون، وقال مقاتل: أي: يعدلون عن الحق، وقال الحسن: يصرفون عن الرشد، وقيل: معناه كيف تضل عقولهم عن هذا مع وضوح الدلائل، وهو من الإفك.
{وإذا قيل لهم} أي: من أيّ قائل كان {تعالوا} أي: ارفعوا أنفسكم مجتهدين في ذلك بالمجيء إلى أشرف الخلق الذي لا يزال مكانه عالياً لعلوّ مكانته {يستغفر لكم} أي: يطلب الغفران لأجلكم خاصة من أجل هذا الكذب أي: الذي أنتم مصرّون عليه {رسول الله} أي: أقرب الخلق إلى الملك الأعظم الذي لا شبيه لوجوده {لوّوا رؤوسهم} أي: فعلوا اللي بغاية الشدّة والكثرة، وهو الصرف إلى جهة أخرى إعراضاً وعتواً، وإظهاراً للبغض والنفرة {ورأيتهم} أي: بعين البصيرة {يصدّون} أي: يعرضون إعراضاً قبيحاً عما دعوا إليه، مجدّدين لذلك كلما دعوا إليه، والجملة في وضع المفعول الثاني لرأيت {وهم مستكبرون} أي: ثابتوا الكبر عما دعوا إليه، وعن إحلال أنفسهم في محل الاعتذار فهم لشدّة غلظهم لا يدركون قبح ما هم عليه، ولا يهتدون إلى دوائه، وإذا أرشدهم غيرهم ونبههم لا ينتبهون.
فقد روي أنه لما نزل القرآن فيهم أتاهم عشائرهم من المؤمنين، وقالوا: ويحكم افتضحتم وأهلكتم أنفسكم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوبوا إليه من النفاق، واسألوه أن يستغفر لكم فلووا رؤوسهم، أي: حرّكوها إعراضاً وإباء قاله ابن عباس.
وعنه: أنه كان لعبد الله بن أبي موقف في كل سبت يحض على طاعة الله وطاعة رسوله، فقيل له: وما ينفعك ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم عليك غضبان، فأته يستغفر لك فأبى، وقال: لا أذهب إليه. وروي أنّ ابن أبيّ رأسهم لوى رأسه، وقال لهم: أشرتم عليّ بالإيمان فآمنت، وأشرتم عليّ بأن أعطي زكاة مالي ففعلت، ولم يبق إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد فنزل {وإذا قيل لهم تعالوا} الآية. ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى(4/295)
ومات.
ولما كان صلى الله عليه وسلم يحب صلاحهم فهو يحب أن يستغفر لهم، وربما ندبه إلى ذلك بعض أقاربهم، قال تعالى منبهاً على أنهم ليسوا بأهل للاستغفار لأنهم لا يؤمنون:
{سواء عليهم أستغفرت لهم} استغنى بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل {أم لم تستغفر} الله {لهم} أي: سواء عليهم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون إليه، ولا يعتدّون به لكفرهم {لن يغفر الله} أي: الملك الأعظم {لهم} لرسوخهم في الكفر {إن الله} أي: الذي له كمال الصفات {لا يهدي القوم} أي: الناس الذين لهم قوّة في أنفسهم على ما يريدونه {الفاسقين} أي: لأنهم لا عذر لهم في الإصرار على الفسق، وهو المروق من حصن الإسلام بخرقه وهتكه مرّة بعد مرّة، والتمرن عليه حتى استحكم فهم راسخون في النفاق، والخروج عن مظنة الإصلاح.
{هم} أي خاصة بخالص بواطنهم {الذين يقولون} أي: أوجدوا هذا القول للأنصار، ولا يزالون يجددونه لأنهم كانوا مربوطين بالأسباب محجوبين عن شهود التقدير {لا تنفقوا} أي: أيها المخلصون في النصرة {على من} أي: الذين {عند رسول الله} أي: الملك المحيط بكل شيء، وهم فقراء المهاجرين {حتى ينفضوا} أي: يتفرّقوا فيذهب كل أحد منهم إلى أهله وشغله الذي كان له قبل ذلك.
قال البقاعي: وما درى الأجلاف أنهم لو فعلوا ذلك أتاح الله تعالى غيرهم للإنفاق، أو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا في الشيء اليسير فصار كثيراً، أو كان بحيث لا ينفد، أو أعطى كلاً يسيراً من طعام على كيفية لا ينفد معها كتمر أبي هريرة، وشعير عائشة، وعكة أمّ أيمن وغير ذلك كما روى غير مرّة، ولكن {من يضلل الله فما له من هاد} (الزمر: 23)
ولذلك عبر في الردّ عليهم بقوله تعالى: {ولله} أي: قالوا ذلك واستمرّوا على تجديد قوله، والحال أنّ الملك الذي لا أمر لغيره {خزائن السموات} أي: كلها {والأرض} كذلك من الأشياء المعدومة الداخلة تحت مقدوره، {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} (يس: 82)
ومن الأشياء التي أوجدها فهو يعطي من يشاء منها، حتى مما في أيديهم لا يقدر أحد على منع شيء من ذلك لا مما في يده ولا مما في يده غيره.
ونبه على سوء غباوتهم وأنهم تقيدوا بالوهم حتى سفلوا عن رتبة البهائم كما قال بعضهم: إن كان محمد صادقاً فنحن شرّ من البهائم بقوله تعالى: {ولكن المنافقين} أي: العريقين في وصف النفاق {لا يفقهون} أي: يتجدّد لهم فهم أصلاً كالبهائم بل هم أضل، لأنّ البهائم إذا رأت شيئاً ينفعها يوماً في مكان طلبته مرة أخرى، وهؤلاء رأوا غير مرّة ما أخرج الله تعالى من خوارق البركات على يد رسوله صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم ذلك، ودل على عدم نفعهم بقوله تعالى:
{يقولون} أي: يوجدون هذا القول ويجدّدونه مؤكدين لاستشعارهم بأنّ أكثر قومهم ينكره {لئن رجعنا} أي: أيتها العصابة المنافقة {إلى المدينة} أي: من غزاتنا هذه، وهي غزوة بني المصطلق حيّ من هذيل خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل {ليخرجنّ الأعز} يعنون أنفسهم {منها} أي: المدينة {الأذل} يعنون النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم كاذبون في هذا لكونهم تصوروا لشدة غباوتهم أنّ العزة لهم، وأنهم يقدرون على إخراج المؤمنين {وله} أي: والحال أنّ كل من له نوع بصيرة يعلم أنّ الملك الأعلى هو الذي له وحده(4/296)
{العزة} أي: الغلبة كلها {ولرسوله} لأنّ عزتّه من عزته {وللمؤمنين} فعزة الله قهره من دونه، وكل من عداه دونه وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين نصر الله تعالى إياهم على أعدائهم {ولكن المنافقين} أي: الذين استحكم فيهم مرض القلوب {لا يعلمون} أي: لا يوجد لهم علم الآن، ولا يتجدد في حين من الأحيان فلذلك هم يقولون مثل هذا الخراف.
روي أنه لما نزلت هذه الآية جاء عبد الله ولد عبد الله بن أبي ابن سلول الذي نزلت هذه الآيات بسببه كما مرّ إلى أبيه، وذلك في غزوة المريسيع لبني المصطلق فأخذ بزمام ناقته، وقال: أنت والله الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز. ولما أراد أن يدخل المدينة عبد الله بن أبي اعترضه ابنه حباب، وهو عبد الله غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه، وقال «إن حباباً اسم شيطان» وكان مخلصاً، وقال: وراءك والله لا تدخلها حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل، فلم يزل حبيساً في يده حتى أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخليته. وروي أنه قال: لئن لم تقرّ لله ولرسوله بالعزة لأضربنّ عنقك، فقال: ويحك أفاعل أنت؟ قال: نعم، فلما رأى منه الجدّ، قال: أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنه «جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيراً» .
فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى ختم الآية الأولى بقوله تعالى: {لا يفقهون} وختم الثانية بقوله تعالى: {لا يعلمون} ؟.
أجيب: بأنه ليعلم بالأولى قلة كياستهم وفهمهم، وبالثانية حماقتهم وجهلهم. ويفقهون من فقه يفقه كعلم يعلم، أو من فقه يفقه كعظم يعظم، فالأوّل لحصول الفقه بالتكلف، والثاني لا بالتكلف، فالأول علاجي، والثاني مزاجي.
ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن التشبه بالمنافقين فقال تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان، وقلوبهم مذعنة كظواهرهم {لا تلهكم} أي: لا تشغلكم {أموالكم ولا أولادكم} سواء كان ذلك في إصلاحها، أو التمتع بها بحيث تغفلون {عن ذكر الله} أي: الملك الأعظم حذر المؤمنين أخلاق المنافقين، أي: لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون؛ إذ قالوا لأجل الشح بأموالهم {لا تنفقوا على من عند رسول الله} وقوله تعالى: {عن ذكر الله} قال الضحاك: أي: عن الصلوات الخمس، نظيره: قوله تعالى: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} (النور: 37)
وقال الحسن: عن جميع الفرائض، كأنه قال: عن طاعة الله تعالى. وقيل: عن الحج والزكاة. وقيل عن قراءة القرآن، وقيل: عن إدامة الذكر، وقيل: هذا خطاب للمنافقين، أي: آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب.
ولما كان التقدير فمن انتهى فهو من الفائزين عطف عليه قوله تعالى: {ومن يفعل} أي: يوقع في زمن من الأزمان على سبيل التجديد والاستمرار فعل {ذلك} أي: الأمر البعيد عن أفعال ذوي الهمم من الانقطاع إلى الاشتغال بالفاني والإعراض عن الباقي {فأولئك} البعداء عن الخير {هم الخاسرون} أي: العريقون في الخسارة في تجارتهم، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني، حتى كأنهم مختصون بها دون الناس، وذلك بضد ما أرادوا.
{وأنفقوا} أي: ما أمرتم به من واجب أو مندوب كما قاله بعض المفسرين، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد زكاة الأموال، وهو ظاهر الأمر.
ثم إنّ الله تعالى زاد في الترغيب بالرضا منهم باليسير بقوله تعالى: {مما رزقناكم} أي: بعظمتنا. قال الزمخشري: من في {مما رزقناكم} للتبعيض، والمراد الإنفاق(4/297)
الواجب ا. هـ. ثم قال تعالى محذراً من الاغترار بالتسويف في أوقات السلامة: {من قبل أن يأتي أحدكم الموت} أي: يرى دلائله وأماراته وكل لحظة مرّت فهي دلائله وأماراته. قال القرطبي: وهذا دليل على وجوب تعجيل إخراج الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلاً، أي: بلا عذر، وكذا سائر العبادات إذا دخل وقتها. وقال الرازي: وبالجملة فقوله تعالى: {لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} تنبيه على المحافظة على الذكر قبل الموت، وقوله تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم} تنبيه على الشكر كذلك.
ولما كانت الشدّة تقتضي الإقبال إلى الله تعالى سبب عن ذلك قوله تعالى: {فيقول} أي: سائلاً في الرجعة، وأشار إلى ترقيقها للقلوب بقوله: {رب لولا} أي: هلا ولم لا {أخرتني} أي: أخرت موتي إمهالاً {إلى أجل} أي: زمان، وقوله {قريب} بين به أن مراده استدراك ما فات ليس إلا، وقيل: لا زائدة ولو للتمني أي: لو أخرتني إلى أجل قريب {فأصدّق} أي: للتزوّد في سفري هذا الطويل الذي أنا مستقبله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت، فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل. وعنه: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها. وعنه: أنها نزلت في مانعي الزكاة، ووالله لو رأى خيراً ما سأل الرجعة، فقيل له: أما تتقي الله يسأل المؤمنون الكرّة، قال: نعم أنا أقرأ عليكم قرآناً يعني: أنها نزلت في المؤمنين، وهم المخاطبون بها. وكذا عن الحسن: ما من أحد لم يزك، ولم يصم، ولم يحج إلا سأل الرجعة. وقال الضحاك: لا ينزل بأحد لم يحج ولم يؤدّ الزكاة الموت إلا وسأل الرجعة، وعن عكرمة: نزلت في أهل القبلة.
وقيل: نزلت في المنافقين، ولهذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال هذه الآية تدل على أنّ القوم لم يكونوا من أهل التوحيد، لأنه لا يتمنى الرجوع إلى الدنيا والتأخير فيها أحد له عند الله تعالى خير في الآخرة، أي: إذا لم يكن بالصفة المتقدمة. قال القرطبي: إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل لما يرى من الكرامة. وقرأ {وأكون من الصالحين} أي: العريقين في هذا الوصف بالتدارك أبو عمرو بواو بعد الكاف ونصب النون عطفاً على فأصدّق، والباقون بحذف الواو لالتقاء الساكنين وجزم النون.
واختلفت عبارات الناس في ذلك، فقال الزمخشري: عطفاً على محل فأصدّق، كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن. وقال ابن عطية: عطفاً على الموضع لأنّ التقدير: إن أخرتني أصدّق وأكن، هذا مذهب أبي عليّ الفارسي. وقال القرطبي: عطفاً على موضع الفاء لأنّ قوله: {فأصدّق} لو لم تكن الفاء لكان مجزوماً، أي: أصدّق.
ثم زاد تعالى في الحث على المبادرة بالطاعات قبل الفوات بقوله تعالى مؤكداً لأجل عظم الرجاء من هذا المحتضر بالتأخير عاطفاً على ما، تقديره: فلا يؤخره الله فيفوته ما أراد:
{ولن يؤخر الله} أي: الملك الأعظم الذي لا كفء له فلا اعتراض عليه {نفساً} أيّ نفس كانت، وحقق الأجل بقوله تعالى: {إذا جاء أجلها} أي: وقت موتها الذي حدّه الله تعالى لها فلا يؤخر الله تعالى نفس هذا القائل، لأنها من جملة النفوس التي شملها النفي.
وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية بعد تحقيق الأولى، ولهما أيضاً إبدالها ألفاً، والباقون بتحقيقهما {والله} أي: الذي له الإحاطة الشاملة علماً وقدرة {خبير} أي:(4/298)
بالغ الخبرة والعلم ظاهراً وباطناً {بما تعملون} أي: توقعون عمله في الماضي والحال والمآل كله باطنه وظاهره.
وقرأ شعبة بالياء التحتية على الغيبة على الخبر عمن مات، وقال هذه المقالة، والباقون بالفوقية على الخطاب. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة المنافقين بريء من النفاق» حديث موضوع.
سورة التغابن
مدنية
في قول الأكثرين، وقال الضحاك: مكية، وقال الكلبي: مدنية ومكية. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن سورة التغابن نزلت بمكة إلا آيات من آخرها نزلت بالمدنية في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله عز وجلّ {يا أيها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم} إلى آخرها، وهي ثماني عشرة آية، ومائتان وإحدى وأربعون كلمة، وألف وسبعون حرفاً.
{بسم الله} مالك الملك فلا كفء له ولا مثيل {الرحمن} أي: الذي وسع الخلائق بره الجليل {الرحيم} الذي خص من عمه فوفقهم للجميل.
{يسبح} أي: يوقع التنزيه التامّ مع التجديد والاستمرار {لله} أي: الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال {ما في السموات} أي: كلها {وما في الأرض} كذلك، وقيل: اللام زائدة، أي: ينزه الله تعالى، قال الجلال المحلي: وأتى بما دون من تغليباً للأكثر {له} أي: وحده {الملك} أي: كله مطلقاً في الدنيا والآخرة {وله} أي: وحده {الحمد} أي: الإحاطة بأوصاف الكمال كلها، فلذلك نزهه جميع مخلوقاته وقدّم الظرفين ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله تعالى، وذلك بأنّ الملك على الحقيقة له، لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه، والقائم به والمهيمن عليه، وكذا الحمد لأنّ أصول النعم وفروعها منه وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء وحمده اعتداد بأنّ نعمة الله جرت على يده {وهو على كل شيء قدير}
{هو} أي: وحده {الذي خلقكم} أي: أنشأكم على ما أنتم عليه {فمنكم} أي: فتسبب عن خلقه لكم وتقديره {كافر} أي: عريق في صفة الكفر {ومنكم مؤمن} أي: راسخ في الإيمان في حكم الله تعالى في الأزل، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنّ الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في القيامة مؤمناً وكافراً.
وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئاً مما يكون فقال: تولد الناس على طبقات شتى، يولد الرجل مؤمناً ويعيش مؤمناً ويموت مؤمناً، ويولد الرجل كافراً ويعيش كافراً ويموت كافراً، ويولد الرجل كافراً ويعيش كافراً ويموت مؤمناً» ، أي: وسكت عن القسم الآخر، وهو أن يولد الرجل مؤمناً ويعيش مؤمناً ويموت كافراً اكتفاء بالمقابل، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «خلق الله تعالى فرعون في بطن أمّه كافراً، وخلق يحيى بن زكريا عليهما السلام في بطن أمّه مؤمناً وفي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: «وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل(4/299)
الجنة فيدخلها» وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة» قال القرطبي: قال علماؤنا: والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم فيجري ما علم وأراد وحكم، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال، وقد يريده إلى وقت معلوم، وكذلك الكفر.
وقيل: في الكلام محذوف، تقديره: فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه، قاله الحسن. وقال غيره: لا حذف لأنّ المقصود ذكر الطرفين، وقيل: إنه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا، والتقدير: هو الذي خلقكم، ثم وصفهم فقال: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} كقوله تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء} (النور: 45)
ثم قال تعالى: {فمنهم من يمشي على بطنه} (النور: 45)
الآية. قالوا: فإنه خلقهم والمشي فعلهم، وهذا اختيار الحسين بن الفضل، قال: لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله تعالى: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» قال البغوي: وروينا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع على الكفر» وقال تعالى: {ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} (نوح: 27)
وروى أنس رضى الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وكل الله بالرحم ملكاً، فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال: يا رب ذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، فما الرزق، فما الأجل، فيكتب ذلك في بطن أمه» وقال الضحاك: فمنكم كافر في السرّ مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في العلانية والسرّ، كعمار وزيد. وقال عطاء بن أبي رباح: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، يعني: في شأن الأنواء كما جاء في الحديث. قال القرطبي: وقال الزجاج: وهو أحسن الأقوال.
والذي عليه الأئمة أن الله خلق الكافر وكفره فعل له، وكسب واختيار، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له، وكسب واختيار وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته، فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان لأنّ الله تعالى أراد ذلك منه وقدّره عليه وعلمه منه، والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر لأنّ الله تعالى قدره عليه وعلمه منه، ولا يجوز أن يوجد من كل منهما غير الذي قدره عليه وعلمه منه، لأنّ وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل فلا يليقان بالله تعالى. قال البغوي: وهذا طريق أهل السنة، من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر.
قال الرازي: فإن قيل: إنه تعالى حكيم وقد سبق في علمه أنه تعالى إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر فأيّ حكمة دعت إلى خلقهم؟.
فالجواب: إذا علمنا أنه تعالى حكيم علمنا أنّ أفعاله كلها على وفق الحكمة فيكون خلقه تعالى هذه الطائفة على وفق الحكمة، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك، بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة {والله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {بما تعملون} أي: توقعون عمله كسباً {بصير} أي: بالغ العلم بذلك، فهو الذي خلق جميع أعمالكم التي نسب كسبها إليكم، وهو خالق جميع الاستعدادات والصفات كما خلق الذوات خلافاً للقدرية، لأنه لا يتصور أن يخلق(4/300)
الخالق ما لا يعلمه، ولو سئل الإنسان كم مشى في يومه من خطوة لم يدر فكيف لو سئل أين موضع مشيه، ومتى زمانه فكيف، وإنه ليمشي أكثر مشيه وهو غافل عنه، ومن جهل أفعاله كماً وكيفاً وأيناً وغير ذلك لم يكن خالقاً لها بوجه.
ولما ذكر المظروف ذكر ظرفه دالاً على تمام إحاطته بالبواطن والظواهر.
وقوله تعالى: {خلق السموات} أي: على علوها وكبرها {والأرض} على سعتها {بالحق} أي: بالأمر الذي يطابقه الواقع لما أراد {وصورّكم} أي: آدم عليه السلام خلقه بيده كرامة له. قال مقاتل: وقيل: جميع الخلائق على صور لا توافق شيئاً من صور العلويات، ولا السفليات، ولا فيها صور توافق الأخرى من كل وجه {فأحسن صوركم} فجعلها أحسن الحيوانات كلها كما هو مشاهد، وبدليل أن الإنسان لا يتمنى أن يكون على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومن حسن صورته أن خلقه منتصباً غير منكب كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (التين: 4)
كما يأتى إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: قد يوجد في أفراد هذا النوع من كل مشوه الخلقة سمج الصورة.
أجيب: بأنه لا سماجة لأن الحسن في المعاني، وهو على طبقات ومراتب، فانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقه لا يمنع حسنه، فهو داخل في حيز الحسن غير خارج عن حدّه، فقبح القبيح منه إنما هو بالنسبة إلى أحسن منه. ولذا قال الحكماء: شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان، فقدرة الله سبحانه وتعالى لا تتناهى.
قال البقاعي: فإياك أن تصغي لما وقع في كتب الغزالي إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، فإن ذلك ينحل إلى أنه سبحانه لا يقدر أن يخلق أحسن من هذا العالم، وهذا لا يقوله أحد، ا. هـ. وهو لا ينقص مقدار الغزالي فإن كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه كما قال الإمام مالك، وعزاه الغزالي نفسه إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الشافعي: صنفت هذه الكتب وما ألوت فيها جهداً وإني لا علم أن فيها الخطأ لأن الله تعالى يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا} (النساء: 82)
ولما كان التقدير فكان منه سبحانه المبدأ عطف عليه قوله تعالى: {وإليه} وحده {المصير} أي: المرجع بعد البعث فيجازى كلاً بعمله.
{يعلم} أي: علمه حاصل في الماضي والحال والمآل {ما} أي: كل شئ {في السماوات} أي: كلها {والأرض} كذلك {ويعلم} أي: على سبيل الاستمرار {ما تسرون} أي: تخفون {وما تعلنون} أي: تظهرون من الكلمات والجزئيات {والله} أي: الذي له الإحاطة التامة {عليم} أي: بالغ العلم {بذات} أي: صاحبة {الصدور} من الأسرار والخواطر التي لم تبرز في الخارج سواء كان صاحب الصدر قد علمها أم لا، وعلمه لكل ذلك على حد سواء لا تفاوت فيه بين علم الخفي وعلم الجلي نبه بعمله ما في السماوات والأرض، ثم يعلم ما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور إن شيئاً من الجزئيات والكليات غير خافٍ عليه، ولا عازب عنه، ولا يجترىء على شيء مما يخالف رضاه، وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد، وكل ما ذكره بعد قوله: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} كما ترى في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته.
{ألم يأتكم} أيها الناس ولا سيما الكفار {نبأ} أي: خبر {الذين كفروا من قبل} كقوم نوح وهود وصالح {فذاقوا} أي: باشروا مباشرة الذائق {وبال أمرهم} أي: ضرر كفرهم في الدنيا، وأصله الثقل، ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل: المطر الثقيل القطر {ولهم عذاب أليم}(4/301)
أي: مؤلم في البرزخ ثم يوم القيامة التي هي موضع الفصل الأعظم.
{ذلك} أي: الأمر العظيم من الوبال الدال قطعاً على أن الكفر أبطل الباطل وأنه مما يغضب الخالق {بأنه} أي: بسبب أن الشان العظيم البالغ في الفظاعة {كانت تأتيهم} على عادة مستمرة {رسلهم} أي: رسل الله الذين أرسلهم إليهم {بالبينات} أي: الحجج الظاهرات على الإيمان {فقالوا} أي: الكل لرسلهم منكرين غاية الإنكار تكبراً، وقولهم: {أبشر يهدوننا} يجوز أن يرتفع بشر على الفاعلية ويكون من الاشتغال، وهو الأرجح لأن الأداة تطلب الفعل، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبر، وجمع الضمير في يهدوننا؛ إذ البشر اسم جنس، وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع فيكون اسماً للجنس، وقد يأتي الجمع بمعنى الواحد كقوله تعالى: {ما هذا بشراً} (يوسف: 31)
فأنكروا على الملك الأعظم إرساله لهم {فكفروا} أي: بهذا القول؛ إذ قالوه استصغاراً ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده {وتولوا} عن الإيمان.
فإن قيل: قوله تعالى: {فكفروا} تعميم يفهم منه التولي فما الحاجة إلى ذكره؟ أجيب: بأنهم كفروا وقالوا: {أبشر يهدوننا} وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية، وهذا هو التولي فكأنهم كفروا وقالوا قولاً يدل على التولي، فلهذا قال: {فكفروا وتولوا} ، وقيل: كفروا بالرسل وتولوا بالبرهان، وأعرضوا عن الإيمان والموعظة.
ونبه بقوله تعالى: {واستغنى الله} أي: الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه على أن هذا إنما هو لمصالح الخلق فهو غني عن كل شيء.
فإن قيل: قوله تعالى: {وتولوا واستغنى الله} يوهم وجود التولي والاستغناء معاً، والله تعالى لم يزل غنياً؟ أجيب: بأن معناه وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك {والله} أي: المستجمع الصفات الكمال {غني} عن خلقه {حميد} أي: محمود في أفعاله.
{زعم الذين كفروا} أي: أوقعوا الستر لما دلت عليه العقول من وحدانية الله تعالى، ولو على أدنى الوجوب. وزعم قال ابن عربي: كنية الكذب، وقال الزمخشري: الزعم ادعاء العلم، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «زعموا مطية الكذب» وعن شريح: لكل شيء كنية، وكنية الكذب زعموا. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أبي داود: «بئس مطية الرجال زعموا» {أن لن يبعثوا} أي: من أي باعث ما بوجه من الوجوه {قل} أي: يا أشرف الرسل لهؤلاء البعداء {بلى} أي: لتبعثن ثم أكد بصريح القسم فقال: {وربي} أي: المحسن إلي بالانتقام ممن كذب بي {لتبعثنّ} أي: بأهون شيء وأيسر أمر {ثم لتنبؤن} أي: تخبرنّ إخباراً عظيماً ممن يقيمه الله تعالى لإخباركم {بما عملتم} أي: بأعمالكم لتجزون عليها {وذلك} أي: الأمر العظيم عندكم من البعث والحساب {على الله} أي: المحيط بصفات الكمال وحده {يسير} إذ الإعادة أسهل من الابتداء.
فإن قيل: كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث، وهم قد أنكروا الرسالة؟.
أجيب: بأنهم أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقاداً جازماً فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون الإخبار عنده صدقاً أظهر من الشمس في اعتقاده، ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسماً بعد قسم.
ثم إن الله تعالى لما أخبر عن البعث، والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان قال تعالى:
{فآمنوا بالله} أي: الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء {ورسوله} أي: كل من أرسله ولا سيما محمداً صلى الله عليه وسلم {والنور} أي: القرآن {الذي أنزلنا}(4/302)
أي: بما لنا من العظمة؛ لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلالة كما يهتدى بالنور في الظلمات.
فإن قيل: هلا قيل: ونوره، بالإضافة كما قال: ورسوله؟ أجيب بأن الألف واللام في النور بمعنى الإضافة فكأنه قال: ورسوله ونوره {والله} أي: المحيط علماً وقدرة {بما تعملون خبير} أي: بالغ العلم بما تسرون وما تعلنون فراقبوه في السر والعلانية.
وقوله تعالى: {يوم يجمعكم} منصوب بقوله تعالى: {لتنبئون} عند النحاس و {بخبير} عند الحوفي لما فيه من معنى الوعيد كأنه قال: والله يعاقبكم يوم يجمعكم، وباذكر مضمراً عند الزمخشري فيكون مفعولاً به، أو بما دلّ عليه الكلام، أي: تتفاوتون يوم يجمعكم؛ قاله أبو البقاء {ليوم الجمع} أي: لأجل ما يقع في ذلك اليوم، وهو يوم القيامة الذي يجمع الله تعالى فيه الأولين والآخرين من الإنس والجن وجميع أهل السماء والأرض.
وقيل: يوم يجمع الله بين كل عبد وعمله، وقيل: يجمع فيه بين الظالم والمظلوم، وقيل: يجمع فيه بين كل نبي وأمّته، وقيل: يجمع فيه ثواب أهل الطاعة وعقاب أهل المعاصي، بل هو جامع لجميع ما ذكر {ذلك} أي: اليوم العظيم {يوم التغابن} والتغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء، وفيه تهكم بالأشقياء؛ لأن نزولهم ليس بغبن. ولهذا قيل: التفاعل هنا من واحد لا من اثنين، وفي الحديث «ما من عبد أدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرةً» وهو معنى {ذلك يوم التغابن} وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم استعظاماً له وإن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت.
وذكر في بعض التفاسير أن التغابن هو أن يكتسب الرجل مالاً من غير وجهه ليرثه غيره فيعمل فيه بطاعة الله فيدخل الأول النار والثاني الجنة بذلك المال، فذلك هو الغبن البين، والمغابن ما انثنى من البدن نحو الإبطين والفخذين، والمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة، ويظهر يومئذ غبن كل كافر بتركه الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وبصنيعه في الآثام.
قال الزجاج: ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة بالنسبة إلى من هو أعلى منزلة منه. فإن قيل: فأي معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها؟ أجيب: بأنه تمثيل للغبن في الشراء والبيع كقوله تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم} (البقرة: 16)
فلما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا، ذكر أيضاً أنهم غبنوا وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة، وهذا نوع مبادلة اتساعاً ومجازاً.
وقد فرق الله تعالى الخلق فريقين فريقاً للجنة وفريقاً للنار، وقال الحسن وقتادة: بلغنا أن التغابن على ثلاثة أصناف: رجل علم علماً فضيعه ولم يعمل به فشقي به، ورجل علم علماً وعمل به فنجا به، ورجل اكتسب مالاً من وجوه يسأل عنها وشح عليه وفرط في طاعة ربه بسببه ولم يعمل فيه خيراً، وتركه لوارث لا حساب عليه، فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه، ورجل كان له عبد فعمل ذلك العبد بطاعة ربه فسعد، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي. وروى القرطبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة(4/303)
بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولاً: ما أنتما قائلان؟ فيقول الرجل: يا رب أوجبت نفقتها علي فنفقتها من حرام ومن حلال، وهؤلاء الخصوم يطلبون ذلك، ولم يبق لي ما أوفي، فتقول المرأة: يا رب وما عسى أن يقول اكتسبه حراماً وأكلته حلالاً، وعصاك في مرضاتي ولم أرض له بذلك فبعداً له وسحقاً، فيقول الله تعالى: قد صدقت فيؤمر به إلى النار ويؤمر بها إلى الجنة، فتطلع عليه من طبقات الجنة فتقول له: غبناك غبناك سعدنا بما شقيت أنت به، فذلك يوم التغابن» .
وقال بعض علماء الصوفية: إن الله تعالى كتب الغبن على الخلق أجمعين فلا يلقى أحد ربه إلا مغبوناً، لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب قال صلى الله عليه وسلم «لا يلقى الله أحد إلا نادماً إن كان مسيئاً إن لم يحسن، وإن كان محسناً إن لم يزدد» .
تنبيه:: استدل بعض العلماء بقوله تعالى: {ذلك يوم التغابن} أنه لا يجوز الغبن في المعاملات الدنيوية لأن الله تعالى خص التغابن بيوم القيامة فقال تعالى: {ذلك يوم التغابن} وهذا الاختصاص يفيد أن لاغبن في الدنيا، فكل من اطلع على غبن في مبيع فإنه مردود إذا زاد على الثلث، واختاره البغداديون واحتجوا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم لحسان بن سعد: «إذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثاً» ولأن الغبن في الدنيا ممنوع منه بالإجماع في حكم الدين إذ هو من باب الخداع المحرم شرعاً في كل ملة لكن اليسير منه لا يمكن الاحتراز عنه، فمضى في البيوع إذ لو حكمنا برده ما نفذ بيع أبداً لأنه لا يخلو منه، فإذا كان كثيراً أمكن الاحتراز عنه فوجب الرد به.
والفرق بين القليل والكثير في الشريعة غير معلوم فقدر بالثلث، وهذا الحد اعتبره الشارع في الوصية وغيرها، ويكون معنى الآية على هذا يوم التغابن الجائز مطلقاً من غير تفصيل، وذلك يوم التغابن الذي لا يستدرك أبداً {ومن يؤمن} أي: يوقع الإيمان ويجدده على سبيل الاستمرار {بالله} أي: الملك الأعظم الذي لا كفء له {ويعمل} تصديقاً لإيمانه {صالحاً} أي: عملاً هو مما ينبغي الاهتمام بتحصيله لأنه لا مثل له في جلب المصالح ودفع المضار {يكفر عنه سيئاته} التي غلبه عليها نقصان الطبع واتبع ذلك الحامل الآخر، وهو التوجيه بجلب المسار لأن الإنسان يطير إلى ربه سبحانه بجناحي الخوف والرجاء، والرهبة والرغبة، والنذارة والبشارة {ويدخله} أي: رحمة له وإكراماً وفضلاً {جنات} أي: بساتين ذات أشجار عظيمة وأغصان ظليلة تستر داخلها ورياض مديدة متنوعة الأزاهير عطرة النشر بهيج ريها، وأشار إلى دوام ريها بقوله تعالى: {تجري من تحتها} أي: من تحت قصورها وأشجارها {الأنهار} وقرأ نكفر عنه وندخله، نافع وابن عامر بالنون فيهما، أي: نحن بما لنا من العظمة، والباقون بالياء التحتية، أي: الله الواحد القهار {خالدين} أي: مقدرين الخلود {فيها} وأكده بقوله: {أبداً} فلا خروج لهم منها {ذلك} أي: الأمر العالي جداً من الغفران والإكرام {الفوز العظيم} لأنه جامع لجميع المصالح ودفع المضار وجلب المسار، ومن جملة ذلك النظر إلى وجه الله الكريم.
ولما ذكر تعالى الفائز بلزومه التقوى ترغيباً اتبعه بضده ترهيباً فقال عز من قائل: {والذين كفروا} أي: غطوا أدلة ذلك اليوم فكانوا في الظلام {وكذبوا} أي: أوقعوا جميع التغطية وجميع التكذيب {بآياتنا} أي: بسببها مع مالها من العظمة بإضافتها إلينا وهي القرآن(4/304)
فلم يعملوا به {أولئك} أي: البعداء البغضاء {أصحاب النار خالدين} أي: مقدرين الخلود {فيها وبئس المصير} هي، قال الرازي: فإن قيل: قال تعالى في حق المؤمنين {ومن يؤمن بالله} بلفظ المستقبل، وفي الكفار قال: {والذين كفروا} بلفظ الماضي.
فالجواب: أن تقدير الكلام: ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا يدخله جنات، ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار.
فإن قيل: قال تعالى: {يؤمن} بلفظ الوحدان و {خالدين فيها} بلفظ الجمع. أجيب: بأن ذلك بحسب اللفظ، وهذا بحسب المعنى.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: {وبئس المصير} بعد قوله تعالى: {خالدين فيها} وذلك بئس المصير؟ أجيب: بأن ذلك وإن كان في معناه فهو تصريح بما يؤكده كما في قوله: {أبداً} .
{ما أصاب} أحداً {من مصيبة} أيّ مصيبة كانت دينية أو دنيوية في نفس أو مال أو قول أو فعل تقتضي هماً، أو توجب عقاباً آجلاً أو عاجلاً {إلا بإذن الله} أي: بتقدير الملك الأعظم. وقال الفراء: يريد إلا بأمر الله. وقيل: إلا بعلم الله، وقيل: سبب نزول هذه الآية أن الكفار قالوا: لو كان ما عليه المسلمون حقاً لصانهم الله تعالى عن المصائب في الدنيا، فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة إلا بقضائه وقدره.
فإن قيل: بم يتصل قوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله} ؟ أجيب: بأنه يتعلق بقوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله} .
{ومن يؤمن بالله} يصدق بأنه لا تصيبه مصيبة إلا بقضاء الله الملك الأعظم وتقديره وإذنه {يهد قلبه} قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو أن يجعل في قلبه اليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، أي: فيسلم لقضاء الله وقدره. وقال الكلبي: هو إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر.
وقيل: يهد قلبه إلى نيل الثواب في الجنة، وقيل: يثبته على الإيمان. وقال أبو عثمان الحيري: من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة. وقيل: يهد قلبه عند المصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قاله ابن جبير. {والله} أي: الملك الذي لا نظير له {بكل شيء} مطلقاً من غير استثناء {عليم} فلا يخفى عليه تسليم من انقاد لأمره، فإذا تحقق من هدى قلبه ذلك زاح عنه كل اعتقاد باطل من كفر أو بدعة أو صفة خبيثة.
{وأطيعوا الله} أي: الملك الأعلى الذي له الأمر كله {وأطيعوا الرسول} أي: هونوا على أنفسكم المصائب واشتغلوا بطاعة الله تعالى، واعملوا بكتابه وأطيعوا الرسول في العمل بسنته {فإن توليتم} أي: عن الطاعة {فإنما على رسولنا} أضافه إليه على وجه الكمال تعظيماً له وتهديداً لمن يتولى عنه {البلاغ المبين} أي: الظاهر في نفسه المظهر لكل أحد أنه أوضح له غاية الإيضاح، ولم يدع لبساً، وليس إليه خلق الهداية في القلوب.
{الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {لا إله إلا هو} فهو القادر على خلق الهداية في القلوب والإقبال بها لا يقدر على ذلك غيره {وعلى الله} أي: الذي له الأمر لا على غيره {فليتوكل المؤمنون} أي: لأن إيمانهم بأن الكل منه يقتضي ذلك. وقال الزمخشري: هذا بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم على التوكل عليه، والتقوى به في أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم} أي: وإن أظهرن غاية المودة {وأولادكم} أي: وإن أظهروا غاية الشفقة {عدواً لكم} فقال ابن عباس: نزلت بالمدينة في عوف بن مالك(4/305)
الأشجعي شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده فنزلت ذكره النحاس، وحكاه الطبري عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة التغابن كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم} فإنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوه ورققوه، وقالوا: إلى من تدعنا فيرق فيقيم، فنزلت هذه الآية إلى آخر السورة بالمدينة.
وروى الترمذي عن ابن عباس وسئل عن هذه الآية قال: هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد تفقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، حديث حسن صحيح.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان قعد لابن آدم في طرق الإيمان فقال له: أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك فخالفه فآمن، ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له: أتهاجر وتترك أهلك ومالك فخالفه فهاجر، ثم قعد له على طريق الجهاد فقال له: أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة» .
وقعود الشيطان يكون بوجهين: أحدهما: يكون بالوسوسة، والثاني: أن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب قال تعالى: {وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم} (فصلت: 25)
وفي حكمة عيسى عليه الصلاة والسلام: من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان في الدنيا عبداً. وقال عليه الصلاة والسلام: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة» ولا دناءة أعظم من دناءة الدينار والدرهم، ولا أخس من همة ترتفع بثوب جديد ويدخل في قوله تعالى: {إن من أزواجكم} الذكر والأنثى، فكما أن الرجل تكون زوجته عدواً له كذلك المرأة يكون زوجها عدواً لها بهذا المعنى {فاحذروهم} أي: أن تطيعوهم في التخلف عن الخير، ولا تأمنوا غوائلهم {وإن تعفوا} أي: توقعوا المجاوزة عن ذنوبهم بعدم العقاب عليها فإنه لا فائدة في ذلك، فإن من طبع على شيء لا يرجع عنه وإنما النافع الحذر الذي أرشد إليه تعالى لئلا يكون سبباً للذم المنهي عنه {وتصفحوا} أي: بالإعراض عن المقابلة بالتثريب باللسان {وتغفروا} أي: بأن تستروا ذنوبهم ستراً تاماً شاملاً للعين والأثر بالتجاوز {فإن الله} أي: الجامع لصفات الكمال {غفور} أي: بالغ المحو لأعيان الذنوب وآثارها جزاء لكم على غفرانكم لهم، وهو جدير بأن يصلحهم لكم بسبب غفرانكم {رحيم} فيكرمكم بعد ذلك الستر بالإنعام فتخلقوا بأخلاقه تعالى يزدكم من فضله.
{إنما أموالكم} أي: عامة {وأولادكم} كذلك {فتنة} أي: اختبار من الله تعالى لكم، وهو أعلم بما في نفوسكم منكم لكي ليظهر في عالم الشهادة من يميله ذلك فيكون عليه نقمة ممن لا يميله فيكون عليه نعمة، فربما رام الإنسان صلاح ماله وولده فبالغ فأفسد نفسه، ثم لا يصلح ذلك ماله ولا ولده. روى أبو نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري رضي الله عنه أنه قال: يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته. وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات ويكفي في فتنة لمال قصة ثعلبة بن حاطب أحد من نزل فيه قوله تعالى: {ومنهم من عاهد الله} (التوبة: 75)
وعن ابن(4/306)
مسعود: لا يقولن أحدكم اللهم اعصمني من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال ولا ولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل اللهم أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال الحسن في قوله تعالى: {إن من أزواجكم وأولادكم} أدخل من للتبعيض لأنهم كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر في قوله تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما.
روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله عز وجل {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» ثم أخذ في خطبته. /
تنبيه:: قدم الأموال على الأولاد لأن فتنة المال أكثر، وترك ذكر الأزواج في الفتنة قال البقاعي: لأن منهن من يكون صلاحاً وعوناً على الآخرة {والله} أي: ذو الجلال {عنده} وناهيك بما يكون منه بسبيل جلاله وعظمته {أجر} ثم وصفه بقوله تعالى: {عظيم} أي: لمن ائتمر بأوامره التي أمره بها.
وقوله تعالى: {فاتقوا الله} أي: الملك الأعلى {مااستطعتم} أي: جهدكم ووسعكم ناسخ لقوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} (آل عمران: 102)
قاله قتادة والربيع بن أنس السدي، وذكر الطبري عن ابن زيد في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته} قال جاء أمر شديد قال: ومن يعرف قدر هذا ويبلغه، فلما علم الله تعالى أنه قد اشتد عليهم نسخه عنهم، وجاء بهذه الآية الأخرى فقال {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال ابن عباس: وهي محكمة لا نسخ فيها، ولكن {حق تقاته} أن يجاهدوا فيه حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
فإن قيل: إذا كانت الآية غير منسوخة فكيف الجمع بين الآيتين، وما وجه الأمر باتقائه حق تقاته مطلقاً من غير تخصيص ولا مشروطاً بشرط، والأمر باتقائه بشرط الاستطاعة؟ أجيب: بأن قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} معناه: فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جعله فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم وتصدكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فتتركوا الهجرة وأنتم مستطيعون، وذلك أن الله تعالى قد عذر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} إلى قوله تعالى: {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم} (النساء: 99)
فأخبر تعالى أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً بالإقامة في دار الشرك، فكذلك معنى قوله تعالى: {ما استطعتم} في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها فتنة أموالكم وأولادكم، ويدل على صحة هذا أن قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} عقب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم} ولا خلاف بين علماء التأويل في أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك كما تقدم، وهذا اختيار الطبري.
وقال ابن جبير: قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} أي: فيما يتطوع به من نافلة أو صدقة، فإنه لما نزل(4/307)
قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} اشتدت على القوم فقاموا حتى ورمت وقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفاً فيهم {فاتقوا الله ما استطعتم} فنسخت الأولى.
قال الماوردي: ويحتمل أن يثبت هذا النقل لأن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها، لأنه لا يستطيع اتقاءها {واسمعوا} أي: سماع إذعان وتسليم لما توعظون به وجميع أوامره {وأطيعوا} أي: وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة وحذف المتعلق ليصدق الأمر بكل طاعة {وأنفقوا} أي: أوقعوا الإنفاق كما حد لكم فيما وجب أو ندب إليه، والإنفاق لا يخص نوعاً بل يكون بكل ما رزق الله من الذاتي والخارجي. وقوله تعالى: {خيراً لأنفسكم} في نصبه أوجه: أحدها: قال سيبويه إنه مفعول بفعل مقدر دل عليه {وأنفقوا} تقديره: وقدموا خيراً لأنفسكم كقوله تعالى: {انتهوا خيراً لكم} (النساء: 171)
الثاني: تقديره يكن الإنفاق خيراً فهو خبر كان المضمرة، وهو قول أبي عبيدة. الثالث: أنه نعت مصدر محذوف، وهو قول الكسائي والفراء، أي: إنفاقاً خيراً لأنفسكم فإن الله يعطي خيراً منه في الدنيا مع ما تزكى به النفس ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة مما لا يدري كنهه فلا يغرنكم عاجل شيء من ذلك فإنما هو زخرف.
ولما ذكر ما في الإنفاق من الخير عمم في جميع الأوامر بقوله تعالى: {ومن يوق شح نفسه} فيفعل في ماله جميع ما أمر به موقناً به مطمئناً إليه حتى يرتفع عن قلبه الإخطار، ويتحرر عن رق المكنونات، والشح خلق باطنى هو الداء العضال، والبخل فعل ظاهر ينشأ عن الشح، والنفس تارة تشح بترك الشهوة من المعاصي فتفعلها، وتارة بإعطاء الأعضاء في الطاعات فتتركها وتارة بإنفاق المال ومن فعل ما فرض عليه خرج من الشح. ولما كان الواقي هو الله تعالى سبب عن وقايته قوله تعالى: {فأولئك} أي: العالو الرتبة {هم المفلحون} أي: الفائزون الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه.
ثم رغب في الإنفاق بقوله تعالى: {إن تقرضوا الله} أي: الملك الأعلى ذا الغنى المطلق الحائز لجميع صفات الكمال {قرضاً حسناً} والقرض الحسن هو التصدق من الحلال مع طيب النفس ومع الإخلاص والمبادرة {يضاعفه لكم} أي: لأجلكم خاصة أقل ما يكون بالواحد عشراً إلى ما لا يتناهى على حسب النيات.
قال القشيري: يتوجه الخطاب بهذا على الأغنياء في بذل أموالهم، وعلى الفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم من مروآتهم وإيثار مراد الحق على مراد أنفسهم، فالغني يقال له آثر حكمي على مرادك في مالك وغيره، والفقير يقال له: آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك.
ولما كان الإنسان لما له من النقصان وإن اجتهد لا يبلغ جميع ما أمر به لأن الدين وإن كان يسيراً فهو متين لن يشاده أحد إلا غلبه قال تعالى: {ويغفر لكم} أي: يوقع الغفران وهو محو ما فرط عينه وأثره {والله} أي: الذي لا تقاس عظمته بشيء {شكور} أي: بليغ الشكر لمن يعطي لأجله، ولو كان قليلاً فيثيبه ثواباً جزيلاً خارجاً عن الحصر، وهو ناظر إلى المضاعفة {حليم} فلا يعجل بالعقوبة على ذنب من الذنوب، وإن عظم بل يمهل طويلاً ليتذكر العبد الإحسان مع العصيان فيتوب، ولا يهمل ولا يغتر بحلمه فإن غضب الحليم لا يطاق، وهو(4/308)
راجع إلى الغفران.
{عالم الغيب} وهو ما غاب عن الخلق كلهم فيشمل ما هو داخل القلب مما تؤثره الجبلة، ولا علم لصاحب القلب به فضلاً عن غيره {والشهادة} وهو كل ما ظهر وكان بحيث يعلمه الخلق، وهذا الوصف داع إلى الإحسان من حيث إنه موجب للمؤمن ترك ظاهر الإثم وباطنه، وكل قصور وفتور وغفلة وتهاون فيعبد الله تعالى كأنه يراه {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: بالغ الحكمة التي يعجز عن إدراكها الخلائق.
وقال ابن الأنباري: الحكيم: هو المحكم لخلق الأشياء، فصرف عن مفعل إلى فعيل، ومنه قوله تعالى: {الم تلك آيات الكتاب الحكيم} (لقمان: 1 ـ 2)
معناه: المحكم فصرف من مفعل إلى فعيل، وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال «من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة» حديث موضوع.
سورة الطلاق
مدنية وهي إحدى عشرة آية، وقيل: اثنتا عشرة آية، وقيل: ثلاث عشرةآية ومائتان وتسع وأربعون كلمة، وألف وستون حرفاً
{بسم الله} الذي له جميع صفات الكمال {الرحمن} الذي عم برحمته والنوال {الرحيم} الذي خص بتمام النعمة ذوي الهمم العوال
وقرأ: {يا أيها النبي} نافع بالهمزة وسهل الهمزة من إذا وأبدلها أيضاً واواً. خصه صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمته واعتباراً لرآسته، وإنه لسان قومه والذي يصدرون عن رأيه، ولا يستبدون بأمر دونه فكان هو وحده في حكم كلهم وساداً مسد جميعهم.
وقيل: إنه على إضمار قول، أي يا أيها النبي قل لأمتك {إذا طلقتم النساء} أي: أردتم طلاق هذا النوع واحدة منهن فأكثر. وقيل: إنه خطاب له ولأمته، والتقدير: يا أيها النبي وأمته فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه كقوله: إذا حذفته رجلها، أي: ويدها، وكقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحر} (النحل: 81)
وقيل: إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خوطب بلفظ الجمع تعظيماً له كقوله:
*فإن شئت أحرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولابرداً*
قال الرازي: وجه تعلق أول هذه السورة بآخر التي قبلها، هو أنه تعالى أشار في آخر التي قبلها إلى كمال علمه بقوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة} وفي أول هذه السورة إشارة إلى كمال علمه بمصالح النساء والأحكام المخصوصة بطلاقهن، فكأنه بين ذلك الكلي بهذه الجزئيات.
وروى ابن ماجه عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها، وعن أنس قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} وقيل له: راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من أزواجك في الجنة، ذكره الماوردي، والقشيري. وزاد القشيري ونزل خروجها إلى أهلها قوله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن} .
وقال الكلبي: سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى الله عليه(4/309)
وسلم على حفصة لما أسر إليها حديثاً فأظهرته لعائشة، فطلقها تطليقة فنزلت. وقال السدي: نزلت في عبد الله بن عمر «طلق امرأته حائضاً تطليقة واحدة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر فإن شاء أمسكها وإن شاء طلقها قبل أن يجامع فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» . وهو قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} أي: في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة، وقد قيل: إن رجالاً فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمر بن سعيد بن العاص، وعتبة بن غزوان فنزلت الآية فيهم. وروى الدراقطني عن ابن عباس أنه قال: «الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلالان، ووجهان حرامان.
فأما الحلال فأن يطلقها طاهراً عن غير جماع، وأن يطلقها حاملاً مستبيناً حملها.
وأما الحرام فأن يطلقها حائضاً، أو أن يطلقها حين يجامعها لا يدري اشتمل الرحم على ولد أم لا» .
تنبيه: الطلاق ينقسم إلى سني وبدعي ولا ولا، فطلاق موطوأة ولو في دبر تعتد بإقراء سني إن ابتدأتها الإقراء عقب الطلاق، ولم يطأها في طهر طلقها فيه أو علق طلاقها بمضي بعضه، ولا وطئها في نحو حيض قبله، ولا في حيض طلق مع آخره أو علق بآخره وذلك لاستعقابه الشروع في العدة وعدم الندم فيمن ذكرت، وإلا فبدعي وإن سألته طلاقاً بلا عوض وطلاق غير الموطوأة المذكورة بأن لم توطأ أو كانت صغيرة أو آيسة أو حاملاً منه وخلع زوجته في زمن حيض بعوض لا سني ولا بدعي، والبدعي حرام للنهي عنه.
وقسم جماعة الطلاق إلى واجب كطلاق المولى، أي: واجب مخير إن لم يكن عذر، ومعين إن كان عذر شرعي كالإحرام، ومندوب كطلاق غير مستقيمة الحال كسيئة الخلق، ومكروه كمستقيمة الحال، وحرام كطلاق البدعة. وأشار الإمام إلى المباح بطلاق من لا يهواها، ولا تسمح نفسه بمؤنتها من غير تمتع بها، وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق» وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الطلاق يهتز منه العرش» وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا معاذ ماخلق الله تعالى شيئاً على وجه الأرض أحب إليه من العتاق، ولا خلق الله تعالى شيئاً أبغض إليه من الطلاق» وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق» واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق، فقالت طائفة بجوازه، وهو مروي عن طاووس، وبه قال حماد الكوفي، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقال مالك والأوزاعي: لا يجوز الاستثناء في الطلاق والعتق. وقال قتادة: لا يجوز الاستثناء في الطلاق خاصة. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.
ولما كان نظر الشارع إلى العدة شديداً صرح بصيغة الأمر فقال تعالى: {وأحصوا} أي: اضبطوا ضبطاً كأنه في إتقانه محسوس {العدة} ليعرف زمان الرجعة والنفقة والسكنى، وحل النكاح لأخت المطلقة مثلاً ونحو ذلك من الفوائد الجليلة {واتقوا} أي: في ذلك {الله} أي: الملك الأعظم الذي له الخلق والأمر {ربكم} أي: لإحسانه في تربيتكم في حملكم علي الحنيفية السمحة ورفع جميع الآصار عنكم {لا تخرجوهن} أي: أيها الرجال(4/310)
في حال العدة {من بيتوهن} أي: المسكن التي وقع الفراق فيها، وهي مساكنهن التي يسكنها قبل العدة، وهي بيوت الأزواج، وأضيفت إليهن لاختصاصها بهن من حيث السكنى.
وقرأ ورش وأبو عمر وحفص بضم الباء الموحدة، والباقون بكسرها {ولا يخرجن} أي: من بيتوهن حتى تنقضي عدتهن ولو وافق الزوج على ذلك، وعلى الحاكم المنع منه لأن في العدة حقاً لله تعالى، وقد وجبت في ذلك المسكن. وقوله تعالى: {إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} مستثنى من الأول، والمعنى إلا أن تبدو على الزوج فإنه كالنشوز في إسقاط حقها.
وقال ابن عباس: الفاحشة المبينة أن تبدو على أهل زوجها فيحل إخراجها لسوء خلقها وقال ابن مسعود: أراد بالفاحشة المبينة أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها، ثم ترد إلى منزلها. وقال قتادة: الفاحشة النشوز، وذلك أن يطلقها على النشوز فتحوّل عن بيته. ويجوز أن يكون مستثنى من الثاني للمبالغة في النهي والدلالة على أن خروجها فاحشة هذا كله عند عدم العذر، أما لعذر كشراء غير من لها نفقة على المفارق نحو طعام كقطن وكتان نهاراً، وغزلها ونحوه كحديثها وتأنيسها عند جارتها ليلاً وترجع وتبيت ببيتها، فإنه جائز للحاجة إلى ذلك، وكخوف على نفس أو مال من نحو هدم وغرق وفسقة مجاورين لها وشدة تأذيها بجيران وشدة تأذيهم بها للحاجة إلى ذلك، بخلاف الأذى اليسير إذ لا يخلو منه أحد ومن الجيران الإحماء وهم أقارب الزوج، نعم إن اشتد أذاها بهم أو عكسه وكانت الدار ضيقة نقلهم الزوج عنها وخرج بالجيران ما لو طلبت بيت أبويها وتأذت بهما أو هما بها فلا نقل، لأن الوحشة لا تطول بينهما، ولو انتقلت لبلد أو مسكن بإذن زوجها فوجبت العدة، ولو قبل وصولها إليه اعتدت فيه لأنها مأمورة بالمقام فيه، فإن انتقلت لذلك بلا إذن فتعتد في الأول وإن وجبت العدة بعد وصولها للثاني لعصيانها بذلك. نعم إن أذن لها بعد انتقالها أن تقيم في الثاني فكما لو انتقلت بالإذن.
ولو أذن لها في الانتقال فوجبت العدة قبل خروجها اعتدت في الأول. ولو سافرت بإذن زوجها فوجبت في الطريق فعودها أولى من مضيها، فإن مضت وجب عودها بعد انقضاء حاجتها إن سافرت لها، أو بعد انقضاء مدة الأذن إن قدر لها مدة، أو مدة إقامة المسافر إن لم تقدر لها مدة في سفر غير حاجتها.
ولو خرجت فطلقها وقال: ما أذنت في الخروج، أو قال ـ وقد قالت: أذنت في نقلتي: أذنت لا لنقله، صدق بيمينه، ولو كان المسكن ملكاً له ويليق بها تعين؛ لأن تعتد فيه كما مر ويصح بيعه في عدة أشهر كالمكتري، أو كان مستعاراً، أو مكري وانقضت مدة الكراء انتقلت منه إن امتنع المالك، وإن كان ملكاً لها تخيرت بين الاستمرار فيه بإعارة أو إجارة والانتقال منه كما لو كان المسكن خسيساً، ويخير هو إن كان نفيساً وسكنى المعتدة عن فرقة واجب على الزوج حيث تجب نفقتها عليه لو لم تفارق، سواء أكانت الفرقة بطلاق أو فسخ أو وفاة لقوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم} (الطلاق: 6)
وقيس به الفسخ بأنواعه بجامع فرقة النكاح في الحياة، ولخبر فريعة بنت مالك في الوفاة: «أن زوجها قتل فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أن ترجع إلى أهلها، وقالت: إن زوجي لم يتركني في منزل يملكه، فأذن لها في الرجوع، قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد، دعاني فقال: امكثي في بيتك(4/311)
حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً» صححه الترمذي وغيره.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر بفتح الياء التحتية، والباقون بكسرها {وتلك} أي: الأحكام العالية جداً لما فيها من الجلالة وبانتسابها إلى الملك الأعلى من هذا الذي ذكر في هذه السورة وغيرها {حدود الله} أي: الملك الأعظم {ومن يتعد} أي: يقع منه في وقت من الأوقات أنه تعمد أن يعدو {حدود الله} أي: الملك الذي لا كفء له أو بعضها كأن طلق بدعياً {فقد ظلم نفسه} أي: عرضها للعقاب.
وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الظاء، والباقون بالإدغام {لا تدري} أي: نفس، أو أنت أيها النبي، أو المطلق {لعل الله} أي: الذي بيده القلوب ومقاليد جميع الأمور {يحدث} أي: يوجد شيئاً حادثاً لم يكن إيجاداً ثابتاً لا تقدر الخلق على التسبب في زواله {بعد ذلك} أي: الحادث من الإساءة والبغض {أمراً} بأن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها.
وقال أكثر المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة، ومعنى الكلام التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث، وهذا أحسن الطلاق وأحله في السنة وأبعده عن الندم..
ويدل عليه ما روي عن ابراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا للسنة إلا واحدة، ثم لا يطلقون غير ذلك حتى تنقضي العدة، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثاً في ثلاثة أطهار. وقال مالك بن أنس: لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو مفرقة. وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد، فأما مفرقاً في الأطهار فلا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض: «ما هكذا أمر الله إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً وتطلقها لكل قرء تطليقة» وروي أنه قال لعمر: «مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها تحيض، ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة، وهو مباح. ومالك يراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت، وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت، والشافعي يراعي الوقت وحده.
قال الزمخشري: فإن قلت: هل يقع الطلاق المخالف للسنة؟ قلت: نعم وهو آثم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بين يديه فقال: أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم» وفي حديث ابن عمر أنه قال: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثاً فقال له: قال: «إذاً عصيت وبانت منك امرأتك» .
وعن عمر رضي الله عنه أنه كان لايؤتى برجل طلق امرأته ثلاثاً إلا أوجعه ضرباً، وأجاز ذلك عليه. وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلاث لم يقع، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف.
فإن قيل: قوله تعالى: {إذا طلقتم النساء} عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء والآيسات والصغائر والحوامل، فكيف صح تخصيصه بذوات الأقراء المدخول بهن؟.
أجيب: بأنه لا عموم ثم ولا خصوص، ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن(4/312)
وفي بعضهن فجاز أن يراد بالنساء هذا وذلك، فلما قيل: {فطلقوهن لعدتهن} علم أنه أطلق على بعضهن وهن المدخول بهن من المعتدات بالحيض.
ولما حدّ سبحانه مايفعل في العدة أتبعه مايفعل عند انقضائها بقوله تعالى: {فإذا بلغن} أي: المطلقات {أجلهن} أي: شارفن انقضاء العدة مشارفة عظيمة {فأمسكوهن} أي: بالمراجعة وهذا يدل على أن الأولى من الطلاق مادون البائن لا سيما الثلاث {بمعروف} أي: حسن عشرة لا لقصد المضارة بطلاق آخر لأجل إيجاد عدة أخرى، أو غير ذلك. {أو فارقوهن} بعدم المراجعة لتتم العدة فتملك نفسها {بمعروف} أي: بإيفاء الحق مع حسن الكلام وكل أمر حسنه الشرع، فلا يقصد أذاها بتفريقها عن ولدها مثلاً، أو عنه إن كانت عاشقة له لقصد الأذى فقط من غير مصلحة، وكذلك ما أشبه ذلك من أنواع الضرر بالفعل والقول فقد تضمنت الآية بإفصاحها الحث على فعل الخيرات وبإفهامها اجتناب المنكرات.
تنبيه: قال بعض العلماء في قوله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} وقوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (البقرة: 229)
إن: الزوج له حق في بدن الزوجة ولها حق في بدنه وذمته فكل من له دين في ذمة غيره سواء أكان مالاً، أو منفعة من ثمن أو مثمن أو أجرة، أو بدل متلف، أو ضمان مغصوب، أو نحو ذلك فعليه أن يؤدي ذلك الحق الواجب بإحسان، وعلى صاحب الحق أن يتبع بإحسان كما قال تعالى في آية القصاص: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} (البقرة: 178)
وكذا الحق الثابت في بدنه مثل حق الاستمتاع والإجارة على عينه ونحو ذلك، فالطالب يطلب بمعروف والمؤدي يؤدي بإحسان.
ولما كان الإشهاد أقطع للنزاع قال تعالى حاثاً على الكيس واليقظة والبعد عن أفعال المغفلين العجزة: {وأشهدوا} أي: على الرجعة والمفارقة، وقيل: المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعاً {ذوي عدل منكم} قطعاً للنزاع، وهذا الإشهاد مندوب إليه عند الجمهور كقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} (البقرة: 282)
وأوجب الإشهاد في الرجعة الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، والشافعي كذلك لظاهر الأمر. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الأخر: إن الرجعة لاتفتقر إلى القبول فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق.
وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة فليس بمراجع، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قبل أو باشر أو لمس بشهوة فهو رجعة، وكذا النظر إلى الفرج رجعة، وقال الشافعي وأبو ثور: إذا تكلم بالرجعة فهي رجعة، وقيل: وطؤه مراجعة على كل حال نواها أو لم ينوها، وهو مذهب أحمد وإليه ذهب الليث وبعض المالكية. قال القرطبي: وكان مالك يقول: إذا وطىء ولم ينو الرجعة فهو وطء فاسد، ولا يعود إلى وطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، وله الرجعة في بقية العدة الأولى، وليست له الرجعة في هذا الاستبراء.
تنبيه: قوله تعالى: {منكم} قال الحسن: من المسلمين، وعن قتادة: من أحراركم، وذلك يوجد اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث لأن ذوى للمذكر. وقوله تعالى: {وأقيموا} أي: أيها المأمورون حيث كنتم شهوداً {الشهادة} التي تحملتموها بأدائها على أكمل أحوالها {لله} أي: مخلصين لوجه الملك الأعلى لا لأجل المشهود له والمشهود عليه، ولا شيء سوى وجه الله تعالى.(4/313)
وفيه حث على أداء الشهادة لما فيه من العسر على الشاهد بترك مهماته وعسر لقاء الحاكم الذي يؤدي عنده، وربما بعد مكانه وكان للعدل في الأداء عوائق أيضاً {ذلكم} أي: الذي ذكرت لكم أيتها الأمة من هذه الأمور البديعة النظام العالية المرام، وأولاها بذلك هذا الإشهاد وإقامة الشهادة {يوعظ} أي: يلين ويرقق {به من كان} أي: كوناً راسخاً من جميع الناس {يؤمن بالله} أي: الذي له الكمال كله {واليوم الآخر} فإنه المحط الأعظم للترقيق، وأما من لم يكن متصفاً بذلك فكأنه لقساوة قلبه ماوعظ به لأنه لم ينتفع به.
وقوله تعالى: {ومن يتق الله} أي: يخف الملك الأعظم فيجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية بما يرضية، وهو اجتلاب ما أمر به واجتناب ما نهي عنه من الطلاق وغيره، ظاهراً وباطناً لأن التقوى إذا انفردت في القرآن عن مقارن عمت الأمر والنهي، وإن اقترنت بغيرها نحو إحسان أو رضوان خصت المناهي {يجعل} أي: بسبب التقوى {له مخرجاً} جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق بالوعد على اتقائه عما نهى عنه صريحاً أو ضمناً من الطلاق في الحيض والإضرار بالمعتدة وإخراجها من المسكن، وتعدى حدود الله تعالى. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم «سئل عمن طلق ثلاثاً أو ألفاً هل له من مخرج فتلاها» وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والثعلبي والضحاك: هذا في الطلاق خاصة، أي: من طلق كما أمره الله تعالى يكن له مخرج في الرجعة في العدة، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضاً: يجعل له مخرجاً ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة، وقيل: المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه، قاله علي بن صالح. وقال الكلبي: ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة، وقال الحسن: مخرجاً مما نهى الله عنه، وقال أبو العالية: مخرجاً من كل شدة، وقال الربيع بن خيثم: مخرجاً من كل شيء ضاق على الناس، وقال الحسين بن الفضل: ومن يتق الله في أداء الفرائض يجعل له مخرجاً من العقوبة.
{ويرزقه} أي: الثواب {من حيث لا يحتسب} أي: يبارك له فيما أتاه، وقال سهل بن عبد الله: ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له مخرجاً من عقوبة البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب، وقال أبو سعيد الخدري: ومن تبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله تعالى يجعل له مخرجاً مما كلفه الله بالمعونة له، وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم، وهذا هو الذي يقوى عندي.
وقال أبو ذر: «قال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آيه لو أخذ الناس بها لكفتهم، وتلا: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} قال: مخرجاً من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة» .
وقال أكثر المفسرين: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه الفاقة، وقال: إن العدو أسر ابني وجزعت الأم فما تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم «اتقي الله واصبر، وآمرك وإياها أن تكثرا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله فعاد إلى بيته وقال لامرأته: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقالت: نعم ما أمرنا به فجعلا يقولان فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم وجاء بها إلى المدينة وهي أربعة آلاف شاة فنزلت الآية، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأغنام له» وروي(4/314)
أنه جاء وقد أصاب إبلاً من العدو، وكان فقيراً. فقال الكلبي: إنه أصاب خمسين بعيراً، وفي رواية فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة لقوم فمر بسرح لهم فاستاقه، وقال مقاتل: أصاب غنماً ومتاعاً، فقال أبوه للنبي صلى الله عليه وسلم أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني قال: نعم ونزل {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} وروى الحسن عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها» .
وقال الزجاج: أي: إذا اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة، ورزقه من حيث لا يحتسب. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب» .
{ومن يتوكل} أي: يسند أموره كلها معتمداً فيها {على الله} أي: الملك الذي بيده كل شيء ولا كفء له {فهو} أي: الله في غيبه فضلاً عن الشهادة بسبب توكله {حسبه} أي: كافيه ما أهمه، وحذف المتعلق للتعميم، وحرف الاستعلاء للإشارة إلى أنه كان حمل أموره كلها عليه سبحانه، لأنه القوي العزيز الذي يدفع عنه كل ضار ويجلب له كل سار إلى غير ذلك من المعاني الكبار، فلا يبدو له عالم الشهادة شيء يشينه.
وقيل: من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية ولم يرد الدنيا، لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل، وفي الحديث: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً» ويؤخذ من هذا أن التوكل يكون مع مباشرة الأسباب لأنه صلى الله عليه وسلم قال: تغدو وتروح وهي من المقامات العظيمة. قال البقاعي نقلاً عن المولوي: وإلا كان اتكالاً، وليس بمقام بل خسة همة وعدم مروءة؛ لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتب المسببات على الأسباب. ا. هـ.
ولما كان ذلك أمراً إلا يكاد يحيط به الوهم بقوله تعالى مهوّلاً له بالتأكيد والإظهار في موضع الإضمار: {إن الله} أي: المحيط بكل كمال المنزه عن كل شائبة نقص {بالغ أمره} أي: جميع ما يريده فلا بد من نفوذه سواء حصل توكل أم لا، قال مسروق: يعني قاضٍ أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً. وقرأ حفص: بالغ، بغير تنوين وأمره بالجر مضاف إليه على التخفيف، والباقون بالتنوين، وأمره بنصب الراء وضم الهاء. قال ابن عادل: وهو الأصل خلافاً لأبي حيان {قد جعل الله} أي: الملك الذي لا كفء له ولا معقب لحكمه جعلاً مطلقاً من غير تقييد بجهة ولا حيثية {لكل شيء} كرخاء وشدة {قدراً} أي: تقديراً لا يتعداه في مقداره وزمانه وجميع عوارضه وأحواله، وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعداه. فمن توكل استفاد الأجر، وخفف عنه الألم، وقذف في قلبه السكينة، ومن لم يتوكل لم ينفعه ذلك، وزاد ألمه وطال غمه بشدة وخيبة أسبابه التي يعتقد أنها هي المنجية. فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط جف القلم فلا يزاد في المقادير شيء، ولا ينقص منها شيء.
ويحكى أن رجلاً أتى عمر فقال: أولني مما أولاك الله، فقال: أتقرأ القرآن، قال: لا، قال: إنا لا نولي من لا يقرأ القرآن، فانصرف الرجل واجتهد حتى تعلم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيوليه فلما تعلم(4/315)
القرآن تخلف عن عمر فرآه ذات يوم فقال: يا هذا أهجرتنا؟ فقال: يا أمير المؤمنين لست ممن يهجر، ولكني تعلمت القرآن فأغناني الله عن عمر وعن باب عمر، قال: فأي آية أغنتك قال: قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} فمن توكل على غيره سبحانه ضاع، لأنه لا يعلم المصالح وإن علم لا يعلم كيف يستعملها، وهو سبحانه المنفرد بعلم ذلك كله ولا يعلمه حق علمه غيره.
تنبيه: الآية تفهم أن من لم يتق الله يقتر عليه، وهو موافق لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الزرق بالذنب يصيبه» . وتفهم أن من لم يتوكل لم يكف شيئاً من الأشياء.
وقال عبد الله بن رافع: لما نزل قوله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنحن إذا توكلنا عليه نرسل ما كان لنا ولا نحفظه، فنزل {إن الله بالغ أمره} فيكم وعليكم. وقال الربيع بن خيثم: إن الله قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} (التغابن: 11)
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} {إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم} (التغابن: 17)
{ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} (آل عمران: 101)
{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} (البقرة: 186) .
ولما بين تعالى أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الأقراء عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم. قال أبو عثمان عمر بن سليمان: نزلت عدة النساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها، قال أبي بن كعب: يا رسول الله إن ناساً يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء الصغار والكبار وذوات الحمل فنزل:
{واللائي يئسن} أي: من المطلقات {من المحيض} أي: الحيض الآية. وقال مقاتل: لما ذكر قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (البقرة: 228)
قال خلاد بن النعمان: يا رسول الله فما عدة التي لم تحض وعدة التي انقطع حيضها وعدة الحبلى فنزلت، وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست فنزلت، وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة. واختلف في سن اليأس فالذي عليه الأكثر أنه اثنان وستون سنة، وقيل: خمس وخمسون، وقيل: ستون، وقيل: سبعون.
ولما كان هذا الحكم خاصاً بأزواج المسلمين لحرمة فرشهم وحفظ أنسابهم قال تعالى: {من نسائكم} أي: أيها المسلمون سواء كن مسلمات أو من أهل الكتاب {إن ارتبتم} أي: شككتم في عدتهن {فعدتهن ثلاثة أشهر} كل شهر يقوم مقام حيضة لأن أغلب عوائد النساء أن يكون كل قرء في شهر {واللائي لم يحضن} أي: لصغرهن أو لأنهن لا حيض لهن أصلاً، وإن كن بالغات فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً هذا كله في غير المتوفى عنهن أزواجهن، أما هن فعدتهن ما في آية {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} (البقرة: 234)
وقرأ: {واللائي} في الموضعين ابن عامر والكوفيون بالهمز وياء بعده، وقرأ قالون وقنبل بالهمز ولا ياء بعده، وللبزي وأبي عمرو أيضاً إبدال الهمزة ياء ساكنة مع المد لا غير.
ولما فرغ من ذكر الحوائل أتبعه ذكر الحوامل بقوله تعالى: {وأولات الأحمال} أي: من جميع الزوجات المسلمات والكافرات المطلقات والمتوفى عنهن {أجلهن} أي: لمنتهى العدة سواء كان لهن مع الحمل حيض أم لا {أن(4/316)
يضعن حملهن} وهذا على عمومه مخصص لآية {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} لأن المحافظة على عمومه أولى من المحافظة على عموم ذاك في قوله تعالى: {أزواجاً} لأن عموم هذه بالذات لأن الموصول من صيغ العموم وعموم أزواجاً بالعرض لأنه بدل لا يصلح لجميع الأزواج في حال واحد، والحكم معلل هنا بوصف الحملية بخلاف ذاك، ولأن هذه الآية متأخرة النزول عن آية البقرة فتقديمها على تلك تخصيص، وتقديم تلك في العمل بعمومها رفع لما في الخاص من الحكم فهو نسخ، والأول هو الراجح للوفاق، ولأن سبيعة بنت الحارث وضعت حملها بعد وفاة زوجها بليالٍ فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزوج.
تنبيه: إذا وضعت المرأة ما في بطنها من علقة أو مضغة حلت عند مالك، وقال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة: لا تحل إلا بوضع ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، فإن كانت حاملاً بتوأمين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما، ولابد أن يكون الحمل منسوباً لذي العدة، أما إذا كان من زنا فلا حرمة له والعدة بالحيض.
ولما كانت أمور النساء في المعاشرة والمفارقة في غاية المشقة كرر بالحث على التقوى إشارة إلى ذلك، وترغيباً في لزوم ما حده سبحانه فقال عاطفاً على ما تقديره فمن لم يحفظ هذه الحدود عسر الله تعالى عليه أموره: {ومن يتق الله} أي: يوجد الخوف من الملك الأعظم إيجاداً مستمراً ليجعل بينهم وبين سخطه وقاية من طاعته، اجتلاباً للمأمور واجتناباً للمنهي.
{يجعل له} أي: يوجد إيجاداً مستمراً باستمرار التقوى، إن الله لا يمل حتى تملوا {من أمره} أي: كله في النكاح وغيره {يسراً} أي: سهولة وفرجاً وخيراً في الدارين بالدفع والنفع، وذلك أعظم من مطلق الخروج المتقدم في الآية الأولى، وقال مقاتل: ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه لطاعته.
{ذلك} أي: الأمر المذكور من جميع هذه الأحكام العالية المراتب {أمر الله} أي: الملك الأعلى الذي له الكمال كله {أنزله إليكم} وبينه لكم {ومن يتق الله} أي: الذي لا أمر لأحدٍ معه في أحكامه فيراعي حقوقها {يكفر} أي: يغط تغطية عظيمة {عنه سيئاته} ليتخلى عن المبعدات، فإن الحسنات يذهبن السيئات {ويعظم له أجراً} بأن يبدل سيئاته حسنات، ويوفيه أجرها في الدارين مضاعفة فيتحلى بالقربات، وهذا أعظم من مطلق اليسر المتقدم.
{أسكنوهن} وقال الرازي: أسكنوهن وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله تعالى: {ومن يتق الله} كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: أسكنوهن.
وقوله تعالى: {من حيث سكنتم} فيه وجهان: أحدهما: أن من للتبعيض، قال الزمخشري: مبعضها محذوف، معناه: أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم، أي: بعض مكان سكناكم كقوله تعالى: {يغضوا من أبصارهم} (النور: 30)
أي: بعض أبصارهم. قال قتادة: إن لم يكن إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه. قال الرازي: وقال الكسائي: من صلة، والمعنى: اسكنوهن حيث سكنتم. والثاني: أنها لابتداء الغاية، قاله الحوفي وأبو البقاء. قال أبو البقاء: والمعنى: تسببوا إلى إسكانهن من الوجه الذي تسكنون أنفسكم، ودل عليه قوله تعالى: {من وجدكم} أي: من وسعكم، أي: ما تطيقونه وفي إعرابه وجهان: أحدهما: أنه عطف بيان لقوله تعالى: {من حيث سكنتم} وإليه ذهب الزمخشري وتبعه البيضاوي. قال ابن عادل: أظهرهما أنه بدل من قوله {من حيث} بتكرار(4/317)
العامل، وإليه ذهب أبو البقاء كأنه قيل: أسكنوهن من وسعكم.
{ولا تضاروهن} أي: حال السكنى في المساكن ولا في غيره {لتضيقوا عليهن} حتى تلجؤهن إلى الخروج {وإن كن} أي: المطلقات {أولات حمل} أي: من الأزواج من طلاق بائن أو رجعي {فأنفقوا عليهن} وإن مضت الأشهر {حتى يضعن حملهن} فيخرجن من العدة، وهذا يدل على اختصاص استحقاق النفقة بالحامل من المعتدات البوائن والأحاديث تؤيده.
قال القرطبي: اختلف العلماء في المطلقة ثلاثاً على ثلاثة أقوال: فذهب مالك والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة، ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور لا نفقة لها ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس قالت: «دخلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أخو زوجي، فقلت: إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة، قال: بل لك السكنى والنفقة، فقال: إن زوجها طلقها ثلاثاً فقال صلى الله عليه وسلم إنما السكنى والنفقة لمن له عليها رجعة» فلما قدمت الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك فإن أصحاب عبد الله يقولون: إن لها السكنى والنفقة. وعن الشعبي قال: لقيني الأسود بن يزيد فقال: يا شعبي اتق الله وارجع عن حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة، فقلت: لا أرجع عن شيء. حدثتني فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه لو كان لها سكنى لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم.
وأجيب عن ذلك: بما روت عائشة أنها قالت: كانت فاطمة في مكان وحش فخيف على ناحيتها، وقال سعيد بن المسيب: إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على إحمائها، وقال قتادة وابن أبي ليلى: لا سكن إلا للرجعية لقوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} (الطلاق: 1)
وقوله تعالى: {أسكنوهن} راجع لما قبله وهي المطلقة الرجعية {فإن أرضعن لكم} أي: بعد انقضاء علقة النكاح {فآتوهن أجورهن} أي: على ذلك الإرضاع وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم تبن، ويجوز عند الشافعي مطلقاً وقوله تعالى: {وائتمروا} خطاب للأزواج والزوجات، أي: ليأمر بعضكم بعضاً في الإرضاع والأجر فيه وغير ذلك، وليقبل بعضكم أمر بعض.
وقال الكسائي: ائتمروا تشاوروا، وتلا قوله تعالى: {إن الملأ يأتمرون بك} (القصص: 20)
وأنشد قول امرىء القيس:
*ويعدو على المرء ما يأتمر
وزادهم رغبة في ذلك بقوله تعالى: {بينكم} أي: إن هذا الخير لا يعدوكم، وأكد ذلك بقوله تعالى: {بمعروف} ونكره سبحانه تخفيفاً على الأمة بالرضى بالمستطاع، وهو يكون مع الأخلاق بالاتصاف، ومع النفس بالخلاف {وإن تعاسرتم} أي: طلب كل منكم ما يعسر على الآخر، كأن طلبت المرأة الأجرة وطلب الزوج إرضاعها مجاناً {فسترضع له} أي: الأب {أخرى} أي: مرضعة غير الأم ويغني الله تعالى عنها، وليس له أن يكرهها على ذلك، نعم إذا لم يقبل ثدي غيرها أو لم يوجد غيرها أجبرت على ذلك بالأجرة، وهذا الحكم لا يختص بالمطلقة بل المنكوحة كذلك.
واختلفوا فيمن يجب عليه رضاع الولد، فقال مالك: رضاع الولد على الزوجة مادامت الزوجية إلا لشرفها وموضعها فعلى الأب رضاعه حينئذٍ في ماله، وقال أبو حنيفة: لا يجب على الأم بحال، وقيل: يجب(4/318)
عليها بكل حال. ولو طلبت الأم أجرة المثل وهناك أجنبية ترضع بدون أجرة المثل، أو متبرعة تخير الأب بينهما ولا يضيق على الأب بدفع الأجرة لأنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثماً أو قطيعة رحم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين، والباقون بالفتح.
{لينفق ذو سعة} أي: مال واسع ولم يكلفه تعالى جميع وسعه بل قال تعالى: {من سعته} أي: لينفق الزوج على زوجته وولده الصغير على قدر وسعه إذا كان موسعاً عليه {ومن قدر} أي: ضيق {عليه رزقه} فعلى قدر ذلك فيقدر النفقة بحسب حال المنفق، والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى العادة. قال تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (البقرة: 233)
وقال صلى الله عليه وسلم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» لكن نفقة الزوجة مقدرة عند الشافعي محدودة فلا اجتهاد للحاكم ولا للمفتي فيها، وتقديرها هو بحسب حال الزوج وحده من يسار وإعسار، ولا اعتبار بحالها فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس، فيلزم الزوج الموسر مدان، والمتوسط مد ونصف، والمعسر مد لظاهر قوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر، ولأن الاعتبار بحالها يؤدي إلى الخصومة لأن الزوج يدعي أنها تطلب فوق كفايتها وهي تزعم أنها تطلب قدر كفايتها فقدرت قطعاً للخصومة.
وقوله تعالى: {فلينفق} أي: وجوباً على المرضع وغيرها من كل ما أوجبه الله تعالى عليه. {مما آتاه الله} أي: الملك الذي لا ينفد ما عنده، ولو من رأس المال ومتاع البيت {لا يكلف الله} أي: الذي له الملك كله {نفساً} أيّ نفس كانت.
{إلا ما آتاها} أي: أعطاها من المال {سيجعل الله} أي: الملك الذي له الكمال كله فلا خلف لوعده.
{بعد عسر} أي: بعد كل عسر {يسراً} وقد صدق الله وعده فيمن كانوا موجودين بعد نزول الآية ففتح عليهم جميع جزيرة العرب، ثم فارس والروم حتى صاروا أغنى الناس وصدق الآية دائم غير أنه في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ونفعنا بهم آمين لأن إيمانهم أتم. قال القشيري: وانتظار اليسر من الله صفة المتوسطين في الأحوال الذين انحطوا عن درجة الرضا، وارتقوا عن حد اليأس والقنوط، ويعيشون في إفناء الرجال، ويتعللون بحسن المواعيد ا. هـ.
ولما ذكر الأحكام والمواعظ والترغيب لمن أطاع حذر من خالف بقوله تعالى:
{وكأين} هي كاف الجر دخلت على أيّ بمعنى: كم {من قرية} أي: وكثير من القرى. وقرأ ابن كثير بالألف بعد الكاف وبعد الألف همزة مكسورة وقفاً ووصلاً، وقرأ الباقون في الوصل بهمزة مفتوحة بعد الكاف وبعد الهاء ياء تحتية مكسورة مشددة، وعبر عن أهل القرية بها مبالغة فقال: {عتت} أي: استكبرت وجاوزت الحد في عصيانها وطغيانها فأعرضت عناداً {عن أمر ربها} أي: الذي أحسن إليها ولا يحسن إليها غيره {ورسله} فلم تقبل منهم ما جاؤوا به عن الله تعالى، فإن طاعتهم من طاعته {فحاسبناها} أي: في الآخرة وإن لم تجيء لتحقق وقوعها {حساباً شديداً} أي: بالمناقشة والاستقصاء {وعذبناها عذاباً نكراً} أي: منكراً فظيعاً، وهو عذاب النار، وقيل: العذاب في الدنيا فيكون على حقيقته، أي: جازيناها بالعذاب في الدنيا، وعذبناها عذاباً نكراً في الآخرة، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: فعذبناها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع والقحط،(4/319)
والسيف، والخسف والمسخ، وسائر المصائب، وحاسبناها حساباً شديداً في الآخرة. وقرأ نافع وابن ذكوان وشعبه بضم الكاف، والباقون بسكونها.
{فذاقت} أي: فتسبب عن ذلك أنها ذاقت {وبال} أي: عقوبة {أمرها} أي: كفرها.
{وكان عاقبة أمرها خسراً} أي: في الدنيا بالأسر وضرب الجزية، وغير ذلك، وفي الآخرة بعذاب النار، فإن من زرع الشوك كما قال القشيري لا يجني الورد، ومن أضاع حق الله تعالى لا يطاع في حظ نفسه، ومن احترف بمخالفة أمر الله تعالى فليصبر على عقوبته.
ثم استأنف الجواب عمن يقول هل لها غير هذا في غير هذه الدار بقوله تعالى:
{أعد الله} أي: الملك الأعظم {لهم} بعد الموت وبعد البعث {عذاباً شديداً} وفي ذلك تكرير للوعيد وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها {فاتقوا الله} أي: الذي له الأمر كله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {يا أولي الألباب} أي: يا أصحاب العقول الصافية النافذة من الظواهر إلى البواطن، وقوله تعالى: {الذين آمنوا} منصوب بإضمار أعني بياناً للمنادى في قوله تعالى: {يا أولي الألباب} أو يكون عطف بيان للمنادى أو نعتاً له، أي: خلصوا من دائرة الشرك وأوجدوا الإيمان حقيقة {قد أنزل الله} أي: الذي له صفات الكمال {إليكم ذكراً} هو القرآن، وفي نصب.
{رسولاً} أوجه:
أحدها: قال الزجاج والفارسي: إنه منصوب بالمصدر المنون قبله، لأنه ينحل لحرف مصدري وفعل، كأنه قيل: أن ذكر رسولاً، ويكون ذكره الرسول قوله: محمد رسول الله، والمصدر المنون عامل كقوله تعالى {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً} (البلد: 14 ـ 15)
الثاني: جعل نفس الذكر مبالغة فأبدل منه، ويكون محمولاً على المعنى كأنه قال: قد أظهر لكم ذكراً رسولاً، فيكون من باب بدل الشيء من الشيء، وهو هو.
الثالث: أنه بدل منه على حذف مضاف من الأول تقديره: أنزل ذا ذكر رسولاً.
الرابع: أنه بدل منه على حذف مضاف من الثاني أي: ذكراً ذكر رسول.
الخامس: أنه منصوب بفعل مقدر، أي: وأرسل رسولاً {يتلو عليكم آيات الله} هي دلائل الملك الأعظم الظاهرة جداً حال كونها {مبينات} أي: لا لبس فيها بوجه. واختلف الناس في رسولاً هل هو النبي صلى الله عليه وسلم أو جبريل؟ الأكثر على الأول واقتصر عليه الجلال المحلي، واقتصر الزمخشري على الثاني، وهو قول الكلبي. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء بعد الموحدة، والباقون بالفتح {ليخرج الذين أمنوا} أي: أقروا بالشهادتين {وعملوا} تصديقاً لما قالوه بألسنتهم وتحقيقاً لأنه من قلوبهم {الصالحات} أي: ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح، أو ليخرج من علم أو قدر أنه مؤمن {من الظلمات} أي: الضلالة {إلى النور} أي: الهدى.
{ومن يؤمن بالله} أي: يجدد في كل وقت على الدوام الإيمان بالملك الأعلى بأن لا يزال في ترق في معارج معارفه {ويعمل} على التجديد المستمر {صالحاً} لله وفي الله فله دوام النعماء، وهو معنى إدخاله الجنة كما قال تعالى: {يدخله} أي: عاجلاً مجازاً بما يفتح الله له من لذات المعارف ويفتح له من الأنس، وآجلاً حقيقة {جنات} أي: بساتين هي في غاية ما يكون من جمع جميع الأشجار وحسن الدار وبين دوام ريها بقوله تعالى: {تجري من تحتها} أي: من تحت غرفها {الأنهار} فهي في غاية الري بحيث أن ساكنها يجري في أي موضع أراد نهراً.
وقرأ نافع وابن عامر ندخله بالنون، والباقون بالياء التحتيه. {خالدين فيها}(4/320)
وأكد معنى الخلود بقوله تعالى: {أبداً} ليفهم الدوام بلا انقضاء. وقوله تعالى: {قد أحسن الله} أي: الملك الأعلى ذو الجلال والإكرام {له} أي: خاصة {رزقاً} أي: عظيماً عجيباً فيه تعجب وتعظم لما رزقوا من الثواب.
وقال القشيري: الحسن ما كان على حد الكفاية لا نقصان فيه يتعطل عن أموره بسببه، ولا زيادة تشغله عن الاستمتاع بما رزق لحرصه، كذلك أرزاق القلوب أحسنها أن يكون له من الأحوال ما يستقل بها من غير نقصان ولا زيادة لا يقدر على الاستمرار عليها.
ثم بين كمال قدرته بقوله تعالى: {الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال التي القدرة الشاملة إحداها: {الذي خلق} أي: أوجد وحده من العدم بقدرته على وفق ما دبر بعلمه على هذا المنوال الغريب البديع {سبع سموات} أي: وأنتم تشهدون عظمة ذلك، وتشهدون أنه لا يقدر عليه إلا تام القدرة والعلم الكامل {ومن الأرض مثلهن} أي: سبعاً أما كون السموات سبعاً بعضها فوق بعض فلا خلاف فيه لحديث الإسراء وغيره.
وأما الأرضون فقال الجمهور: إنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سكان من خلق الله. وقال الضحاك: إنها سبع أرضين ولكنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات. قال القرطبي: والأول أصح لأن الأخبار دالة عليه كما روى البخاري وغيره روى أبو مروان عن أبيه أن كعباً حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى أن صهيباً حدثه «أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر من فيها» وروى مسلم عن سعيد بن زيد قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ظلم قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين» قال البقاعي: رأيت في التعدد حقيقة حديثاً صريحاً لكن لا أدري حاله، ذكره ابن برجان في اسمه تعالى الملك من شرحه الأسماء الحسنى، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما تحت هذه الأرض، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هواء أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أرض، أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم حتى عد سبع أرضين» ثم رأيته في الترمذي عن أبي رزين العقيلي ولفظه: «هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها الأرض، ثم قال: أتدرون ما تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن تحتها أرضاً أخرى خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة» ثم رأيت في الفردوس عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين السماء إلى السماء خمسمائة عام وعرض كل سماء وثخانة كل سماء خمسمائة عام وما بين السماء السابعة وبين الكرسي والعرش مثل ذلك وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام،
والأرضون وعرضهن وثخانتهن مثل ذلك» ا. هـ.
قال الماوردي: وعلى أنها سبع أرضين تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا، ولا تلزم من في غيرها من الأرضين، وإن كان فيها من يعقل من خلق مميز وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان: أحدهما أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم، ويستمدون الضياء منها، قال(4/321)
ابن عادل: وهذا قول من جعل الأرض مبسوطة. الثاني: أنهم لا يشاهدون السماء، وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه، قال ابن عادل: وهذا قول من جعل الأرض كروية. وحكى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض تفرق بينها البحار وتظل جميعهم السماء، فعلى هذا إن لم يكن لأحد من أهل الأرض وصول إلى أرض أخرى اختصت دعوة الإسلام بهذه الأرض، وإن كان لقوم منهم وصول إلى أرض أخرى احتمل أن تلزمهم دعوة الإسلام لإمكان الوصول إليهم، لأن فصل البحار إذا أمكن سلوكها لا يمنع من لزوم ما عم حكمه، واحتمل أن لا تلزمهم دعوة الإسلام لأنها لو لزمتهم لكان النص بها وارداً ولكان النبي صلى الله عليه وسلم بها مأموراً.
وقال بعض العلماء: السماء في اللغة عبارة عما علاك، فالأولى بالنسبة إلى السماء الثانية أرض، وكذلك السماء الثانية بالنسبة إلى الثالثة أرض، وكذا البقية بالنسبة إلى ما تحته سماء، وبالنسبة إلى ما فوقه أرض. فعلى هذا تكون السموات السبع وهذه الأرض الواحدة سبع سموات وسبع أرضين {يتنزل} أي: بالتدريج {الأمر} قال مقاتل وغيره: أي: الوحي، وعلى هذا يكون قوله تعالى: {بينهن} إشارة إلى ما بين هذه الأرض العليا التي هي أولاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها، والأكثرون على أن الأمر هو القضاء والقدر فعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى {بينهن} إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها، فيجري أمر الله وقضاؤه بينهن، وينفذ حكمه فيهن.
وعن قتادة: في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه، وأمر من أمره، وقضاء من قضائه. وقيل: هو ما يدبر فيهن من عجائب تدبيره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نافع بن الأزرق سأله هل تحت الأرض من خلق؟ قال: نعم قال: فما الخلق؟ قال: إما ملائكة أو جن. وقال مجاهد: يتنزل الأمر من السموات السبع إلى الأرضين السبع، وقال الحسن: بين كل سماءين أرض وأمر، وقيل: يتنزل الأمر بينهن بحياة بعض، وموت بعض، وغنى قوم، وفقر قوم. وقيل: ما يدبر فيهن من عجيب تدبيره فينزل المطر ويخرج النبات، ويأتي الليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيآتها، فينقلهم من حال إلى حال.
قال ابن كيسان: وهذا على اتساع اللغة كما يقال للموت: أمر الله، وللريح والسحاب ونحوها. وقوله تعالى: {لتعلموا} متعلق بمحذوف، أي: أعلمكم بذلك الخلق والإنزال لتعلموا {أن الله} أي: الملك الأعلى الذي له الإحاطة كلها {على كل شيء} أي: من غير هذا العالم يمكن أن يدخل تحت المشيئة {قدير} بالغ القدرة فيأتي بعالم آخر مثل هذا العالم وأبدع منه وأبدع من ذلك إلى مالا نهاية له بالاستدلال بهذا العالم، فإن من قدر على إيجاد ذرة من العدم قدر على إيجاد ما هو دونها ومثلها وفوقها إلى ما لا نهاية له، لأنه لا فرق في ذلك بين قليل وكثير، وجليل وحقير {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (الملك: 3)
قال البقاعي: وإياك أن تصغي إلى من قال: إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان فإنه مذهب فلسفي خبيث، والآية نص في إبطاله، وإن نسبه بعض الملحدين إلى الغزالي، فإني لا أشك أنه مدسوس عليه، وإن مذهبه فلسفي خبيث بشهادة الغزالي كما بينت ذلك في كتابي «دلائل البرهان» على أن في الإمكان أبدع مما كان قال: ومع كونه مذهب الفلاسفة(4/322)
أخذه أكفر المارقين ابن عربي وأودعه في فصوصه، وغير ذلك من كتبه، وأسند في بعضها للغزالي والغزالي بريء منه بشهادة ما وجد من عقائده في الإحياء وغيره انتهى. والبقاعي ممن يقول بكفر ابن عربي، وابن المقري يقول بكفره وكفر طائفته، وقد تقدم الكلام على كلامهم {وأن الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال.
{قد أحاط} لتمام قدرته {بكل شيء} مطلقاً {علماً} فله الخبرة التامة بما يأمر به من الأحكام في العالم بمصالحة ومفاسده، فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته فعاملوه معاملة من يعلم أنه رقيب عليه تسلموا في الدنيا وتسعدوا في الآخرة.
تنبيه: علماً منصوب على المصدر المؤكد، لأن أحاط بمعنى علم، وقيل: بمعنى والله أحاط إحاطة علماً. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث موضوع.
سورة التحريم
مكية
وهي اثنتا عشرة آية، ومائتان وأربعون كلمة وألف وستون حرفاً
{بسم الله} الذي له الكمال كله على الدوام {الرحمن} الذي عم عباده بعظيم الإنعام {الرحيم} الذي أتم على خواصه نعمة الإسلام.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
{يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله} أي الذي لا أمر لأحد معه {لك} فقالت عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند زينب بنت جحش، فشرب عندها عسلاً، قالت: فتواطيت أنا وحفصة أنّ آيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له: ذلك، فقال بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزل {لم تحرم ما أحل الله لك} إلى قوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله} لعائشة وحفصة» وعنها أيضاً قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، فكان إذا صلى العصر دار على نسائه فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له فذكرت ذلك لسودة، وقلت لها: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير، فإنه سيقول لك: لا، فقولي: ما هذه الريح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحله العرفط، وسأقول ذلك له وقولي أنت يا صفية ذلك. فلما دخل على سودة قالت سودة: والله الذي لا إله غيره لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت وإنه لعلى الباب فرقاً منك، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت له: يا رسول الله أكلت مغافير، قال: لا، قلت: فما هذه الريح؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل، قالت: جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له: مثل ذلك، ثم دخل على صفية فقالت مثل ذلك، فلما دخل على حفصة قالت: يا رسول الله ألا أسقيك منه، قال: لا حاجة لي به، قالت: تقول سودة سبحان الله لقد حرمناه منه، قالت: فقلت لها: اسكتي.
ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها النبي صلى الله عليه وسلم حفصة، وفي الأولى زينب. وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي(4/323)
الله عنهما: أنه شربه عند سودة، وقيل: إنما هي أم سلمة رواه أسباط عن السدي، وقاله عطاء بن أبي مسلم.
تنبيه: شرح غريب ألفاظ الحديثين وما يتعلق بهما قولها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى بالمد والقصر قاله في «المصباح» ، وهو على كل شيء يحلو، وذكر العسل بعدها وإن كان داخلاً في جملة الحلوى تنبيهاً على شرفه ومرتبته، وهو من باب الخاص بعد العام. وقولها: فتواطيت أنا وحفصة هكذا وقع في الرواية، وأصله: فتوطأت بالهمز، أي: اتفقت أنا وحفصة. وقولها: إني لأجد منك ريح مغافير، هو بغين معجمة وفاء بعدها ياء وراء، وهو صمغ حلو كالناطف وله ريح كريهة ينضحه شجر يقال له: العرفط بضم العين المهملة والفاء يكون بالحجاز، وقيل: العرفط نبات له ورق يفرش على الارض له شوك وثمره خبيث الرائحة.
وقال أهل اللغة: العرفط من شجر العضاه، وهو كل شجر له شوك. وقيل رائحته كرائحة النبيذ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منة رائحة كريهة.
قولها: جرست نحله العرفط بالجيم والراء وبالسين المهملتين، ومعناه: أكلت نحله العرفط فصار منه العسل.
قال القاضي عياض: والصواب أن شرب العسل كان عند زينب بنت جحش، ذكره النووي في شرح مسلم، وكذا ذكره أيضاً القرطبي. وقال أكثر المفسرين في سبب نزول ذلك: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فلما كان يوم حفصة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة أبيها فأذن لها، فلما خرجت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جاريته مارية القبطية فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها فلما رجعت حفصة وجدت الباب مغلقاً فجلست عند الباب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً وحفصة تبكي، فقال صلى الله عليه وسلم ما يبكيك؟ فقالت: إنما أذنت لي من أجل ذلك أدخلت أمتك بيتي ثم وقعت عليها في يومي على فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقاً، ما كنت تصنع هذا بإمرأة منهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي فهي حرام علي ألتمس بذلك رضاك فلا تخبري بهذا امرأة منهن، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت: ألا أبشرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم عليه أمته مارية، وأن الله قد أراحنا منها، وأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضبت عائشة، فلم يزل نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها» .
وعن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أمة يطؤها، فلم تزل عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله تعالى {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} الآية» أخرجه النسائي.
فإن قيل: قوله تعالى: {لم تحرم ما أحل الله لك} يوهم أن الخطاب بطريق العتاب، وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم؟.
أجيب: بأنه ليس بطريق العتاب بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن على ما ينبغي.
فإن قيل: تحريم ما أحل الله غير ممكن، فكيف قال {لما تحرم ما أحل الله لك} ؟ أجيب: بأن المراد بهذا التحريم هو الامتناع عن الانتفاع بالأزواج لا اعتقاد كونه حراماً بعدما أحله الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم امتنع من الانتفاع بها مع اعتقاد كونها حلالاً، فإن من اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحل الله فقد كفر، فكيف(4/324)
يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم {تبتغي} أي: تريد إرادة عظيمة من مكارم أخلاقك وحسن صحبتك {مرضاة أزواجك} أي: الأحوال والأمور والمواضع التي يرضين بها، وهن أولى بأن يبتغين رضاك، وكذا جميع الخلق لتتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد {والله} أي: الملك الأعلى {غفور رحيم} أي: محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم، فقد غفر لك هذا التحريم.
ثم علل وبين ذلك بقوله تعالى: {قد فرض الله} أي: قدر ذو الجلال والإكرام الذي لا شريك له ولا أمر لأحد معه، وعبر بالفرض حثاً على قبول الرخصة إشارة إلى أن ذلك لا يقدح في الورع، ولا يخل بحرمة اسم الله تعالى لأن أهل الهمم العوالي لا يجوزون النقلة من عزيمة إلى رخصة، بل من رخصة إلى عزيمة أو عزيمة إلى مثلها.
ولما كان التخفيف على أمته تعظيماً له صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {لكم} أيتها الأمة التي أنت رأسها {تحلة} أي: تحليل {أيمانكم} بالكفارة المذكورة في سورة المائدة، وقيل: قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك: حلل فلان في يمينه إذا استثنى بمعنى استثن في يمينك إذا أطلقتها بأن تقول: إن شاء الله متصلاً بحلفك، وتنويه قبل الفراغ منه.
واختلف أهل العلم في لفظ التحريم، فقال قوم: هو ليس بيمين، فإن قال لزوجته: أنت حرام أو حرّمتك فإن نوى به طلاقاً فهو طلاق، وإن نوى به ظهاراً فهو ظهار، وإن نوى تحريم ذاتها وأطلق فعليه كفارة يمين وإن قال لطعام: حرمته على نفسي فلا شيء عليه، وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه، وإليه ذهب الشافعي.
وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي علي حراماً، فقال: كذبت ليست عليك بحرام وتلا عليه هذه الآية. وذهب جماعة إلى أنه يمين فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب الكفارة ما لم يقربها، كما لو حلف لا يأكله فلا كفارة عليه ما لم يأكله، يروى ذلك عن أبي بكر وعائشة، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة.
وعند أبي حنيفة إن نوى الطلاق بالحرام كان بائناً، وإن قال: كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وإلا فعلى ما نوى، نقله الزمخشري. وعن عمر: إذا نوى الطلاق فرجعي، وعن علي: ثلاث، وعن زيد واحدة بائنة.
وعن ابن عباس رصي الله عنهما قال: إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها، وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. قال مقاتل: فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة رقبة. قال زيد بن أسلم: وعاد إلى مارية، وقال الحسن: لم يكفر عليه السلام لأنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكفارة اليمين في هذه السورة إنما أمر بها الأمة. قال ابن عادل: والأول أصح، وأن المراد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأمة تقتدي به في ذلك {والله} أي: والحال أن المختص بأوصاف الكمال {مولاكم} أي: يفعل معكم فعل القريب الصديق فهو سيدكم ومتولي أموركم {وهو} أي: وحده {العليم} أي: البالغ العلم بمصالحكم وغيرها إلى ما لا نهاية له. {الحكيم} أي: الذي يضع كل ما يصدر عنه لكم في أتقن محاله بحيث لا يقدر غيره أن يغيره ولا شيئاً منه.
والعامل في قوله تعالى: {وإذ} اذكر فهو مفعول به لا ظرف، والمعنى اذكر إذ {أسرّ النبي} أي: الذي شأنه أن يرفعه الله تعالى دائماً فإنه ما ينطق عن الهوى {إلى بعض أزواجه} وأبهمها لم يعينها تشريفاً له صلى الله عليه وسلم ولها وهي حفصة صيانة لهن(4/325)
لأن حرمتهن من حرمته صلى الله عليه وسلم {حديثاً} ليس هو من شأن الرسالة ولو كان من شأنها لعم به ولم يخص به، ولا أسره وذلك هو تحريمه فتاته على نفسه، وقوله لحفصة: لا تخبري بذلك أحداً، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أسرّ أمر الخلافة بعده فحدثت حفصة، وقال الكلبي: أسرّ إليها إن أباك وأب عائشة يكونان خليفتين على أمتي من بعدي، وقال ميمون بن مهران: أسر أن أبا بكر خليفتي من بعدي {فلما نبأت} أي: أخبرت {به} عائشة ظناً منها أنه لا حرج عليها في ذلك {وأظهره الله} أي: أطلعه الملك الذي له الإحاطة بكل شيء {عليه} أي: الحديث على لسان جبريل عليه السلام بأنه قد أفشى مناصحة له في إعلامه بما يقع في غيبته ليحذره إن كان شراً ويثبت عليه إن كان خيراً وقيل: أظهر الله الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم من الظهور {عرف} أي: النبي صلى الله عليه وسلم التي أسرّ إليها {بعضه} أي: بعض ما فعلت {وأعرض عن بعض} أي: إعلام بعض تكرماً منه أن يستقصي في العبارات وحياء وحسن عشرة، قال الحسن: ما استقصى كريم قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وإنما عاتبها على ذكر الإمامة وأعرض عن ذكر الخلافة خوفاً من أن ينتشر في الناس، فربما أثار حسد بعض المنافقين وأورث الحسود للصديق كيداً.
وقال بعض المفسرين: إنه أسر إلى حفصة شيئاً فحدثت به غيرها فطلقها مجازاة على بعضه، ولم يؤاخذها بالباقي وهو من قبيل قوله تعالى: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله} (البقرة: 197) أي: يجازيكم عليه، وقيل: المعرّف حديث الإمامة، والمعرض عنه حديث مارية. وروي «أنه قال لها: ويلك ألم أقل لك أكتمي علي، قالت: والذي بعثك بالحق نبياً ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة التي خص الله تعالى بها أباها» {فلما نبأها به} أي: بما فعلت على وجه لم يغادر من ذلك الذي عرفها به شيئاً منه، ولا من عوارضه لتزداد بصيرة.
روي أنها قالت لعائشة سراً فأنا أعلم أنها لا تظهره، قاله الملوي، وهو معنى قوله تعالى: {قالت} أي: ظناً منها أن عائشة أفشت عليها {من أنبأك هذا} أي: من أخبرك أني أفشيت السر {قال نبأني} وحذف المتعلق اختصاراً للفظ وتكسيراً للمعنى بالتعميم إشارة أنه أخبره بجميع ما دار بينها وبين عائشة على أتم ما كان. {العليم} أي: المحيط العلم {الخبير} أي: المطلع على الضمائر والظواهر، فهو أولى أن يحذر فلا يتكلم سراً أو جهراً إلا بما يرضيه.
وقوله تعالى: {إن تتوبا إلى الله} أي: الملك الأعظم شرط، وفي جوابه وجهان: أحدهما: قوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} والمعنى: إن تتوبا فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حب ما يحب وكراهة ما يكره. وصغت: مالت وزاغت عن الحق، قال القرطبي: وليس قوله: {فقد صغت قلوبكما} جواب الشرط لأن هذا الصغو كان سابقاً فجزاء الشرط محذوف للعلم به أي: إن تتوبا كان خيراً لكما إذ قد صفت قلوبكما. الثاني: أن الجواب محذوف تقديره: فذلك واجب عليكما، أو فتاب الله عليكما، قاله أبو البقاء. ودل على المحذوف {فقد صغت} لأن إصغاء القلب إلى ذلك ذنب. قال بعضهم: وكأنه زعم أن ميل القلب ذنب، وكيف يحسن أن يكون جواباً وقد غفل عن المعنى المصحح لكونه جواباً.
تنبيه: قوله تعالى: {قلوبكما} من أفصح الكلام حيث أوقع الجمع موقع المثنى استثقالاً لمجيء تثنيتين لو قيل: قلباكما، ومن شأن العرب إذا ذكروا الشيئين(4/326)
من اثنين جمعوهما لأنه لا يشكل، والأحسن في هذا الباب الجمع ثم الإفراد ثم التثنية كقوله:
*فتخالسا نفسيهما بتواقد ال ... غيظ الذي من شأنه لم يرفع*
وقال ابن عصفور: لا يجوز الإفراد إلا في ضرورة، كقوله:
*حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادى مطيرها*
وتبعه أبو حيان، وغلط ابن مالك في كونه جعله أحسن من التثنية. قال ابن عادل: وليس بغلط لكراهة توالي تثنيتين مع أمن اللبس، وقوله تعالى {إن تتوبا} فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، والمراد بهذا الخطاب إما المؤمنتان بنتا الشيخين الكريمين عائشة وحفصة حثهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهما كرها ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إحباب جاريته وإحباب العسل، وكان صلى الله عليه وسلم يحب العسل والنساء.
وقال ابن زيد: مالت قلوبكما بأن سرهما أن يحتبس عن أم ولده، فسرهما ما كرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: قد مالت قلوبكما إلى التوبة.
روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه، فلما رجع وكان ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له فوقفت حتى فرغ، ثم سرت معه بإداوة ثم جاء فسكبت على يديه منها فتوضأ، فلما رجع قلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت له: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذه منذ سنة فما أستطيع هيبة لك. قال: فلا تفعل ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه فإن كنت أعلمه أخبرتك» ، وفي رواية قال: وا عجباً لك يا ابن عباس.
قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه، قال: هما عائشة وحفصة، ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار وكان منزلي في بني أمية وهم من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئته بما حدث من خبر ذلك اليوم من الوحي أو غيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك. وكنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فصحت على امرأتي فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني قالت: لم تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت لها: أي حفصة أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل، قالت: نعم، فقلت: قد خبت وخسرت أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئاً، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عائشة رضي الله عنها قال عمر: كنا قد تحدثنا أن غسان تنعل الخيل لتغزونا فنزل الأنصاري يوماً نوبته ثم أتاني عشاء فضرب بابي ضرباً شديداً، ففزعت فخرجت إليه فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم، قلت: ما هو أجاء غسان؟ قال: لا بل أعظم من ذلك وأهول، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون حتى إذا صليت(4/327)
الصبح شددت علي ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لا أدري ها هو ذا معتزل في المشربة فأتيت غلاماً له أسود فقلت: أستأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت، ثم انطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلاً ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام، فقلت: أستأذن لعمر فدخل ثم خرج فقال: ذكرتك له فصمت فوليت
مدبراً فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل فقد أذن لك فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير وليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه متكئاً على وسادة من أدم حشوها ليف، ثم قلت وأنا قائم: يا رسول الله أطلقت نساءك فرفع إلي بصره، وقال: لا، فقلت: الله أكبر قلت وأنا قائم لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قلت: يا رسول الله لو رأيتني دخلت على حفصة فقلت لها: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عائشة، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى فجلست حين رأيته تبسم فرفعت بصري في بيته فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة، فقلت: يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارساً والروم قد وسع عليهم وأعطوا الدنيا، وهم لا يعبدون الله فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً، وقال: «أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب، إن أولئك قوم عجلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا» فقلت: يا رسول الله استغفر الله لي فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة تسعاً وعشرين ليلة، وكان قال: «ما أنا بداخل عليهن شهراً» من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله تعالى، فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل على عائشة فبدأ بها فقالت له عائشة: يا رسول الله إنك كنت أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنما أصبحت من تسع وعشرين ليلة أعدها عداً، فقال: الشهر تسع وعشرون وكان ذلك الشهر تسع وعشرون ليلة قالت عائشة: ثم أنزل الله التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه فاخترته، ثم خيرهن فقلن مثلها، وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه، قالت: فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني ذاكر لك أمراً فلا عليك
أن لا تستعجلي
حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: إن الله تعالى قال: {يا أيها النبي قل لأزواجك} (الأحزاب: 28) إلى تمام الآيتين فقلت: أوفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة» وفي رواية أن عائشة قالت له: لا تخبر نساءك أني اخترتك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أرسلني مبلغاً» وفي رواية قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من أمر النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن الله يصدق قولي الذي أقول، ونزلت هذه الآية {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن} (التحريم: 5)
{
وإن تظاهرا عليه} (التحريم: 4)
» الآية. وفي رواية «أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه فأذن له، وإنه قام على باب(4/328)
المسجد ونادى بأعلى صوته لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه» .
شرح بعض ألفاظ هذا الحديث:
قوله: فعدلت معه أي: فملت معه، بالأداوة أي: الركوة، والعوالي جمع عالية، وهي أماكن بأعلى أرض المدينة. وقوله: لا يغرنك إن كانت جارتك يريد بها الضرة وهي عائشة، وأوسم منك أي: أكثر حسناً، وقوله: فكنا نتناوب النزول: التناوب هو ما يفعله الإنسان مرة، ويفعله آخر بعده، والمشربة بضم الراء وفتحها الغرفة. وقوله: فإذا هو متكئ على رمال حصير: يقال: رملت الحصير إذا ظفرته ونسجته، والمراد أنه لم يكن على السرير وطاء سوى الحصير. وقوله: ما رأيت فيه مايرد البصر إلا أهبة ثلاث: الأهبة والأهب جمع إهاب، وهو الجلد. وقوله: من شدة موجدته: الموجدة الغضب.
وقرأ: {وإن تظاهرا} الكوفيون بتخفيف الظاء، والباقون بتشديدها أي: تتعاونا {عليه} أي: النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكرهه {فإن الله} الملك الأعظم الذي لا كفء له، وقوله تعالى: {هو} يجوز أن يكون فصلاً، وقوله: {مولاه} الخبر، وأن يكون مبتدأ ومولاه خبره، والجملة خبر إن، والمعنى فإن الله وليه وناصره فلا يضره ذلك التظاهر منهما.Y
وقوله تعالى: {وجبريل وصالح المؤمنين} معطوف على محل اسم إن فيكونون ناصريه، ويجوز أن يكون جبريل مبتدأ وما بعده عطف عليه وظهير خبر الجميع فتختص الولاية بالله.
واختلف في صالح المؤمنين، فقال عكرمة: هو أبو بكر وعمر، وقال المسيب بن شريك: هو أبو بكر. وقال سعيد بن جبير: هو عمر، وعن أسماء بنت عميس: هو علي بن أبي طالب. وقال الطبري: هو خيار المؤمنين. وصالح اسم جنس كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر} (العصر: 2) وقال قتادة: هم الأنبياء. وقال ابن زيد: هم الملائكة. وقال السدي: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والأولى أن يشمل هذه الأقوال كلها {والملائكة} أي: كلهم {بعد ذلك} أي: الأمر العظيم الذي تقدم ذكره {ظهير} أي: ظهراء أعوان له في نصره عليكما.
تنبيه: أخبر عن الجمع باسم الجنس إشارة إلى أنهم على كلمة واحدة، ومنهم جبريل عليه السلام فهو مذكور خصوصاً وعموماً ثلاث مرات على القول بأن صالح المؤمنين هم الملائكة إن قلنا بالعموم، وذلك إظهار لشدة محبته وموالاته للنبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأية عكس آية البقرة، وهي قوله تعالى: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة: 98) فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفاً له، وهنا ذكر العام بعد الخاص. قال ابن عادل: ولم يذكر الناس إلا القسم الأول، وفي جبريل لغات تقدم ذكرها في البقرة.
ولما كان أشد ما على المرأة أن تطلق، ثم إذا طلقت أن يستبدل بها، ثم يكون البدل خيراً منها قال تعالى محذراً لهن:
وإن تظاهرا عليه} (التحريم: 4)
» الآية. وفي رواية «أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أنه لم يطلق نساءه فأذن له، وإنه قام على باب المسجد ونادى بأعلى صوته لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه» .
شرح بعض ألفاظ هذا الحديث:
قوله: فعدلت معه أي: فملت معه، بالأداوة أي: الركوة، والعوالي جمع عالية، وهي أماكن بأعلى أرض المدينة. وقوله: لا يغرنك إن كانت جارتك يريد بها الضرة وهي عائشة، وأوسم منك أي: أكثر حسناً، وقوله: فكنا نتناوب النزول: التناوب هو ما يفعله الإنسان مرة، ويفعله آخر بعده، والمشربة بضم الراء وفتحها الغرفة. وقوله: فإذا هو متكئ على رمال حصير: يقال: رملت الحصير إذا ظفرته ونسجته، والمراد أنه لم يكن على السرير وطاء سوى الحصير. وقوله: ما رأيت فيه مايرد البصر إلا أهبة ثلاث: الأهبة والأهب جمع إهاب، وهو الجلد. وقوله: من شدة موجدته: الموجدة الغضب.
وقرأ: {وإن تظاهرا} الكوفيون بتخفيف الظاء، والباقون بتشديدها أي: تتعاونا {عليه} أي: النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكرهه {فإن الله} الملك الأعظم الذي لا كفء له، وقوله تعالى: {هو} يجوز أن يكون فصلاً، وقوله: {مولاه} الخبر، وأن يكون مبتدأ ومولاه خبره، والجملة خبر إن، والمعنى فإن الله وليه وناصره فلا يضره ذلك التظاهر منهما.Y
وقوله تعالى: {وجبريل وصالح المؤمنين} معطوف على محل اسم إن فيكونون ناصريه، ويجوز أن يكون جبريل مبتدأ وما بعده عطف عليه وظهير خبر الجميع فتختص الولاية بالله.
واختلف في صالح المؤمنين، فقال عكرمة: هو أبو بكر وعمر، وقال المسيب بن شريك: هو أبو بكر. وقال سعيد بن جبير: هو عمر، وعن أسماء بنت عميس: هو علي بن أبي طالب. وقال الطبري: هو خيار المؤمنين. وصالح اسم جنس كقوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر} (العصر: 2) وقال قتادة: هم الأنبياء. وقال ابن زيد: هم الملائكة. وقال السدي: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والأولى أن يشمل هذه الأقوال كلها {والملائكة} أي: كلهم {بعد ذلك} أي: الأمر العظيم الذي تقدم ذكره {ظهير} أي: ظهراء أعوان له في نصره عليكما.
تنبيه: أخبر عن الجمع باسم الجنس إشارة إلى أنهم على كلمة واحدة، ومنهم جبريل عليه السلام فهو مذكور خصوصاً وعموماً ثلاث مرات على القول بأن صالح المؤمنين هم الملائكة إن قلنا بالعموم، وذلك إظهار لشدة محبته وموالاته للنبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأية عكس آية البقرة، وهي قوله تعالى: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة: 98) فإنه ذكر الخاص بعد العام تشريفاً له، وهنا ذكر العام بعد الخاص. قال ابن عادل: ولم يذكر الناس إلا القسم الأول، وفي جبريل لغات تقدم ذكرها في البقرة.
ولما كان أشد ما على المرأة أن تطلق، ثم إذا طلقت أن يستبدل بها، ثم يكون البدل خيراً منها قال تعالى محذراً لهن:
{عسى ربه} أي: المحسن إليه بجميع أنواع الإحسان التي عرفتموها، وما لم تعرفوه منها أكثر جدير وحقيق ووسط بين عسى وخبرها اهتماماً وتخويفاً قوله تعالى: {إن طلقكن} أي: بنفسه من غير اعتراض عليه جميعكن أو بعضكن.
قيل: كل عسى في القرآن واجب إلا هذه الآية، وقيل: هو واجب ولكن الله تعالى علقه بشرط، وهو التطليق ولم يطلقهن فإن طلقكن شرط معترض بين اسم عسى وخبرها وجوابه محذوف أو متقدم أي: إن طلقكن فعسى ربه وقوله تعالى {أن يبدله} أي: بمجرد طلاقه. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال، والباقون بسكون الموحدة وتخفيف الدال. {أزواجاً خيراً منكن} خبر عسى، والجملة جواب الشرط ولم يقع التبدل(4/329)
لعدم وجود الشرط.
فإن قيل: كيف تكون المبدلات خيراً منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً منهن لأنهن أمهات المؤمنين؟ أجيب: بأنه إذا طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعصيانهن وإيذائهن إياه كان غيرهن من الموصوف بالصفات الآتية مع الطاعة له صلى الله عليه وسلم خيراً، أو أن هذه على سبيل الفرض وهو عام في الدنيا والآخرة، فلا يقتضي وجود من هو خير منهن مطلقاً.
وإن قيل: بوجوده في خديجة لما جرب من تحاملها على نفسها في حقه صلى الله عليه وسلم وبلوغها في حبه والأدب معه ظاهراً وباطناً الغاية القصوى، ومريم أحسنت حين كانت من القانتين فذلك في الآخرة، وتعليق تطليق الكل لا يدل على أنه لم يطلق حفصة. فقد روي أنه طلقها ولم يزدها ذلك إلا فضلاً لأن الله تعالى أمره أن يراجعها، لأنها صوامة قوامة.
ثم بين تعالى الخيرية بقوله تعالى: {مسلمات} إلى أخره، وهو إما نعت، أو حال، أو منصوب على الاختصاص. قال سعيد بن جبير: مسلمات يعني مخلصات، وقيل: مسلمات لأمر الله عز وجل وأمر رسول الله خاضعات لله تعالى بالطاعات {مؤمنات} أي: مصدقات بتوحيد الله تعالى، وقيل: مصدقات بما أمرن به ونهين عنه، وقيل: مسلمات مقرات بالإسلام مؤمنات مخلصات {قانتات} أي: مطيعات والقنوت الطاعة، وقيل: داعيات {تائبات} أي: راجعات من الهفوات والزلات سريعاً إن وقع منهن شيء من ذلك، وقيل: راجعات إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركات لمحاب أنفسهن {عابدات} أي: كثيرات العبادات لله تعالى، وقال ابن عباس: كل عبادة في القرآن فهو التوحيد {سائحات} قال ابن عباس: صائمات، وقال الحسن: مهاجرات، وقال ابن زيد: وليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة، والسياحة الجولان في الأرض، وقال الفراء وغيره: سمي الصائم سائحاً لأن السائح لازاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه، فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره، وقيل: ذاهبات في طاعة الله تعالى. من ساح الماء إذا ذهب {ثيبات} جمع ثيب، وهي التي تزوجت ثم بانت بوجه من الوجوه، أو زالت بكارتها بوطء من غير نكاح {وأبكاراً} أي: عذارى جمع بكر، وهي ضد الثيب، وسميت بذلك لأنها على أول حالها التي خلقت بها وقدم الثيبات لأنهن أخبر بالعشرة التي هذا سياقها، ووسط الواو بين الثيبات والأبكار لتنافي الوصفين دون سائر الصفات.
فإن قيل: كيف ذكر الثيبات في مقام المدح وهن من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن؟ أجيب: بأنه يمكن أن يكون بعض الثيبات خيراً من كثير من الأبكار لاختصاصهن بالمال والجمال.
ولما بالغ سبحانه في عتاب نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع صيانتهن عن التشبه إكراماً له صلى الله عليه وسلم أتبع ذلك أمر الأمة بالتأسي به في هذه الأخلاق الكاملة فقال تعالى متبعاً لهن بالموعظة الخاصة بموعظة عامة دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للأقرب فالأقرب.
{يا أيها الذين أمنوا} أي: أقروا بذلك {قوا أنفسكم} أي: اجعلوا لها وقاية بالتأسي به صلى الله عليه وسلم وترك المعاصي وفعل الطاعات، وفي أدبه مع الخلق والخالق {وأهليكم} من النساء والأولاد وكل من يدخل في هذا الاسم قوهم {ناراً} بالنصح والتأديب ليكونوا متخلقين بأخلاق أهل النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الطبراني عن سعيد بن العاص: «ما نحل والد ولداً(4/330)
أفضل من أدب حسن» وفي الحديث: «رحم الله رجلاً قال: يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معهم في الجنة» وقيل: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من جهل أهله، وقال صلى الله عليه وسلم «رحم الله امرأ قام من الليل فصلى فأيقظ أهله، فإن لم تقم رش على وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل تصلي وأيقظت زوجها، فإن لم يقم رشت على وجهه من الماء» وقال بعض العلماء: لما قال {قوا أنفسكم} دخل فيه الأولاد لأن الولد بعض منه، كما دخلوا في قوله تعالى: {ولا عل أنفسكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم} (النور: 61) وقوله عليه الصلاة والسلام: «إن أحل ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه» فلم يفرد بالذكر أفراد سائر القرابات فيعلمه الحلال والحرام. وقال عليه الصلاة والسلام: «حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، ويعلمه الكتابة، ويزوجه اذا بلغ» .
ثم بين تعالى وصف تلك النار بقوله عز وجل: {وقودها} أي: الذي توقد به {الناس} أي: الكفار {والحجارة} كأصنامهم منها، وعن ابن عباس أنها حجارة الكبريت، وهي أشد الأشياء حراً إذا أوقد عليها، والمعنى أنها مفرطة الحرارة تتقد بما ذكر لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه {عليها ملائكة} خزنتها عدتهم تسعة عشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المدثر {غلاظ} أي: غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلق كما حبب لبني أدم أكل الطعام والشراب {شداد} أي: شداد الأبدان، وقيل: غلاظ الأقوال شداد الأفعال يدفع واحد منهم بالدفعة الواحدة سبعين ألفاً في النار، لم يخلق الله فيهم الرحمة، وقيل: في أخذهم أهل النار شداد عليهم، يقال: فلان شديد على فلان، أي: قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب.
وقيل: غلاظ أجسامهم ضخمة شداد، أي: الأقوياء. قال ابن عباس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وقال صلى الله عليه وسلم في خزنة جهنم: «ما بين منكبي كل واحد منهم كما بين المشرق والمغرب» {لا يعصون الله} أي: الملك الأعلى في وقت من الأوقات، وقوله تعالى: {ما أمرهم} بدل من الجلالة أي: لا يعصون أمر الله، وقوله تعالى: {ويفعلون ما يؤمرون} تأكيد؛ هذا ما جرى عليه الجلال المحلي. وقال الزمخشري: فإن قلت: أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت: لا فإن معنى الأولى أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها، ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه، ولا يتوانون فيه. وقيل: لا يعصون الله ما أمرهم الله فيما مضى ويفعلون ما يؤمرون فيما يستقبل، وصدر بهذا البيضاوي.
فإن قيل: إنه تعالى خاطب المشركين في قوله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} (البقرة: 24) فجعلها معدة للكافرين فما معنى مخاطبته للمؤمنين بذلك؟ أجيب: بأن الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار فإنهم مع الكفار في دار واحدة، فقيل للذين آمنوا: {قوا أنفسكم} باجتناب الفسوق مساكنة الذين أعدت لهم هذه الدار الموصوفة، ويجوز أن يأمرهم بالتوقي عن الارتداد والندم على الدخول في الإسلام، وأن يكون خطاباً للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون.
قال الزمخشري: ويعضد ذلك قوله تعالى على الإثر:
{يا أيها الذين كفروا} أي: بالإخلال بالأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم فأداهم ذلك إلى الإخلال بالأدب مع الله تعالى، وبالأدب مع(4/331)
سائر خلقه {لا تعتذروا} أي: تبالغوا في إظهار العذر هو إيساغ الحيلة في وجه يزيل ما ظهر من التقصير {اليوم} فإنه يوم الجزاء لا يوم الاعتذار، وقد فات زمان الاعتذار وصار الأمر إلى ما صار وهذا النهي لتحقيق اليأس {إنما تجزون} أي: في هذا اليوم {ما كنتم} أي: ما هو لكم كالجبلة والطبع {تعملون} في الدنيا، ونظيره {فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم} (الروم: 57) قال البقاعي: ولا بعد على الله في أن يصور لكل إنسان صورة عمله بحيث لا يشك أنه عمله ثم يجعل تلك الصورة عذابه الذي يجد فيه من الألم ما علم الله تعالى أنه بمقدار استحقاقه.
ولما بين تعالى أن المعذرة لا تنفع في ذلك اليوم أمر بالتوبة في الدنيا بقوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا توبوا} أي: ارجعوا رجوعاً تاماً {إلى الله} أي: الملك الذي لا نظير له {توبة} وقوله: {نصوحاً} صيغة مبالغة أسند النصح إليها مجازاً، وهي من نصح الثوب إذا خاطه فكأن التائب يرقع بالمعصية. وقيل: من قولهم: ناصح، أي: خالص. وقرأ شعبة بضم النون، والباقون بفتحها.
تنبيه: أمرهم بالتوبة وهي فرض على الأعيان في كل الأحوال وفي كل الأزمان. واختلفوا في معناها، فقال عمر ومعاذ: التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن في الضرع، وقال الحسن: هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعاً على أن لا يعود فيه. وقال الكلبي: أن يستغفر باللسان، ويندم بالقلب، ويمسك بالبدن.
وعن حوشب: أن لا يعود ولو حز بالسيف وأحرق بالنار، وعن سماك: أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله تعالى أمام عينيك، وتتبعه نظرك. وعن السدي: لا تصح إلا بنصيحة النفس، ونصيحة المؤمنين لأن من صحت توتبته أحب أن يكون الناس مثله.
وقال سعيد بن المسيب: توبة ينصحون فيها أنفسهم. وقال القرطبي: يجمعها أربع أشياء: الإستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيء الإخوان.
وقال الفقهاء: التوبة التي لا تعلق لحق آدمي فيها لها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية، وثانيها: أن يندم على ما فعله، وثالثها: أن يعزم على أن لا يعود إليها. فإذا اجتمعت هذه الشروط في التوبة كانت نصوحاً وإن فقد شرط منها لم تصح توبته. وإن كانت تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة المتقدمة، والرابع: أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت المعصية مالاً ونحوه رده إلى مالكه، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه من نفسه، أو طلب العفو منه، وإن كانت غيبة استحله منها.
قال العلماء: التوبة واجبة من كل معصية كبيرة أو صغيرة على الفور، ولا يجوز تأخيرها وتجب من جميع الذنوب، وإن تاب من بعضها صحت توبته عما تاب منه، وبقي عليه الذي لم يتب منه، هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» وعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» . وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» .
وعن علي أنه سمع أعرابياً يقول:(4/332)
اللهمّ إني أستغفرك وأتوب إليك فقال: يا هذا إن سرعة الاستغفار بالتوبة توبة الكذابين، قال: وما التوبة؟ قال: يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، وللفرائض الإعادة، وردّ المظالم واستحلال الخصوم، وأن تعزم على أن لا تعود، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما أذبتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي. وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه. وقوله تعالى: {عسى ربكم} أي: المحسن إليكم {أن يكفر} ، أي: يغطى تغطية عظيمة {عنكم سيئاتكم} ، أي: ما بدا منكم مما يسوء بالتوبة، إطماع من الله لعباده في قبول التوبة وذلك تفضلاً وتكرماً لا وجوباً عليه، وإن كان التائب على خطر فما ظنك بالمصر ولكن الفضل واسع.
ولما ذكر نفع التوبة في دفع المضار ذكر نفعها في جلب المسارّ بقوله تعالى: {ويدخلكم} ، أي: يوم الفصل {جنات} أي: بساتين كثيرة الأشجار تستر داخلها {تجري من تحتها} أي: تحت غرفها وأشجارها {الأنهار} فهي لا تزال رياً، وقوله تعالى: {يوم لا يخزي الله} أي: الملك الأعظم {النبي} أي: الذي نبأه الله تعالى بما يوجب له الرفعة التامّة من الأخبار التي هي في غاية العظمة، منصوب بيدخلكم أو بإضمار اذكر، ومعنى يخزي هنا يعذب، أي: لا يعذبه، وقوله تعالى: {والذين آمنوا معه} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن يكون منسوقاً على النبي، أي: ولا يخزي الذين آمنوا معه. وعلى هذا يكون قوله تعالى: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم} مستأنفاً أو حالاً، الثاني: أن يكون مبتدأ وخبره {نورهم يسعى} إلى آخره. وقوله تعالى: {يقولون} خبر ثان أو حال.
تنبيه: التقييد بالإيمان لا ينفي أن لهم نوراً عن شمائلهم بل لهم نور لكن لا يلتفتون إليه لأنهم إما من السابقين وإما من أهل اليمين فهم يمشون في هاتين الجهتين ويؤتون صحائف أعمالهم منهما، وأما أصحاب الشمال فيعطونها من وراء ظهورهم ومن شمائلهم وهم بما لهم من النور إن قالوا سمع لهم وإن شفعوا شفعوا {ربنا} ، أي: أيها المتفضل علينا بهذا النور وبكل خير كنا أو نكون فيه {أتمم لنا نورنا} ، أي: الذي مننت به علينا حتى يكون في غاية التمام، قال ابن عباس: يقولون ذلك إذا طفئ نور المنافقين إشفاقاً، وعن الحسن: لله متمه لهم ولكنهم يدعون تقرباً إلى الله كقوله تعالى: {واستغفر لذنبك} (غافر: 55) وهو مغفور له، وقيل: يقوله أدناهم منزلة لأنهم يعطون من النور قدر ما يبصرون مواطئ أقدامهم لأنّ النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلاً، وقيل: السابقون إلى الجنة يمرّون مثل البرق على الصراط، وبعضهم كالريح وبعضهم حبواً وزحفاً فأولئك الذين يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا {واغفر لنا} أي: وامح عنا كل نقص كان يميل بنا إلى أحوال المنافقين عينه وأثره وهذا النور من صور أعمالهم في الدنيا، لأن الآخرة تظهر فيها حقائق الأشياء وتتبع الصور معانيها، وهو شرع الله الذي شرعه وهو الصراط الذي يضرب بين ظهراني جهنم، لأن الفضائل في الدنيا متوسطة بين الرذائل فكل فضيلة يكتنفها رذيلتان إفراط وتفريط فالفضيلة هي الصراط المستقيم والرذيلتان ما كان من جهنم عن يمينه وشماله، فمن كان يمشي في الدنيا على ما أمر به سواء من غير إفراط ولا تفريط كان نوره تاماً ومن أمالته الشهوات طفئ نوره في بعض الأوقات واختطفته كلاليب هي صور الشهوات فتميل به في النار بقدر ميله إليها والمنافق يظهر له نور(4/333)
إقراره بكلمة التوحيد فإذا مشى طفئ لأن إقراره لا حقيقة له {إنك} أي: وحدك {على كل شيء} يمكن دخول المشيئة فيه {قدير} أي: بالغ القدرة.
ولما ذكر ما تقدم من لينه صلى الله عليه وسلم لأضعف الناس وحسن أدبه وكرم عشرته لأنه مجبول على الشفقة على عباد الله والرحمة لهم أمره سبحانه بالغلظة والشدة على أعدائه بقوله تعالى:
{يا أيها النبي جاهد الكفار} أي: بكل ما يجهدهم فيكفهم من السيف، وما دونه من المواعظ الحسنة والدعاء إلى الله تعالى ليعرف أن ذلك اللين لأهل الله تعالى إنما هو من تمام عقلك وغزير علمك وفضلك {والمنافقين} ، أي: جاهدهم بما يليق بهم من الحجة والسيف إن احتيج إليه إن أبدوا نوع مظاهرة وعرفهم أحوالهم في الآخرة، وإنهم لا نور لهم يجوزون به على الصراط مع المؤمنين، وقال الحسن: وجاهدهم بإقامة الحدود عليهم {واغلظ عليهم} ، بالفعل والقول بالتوبيخ والزجر والإبعاد والهجر، فالغلظة عليهم من اللين لله تعالى كما أنّ اللين لأهل الله من خشية الله تعالى. وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها {ومأواهم} أي: في الآخرة {جهنم وبئس المصير} ، أي: هي. ولما كان للكفار قرابات بالمسلمين ربما توهم أنها تنفعهم وللمسلين قرابات بالكفار توهم أنها تضرهم ضرب لكل مثلاً، وبدأ بالأول فقال تعالى:
تنبيه: التقييد بالإيمان لا ينفي أن لهم نوراً عن شمائلهم بل لهم نور لكن لا يلتفتون إليه لأنهم إما من السابقين وإما من أهل اليمين فهم يمشون في هاتين الجهتين ويؤتون صحائف أعمالهم منهما، وأما أصحاب الشمال فيعطونها من وراء ظهورهم ومن شمائلهم وهم بما لهم من النور إن قالوا سمع لهم وإن شفعوا شفعوا {ربنا} ، أي: أيها المتفضل علينا بهذا النور وبكل خير كنا أو نكون فيه {أتمم لنا نورنا} ، أي: الذي مننت به علينا حتى يكون في غاية التمام، قال ابن عباس: يقولون ذلك إذا طفئ نور المنافقين إشفاقاً، وعن الحسن: لله متمه لهم ولكنهم يدعون تقرباً إلى الله كقوله تعالى: {واستغفر لذنبك} (غافر: 55) وهو مغفور له، وقيل: يقوله أدناهم منزلة لأنهم يعطون من النور قدر ما يبصرون مواطئ أقدامهم لأنّ النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلاً، وقيل: السابقون إلى الجنة يمرّون مثل البرق على الصراط، وبعضهم كالريح وبعضهم حبواً وزحفاً فأولئك الذين يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا {واغفر لنا} أي: وامح عنا كل نقص كان يميل بنا إلى أحوال المنافقين عينه وأثره وهذا النور من صور أعمالهم في الدنيا، لأن الآخرة تظهر فيها حقائق الأشياء وتتبع الصور معانيها، وهو شرع الله الذي شرعه وهو الصراط الذي يضرب بين ظهراني جهنم، لأن الفضائل في الدنيا متوسطة بين الرذائل فكل فضيلة يكتنفها رذيلتان إفراط وتفريط فالفضيلة هي الصراط المستقيم والرذيلتان ما كان من جهنم عن يمينه وشماله، فمن كان يمشي في الدنيا على ما أمر به سواء من غير إفراط ولا تفريط كان نوره تاماً ومن أمالته الشهوات طفئ نوره في بعض الأوقات واختطفته كلاليب هي صور الشهوات فتميل به في النار بقدر ميله إليها والمنافق يظهر له نور إقراره بكلمة التوحيد فإذا مشى طفئ لأن إقراره لا حقيقة له {إنك} أي: وحدك {على كل شيء} يمكن دخول المشيئة فيه {قدير} أي: بالغ القدرة.
ولما ذكر ما تقدم من لينه صلى الله عليه وسلم لأضعف الناس وحسن أدبه وكرم عشرته لأنه مجبول على الشفقة على عباد الله والرحمة لهم أمره سبحانه بالغلظة والشدة على أعدائه بقوله تعالى:
{يا أيها النبي جاهد الكفار} أي: بكل ما يجهدهم فيكفهم من السيف، وما دونه من المواعظ الحسنة والدعاء إلى الله تعالى ليعرف أن ذلك اللين لأهل الله تعالى إنما هو من تمام عقلك وغزير علمك وفضلك {والمنافقين} ، أي: جاهدهم بما يليق بهم من الحجة والسيف إن احتيج إليه إن أبدوا نوع مظاهرة وعرفهم أحوالهم في الآخرة، وإنهم لا نور لهم يجوزون به على الصراط مع المؤمنين، وقال الحسن: وجاهدهم بإقامة الحدود عليهم {واغلظ عليهم} ، بالفعل والقول بالتوبيخ والزجر والإبعاد والهجر، فالغلظة عليهم من اللين لله تعالى كما أنّ اللين لأهل الله من خشية الله تعالى. وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها {ومأواهم} أي: في الآخرة {جهنم وبئس المصير} ، أي: هي. ولما كان للكفار قرابات بالمسلمين ربما توهم أنها تنفعهم وللمسلين قرابات بالكفار توهم أنها تضرهم ضرب لكل مثلاً، وبدأ بالأول فقال تعالى:
{ضرب الله} ، أي: الملك الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً {مثلاً} يعلم به من فيه قابلية العلم ويتعظ به من له أهلية الاتعاظ {للذين كفروا} ، أي: غطوا الحق على أنفسهم وعلى غيرهم وقوله تعالى: {امرأت نوح} عليه السلام الذي أهلك الله تعالى من كذبه بالغرق {وامرأت لوط} عليه السلام الذي أهلك الله تعالى من كذبه بالحصب والخسف، يجوز أن يكون بدلاً من قوله: {مثلاً} على تقدير حذف المضاف، أي: ضرب الله مثلاً مثل امرأة نوح وامرأة لوط، ويجوز أن يكونا مفعولين، وضرب الله تعالى هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني أحد عن قريب ولا نسيب في الآخرة إذا فرق بينهما الدين.
قال مقاتل: وكان اسم امرأة نوح والهة واسم امرأة لوط والعة، وقال الضحاك: عن عائشة: «إن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن اسم امرأة نوح واعلة واسم امرأة لوط والهة» .
تنبيه: رسمت امرأت في الثلاثة وابنت بالتاء المجرورة، فوقف عليهنّ بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، ووقف الباقون بالتاء. وقوله تعالى: {كانتا} أي: مع كونهما كافرتين {تحت عبدين} جملة مستأنفة كأنها مفسرة لضرب المثل، ولم يأت بضميرها فيقال: تحتهما، أي: تحت نوح ولوط لما قصد من تشريفهما بهذه الإضافة الشريفة قال القائل:
*لا تدعنى إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي*
ودلّ على كثرة عبيده تنبيها على غناه بقوله تعالى: {من عبادنا} ووصفهما بأجل الصفات وهو قوله تعالى: {صالحين} واختلف في معنى قوله تبارك وتعالى: {فخانتاهما} فقال عكرمة والضحاك: بالكفر.
وعن ابن عباس: كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون وإذا آمن به أحد أخبرت الجبابرة من قومه، وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه، وعن ابن عباس ما بغت امرأة نبيّ قط وإنما كانت خيانتهما في الدين وكانتا مشركتين، وقيل: كانتا منافقتين، وقيل: خيانتهما النميمة إذا أوحي إليهما شيء أفشتاه إلى المشركين؛ قاله الضحاك، وقيل: كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف(4/334)
دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف لما كانوا عليه من إتيان الرجال {فلم} أي: فتسبب عن ذلك أن العبدين الصالحين لم {يغنيا عنهما} ، أي: المرأتين بحق النكاح {من الله} ، أي: من عذاب الملك الذي له الأمر كله فلا أمر لغيره {شيئاً} أي: من إغناء لأجل خيانتهما {وقيل} أي: للمرأتين ممن أذن له في القول النافذ الذي لا مردّ له {ادخلا النار} ، أي: قيل لهما ذلك عند موتهما أو يوم القيامة {مع الداخلين} ، أي: سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء، فلم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما شيئاً من عذاب الله تعالى وفي هذا المثل تعريض بأمي المؤمنين عائشة وحفصة وما فرط منهما وتحذير لهما على أعلى وجه وأشده وفيه تنبيه على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالوسيلة وقيل: أن كفار مكة استهزؤا وقالوا: إن محمداً يشفع لنا فبين تعالى أن الشفاعة لا تنفع كفار مكة وإن كانوا أقرباء، كما لا ينفع نوح امرأته ولا لوط امرأته مع قربهما لهما لكفرهما.
ثم شرع تعالى في ضرب المثل الثاني: فقال تعالى:
{وضرب الله} ، أي: الملك الأعلى الذي له صفات الكمال {مثلاً للذين آمنوا امرأت فرعون} واسمها آسية وهي بنت مزاحم آمنت وعملت صالحاً فلم تضرّها الوصلة بالكافر بالزوجية التي هي من أعظم الوصل، ولا نفعه إيمانها، كل امرئ بما كسب رهين وأثابها ربها تعالى أن جعلها في الآخرة زوجة خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في دار كرامته بصبرها على عبادة الله تعالى وهي في حبالة عدوّه وأسقط وصفه بالعبودية دليلاً على تحقيره وعدم رحمته له لأنه من أعدى أعدائه وقوله تعالى: {إذ قالت} ظرف للمثل المحذوف، أي: مثلهم مثلها حين قالت {رب} ، أي: أيها المحسن إلي بالهداية وأنا في حبالة هذا الكافر الجبار {ابن لي عندك بيتاً} وبينت مرادها بالعندية فقالت: {في الجنة} أي: دار المقربين وقد أجابها سبحانه بأن جعلها زوجة أكمل خلقه محمد صلى الله عليه وسلم فكانت معه في منزله الذي هو أعلى المنازل {ونجني من فرعون} أي: فلا أكون عنده {وعمله} فلا تسلطه علي بما يضرني عندك في الآخرة فلا أعمل بشيء من عمله وهو شركه، وقال ابن عباس: جماعه {ونجني} أعادت العامل تأكيداً {من القوم الظالمين} أي: الناس الأقوياء العريقين الذين يضعون أعمالهم في غير موضعها، فاستجاب الله تعالى دعاءها وأحسن إليها لأجل محبتها للمحبوب، وهو كليم الله موسى عليه السلام كما يقال:
*صديق صديقي داخل في صداقتي
وذلك أن موسى عليه السلام لما غلب السحرة آمنت به فلما تبين لفرعون إيمانها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة، وفي القصة أن فرعون أمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها فلما أتوها بالصخرة قالت: {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة} فأبصرته من مرمرة بيضاء فانتزعت روحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه ولم تجد ألماً، وقال الحسن وابن كيسان: رفع الله تعالى امرأة فرعون إلى الجنة فهي فيها تأكل وتشرب.
وقوله تعالى: {ومريم ابنت عمران} عطف على امرأة فرعون تسلية للأرامل {التي أحصنت فرجها} أي: عفت عن السوء وجميع مقدماته، كانت كالحصن العظيم المانع من العدو فاستمرت على حالها إلى الممات فزوجها الله تعالى في الجنة جزاء لها بخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم وقال بعض المفسرين: أراد بالفرج هنا الجيب لقوله تعالى: {فنفخنا} ،(4/335)
أي: بمالنا من العظمة بواسطة ملكنا جبريل عليه السلام {فيه} ، أي: في جيب درعها. قال البقاعي: أو في فرجها الحقيقي، وعلى هذا فلا حاجة إلى التأويل {من روحنا} ، أي: من روح خلقناه بلا تواسط أصل وهو روح عيسى عليه السلام {وصدقت بكلمات ربها} ، أي: المحسن إليها واختلف في تلك الكلمات فقال: مقاتل يعني بالكلمات عيسى وأنه نبىّ وعيسى كلمة الله وقال البغوي: يعني الشرائع التي شرعها الله تعالى للعباد بكلماته المنزلة وقيل: هي قول جبريل عليه السلام لها {إنما أنا رسول ربك} (مريم: 19) الآية، وعلى كل قول استحقت أن تسمى لذلك صديقة، وقرأ: {وكتبه} أبو عمرو وحفص بضم الكاف والتاء جمعاً، والباقون بكسر الكاف وفتح التاء وبعدها ألف إفراداً والمراد منه الكثرة فالمراد به الجنس فيكون في معنى كل كتاب أنزله الله تعالى على ولدها أو غيره.
وقوله تعالى: {وكانت من القانتين} يجوز في {مَن} وجهان:
أحدهما: أنها لابتداء الغاية.
والثاني: أنها للتبعيض. وقد ذكرهما الزمخشري فقال: فمن للتبعيض، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية أنها ولدت من القانتين لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما وعليها وعلى سائر الأنبياء وآلهم أجمعين.
قال الزمخشري: فإن قلت لم قيل: من القانتين على التذكير؟
قلت: لأن القنوت صفه تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه. وقيل: أراد من القوم القانتين، ويجوز أن يرجع هذا إلى أهل بيتها فإنهم كانوا مطيعين لله، والقنوت: الطاعة، وقال عطاء: من المصلين بين المغرب والعشاء. وعن معاذ بن جبل: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة وهي تجود بنفسها: «إذا قدمت على ضرّاتك فأقرئيهنّ منى السلام مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم» وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كمل من نساء العالمين أربع مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» وروى الشيخان عن أبي موسى الأشعري: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحاً» حديث موضوع.
سورة الملك
مكية
وتسمى: الواقية والمنجية، وتدعى في التوراة المانعة لأنها تقي وتنجي من عذاب القبر، وعن ابن شهاب أنه كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن صاحبها في القبر. وهي ثلاثون آية وثلاثمائة، وثلاثون كلمة، وألف وثلاثمائة حرف.
{بسم الله} الذي خضعت لكمال عظمته الملوك {الرحمن} الذي عمّ بنعمة الإيجاد كل من في الوجود {الرحيم} الذي خص أولياءه بالنعيم بدار الخلود.
{تبارك} ، أي: تكبر وتقدس وتعالى وتعاظم وثبت ثباتاً لا مثل له مع اليمن والبركة، وقيل: دام فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه {الذي بيده} أي: بقدرته وتصرفه لا بقدرة غيره {الملك} ، أي: له الأمر والنهي(4/336)
وملك السموات في الدنيا والآخرة، وقال ابن عباس: بيده الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء ويحيي ويميت ويغني ويفقر ويعطي ويمنع. قال الرازي: وهذه الكلمة تستعمل لتأكيد كونه تعالى ملكاً ومالكاً كما يقال: بيد فلان الأمر والنهي والحل والعقد، وذكر اليد إنما هو تصوير للإحاطة ولتمام القدرة؛ لأنها محلها مع التنزه عن الجارحة وعن كل ما يفهم حاجة أو شبهها {وهو على كل شيء} ، أي: من الممكنات {قدير} أي: تام القدرة.
تنبيه: احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا يؤثر إلا قدرة الله تعالى، وأبطلوا القول بالطبائع كقول الفلاسفة، وأبطلوا القول بالتولدات كقول المعتزلة، وأبطلوا القول بكون العبد موجداً لأفعال نفسه لقوله تعالى: {وهو على كل شيء قدير} ودلت هذه الآية على الوحدانية لأنا لو قدرنا إلهاً ثانياً فإمّا أن يقدر على إيجاد شيء أو لا، فإن لم يقدر على إيجاد شيء لم يكن إلهاً وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئاً فيلزم كون ذلك الشيء مقدوراً للإله الأول لقوله: {وهو على كل شيء قدير} فيلزم وقوع مخلوق من خالقين وإنه محال، لأنه إذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد يلزم أن يستغني كل واحد منهما عن كل واحد منهما فيكون محتاجاً إليهما وغنياً عنهما وذلك محال. وقرأ: {وهو على كل شيء قدير} {وهو العزيز الغفور} {وهو اللطيف} وما أشبه ذلك أبو عمرو وقالون والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها، وخرج بقولنا من الممكنات أنه تعالى ليس قادراً على نفسه، وأجاب بعضهم بأن هذا عام مخصوص.
ودل على تمام قدرته قوله تعالى: {الذي خلق} أي: قدر وأوجد {الموت والحياة} قيل: خلق الموت في الدنيا والحياة في الآخرة، وقدم الموت على الحياة لأنّ الموت إلى القهر أقرب كما قدم البنات على البنين فقال: {يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور} (الشورى: 49)
وقيل: قدمه لأنه أقدم، لأنّ الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنطف والتراب ونحوه. وقال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء» وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه الفقر والمرض والموت» وقيل: إنما قدم الموت على الحياة لأن من نصب الموت بين عينيه كان أقوى الدواعي إلى العمل، وحكي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل أنّ الموت والحياة جسمان، والموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء وهي التي كان جبريل عليه السلام والأنبياء عليهم السلام يركبونها خطوتها مدّ البصر فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء ولا يجد ريحها إلا حيي ولا تطأ على شيء إلا حيي وهي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي، حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس.
وعن مقاتل: {خلق الموت} يعني: النطفة والعلقة والمضغة، وخلق الحياة يعني: خلق إنساناً فنفخ فيه الروح فصار إنساناً. قال القرطبي: وهذا حسن يدل عليه قوله تعالى: {ليبلوكم} أي: يعاملكم وهو أعلم بكم من أنفسكم معاملة المختبر لإظهار ما عندكم من العمل بالاختبار {أيكم أحسن عملاً} أي: من جهة العمل، أي: عمله أحسن من عمل غيره،(4/337)
وروي عن عمر مرفوعاً: «أحسن عملاً أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله» وقال الفضيل بن عياض: أحسن عملاً أخلصه وأصوبه وقال: العمل لا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص إذا كان لله والصواب إذا كان على السنة، وقال الحسن: أيكم أزهد في الدنيا وأترك لها، وقال السدي: أيكم أكثر للموت ذكراً وأحسن استعداداً وأشد خوفاً وحذراً. وقيل: يعاملكم معاملة المختبر، فيبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره وبالحياة ليبين شكره، وقيل: خلق الله تعالى الموت للبعث والجزاء وخلق الله الحياة للابتلاء.
فإن قيل: الابتلاء هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي وذلك في حق الله تعالى العالم بجميع الأشياء محال. أجيب: بأن الابتلاء من الله تعالى هو أن يعامل عبده معاملة تشبه المختبر كما مرّت الإشارة إليه.
{وهو} أي: والحال أنه وحده {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الغفور} أي: الذي مع ذلك يفعل في محو الذنوب عيناً وأثراً فعل المبالغ في ذلك، ويتلقى من أقبل إليه أحسن تلق كما قال تعالى في الحديث القدسي: «ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» .
وقوله تعالى: {الذي خلق} ، أي: أبدع على هذا التقدير من غير مثال سبق {سبع سموات} يجوز أن يكون تابعاً للعزيز الغفور نعتاً أو بياناً أو بدلاً، وأن يكون منقطعاً عنه خبر مبتدأ محذوف أو مفعول فعل مقدر. وقوله تعالى: {طباقاً} صفة لسبع وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه جمع طبق نحو جبل وجبال. والثاني: أنه جمع طبقة نحو: رحبة ورحاب، والثالث: أنه مصدر طابق، يقال: طابق مطابقة وطباقاً. ثم إما أن يجعل نفس المصدر مبالغة وإما على حذف مضاف، أي: ذات طباق وإما أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر، أي: طوبقت طباقاً من قولهم: طابق النعل، أي: جعله طبقة فوق طبقة أخرى. وروي عن ابن عباس: طباقاً أي: بعضها فوق بعض، قال البقاعي: بحيث يكون كل جزء منها مطابقاً لجزء من الأخرى ولا يكون جزء منها خارجاً عن ذلك قال: وهي لا تكون كذلك إلا أن تكون الأرض كرة والسماء الدنيا محيطة بها إحاطة قشر البيضة من جميع الجوانب، والثانية: محيطة بالدنيا وهكذا إلى أن يكون العرش محيطاً بالكلّ.
والكرسي الذي هو أقربها بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة فما ظنك بما تحته؟ وكل سماء في التي فوقها بهذه النسبة، وقد قرر أهل الهيئة أنها كذلك وليس في الشرع ما يخالفه بل ظواهره توافقه ولا سيما التشبيه بالحلقة الملقاة في فلاة فسبحان اللطيف الخبير، ولا شك أن من تفكر في هذه العظمة مع ما لطف بنا فيما هيأ فيها لنا من المنافع آثره سبحانه بالحب وأفرده عن كل ضد فانقطع باللجا إليه ولم يعول إلا عليه في كل دفع ونفع وسارع في مرضاته ومحابه في كل خفض ورفع.
تنبيه: دلت هذه الآية على القدرة من وجوه: أحدها: من حيث بقاؤها في جو الهواء معلقة بلا عماد ولا سلسلة. ثانيها: أنّ كلاً منها اختص بحركة خاصة متقدرة بقدر معين من السرعة والبطء إلى جهة معنية. ثالثها: كونها في ذاتها محدثة وكل ذلك يدل على إسنادها إلى قادر تام القدرة.
وقوله تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن} أي: للسموات ولغيرها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل مخاطب، وكذا القول في قوله تعالى: {فارجع البصر} {ثم ارجع(4/338)
البصر} {ينقلب إليك البصر} {من تفاوت} ، أي: من اعوجاج ولا تناقض ولا تباين بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها وإن اختلف صورة، وقيل: المراد بذلك السموات خاصة، أي: ما ترى في خلق السموات من عيب وأصله من الفوت وهو: أن يفوت بعضها بعضاً فيقع الخلل لعدم استوائها يدل عليه قول ابن عباس: من تفرّق، وقال السدي: أي من اختلاف وعيب يقول الناظر: لو كان كذا لكان أحسن، وقيل: المراد من التفاوت الفطور لقوله تعالى بعد ذلك: {فارجع البصر هل ترى من فطور} ونظيره قوله تعالى: {وما لها من فروج} (ق: 6) قال القفال: ويحتمل أن يكون المعنى: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت في الدلالة على حكم الصانع وأنه لم يخلقها عبثاً.
تنبيه: دلت هذه الآية على كمال علم الله تعالى، وذلك أن الحس دل على أن هذه السموات السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان وكل فاعل كان فعله محكماً متقناً فلا بدّ وأن يكون عالماً فدلت الآية على كونه تعالى عالماً بالمعلومات فقوله تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} إشارة إلى كونها محكمة متقنة.
وقرأ: {ما ترى} و {هل ترى} أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش بين بين والباقون بالفتح، وأدغم لام هل في التاء أبو عمرو وهشام وحمزة والكسائي، وقرأ من تفوت حمزة والكسائي بغير ألف بعد الفاء وتشديد الواو والباقون بألف بعد الفاء وتخفيف الواو.
وقوله تعالى: {فارجع البصر} مسبب عن قوله تعالى: {ما ترى} وقوله تعالى: {هل ترى من فطور} جملة يجوز أن تكون معلقة لفعل محذوف يدل عليه فارجع البصر، أي: فارجع البصر فانظر هل ترى، وأن يكون فارجع البصر مضمناً معنى انظر لأنه بمعناه فيكون هو المعلق.
والفطور جمع فطر وهو الشق يقال: فطره فانفطر، ومنه فطر ناب البعير كما يقال: شق ومعناه شق اللحم وطلع، قال المفسرون: الفطور: الصدوع والشقوق قال القائل:
*شققت القلب ثم ذرأت فيه ... هواك فليط فالتام الفطور*
{ثم ارجع البصر} وقوله تعالى: {كرتين} نصب على المصدر كمرتين وهو مثنى لا يراد به حقيقته بل التكثير بدليل قوله تعالى: {ينقلب إليك البصر خاسئاً} ، أي: صاغراً ذليلاً بعيداً عن إصابة المطلوب كأنه طرد عنه طرداً بالصغار {وهوحسير} ، أي: كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين ولا ثلاث، وإنما المعنى: كرات، وهذا كقولهم: لبيك وسعديك وحنانيك ودواليك وهذاذيك؛ لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد إنما يريدون التكثير، أي: إجابة لك بعد إجابة وإلا لتناقض الغرض، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة كقوله:
*لوعد قبر وقبر كنت أكرمه*
أي: قبور كثيرة ليتم المدح، وقال ابن عطية: كرتين معناه مرتين ونصبهما على المصدر. وقيل: الأولى: ليرى حسنها واستواءها، والثانية: ليبصر كواكبها في مسيرها وانتهائها وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط، وروى البغوي عن كعب أنه قال: السماء الدنيا موج مكفوف، والثانية: مرمرة بيضاء، والثالثة: حديد، والرابعة: صفر أو قال: نحاس، والخامسة: فضة، والسادسة: ذهب، والسابعة: ياقوتة حمراء، وبين(4/339)
السماء السابعة والحجب السبعة صحارى من نور.
ثم ذكر تعالى دلالة أخرى بعد تلك الدلالة تدل على تمام قدرته بقوله تعالى: {ولقد زينا} بما لنا من العظمة {السماء الدنيا} أي: القربى لأنها أقرب السموات إلى الأرض وهي التي تشاهدونها {بمصابيح} جمع مصباح وهو السراج أي: بنجوم متقدة عظيمة جداً تفوت الحصر ظاهرة سائرة مضيئة ظاهرة زاهرة وهي الكواكب التي تنوّر الأرض بالليل إنارة السرج التي تنوّرون بها سقوف دوركم، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها وزينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح، فكأنه قال: ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح والتزين بها لا يمنع أن تكون مركوزة فيما فوقها من السماوات وهي تتراءى بحسب الشفوف وبما لأجرام السماوات من الصفاء ولتلك المصابيح من شدة الإضاءة.
{وجعلناها} أي: المصابيح بما لنا من العظمة مع كونها زينة وإعلاماً للهداية {رجوماً للشياطين} أي: الذين يحق لهم الطرد من الجن لما لهم من الاحتراق حراسة للسماء التي هي محل تنزل أمرنا بالقضاء والقدر، وإنزال هذا الذكر الحكيم لئلا يفسدوا باستراق السمع فيها على الناس دينهم الحق ويلبسوا عليهم أمرهم بخلط الحق الذي قد ختمنا به الأديان بالباطل.
والرجوم جمع رجم وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير، ويجوز أن يكون باقياً على مصدرتيه، ويقدر مضاف، أي: ذات رجوم، وجمع المصدر باعتبار أنواعه، والشهاب المرجوم به منفصل من نار الكوكب وهو قارّ في فلكه على حاله كقبس النار يؤخذ منها وهي باقية لا تنقص، وذلك مسوغ لتسميتها بالنجوم فمن لحقه الشهاب منهم قتله أو ضعضع أمره وخبله، وقال أبو علي جواباً لمن قال: كيف تكون زينة وهي رجوم؟: لا تنفي كيفية الرجم أن يؤخذ نار من ضوء الكوكب يرمى بها الشيطان والكوكب في مكانه لا يرجم به، وقيل: الرجوم هنا الظنون والشياطين شياطين الإنس كما قال القائل:
*وما هو عنها بالحديث المرجم*
فيكون المعنى: جعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون يتكلمون بها رجماً بالغيب في أشياء من عظيم الابتلاء، وعن قتادة: خلقت النجوم لثلاث: زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وتكلف ما لا علم له به وتعدى وظلم.
{وأعتدنا} أي: هيأنا في الآخرة مع هذا الذي في الدنيا بما لنا من العظمة {لهم} أي: للشياطين {عذاب السعير} أي: التي في غاية الاتقاد في الآخرة قال المبرد: سعرت النار فهي مسعورة وسعير، مثل مقتولة وقتيل، وهذه الآية تدل على أن النار مخلوقة الآن لأن قوله تعالى: {وأعتدنا لهم} خبر عن الماضي.
ولما أخبر تعالى عن تهيئة العذاب لهم بالخصوص أخبر عن تهيئته لكل عامل بأعمالهم على وجه اندرجوا هم فيه فقال عز من قائل: {وللذين كفروا} أي: أوقعوا التغطية لما من حقه أن يظهر ويشهر من الإذعان للإله {بربهم} أي: الذي تفرد بإيجادهم والإحسان إليهم فأنكروا إيجاده لهم بعد الموت كفراً بما شاهدوا من اختراعه لهم من العدم {عذاب جهنم} أي: الدركة النارية التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والغضب {وبئس المصير} أي: هي.
{إذا ألقوا} أي: طرح الكفار {فيها} أي: في نار جهنم من أيّ طارح أمرناه بطرحهم كما يطرح الحطب في النار العظيمة {سمعوا لها}(4/340)
أي: جهنم نفسها {شهيقاً} أي: صوتاً هائلاً أشد نكارة من أول صوت الحمار لشدة توقدها وغليانها، قال ابن عباس: الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها كشهيق البغلة للشعير أو لأهلها على حذف مضاف كما قال عطاء: الشهيق للكفار، أي: سمعوا من أنفسهم شهيقاً كقوله تعالى: {لهم فيها زفير وشهيق} (هود: 106) قال القرطبي: الشهيق في الصدر، والزفير في الحلق وقد مضى في سورة هود. {وهي تفور} أي: تغلي بهم ومنه قول حسان:
*تركتم قدركم لا شيء فيها ... وقدر القوم حابية تفور*
قال ابن عباس: تغلي بهم كغلي المراجل، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بكسرها.
{تكاد تميز} أي: تقرب من أن ينفصل بعضها من بعض كما يقال: يكاد فلان ينشق من غيظه، وفلان غضب فطارت شقة منه في الأرض وشقة في السماء، كناية عن شدة الغضب. وقرأ البزي بتشديد التاء من تميز في الوصل، والسوسي على أصله بإدغام الدال في التاء {من الغيظ} أي: عليهم، وقال سعيد بن جبير: {تكاد تميز من الغيظ} يعني: ينقطع وينفصل بعضها من بعض، وقال ابن عباس: تتمزق من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى وذلك كله لغضب سيدها، وتأتي يوم القيامة تقاد إلى المحشر بألف زمام لكل زمام سبعون ألف ملك يقودونها به، وهي من شدة الغيظ تقوى على الملائكة وتحمل على الناس فتقطع الأزمة جميعاً وتحطم أهل المحشر فلا يردها عنهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم يقابلها بنوره فترجع مع أن لكل ملك من القوة ما لو أمر أن يقلع الأرض وما عليها من الجبال ويصعد بها في الجو فعل من غير كلفة، وهذا كما أطفأها في الدنيا بنفخه، روى أبو داود عن ابن عمر أنه قال: «انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر صلاته إلى أن قال: ثم نفخ في آخر سجوده فقال: أف أف ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون» .v
ولما ذكر تعالى حالها أتبعه حالهم فقال تعالى: {كلما ألقي فيها} أي: في جهنم بدفع الزبانية لهم {فوج} أي: جماعة في غاية الإسراع، والأفواج الجماعات في تفرقة ومنه قوله تعالى: {فتأتون أفواجاً} (النبأ: 18) والمراد هنا بالفوج جماعة من الكفار {سألهم} أي: ذلك الفوج {خزنتها} أي: النار وهم مالك وأعوانه سؤال توبيخ وتقريع {ألم يأتكم} أي: في الدنيا {نذير} أي: رسول يخوفكم هذا اليوم حتى تحذروا. قال الزجاج: وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب.
{قالوا بلى} قرأه حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح والوقف عليها كما في الوصل {قد جاءنا نذير} أي: محذر بليغ التحذير.
تنبيه: في ذلك دليل على جواز الجمع بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها إذ لو قالوا: بلى لفهم المعنى، ولكنهم أظهروه تحسراً وزيادة في نقمتهم على تفريطهم في قبول قول النذير وليعطفوا عليه قولهم {فكذبنا} أي: فتسبب عن مجيئه أنا أوقعنا التكذيب بكل ما قاله النذير {وقلنا} أي: زيادة في التكذيب {ما نزل الله} أي: الذي له الكمال كله عليكم ولا على غيركم {من شيء} لا وحياً ولا غيره وما كفانا هذا الفجور حتى قلنا مؤكدين: {إن} أي: ما {أنتم} أي: أيها النذر المذكورون في نذير، المراد به الجنس {إلا في ضلال} أي: بعد عن الطريق {كبير} فبالغنا في التكذيب والسفه(4/341)
بالاستجهال والاستخفاف. وقيل: قوله تعالى: {إن أنتم إلا في ضلال كبير} من كلام الملائكة للكفار حين أخبروا بالتكذيب.
{وقالوا} أي: الكفار زيادة في توبيخ أنفسهم {لو كنا} أي: بما لنا من الغريزة {نسمع} أي: كلام الرسل فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتماداً على ما لاح من صدقهم بالمعجزات {أو نعقل} أي: بما أدته إلينا حاسة السمع فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين {ما كنا} أي: كونا دائماً {في أصحاب السعير} أي: في عداد من أعدت له النار التي هي في غاية الإيقاد.
تنبيه: في الآية أعظم فضيلة للعقل، روي عن أبي سعيد الخدري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته أما سمعتم قول الفجار: {لو كنا نسمع أو نعقل} » الآية
{فاعترفوا} أي: بالغوا في الاعتراف حيث لا ينفعهم الاعتراف {بذنبهم} أي: في دار الجزاء كما بالغوا في التكذيب في دار العمل، والذنب لم يجمع لأنه في الأصل مصدر والمراد به تكذيب الرسل {فسحقاً} أي: فبعداً لهم من رحمة الله تعالى وهو دعاء عليهم مستجاب {لأصحاب السعير} أي: الذين قضت عليهم أعمالهم بملازمتها، وقال سعيد بن جبير وأبو صالح: هو واد في جهنم يقال: له السحق، وقرأ الكسائي بضم الحاء والباقون بسكونها.
ولما ذكر أصحاب السعير أتبعهم ذكر أضدادهم بقوله تعالى: {إن الذين يخشون} أي: يخافون {ربهم} أي: المحسن إليهم خوفاّ أرق قلوبهم وأرق أعينهم بحيث لا يقر لهم قرار من توقعهم العقوبة كلما ازدادوا طاعة ازدادوا خشية {يؤتون ما آتو وقلوبهم وجلة} (المؤمنون: 60) . {بالغيب} أي: حال كونهم غائبين عن عذابه سبحانه، أو وعيده غائباً عنهم أو وهم غائبون عن أعين الناس فهم مع الناس يتكلمون وقلوبهم تتلظى بنيران الخوف وتتكلم بسيوف الهيبة فيتركون المعصية حيث لا يراهم أحد من الناس ولا يكون لهم هذا إلا برياضة عظيمة، فعلى العاقل أن يطوع نفسه لترجع مطمئنة بأن ترضى بالله رباً لتدخل في رق العبودية، وبالإسلام ديناً ليصير غريقاً فيها، فلا ينازع الملك في ردائه الكبرياء وإزاره العظمة وتاجه الجلال وحلته الجمال، ولا ينازعه فيما يدبره من الشرائع ويظهره من المعارف ويحكم به على عبيده من قضائه وقدره. {لهم مغفرة} أي: عظيمة تأتي على جميع ذنوبهم {وأجر} أي: من فضل الله تعالى {كبير} يكون لهم به من الإكرام ما ينسيهم ما قاسوه في الدنيا من شدائد الإيلام ويصغر في جنبه لذائذ الدنيا العظام.
{وأسروا} أي: أيها الخلائق {قولكم} أي: خيراً كان أو شراً {أو اجهروا به} فإنه يعلمه ويجازيكم به، اللفظ لفظ الأمر والمراد به الخير، يعني: إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره أو جهرتم به فسواء {إنه} أي: ربكم {عليم} أي: بالغ العلم {بذات الصدور} أي: بحقيقتها وكنهها وحالها وجبلتها وما يحدث عنها من الخير والشر وقال ابن عباس: «نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل عليه السلام فقال: بعضهم لبعض أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد» . فأسروا قولكم أو اجهروا به يعني: وأسروا قولكم في محمد صلى الله عليه وسلم وقال غيره: إنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال، والمراد أن قولكم وعملكم على أيّ سبيل وجد(4/342)
فالحال واحد في علمه تعالى، فاحذروا من المعاصي سراً كما تحذرون عنها جهراً فإنّ ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم الله تعالى.
ولما قال تعالى: {إنه عليم بذات الصدور} ذكر الدليل على أنه عالم فقال تعالى: {ألا يعلم من خلق} أي: من خلق لا بدّ وأن يكون عالماً بما خلقه، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد، والقاصد إلى الشيء لابد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية. والمعنى: ألا يعلم السر من خلق السر، يقول: أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالماً بما في قلوب العباد، قال أهل المعاني: إن شئت جعلته من أسماء الخالق تعالى ويكون المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق والمعنى: ألا يعلم الله من خلقه، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بما خلقه وما يخلقه قال ابن المسيب: بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير وقد عصفت الريح فوقع في نفس الرجل أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم ألا يعلم من خلق {وهو} أي: والحال أنه هو {اللطيف} الذي يعلم ما بثه في القلوب {الخبير} أي: البالغ العلم بالظواهر والبواطن فكيف يخفى عليه شيء من الأشياء.
وقال أبو إسحاق الاسفرايني: من أسماء صفات الذات ما هو للعلم منها العليم ومعناه تعميم جميع المعلومات، ومنها الحكيم، ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف، ومنها الشهيد، ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر، ومعناه أن لا يغيب عنه شيء، ومنها الحافظ ويختص بأنه لا ينسى شيئاً، ومنها المحصي ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور واشتداد الريح وتساقط الأوراق فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} .
ولما كان هذا أمراً غامضاً دل عليه بأمر مشاهد أبدعه بلطفه وأتقنه بخبره فقال مستأنفاً: {هو} أي: وحده {الذي جعل لكم الأرض} على سعتها وعظمتها وحزونة كثير منها {ذلولاً} أي: مسخرة لا تمتنع لتتوصلوا إلى منافعكم فيها قابلة للانقياد لما تريدون منها من مشي وزرع حبوب وغرس أشجار وغير ذلك، وقيل: ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها ولو كانت متمايلة لما كانت منقادة لنا، وقيل: لو كانت مثل الذهب والحديد لكانت تسخن جداً في الصيف وتبرد جداً في الشتاء.
تنبيه: في ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدمة تهديد للكفرة كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً: يا فلان أنا أعرف سرك وعلانيتك فاجلس في هذه الدار التي وهبتها لك، وكل هذا الخبز الذي هيأته لك ولا تأمن مكري وتأديبي، فكأنه تعالى يقول: يا أيها الكفار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم فخافوني فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم ولو شئت خسفت بكم.
وقوله تعالى: {فامشوا} ، أي: الهوينا مكتسبين وغير مكتسبين إن شئتم من غير صعوبة توجب لكم وثوباً أو حبواً {في مناكبها} مثل لفرط التذلل ومجاوزته الغاية، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير، وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك شيئاً وهذا أمر إباحة وفيه إظهار الامتنان وقيل: خبر بلفظ الأمر، أي: لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها وآكامها وجبالها، وقال ابن عباس وبشير بن كعب وقتادة: في مناكبها في جبالها وتذليلها أدل على(4/343)
تذليل غيرها، وليكن مشيكم فيها وتصرفاتكم بذل وإخبات وسكون استصغاراً لأنفسكم وشكراً لمن سخر لكم ذلك، وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها: إن أخبرتيني ما مناكب الأرض فأنت حرة، فقالت: مناكبها جبالها، فقال لها: صرت حرة فأراد أن يتزوجها فسأل أبا الدرداء فقال: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وقال مجاهد: في أطرافها، وعنه أيضاً في طرقها وفجاجها، وهو قول السدي والحسن، وقال الكلبي: في جوانبها، ومنكبا الرجل جانباه.
فائدة: حكى قتادة عن أبي الخلدان: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، للسودان اثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف.
ثم ذكرهم تعالى بأنه سهلها لإخراج البركات بقوله تعالى: {وكلوا} ودل على أن الرزق فوق الكفاية بقوله تعالى: {من رزقه} الذي أودعه لكم فيها، قال الحسن: مما أحل لكم، وقيل: مما خلقه الله لكم رزقاً في الأرض {وإليه} أي: وحده {النشور} وهو إخراج جميع الحيوانات التي أكلتها الأرض وأفسدتها يخرجها سبحانه في الوقت الذي يريده على ما كان كل منها عليه عند الموت كما أخرج تلك الأرزاق، لا فرق بين هذا وذاك غير أنكم لا تتأملون، فيا فوز من شكر ويا هلاك من كفر، فعوّدوا أنفسكم بالخيرات لعلها تنقاد كما قيل:
* ... هي النفس ما عودتها تتعود*
ولما كان لم يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار قال تعالى مهدداً للمكذبين: {أأمنتم} قرأ قنبل في الوصل بإبدال الهمزة بعد راء النشور واواً، وسهل الهمزة الثانية نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وحققها الباقون، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام والباقون بغير إدخال، وقوله تعالى: {من في السماء} فيه وجوه:
أحدها: من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها ينزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه.
والثاني: أن ذلك على حذف مضاف، أي: أأمنتم خالق من في السماء.
والثالث: أن في بمعنى على، أي: على السماء، كقوله: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} (طه: 71) أي: على جذوع النخل وإنما احتاج القائل بهذين الوجهين إلى ذلك لأنه اعتقد أن من واقعة على الباري تعالى شأنه وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيز لئلا يلزم التجسيم، ولا حاجة إلى ذلك، فإن من هنا المراد بها الملائكة سكان السماء وهم الذين يتولون الرحمة والنقمة.
والرابع: أنهم خوطبوا بذلك على اعتقادهم فإن القوم كانوا مجسمة مشبهة وأنه في السماء، وأن الرحمة والعذاب نازلان منه، وكانوا يدعونه من جهتها فقيل لهم على حسب اعتقادهم: {أأمنتم من في السماء} أي: من تزعمون أنه في السماء. قال الرازي: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها بإجماع المسلمين، لأنّ ذلك يقتضي إحاطة السماء به من جميع الجوانب فيكون أصغر منها والعرش أكبر من السماء بكثير فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش وهو باطل بالاتفاق، ولأنه تعالى قال: {قل لمن ما في السموات والأرض} (الأنعام: 12) فلو كان فيها لكان مالكاً لنفسه، فالمعنى: أما من في السماء عذابه، وإما إن ذلك بحسب ما كانت العرب تعتقده، وأما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته كما قال تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض} (الأنعام: 3) فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة في مكانين، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله سبحانه وتعظيم قدرته، والمراد الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام.
فائدة: حكى قتادة عن أبي الخلدان: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، للسودان اثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف.
ثم ذكرهم تعالى بأنه سهلها لإخراج البركات بقوله تعالى: {وكلوا} ودل على أن الرزق فوق الكفاية بقوله تعالى: {من رزقه} الذي أودعه لكم فيها، قال الحسن: مما أحل لكم، وقيل: مما خلقه الله لكم رزقاً في الأرض {وإليه} أي: وحده {النشور} وهو إخراج جميع الحيوانات التي أكلتها الأرض وأفسدتها يخرجها سبحانه في الوقت الذي يريده على ما كان كل منها عليه عند الموت كما أخرج تلك الأرزاق، لا فرق بين هذا وذاك غير أنكم لا تتأملون، فيا فوز من شكر ويا هلاك من كفر، فعوّدوا أنفسكم بالخيرات لعلها تنقاد كما قيل:
* ... هي النفس ما عودتها تتعود*
ولما كان لم يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار قال تعالى مهدداً للمكذبين: {أأمنتم} قرأ قنبل في الوصل بإبدال الهمزة بعد راء النشور واواً، وسهل الهمزة الثانية نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وحققها الباقون، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام والباقون بغير إدخال، وقوله تعالى: {من في السماء} فيه وجوه:
أحدها: من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها ينزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه.
والثاني: أن ذلك على حذف مضاف، أي: أأمنتم خالق من في السماء.
والثالث: أن في بمعنى على، أي: على السماء، كقوله: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} (طه: 71) أي: على جذوع النخل وإنما احتاج القائل بهذين الوجهين إلى ذلك لأنه اعتقد أن من واقعة على الباري تعالى شأنه وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيز لئلا يلزم التجسيم، ولا حاجة إلى ذلك، فإن من هنا المراد بها الملائكة سكان السماء وهم الذين يتولون الرحمة والنقمة.
والرابع: أنهم خوطبوا بذلك على اعتقادهم فإن القوم كانوا مجسمة مشبهة وأنه في السماء، وأن الرحمة والعذاب نازلان منه، وكانوا يدعونه من جهتها فقيل لهم على حسب اعتقادهم: {أأمنتم من في السماء} أي: من تزعمون أنه في السماء. قال الرازي: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها بإجماع المسلمين، لأنّ ذلك يقتضي إحاطة السماء به من جميع الجوانب فيكون أصغر منها والعرش أكبر من السماء بكثير فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش وهو باطل بالاتفاق، ولأنه تعالى قال: {قل لمن ما في السموات والأرض} (الأنعام: 12) فلو كان فيها لكان مالكاً لنفسه، فالمعنى: أما من في السماء عذابه، وإما إن ذلك بحسب ما كانت العرب تعتقده، وأما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته كما قال تعالى: {وهو الله في السموات وفي الأرض} (الأنعام: 3) فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة في مكانين، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله سبحانه وتعظيم قدرته، والمراد الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام.
وقوله تعالى:(4/344)
{أن يخسف بكم الأرض} بدل من {من في السماء} بدل اشتمال، وقال القرطبي: يحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون، وقرأ: {من في السماء أن} نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة بعد الكسرة ياء في الوصل والباقون بتحقيقهما {فإذا هي} أي: الأرض التي أنتم عليها {تمور} أي: تضطرب وهي تهوي بكم وتجري هابطة في الهواء وتتكفأ إلى حيث شاء سبحانه، قال في «القاموس» : المور الاضطراب والجريان على وجه الأرض والتحرك، وقال الرازي: إن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها يذهبون، والأرض فوقهم تمور فتقلبهم إلى أسفل السافلين.
وقال القرطبي: قال المحققون: أأمنتم من فوق السماء كقوله تعالى: {فسيحوا في الأرض} (التوبة: 2) ، أي: فوقها لا بالمماسة والتحيز بل بالقهر والتدبير والأخبار في هذا صحيحة كثيرة منتشرة مشيرة إلى العلوّ لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل أو معاند، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ووصفه بالعلوّ والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود، لأنها صفات الأجسام وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء، لأن السماء مهبط الوحي ومنزل القطر ومحل القدس ومعدن المطهرين من الملائكة وإليها ترفع أعمال العباد وفوقها عرشه وجنته، كما جعل الله تعالى الكعبة قبلة للصلاة، ولأنه تعالى خلق الأمكنة وهو غير متحيز وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان ولا مكان له ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان.
وقوله تعالى: {أم أمنتم} أي: أيها المكذبون {من في السماء أن يرسل} بدل من {من في السماء} بدل اشتمال. {عليكم} أي: من السماء {حاصباً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل، وقيل: ريح فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء لشدتها وقوتها، وقيل: هي سحاب فيها حجارة {فستعملون} أي: عن قريب بوعد لا يخلف عند معاينة العذاب {كيف نذير} أي: إنذاري البليغ إذا شاهدتم العذاب، وهو بحيث لا يستطاع ولا تتعلق الأطماع بكشف له ولا دفاع. قال البقاعي: وحذف الياء منه ومن نكير إشارة إلى أنه وإن كان خارجاً عن الطوق ليس منتهى مقدوره بل لديه مزيد لا غاية له بوجه ولا تحزير، أي: على قراءة أكثر القراء فقد قرأ ورش بالياء في الوصل فيهما دون الوقف والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً.
{ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير} أي: إنكاري عليهم لما أصبتهم به من العذاب.
ولما ذكر تعالى ما تقدم من الوعيد ذكر البرهان على كمال قدرته بقوله تعالى: {أو لم يروا} أجمع القراء على القراءة بالغيب لأن السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية فقال تعالى: {إلى الطير} وهو جمع طائر {فوقهم} أي: في الهواء، وقوله تعالى: {صافات} أي: باسطات أجنحتهن يجوز أن يكون حالاً من الطير وأن يكون حالاً من فوقهم إذا جعلناه حالاً فتكون متداخلة وفوقهم ظرف لصافات على الأول أو ليروا.
وقوله تعالى: {ويقبضن} عطفه الفعل على الاسم لأنه بمعناه، أي: وقابضات فالفعل هنا مؤول بالاسم عكس قوله تعالى: {إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا} (الحديد: 18) فإن الاسم هناك مؤول بالفعل وقال أبو حيان: وعطف الفعل على الاسم(4/345)
لما كان في معناه، ومثله قوله تعالى: {فالمغيرات صبحاً فأثرن} (العاديات، الآيات: 3 ـ 4) عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى: فاللاتي أغرن فأثرن، ومثل هذا العطف فصيح وكذا عكسه إلا عند السهيلي فإنه قبيح، وقال الزمخشري: {صافات} باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً {ويقبضن} ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن.
فإن قلت: لم قال: {ويقبضن} ولم يقل قابضات؟ قلت: لأن أصل الطيران هو صف الأجنحة، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح، اه.
وقال أبو جعفر النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحيه: صاف، وإذا ضمهما فأصابا جنبيه: قابض، لأنه يقبضهما. وقيل: ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا أوقفن عن الطيران. {ما يمسكهن} أي: عن الوقوع في حال البسط والقبض {إلا الرحمن} أي: الملك الذي رحمته عامة لكل شيء بأن هيأهن بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد على أشكال مختلفة وخصائص مفترقة هيأهن للجري في الهواء. {إنه} أي: الرحمن سبحانه {بكل شيء بصير} أي: بالغ البصر والعلم بظواهر الأشياء وبواطنها فمهما أراد كان. والمعنى: أولم يستدلوا بثبوت الطير في الهواء على قدرتنا أن نفعل بهم ما تقدم وغيره من العذاب.
وقوله تعالى: {أمن} مبتدأ، وقوله تعالى: {هذا} خبره، وقوله تعالى: {الذي} بدل من هذا، وقوله تعالى: {هو جند} أي: أعوان {لكم} صلة الذي، وقوله تعالى: {ينصركم} صفة جند {من دون الرحمن} أي: غيره يدفع عنكم عذابه، أي: لا ناصر لكم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: جندٌ لكم، أي: حزب ومنعة لكم ولفظ الجند يوحد ولذلك قال تعالى: {هذا الذي هو جند لكم} وهو استفهام إنكاري، أي: لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله من دون الرحمن، أي: من سوى الرحمن. وقرأ أبو عمرو بسكون الراء، وللدوري اختلاس الضمة أيضاً والباقون بالرفع {إن الكافرون} أي: ما الكافرون {إلا في غرور} أي: من الشيطان يغرّهم بأن لا عذاب ولا حساب.
قال بعض المفسرين: كان الكفار يمتنعون عن الإيمان ويعاندون النبي صلى الله عليه وسلم معتمدين على شيئين: أحدهما: قوتهم بمالهم وعددهم. والثاني: اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات وتدفع عنهم جميع الآفات، فأبطل الله تعالى عليهم الأول بقوله تعالى: {أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم} الآية، ورد عليهم الثاني بقوله تعالى:
{أمن هذا الذي يرزقكم} أي: على سبيل التجدد والاستمرار {إن أمسك رزقه} بإمساك الأسباب التي ينشأ عنها كالمطر، ولو كان الرزق موجوداً وكثيراً وسهل التناول فوضع الأكل في فمه فأمسك الله تعالى عنه قوة الازدراد عجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي: فمن يرزقكم، أي: لا رازق لكم غيره، {بل لجوا} أي: تمادوا سفاهة لا احتياطاً وشجاعة. قال الرازي في «اللوامع» : واللجاج تقحم الأمر مع كثرة الصوارف عنه، {في عتوّ} أي: مظروفين لعناد وتكبر عن الحق وخروج إلى فاحش الفساد {ونفور} أي: تباعد عن الحق، واستولى ذلك عليهم حتى أحاط بهم مع أنه لا قوة لأحد منهم في جلب سارّ ولا دفع ضارّ والداعي إلى ذلك الشهوة والغضب.
{أفمن يمشي مكباً} أي: واقعاً {على(4/346)
وجهه أهدى أمن يمشي سوياً} أي: معتدلاً {على صراط} أي: طريق {مستقيم} وخبر من الثانية محذوف دل عليه خبر الأولى، أي: أهدى، والمثل في المؤمن والكافر، أي: أيهما أهدى، وقيل: المراد بالمكب الأعمى، فإنه يتعسف فينكب وبالسوي البصير. وقيل: المكب هو الذي يحشر على وجهه إلى النار، ومن يمشي سوياً: الذي يحشر على قدميه إلى الجنة، وقال ابن عباس والكلبي رضي الله عنهم: عنى بالذي يمشي مكباً على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سوياً رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: أبو بكر، وقيل: حمزة، وقيل: عمار بن ياسر، قال عكرمة: وقيل: عامٌّ في الكافر والمؤمن، أي: أن الكافر لا يدري أعلى حق هو أم على باطل، أي: أهذا الكافر أهدى أم المسلم الذي يمشي سوياً معتدلاً يبصر الطريق وهو على صراط مستقيم وهو الإسلام، وقرأ قنبل بالسين وقرأ خلف بالإشمام، أي: بين الصاد والزاي والباقون بالصاد الخالصة.
{قل} أي: يا أشرف الخلق وأشفقهم عليهم مذكراً لهم بما رفع عنهم الملك من المفسدات وجمع لهم من المصلحات ليرجعوا إليه، ولا يعولوا في حال من أحوالهم إلا عليه {هو} أي: الذي شرفكم بهذا الذكر وبين لكم هذا البيان {الذي أنشأكم} أي: أوجدكم ودرجكم في مدارج التربية حيث طوركم في الأطوار المختلفة في الرحم، ويسر لكم بعد الخروج اللبن حيث كانت المعدة ضعيفة عن أكثف منه {وجعل لكم السمع} أي: لتسمعوا ما تعقله قلوبكم فيهديكم، ووحده لقلة التفاوت فيه ليظهر سر تصرفه سبحانه في القلوب بغاية المفاوتة مع أنه أعظم الطرق الموصلة للمعاني إليها {والأبصار} لتنظروا صنائعه فتعتبروا وتزدجروا عما يرديكم {والأفئدة} أي: القلوب التي جعلها سبحانه في غاية التوقد بالإدراك لما لا يدركه بقية الحيوان لتتفكروا فتقبلوا على ما يعليكم، وجمعهما لكثرة التفاوت في نور الأبصار وإدراك الأفئدة. {قليلاً ما تشكرون} أي: باستعمالها فيما خلقت لأجله، وما مزيدة والجملة مستأنفة مخبرة بقلة شكرهم جداً على هذه النعم، وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأعلاهم في العرفان.
{قل هو} أي: وحده {الذي ذرأكم} أي: خلقكم وبثكم ونشركم وكثركم وأنشأكم بعدما كنتم كالذر أطفالاً ضعفاء {في الأرض} التي تقدم أنه ذللها لكم ورزقكم منها النبات وغيره {وإليه} أي: وحده بعد موتكم {تحشرون} شيئاً فشيئاً إلى البرزخ ودفعة واحدة يوم البعث للحساب فيجازى كلاً بعمله.
{ويقولون} أي: يجددون هذا القول تجديداً مستمراً استهزاء وتكذيباً {متى هذا} وزادوا في الاستهزاء بقولهم {الوعد} أي: يوم القيامة والعذاب الذي توعدوننا به {إن كنتم صادقين} أي: في أنه لابدّ لنا منه وأنكم مقربون عند الله، فلو كان لهم ثبات الصبر لما كانوا طاشوا هذا الطيش بإبراز هذا القول القبيح.
ثم إنه تعالى أجاب عن هذا السؤال بقوله عز وجل: {قل} أي: يا أكرم الخلق لهؤلاء البعداء {إنما العلم} أي: علم وقت قيام الساعة ونزول العذاب {عند الله} أي: الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال، فهو الذي يكون عنده وبيده جميع ما يراد منه لا يطلع عليه غيره {وإنما أنا نذير} أي: كامل في أمر النذارة التي يلزم منه البشارة لمن أطاع النذير، لا وظيفة لي عند الملك الأعظم غير ذلك فلا وصول إلى سؤاله عما لا يؤذن لي في السؤال عنه {مبين} أي: بين الإنذار بإقامة الأدلة حتى يصير ذلك كأنه مشاهدة لمن له قبول(4/347)
العلم.
{فلما رأوه} أي: العذاب بعد الحشر {زلفة} أي: ذا قرب عظيم منهم {سيئت} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: اسودّت {وجوه} وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال تعالى: {الذين كفروا} أي: أظهروا السوء وغاية الكراهة في وجوه من أوقع هذا الوصف.
تنبيه: الأصل ساء، أي: أحزن وجوههم العذاب ورؤيته ثم بني للمفعول وساء هنا ليست المرادفة لبئس.
وأشم كسرة السين نافع وابن عامر والكسائي والباقون باختلاس الكسرة. وقيل: أي: قال لهم الخزنة تقريعاً وتوبيخاً {هذا الذي كنتم} أي: جبلة وطبعاً {به} أي: بسببه ومن أجله {تدّعون} أي: تتمنون وتسألون وتزعمون أنكم لا تبعثون، وهذه حكاية حال تأتي عبر عنها بطريق المضي لتحقق وقوعها، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها.
{قل} أي: يا أكرم الخلق لهؤلاء الذين طال تضجرهم منك وهم يتمنون هلاكك كما قال تعالى: {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} (الطور: 30) {أرأيتم} أي: أخبروني خبراً أنتم في الوثوق به على ما هو كالرؤية {إن أهلكني الله} أي: أماتني بعذاب أو غيره الذي له من الجلال والإكرام ما يعصم به وليه ويقصم عدوه.
وقرأ: قل أرأيتم في الموضعين، نافع بتسهيل الهمزة بعد الواو، ولورش أيضاً إبدالها ألفاً وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق وإذا وقف حمزة سهل الهمزة، وقرأ: {إن أهلكني الله} حمزة بسكون الياء والباقون بفتحها، ومن سكن الياء رقق اللام من الاسم الجليل ومن فتحها فخم {ومن معي} أي: من المؤمنين {أو رحمنا} أي: بالنصر وإظهار الإسلام كما نرجو فأنجانا بذلك من كل سوء ووقانا كل محذور، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء والباقون بالسكون {فمن يجير الكافرين} أي: العريقين في الكفر بأن يدفع عنهم ما يدفع الجار عن جاره {من عذاب أليم} أي: لا مجير لهم منه.
{قل} أي: يا خير الخلق {هو} أي: الله وحده {الرحمن} أي: الشامل الرحمة {آمنا به} أي: أنا ومن معي {وعليه} أي: وحده {توكلنا} أي: لأنه لا شيء في يد غيره وإلا لرحم من يريد عذابه أو عذب من يريد رحمته، فكل ما جرى على أيدي خلقه من رحمة أو نقمة فهو الذي أجراه لأنه الفاعل بالذات المستجمع لما يليق به من الصفات فنحن نرجو خيره ولا نخاف غيره {فستعلمون} أي عند معاينة العذاب عما قليل بوعد لا خلف فيه {من هو في ضلال مبين} أي: بين أنحن أم أنتم، وقرأ الكسائي بعد السين بياء الغيبة نظراً إلى قول الكافرين والباقون بتاء الخطاب إما على الوعيد، وإما على الالتفات من الغيبة المرادة في قراءة الكسائي وهو تهديد لهم.
{قل} أي: يا أعظم خلقنا وأعلمهم بنا {أرأيتم} أي: أخبروني إخباراً لا لبس فيه {إن أصبح ماؤكم} أي: الذي تعدّونه في أيديكم بما نبهت عليه الإضافة {غوراً} أي: غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء وكان ماؤهم من بئرين بئر زمزم وبئر ميمونة {فمن يأتيكم} على ضعفكم حينئذ وانخلاع قلوبكم واضطراب أفكاركم {بماء معين} ، أي: دائم لا ينقطع وظاهر للأعين سهل المأخذ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بماء معين أي: ظاهر تراه العيون فهو مفعول. وقيل: هو من معن الماء، أي: كثر فهو على هذا فعيل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً أن المعنى: فمن يأتيكم بماء عذب أي: لا يأتيكم به إلا الله فكيف تنكرون أن يبعثكم؟
ويستحب أن يقول القارىء عقب معين: الله رب العالمين، كما في الحديث.(4/348)
وتليت هذه الآية عند بعض المتجبرين فقال: تأتي به الفؤوس والمعاول، فذهب ماء عينيه وعمي نعوذ بالله من الجراءة على الله وعلى آياته، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل يوم القيامة فأخرجته من النار وأدخلته الجنة وهي سورة تبارك» . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إذا وضع الميت في قبره يؤتى من قبل رجليه فيقال: ليس لكم عليه سبيل لأنه قد كان يقوم بسورة الملك ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه ليس لكم عليه سبيل كان يقرأ بي سورة الملك ثم قال: هي المانعة من عذاب الله، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وددت أن تبارك الملك في قلب كل مؤمن» . وأما ما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الملك فكأنما أحيا ليلة القدر» فحديث موضوع.
سورة ن وتسمى القلم مكية
في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم: من أولها إلى قوله تعالى: {سنسمه على الخرطوم} مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: {يعلمون} مدني، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: {فهم يكتبون} مكي، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى: {من الصالحين} مدني، وباقيها مكي، قاله الماوردي.
وهي اثنتان وخمسون آية، وثلاثمائة كلمة، وألف ومائتان وستة وخمسون حرفاً.
{بسم الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة فهو بكل شيء عليم {الرحمن} الذي عمت نعمة إيجاده لأهل معاده البريء منهم والسقيم {الرحيم} الذي أتم تلك النعمة على من وفقه لطاعته فألزمه صراطه المستقيم. وقوله تعالى:
{ن} كقوله تعالى: {ص والقرآن} (ص: 1) وجواب القسم الجملة المنفية بعدها.
واختلفوا في تفسير ذلك، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الحوت الذي على ظهره الأرض وهو قول مجاهد ومقاتل والسدّي والكلبي، وروى أبو طيبان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض، ثم قرأ ابن عباس: {ن} الآية» .
واختلفوا في اسمه فقال الكلبي ومقاتل: يهموت، وقال الواقدي: ليوثا، وقال كعب: لوثا، وقال علي: تلهوت، وقال الرواة: لما خلق الله تعالى الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكاً فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين حتى ضبطها فلم يكن لقدميه موضع قرار فأهبط الله عز وجل من الفردوس ثوراً له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدماه، فأخذ الله تعالى ياقوتة خضراء من أعلى درجة الفردوس غلظها خمسمائة عام ووضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ومنخراه في البحر فهو يتنفس كل يوم نفساً، فإذا تنفس يمتد البحر وإذا ردّ نفسه جزر البحر، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله تعالى صخرة كغلظ سبع سموات وسبع أرضين(4/349)
فاستقرت قوائم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه: فتكن في صخرة ولم يكن للصخرة مستقر، فخلق الله تعالى نوناً وهو الحوت العظيم ووضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة ثقل الدنيا كلها بما عليها حرفان قال لها الجبار: كوني فكانت.
قال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض فوسوس إليه فقال له: أتدري ما على ظهرك يا لويثا من الأمم والدواب والشجر والجبال لو نفضتهم ألقيتهم عن ظهرك، فهمّ لويثا أن يفعل فبعث الله تعالى دابة فدخلت منخره فوصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله تعالى منها، فأذن الله تعالى لها فخرجت، فوالذي نفسي بيده إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همّ بشيء من ذلك عادت إليه كما كانت.
وقال بعضهم: نون آخر حروف الرحمن وهي رواية عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الحسن وقتادة والضحاك: النون: الدواة، وهو مروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال القرطبي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة» . ومنه قول الشاعر:
*إذا ما الشوق برح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجام*
ويكون على هذا أقسم بالدواة والقلم، فإن المنفعة بهما عظيمة بسبب الكتابة، فإن التفاهم يحصل تارة بالنطق وتارة بالكتابة، وقيل: النون: لوح من نور تكتب فيه الملائكة ما يؤمرون به، رواه معاوية بن قرة مرفوعاً، وقيل: النون: هو المداد الذي تكتب به الملائكة. وقال عطاء وأبو العالية: هو افتتاح اسمه تعالى نصير ونور وناصر، وقال محمد بن كعب: أقسم الله تعالى بنصرة المؤمنين.
وقال الزمخشري: هذا الحرف من حروف المعجم، وأما قولهم: هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً أو علماً، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوين، وإن كان علماً فأين الإعراب وأيهما كان فلا بد له من موقع في تأليف الكلام. فإن قلت: هو مقسم به وجب إن كان جنساً أن تجره وتنونه ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة كأنه قيل: ودواة {والقلم} وإن كان علماً أن تصرفه وتجره أو لا تصرفه وتفتحه للعملية والتأنيث.
وكذلك التفسير بالحوت إما أن يراد نون من النينان، أو يجعل علماً لليهموت الذي يزعمون والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنة نحو ذلك ا. هـ.
تنبيه: في القلم المقسم به قولان: أحدهما: أن المراد به الجنس وهو واقع على كل قلم يكتب به في السماء والأرض، قال تعالى: {وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} (العلق: 3 ـ 5) ولأنه ينتفع به كما ينتفع بالنطق، قال تعالى: {خلق الإنسان علمه البيان} (الرحمن: 3 ـ 4) ، فالقلم يبين كما يبين اللسان في المخاطبة بالكتابة للغائب والحاضر، والثاني: أنه القلم الذي جاء في الخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أول ما خلق الله تعالى القلم، ثم قال له: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة قال: ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة، قال: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض.
وروى مجاهد أول ما خلق الله تعالى القلم فقال: اكتب المقدر، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وإنما يجري في الناس على أمر قد فرغ منه، قال ابن عادل: قال القاضي: هذا الخبر يجب حمله على المجاز،(4/350)
لأن القلم آلة مخصوصة للكتابة لا يجوز أن يكون حياً عاقلاً فيؤمر وينهى، فإن الجمع بين كونه حيواناً مكلفاً وبين كونه آلة للكتابة محال، بل المراد منه إنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو قوله تعالى: {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} (آل عمران: 47) فإنه ليس هناك أمر ولا تكليف بل هو مجرد نفاذ القدرة في المقدور من غير منازعة ولا مدافعة، اه.
وقوله: فإن الجمع إلى قوله: محال، ممنوع فإن الله تعالى خلق فيه ذلك كما قال تعالى للسموات والأرض: {ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} (فصلت: 11) وقال الزمخشري: أقسم بالقلم تعظيماً له لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيطها الوصف.
وقيل: القلم المذكور ههنا هو العقل وإنه شيء كالأصل لجميع المخلوقات، قالوا: والدليل عليه أنه روي في الأخبار: أول ما خلق الله تعالى القلم، وفي خبر آخر: «أول ما خلق الله تعالى العقل، فقال الجبار: ما خلقت خلقاً أعجب إليَّ منك وعزتي وجلالي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت، قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس عقلاً أطوعهم لله وأعلمهم بطاعته» . وفي خبر آخر: أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وسخنت فارتفع منها دخان وزبد، فخلق من الدخان السموات ومن الزبد الأرض، قالوا: وهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد وإلا حصل التناقض، وقال البغوي: القلم هو الذي كتب الله به الذكر وهو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض، ويقال: أول ما خلق الله تعالى القلم ونظر إليه فانشق نصفين ثم قال: اجر بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ بذلك.
وقرأ قالون وابن كثير وأبو عمرو وحفص وحمزة وورش بخلاف عنه بإظهار النون عند الواو هنا والباقون بالإدغام.
{وما يسطرون} أي: الملائكة من الخير والصلاح، وقيل: وما تكتبه الملائكة الحفظة من أعمال بني آدم، وقيل: ما يكتبون، أي: الناس ويتفاهمون به، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معنى {وما يسطرون} : وما يعملون، وما موصولة أو مصدرية. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في يسطرون لهم، كأنه قيل: وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وسطرهم، ويراد بهم كل من يسطر أو الحفظة، وقال البقاعي: وما يسطرون، أي: قلم القدرة وجمعه وأجراه مجرى أولى العلم للتعظيم لأنه فعل أفعالهم أو الأقلام على إرادة الجنس، ويجوز أن يكون الإسناد إلى الكاتبين به لما دل عليهم من ذكره، وأما الملائكة إن كان المراد ما كتب في الكتاب المبين واللوح المحفوظ وغيره مما يكتبونه، وأما كل من يكتب منهم ومن غيرهم.
وقوله تعالى: {ما أنت} أي: ياأعلى المتأهلين لخطابنا {بنعمة} أي: بسبب إنعام {ربك} أي: المربي لك بمثل تلك الهمم العالية والسجايا الكاملة بأن خصك بالقرآن الذي هو الجامع لكل علم وحكمة {بمجنون} جواب القسم، وهو نفي، قال الزجاج: أنت هو اسم ما وبمجنون الخبر. وقوله تعالى: {بنعمة ربك} كلام وقع في الوسط، أي: انتفى ذلك الجنون بنعمة ربك كما يقال: أنت بحمد ربك عاقل بل الذي وصفك بهذا هو الحقيق باسم الجنون، وقال البغوي: ما أنت بنعمة ربك بنبوة ربك بمجنون، أي: إنك لا تكون مجنوناً وقد أنعم الله تعالى عليك بالنبوة والحكمة، وقيل: بعصمة ربك، وقيل: هو كما يقال: ما أنت بمجنون والحمد لله، وقيل: معناه ما أنت(4/351)
بمجنون والنعمة لربك كقولهم: سبحانك اللهمّ وبحمدك، أي: والحمد لك.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أنه صلى الله عليه وسلم غاب عن خديجة إلى حراء فطلبته فلم تجده، فإذا به ووجهه متغير امتلأ غباراً، فقالت له: ما لك فذكر جبريل عليه السلام وأنه قال له: {اقرأ باسم ربك} (العلق: 1) فهو أول ما نزل من القرآن قال: ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ وتوضأت ثم صلى وصليت معه ركعتين وقال: هكذا الصلاة يا محمد، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لخديجة فذهبت به خديجة إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عمها وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية، فسألته فقال: أرسلي إلي محمداً فأرسلته، فقال: هل أمرك جبريل عليه السلام أن تدعو أحداً، قال: لا فقال: والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً ثم مات قبل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش فقالوا: إنه مجنون، وأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون وهو خمس آيات من أول هذه السورة.
وقال ابن عباس: أول ما نزل قوله تعالى: «سبح اسم ربك الأعلى» (الأعلى: 1) وهذه الآية هي الثانية نقله الرازي، وذكر القرطبي أن المشركين كانوا يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم مجنون به شيطان وهو قولهم: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} (الحجر: 6) فأنزل الله تعالى رداً عليهم وتكذيباً لقولهم: {ما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون} (الطور: 29) ، أي: برحمة ربك والنعمة ههنا الرحمة، وقال عطاء وابن عباس: يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة، وقال القرطبي: يحتمل أن النعمة ههنا قسم تقديره ما أنت ونعمة ربك بمجنون لأن الواو والباء من حروف القسم.
وقال الرازي: إنه تعالى وصفه بصفات ثلاث:
الأولى: نفي الجنون عنه، ثم قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها، لأن قوله: {بنعمة ربك} يدل على أن نعم الله تعالى ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة، وإذا كانت هذه النعم المحسوسة ظاهرة ووجودها ينافي حصول الجنون فالله تعالى نبه على أن هذه الدقيقة جارية مجرى الدلالة اليقينية على كذبهم في قولهم مجنون.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {وإنّ لك} أي: على ما تحملت من أثقال النبوة وعلى صبرك عليهم فيما يرمونك به وهو تسلية له صلى الله عليه وسلم {لأجر} ، أي: ثواباً {غير ممنون} أي: مقطوع ولا منقوص في دنيا ولا آخرة، يقال: مان الشيء إذا ضعف. ويقال: مننت الحبل إذا قطعته، وحبل منين إذا كان غير متين، قال لبيد:
* ... عبساً كواسب لا يمنّ طعامها*
أي: لا يقطع، يصف كلاباً ضارية. ونظيره قوله تعالى: {غير مجذوذ} (هود: 108) وقال مجاهد ومقاتل والكلبي: غير ممنون، أي: غير محسوب عليك. قال الزمخشري: لأنه ثواب تستحقه على عملك وليس بتفضل ابتداء وإنما تمن الفواضل لا الأجور على الأعمال، انتهى. وهذا قول المعتزلة، فإن الله تعالى لا يجب عليه شيء. وقال الحسن: غير مكدر بالمن. وقال الضحاك رضي الله تعالى عنه: أجراً بغير عمل. واختلفوا في هذا الأجر على أي شيء حصل، فقيل: معناه ما مرّ وقيل: معناه أنّ لك على احتمال هذا الطعن والقول القبيح أجراً عظيماً دائماً، وقيل: إن لك في إظهار النبوة والمعجزات وفي دعاء الخلق إلى الله تعالى، وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم فلا تمنعنك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم، فإن لك بسببه المنزلة(4/352)
العالية.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} استعظم خلقه لفرط احتمال الممضات من قومه وحسن مخالقته ومداراته لهم، قال ابن عباس ومجاهد: على دين عظيم من الأديان ليس دين أحب إلى الله تعالى، ولا أرضى عنده منه، وروى مسلم عن عائشة: «أنّ خُلقه كان القرآن» . وقال علي: هو أدب القرآن، وقيل: رفقه بأمته وإكرامه إياهم، وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من الله وينتهي عنه بما نهى الله تعالى عنه، وقيل: إنك على طبع كريم، وقيل: هو الخلق الذي أمر الله تعالى به في قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199)
وقال الماوردي: حقيقة الخلق في اللغة ما يأخذه الإنسان في نفسه من الأدب، سمي خلقاً لأنه يصير كالخلقة فيه، فأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم، فيكون الخلق الطبع المتكلف والخيم الطبع الغريزي.l
قال القرطبي: ما ذكره مسلم في صحيحه عن عائشة أصح الأقوال، وسئلت أيضاً عن خلقه صلى الله عليه وسلم «فقرأت قد أفلح المؤمنون إلى عشر آيات» . قال الرازي: وهذا إشارة إلى أن نفسه القدسية الشريفة كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيب، وإلى كل ما يتعلق به وكانت شديدة التعري عن اللذات البدنية والسعادات الدنيوية بالطبع، ومقتضى الفطرة وقالت: «ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك ولذلك قال الله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر» .
وقال الجنيد: سمي خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال» . وعن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسن الناس خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير» . وعن أنس بن مالك قال: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط وما قال لشيء صنعته: لم صنعته، ولا لشيء تركته: لم تركته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، ولا مسست خزاً قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكاً ولا عنبراً كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عمر «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: خياركم أحسنكم أخلاقاً» . وعن أنس «أن امرأة عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة، فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال: يا أم فلان اجلسي في أي سكك المدينة شئت أجلس إليك قال: ففعلت فقعد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قضيت حاجتها» . وعن أنس بن مالك قال: «كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت» . وعن أنس أيضاً: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صافح رجلاً لم ينزع يده حتى يكون هو الذي يصرف وجهه عن وجهه ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له» . وعن عائشة قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى، ولا ضرب خادماً ولا امرأة» . وعنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً،(4/353)
فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم» . وعن أنس قال:
«كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك وأمر له بعطاء» .
وعنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً وكان لي أخ يقال له: أبو عمير وهو فطيم كان إذا جاءنا قال: يا أبا عمير ما فعل النغير لنغير كان يلعب به» . والنغير طائر صغير يشبه العصفور إلا أنه أحمر المنقار. وعن الأسود قال: «سألت عائشة: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل في بيته؟ قالت: كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة توضأ ويخرج إلى الصلاة» . والمهنة: الخدمة، وعن عبد الله بن الحرث قال: «ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أم الدرداء تحدث عن أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء» . وعن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: أتدرون أكثر ما يدخل الناس النار؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: فإن أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان الفرج والفم، أتدرون أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق» .
وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن المؤمن يدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار» .
{فستبصر} أي: فستعلم عن قرب بوعد لا خلف فيه علماً أنت في تحققه كالمبصر بالحس الباصر {ويبصرون} أي: يعلم الذين رموك بالبهتان علماً هو كذلك. وقوله تعالى: {بأييكم المفتون} فيه أربعة أوجه:
أحدها: أن الباء مزيدة في المبتدأ، والتقدير: أيكم المفتون فزيدت كزيادتها في نحو: بحسبك زيد، وإلى هذا ذهب قتادة، قال ابن عادل: إلا أنه ضعيف من حيث إن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا في حسبك فقط.
الثاني: أن الباء بمعنى في فهي ظرفية كقولك: زيد بالبصرة، أي: فيها، والمعنى: في أي فرقة وطائفة منكم المفتون، أي: المجنون أفي فرقة الإسلام، أم في فرقة الكفر؟ وإليه ذهب مجاهد والفراء.
الثالث: أنه على حذف مضاف، أي: بأيكم فتن المفتون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وإليه ذهب الأخفش وتكون الباء سببية.
الرابع: أن المفتون مصدر جاء على مفعول كالمقتول والميسور، والتقدير: بأيكم الفتنة، وقيل: المفتون المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته قال تعالى: {يوم هم على النار يفتنون} (الذاريات: 13) ، أي: يعذبون، وقيل: الشيطان لأنه مفتون في دينه وكانوا يقولون: إنه به شيطان وعنوا بالمجنون هذا، فقال تعالى: سيعلمون غدَاً بأيهم الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل.
فائدة: {بأييكم} رسمت ههنا بياءين.
{س68ش7/ش16 إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ? وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا? لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَتُطِعْ كُلَّ حَsفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآء? بِنَمِيمٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍ? بَعْدَ ذَالِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ا?وَّلِينَ * سَنَسِمُهُ? عَلَى الْخُرْطُومِ}
{إن ربك} أي: الذي رباك أحسن تربية وفضلك على سائر الخلائق {هو} أي: وحده {أعلم} أي: من كل أحد {بمن ضلّ} أي: حاد {عن سبيله} أي: دينه وسلك غير سبيل القصد وأخطأ موضع الرشد {وهو} أي:(4/354)
وحده {أعلم بالمهتدين} أي: الثابتين على الهدى، وهم أولوا الأحلام والنهى، أي: لذو علم بمعنى عالم.
تنبيه: قوله تعالى: {وهو أعلم} {وهو مكظوم} {وهو مذموم} قرأه قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بضمها وقوله تعالى: {فلا تطع المكذبين} أي: العريقين في التكذيب وهم مشركو مكة، فإنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه فنهاه أن يطيعهم، ينتج التصميم على معاداتهم.
{ودّوا} أي: تمنوا وأحبوا محبة واسعة متجاوزة للحدّ قديماً مع الاستمرار على ذلك {لو} مصدرية {تدهن فيدهنون} قال الضحاك: لو تكفر فيكفرون. وقال الكلبي: لو تلين لهم فيلينون لك. وقال الحسن: لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. وقال زيد بن أسلم: لو تنافق وترائي فينافقون ويراؤون. وقال ابن قتيبة: أرادوا أن يعبد آلهتهم مدّة ويعبدون الله مدة. وقال ابن العربي: ذكر المفسرون في ذلك نحو عشرة أقوال كلها دعاوى على اللغة، والمعنى وأمثلها: ودّوا لو تكذب فيكذبون، ودّوا لو تكفر فيكفرون. وقال القرطبي: كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى.
تنبيه: في رفع فيدهنون وجهان: أحدهما: أنه عطف على تدهن فيكون داخلاً في حيّز لو، والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: فهم يدهنون. وقال الزمخشري: فإن قلت لم رفع فيدهنون ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمني، قلت: قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم يدهنون، كقوله تعالى: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً} (الجن: 13) على معنى: ودّوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ أو ودّوا ادهانك، فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك.
واختلفوا في سبب نزول قوله تعالى: {ولا تطع كل حلاف} ، أي: كثير الحلف بالباطل فقال مقاتل: يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالاً وحلف له أن يعطيه إن رجع عن دينه، وقال ابن عباس: هو أبو جهل بن هشام. وقال عطاء: هو الأخنس بن شريق؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة فلذلك سمة زنيماً، وقال مجاهد: هو الأسود بن عبد يغوث. {مهين} ، أي: ضعيف حقير. قيل: هو فعيل من المهانة وهي قلة الرأي والتمييز. وقال ابن عباس: كذاب وهو قريب من الأول، لأن الإنسان إنما يكذب لمهانة نفسه عليه. وقال الحسن وقتادة: هو المكار في الشر، وقال الكلبي: المهين العاجز.
{هماز} أي: كثير العيب للناس في غيبتهم. وقال الحسن: هو الذي يغمز بأخيه في المجلس. وقال ابن زيد: الهماز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم واللماز باللسان. وقيل: الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم، واللماز الذي يذكرهم في غيبتهم وقال مقاتل: بالعكس، وقال مرّة: هما سواء، ونحوه عن ابن عباس وقتادة. {مشاء} أي: كثير المشي {بنميم} أي: فتان يلقي النميمة بين الناس ليفسد بينهم فينقل ما قاله الإنسان في آخر، وإذاعة سر لا يريد صاحبه إظهاره على وجه الإفساد البين مبالغ في ذلك.
{مناع} أي: كثير المنع شديده {للخير} أي: كل خير من المال والإيمان وغيرهما من نفسه وغيره من الدين والدنيا، وقال ابن عباس: مناع للخير، أي: الإسلام يمنع ولده وعشيرته من الإسلام وكان له عشرة من الولد يقول: لئن دخل أحد منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً. {معتد} أي: ثابت التجاوز للحدود في كل ذلك {أثيم} ، أي: مبالغ في ارتكاب ما يوجب الإثم فيترك الطيبات ويأخذ الخبائث يرغب في المعاصي(4/355)
ويتطلبها ويدع الطاعات ويزهد فيها.
{عتلّ} العتلّ: الغليظ الجافي. وقال الحسن: هو الفاحش الخلق السيء الخلق. وقال الفراء: هو الشديد الخصومة في الباطل. وقال الكلبي: هو الشديد في كفره، وكل شديد عند العرب عتلّ وأصله من العتل وهو الدفع بالعنف، وقال أبو عبيدة بن عمير: العتل: الأكول الشروب القوي الشديد الذي لا يزن في الميزان شعيرة، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفاً دفعة واحدة {بعد ذلك} أي: مع ذلك، يريد مع ما وصفناه به. {زنيم} وهو الدعي الملصق بالقوم وليس منهم، وقال عطاء عن ابن عباس: يريد مع هذا هو دعي في قريش وقال مرّة الهمداني: إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشر سنة، وقيل: الزنيم الذي له زنمة كزنمة الشاة. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: في هذه الآية نعت، فلم يعرف حتى قيل: زنيم فعرف وكانت زنمة في عنقه يعرف بها. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال مجاهد: زنيم كانت له ستة أصابع في يده في كل إبهام له إصبع زائدة، وقال ابن قتيبة: لا نعلم أن الله تعالى وصف أحداً ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة.
وعن حارثة بن وهب الخزاعي قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو يقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر» . وفي رواية: «كل جواظ زنيم متكبر» . الجواظ: الجموع المنوع، وقيل: الكثير اللحم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين، وقال عكرمة: هو ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم، وكان الوليد دعياً في قريش، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده قال الشاعر فيه:
*زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغي الأمّ ذو حسب لئيم*
قيل: بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية، وهذا لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الولد كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة ولد زنا ولا ولده ولا ولد ولده» . وقال عبد الله بن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أولاد الزنا يحشرون يوم القيامة في صور القردة والخنازير» . ولعل المراد به الدخول مع السابقين، وإلا فمن مات مسلماً دخل الجنة، وقالت ميمونة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا فإذا فشى فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعذابه» . وقال عكرمة: إذا كثر ولد الزنا قحط المطر. قال القرطبي: ومعظم المفسرين على أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يطعم أهل منى حيساً ثلاثة أيام، وينادي ألا لا يوقدنّ أحد تحت برمة ألا لا يزجين أحد بكراع، ألا من أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفاً وأكثر، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً وقيل: مناع للخير وفيه نزل {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} (فصلت: 6 ـ 7) .
ولما كان حطام هذه الدنيا كله عرضاً فانياً وظلاً متقلصاً زائلاً لا يفتخر به ولا يلتفت إليه إلا من كان بهذه الأوصاف، فإذا كان ذلك أكبر همه ومبلغ علمه أثمر له الترفع على الحقوق والتكبر على العباد، قال الله تعالى: {أن} أي: لأجل أن {كان} أي: هذا الموصوف {ذا مال} أي: مذكور بالكثرة {وبنين} أنعمنا عليه بهما، فصار يطاع لأجلهما، فكان بحيث يجب عليه شكرنا بسببهما.(4/356)
{إذا تتلى} أي: تذكر على سبيل المتابعة {عليه} ولو كان ذلك على سبيل الخصوص له {آياتنا} أي: العلامات الدالة دلالة هي في غاية الظهور على الملك الأعلى وعلى ماله من صفات العظمة {قال} أي: مفاجأة من غير تأمل ولا توقف عوضاً عن شكرنا {أساطير} جمع سطور جمع سطر {الأولين} أي: أشياء سطروها ودونوها وفرغوا منها، فحمله دنيء طبعه على تكثره بالمال، فورطه في التكذيب بأعظم ما يمكن سماعه، فجعل الكفر موضع الشكر، ولم يستح من كونه يعرف كذبه كل من سمعه، فأعرض عن الشكر ووضع موضعه الكفر، فكان هذا دليلاً على جميع تلك الصفات السابقة، مع التعليل بالاستناد إلى ما هو عند العاقل أوهى من بيت العنكبوت والاستناد إليه وحده كاف في الاتصاف بالرسوخ في الدناءة.
وقرأ ابن عامر وشعبة وحمزة بهمزتين مفتوحتين وابن عامر يسهل الثانية، وشعبة وحمزة بتحقيقهما وهشام على أصله يدخل بينهما ألفاً والباقون بهمزة واحدة مفتوحة. قال القرطبي: فمن قرأ بهمزة مطولة أو بهمزتين محققتين، فهو استفهام والمراد به التوبيخ، ويحسن له أن يقف على {زنيم} ويبتدىء {أن كان} على معنى ألأن كان ذا مال وبنين تطيعه؟ ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال: أساطير الأولين، ويجوز أن يكون التقدير: ألأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر؟ ودل عليه ما تقدم من الكلام، فصار كالمذكور بعد الاستفهام، ومن قرأ أن كان بغير استفهام فهو مفعول من أجله، والعامل فيه فعل مضمر، والتقدير: يكفر لأن كان ذا مال وبنين، ودل على هذا الفعل {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} ولا يعمل في إذا تتلى ولا قال، لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها؛ لأن إذا تضاف إلى الجمل التي بعدها، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف. وقال: جواب الجزاء ولا يعمل فيما قبل الجزاء إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط، فيصير مقدماً مؤخراً في حال واحد.
ويجوز أن يكون المعنى: لا تطعه لإن كان ذا يسار وعدد. قال ابن الأنباري: ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على زنيم، لأن المعنى: لأن كان ذا مال كان، فأن متعلقة بما قبلها. وقال غيره: يجوز أن تتعلق بقوله تعالى: {مشاء بنميم} والتقدير: يمشي بنميم لإن كان ذا مال وبنين، وأجاز أبو علي أن تتعلق بعتل. ومعنى {أساطير الأولين} أباطيلهم وترهاتهم.
{سنسمه} أي: نجعل له سمة، أي: علامة يعرف بها {على الخرطوم} أي: الأنف يعير بها ما عاش، قال ابن عباس: سنسمه سنخطمه بالسيف، قال: وقد خطم الذي نزلت فيه يوم بدر بالسيف، فلم يزل مخطوماً إلى أن مات، والتعبير عن الأنف بهذا للاستهانة والاستخفاف. وقال قتادة: سنسمه يوم القيامة على أنفه سمة يعرف بها. وقال الكسائي: سنكويه على وجهه وقال أبو العالية ومجاهد: سنسمه على الخرطوم، أي: على أنفه ونسوّد وجهه في الآخرة فيعرف بسواد وجهه قال تعالى: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} (آل عمران: 106)
فهي علامة ظاهرة {ونحشر المجرمين يومئذ زرقا} (طه: 102)
وهذه علامة أخرى ظاهرة.
وأفادت هذه الآية علامة ثالثة: وهي الوسم على الأنف بالنار، وهذا كقوله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم} (الرحمن: 41)
قال القرطبي: والخرطوم الأنف من الإنسان، ومن(4/357)
السباع موضع الشفة، وخراطيم القوم ساداتهم. قال الفراء: وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنه في معنى الوجه، لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل. وقال القرطبي: بين أمره تبياناً واضحاً فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم، وهذا كله نزل في الوليد بن المغيرة، ولا شك أن المبالغة العظيمة في ذمه بقيت على وجه الدهر، ولا نعلم أن الله تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغ منه، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة كالوسم على الخرطوم. وقيل: ما ابتلاه الله تعالى به في الدنيا في نفسه وأهله وماله من سوء وذل وصغار. وقال النضر بن شميل: المعنى: سنحده على شرب الخمر، والخرطوم الخمر وجمعه خراطيم. قال: الرازي كالزمخشري وهذا تعسف ا. هـ. وقيل للخمر: الخرطوم كما قيل لها: السلافة وهي ما سلف من عصير العنب أو لأنها تطير في الخياشيم.
تنبيه: الأنف أكرم موضع في الوجه لتقديمه له، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة، وقالوا: الأنف في الأنف وحمى أنفه، وفلان شامخ العرنين، وقالوا في الذليل: جدع أنفه ورغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين وإذلال فكيف بها على أكرم موضع منه؟ ولقد وسم العباس أباعره في وجوهها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أكرموا الوجوه فوسمها في جواعرها» .
ولما ذكر تعالى في أول الملك أنه خلق الموت والحياة للابتلاء في الأعمال، وختم هنا بعيب من يغتر بالمال والبنين وهو يعلم أن الموت وراءه أعاد ذكر الابتلاء وأكده بقوله تعالى:
{إنا} أي: بما لنا من القهر والعظمة {بلوناهم} أي: عاملنا أهل مكة بما وسعنا عليهم به معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن، فغرّهم ذلك وظنوا أنهم أحباب، ومن قترنا عليهم من أوليائنا أعداء واستهانوا بهم ونسبوهم لأجل تقللهم من الدنيا إلى السفة والجنون وكان ابتلاؤنا لهم بالقحط الذي دعا عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكلوا الجيف {كما بلونا} أي: اختبرنا {أصحاب الجنة} بأن عاملناهم معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر.
وحاصله: أنه استخراج ما في البواطن ليعلمه العباد في عالم الشهادة كما يعلم الخالق في عالم الغيب، أو أنه كناية عن الجزاء، وعرف الجنة لأنها كانت شهيرة عندهم وهي بستان عظيم كان دون صنعاء بفرسخين يقال له: الضروان يطؤه أهل الطريق، كان صاحبه ينادي الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأ المنجل أو ألقته الريح أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت النخلة، وكان يجتمع لهم شيء كثير، فلما مات شح بنوه بذلك وقالوا: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر، ونحن ذوو عيال، فحلفوا على أن يجذوها قبل الشمس حتى لا تأتي الفقراء إلا بعد فراغهم، وذلك معنى قوله تعالى: {إذ} أي: حين {أقسموا} ودل على تأكيد القسم بالتأكيد فقال: {ليصرمنها} عبر به عن الجذاذ لدلالته على القطع البائن المستأصل المانع للفقراء من الصريم الذي يعرض على فم الجدي لئلا يرضع، أو من الصرماء للمفازة التي لا ماء بها والناقة القليلة اللبن {مصبحين} داخلين في أول وقت الصباح لئلا تشعر بهم المساكين فلا يعطوهم منها ما كان أبوهم يتصدق به عليهم منها.
{ولا} أي: والحال أنهم لا {يستثنون} في يمينهم، أي: ولا يقولون: إن شاء الله.
فإن قيل: لم سمي استثناء وإنما هو شرط؟(4/358)
أجيب: بأنه سمي استثناء لأنه إخراج لشيء يكون حكمه غير المذكور أولاً، وكان الأصل فيه إلا أن يشاء الله فألحق به إن شاء الله لرجوعه إليه في اتحاد الحكم.
{فطاف} أي: فتسبب عن فعلهم هذا أن طاف {عليها} أي: جنتهم {طائف} أي: عذاب مهلك محيط وهو نار أحرقتها ليلاً لم تدع منها شيئاً، والطائف غلب في الشر. وقال الفراء: هو الأمر الذي يأتي ليلاً ورد عليه بقوله: {إذا مسهم طائف من الشيطان} وذلك لا يختص بليل ولا نهار، وقوله تعالى: {من ربك} يجوز أن يتعلق بطاف وأن يتعلق بمحذوف صفة لطائف {وهم} أي: والحال أن أصحاب الجنة المقسمين {نائمون} وقت إرسال الطائف.
{فأصبحت} أي: فتسبب عن هذا الطائف الذي أرسله القادر الذي لا يغفل ولا ينام على مال من لا يزال أسير العجز والنوم فعلاً أو قوة {كالصريم} أي: كالأشجار التي صرم عنها ثمرها، أو كالليل المظلم الأسود لأنه يقال: الصريم لسواده والصريم أيضاً النهار، وقيل: الصبح لأنه انصرم من الليل، قاله الأخفش.v
وهو من الأضداد. وقيل: كالرماد الأسود ليس بها ثمرة بلغة خزيمة، قاله ابن عباس، لأن ذلك الطائف أتلفها لم يدع فيها شيئاً لأنهم طلبوا الكل فلم يزكوه بما يمنع عنه الطوارق لضدّ ما كان لأبيهم من ثمرة عمله الصالح من الدفع عن ماله والبركة في جميع أحواله. قال القرطبي: والآية دليل على أنّ العزم مما يؤاخذ به الإنسان لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم ونظيره قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} (الحج: 25)
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه» وهذا محمول على العزم المصمم، أما ما كان يخطر بالبال من غير عزم فلا يؤاخذ به.
{فتنادوا مصبحين} أي: في حال أول دخولهم في الإصباح وقوله تعالى: {أن اغدوا} ، أي: بكروا جداً مقبلين ومستولين وقادرين، ويجوز أن تكون أن المفسرة لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول {على حرثكم} ، أي: محل فائدتكم الذي أصلحتموه وتعبتم فيه فلا يستحقه غيركم، قال مقاتل: لما أصبحوا قال بعضهم لبعض: اغدوا على حرثكم يعني بالحرث الثمار والزروع والأعناب، ولذلك قال: صارمين لأنهم أرادوا قلع الثمار من الأشجار.
قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قال: اغدوا إلى حرثكم وما معنى على؟ قلت: لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدواً عليه كما تقول: غدا عليهم العدو. قال الزمخشري: ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال، أي: فأقبلوا على حرثكم. {إن كنتم صارمين} أي: مريدين القطع، وجواب الشرط دل عليه ما قبله، أي: فاغدوا، ويجوز أن تكون أن المصدرية، أي: تنادوا بهذا الكلام.
تنبيه: مقتضى كلام الزمخشري أن غدا متعدّ في الأصل بإلى فاحتاج إلى تأويل فقدره بعلى، قال ابن عادل: وفيه نظر لورود تعديه بعلى في غير موضع كقوله:
* وقد أغدوا على ثبة كرامٍ ... نشاوى واجدين لما نشاء*
وإذا كانوا قد عدوا مرادفه بعلى فليعدوه، وقرأ: أن اغدوا أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر النون والباقون بضمها واتفقوا على الابتداء بالهمزة بالضم.
{فانطلقوا} أي: فتسبب عن هذا الحث عقبه كأنهم كانوا متهيئين {وهم} أي: والحال أنهم {يتخافتون} أي: يقولون في حال انطلاقهم قولاً(4/359)
هو في غاية السر، كأنهم ذاهبون إلى سرقة من دار هي في غاية الحراسة من الخفوت وهو الهمود وخفا وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم، ومنه الخفدود للخفاش.
ثم فسر ما يتخافتون به بقوله تعالى: {أن لا يدخلنها} وأن لا ههنا مقطوعة كما ترى، وأكدوه لأنه لا يصدق أن أحداً يصل إلى هذه الوقاحة وأن جذاذاً يخلو من سائل {اليوم} أي: في جميع النهار بما دل عليه نزع الخافض لتكروا عليه مراراً وتفتشوه فلا تدعوا به ثمرة واحدة ولا موضعاً يطمع فيه أحد في قصدكم {عليكم} وأنتم بها {مسكين} وهي نهي للمسكين في اللفظ للمبالغة في نهى أنفسهم أن لا يدعوه يدخل عليهم، أي: لا يمكنوه من الدخول حتى يدخل كقولك: لا أرينك ههنا، فقال لهم أوسطهم سناً وخيرهم نفساً وأعدلهم طبعاً بما يدل عليه ما يأتي: لا تقولوا هكذا واصنعوا من الإحسان ما كان يصنع أبوكم، قال البقاعي: وكأنه طواه سبحانه لأنه مع الدلالة عليه بما يأتي لم يؤثر شيئاً.
{وغدوا} أي: ساروا إليها غدوة {على حرد} أي: منع للمساكين. قال أبو عبيدة: على حرد، أي: منع من حاردت الإبل حراداً، أي: قل لبنها، والحرود من النوق القليلة الدر، وحاردت السنة قل مطرها وخيرها. وقال الشعبي وسفيان: على حنق وغضب من المساكين، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: على قدرة {قادرين} عند أنفسهم على جنتهم وثمارها لا يحول بينهم وبينها أحد، أي: بدليل عدم استثنائهم، فإن الجزم على الفعل في المستقبل فضلاً عن أن يكون مع الحلف فعل من لا كفء له. وقال الحسن وقتادة: على جد وجهد. وقال القرطبي وعكرمة: على أمر مجتمع.
ودل على قربها من منزلتهم بالفاء فقال تعالى: {فلما رأوها} أي: بعد سير يسير وليس للزرع ولا للثمر بها أثر {قالوا إنا لضالون} عن طريق جنتنا لأنها صارت لسوء حالها من ذلك الطائف بعيدة عن حال ما كانت عليه عند تواعدهم وتغيير نياتهم، فأدهشهم منظرها وحيرهم خبرها، وأكدوا لأن ضلالهم لا يصدق مع قرب عهدهم وكثرة ملابستهم لها وقوة معرفتهم بها.
ولما انجلى ما أدهشهم في الحال قالوا مضربين عن الضلال {بل نحن محرومون} أي: ثابت حرماننا ما كنا فيه من الخير الذي لم نغب عنه إلا سواد الليل، فحرمنا الله تعالى إياه بما عزمنا عليه من حرمان المساكين {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الرعد: 11)
وقرأ الكسائي بإدغام اللام في النون والباقون بالإظهار.
{قال: أوسطهم} أي: رأياً وعقلاً وسناً وفضلاً منكراً عليهم {ألم أقل لكم} أي: ما فعلتموه لا ينبغي وإن الله تعالى بالمرصاد لمن غير ما في نفسه وحاد {لولا} أي: هلا ولم لا {تسبحون} أي: تستثنون، فكان استئناؤهم تسبيحاً، قال مجاهد وغيره: وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه. قال أبو صالح: كان استثناؤهم سبحان الله، فقال لهم: هلا تسبحون الله، أي: تقولون سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم. وقال النحاس: أصل التسبيح التنزيه لله عز وجل، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء الله لأن المعنى: تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته. وقال الرازي: التسبيح عبارة عن تنزيهه عن كل سوء، فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى لنسب النقص إلى قدرة الله تعالى، فقولك: إن شاء الله يزيل هذا النقص فكان ذلك تسبيحاً، وقيل: المعنى هلا تستغفرونه من فعلكم وتتوبون إليه من خبث نيتكم، قيل: إن القوم لما عزموا(4/360)
على منع الزكاة فاغتروا بالمال والقوة، قال لهم أوسطهم: توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب، فلما رأوا العذاب ذكرهم أوسطهم كلامه الأول وقال: {ألم أقل لكم لولا تسبحون} فحينئذ اشتغلوا بالتوبة بأن.
{قالوا} أي: من غير تلعثم بما عاد عليهم من بركة أبيهم {سبحان ربنا} أي: تنزه المحسن إلينا التنزيه الأعظم أن يكون وقع منه فيما فعل بنا ظلم، وأكدوا قباحة فعلهم هضماً لأنفسهم وخضوعاً لربهم وتحقيقاً لتوبتهم بقولهم: {إنا كنا} أي: بما في جبلاتنا من الفساد {ظالمين} أي: مجاوزين الحدود فيما فعلنا من التقاسم على منع المساكين وعلى جذها في الصباح من غير استثناء.
{فأقبل بعضهم} أي: في الحال مبادرة في الخضوع {على بعض يتلاومون} أي: يلوم بعضهم بعضاً يقول هذا لهذا: أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول ذلك لهذا: أنت الذي خوفتنا بالفقر. ويقول الثالث لغيره: أنت رغبتني في جمع المال.
ثم نادوا على أنفسهم بالويل بأن {قالوا} منادين لما شغلهم قربه منهم وملازمته لهم عن كل شيء {يا ويلنا} أي: هذا وقت حضورك أيها الويل إيانا ومنادمتك لنا، فإنه لا نديم لنا الآن غيرك، والويل الهلاك والإشراف عليه {إنا كنا} أي: جبلة وطبعاً {طاغين} أي: عاصين بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء. وقال ابن كيسان: طاغين نعم الله فلم نشكرها كما شكرها آباؤنا من قبل.
ثم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا {عسى ربنا} أي: الذي أحسن إلينا بتربية هذه الجنة وإهلاك ثمرها الآن تأديباً لنا {أن يبدلنا} من جنتنا شيئاً {خيراً منها} يقيم لنا أمر معايشنا فتنقلب أحوالنا هذه التي نحن فيها من الهموم والبذاذة بسرور ولذاذة، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال والباقون بسكون الموحدة وتخفيف الدال {إنا إلى ربنا} أي: المحسن إلينا والمربي لنا بالإيجاد، ثم الإبقاء خاصة لا إلى غيره {راغبون} أي: ثابتة رغبتنا ورجاؤنا الخير والإكرام. وقد قيل: إن الله تعالى قبل رجوعهم وأخلف عليهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان، كان القطف الواحد منها يحمله وحده من كبره البغل، رواه البغوي عن ابن مسعود، وقال أبو خالد اليماني: دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم، وقال الحسن: قول أهل الجنة {إنا إلى ربنا راغبون} لا أدري إيماناً كان ذلك منهم أو على حدّ ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة فتوقف في كونهم مؤمنين، وسئل قتادة عن أصحاب الجنة أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ قال: لقد كلفتني تعباً، والأكثرون يقولون: إنهم تابوا وأخلصوا حكاه القشيري.
ولما كان المقام لترهيب من ركن إلى ماله واحتقر الضعفاء من عباد الله تعالى ولم يجلهم بجلاله طوى ذكر ما أنعم به عليهم وذكر ما يخوفهم، فقال تعالى مرهباً:
{كذلك} أي: مثل هذا الذي بلونا به أصحاب الجنة من إهلاك ما كان عند أنفسهم في غاية القدرة عليه والثقة به مع الاستحسان لفعلهم والاستصواب، وهددنا به أهل مكة فلم يبادروا إلى المتاب. {العذاب} أي: الذي نحذرهم منه ونخوفهم به في الدنيا، فإذا تم الأجل الذي قدرناه له أخذناهم به غير مستعجلين ولا مفرطين لأنه لا يعجل إلا ناقص يخاف الفوت {ولعذاب الآخرة} أي: الذي يكون فيها للعصاة {أكبر} أي: من كل ما يتوهمون {لو كانوا} أي: الكفار {يعلمون} أي: لو كان لهم علم بشيء من غرائزهم في وقت من الأوقات لرجعوا عما هم فيه.
ولما ذكر(4/361)
ما لأهل الجمود الذين لا يجوزون الممكنات ذكر تعالى أضدادهم، فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم:
{إن للمتقين} أي: العريقين في صفة التقوى {عند ربهم} أي: المحسن إليهم في موضع دوم أولئك وجنة آمالهم {جنات} جمع جنة وهي لغة: البستان الجامع، وفي عرف الشرع: مكان اجتمع فيه جميع السرور وانتفى عنه جميع الشرور {النعيم} أي: جنات ليس فيها إلا النعيم الخالص لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.
قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا، فلا بدّ وأن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة فأجابهم الله تعالى بقوله سبحانه:
{أفنجعل المسلمين} أي: الذين هم عريقون في الانقياد لأوامرنا والصلة لما أمرنا بوصله طلباً لمرضاتنا، فلا اختيار لهم معنا في نفس ولا غيرها لحسن جبلاتهم {كالمجرمين} أي: الراسخين في قطع ما أمرنا به أن يوصل وأنتم لا تقرون بمثل هذا، ففي ذلك إنكار لقول الكفرة، فإنهم كانوا يقولون أيضاً: إن صح أننا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يفضلونا، بل نكون أحسن حالاً منهم كما نحن عليه في الدنيا.
وقوله تعالى: {ما لكم} أي: أيّ شيء يحصل لكم من هذه الأحكام الجائرة البعيدة عن الصواب {كيف تحكمون} أي: أيّ عقل دعاكم إلى هذا الحكم الذي يتضمن التسوية من السيد بين المحسن من عبيده والمسيء مع التفاوت، فيه تعجب من حكمهم واستبعاد له وإشعار بأنه صادر عن اختلال فكر واعوجاج رأي.
{أم} أي: بل الله {لكم كتاب} أي: سماوي معروف أنه من عند الله خاص بكم {فيه} أي: لا في غيره من أساطير الأولين {تدرسون} أي: تقرؤون قراءة أيقنتكم.
{إن لكم} أي: خاصة على وجه التأكيد الذي لا رخصة في تركه {لما تخيرون} أي: ما تختارونه وتشتهونه، وكسرت وكان حقها الفتح لولا اللام لأن ما بعدها هو المدروس، ويجوز أن تكون الجملة حكاية للمدروس وأن تكون استئنافية.
{أم لكم أيمان} أي: عهود ومواثيق {علينا} قد حملتمونا إياها {بالغة} أي: واثقة لأيمان، وقوله تعالى: {إلى يوم القيامة} متعلق بما تعلق به لكم من الاستقرار، أي: ثابتة لكم إلى يوم القيامة، أي: مبالغة، أي: تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إليه. وقوله تعالى: {إن لكم لما تحكمون} جواب القسم لأن معنى {أم لكم أيمان علينا} أي: أقسمنا لكم.
ولما عجب منهم وتهكم بهم ذيل ذلك بتهكم أعلى منه يكشف عوارهم غاية الكشف فقال تعالى: {سلهم} يا أشرف الرسل {أيهم بذلك} أي: الأمر العظيم الذي يحكمون به لأنفسهم من أنهم يعطون في الآخرة أفضل من المؤمنين {زعيم} أي: كفيل وضامن أو سيد أو رئيس أو متكلم بحق أو باطل التزم في ادعائه صحة ذلك.
{أم لهم شركاء} موافقون لهم في هذا القول يكفلونه لهم فإن كانوا كذلك {فليأتوا بشركائهم} أي: الكافلين لهم به {إن كانوا صادقين} أي: عريقين في هذا الوصف كما يدعونه.
وقوله تعالى: {يوم} منصوب بقوله تعالى: {فليأتوا} أي: فليأتوا بشركائهم يوم {يكشف} أي: يحصل الكشف فيه، بني للمفعول لأن المخيف وقوع الكشف الذي هو كناية عن تفاقم الأمر وخروجه عن حدّ الطوق لا كونه من معين، مع أنه من المعلوم أنه لا فاعل هناك غيره سبحانه وتعالى {عن ساق} أي: يشتدّ فيه الأمر غاية الاشتداد، لأنّ من اشتدّ(4/362)
عليه الأمر وجد في فصله شمر عن ساقه لأجله وشمرت حرمه عن سوقهنّ غير محتشمات فهو كناية عن هذا، ولذلك نكره تهويلاً له وتعظيماً، نقل هذا التأويل عن ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما، وعن انكشاف جميع الخلائق وظهور الجلائل فيه والدقائق من الأهوال وغيرها، كما كشفت هذه الآيات جميع الشبه، فتركت السامع لها في مثل ضوء النهار، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار: اذكر فيكون على هذا مفعولاً به وعلى الأول لا يوقف على صادقين.
تنبيه: علم مما تقرر أن كشف الساق كناية عن الشدة، قال الراجز:
*عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طرادي الطير عن أرزاقها*
*في سنة قد كشفت عن ساقها ... حمراء تبرى اللحم عن عراقها*
وقال: الطائي:
*أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا*
وقال: آخر:
*قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدّت الحرب بكم فجدّوا*
وقال أبو عبيدة: إذا اشتد الأمر أو الحرب قيل: كشف الأمر عن ساقه، والأصل فيه: أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد شمر عن ساقه، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة، وقال القرطبي: وأما ما روي أن الله تعالى يكشف عن ساقه، فإنه تعالى متعال عن الأعضاء والأبعاض وأن ينكشف ويتغطى، ومعناه: أن يكشف عن العظيم من أمره. وقيل: يكشف عن نوره عز وجل، وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عن ساق} قال: «يكشف عن نور عظيم يخرون له سجداً» وروى أبو بردة عن أبي موسى قال: حدثني أبو موسى قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحيد فيقال لهم: ما تنتظرون وقد ذهب الناس فيقولون: إن لنا رباً كنا نعبده في الدنيا ولم نره قال: أو تعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: نعم فيقال: فكيف تعرفونه ولم تروه؟ قالوا: إنه لا شبيه له فيكشف لهم الحجاب فينظرون الله تعالى فيخرون له سجداً، ويبقى أقوام ظهورهم كصياصي البقر فينظرون إلى الله تعالى فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق} » .
{ويدعون} أي: من داعي الملك الديان {إلى السجود} توبيخاً على تركه الآن وتنديماً وتعنيفاً لا تعبداً وتكليفاً، فيريدونه ليفدوا أنفسهم مما يرون من المخاوف {فلا} أي: فتسبب عن ذلك أنهم لا {يستطيعون} لأنهم غير سالمين لا أعضاء لهم تنقاد به مع شدة معالجتهم لأنفسهم فيقول الله تعالى أي: للساجدين: عبادي ارفعوا رؤوسكم فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلاً من اليهود والنصارى في النار، قال أبو بردة: فحدثت هذا الحديث عبر بن عمر العزيز، فقال لي: والله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث، فحلف له ثلاثة أيمان فقال: ما سمعت في أهل التوحيد حديثاً هو أحب إلي من هذا الحديث، وأما غير الساجدين فعن ابن مسعود تعقم أصلابهم، أي: ترد عظامها بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض،(4/363)
وفي الحديث وتبقى أصلابهم طبقاً واحداً، أي: فقارة واحدة.
وقوله تعالى: {خاشعة} حال من مرفوع يدعون وقوله تعالى: {أبصارهم} فاعل به ونسب الخشوع للأبصار، لأنّ ما في القلب يعرف في العين وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم من السجود ووجوههم أضوأ من الشمس، ووجوه الكافرين والمنافقين سود مظلمة. {ترهقهم} أي: تغشاهم {ذلة} أي: عظمية لأنهم استعملوا الأعضاء التي أعطاهموها الله سبحانه ليتقرّبوا بها إليه في دار العمل في غير طاعته {وقد} أي: والحال أنهم قد {كانوا يدعون إلى السجود} أي: في الدنيا من كل داع يدعو إلينا، وقال إبراهيم التيمي: أي يدعون بالأذان والإقامة فيأبون. وقوله تعالى: {وهم سالمون} أي: معافون أصحاء، حال من مرفوع يدعون الثانية. وقال سعيد بن جبير: كانوا يسمعون حيّ على الفلاح فلا يجبيبون، وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات.
ولما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف بما عنده وفي قدرته فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {فذرني} أي: اتركني على أيّ حالة اتفقت {ومن يكذب} أي: يوقع التكذيب لمن يتلو ما جددت إنزاله من كلامي القديم على أيّ حالة كان إيقاعه، وأفرد الضمير نصاً على تهديد كل واحد من المكذبين {بهذا الحديث} أي: القرآن، أي: خل بيني وبينهم لا تشغل قلبك به، فإني أكفيك أمره لأنه لا مانع منه فلا تهتم به أصلاً.
{سنستدرجهم} أي: سنأخذهم بعظمتنا على التدريج لا على غرّة إلى عذاب لا شك فيه {من حيث} أي: من جهات {لا يعلمون} أي: لا يتجدد لهم علم ما في وقت من الأوقات فعذبوا يوم بدر، وقال أبو روق: كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار. وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم وننسيهم الشكر، وقال الحسن: كم مستدرج بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالستر عليه، وقال ابن عباس: سنمكر بهم، وروي أن رجلاً من بني إسرائيل قال: يا رب كم أعصيك وأنت لا تعاقبني فأوحى الله إلى نبي زمانهم أن قل له: كم من عقوبة لي عليك وأنت لا تشعر أن جمود عينيك وقساوة قلبك استدراج مني وعقوبة لو عقلت، والاستدراج ترك المعاجلة، وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرج، ومنه قيل: درجات وهي منزلة بعد منزلة واستدرج فلان فلاناً، أي: استخرج ما عنده قليلاً قليلاً، ويقال: درجه إلى كذا واستدرجه معناه: أدناه منه على التدريج فتدرج. ومعنى الآية: إنا لما أنعمنا عليهم اعتقدوا أن ذلك الإنعام تفضيل لهم على المؤمنين وهو في الحقيقة والواقع سبب لهلاكهم.
{وأملي لهم} أي: أمهلهم وأطيل المدة كقوله تعالى: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} (آل عمران: 178)
والملاوة المدة من الدهر وأملى الله له، أي: أطال له، والملوان الليل والنهار. وقيل: لا أعاجلهم بالموت. والمعنى واحد، والملا مقصوراً الأرض الواسعة سميت بها لامتدادها {إن كيدي} أي: ستري لأسباب الهلاك عمن أريد إهلاكه وإبدائي ذلك له في ملابس الإحسان {ميتن} أي: قويّ شديد فلا يفوتني أحد، وسمي إحسانه كيداً كما سماه استدارجاً لكونه في صورة الكيد، ووصفه بالمتانة لقوة أثر استحسانه في التسبب للهلاك.
{أم تسألهم} أي: أنت يا أعف الخلق وأعلاهم همماً {أجراً} على تبليغ الرسالة {فهم} أي: فتسبب عن ذلك وتعقب أنهم {من مغرم} أي: غرامة(4/364)
كلفتهم بها {مثقلون} أي: ثقل حمل الغرامات عليهم في بذل المال فثبطهم ذلك عن الإيمان. والمعنى: ليس عليهم كلفة في متابعتك بل يستولون بالإيمان على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم.
{أم عندهم} أي: خاصة {الغيب} أي: علمه عن اللوح المحفوظ أو غيره {فهم} أي: بسبب ذلك {يكتبون} أي: ما يريدون منه ليكونوا قد أطلعوا على أن هذا الذكر ليس من عند الله، أو أنهم لا درك عليهم في التكذيب به فقد علم من هذا أنهم لا شهوة لهم في ذلك عادية ولا شبهة، وإنما كيدهم مجرد خبث طباع وظلمة نفوس وأماني فارغة وأطماع.k
{فاصبر} أي: أوقع الصبر وأوجده على كل ما يقولونه فيك وعلى غير ذلك من كل ما يقع منهم ومن غيرهم من ممر القضاء {لحكم ربك} أي: القضاء الذي قضاه وقدره المحسن إليك الذي أكرمك بما أكرمك به من الرسالة وألزمك بما ألزمك من البلاغ وخذلهم بالتكذيب ومدّ لهم على ذلك في الأجل، وأسبغ عليهم النعم وأخر ما وعدك به من النصر. وقال ابن بحر: فاصبر لنصر ربك، وقيل: إن ذلك منسوخ بآية السيف. وقال قتادة: إن الله تعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ويأمره بالصبر ولا يعجل. {ولا تكن} أي: ولا يكن حالك يا أشرف الخلق في الضجر والعجلة {كصاحب} أي: كحال صاحب {الحوت} وهو يونس عليه السلام.
وقوله تعالى: {إذ} منصوب بمضاف محذوف، أي: ولا يكن حالك كحاله أو قصتك حين {نادى} أي: ربه في الظلمات من بطن الحوت وظلمة ما يحيط به من الجثة وظلمة اللجج {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} ، ويدل على المحذوف أن الذوات لا ينصبّ عليها النهي إنما ينصب على أحوالها وصفاتها، وقوله تعالى: {وهو مكظوم} جملة حالية من الضمير من نادى والمكظوم الممتلئ حزناً أو غيظاً، ومنه كظم السقاء إذا ملأه، قال ذو الرمة:
*وأنت من حب ميّ مضمر حزناً ... غالي الفؤاد قريح القلب مكظوم*
وقال القرطبي: ومعنى وهو مكظوم، أي: مملوء غماً. وقيل: كرباً فالأول قول ابن عباس ومجاهد، والثاني: قول عطاء وأبي مالك. قال الماوردي: والفرق بينهما أن الغم في القلب والكرب في الأنفاس. وقيل: مكظوم: محبوس، والكظم: الحبس. ومنه قولهم: كظم غيظه، أي: حبس غضبه. والمعنى: لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة فتبلى ببلائه.
ولما تشوف السامع إلى ما كان من أمره بعد هذا الأمر العجيب قال تعالى: {لولا أن تداركه} أي: أدركه إدراكاً عظيماً {نعمة} أي: عظيمة جداً.
تنبيه: حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في تداركه.
{من ربه} أي: الذي أحسن إليه بإرساله وتهذيبه للرسالة والتوبة عليه والرحمة. وقال الضحاك: النعمة هنا النبوة، وقال ابن جبير: عبادته التي سلفت، وقال ابن زيد: نداؤه بقوله:
{لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} ، وقال ابن بحر: إخراجه من بطن الحوت. وقوله تعالى: {لنبذ} أي: لولا هذه الحالة السنية التي أنعم الله تعالى عليه بها لطرح طرحاً هيناً جداً {بالعراء} أي: الأرض القفراء الواسعة التي لا بناء فيها ولا جبال ولا نبات، البعيدة عن الأنس جواب لولا. وقيل: جوابها مقدر، أي: لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت {وهو} أي: والحال أنه {مذموم} أي: ملوم على الذنب. وقيل: مبعد(4/365)
من كل خير. وقال الرازي: وهو مذموم على كونه فاعلاً للذنب، قال: والجواب من ثلاثة أوجه: الأول: إن كلمة لولا دالة على أن هذه المذمومية لم تحصل. الثاني: لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. الثالث: لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة لقوله تعالى: {فاجتباه} أي: اختاره لرسالته {ربه} والفاء للتعقيب، قيل: إن هذه الآية نزلت بأحد حين حلّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا، وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف.
ثم سبب عن اجتبائه قوله تعالى: {فجعله من الصالحين} أي: الذين رسخوا في رتبة الصلاح فصلحوا في أنفسهم للنبوة والرسالة، وصلح بهم غيرهم فنبذ حينئذ بالعراء وهو محمود. قال ابن عباس: ردّ الله تعالى إليه الوحي وشفعه في نفسه وفي قومه وقبل توبته وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألف أو يزيدون بسبب صبره، فمن صبر أعظم من صبره كان أعظم أجراً من أجره وأنت كذلك فأنت أشرف العالمين.
تنبيه: استدل أهل السنة على أن فعل العبد خلق لله تعالى بقوله سبحانه: {فجعله من الصالحين} لأن الصلاح إنما حصل بجعل الله تعالى وخلقه، وقال الجبائي: يحتمل أن يكون معنى جعل أنه أخبر بذلك، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني، والجواب: أن ذلك مجاز والأصل في الكلام الحقيقة.
{وإن} هي المخففة، أي: وإنه {يكاد الذين كفروا} أي: ستروا ما قدروا عليه مما جئت به من الدلائل، وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف.
ولما كانت إن مخففة أتى باللام التي هي عَلَمها فقال: {ليزلقونك بأبصارهم} أي: ينظرون إليك نظراً شديداً يكاد أن يصرعك من قامتك إلى الأرض كما يزلق الإنسان فينطرح لما يتراءى في عيونهم، أو يهلكونك من قولهم: نظر إلي نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني، أي: لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعل قال القائل:
*يتقارضون إذا التقوا في موطن ... نظرا يزل مواطئ الأقدام*
وقيل: أرادوا أن يصيبوه بالعين فنظر إليه قوم من قريش، وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حجمه، وقيل: كانت العين في بني إسرائيل فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول: لم أر كاليوم مثله إلا عانه حتى أن البقرة السمينة أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها، ثم يقول: يا جارية خذي المكتل والدرهم، فائتينا من لحم هذه الناقة فما تبرح الناقة حتى تقع للموت فتنحر. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئاً يومين أو ثلاثة ثم يرفع جانب الخباء فتمر به الإبل أو الغنم، فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه فلا تذهب إلا قليلاً حتى تسقط منها طائفة هالكة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعين فأجابهم، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم أنشد:
*قد كان قومك يحسبونك سيدا ... وأخال أنك سيد معيون*
فعصم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية، وذكر الماوردي أن العرب كانت إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً بعين في نفسه أو ماله يجوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله(4/366)
فيقول: تالله ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكبر منه ولا أحسن، فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى أبو نعيم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر» . وعن أسماء بنت عميس قالت: يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم قال: «نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين» . وقال الحسن: دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية، وقرأ نافع بفتح الياء والباقون بضمها وهما لغتان يقال: زلقه يزلقه زلقاً، وأزلقه يزلقه إزلاقاً.
وقال ابن قتيبة: ليس يريد أنهم يصيبونك بأعينهم كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك. {لما سمعوا الذكر} أي: القرآن نظراً شديداً بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك، وقال الزجاج: يعني من شدة عداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك {ويقولون} أي: قولاً لا يزالون يجددونه حسداً وبغضاً على أنهم لم يزدهم تمادي الزمان إلا حنقاً {إنه لمجنون} أي: ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن.
فأجابهم الله تعالى بقوله سبحانه: {وما هو} أي: القرآن {إلا ذكر للعالمين} قال ابن عباس: موعظة للمؤمنين، قال الجلال المحلي: الإنس والجن، وظاهره: إخراج الملائكة، وهو ما جرى عليه في شرحه على جمع الجوامع، وظاهر الآية: أنه أرسل لجميع الخلائق، وهو كما قال بعض المتأخرين: الظاهر، ويدل له قول البيضاوي لما جننوه لأجل القرآن بين أنه ذكر عام لا يدركه ولا يتعاطاه إلا من كان أكمل الناس عقلاً وأثبتهم رأياً، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي عليه الصلاة والسلام: «من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن الله أخلاقهم» حديث موضوع.
سورة الحاقة
مكية
وهي اثنان وخمسون آية وألف وأربعة وستون حرفاً
{بسم الله} أي: الذي له الكمال كله {الرحمن} الذي عم العالمين جوده {الرحيم} الذي خص أهل وده بالوقوف عند حدوده. وقوله تعالى:
{الحاقة} مبتدأ وقوله تعالى:
{ما الحاقة} مبتدأ وخبر، والجملة خبر الأول، والأصل الحاقة ما هي، أي: أي شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها، فوضع الظاهر موضع المضمر لأنه أهول لها. والحاقة الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها، أو التي فيها حواق الأمور من البعث والحساب والثواب والعقاب، أو التي تحق فيها الأمور، أي: تعرف على الحقيقة من قولك: لا أحق هذا، أي: لا أعرف حقيقته، جعل الفعل لها وهو لأهلها، وقيل: سميت القيامة بذلك لأنها أحقت لأقوام الجنة ولأقوام النار. وقوله تعالى:
{وما أدراك} أي: أيّ شيء أعلمك {ما الحاقة} زيادة تعظيم لشأنها، فما الأولى مبتدأ وما بعدها خبره، وما الثانية خبرها في محل المفعول الثاني لأدري يعني: إنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها على أنه من العظم والشدة بحيث لا تبلغه دراية أحد ولا وهمه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالماً بالقيامة ولكن لا علم له بكنهها وصفتها، فقيل له ذلك تفخيماً لشأنها، كأنك لست تعلمها إذ لم تعاينها. وقال يحيى بن سلام: بلغني أن كل شيء في القرآن {وما أدراك} فقد دراه(4/367)
وعلمه، وكل شيء قال: {وما يدريك} فإنه مما لم يعلمه. وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه: {وما أدراك} فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه: {وما يدريك} فإنه لم يخبر به، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بالإمالة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح.
ولما ذكر الساعة وفخمها أتبع ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم فقال تعالى: {كذبت ثمود} قدمهم لأن بلادهم أقرب إلى قريش وواعظ القرب أكبر وإهلاكهم بالصيحة وهي أشبه بصيحة النفخ في الصورة المبعثرة لما في القبور {وعاد بالقارعة} أي: القيامة سميت بذلك لأنها تقرع قلوب العباد بالمحاقة أو لأنها تقرع الناس بأهوالها يقال: أصابتهم قوارع الدهر، أي: أهواله وشدائده. وقوارع القرآن: الآيات التي يقرؤها الإنسان إذا فزع من الإنس أو الجن نحو: آية الكرسي، كأنه يقرع الشيطان بها. وقال المبرَّد: القارعة مأخوذة من القرعة من رفع قوم وحط آخرين وقوارع القيامة انفطار السماء بانشقاقها، والأرض والجبال بالدك والنسف، والنجوم بالطمس والانكدار، ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع في الحاقة زيادة في وصف شدتها، وقيل: عنى بالقارعة العذاب الذي نزل بهم في الدنيا، وكان نبيهم يخوفهم بذلك فيكذبونه.
وثمود قوم صالح وكانت منازلهم بالحجر فيما بين الشام والحجاز، قال ابن إسحاق: وهو وادي القرى وكانوا عرباً، وأما عاد فقوم هود وكانت منازلهم بالأحقاف رمل بين عمان إلى حضرموت واليمن كله وكانوا عرباً ذوي بسطة في الخلق.
{فأمّا ثمود فأهلكوا} أي: بأيسر أمر من أوامرنا {بالطاغية} أي: الواقعة التي جاوزت الحدّ في الشدة فرجفت منها القلوب، واختلف فيها فقيل: الرجفة، وعن ابن عباس: الصاعقة، وعن قتادة: بعث الله تعالى عليهم صيحة فأهمدتهم. وقال مجاهد: بالذنوب، وقال الحسن: بالطغيان فهو مصدر كالكاذبة والعاقبة، أي: أهلكوا بطغيانهم وكفرهم قال الزمخشري: وليس بذاك لعدم الطباق بينها وبين قوله تعالى: {بريح صرصر} لكن قال ابن عادل: ويوضحه {كذبت ثمود بطغواها} (الشمس: 11)
أهلكوا بها ولأجلها. قال: والباء سببية على الأقوال كلها إلا على قول قتادة، فإنها فيه للاستعانة كعملت بالقدّوم.
{وأمّا عاد فأهلكوا} أي: بأشق ما يكون عليهم وبأيسر ما يكون علينا {بريح صرصر} أي: شديدة الصوت لها صرصرة، وقيل: هي الباردة من الصرّ كأنها التي كرر فيها البرد وكثر، فهي تحرق بشدة بردها. وقال مجاهد: هي الشديدة السموم {عاتية} أي: مجاوزة للحدّ في شدة عصفها، والعتو استعارة، أو عتت على عاد فما قدروا على ردها بحيلة، من استتار ببناء أو لياذ بجبل أو اختفاء في حفرة، فإنها كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكم، وقيل: عتت على خزانها فخرجت بلا كيل ولا وزن، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما أرسل الله تعالى سفينة من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من مطر إلا بمكيال، إلا يوم عاد ويوم نوح فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل ثم قرأ {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} (الحاقة: 11)
وإن الريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل ثم قرأ: {بريح صرصر عاتية} . {سخرها} أرسلها {عليهم} وقال مقاتل رضي الله عنه: سلطها عليهم {سبع ليال} أي: لا تفتر فيها الريح لحظة {وثمانية أيام} كذلك. قال وهب: هي الأيام(4/368)
التي تسميها العرب العجوز ذات برد وريح شديدة قيل: سميت عجوزاً لأنها في عجز الشتاء، وقيل: سميت بذلك لأنّ عجوزاً من قوم عاد دخلت سرباً فتبعتها الريح فقتلتها اليوم الثامن من نزول العذاب وانقطع العذاب {حسوماً} قال مجاهد وقتادة رضي الله عنهما: متتابعة ليس فيها قترة، فعلى هذا هو من حسم الكي، وهو أن يتابع على موضع الداء المكواة حتى يبرأ، ثم قيل لكل شيء يقطع: حاسم وجمعه حسوم مثل شاهد وشهود. وقال الكلبي: حسوماً دائماً، وقال النضر بن شميل: حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم، والحسم القطع والمنع ومنه: حسم الداء، وقال عطية: حسوماً شؤماً كأنها حسمت الخير عن أهلها.
تنبيه: في إعراب حسوماً أوجه: أحدها: أن ينتصب نعتاً لما قبله. ثانيها: أن ينتصب على الحال، أي: ذات حسوم. ثالثها: أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظها، أي: تحسمهم حسوماً.
واختلفوا في أولها فقال السدي: غداة يوم الأحد، وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه: غداة يوم الجمعة، وقال يحيى بن سلام ووهب بن منبه رضي الله عنهم: غداة يوم الأربعاء وهو اليوم النحس المستمر قيل: كان آخر أربعاء في السنة وآخرها يوم الأربعاء. وقال البقاعي: وهي من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال غروب الأربعاء الآخر وهو آخر الشهر وقد لزم من زيادة عدد الأيام أن الابتداء كان بها قطعاً وإلا لم تكن الليالي سبعاً فتأمل ذلك ا. هـ. وهو ظاهر.
ولما كان الحاسم المهلك تسبب عنه قوله تعالى مصوراً لحالهم الماضية: {فترى القوم} أي: الذين هم غاية في القدرة على ما يحاولونه {فيها} أي: تلك المدة من الأيام والليالي لم يتأخر أحد منهم عنهم {صرعى} أي: مجندلين على الأرض موتى جمع صريع وهي حال نحو قتيل وقتلى وجريح وجرحى، والضمير فيها للأيام والليالي كما مر أو للبيوت أو للريح قال ابن عادل: والأول أظهر لقربه.
{كأنهم أعجاز} أي: أصول {نخل} قد شاخت وهرمت فهي في غاية العجز {خاوية} أي: متأكلة الأجواف ساقطة من خوى النجم إذا سقط للغروب، ومن خوى المنزل إذا خلا من قطّانه. قالوا: كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم، والوصف بذلك لعظم أجسامهم وتقطيع الريح لهم وقطعها لرؤوسهم وخلوهم من الحياة وتسويدها لهم.
{فهل ترى} أي: أيها المخاطب الخبير بالناس في جميع الأقطار {لهم} أي: خصوصاً. وأغرق في النفي وعبر بالمصدر الملحق بالهاء مبالغة فقال تعالى: {من باقية} فيكون المراد بالباقية البقاء كالطاغية بمعنى الطغيان، أي: من باق، والأحسن أن تكون صفة لفرقة أو لطائفة أو نفس أو بقية أو نحو ذلك. وقيل: فاعلة بمعنى المصدر كالعافية والباقية. قال المفسرون: والمعنى هل ترى لهم أحداً باقياً، قال ابن جريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله تعالى من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر، فذلك قوله تعالى: {فهل ترى لهم من باقية} . وقوله تعالى: {فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم} (الأحقاف: 25)
. ونجى الله تعالى صالحاً عليه السلام ومن آمن به من بين ثمود ولم تضرّهم الصاعقة، وهوداً عليه السلام ومن آمن به من عاد ولم يهلك منهم أحد، فدل ذلك دلالة واضحة على أن له تعالى تمام العلم بالجزئيات، كما أن له تمام الإحاطة بالكليات وعلى قدرته واختياره وحكمته، فلا يجعل المسلم كالمجرم ولا المسيء كالمحسن، وجواب هل لم يبق(4/369)
منهم أحد.
{وجاء فرعون} أي: الذي ملكناه طائفة من الأرض وتجبر وادعى الإلهية ناسياً نعمتنا وقدرتنا. وقوله تعالى: {ومن قبله} قرأه أبو عمرو والكسائي بكسر القاف وفتح الباء الموحدة، أي: ومن عنده من أتباعه، وقرأه الباقون بفتح القاف وسكون الباء الموحدة على أنه ظرف، أي: ومن تقدمه من الأمم الكافرة {والمؤتفكات} أي: أهلكها وهي قرى قوم لوط، أي: المنقلبات بأهلها حتى صار عاليها سافلها لما حصل لأهلها من الانقلاب {بالخاطئة} ، أي: بالفعلات ذات الخطأ الذي يتخطى منها إلى نفس الفعل القبيح من اللواط والصفع والضراط مع الشرك وغير ذلك من أنواع الفسق.
ولما كانت الرسل كالفرد الواحد لاتفاقهم وتعاضدهم في الدعاء إلى الله تعالى والحمل على طاعته قال مسبباً عن مجيئهم بذلك موحداً في اللفظ ما هو صالح لكثير بإرادة الجنس: {فعصوا} أي: خالفوا {رسول ربهم} أي: خالفت كل أمة من أرسله المحسن إليها بإبداعها من العدم وإبداعها القوى وترزيقها وبعث رسولها لإرشادها اغتراراً بإحسانه، ولم يجوزوا أن المحسن يقدر على الضر كما قدر على النفع لأنه الضار كما أنه النافع فللتنبيه على مثل ذلك لا يجوز فصل أحد الاسمين عن الآخر، وسبب عن العصيان قوله تعالى: {فأخذهم} أي: ربهم، أخذ قهر وغضب {أخذة} لم تبق من أمة منهم أحداً ممن كذب الرسول فلم يكن كمن ينصر على عدو من المؤمنين لابدّ أن يفوته كثير منهم وإن اجتهد في الطلب، وما ذاك إلا لتمام علمه سبحانه بالجزئيات والكليات وشمول قدرته وتلك الأخذة مع كونها بهذه العظمة من أنها أخذتهم كنفس واحدة جعلها سبحانه {رابية} أي: عالية عليهم زائدة في الشدة على غيرها وعلى عذاب الأمم، يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد. ومنه: الربا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى، والمعنى أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار، وقيل لأن عقوبة آل فرعون متعلقة بعذاب الآخرة لقوله تعالى: {اغرقوا فأدخلوا ناراً} (نوح: 25)
وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا فتلك العقوبة كانت كأنها تنمو وتربو.
ثم ذكر تعالى قصة نوح عليه السلام وهي قوله تعالى: {أنا} أي: على عظمتنا {لما طغى الماء} أي: زاد على الحد حتى علا على أعلى جبل في الأرض بقدر ما يغرق من كان عليه حين أغرقنا قوم نوح عليه السلام به، فلم يطيقوا ضبطه ولا فوره بوجه من الوجوه. وقال صلى الله عليه وسلم «طغى على خزانه من الملائكة غضباً لربه تعالى فلم يقدروا على حبسه» . قال المفسرون: زاد على كل شيء خمسمائة ذراع وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «طغى الماء زمن نوح عليه السلام على خزانه فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج، وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم» . والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. ثم منّ الله عليهم بأن جعلهم ذرية من نجى من الغرق بقوله تعالى: {حملناكم} أي: في ظهور آبائكم {في الجارية} أي: السفينة التي جعلناها بحكمتنا عريقة في الجريان حتى كأنه لا جارية غيرها على وجه الماء الذي جعلنا من شأنه الإغراق، والمحمول في الجارية إنما هو نوح عليه السلام وأولاده وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك، والجارية من أسماء السفينة ومنه قوله تعالى: {وله الجوار المنشآت في(4/370)
البحر كالأعلام} (الرحمن: 24)
وغلب استعمال الجارية في السفينة كقولهم في بعض الألغاز:
*رأيت جارية في بطن جارية ... في بطنها رجل في بطنها جمل*
ونوح عليه السلام أول من صنع السفينة، وإنما صنعها بوحي من الله تعالى وبحفظه له قال: اجعلها كهيئة صدر الطائر ليكون ما يجري في الماء مقارباً لما يجري في الهواء وأغرقنا سوى من كان في تلك السفينة من جميع أهل الأرض من آدمي وغيره {لنجعلها} أي: هذه الفعلة العظيمة وهي إنجاء المؤمنين بحيث لا يهلك منهم بهذا العذاب أحد، وإهلاك الكافرين بحيث لا يشذ منهم أحد، وكذا السفينة التي حملنا فيها نوحاً عليه السلام ومن معه {لكم} أيها الناس {تذكرة} أي: عبرة ودلالة على قدرته تعالى وعظمته ورحمته وقهره فيقودكم ذلك إليه وتقبلوا بقلوبكم عليه.
وقوله تعالى: {وتعيها} عطف منصوب على لنجعلها، أي: ولتحفظ قصة السفينة وغيرها مما تقدم حفظاً ثابتاً مستقراً كأنه محوي في وعاء {أذن} أي: عظيمة النفع {واعية} أي: من شأنها أن تحفظ ما ينبغي حفظه من الأقوال والأفعال الإلهية والأسرار الربانية لنفع عباد الله تعالى كما كان نوح عليه السلام ومن معه وهم قليل سبباً لإدامة النسل والبركة فيه حتى امتلأت منه الأرض، والوعي: الحفظ في النفس، والإيعاء: الحفظ في الوعاء.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: أذن واعية على التوحيد والتنكير؟ قلت: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت عقلت عن الله تعالى فهو السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالى بهم بالة وإن ملؤوا ما بين الخافقين ا. هـ. وقرأ نافع بسكون الذال والباقون بضمها.
ولما ذكر تعالى القيامة وهول أمرها بالتعبير بالحاقة وغيرها شرع سبحانه وتعالى في تفاصيل أحوالها وبدأ بذكر مقدماتها بقوله تعالى: {فإذا نفخ} وبنى الفعل للمجهول دلالة على هوان ذلك عليه وأن ما يتأثر عنه لا يتوقف على نافخ معين بل من أقامه لذلك من جنده تأثر عنه ما يريده {في الصور} أي: القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام. قال البقاعي: كأنه عبر عنه به دون القرن مثلاً؛ لأنه يتأثر عنه تارة إعدام الصورة، وتارة إيجادها وردها إلى أشكالها وسعته كما بين السماء والأرض {نفخة واحدة} للفصل بين الخلائق.
قال الزمخشري: فإن قلت: هما نفختان، فلم قيل: واحدة؟ قلت: معناه أنها لا تثنى في وقتها. ثم قال: فإن قلت: فأي النفختين هي؟ قلت: الأولى لأن عندها فساد العالم، وهكذا الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد روي عنه أنها الثانية ا. هـ.
قال البقاعي: وظاهر السياق أنها الثانية التي بها البعث وخراب ما ذكر بعد قيامهم أنسب لأنه أهيب وكونها الثانية إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما ا. هـ. واقتصر البيضاوي على أنها الأولى والجلال المحلي على أنها الثانية وهو الأنسب كما قاله البقاعي.
ثم إن الزمخشري سأل سؤالاً على أنها النفخة الأولى بقوله: فإن قلت: أما قال بعد: {يومئذ تعرضون} والعرض إنما هو عند النفخة الثانية، قلت: جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان، والصعقة والنشور والوقوف للحساب، فلذلك قيل: {يومئذ تعرضون} كما تقول: جئتك عام كذا، وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته ا. هـ.
ولما ذكر التأثير في الأحياء أتبعه التأثير في الجمادات وبدأ منها بالسفليات لملابستها للإنسان(4/371)
فتكون عبرته بها أكثر، فقال تعالى: {وحملت الأرض والجبال} أي: التي بها ثباتها حملتهما الريح أو الملائكة أو القدرة من أماكنهما {فدكتا} أي: مسحت الجملتان الأرض وأوتادها وبسطت ودق بعضها ببعض {دكة واحدة} أي: فصارتا كثيباً مهيلاً بأيسر أمر، فلم يميز شيء منهما عن الآخر بل صارتا في غاية الاستواء، ومنه اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره، وقال الفراء: لم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة والأرض كالجملة الواحدة، ومثله {أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما} (الأنبياء: 30)
ولم يقل كن وهذا الدك كالزلزلة لقوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} (الزلزلة: 1)
وقوله تعالى: {فيومئذ} منصوب بوقعت وقوله تعالى: {وقعت الواقعة} لابد فيه من تأويل، وهو أن تكون الواقعة صارت علماً بالغلبة على القيامة أو الواقعة العظيمة وإلا فقام القائم لا يجوز إذ لا فائدة فيه، والتنوين في يومئذ للعوض من الجملة تقديره: يوم إذ نفخ في الصور، ونوع تعالى أسماء القيامة بالحاقة والواقعة والقارعة تهويلاً لها.
ولما ذكر تأثير العالم السفلي ذكر العلوي بقوله تعالى: {وانشقت السماء} أي: ذلك الجنس لشدة هول ذلك اليوم، أي: انصدعت وتفطرت، وقيل: انشقت لنزول الملائكة بدليل قوله تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً} (الفرقان: 25)
. {فهي يومئذ واهية} أي: ضعيفة متساقطة خفيفة لا تتماسك كالعهن المنفوش بعدما كانت محكمة يقال: وهي البناء يهي وهياً فهو واه إذا ضعف جداً ويقال: كلام واه، أي: ضعيف وقيل: واهية، أي: متخرّقة مأخوذ من قولهم: وهى السقاء إذا تخرّق ومن أمثالهم:
*خل سبيل من وهى سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه*
أي: من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه، وقرأ أبو عمرو وقالون والكسائي بسكون الهاء والباقون بكسرها {والملك} أي: هذا النوع {على أرجائها} أي: نواحي السماء وأطرافها وحواشي ما لم ينشق منها قال الضحاك: يكونون بها حتى يأمرهم الله تعالى فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها، وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: المعنى والملك على حافات الدنيا، أي: ينزلون إلى الأرض ويحرسون أطرافها، وقيل: إذا صارت السماء قطعاً تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها، والأرجاء في اللغة: النواحي والأقطار بلغة هذيل واحدها رجا مقصور وتثنيته رجوان، مثل عصا وعصوان قال القائل:
*فلا ترمي بي الرجوان إني ... أقل القوم من يعني مكاني*
قال ابن عادل: ورجا هنا يكتب بالألف عكس رحى لأنه من ذوات الواو.
فإن قيل: الملائكة يموتون في الصعقة الأولى لقوله تعالى: {فصعق من في السموات ومن في الأرض} (الزمر: 68)
. فكيف يقال لهم: إنهم يقفون على أرجاء السماء؟ أجيب: من وجهين: الأول: إنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ثم يموتون، والثاني: المراد الذين استثنوا في قوله تعالى: {إلا من شاء الله} (الزمر: 68)
. وقيل: إن الناس إذا رأوا جهنم هالهم أمرها فيندّوا كما تندو الإبل فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا رأوا الملائكة فيرجعوا من حيث جاؤوا. وقيل: على أرجائها ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السوق إليها. وفي أهل الجنة من التحية والكرامة، وهذا كله يرجع إلى قول ابن جبير رضي الله عنه ويدل عليه(4/372)
قوله تعالى: {ونزل الملائكة تنزيلا} (الفرقان: 25)
قال الزمخشري: فإن قلت ما الفرق بين قوله: {والملك} وبين أن يقال: والملائكة؟ قلت: الملك أعمّ من الملائكة ألا ترى أنّ قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد أعمّ من قولك: ما من ملائكة ا. هـ. قال أبو حيان: ولا يظهر أن الملك أعم من الملائكة لأن المفرد المحلى بالألف واللام قصاراه أن يكون مراداً به الجمع المحلى ولذلك صح الاستثناء منه، ثم قال: ولأن قوله: {على أرجائها} يدل على الجمع، لأن الواحد لا يمكن أن يكون على أرجائها في وقت واحد بل في أوقات، والمراد والله أعلم أن الملائكة على أرجائها لا أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات.
ولما كان الملك يظهر في يوم العرض سرير ملكه ومحل عزه قال تعالى: {ويحمل عرش ربك} أي: المحسن إليك بكل ما تريد لا سيما في ذلك اليوم بما يقع من رفعتك على سائر الخلق، والضمير في قوله تعالى: {فوقهم يومئذ} أي: في يوم وقعت الواقعة يجوز أن يعود على الملك لأنه بمعنى الجمع كما تقدم، وأن يعود على الحاملين في قوله تعالى: {ثمانية} ، وقيل: يعود على جميع العالم، أي: إن الملائكة تحمل عرش الله تعالى فوق العالم كله.
واختلف في هذه الثمانية فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاك، وعن الحسن رضي الله عنه: الله أعلم كم هم أثمانية أم ثمانية آلاف أم ثمانية صفوف، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أمدّهم الله تعالى بأربعة أخرى فكانوا ثمانية على صورة الأوعال» . وفي رواية: ثمانية أوعال من أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء، وفي حديث آخر: «لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس» .
فإن قيل: إذا لم يكن فيهم صورة الوعل فكيف سموا أوعالاً؟ أجيب: بأن وجه الثور إذا كانت له قرون أشبه الوعل. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش: إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» . أخرحه أبو داود بإسناد صحيح، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: حملة العرش ما بين أخمص أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن كعبه إلى ركبته خمسمائة، ومن ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: الذين يحملون العرش ما بين سوق أحدهم إلى مؤخر عينه خمسمائة عام. وفي الخبر أن فوق السماء السابعة ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش، وفي حديث مرفوع أن حملة العرش ثمانية أملاك على صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاماً للطائر المسرع، وروي أن أرجلهن في الأرض السابعة، وإضافة العرش إلى الله تعالى كإضافة البيت إليه وليس البيت للسكنى فكذلك العرش ليس للجلوس تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، فإنه الخالق للعرش ولحملة العرش ولا تحيط به جهة وهو العلي العظيم.
وعن شهر بن حوشب قال حملة العرش ثمانية: أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، وأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهمّ وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك.
ولما بلغ تعالى النهاية في تحذير العباد من يوم التناد وكان لهم حالتان عامة وخاصة، فالعامة العرض والخاصة التقسيم إلى محسن ومسيء زاده عظماً(4/373)
بقوله تعالى: {يومئذ} أي: إذ كان جميع ما تقدم {تعرضون} على الله للحساب كما يعرض السلطان الجند لينظر في أمرهم ليختار منهم المصلح للتقريب والإكرام، والمفسد للإبعاد والتعذيب، عبر بالعرض عن الحساب الذي هو جزؤه، والمحسن لا يكون له غير ذلك والمسيء يناقش.
{لا تخفى منكم} أي: في ذلك اليوم على أحد بوجه من الوجوه، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية؛ لأن التأنيث مجازي والباقون بالتاء وهو ظاهر، {خافية} أي: من السرائر التي كان من حقها أن تخفى في دار الدنيا، فإنه عالم بكل شيء من أعمالكم. ونظيرة قوله تعالى: {لا يخفى على الله منهم شيء} (غافر: 16)
. قال الرازي: والعرض للمبالغة في التهديد يعني تعرضون على من لا تخفى عليه خافية، قال القرطبي: هذا هو العرض على الله تعالى ودليله {وعرضوا على ربك صفاً} (الكهف: 48)
وليس ذلك عرضاً ليعلم ما لم يكن عالماً به، بل ذلك العرض عبارة عن المحاسبة والمساءلة وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة قال صلى الله عليه وسلم «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» .
قال تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه} أي: الذي أثبتت فيه أعماله {فيقول} لما رأى من سعادته تبجعاً بحاله وإظهاراً لنعمة ربه؛ لأن الإنسان مطبوع على أن يظهر ما آتاه الله تعالى من خير تكميلاً للذته قيل: إنه تكتب سيئاته في باطن صحيفته وحسناته في ظاهرها فيقرأ الباطن ويقرأ الناس الظاهر، فإذا أنهاه قيل له: قد غفرها الله تعالى اقلب الصحيفة، فحينئذ يكون قوله: {هاؤم اقرؤوا} أي: خذوا اقرؤوا {كتابيه} يقول ذلك ثقة بالإسلام وسروراً بنجاته؛ لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرح قال الشاعر:
*إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين*
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وله شعاع كشعاع الشمس قيل: فأين أبو بكر؟ قال: هيهات زفته الملائكة إلى الجنة، وقال ابن زيد: معنى هاؤم: تعالوا، فيتعدى بإلى. وقال مقاتل: هلمّ، وقال غيره: خذوا، ومنه الحديث في الربا «إلا هاء وهاء» ، أي: يقول كل لصاحبه: خذ، وهذا هو المشهور، ولذلك فسرت به الآية الكريمة. وقيل: هي كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط، وفي الحديث «أنه صلى الله عليه وسلم ناداه أعرابي بصوت عال فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم هاؤم بصولة صوته» . وقيل: معناها اقصروا وزعم هؤلاء أنها مركبة من ها التنبيه وأموا أمر من الأمّ وهو القصد فصيّره التخفيف والاستعمال إلى هاؤم، وقيل: الميم ضمير جماعة الذكور وزعم العتبي أن الهمزة بدل من الكاف، قال ابن عادل: فإن عنى أنها تحل محلها فصحيح، وإن عني البدل الصناعي فليس بصحيح.
تنبيه: كتابيه منصوب بهاؤم عند الكوفيين، وعند البصريين باقرؤوا لأنه أقرب العاملين، والأصل: كتابي فأدخل الهاء لتتبين صحة الياء والهاء في {كتابيه} و {حسابيه} و {سلطانيه} و {ماليه} للسكت وكان حقها أن تحذف وصلاً وتثبت وقفاً، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف أو وصل بنية الوقف في كتابيه وحسابيه اتفاقاً، فأثبت الهاء وكذا في {ماليه} (الحاقة: 28)
و {سلطانيه} (الحاقة: 29)
و {ماهيه} (القارعة: 10)
في القارعة عند القراء كلهم إلا حمزة، فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاثة وصلاً وأثبتها وقفاً؛ لأنها في الوقف محتاج إليها لتحصين حركة الموقوف(4/374)
عليه، وفي الوصل مستغنى عنها.
فإن قيل: فلم لم يفعل ذلك في {كتابيه} و {حسابيه} ؟ أجيب: بأنه جمع بين اللغتين.
{إني ظننت} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: أيقنت وعلمت. وقيل: ظننت بأن يؤاخذني الله بسيئاتي فقد تفضل عليّ بعفوه ولم يؤاخذني بها. وقال الضحاك: كل ظن من المؤمن في القرآن فهو يقين ومن الكافر فهو شك. وقال مجاهد رضي الله عنه: ظن الآخرة يقين وظن الدنيا شك. وقال الحسن رضي الله عنه في هذه الآية: إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن المنافق أساء بربه الظن فأساء العمل.
{أني ملاق} ، أي: ثابت لي ثباتاً لا ينفك أني ألقى {حسابيه} ، أي: في الآخرة ولم ينكر البعث يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب لأنه تيقن أن الله تعالى يحاسبه فعمل للآخرة فحقق الله تعالى رجاءه وأمن خوفه فعلم الآن أنه لا يناقش الحساب، وإنما حسابه بالعرض وهو الحساب اليسير فضلاً من الله تعالى ونعمة.
{فهو في عيشة} أي: حالة من العيش، وقوله تعالى: {راضية} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه على النسب، أي: ذات رضا نحو لابن وتامر لصاحب اللبن والتمر، أي: ثابت لها الرضا ودائم لها؛ لأنها في غاية الحسن والكمال، والعرب لا تعبر عن أكبر السعادات بأكثر من العيشة لراضية بمعنى أن أهلها راضون بها، والمعتبر في كمال اللذة الرضا.
الثاني: أنه على إظهار جعل العيشة راضية لمحلها وحصولها في مستحقها، وأنه لو كان للعيشة عقل لرضيت لنفسها بحالتها.
الثالث: قال أبو عبيدة والفراء: إن هذا مما جاء فيه فاعل بمعنى: مفعول نحو: ماء دافق بمعنى: مدفوق، كما جاء مفعول بمعنى: فاعل كما في قوله تعالى: {حجاباً مستوراً} (الإسراى: 45) ، أي: ساتراً وقال صلى الله عليه وسلم «إنهم يعيشون فلا يموتون أبداً ويصحون فلا يمرضون أبداً وينعمون فلا يرون بأساً أبداً ويشبون فلا يهرمون أبداً» . {في جنة} أي: بساتين جامعة لجميع ما يراد منها {عالية} أي: مرتفعة في المكان والمكانة والأبنية والدرجات والأشجار وكل اعتبار.
وقوله تعالى: {قطوفها} جمع كثرة لقطف بالكسر وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح وهو ما يجنيه الجاني من الثمار، وأما القطف بالفتح فالمصدر، والقطاف بالفتح والكسر وقت القطف {دانية} ، أي: قريبة المأخذ سهلة التناول جداً للراكب والقائم والقاعد والمضطجع كل ذلك على حدّ سواء دائماً من غير انقطاع لا كلفة على أحد في تناوله شيئاً من ذلك.
وقوله تعالى: {كلوا واشربوا} على إضمار القول، أي: يقال لهم ذلك وجمع الضمير للمعنى؛ لأن قوله تعالى: {فأما من أوتي كتابه} . يتضمن معنى الجمع وهذا أمر امتنان لا أمر تكليف، {هنيئاً} أي: أكلاً طيباً لذيذاً شهياً مع البعد عن كل أذى وسلامة العاقبة بكل اعتبار ولا فضلة هناك من بول ولا غائط ولا بصاق ولا مخاط ولا قرف ولا وهن ولا صداع ولا ثقل، والباء في قوله تعالى: {بما أسلفتم} سببية وما مصدرية أو اسمية، أي: بما قدّمتم من الأعمال الصالحة {في الأيام الخالية} أي: الماضية في الدنيا التي انقضت وذهبت واسترحتم من تعبها وعن مجاهد رضي الله عنه: أيام الصيام، أي: كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى. وروي: يقول الله تعالى: يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم، وخمصت بطونكم فكونوا اليوم في نعيمكم وكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية.
ولما كانت العادة جارية بأن أهل العرض ينقسمون إلى مقبول(4/375)
ومردود وذكر سبحانه المقبول بإدنائه تشويقاً إلى حاله، وتغبيطاً بعاقبته وحسن حاله أتبعه المردود تنفيراً عن أعماله بما ذكر من قبائح أحواله فقال تعالى: {وأما من أوتي كتابه} أي: صحيفة حسابه {بشماله فيقول} أي: لما يرى من سوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء حتى لم يشك فيها لما رأى من قبائحه التي قدمها {يا ليتني} تمنياً للمحال {لم أوت} أي: من أي مؤت ما. {كتابيه} أي: هذا الذي ذكرني خبائث أعمالي وعرفني جزاءها. {ولم} أي: ويا ليتني لم {أدر ما} حقيقة {حسابيه} من ذكر العمل وذكر جزائه، بل استمريت جاهلاً لذلك كما كنت في الدنيا.
ثم يتمنى الموت ويقول: {يا ليتها} أي: الموتة الأولى وإن لم تكن مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة {كانت القاضية} أي: القاطعة لحياتي بأن لا أبعث بعدها، ولم ألق ما وصلت إليه. قال قتادة رضي الله عنه: يتمنى الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشر من الموت ما يطلب منه الموت، قال الشاعر:
*وشر من الموت الذي إن لقيته ... تمنيت منه الموت والموت أعظم*
والمعنى: يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي. وقوله: {ما أغنى عني ماليه} يجوز أن يكون نفياً تأسفاً على فوات ما كان يرجو من نفعه، والمفعول على هذا التقدير محذوف للتعميم ويجوز أن يكون استفهام توبيخ لنفسه حيث سولت له ما أثر له كل سوء وكل محال، أي: أيّ شيء أغنى ما كان لي من اليسار الذي منعت منه حق الفقراء وتعظمت به على عباد الله تعالى.
{هلك عني سلطانيه} أي: ملكي وتسلطي على الناس، وبقيت فقيراً ذليلاً. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في الأسود بن عبد الأشد، وعن فناخسرة الملقب بالعضد، إنه لما قال:
*عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر*
لم يفلح بعده وجنّ، فكان لا ينطق لسانه إلا بهذه الآية، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ضلت عني حجتي، ومعناه: بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا، وذكر الضحاك أن الآية الأولى في أخي الأسود عبد الله بن عبد الأسد المخزومي.
ولما كان كأنه قيل: هذا ما قال فما يقال له؟ أجيب: بأنه يقال للزبانية على رؤوس الأشهاد {خذوه} أي: أيتها الزبانية الذين كان يستهزئ بهم عند سماع ذكرهم {فغلوه} أي: اجمعوا يديه إلى عنقه ورجليه إلى وراء قفاه إلى ناصيته.
{ثم الجحيم} أي: النار العظمى التي تحجم على من يريد دفاعها ويحجم عنها من رآها، لأنها في غاية الحمو والتوقد والتغيظ والتشدد {صلوه} أي: بالغوا في تصليته إياها وكرروها بغمسة في النار كالشاة المصلية مرة بعد أخرى؛ لأنه كان يتعاظم على الناس فناسب أن يصلى أعظم النيران، وعبر أيضاً بأداة التراخي لعلو رتبة مدخولها فقال مؤذناً بعدم الخلاص، وتقديم المفعول يفيد الاختصاص عند بعضهم ولذلك قال الزمخشري: ثم لا يصلوه إلا الجحيم. قال أبو حيان: وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحذاق النجاة، اه.
لكن كلام النحاة لا يأبى ما قاله.
{ثم في سلسلة} أي: عظيمة جداً، وقوله تعالى: {ذرعها سبعون ذراعاً} يحتمل أن يكون هذا العدد حقيقة وعلى هذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: سبعون ذراعاً بذراع الملك، فتدخل في دبره وتخرج من منخره، وقيل: تدخل من فيه وتخرج من دبره. وقال نوف البكالي: سبعون ذراعاً كل ذراع سبعون باعاً كل باع أبعد مما بينك وبين مكة وكان(4/376)
في رحبة الكوفة. وقال سفيان: كل ذراع سبعون ذراعاً. وقال الحسن رضي الله عنه: الله أعلم أيّ ذراع هو، ويحتمل أن يكون مبالغة كما قال تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} (التوبة: 80)
يريد مرات كثيرة؛ لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد.
والذي يدل على هذا ما رواه الترمذي ـ وقال: إسناده حسن ـ عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن رصاصة مثل هذه وأشار إلى مثل الجمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها وقعرها» . وعن كعب رضي الله عنه أنه قال: «لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها» . أجارنا الله تعالى ومحبينا منها وجميع المسلمين، فأشار سبحانه إلى ضيقها على ما تحيط به من بدنه بتعبيره بالسلك فقال تعالى: {فاسلكوه} أي: أدخلوه بحيث يكون كأنه السلك، أي: الحبل الذي يدخل في ثقب الخرزة بعسر لضيق ذلك الثقب إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأنه تلف، قال الزمخشري: والمعنى في تقديم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية، أي: لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم، ومعنى ثم الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية وما بينهما وبين السلك في السلسلة لا على تراخى المدة ا. هـ.
ولما ذكر سبحانه على الإجمال عقابه أتبعه أسبابه فقال تعالى:
{إنه كان} أي: جبلة وطبعاً وأن أظهر شيئاً يلبس به على الضعفاء ويدلس على الأغبياء {لا يؤمن} أي: الآن ولا في مستقبل الزمان {بالله} أي: الملك الأعلى الذي يعلم السر وأخفى {العظيم} أي: الكامل العظم، وهذا تعليل على طريق الاستئناف وهو أبلغ كأنه قيل: ماله يعذب هذا العذاب الشديد؟ أجيب بذلك وفي قوله تعالى: {ولا يحض} أي: يحث {على} بذل {طعام المسكين} دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المسكين: أحدهما: عطفه على الكفر وجعله قرينة له. والثاني: ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل، وما أحسن قول القائل:
*إذا نزل الأضياف كان عذوّرا ... على الحيّ حتى تستقل مراجله*
يريد حضهم على القرى واستعجالهم، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، وكان يقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها الثاني بالطعام. وقيل: هو منع الكفار وقولهم: {أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} (يس: 47)
والمعنى على بذل طعام المسكين.
ولما وصفه سبحانه بأقبح العقائد وأشنع الرذائل تسبب عنه قوله تعالى: {فليس له اليوم ههنا} أي: في مجمع القيامة كله {حميم} أي: صديق خالص يحميه من العذاب، لأنهم كلهم له أعداء كما أنه كان لا يرق على الضعفاء لما هم فيه من الإقلال من حطام الأموال {ولا طعام إلا من غسلين} أي: غسالة أهل النار وصديدهم وقيحهم، فعلين من الغسل {لا يأكله إلا الخاطئون} أي: أصحاب الخطايا، من خطئ الرجل: إذا تعمد الذنب وهم المشركون، لا من الخطأ المضاد للصواب، وهذا الطعام يغسل ما في بطونهم من الأعيان والمعاني التي بها قوام صاحبها وهي بمنزلة ما كانوا يشحون من أموالهم التي أبطنوها وادّخروها في خزائنهم واستأثروا بها على الضعفاء.
{فلا أقسم} أي: لا يقع مني إقسام {بما(4/377)
تبصرون} من المخلوقات {وما لا تبصرون} منها، أي: بكل الموجودات واجبها وجائزها؛ معقولها ومحسوسها، لأنها لا تخرج عن قسمين مبصر وغير مبصر، وقيل: الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجنّ والخلق والخالق والنعم الظاهرة والباطنة، لأنّ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى إقسام وإن كنت أقسم في غير هذا الموضع بما شئت، ولو قيل بهذا في الواقعة لكان حسناً، وقيل: لا زائدة وجرى على ذلك الجلال المحلي.
{إنه} أي: القرآن {لقول} أي: تلاوة {رسول} أي: أنا أرسلته به وعني أخذه وليس فيه شيء من تلقاء نفسه إنما هو كله رسالة واضحة جداً أنا شاهد بها بما له من الإعجاز الذي يشهد أنه كلامي {كريم} أي: على الله تعالى فهو في غاية الكرم الذي هو البعد من مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها لشرف النفس وشرف الآباء وهو محمد صلى الله عليه وسلم وكرم الشيء اجتماع الكمالات فيه اللائقة به. وقيل: هو جبريل عليه السلام، قاله الحسن والكلبي رضي الله عنهما لقوله تعالى: {رسول كريم ذي قوة} (التكوير: 19 ـ 20)
واستدل للأول بقوله تعالى: {وما هو بقول شاعر} أي: يأتي بكلام مقفى موزون بقصد الوزن.
قال مقاتل رضي الله عنه: سبب نزول هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم ساحر، وقال أبو جهل: شاعر، وقال عقبة: كاهن، فردّ الله تعالى عليهم بذلك.
فإن قيل: كيف يكون كلاماً لله تعالى ولجبريل عليه السلام ولمحمد صلى الله عليه وسلم أجيب: بأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، فالله سبحانه وتعالى أظهره في اللوح المحفوظ وجبريل عليه السلام بلغه للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بلغه للأمّة.
{قليلاً ما تؤمنون} منصوب نعتاً لمصدر أو زمان محذوف، أي: إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً والناصب يؤمنون وما مزيدة للتأكيد، وقال ابن عطية: ونصب قليلاً بفعل مضمر يدل عليه يؤمنون وما يحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة، ويحتمل أن تكون مصدرية وتتصف بالقلة فهو الإيمان اللغوي لا الشرعي، لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئاً وهو إخلاصهم بالوحدانية عند الاضطرار، وإفرادهم الخالق بالخلق والربوبية.
{ولا بقول كاهن} وهو المنجم الذي يخبر عن الأشياء وأغلبها ليس له صحة، وقوله تعالى: {قليلاً ما تذكرون} يأتي فيه ما تقدم في {قليلاً ما تؤمنون} وقال البغوي: أراد بالقليل نفي إسلامهم أصلاً كقولك لمن لا يزورك: قلما تأتينا وأنت تريد ما تأتينا أصلاً، وقرأ: {قليلاً ما يؤمنون} {قليلاً ما يذكرون} ابن كثير وابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان بالياء التحتية فيهما، والباقون بالفوقية، وخفف الذال حمزة والكسائي وحفص وشددها الباقون.
وقوله تعالى: {تنزيل} خبر لمبتدأ مضمر، أي: هو تنزيل على وجه التنجيم، قال البقاعي: وأشار إلى الرسالة إلى جميع الخلق من أهل السموات والأرض بقوله تعالى: {من رب العالمين} أي: موجدهم ومدبرهم بالإحسان إليهم بما يفهم كل منهم من هذا الذكر الذي رباهم به ورتب سبحانه نظمه على وجه سهل على كل منهم يكفي في هدايته ا. هـ. وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أرسل للملائكة وهو الذي ينبغي وإن لم يكونوا مكلفين تشريفاً لهم زيادة في شرفه بإرساله صلى الله عليه وسلم إليهم.
{ولو تقوّل} ، أي: كلف نفسه أن يقول مرة من الدهر كذباً {علينا} أي: على ما لنا من العظمة {بعض الأقاويل} أي: التي لم نقلها أو قلناها ولم نأذن له فيها قال الزمخشري: التقوّل افتعال القول لأن فيه(4/378)
تكلفاً من المفتعل وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً، كقولك: الأعاجيب والأضاحيك، كأنها جمع أفعولة من القول. والمعنى: لو نسب إلينا قولاً لم نقله أو لم نأذن له في قوله: {لأخذنا} أي: لنلنا {منه} أي: عقاباً {باليمين} أي: بالقوة والقدرة.
تنبيه: الباء على أصلها غير مزيدة، والمعنى: لأخذناه بقوة منا، فالباء حالية والحال من الفاعل وتكون منه في حكم الزائدة، واليمين هنا مجاز عن القوة والغلبة، فإن قوة كل شيء في ميامنه، وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم، ومنه قول الشماخ:
*إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين*
وقال أبو جعفر الطبري: هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب، ويجوز أن تكون الباء مزيدة، والمعنى: لأخذنا منه يمينه، والمراد باليمين الجارحة كما يفعل بالمقتول صبراً يؤخذ بيمينه ويضرب بالسيف في جيده مواجهة وهو أشد عليه، وقال الحسن رضي الله عنه: لقطعنا يده اليمنى. وقال الزمخشري: المعنى: ولو ادعى علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراً كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول، وهو أن يؤخذ بيده فتضرب رقبته وخص اليمين عن اليسار، لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذه بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه ا. هـ. وقال نفطويه: المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف، وقال السّدي ومقاتل رضي الله عنهما: المعنى انتقمنا منه بالحق واليمين على هذا بمعنى الحق كقوله تعالى: {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} (الصافات: 28) ، أي: من قبل الحق.
{ثم لقطعنا} أي: بما لنا من العظمة قطعاً يتلاشى عنده كل قطع {منه الوتين} أي: نياط القلب وهو يتصل من الرأس إذا انقطع مات صاحبه، قال أبو زيد: وجمعه الوتن وثلاثة أوتنة والموتون الذي قطع وتينه. وقال الكلبي: هو عرق بين العلباء والحلقوم وهما علباوان بينهما العرق والعلباء عصب العنق، وقيل: عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر، وقال مجاهد رضي الله عنه: هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع، فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه.
وقال محمد بن كعب رضي الله عنه: إنه القلب ومراقه وما يليه، وقال عكرمة رضي الله عنه: إن الوتين إذا قطع، لا إن جاع عرف ولا إن شبع عرف، وقيل: الوتين من مجمع الوركين إلى مجمع الصدر بين الترقوتين، ثم تنقسم منه سائر العروق إلى سائر الجسد، ولا يمكن في العادة الحياة بعد قطعه. وقال ابن قتيبة: لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه، فكان كمن قطع وتينه. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري» . والأبهر: عرق متصل بالقلب، فإذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال: هذا أوان يقتلني السم وحينئذ صرت كمن انقطع أبهره {فما منكم} أي: أيها الناس، وأغرق في النفي فقال: {من أحد عنه} أي: القتل {حاجزين} أي: لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم أي: لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه.
تنبيه: {من أحد} اسم ما ومن زائدة لتأكيد النفي، ومنكم حال من أحد وعنه حاجزين خبر ما وجمع لأن أحداً في سياق النفي بمعنى(4/379)
الجمع وضمير عنه للقتل أو النبي كما مرّ {وإنه} أي: القرآن {لتذكرة للمتقين} أي: لأنهم المنتفعون به لإقبالهم عليه إقبال مستفيد {وإنا} أي: بمالنا من العظمة {لنعلم} أي: علماً عظيماً محيطاً {أن منكم} أي: أيها الناس {مكذبين} بالقرآن ومصدقين، فأنزلنا الكتب وأرسلنا الرسل لنظهر منكم إلى عالم الشهادة ما كنا نعلم في الأزل غيباً من تكذيب وتصديق فتستحقون بذلك الثواب والعقاب، فلذلك وجب في الحكمة أن نعيد الخلق إلى ما كانوا عليه من أجسامهم قبل الموت لنحكم بينهم فنجازي كلاً بما يليق به إظهاراً للعدل.
{وإنه} أي: القرآن {لحسرة} أي: ندامة {على الكافرين} أي: إذا رأوا ثواب المصدقين وعقاب المكذبين به {وإنه} أي: القرآن أو الجزاء يوم الجزاء {لحق اليقين} أي: الأمر الثابت الذي لا يقبل الشك فهو يقين مؤكد بالحق من إضافة الصفة إلى الموصوف وهو فوق علم اليقين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين.
{فسبح} أي: أوقع التنزيه الكامل عن كل شائبة نقص {باسم} أي: بسبب عملك بصفات {ربك} أي: الموجد والمربي لك والمحسن إليك بأنواع الإحسان {العظيم} أي: الذي ملأت الأقطار كلها عظمته وزادت على ذلك بما شاءه سبحانه مما لا تسعه العقول، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: فصلّ لربك العظيم. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حساباً يسيراً» حديث موضوع.
سورة المعارج
مكية
وهي أربع وأربعون آية، ومائتانوست عشرة كلمة، وألف وأحد وستون حرفاً
{بسم الله} ، أي: الذي تنقطع الأعناق والآمال دون عليائه {الرحمن} الذي لا مطمع لأحد في حصر أوصافه {الرحيم} الذي اصطفى من عباده من وفقه فكان من أوليائه.
{سأل سائل} أي: دعا داع {بعذاب واقع} فضمن سأل معنى دعا، فلذلك عدى تعديته، وقيل: الباء بمعنى عن كقوله تعالى: {فاسأل به خبيراً} (الفرقان: 59) ، أي: عنه، أي: سأل سائل عن عذاب واقع، والأول أولى لأن التجوز في الفعل أولى منه في الحرف لقوتّه.
واختلف في هذا الداعي فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو النضر بن الحارث حيث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزل سؤاله وقتل يوم بدر صبراً هو وعتبة بن أبي معيط لم يقتل صبراً غيرهما، وقيل: هو الحارث بن النعمان، وذلك «أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عليّ: من كنت مولاه فعليّ مولاه ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالإبطح، ثم قال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه وأن نصلي خمساً ونزكي أموالنا فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في عام فقبلناه منك وأن نحج فقبلناه منك ثم لم ترض حتى فضلت ابن عمك علينا، أفهذا شيء منك أم من الله تعالى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «والذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله» فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله تعالى بحجر فوقع على دماغه فخرج من دبره(4/380)
فقتله فنزلت.
وقال الربيع: هو أبو جهل، وقيل: إنه قول جماعة من كفار قريش، وقيل: هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين، وقيل: هو نبينا صلى الله عليه وسلم استعجل بعذاب الكافرين ويدل عليه قوله تعالى بعد ذلك {فاصبر صبراً جميلاً} أي: لا تستعجل فإنه قريب، وقرأ نافع وابن عامر بغير همز بعد السين، والباقون بهمزة مفتوحة بعد السين.
تنبيه: ما تقدم من الوجهين في كون سأل ضمن أو أن الباء بمعنى عن هو على القراءة بالهمز، وأما على عدمه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لغة في السؤال يقال: سأل يسأل كخاف يخاف وعين الكلمة واو، قال الزمخشري: وهي من لغة قريش.
والثاني: أنه من السيل ومعناه اندفع عليهم واد بعذاب، وقيل: سال واد من أودية جهنم وقوله تعالى: {للكافرين} فيه أوجه: أحدها: أنه يتعلق بسأل مضمناً معنى دعا كما مر، أي: دعا لهم بعذاب واقع. الثاني: أنه يتعلق بواقع واللام للعلة، أي: نازل لأجلهم. الثالث: أن يتعلق بمحذوف صفة ثانية للعذاب، أي: كائن للكافرين. الرابع: أن يكون جواباً للسائل فيكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هو للكافرين. الخامس: أن تكون اللام بمعنى على، أي: واقع على الكافرين.
{ليس له} أي: بوجه من الوجوه ولا حيلة من الحيل {دافع} يردّه.
وقوله تعالى: {من الله} أي: الملك الأعلى الذي لا كفء له يجوز أن يتعلق بدافع بمعنى ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته لتعلق إرادته به وأن يتعلق بواقع، وبه بدأ الزمخشري، أي: واقع من عنده {ذي المعارج} أي: المصاعد وهي الدرجات التي يصعد فيها الكلم الطيب والعمل الصالح أو يترقى فيها المؤمنون في سلوكهم أو في دار ثوابهم، أو مراتب الملائكة أو السموات، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: ذي السموات، سماها معارج الملائكة لأن الملائكة يعرجون فيها فوصف نفسه بذلك، أو ذي العلوّ والدرجات الفواضل والنعم، لأنها تصل إلى الناس على مراتب مختلفة، قاله ابن عباس وقتادة رضي الله عنهم، فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق. وقيل: ذي العظمة والعلا، وقيل: المعارج الغرف، أي: إنه ذو الغرف، أي: جعل لأوليائه الجنة غرفاً.
وقرأ: {تعرج الملائكة} الكسائي بالياء التحتية، والباقون بالتاء الفوقية، وأدغم جيم المعارج في تاء تعرج هنا السوسي، واستضعف بعضهم ذلك من حيث إن مخرج الجيم بعيد من مخرج التاء. وأجيب عن ذلك بأن الإدغام يكون لمجرد الصفات وإن لم يتقاربا في المخرج والجيم تشارك التاء في الاستفال والانفتاح والشدة والجملة من تعرج مستأنفة.
وقوله تعالى: {والروح} من عطف الخاص على العام إن أريد بالروح جبريل عليه السلام كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما لقوله تعالى: {نزل به الروح الأمين} (الشعراء: 193)
أو ملك آخر من جنسهم عظيم الخلقة: وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس. وقال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين يقبض، {إليه} أي: مهبط أمره من السماء. وقيل: هو كقول إبراهيم عليه السلام: {إني ذاهب إلى ربي} (الصافات: 99) ، أي: إلى الموضع الذي أمرني به، وقيل: إلى عرشه، وعلق بالعروج أو بواقع قوله تعالى: {في يوم} أي: من أيامكم، وبين عظمه بقوله تعالى: {كان} أي: كوناً هو في غاية الثبات {مقداره} أي: لو كان الصاعد فيه آدمياً {خمسين ألف سنة} أي: من سني الدنيا وذلك أن تصعد من منتهى أمر الله تعالى من أسفل الأرض السابعة، روي عن مجاهد رضي الله عنه أن مقدار هذا خمسين ألف سنة.(4/381)
وقال محمد بن إسحاق: لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة. وقال عكرمة وقتادة رضي الله عنهما: هو يوم القيامة وأراد أن موقفهم للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا، ليس يعني به أن مقدار طوله هكذا دون غيره؛ لأن يوم القيامة ليس له أول وليس له آخر لأنه يوم ممدود، ولو كان له آخر لكان منقطعاً.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يوم القيامة يكون على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: «قيل: لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» .
وقيل: معناه لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله تعالى لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة قال عطاء رضي الله عنه: ويفرغ الله تعالى في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وقيل: فيه خمسون موطناً على الكافر، كل موطن ألف سنة وما ورد ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر.
وروي عن الكلبي أنه قال: يقول الله تعالى: لو وليت حساب ذلك الملائكةُ والإنس والجن وطوقتهم محاسبتهم لم يفرغوا منه في خمسين ألف سنة وأنا أفرغ منه في ساعة من النهار. وقال بيان: هو يوم القيامة فيه خمسون موطناً كل موطن ألف سنة، وفيه تقديم وتأخير كأنه قال: ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه.
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في سورة السجدة: {في يوم كان مقداره ألف سنة} (السجدة: 5)
أجيب: بأنه يحتمل أن من أسفل العالم إلى أعلى العرش خمسين ألف سنة، ومن أعلى سماء الدنيا إلى الأرض ألف سنة لأن عرض كل سماء خمسمائة وما بين أسفل إلى قرار الأرض خمسمائة، فقوله في يوم من أيام الدنيا وهو مقدار ألف سنة لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا، ومقدار خمسين ألف سنة لو صعدوا إلى أعلى العرش.
وقوله تعالى: {فاصبر صبراً جميلاً} متعلق كما قال الرازي: بسأل سائل، لأن استعجالهم بالعذاب كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالصبر، والمعنى: جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر على أذى قومك، والصبر الجميل: هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله تعالى.
وقيل: أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري من هو، وقال ابن زيد والكلبي رضي الله عنهم: هذه الآية منسوخة بالأمر بالقتال.
{إنهم} أي: الكفار {يرونه} أي: ذلك اليوم الطويل أو عذابه {بعيداً} أي: زمن وقوعه لأنهم يرونه غير ممكن، أو يفعلون أفعال من يستبعده {ونراه} أي: لما لنا من العظمة التي قضت بوجوده وهو علينا هين {قريباً} سواء أريد بذلك قرب الزمان أو قرب المكان فهو هين على قدرتنا وهو آت لا محالة، وكل آت قريب، والقريب والبعيد عندنا على حدٍ سواء، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين بين، والباقون بالفتح.
وقوله تعالى: {يوم تكون السماء} متعلق بمحذوف، أي: يقع فيه من الأهوال {كالمهل} أي: كدردي الزيت، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كالفضة البيضاء في تلونها {وتكون الجبال} أي: التي هي أشد الأرض وأثقل ما فيها {كالعهن} أي: كالصوف في الخفة والطيران بالريح. وقيل: أول ما تتفرق الجبال تصير رملاً ثم عهناً منفوشاً ثم هباء منثوراً منبثاً.(4/382)
{ولا يسأل} أي: من شدة الأهوال {حميم حميماً} أي: قريب في غاية القرب والصداقة قريباً مثله عن شيء من الأشياء لفرط الشواغل ولأنه قد كشفت لهم أنه لا تغني نفس عن نفس شيئاً وأنه قد تقطعت الأسباب وتلاشت الأنساب وعلم أنه لا عز إلا بالتقوى.
{يبصرونهم} أي: يبصرهم بهم مبصر فلا يخفى أحد على أحد وإن بعد مكانه {يودّ المجرم} أي: يتمنى الكافر أو هذا النوع سواء كان كافراً أم مسلماً عاصياً علم أنه يعذب بعصيانه {لو} بمعنى أن {يفتدى} أي: يفدي نفسه {من عذاب يومئذ} أي: يوم إذ كانت هذه المخاوف. وقرأ نافع والكسائي بفتح الميم والباقون بكسرها، {ببنيه} أي: بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه لشدة ما يرى.
ولما ذكر ألصق الناس بالفؤاد وأعز من يلزمه نصره والذب عنه أتبعه ما يليه في الرتبة والمودة بقوله تعالى: {وصاحبته} أي: زوجه التي يلزمه الذب عنها لا سيما عند العرب من أقبح العار ولكونه دائماً معها. ولما ذكر الصاحبة لما لها من تمام الوصلة أتبعها الشقيق الذي هو عليه شفيق بقوله تعالى: {وأخيه} أي: الذي له به النصرة على من يريد، قال الشاعر:
*أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كنازل الهيجاء بغير سلاح*
ولما كان من بقي من الأقارب بعد ذلك متقاربين في الرتبة ذكر أقربهم بقوله تعالى: {وفصيلته} أي: عشيرته الذين هم أقرب من فصل عنه، وقال ثعلب: الفصيلة الآباء الأدنون، وقال أبو عبيدة رضي الله عنه: الفخذ، وقال مجاهد وابن زيد رضي الله عنهم: عشيرته الأقربون، {التي تؤويه} أي: تضمه إليها عند الشدائد وتحميه لأنه أقرب الناس إليها وأعزهم عليها.
ولما خصص عمم بقوله تعالى: {ومن في الأرض} أي: من الثقلين وغيرهم سواء كان فيهم صديق لا صبر عنه ولا بدّ في كل حال منه أم لا، ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {جميعاً} وقوله تعالى: {ثم ينجيه} أي: ذلك الافتداء عطف على يفتدى، وقوله تعالى: {كلا} ردّ وردع وزجر لما يودّه، وقال القرطبي: وإنها تكون بمعنى حقاً وبمعنى لا وهي هنا تحتمل الأمرين فإذا كانت بمعنى حقاً كان تمام الكلام ينجيه، وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها إذ ليس من عذاب الله افتداء.
ولما كان الإضمار قبل الذكر لتعظيم ذلك المضمر أشار إلى أنه مستحضر في الذهن لا يغيب قال تعالى: {إنها} أي: النار وإن لم يجر لها ذكر لدلالة لفظ عذاب عليها، وقيل: الضمير للقصة. وقيل: مبهم يفسره قوله تعالى: {لظى} أي: ذات اللهب الخالص المتناهي في الحرّ اسم لجهنم تتلظى، أي: تتوقد فتأكل بسببه بعضها بعضاً إن لم تجد ما تأكله وتأكل كل ما وجدته كائناً ما كان، وقوله تعالى: {نزاعة للشوى} جمع شواة وهي جلدة الرأس، أي: شديدة النزع لجلود الرؤوس. وقال في «القاموس» : اليدان والرجلان والأطراف ومخ الرأس وما كان غير مقتل ا. هـ. وقرأ حفص بالنصب على الاختصاص والحال المؤكدة والمستقلة على أن لظى متلظية، والباقون بالرفع على أنها خبر إن.
{تدعو من أدبر وتولى} عن الإيمان، تقول: إليّ يا مشرك، إليّ يا فاسق ونحو هذا، ثم تلتقطهم التقاط الطير للحب.
ولما كانت الدنيا والآخرة ضرتين، فكان الإقبال على أحدهما دالاً على الإعراض عن الأخرى قال تعالى دالاً على إدباره بقلبه: {وجمع} أي: كل ما كان منسوباً إلى الدنيا {فأوعى} أي: جعل ما جمعه في وعاء وكنزه حرصاً وطول(4/383)
أمل ولم يعط حق الله تعالى منه فكان همه الإعطاء لا إبطاء ما وجب من الحق إقبالاً على الدنيا وإعراضاً عن الآخرة، وقرأ: {لظى} و {للشوى} و {تولى} {فأوعى} حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين بين، والفتح عن ورش قليل والباقون بالفتح.
{إن الإنسان} أي: الجنس عبر به لما له من الأنس بنفسه والرؤية لمحاسنها والنسيان لربه ولدينه {خلق هلوعاً} أي: جبل جبلة هو فيها بليغ الهلع وهو أفحش الجزع مع شدة الحرص وقلة الصبر والشح على المال والسرعة فيما لا ينبغي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إنه الحريص على ما لا يحل له.
وروي عنه أن تفسيره ما بعده وهو قوله تعالى: {إذا مسه} أي: أدنى مس {الشر} أي: هذا الجنس، وهو ما تطاير شرره من الضرر {جزوعاً} أي: عظيم الجزع وهو ضد الصبر بحيث يكاد صاحبه ينقدّ نصفين ويتفتت {وإذا مسه} كذلك {الخير} هذا الجنس وهو ما يلائمه فيجمعه من السعة في المال وغيره من أنواع الرزق {منوعاً} أي: مبالغاً في الإمساك عما يلزمه من الحقوق للانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليه وقوفاً مع المحسوس لغلبة الجمود والبلادة، وهذا الوصف ضد الإيمان لأنه نصفان شكر وصبر.
فإن قيل: حاصل هذا الكلام أنه نفور عن المضارّ طالب للراحة، وهذا هو اللائق بالعقل فلم ذمه الله تعالى عليه؟ أجيب: بأنه إنما ذمه عليه لقصور نظره على الأمور العاجلة، والواجب عليه أن يكون شاكراً راضياً في كل حال.
وقوله تعالى: {إلا المصلين} استثناء للموصوفين بالصفات الآتية من المطبوعين على الأحوال المذكورة قبل مضادّة تلك الصفات لها من حيث إنها دالة على الاستغراق في طاعة الحق، والإشفاق على الخلق، والإيمان بالجزاء، والخوف من العقوبة، وكسر الشهوة، وإيثار العاجل على الآجل، وتلك ناشئة عن الانهماك في حب العاجل وقصور النظر عليها {الذين هم} أي: بكلية ضمائرهم وظواهرهم {على صلاتهم} أي: التي هي معظم دينهم وهي النافعة لهم لا لغيرهم بما أفادته الإضافة، والمراد الجنس الشامل لجميع الأنواع إلا أن معظم المقصود الفرض، ولذلك عبر بالاسم الدال على الثبات في قوله تعالى: {دائمون} أي: لا فتور لهم عنها ولا انفكاك لهم منها، وقال عقبة بن عامر: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالاً، والدائم: الساكن، ومنه نهي عن البول في الماء الدائم، أي: الساكن. وقال ابن جريج والحسن: هم الذين يكثرون فعل التطوع منها.
فإن قيل: كيف قال تعالى: {على صلاتهم دائمون} وقال تعالى في موضع آخر: {على صلواتهم يحافظون} (الأنعام: 92)
أجيب: بأن دوامهم عليها أن لا يتركوها في وقت، ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها حتى تأتي على أكمل الوجوه من المحافظة على شرائطها، والإتيان بها في الجماعة وفي المساجد الشريفة، وفي تفريغ القلب عن الوسواس والرياء والسمعة، وأن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً، وأن يكون حاضر القلب فاهماً للأذكار، مطلعاً على حكم الصلاة متعلق القلب بدخول أوقات الصلاة.
ولما ذكر تعالى زكاة الروح أتبعه زكاة عديلها، فقال تعالى مبينا للرسوخ في الوصف بالعطف بالواو: {والذين في أموالهم} التي منّ الله سبحانه بها عليهم {حق معلوم} أي: من الزكوات وجميع النفقات الواجبة. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا يتصدق {للسائل} أي: الذي(4/384)
يسأل {والمحروم} أي: الذي لا يسأل، فيحسب غنياً فيحرم فهو يتلظى بناره في ليله ونهاره، ولا مفزع له بعد ربه المالك لعلانيته وسره إلا إلى إفاضة مدامعه بذلة وانكسار، وهذا من الله تعالى حث على تفقد أرباب الضرورات ممن لا كسب له ومن افتقر بعد الغنى، وقد كان للسلف الصالح في هذا قصب السبق، حكي عن زين العابدين أنه لما مات وجد في ظهره آثار سواد كأنها السيور، فعجبوا منها فقال بعد موته نسوة أرامل: كان شخص يأتي إلينا ليلاً بقرب الماء على ظهره وأجربة الدقيق ففقدناه واحتجنا، فعلموا أنه هو وأن تلك السيور من ذلك، وحكي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما أن شخصاً رآه ماشياً في زمن خلافته في الليل فتبعه، فجاء إلى بيت نسوة أرامل فقال: أعندكن ماء وإلا املأ لكنّ، فأعطينه جرة فأخذها وذهب فملأها على كتفه وأتى بها إليهنّ. والحكايات عنهم في هذا كثيرة.
{والذين يصدّقون} أي: يوقعون التصديق لمن يخبرهم ويجدّدونه كل وقت {بيوم الدين} أي: الجزاء الذي ما مثله يوم وهو يوم القيامة الذي يقع الحساب فيه على النقير والقمطير والتصديق به حق التصديق الاستعداد له بالأعمال الصالحة، فالذين يعلمون لذلك اليوم هم العمال، وأما المصدّقون بمجرّد الأقوال فلهم الوبال وإن أنفقوا أمثال الجبال.
{والذين هم} أي: بجميع ضمائرهم وظواهرهم {من عذاب ربهم} أي: المحسن إليهم لا من عذاب غيره فإن المحسن أولى بأن يخشى ولو من قطع إحسانه {مشفقون} أي: خائفون في هذه الدار خوفاً عظيماً هو في غاية الثبات من أن يعذبهم في الآخرة أو في الدنيا أو فيهما، فهم لذلك لا يفعلون إلا ما يرضيه سبحانه.
{إن عذاب ربهم} أي: الذي هم مغمورون بإحسانه وهم عارفون بأنه قادر على الانتقام ولو بقطع الإحسان {غير مأمون} أي: لا ينبغي لأحد أن يأمنه بل يجوز أن يحل به وإن بالغ في الطاعة؛ لأن الملك مالك وهو تام الملك، له أن يفعل ما شاء، ومن جوز وقوع العذاب أبعد عن موجباته غاية الإبعاد ولم يزل مترجحاً بين الخوف والرجاء.
{والذين هم} أي: ببواطنهم الغالبة على ظواهرهم {لفروجهم} أي: سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً {حافظون} أي: حفظاً ثابتاً دائماً عن كل ما نهى الله تعالى عنه {إلا على أزواجهم} أي: من الحرائر بعقد النكاح، وقدمهنّ لشرفهنّ وشرف الولد بهنّ، ثم أتبعه قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهم} أي: من السراري التي هي محل الحرث والنسل واللاتي هن أقل عقلاً من الرجال، ولهذا عبر بما التي هي في الأغلب لغير العقلاء، وفي ذلك إشارة إلى اتساع النطاق في احتمالهن.
{فإنهم} أي: بسبب إقبالهم بالفروج عليهن وإزالة الحجاب من أجل ذلك {غير ملومين} أي: في الاستمتاع بهن من لائم ما، كما نبه عليه البناء للمفعول، فهم يصحبونهن للتعفف وصون النفس وابتغاء الولد للتعاون على طاعة الله تعالى، واكتفى في مدحهم بنفي اللوم لإقباله عن تحصيل ما له من المرام.
{فمن ابتغى} أي: طلب وعبر بصيغة الافتعال لأن ذلك لا يقع إلا عن إقبال عظيم من النفس واجتهاد في الطلب. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح. {وراء ذلك} أي: شيئاً من هذا خارجاً عن هذا الأمر الذي أحله الله تعالى له، والذي هو أعلى المراتب في أمر النكاح وقضاء اللذة وأحسنها وأجملها {فأولئك} أي: الذين هم(4/385)
في الحضيض من الدناءة وغاية البعد عن مواطن الرحمة {هم} أي: بضمائرهم وظواهرهم {العادون} أي: المختصون بالخروج عن الحدّ المأذون فيه. {والذين هم لأماناتهم} أي: من كل ما ائتمنهم الله تعالى عليه من حقه وحق غيره، وقرأ ابن كثير بغير ألف بعد النون على التوحيد، والباقون بالألف على الجمع {وعهدهم} أي: ما كان من الأمانات بربط وتوثيق {راعون} أي: حافظون لها معترفون بها على وجه نافع غير ضار.
{والذين هم} أي: بغاية ما يكون من توجه القلوب {بشهادتهم} التي شهدوا بها أو يستشهدون بها بطلب أو غيره، وتقديم المعمول إشارة إلى أنهم في فرط قيامهم بها ومراعاتهم لها كأنهم لا شاغل لهم سواها {قائمون} أي: يتحملونها ويؤدّونها على غاية التمام والحسن أداء من هو متهيىء لها واقف في انتظارها، وقرأ حفص بألف بعد الدال على الجمع اعتباراً بتعدد الأنواع والباقون بغير ألف على التوحيد إذ المراد الجنس. قال الواحديّ: والإفراد أولى لأنه مصدر فيفرد كما تفرد المصادر وإنّ أضيف إلى الجمع كصوت الحمير. قال أكثر المفسرين: يقومون بالشهادة على من كانت عليه من قريب وبعيد، يقومون بها عند الحكام ولا يكتمونها. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بشهادتهم أنّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله.
{والذين هم على صلاتهم} أي: من الفرض والنفل {يحافظون} أي: يبالغون في حفظها ويجددونه حتى كأنهم يبادرونها الحفظ ويسابقونها فيه فيحفظونها لتحفظهم ويسابقون غيرهم في حفظها، وتقدم أنّ المداومة غير المحافظة، فدوامهم عليها محافظتهم على أوقاتها وشروطها وأركانها ومستحباتها في ظواهرها وبواطنها من الخشوع والمراقبة وغير ذلك من خلال الإحسان التي إذا فعلوها كانت ناهية لفاعلها {إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (العنكبوت: 45)
فتحمل على جميع هذه الأوامر وتبعد عن أضدادها، فالدوام يرجع إلى نفس الصلاة والمحافظة إلى أحوالها ذكره القرطبي.
ولما ذكر تعالى خلالهم أتبعه ما أعطاهم، فقال عز من قائل مستأنفاً أو منتجاً من غير فاء إشارة إلى أن رحمته هي التي أوصلتهم إلى ذلك من غير سبب منهم في الحقيقة: {أولئك} أي: الذين في غاية العلوّ لما لهم من الأوصاف العالية {في جنات} أي: في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فواضح، وأما في الدنيا فلأنهم لما جاهدوا فيه بإتعاب أنفسهم في هذه الأوصاف حتى تخلقوا بها أعطاهم بمباشرتها لذاذات من أنس القرب وحلاوة المناجاة لا يساويها شيء أصلاً، والجنة محل اجتمع فيه جميع الراحات والمستلذات والسرور وانتفى عنه جميع المكروهات والشرور، وضدها النار. وزادهم على ذلك بقوله تعالى: {مكرمون} معبراً باسم المفعول إشارة إلى عموم الإكرام من الخالق والخلق الناطق وغيره، لأنه سبحانه قضى بأن يعلي مقدارهم فيكرمهم بأنواع الكرامات فيتلقاهم بالبشرى حين الموت وفي قبورهم ومن حين قيامهم من قبورهم إلى دخولهم إلى قصورهم هذا حال المؤمنين.
وأما حال الكافرين فقال الله تعالى في حقهم:
{فما للذين كفروا} وقف أبو عمرو على الألف بعد الميم والكسائي يقف على الألف وعلى اللام، ووقف الباقون على اللام، وأما الابتداء فالجميع يبتدؤون أوّل الكلمة أي: أيّ شيء من السعادات للذين ستروا مرائي عقولهم عن الإقرار بمضمون هذا(4/386)
الكلام الذي هو أوضح من الشمس حال كونهم {قبلك} أي: نحوك أيها الرسول الكريم وفيما أقبل عليك {مهطعين} أي: مسرعين مع مد الأعناق وإدامة النظر إليك في غاية العجب من مقالك، هيئة من يسعى إلى أمر لا حياة له بدونه {عن} أي: متجاوزين إليك مكاناً عن جهة {اليمين} أي: منك حيث يتيمنون به {وعن الشمال} أي: منك وإن كانوا يتشاءمون به، وقوله تعالى: {عزين} حال من الذين كفروا، وقيل: من الضمير في مهطعين فتكون حالاً متداخلة، أي: جماعات جماعات وحلقاً حلقاً متفرقين فرقاً شتى أفواجاً لا يتمهلون ليأتوا جميعاً. جمع عزة وأصلها عزوة لأنّ كل فرقة تعتزي إلى غير ما تعتزي إليه الأخرى فهم متفرقون قال الكميت:
*ونحن وجندل باغ تركنا ... كتائب جندل شتى عزينا*
وجمع عزة جمع سلامة شذوذاً.
وقيل: كان المستهزؤون خمسة أرهط روي أنّ المشركين كانوا يجتمعون حول النبيّ صلى الله عليه وسلم يستمعون كلامه ويستهزؤون به ويكذبونه ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فندخلها قبلهم، فردّ الله تعالى عليهم بقوله عز من قائل: {أيطمع} أي: هؤلاء البعداء البغضاء، وعبر بالطمع إشارة إلى أنهم بلغوا الغاية في السفه لكونهم طلبوا أعز الأشياء من غير سبب تعاطوه له.
ولما كان إتيانهم على هيئة التفرق من غير انتظار جماعة لجماعة قال تعالى: {كل امرئ منهم} أي: على انفراده {أن يدخل} أي: وهو كافر من غير إيمان يزكيه كما يدخل المسلم، فيستوي المسيء والمحسن {جنة نعيم} أي: لا شيء فيها عير النعيم.
وقوله تعالى: {كلا} ردع لهم عن طمعهم ودخولهم الجنة، أي: لا يكون ما طمعوا فيه أصلاً؛ لأنّ ذلك ثمن فارغ لا سبب له بما دل عليه التعبير بالطمع دون الرجاء. ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنا خلقناهم} أي: بالقدرة التي لا يقدر أحد أن يقاومها {مما يعلمون} أي: أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة كما خلق سائر جنسهم، فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. وقيل: كانوا يستهزؤون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم فقال تعالى: {إنا خلقناهم ممايعلمون} أي: من القذر وهو منصبهم الذي لا منصب أوضع منه ولذلك أبهم وأخفى إشعاراً بأنه منصب يستحيا من ذكره، فلا يليق بهم هذا التكبر ويدعون التقدم ويقولون: ندخل الجنة قبلهم.
قال قتادة في هذه الآية إنما خلقت يا ابن آدم من قذر، فاتّقِ الله. وروي أنّ مطرّق بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز، فقال له: يا عبد الله ما هذه المشية التي يبغضها الله تعالى؟ فقال له: أتعرفني؟ قال: نعم، أوّلك نطفة مزرة وآخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة فمضى المهلب وترك مشيته.
فائدة: قال ابن عربي في «الفتوحات» : خلق الله الناس على أربعة أقسام: قسم لا من ذكر ولا من أنثى وهو آدم عليه السلام، وقسم من ذكر فقط وهو حوّاء، وقسم من أنثى فقط وهو عيسى عليه السلام، وقسم من ذكر وأنثى وهو بقية الناس.
{فلا} زيدت فيه لا {أقسم برب} أي: سيد ومبدع ومدبر {المشارق} أي: التي تشرق الشمس والقمر والكواكب السيارة، كل يوم في موضع منها على المنهاج الذي دبره والطريق والقانون الذي أتقنه وسخره ستة أشهر صاعدة وستة أشهر هابطة(4/387)
{والمغارب} كذلك وهي التي ينشأ عنها الليل والنهار والفصول الأربعة، فكان بها صلاح العالم بمعرفة الحساب وإصلاح المآكل والمشارب وغير ذلك من المآرب، فيوجد كل من الملوين بعد أن لم يكن والنبات من النجم والشجر كذلك عادة مستمرة دالة على أنه تعالى قادر على الإيجاد والإعدام لكل ما يريده من غير كلفة ما. كما قال تعالى: {إنا} أي: على ما لنا من العظيمة {لقادرون} .
{على أن نبدل} أي: تبديلاً عظيماً بما لنا من الجلالة عوضاً عنهم {خيراً منهم} أي: بالخلق أو بتحويل الوصف فيكونون أشدّ بطشاً في الدنيا وأكثر أموالاً وأولاداً وأعلى قدراً وأكثر حشماً وجاهاً وخدماً، فيكونون عندك على قلب واحد في سماع قولك وتوقيرك وتعظيمك والسعي في كل ما يشرح صدرك بدل ما يعمل هؤلاء من الهزء والتصفيق والصفير وكل ما يضيق به صدرك، وقد فعل ذلك سبحانه بالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان بالسعة في الرزق بأخذ أموال الجبارين من كسرى وقيصر والتمكين في الأرض حتى كانوا ملوك الدنيا مع العمل بما يوجب لهم ملك الآخرة، ففرجوا الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلوا في مرضاته الأنفس والأموال {وما نحن بمسبوقين} أي: لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده بوجه من الوجوه.
{فذرهم} أي: اتركهم ولو على أسوأ أحوالهم {يخوضوا} أي: في باطلهم من مقالهم وفعالهم {ويلعبوا} أي: يفعلوا في دنياهم فعل اللاعب الذي لا فائدة لفعله إلا ضياع الزمان واشتغل أنت بما أمرت به {حتى يلاقوا} أي: يلقوا {يومهم الذي يوعدون} وهو يوم كشف الغطاء الذي أوّل مجيئه عند الغرغرة، وتناهيه النفخة الثانية، ودخول كل من الفريقين في داره ومحل استقراره، وهذه الآية منسوخة بآية السيف كما قاله البقاعيّ وابن عادل.
وقوله تعالى: {يوم يخرجون} يجوز أن يكون بدلاً من يومهم أو منصوباً بإضمار أعني {من الأجداث} أي: القبور التي صاروا بتغييبهم فيها تحت وقع الحوافر والخف، فهم بحيث لا يدفعون شيئاً يفعل بهم بل هم كلحم في فم ماضغ، فإنّ الجدث: القبر والجدثة صوت الحافر والخف ومضغ اللحم.
وقوله تعالى: {سراعاً} أي: نحو صوت الداعي ذاهبين إلى المحشر، حال من فاعل يخرجون جمع سريع كظراف في ظريف، وقرأ قوله تعالى: {كأنهم إلى نصب} ابن عامر وحفص بضم النون والصاد، والباقون بفتح النون وإسكان الصاد على أنه مصدر بمعنى المفعول كما تقول هذا نصب عيني وضرب الأمير، والنصب كل ما نصب فعبد من دون الله {يوفضون} أي: يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إلى نصب، أي: إلى غاية وهي التي ينتصب إليها بصرك، وقال الكلبي: هو شيء منصوب علم أو راية. وقال الحسن: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى لا يلوي أوّلهم على آخرهم.
وقوله تعالى: {خاشعة} حال إما من فاعل يوفضون وهو أقرب، أو من فاعل يخرجون وفيه بعد منه، وفيه تعدد الحال لذي حال واحدة وفيه الخلاف المشهور. وقوله تعالى: {أبصارهم} فاعل، والمعنى ذليلة خاضعة لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله تعالى {ترهقهم} أي: تغشاهم فتعمهم وتحمل عليهم، فتكلفهم كل عسر وضيق على وجه الإسراع عليهم {ذلة} أي: ضد ما كانوا عليه في الدنيا؛ لأن(4/388)
من تعزز في الدنيا على الحق ذل في الآخرة، ومن ذل للحق في الدنيا عز في الآخرة.
{ذلك} أي: الأمر الذي هو في غاية ما يكون من علوّ الرتبة في العظمة {اليوم الذي كانوا يوعدون} أي: يوعدون في الدنيا أنّ لهم فيه العذاب، وأخرج الخبر بلفظ الماضي؛ لأنّ ما وعد الله تعالى به فهو حق كائن لا محالة، وهذا هو العذاب الذي سألوا عنه أوّل السورة، فقد رجع آخرها على أوّلها.
وما قاله البيضاويّ تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة سأل سائل أعطاه الله تعالى ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون» . حديث موضوع.
سورة نوح
عليه السلام مكية
وهي سبع وعشرون آية، ومائتان وأربعوعشرون كلمة، وتسعمائة وتسعة وعشرون حرفاً
{بسم الله} ذي الجلال والإكرام {الرحمن} الذي عمّ بما أفاضه من ظاهر الإنعام {الرحيم} الذي حفظ أولياءه من الابتداء إلى الختام.
ولما ختمت سأل بالإنذار للكفار وكانوا عباد أوثان بعذاب الدنيا والآخرة أتبعها أعظم عذاب كان في الدنيا على تكذيب الرسل بقصة نوح عليه السلام فقال تعالى:
{إنا} أي: بما لنا من العظمة البالغة {أرسلنا نوحاً إلى قومه} أي: الذين كانوا في غاية القوّة على القيام بما يحاولونه وهم بصدد أن يجيبوه ويكرموه لما بينهم من القرب بالنسب واللسان، وكانوا جميع أهل الأرض من الآدميين، روى قتادة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول نبي أرسل نوح عليه السلام» وأرسل إلى جميع أهل الأرض ولذلك لما كفروا أغرق الله تعالى أهل الأرض جميعاً، وهو نوح بن لمك بن متوشلح بن أخنوخ، وهو إدريس بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام. قال وهب: وكل مؤمنون أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وهو ابن أربعين سنة. وقال عبد الله بن شداد: بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة.
ويجوز في قوله تعالى: {أن أنذر} أي: حذر تحذيراً عظيماً {قومك} أي: الاستمرار على الكفر أن تكون أن مفسرة فلا يكون لها من الإعراب لأن في الإرسال معنى الأمر فلا حاجة إلى إضمار، ويجوز أن تكون المصدرية أي: أرسلناه بالإنذار. قال الزمخشري: والمعنى أرسلناه بأن قلنا له أنذر قومك أي: أرسلناه بالأمر بالإنذار ا. هـ. وهذا الذي قدره جواب عن سؤال وهو أنّ قولهم إنّ أن المصدرية يجوز أن توصل بالأمر مشكل؛ لأنه ينسبك منها ومما بعدها مصدر وحينئذ فتفوت الدلالة على الأمر ألا ترى أنك إذا قدرت كتبت إليه بأن قم: كتبت إليه القيام تفوت الدلالة على الأمر حال التصريح بالمصدر فينبغي أن يقدر كما قاله الزمخشري أي: كتبت إليه بأن قلت له: قم، أي: كتبت إليه بالأمر بالقيام.
وقال القرطبي: أي بأن أنذر قومك {من قبل أن يأتيهم} أي: على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة {عذاب أليم} أي: عذاب الآخرة أو الطوفان {قال} أي: نوح عليه السلام {يا قوم} فاستعطفهم بتذكيرهم أنه أحدهم يهمه ما يهمهم {إني لكم نذير} أي: مبالغ في إنذاركم {مبين} أي: أمري بين في نفسه بحيث إنه صار في شدة وضوحه كأنه مظهر لما يتضمنه(4/389)
مناد بذلك للقريب والبعيد والفطن والغبي، ويجوز في قوله تعالى: {أن اعبدوا الله} أي: الملك الأعظم الذي له جميع الكمال، أن تكون أن تفسيرية لنذير، وأن تكون مصدرية والكلام فيها كما تقدّم في أختها. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة في الوصل بكسر النون والباقون بالضم، والمعنى وحدوا الله {واتقوه} أي: اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية تمنعكم من عذابه بالانتهاء عن كل ما يكرهه فلا تتحركوا حركة ولا تسكنوا سكنة إلا في طاعته، وهذا هو العمل الواقي من كل سوء {وأطيعون} أي: لأعرفكم ما تقصر عنه عقولكم من صفات معبودكم ودينكم ودنياكم ومعادكم، وأدلكم على اجتلاب آداب تهديكم واجتناب شبه ترديكم، ففي طاعتي فلأحكم برضا الملك عنكم. وقوله: {يغفر لكم} جواب الأمر، وفي من في قوله: {من ذنوبكم} أوجه أحدها: أنها تبعيضية، الثاني: أنها لابتداء الغاية، الثالث: أنها مزيدة. قال ابن عطية: وهو مذهب كوفي، وردّ بأنّ مذهبهم ليس ذلك لأنهم يشترطون تنكير مجرورها ولا يشترطون غيره، والأخفش لا يشترط شيئاً، فالقول بزيادتها هنا ماش على قوله لا على قولهم، قاله القرطبيّ، وقيل: لا يصح كونها زائدة لأنّ من لا تزاد في الموجب وإنما هي هنا للتبعيض وهو بعض الذنوب وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين.
{ويؤخركم} أي: بلا عذاب تأخيراً ينفعكم {إلى أجل مسمى} أي: قد سماه الله تعالى وعلمه قبل إيجادكم فلا يزاد فيه ولا ينقص منه فيكون موتكم على العادة أو يأخذكم جميعاً، فالأمور كلها قد قدرت وفرغ من ضبطها لإحاطة العلم والقدرة فلا يزاد فيها ولا ينقص ليعلم أنّ الإرسال إنما هو مظهر لما قدره في الأزل، ولا يظن أنه قالب للأعيان بتغيير ما سبق به القضاء من الطاعة والعصيان، وقرأ: ويوخركم ولا يوخر ورش بإبدال الهمزة واواً وقفاً ووصلاً، وحمزة في الوقف دون الوصل، والباقون بالهمز.
{إنّ أجل الله} أي: الذي له الكمال كله فلا رادّ لأمره {إذا جاء لا يؤخر} أي: إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب، وأضاف الأجل إليه سبحانه لأنه الذي أثبته، وقد يضاف إلى القوم كقوله تعالى: {إذا جاء أجلهم} (يونس: 49)
لأنه مضروب لهم. {لو كنتم تعلمون} أي: لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك ولكنهم لانهماكهم في حبّ الدنيا كأنهم شاكّون في الموت.
ولما كان عليه السلام أطول الأنبياء عمراً وكان قد طال نصحه لهم ولم يزدادوا إلا طغياناً وكفراً {قال} منادياً لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره: {رب} أي: يا سيدي وخالقي {إني دعوت} أي: أوقعت الدعاء إلى الله بالحكمة والمواعظة الحسنة {قومي} أي: الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم مني، وفيهم قوّة المحاولة لما يريدون {ليلاً ونهاراً} أي: دائماً متصلاً لا أفتر عن ذلك. وقيل: معناه سراً وجهراً. {فلم يزدهم دعائي} أي: شيئاً من أحوالهم التي كانوا عليها {إلا فراراً} أي: بعداً وإعراضاً عن الإيمان كأنهم حمر مستنفرة استثناء مفرغ وهو مفعول ثان، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء، والباقون بفتحها وهم على مراتبهم في المد.
{وإني كلما} أي: على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات {دعوتهم} أي: إلى الإقبال إليك بالإيمان بك والإخلاص لك {لتغفر لهم} أي: ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحد محواً بالغاً، فلا يبقى لشيء من ذلك عين ولا أثر حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم(4/390)
{جعلوا أصابعهم} كراهة منهم واحتقاراً للداعي {في آذانهم} حقيقة لئلا يسمعوا الدعاء، إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا ودل على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله: {واستغشوا ثيابهم} أي: أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم لئلا يبصروه كراهة للنظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله تعالى، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائماً. {وأصروا} أي: أكبوا على الكفر وعلى المعاصي من أصر الحمار على العانة، وهي القطيع من الوحش إذا صر أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها {واستكبروا} أي: أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه وأكد ذلك بقوله: {استكباراً} تنبيهاً على أن فعلهم منابذ للحكمة، وقد أفادت هذه الآيات بالصريح في غير موضع أنهم عصوا نوحاً عليه السلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار وباطناً بالإصرار والاستكبار.
{ثم إني دعوتهم جهاراً} أي: معلناً بالدعاء، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بأعلى صوتي.
{ثم إني أعلنت لهم} أي: كررت لهم الدعاء معلناً، وقرأ نافع وابن كثير بفتح الياء والباقون بسكونها {وأسررت لهم إسراراً} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد الرجل بعد الرجل، أكلمه سراً بيني وبينه، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك.
لأنه مضروب لهم. {لو كنتم تعلمون} أي: لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك ولكنهم لانهماكهم في حبّ الدنيا كأنهم شاكّون في الموت.
ولما كان عليه السلام أطول الأنبياء عمراً وكان قد طال نصحه لهم ولم يزدادوا إلا طغياناً وكفراً {قال} منادياً لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره: {رب} أي: يا سيدي وخالقي {إني دعوت} أي: أوقعت الدعاء إلى الله بالحكمة والمواعظة الحسنة {قومي} أي: الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم مني، وفيهم قوّة المحاولة لما يريدون {ليلاً ونهاراً} أي: دائماً متصلاً لا أفتر عن ذلك. وقيل: معناه سراً وجهراً. {فلم يزدهم دعائي} أي: شيئاً من أحوالهم التي كانوا عليها {إلا فراراً} أي: بعداً وإعراضاً عن الإيمان كأنهم حمر مستنفرة استثناء مفرغ وهو مفعول ثان، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء، والباقون بفتحها وهم على مراتبهم في المد.
{وإني كلما} أي: على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات {دعوتهم} أي: إلى الإقبال إليك بالإيمان بك والإخلاص لك {لتغفر لهم} أي: ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحد محواً بالغاً، فلا يبقى لشيء من ذلك عين ولا أثر حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم {جعلوا أصابعهم} كراهة(4/391)
منهم واحتقاراً للداعي {في آذانهم} حقيقة لئلا يسمعوا الدعاء، إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا ودل على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله: {واستغشوا ثيابهم} أي: أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم لئلا يبصروه كراهة للنظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله تعالى، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائماً. {وأصروا} أي: أكبوا على الكفر وعلى المعاصي من أصر الحمار على العانة، وهي القطيع من الوحش إذا صر أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها {واستكبروا} أي: أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه وأكد ذلك بقوله: {استكباراً} تنبيهاً على أن فعلهم منابذ للحكمة، وقد أفادت هذه الآيات بالصريح في غير موضع أنهم عصوا نوحاً عليه السلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار وباطناً بالإصرار والاستكبار.
{ثم إني دعوتهم جهاراً} أي: معلناً بالدعاء، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بأعلى صوتي.
{ثم إني أعلنت لهم} أي: كررت لهم الدعاء معلناً، وقرأ نافع وابن كثير بفتح الياء والباقون بسكونها {وأسررت لهم إسراراً} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد الرجل بعد الرجل، أكلمه سراً بيني وبينه، أدعوه إلى عبادتك وتوحيدك.
{فقلت} أي: في دعائي لهم {استغفروا ربكم} أي: اطلبوا من المحسن إليكم المبدع لكم المدبر لأموركم أن يمحو ذنوبكم أعيانها وآثارها بأن تؤمنوا بالله وتتقوه {إنه كان} أي: أزلاً وأبداً ودائماً سرمداً {غفاراً} أي: متصفاً بصفة الستر على من رجع إليه.
{يرسل السماء} أي: المظلة لأن المطر منها، ويجوز أن يراد السحاب والمطر {عليكم مدراراً} .
{ويمددكم بأموال وبنين} أي: ويكثر أموالكم وأولادكم، وذلك أن قوم نوح عليه السلام لما كذبوه زماناً طويلاً حبس الله تعالى عنهم المطر وعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فهلكت أموالهم ومواشيهم، فقال لهم نوح: استغفروا ربكم من الشرك، أي: استدعوه المغفرة بالتوحيد {يرسل السماء عليكم مدراراً} . روى الشعبي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار، فلما نزل قيل: يا أمير المؤمنين ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت الغيث بمخاريج السماء التي بها يستنزل القطر، ثم قرأ هذه الآية، شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء. وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبواباً ويسألون أنواعاً، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا الآية. وقال القشيري: من وقعت له حاجة إلى الله تعالى فلن يصل إلى مراده إلا بتقديم الاستغفار. وقال: إن عمل قوم نوح كان بضد ذلك، كلما ازداد نوح عليه السلام في الضمان ووجوه الخير والإحسان ازدادوا في الكفر والنسيان.
{ويجعل لكم} أي: في الدارين {جنات} أي: بساتين عظيمة وأعاد العامل للتأكيد، فقال {ويجعل لكم أنهاراً} أي: يخصكم بذلك عمن لم يفعل ذلك، فإن من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً. وقال تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} (الأعراف: 96)
وقال تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} وقال تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً} (الجن: 16)
{ما لكم لاترجون الله} أي: الملك الذي له الأمر كله {وقاراً} أي: ما لكم لا تأملون له توقيراً، أي: تعظيماً، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب. ولله بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة الوقار، فإنّ بالمعرفة تزكو الأعمال وتصلح الأقوال، إنما سبق أبو بكر رضي الله عنه بشيء وقر في صدره، وإنما يصح تعظيمه سبحانه بأن لا ترى لك عليه حقاً ولا تنازع له اختياراً، وتعظم أمره ونهيه بعدم المعارضة.
{وقد} أي: والحال أنه قد أحسن إليكم مرّة بعد مرّة بما لا يقدر عليه غيره، فدل ذلك على تمام قدرته ثم لم يقطع إحسانه عنكم، فاستحق أن تؤمنوا به لأنه {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60)
ورجاء لدوام إحسانه وخوفاً من قطعه لأنه {خلقكم} أي: أوجدكم من العدم مقدّرين {أطواراً} أي: تارات عناصر أولاً ثم مركبات تغذي الحيوانات، ثم أخلاطاً ثم نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً ثم عظاماً ولحوماً وأعصاباً ودماء، ثم خلقاً آخر تاماً ناطقاً ذكراناً وإناثاً إلى غير ذلك من الأمور الدالة على قدرته على كل مقدور، ومن قدر على هذا ابتداء كان على الإعادة أعظم قدرة.
{ألم تروا} أي: أيها القوم {كيف خلق الله} أي: الذي له العلم التامّ والقدرة البالغة والعظمة الكاملة {سبع سموات} هنّ في غاية العلو والسعة والإحكام والزينة {طباقاً} أي: متطابقة بعضها فوق بعض، وكل واحدة في التي تليها محيطة بها ما لها من فروج، ولا يكون تمام المطابقة كذلك إلا بالإحاطة من كل جانب.
{وجعل القمر} أي: الذي ترونه {فيهنّ نوراً} أي: لامعاً منتشراً كاشفاً للمرئيات، أحد وجهيه يضيء لأهل الأرض؛ والثاني لأهل السماوات. قال الحسن: يعني في السماء الدنيا، كما تقول: أتيت بني فلان، وإنما أتيت بعضهم وفلان متوار في دور بني فلان، وهو في دار واحدة، وبدأ به لقربه وسرعة حركته وقطعه جميع البروج في كل شهر وغيبوبته في بعض الليالي، ثم ظهوره وذلك أعجب في القدرة.
ولما كان نوره مستفاداً من نور الشمس قال تعالى: {وجعل} أي: فيها {الشمس} أي: في السماء الرابعة {سراجاً} أي: نوراً عظيماً كاشفاً لظلمة الليل عن وجه الأرض وهي في السماء الرابعة كما مرّ. وقيل: في الخامسة، وقيل: في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن عمر: أنّ الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء وأقفيتهما إلى الأرض، وجعلهما سبحانه آية على رؤية عباده المؤمنين له في الجنة.
{والله} أي: الملك الأعظم الذي له الأمر كله {أنبتكم} أي: بخلق أبيكم آدم عليه السلام {من الأرض} أي: كما ينبت، وعبر بذلك تذكيراً لنا بما كان من خلق أبينا آدم عليه السلام لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض {نباتاً} أي: أنشأكم منها إنشاء، فاستعير الإنبات له لأنه أدل على الحدوث والتكوّن، وأصله أنبتكم فنبتم نباتاً فاختصر اكتفاء بالدلالة الالتزامية.
{ثم يعيدكم} على التدريج {فيها} أي: الأرض بالموت والإقبار وإن طالت الآجال {ويخرجكم} أي: منها بالإعادة، وأكد بالمصدر الجاري على الفعل إشارة إلى شدّة العناية به وتحتم وقوعه لإنكارهم له فقال تعالى: {إخراجاً} أي: غريباً ليس هو كما تعلمون بل تكونون به في غاية ما يكون من الحياة الباقية تلابس أرواحكم بها أجسامكم ملابسة(4/392)
لا انفكاك بعدها لا حكماً عن الآخر.
{والله} أي: المستجمع لجميع الجلال والإكرام {جعل لكم} أي: نعمة عليكم اهتماماً بأمركم {الأرض بساطاً} أي: سهل عليكم التصرّف فيها والتقلب عليها سهولة التصرّف في البساط.
ثم علل ذلك بقوله تعالى: {لتسلكوا} أي: متخذين {منها} أي: الأرض مجددين ذلك {سبلاً} أي: طرقاً واضحة مسلوكة بكثرة {فجاجاً} أي: ذوات اتساع لتتوصلوا إلى البلاد الشاسعة براً وبحراً، فيعم الانتفاع بجميع البقاع فالذي قدر على إحداثكم وأقدركم على التصرّف في أصلكم مع ضعفكم قادر على إخراجكم من أجداثكم التي لم تزل طوع أمره ومحل عظمته وقهره.
ولما أكثروا مع نوح عليه السلام الجدال ونسبوه إلى الضلال وقابلوه بأشنع الأقوال والأفعال.
{قال نوح} أي: بعد رفقه بهم ولينه لهم: {رب} أي: أيها المحسن إليّ المدبر لي المتولي لجميع أمري {إنهم} أي: قومي الذين دعوتهم إليك مع صبري عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً {عصوني} أي: فيما أمرتهم به ودعوتهم إليه، فأبوا أن يجيبوا دعوتي وشردوا عني أشدّ شراد، وخالفوني أقبح مخالفة.
{واتبعوا} أي: بغاية جهدهم نظراً إلى المظنون العاجل {من} أي: رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بولدانهم، وفسرهم بقوله تعالى: {لم يزده} أي: شيئاً من الأشياء {ماله} أي: كثرته {وولده} كذلك {إلا خساراً} أي: بالبعد من الله تعالى في الدنيا والآخرة، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح الواوين واللام، والباقون بضم الواو الثانية وإسكان اللام.
{ومكروا} أي: هؤلاء الرؤساء في تنفير الناس عني {مكراً} وزاده تأكيداً بصيغة هي النهاية في المبالغة بقوله: {كباراً} فإنه أبلغ من كبار المخفف الأبلغ من كبير، واختلفوا في معنى مكرهم فقال ابن عباس: قالوا قولاً عظيماً. وقال الضحاك: افتروا على الله تعالى وكذبوا رسله. وقيل: منع الرؤساء أتباعهم عن الإيمان بنوح عليه السلام، فلم يدعوا أحداً منهم بذلك المكر يتبعه وحرشوهم على قتله.
{وقالوا} أي: لهم {لا تذرن} أي: تتركن {آلهتكم} أي: عبادتها على حالة من الحالات لا قبيحة ولا حسنة، وأضافوها إليهم تحبيباً فيها ثم خصوا بالتسمية زيادة في الحث وتصريحاً بالمقصود، فقالوا مكرّرين اليمين والعامل تأكيداً: {ولا تذرنّ ودًّا} قرأ نافع بضم الواو والباقون بفتحها، وأنشدوا بالوجهين قول الشاعر:
*حيال وودّ من هداك لقيته ... وحرض بأعلى ذي فضالة مسجد*
وقال القرطبي: قال الليث: وَدًّا بفتح الواو: صنم كان لقوم نوح، ووُدًّا بالضم: صنم لقريش وبه سمي عمرو بن وُد. وفي الصحاح والوَدّ بالفتح: الوتد في لغة أهل نجد، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال ا. هـ. ثم أعادوا النفي تأكيداً فقالوا: {ولا سواعاً} وأكدوا هذا التأكيد وأبلغوا فيه فقالوا: {ولا يغوث} . ولما بلغ التأكيد نهايته وعلم أنّ القصد النهي عن كل فرد فرد لا عن المجموع تركوا التأكيد في قولهم: {ويعوق ونسرا} للعلم بإرادته.
واختلف المفسرون في هذه الأسماء فقال ابن عباس وغيره: هي أصنام وصور كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب، وهذا قول الجمهور، وقيل: إنها للعرب لم يعبدها غيرهم، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فلذلك خصوها بالذكر بعد قولهم: {لا تذرنّ آلهتكم} وقال عروة بن الزبير: اشتكى آدم عليه السلام وعنده(4/393)
بنوه ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكان ودّ أكبرهم وأبرّهم به.
قال محمد بن كعب: كان لآدم عليه السلام خمسة بنين: ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا عباداً، فمات رجل منهم فحزنوا عليه فقال الشيطان: أنا أصوّر لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا: افعل، فصوّره في المسجد من صفر ورصاص، ثم مات آخر فصوّره حتى ماتوا كلهم وصوّرهم وتناقصت الأشياء كما تناقصت اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئاً؟ قالوا: وما نعبد؟ قال: آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترون أنها في مصلاكم فعبدوها من دون الله تعالى حتى بعث الله نوحاً عليه السلام، فقالوا: {لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودًّا ولا سواعاً} الآية.
وقال محمد بن كعب أيضاً ومحمد بن قيس: بل كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح عليهما السلام، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا زين لهم إبليس أن يصوّروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم وليتسلوا بالنظر إليها فصوّروهم، فلما ماتوا جاء آخرون فقالوا: ليت شعري ما هذه الصور التي كان يعبدها آباؤنا، فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر فعبدوها فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت، وبهذا المعنى فسر ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة: «أنّ أمّ حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة تسمى مارية فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أولئك كانوا إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوّروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» .v
وروي عن ابن عباس أنّ نوحاً عليه السلام كان يحرس جسد آدم عليه السلام على جبل الهند فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره، فقال لهم الشيطان: إنّ هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم وإنما هو جسد وأنا أصوّر لكم مثله تطوفون به، فصوّر لهم هذه الأصنام الخمسة وحملهم على عبادتها، فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب، وكان للعرب أصنام أخر، فاللات كانت لقديد وإساف ونائلة، وهبل كانت لأهل مكة، وكان إساف حيال الحجر الأسود، ونائلة حيال الركن اليماني، وكان هبل في جوف الكعبة.
وقال الماوردي: أما ودّ فهو أوّل صنم معبود فسمي ودًّا لودّهم له وكان بعد قوم نوح لكليب بدومة الجندل في قول ابن عباس وعطاء، وأمّا سواع فكان لهذيل بساحل البحر في قولهم. وقال الرازي: وسواع لهمدان وأمّا يغوث فكان لغطيف من مراد بالجرف من سبأ في قول قتادة. وقال المهدوي: لمراد ثم لغطفان. وقال أبو عثمان الهندي: رأيت يغوث وكان من رصاص، وكانوا يحملونه على جمل أجرد ويسيرونه معهم ولا ينيخونه حتى يبرك بنفسه فإذا برك نزلوا، وقالوا: قد رضي لكم المنزل، وأمّا يعوق فكان لهمدان، وقيل: لمراد، وأمّا نسر فكان لذي الكلاع من حمير في قول قتادة ومقاتل.
وقال الواقدي: كان ود على صورة رجل وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر من الطير. قال البقاعي: ولا يعارض هذا أنهم صور لناس صالحين لأنّ تصويرهم لهم يمكن أن يكون منتزعاً من معانيهم، فكان ودّ للكامل في الرجولية، وكان سواع امرأة(4/394)
كاملة في العبادة، وكان يغوث شجاعاً، وكان يعوق سابقاً قوياً، وكان نسر عظيماً طويل العمر ا. هـ.
ولما ذكرهم مكرهم وما أظهروا من قولهم عطف عليه ما توقع السامع من أمرهم فقال تعالى: {وقد أضلوا} أي: الرؤساء أو الأصنام وجمعهم جمع العقلاء معاملة لهم معاملة العقلاء كقوله: {رب إنهنّ أضللن} (إبراهيم: 36)
{كثيراً} من عبادك الذين خلقتهم على الفطرة السليمة من أهل زمانهم وممن أتى بعدهم، فإنهم أوّل من سنّ هذه السنة السيئة، فعليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. وقول نوح عليه السلام: {ولا تزد الظالمين} أي: الراسخين في الوصف الموجب للنار {إلا ضلالاً} أي: طبعاً على قلوبهم حتى يعموا عن الحق.
عطف على قد أضلوا دعاء عليهم بعدما أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون بقوله تعالى: {إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} ، وكذلك دعا موسى وهارون عليهما السلام في الشدّ على قلوب فرعون وملئه لئلا يؤمنوا في حال ينفعهم فيه وما في قوله تعالى: {مما خطيئاتهم} أي: من أجل خطيئاتهم مزيدة للتأكيد والتفخيم، وقرأ أبو عمرو بفتح الطاء وبعدها ألف وبعد الألف ياء وبعد الياء ألف وضم الهاء على وزن قضاياهم، والباقون بكسر الطاء وبعدها ياء تحتية ساكنة، وبعد الياء همزة مفتوحة بعدها ألف وبعد الألف تاء فوقية مكسورة وكسر الهاء على وزن قضياتهم {أغرقوا} أي: بالطوفان طاف عليهم جميع الأرض السهل والجبل فلم يبق منهم أحد، وكذا الكلام فيما تسبب عنه وتعقبه في قوله: {فأدخلوا} في الآخرة التي أوّلها البرزخ يعرضون فيه على النار بكرة وعشياً {ناراً} أي: عظيمة جداً أخفها ما يكون من مباديها في البرزخ. قال الملوي: عذبوا في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالحرق. وقال الضحاك: في حالة واحدة كانوا يغرقون من جانب ويحترقون في الماء من جانب بقدرة الله تعالى {فلم يجدوا لهم} أي: عندما أناخ الله بهم سطوته، وأحل بهم نقمته {من دون الله} أي: الملك الأعظم الذي تضمحل المراتب تحت رتبة عظمته وتذل لعزه وجليل سطوته {أنصاراً} تنصرهم على من أراد بهم ذلك ليمنعوه مما أراده سبحانه من إغراقهم من غير أن يتخلف منهم أحد على كثرتهم وقوّتهم لكونهم أعداءه وإنجاء نبيه عليه السلام ومن آمن معه على ضعفهم وقلتهم لم يفقد منهم أحد لكونهم أولياءه كما أنه لم يسلم ممن أراد إغراقهم أحد على كثرتهم وقوّتهم. قال البقاعي: فمن قال عن عوج ما تقوله القصّاص فهو ضلال أشدّ ضلال، قال: وقائل ذلك هو ابن عربي صاحب الفصوص الذي لم يرد بتصنيفه إلا هدم الشريعة، وزاد في الحط عليه وعلى ابن الفارض وعلى الحلاج وعلى من شابههم، وأمر هؤلاء إلى الله تعالى، فإنه العالم بحقائق الأمور وما تخفي
الصدور.
{وقال نوح} وأسقط الأداة كما هو عادة أهل الحضرة فقال: {رب لا تذر} أي: لا تترك {على الأرض} أي: كلها {من الكافرين} أي: الراسخين في الكفر {دياراً} أي: أحداً يدور فيها وهو من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي فيعال من الدور أو الدار لا فعال وإلا لكان دواراً. قال قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحى الله تعالى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فأجاب الله تعالى دعوته وأغرق أمّته وهذا كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «اللهمّ منزل الكتاب وهازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم» . وقيل: سبب دعائه أنّ رجلاً من قومه حمل ولداً صغيراً على كتفه فمرّ بنوح(4/395)
عليه السلام فقال: احذر هذا فإنه يضلك، فقال: يا أبت أنزلني فأنزله فرماه فشجه فحينئذ غضب ودعا عليهم.
فإن قيل: ما فعل صبيانهم حين أغرقوا؟ أجيب: بأنهم أغرقوا معهم لا على وجه العقاب ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الموت وكم منهم من يموت بالغرق والحرق وكان ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمّهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى» .
وعن الحسن أنه سئل عن ذلك؟ فقال: علم الله تعالى براءتهم فأهلكهم بغير عذاب. وقال محمد بن كعب ومقاتل: إنما قال هذا حين أخرج الله تعالى كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم وأعقم أرحام أمّهاتهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، وقيل: بسبعين سنة فأخبر الله تعالى نوحاً عليه السلام أنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمناً كما قال تعالى: {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} (هود: 36)
فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله تعالى دعاءه فأهلكهم كلهم، ولم يكن فيهم صبيّ وقت العذاب لأنّ الله تعالى قال: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم} (الفرقان: 37)
ولم يوجد التكذيب من الأطفال. وقال ابن عربي: دعا نوح عليه السلام على الكافرين أجمعين، ودعا النبيّ صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وكفى بهذا أصلاً في الدعاء على الكافرين في الجملة، وأمّا كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه، لأنّ مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة وإنما خص النبيّ صلى الله عليه وسلم عتبة وشيبة وأصحابه لعلمه بما لهم وما كشف الله له من الغطاء عن حالهم.
ولما كان الرسل عليهم السلام لا يقولون ولا يفعلون إلا ما كان فيه مصلحة الدين علل دعاءه بقوله: {إنك} أي: يا رب {إن تذرهم} أي: تتركهم على أيّ حالة كانت في إبقائهم سالمين على وجه الأرض ولو كانت حالة دنيئة {يضلوا عبادك} أي: الذين آمنوا بك وبي والذين يولدون على الفطرة السليمة {ولا يلدوا} أي: إن قدرت بقاءهم {إلا فاجراً} أي: مارقاً عن كل ما ينبغي الاعتصام به {كفاراً} أي: بليغ الستر لما يجب إظهاره من آيات الله.
فإن قيل: بم علم أنّ أولادهم يكفرون وكيف وصفهم بالكفر عند الولادة؟ أجيب: بأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فعرف طباعهم وأحوالهم، وكان الرجل ينطلق بابنه إليه ويقول: احذر من هذا فإنه كذاب، وإنّ أبي حذرنيه، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، وقد أخبر الله تعالى: {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} . ومعنى: {ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} : لم يلدوا إلا من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون إليه كقوله صلى الله عليه وسلم «من قتل قتيلاً فله سلبه» .
ولما دعا على أعداء الله تعالى دعا لأوليائه وبدأ بنفسه فقال مسقط الأداة على عادة أهل الخصوص: {ربّ} أي: أيها المحسن إليّ باتباع من اتبعني وتجنب من تجنبني {اغفر لي} أي: فإنه لا يسعني ـ وإن كنت معصوماً ـ إلا حلمك وعفوك ومغفرتك، {ولوالديّ} وكانا مؤمنين يريد أبويه اسم أبيه لمك بن متوشلخ، وأمّه شمخا بنت أنوش. وعن ابن عباس: لم يكفر لنوح عليه السلام أب فيما بينه وبين آدم عليه السلام، وقيل: هما آدم وحوّاء وأعاد الجار إظهاراً للاهتمام فقال: {ولمن دخل بيتي} أي: منزلي، وقيل: مسجدي، وقيل: سفينتي {مؤمناً} أي: مصدّقاً بالله تعالى فمؤمناً حال، وعن ابن عباس: أي: دخل في ديني.
فإن قيل: على هذا يصير قوله: {مؤمناً}(4/396)
تكراراً؟ أجيب: بأنّ من دخل في دينه ظاهراً قد يكون مؤمناً وقد لا يكون، فالمعنى ولمن دخل دخولاً مع تصديق القلب. {وللمؤمنين والمؤمنات} خص نفسه أوّلاً بالدعاء، ثم من يتصل به لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عمم المؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة، قاله الضحاك. وقال الكلبي: من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: من قومه والأوّل أولى وأظهر.
ثم ختم الكلام مرّة أخرى بالدعاء على الكافرين فقال: {ولا تزد الظالمين} أي: العريقين في الظلم في حال من الأحوال {إلا تباراً} أي: هلاكاً مدمراً والمراد بالظالمين الكافرون، فهي عامة في كل كافر ومشرك. وقيل: أراد مشركي قومه. وتباراً مفعول ثان والاستثناء مفرغ. وقيل: الهلاك الخسران.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام» حديث موضوع.
سورة الجن
وتسمى سورة قل أوحي مكية
وهي ثمان وعشرون آية، ومائتان وخمسوثمانون كلمة، وثمانمائة وسبعون حرفاً
{بسم الله} المحيط بالكمال {الرحمن} الذي عمّ برحمته الناس بالإرسال {الرحيم} الذي خص من بين أهل الدعوة من شاء بمحاسن الأعمال.
ولما كان نوح عليه السلام أوّل رسول أرسله الله تعالى إلى المخالفين من أهل الأرض، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فهو آخر رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض وغيرهم ناسب ذكره بعد نوح، فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{قل} أي: يا أشرف الرسل للناس {أوحي إليّ} وقال ابن عباس: قل يا محمد لأمّتك: أوحي إليّ على لسان جبريل {أنه استمع نفر من الجنّ} والنفر الجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة قال البغوي: وكانوا تسعة من جنّ نصيبين، وقيل: كانوا سبعة وفي هذه العبارة دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولا قرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم عند قراءته ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: «انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب فقالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمرّ النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو وأصحابه بنخلة قاصدين سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء» . وهل هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف أو غيره؟ قال أبو حيان: المشهور أنه هو. وقيل: غيره، والجنّ الذين أتوه جنّ نصيبين والذين أتوه بنخلة جنّ نينوى، والسورة التي استمعوها قال عكرمة العلق، وقيل: الرحمن، ولم يذكر هنا ولا في الأحقاف أنه رآهم.
وعن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أتلو القرآن على الجنّ، فمن يذهب؟ فسكتوا ثم قال الثانية، فسكتوا ثم قال الثالثة، فقلت: أنا أذهب معك يا رسول الله. قال: فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب بن أبي ذئب خط عليّ خطاً فقال: لا تجاوزه ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه(4/397)
أمثال الحجل كأنهم رجال الزط ـ قال ابن الأثير في النهاية: الزط قوم من السودان والهنود، وكأنّ وجوههم المكاكي، يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه ـ فغاب عن بصري فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس ثم تلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ولصقوا بالأرض حتى صرت لا أراهم» . وفي رواية أخرى «قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أنت؟ قال: أنا نبي. قالوا: فمن يشهد لك على ذلك، فقال: هذه الشجرة تعالي يا شجرة، فجاءت تجرّ عروقها، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه، فقال: على ماذا تشهدين فيّ؟ قالت: أشهد أنك رسول الله، قال: اذهبي، فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت. قال ابن مسعود: فلما عاد إليّ قال: أردت أن تأتيني قلت: نعم يا رسول الله. قال: ما كان ذلك لك هؤلاء الجنّ أتوا يستمعون القرآن ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزوّدتهم العظم والبعر فلا يستطيبن ـ أي يستنجي ـ أحدكم بعظم ولا بعر» وفي رواية: «أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ، فقال: هل من وضوء؟ قال: لا إلا أنّ معي إداوة نبيذ فقال: هل هو إلا تمر وماء فتوضأ منه» .
قال الرازي: وطريق الجمع بين رواية ابن عباس ورواية ابن مسعود من وجوه:
أحدها: لعل ما ذكره ابن عباس وقع أوّلاً، فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورة، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روي عن ابن مسعود أي فالواقعة متعدّدة.
ثانيها: أنها واقعة واحدة إلا أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم ولا عرف ماذا قالوا ولا أيّ شيء فعلوا، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وكذا وفعلوا كذا وكذا.
ثالثها: أنها كانت واحدة وأنه صلى الله عليه وسلم رآهم وسمع كلامهم وهم آمنوا به ثم رجعوا إلى قومهم قالوا لهم على سبيل الحكاية {إنا سمعنا قرآناً عجباً} وكان كذا وكذا فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ما قالوه لقومهم.
قال ابن عربي: ابن مسعود أعرف من ابن عباس لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة. وقال القرطبي: إنّ الجنّ أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم دفعتين إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية: بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. وقال البيهقي: الذي حكاه ابن مسعود إنما هو في أوّل ما سمعت الجنّ قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه ابن عباس، ثم أتاه داعي الجنّ مرّة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه ابن مسعود.
وقال القشيري: لما رجم إبليس بالشهب فرّق إبليس جنوده لعلم ذلك فأتى سبعة منهم بطن نخلة فاستمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا، ثم أتوا قومهم فقالوا: {إنا سمعنا قرآناً عجباً} يعني ولم يرجعوا إلى إبليس لما علموه من كذبه وسفاهته، وجاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في سبعين من قومه فأسلموا فذلك قوله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً} (الأحقاف: 29)
الآيات.
{فقالوا} أي: فتسبب عن استماعهم أن قالوا {إنا سمعنا} أي: حين تعمدنا الإصغاء وألقينا إليه أفهامنا {قرآنا} أي: كلاماً هو في غاية الانتظام في نفسه والجمع لجميع ما يحتاج إليه، وقرأ ابن كثير بالنقل وقفاً ووصلاً وحمزة في الوقف دون الوصل والباقون بغير نقل وقفاً ووصلاً. ثم وصفوا القرآن بالمصدر مبالغة في أمره فقالوا: {عجباً} أي: بديعاً خارجاً عن عادة أمثاله من جميع الكتب الإلهية فضلاً عن جميع الناس في جلالة النظم وإعجاز التركيب.
{يهدي} أي: يبين(4/398)
غاية البيان {إلى الرشد} أي: الحق والصواب {فآمنا} أي: كل من استمع منا لم يتخلف منا أحد ولا توقف بعد الاستماع {به} أي: القرآن أي فاهتدينا به وصدّقنا أنه من عند الله.
{ولن نشرك بربنا أحداً} أي: لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، وهذا يدل على أنّ أولئك الجنّ كانوا مشركين. قال الرازي: واعلم أنّ قوله تعالى: {قل} أمر لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يظهر لأصحابه ما أوحي إليه في واقعة الجنّ وفيه فوائد: أحدها: أن يعرفوا بذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجنّ كما بعث إلى الإنس. ثانيها: أن تعلم قريش أنّ الجنّ مع تمرّدهم لما سمعوا القرآن وعرفوا إعجازه آمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثالثها: أن يعلم القوم أنّ الجنّ مكلفون كالإنس. رابعها: أن يعلم أنّ الجنّ يستمعون كلاماً تفهمه من لغتنا. خامسها: أن يظهر المؤمن منهم بدعوى غيره من الجنّ إلى الإيمان، وفي هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.
تنبيهات:
أحدها: اختلف العلماء في أصل الجنّ فروي عن الحس البصري أنّ الجنّ ولد إبليس والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس أنّ الجنّ هم ولد الجان وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. وروي أنّ ذلك النفر كانوا يهوداً. وذكر الحسن أنّ منهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين.
ثانيها: اختلفوا في دخول الجنّ الجنة على حسب الاختلاف في أصلهم، فمن زعم أنهم من الجانّ لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنة بإيمانهم، ومن قال إنهم من ذرّية إبليس فلهم فيهم قولان: أحدهما وهو قول الحسن: يدخلونها. والثاني وهو رواية مجاهد: لا يدخلونها.
ثالثها: قال القرطبي: قد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجنّ، وقالوا: إنهم بسائط ولا يصح طعامهم اجتراء على الله تعالى والقرآن والسنة يردّان عليهم، وليس في المخلوقات بسيط بل مركب مزدوج، إنما الواحد الواحد سبحانه وغيره مركب ليس بواحد، وليس بممتنع أن يراهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة، وأكثر ما يتصوّرون لنا في صور الحيات.
ثم عطفوا على قولهم إنا سمعنا {وأنه} أي: الشأن العظيم قال الجنّ {تعالى} أي: انتهى في العلوّ إلى حدّ لا يستطاع {جدّ} أي: عظمة وسلطان وكمال غنى {ربنا} يقال: جدّ الرجل إذا عظم ومنه قول أنس كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا أي عظم قدره. وقال السدي: جدّ ربنا أي أمر ربنا. وقال الحسن: غني ربنا. ومنه قيل: الحظ جدّ، ورجل مجدود، أي: محظوظ. وفي الحديث: «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» . قال أبو عبيد والخليل: أي ذا الغنى منك الغنى إنما تنفعه الطاعة. وقال ابن عباس: قدرة ربنا. وقال الضحاك: فعله. وقال القرطبي: آلاؤه ونعماؤه على خلقه. وقال الأخفش: علا ملكُ ربنا، والأولى جميع هذه المعاني، وقرأ {وأنه تعالى جدّ ربنا} وما بعده إلى قوله تعالى: {وأنا منا المسلمون} وهي اثنا عشر موضعاً ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بفتح الهمزة في الجميع والباقون بالكسر.
ولما وصفوه بهذا التعالي الأعظم المستلزم للغنى المطلق والتنزه عن كل شائبة نقص بينوه بنفي ما ينافيه من قولهم إبطالاً للباطل(4/399)
{ما اتخذ صاحبة} أي: زوجة؛ لأن الصاحبة لا بدّ وأن تكون من نوع صاحبها، ومن له نوع فهو مركب تركيباً عقلياً من صفة مشتركة وصفة مميزة {ولا ولداً} لأنّ الولد لا بدّ وأن يكون جزءاً منفصلاً عن والده ومن له أجزاء فهو مركب تركيباً حسياً، ومن المقطوع به أنّ ذلك لا يكون إلا لمحتاج وأن الله تعالى متعال عن ذلك من تركيب حسي أو عقلي. قال القشيري: ويجوز إطلاق لفظ الجدّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم فتجنبه أولى. أي: لأنه قيل إنهم عنوا بذلك الجدّ الذي هو أبو الأب ويكون ذلك من قول الجنّ. قال ابن جعفر الصادق: ليس لله تعالى جدّ وإنما قاله الجنّ للجهالة فلم يؤاخذوا به. وقال القرطبي: معنى الآية {وأنه تعالى جدّ ربنا} أن يتخذ ولداً أو صاحبة للاستئناس بهما أو الحاجة إليهما، والرب تعالى عن ذلك كما تعالى عن الأنداد والنظراء.
{وأنه} أي: وقالوا: إنّ الشأن هذا على قراءة الكسر وآمنا بأنه على قراءة الفتح. {كان يقول} أي: قولاً هو في عراقته في الكذب بمنزلة الجبلة {سفيهنا} هو للجنس، فيتناول إبليس رأس الجنس تناولاً أوّلياً وكل من تبعه ممن لم يعرف الله تعالى، لأنّ ثمرة العقل العلم، وثمرة العلم معرفة الله تعالى، فمن لم يعرفه فهو الذي يقول {على الله} الذي له صفات الكمال المنافية لقول هذا السفيه {شططاً} أي: كذباً وعدواناً، وهو وصفه بالشريك والولد.
والشطط والإشطاط الغلوّ في الكفر. وقال أبو مالك: هو الجور. وقال الكلبي: هو الكذب، وأصله: البعد فعبر به عن الجور لبعده عن العدل، وعن الكذب لبعده عن الصدق.
{وأنا} أي: يا معشر المسلمين من الجنّ {ظننا} أي: حسبنا لسلامة فطرتنا {أن} أي: أنه وزادوا في التأكيد فقالوا {لن تقول} وبدؤوا بأفضل الجنسين فقالوا {الإنس} وأتبعوهم قرناءهم، فقالوا {والجنّ على الله} أي: الملك الأعلى الذي بيده النفع والضرّ {كذباً} أي: قولاً هو لعراقته في مخالفة الواقع نفس الكذب، وإنما كنا نظنهم صادقين في قولهم إنّ لله صاحبة وولداً حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق قيل انقطع الإخبار عن الجنّ ههنا.
{وأنه} أي: الشان {كان رجال} أي: ذوو قوة وبأس {من الإنس} أي: النوع الظاهر في عالم الحس {يعوذون} أي: يلتجئون ويعتصمون خوفاً على أنفسهم وما معهم إذا نزلوا وادياً {برجال من الجنّ} أي: القبيل المستتر عن الأبصار، وذلك أنّ القوم منهم كانوا إذا نزلوا وادياً أو غيره من القفر تعبث بهم الجنّ في بعض الأحيان؛ لأنه لا مانع لهم منهم من ذكر الله ولا دين صحيح ولا كتاب من الله تعالى صريح، فحملهم ذلك على أن يستجيروا بعظمائهم، فكان الرجل يقول عند نزوله: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيبيت في أمن وفي جوار منهم حتى يصبح فلا يرى إلا خيراً، وربما هدوه إلى الطريق وردوا عليه ضالته، قال مقاتل: كان أوّل من تعوذ بالجنّ قوم من أهل اليمن من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله تعالى وتركوهم.
وقال كرم بن أبي السائب الأنصاري: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أوّل ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملاً من الغنم فوثب الراعي وقال: يا عامر الوادي جارك فنادى منادٍ لا نراه يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة، فكان ذلك فتنة للإنس(4/400)
باعتقادهم في الجن غير ما هم عليه، فتبعوهم في الضلال وفتنة للجن بأن يغتروا بأنفسهم ويقولوا سدنا الإنس والجن فيَضلوا ويُضلوا ولذلك سبب عنه قوله تعالى: {فزادوهم} أي: الإنس والجن باستعاذتهم {رهقاً} أي: ضيقاً وشدّة وغشياناً، فجاءهم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منها الضيق والشدّة وقال مجاهد: الرهق: الإثم وغشيان المحارم ورجل رهق إذا كان كذلك. ومنه قوله تعالى: {وترهقهم ذلة} (يونس: 27)
وقال الأعشى:
*لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا*
يعني إثماً، وقال مجاهد أيضاً: زادوهم أي: أنّ الإنس زادوا الجن طغياناً بهذا التعوّذ حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن، وقيل: لا ينطلق لفظ الرجال على الجنّ، فالمعنى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس من شرّ الجن، فكان الرجل مثلاً يقول: أعوذ بحذيفة بن بدر من جنّ هذا الوادي. قال القشيري: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجل على الجن.
تنبيه: قوله تعالى: {من الإنس} صفة لرجال وكذا قوله {من الجنّ} .
{وأنهم} ، أي: الإنس {ظنوا} والظنّ قد يصيب وقد يخطئ وهو أكثر {كما ظننتم} أي: أيها الجنّ ويجوز العكس {أن} مخففة أي: أنه {لن يبعث الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة {أحداً} أي: بعد موته لما لبس به إبليس عليهم حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن، أو أحداً من الرسل يزيل به عماية الجهل، وقد ظهر بالقرآن أن هذا الظنّ كاذب، وأنه لا بدّ من البعث في الأمرين.
قال الجن: {وأنا لمسنا السماء} أي: زمن استراق السمع منها. قال الكلبي: السماء الدنيا أي: التمسنا أخبارها على ما كان من عادتنا من استماع ما تغوي به الإنس، واللمس المس فاستعير للطلب؛ لأن الماس طالب متعرّف، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها {فوجدناها} في وجد وجهان:
أظهرهما أنها متعدية لواحد لأنّ معناها أصبنا وصادفنا، وعلى هذا فالجملة من قولهم {ملئت} في موضع نصب على الحال على إضمار قد.
والثاني: أنها متعدّية لاثنين فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني ويكون {حرساً} منصوباً على التمييز، نحو: امتلأ الإناء ماء، والحرس اسم جمع لحارس نحو: خدم لخادم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع ويجمع تكسيراً على أحراس، والحارس الحافظ الرقيب، والمصدر الحراسة و {شديداً} صفة لحرس على اللفظ، ولو جاء على المعنى لقيل شداداً بالجمع لأن المعنى ملئت ملائكة شداداً كقولك: السلف الصالح، يعني الصالحين. قال القرطبيّ: ويجوز أن يكون حرساً مصدراً على معنى حرست حراسة شديدة {وشهباً} جمع شهاب ككتاب وكتب وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم المانع لهم عن استراق السمع.
{وأنا كنا} أي: فيما مضى {نقعد منها} أي: السماء {مقاعد} أي: كثيرة قد علمناها لا حرس فيها صالحة {للسمع} أي: أن نسمع منها بعض ما تتكلم به الملائكة مما أمروا بتدبيره، وقد جاء في الخبر أنّ صفة قعودهم هو أن يكون الواحد منهم فوق الآخر حتى يصلوا إلى السماء، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان فيزيدُنَّ معها الكذب. {فمن يستمع الآن} أي: في هذا الوقت وفيما يستقبل لا أنهم أرادوا وقت قولهم فقط {يجد له} أي: لأجله {شهاباً} أي: شعلة من نار ساطعة تحرقه {رصداً} أي: أرصد به ليرمى به.(4/401)
تنبيه: اختلفوا هل كانت الشياطين تقذف قبل البعث أو ذلك أمر حدث بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال قوم: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة عام، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعث منعوا من السموات كلها وحرست بالملائكة والشهب، وقال عبد الله بن عمر: لما كان اليوم الذي نبئ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين ورموا بالشهب، قال الزمخشري: والصحيح أنه كان قبل البعث وقد جاء شعره في أهل الجاهلية، قال بشر بن أبي حازم:
*والعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفها انقضاض الكوكب*
ولكنّ الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأحوال، فلما بعث صلى الله عليه وسلم كثر الرجم وازداد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الإنس والجنّ ومنع الاستراق أصلاً.
وعن معمر قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أرأيت قوله تعالى: {وأنا كنا نقعد منها مقاعد} ؟ قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية» ؟ فقالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال صلى الله عليه وسلم «إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء، فتسأل أهل السماء حملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم وتخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى أهل هذه السماء» . وهذا يدل على أنّ هذه الشهب كانت موجودة قال ابن عادل: وهذا قول الأكثرين.
فإن قيل: كيف تتعرّض الجنّ لاحتراق أنفسها بسبب سماع خبر بعد أن صار ذلك معلوماً لهم؟ أجيب: بأنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة. قال القرطبي: والرصد قيل من الملائكة أي ورصداً من الملائكة، والرصد الحافظ للشيء والجمع أرصاد، وقيل: الرصد هو الشهاب، أي: شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو فعل بمعنى مفعول.
واختلف فيمن قال {وأنا لا ندري} أي: بوجه من الوجوه {أشر أريد} أي: بعدم استراق السمع {بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم} أي: المحسن إليهم المدبر لهم {رشداً} أي: خيراً فقال ابن زيد: معنى الآية أن إبليس قال: لا ندري هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عقاباً أو يرسل إليهم رسولاً. وقيل: هو من قول الجنّ فيما بينهم قبل أن يستمعوا قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم أي: لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذَّب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي. وقيل: قالوا لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين أي: لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثير من أهل الأرض، فقالوا: إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون.
قال الجنّ {وأنا منا الصالحون} أي: العريقون في صفة الصلاح، قال الجلال المحلي بعد استماع القرآن {ومنا دون ذلك} أي: قوم غير صالحين {كنا} أي:(4/402)
كوناً هو كالجبلة {طرائق قدداً} أي: جماعات متفرّقين وأصنافاً مختلفة، قال سعيد بن المسيب: معنى الآية كنا مسلمين ويهوداً ونصارى ومجوساً، وقال الحسن والسدّي: الجنّ أمثالكم فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة وخوارج وشيعة وسنية. وقال ابن كيسان: شيعاً وفرقاً لكل فرقة هوى كأهواء الناس. وقال سعيد بن جبير: ألواناً شتى. وقال أبو عبيدة: أصنافاً وقيل: منا الصالحون ومنا المؤمنون، لم يتناهوا في الصلاح.
قال القرطبي: والأوّل أحسن لأنه كان في الجنّ من آمن بموسى وعيسى، وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه} وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة.
تنبيه: القدد جمع قدة والمراد بها الطريقة وأصلها السيرة، يقال: قدة فلان حسنة، أي: سيرته وهو من قدّ السير، أي: قطعه، فاستعير للسيرة المعتدلة. قال الشاعر:
*القابض الباسط الهادي بطلعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد*
وقال لبيد يرثي أخاه:
*لم تبلغ العين كل نهمتها ... يوم تمشي الجياد بالقدد*
والقد بالكسر سير يقد من جلد غير مدبوغ، ويقال: ما له قد ولا قحف، فالقد إناء من جلد والقحف إناء من خشب.
{وأنا ظننا أن لن نعجز الله} أي: وإنا علمنا وتيقنا بالتفكر والاستدلال في آيات الله أنا في قبضة الملك وسلطانه لن نفوته بهرب ولا غيره لما له من الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة لأنه واحد لا مثل له.
تنبيه: أطلقوا الظنّ على العلم إشارة إلى أنّ العاقل ينبغي له أن يتجنب ما يتخيله ضاراً ولو بأدنى أنواع التخيل، فكيف إذا تيقن. وقولهم {في الأرض} حال، وكذلك هرباً في قولهم {ولن نعجزه} أي: بوجه من الوجوه {هرباً} فإنه مصدر في موضع الحال تقديره لا نفوته كائنين في الأرض أو هاربين منها إلى السماء، فليس لنا مهرب إلا في قبضته فأين أم إلى أين المهرب.
{وأنا لما سمعنا} أي: من النبيّ صلى الله عليه وسلم {الهدى} أي: القرآن الذي له من العراقة التامة في صفة البيان والدعاء إلى الخير ما سوّغ أن يطلق عليه نفس الهدى {آمنا به} وبالله وصدقنا محمداً صلى الله عليه وسلم على رسالته وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الإنس والجنّ. قال الحسن: بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن ولم يبعث الله تعالى قط رسولاً من الجن ولا من أهل البادية ولا من النساء، وذلك لقوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} (يوسف: 109)
وفي الصحيح: «وبُعثت إلى الأحمر والأسود» أي الإنس والجنّ، وفي إرساله إلى الملائكة خلاف قدّمنا الكلام عليه.
{فمن يؤمن بربه} أي: المحسن إليه منا ومن غيرنا {فلا} أي: فهو خاصة لا {يخاف بخساً ولا رهقاً} قال ابن عباس: لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته لأن البخس النقصان والرهق العدوان وغشيان المحارم.
{وأنا منا} أي: الجن {المسلمون} أي: المخلصون في صفة الإسلام {ومنا القاسطون} أي: الجائرون أي: وإنا بعد سماع القرآن مختلفون فمنا من أسلم ومنا من كفر، والقاسط الجائر لأنه عدل عن الحق، والمقسط العادل إلى الحق، قسط إذا جار، وأقسط إذا عدل فقسط الثلاثي بمعنى جار، وأقسط الرباعي بمعنى عدل.
وعن سعيد بن جبير: أنّ الحجاج قال له حين أراد قتله: ما تقول فيّ؟ قال: قاسط عادل. فقال القوم:(4/403)
ما أحسن ما قال، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل. فقال الحجاج: يا جهلة إنما سماني ظالماً مشركاً وتلا لهم قوله تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً} . {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام: 1)
{فمن أسلم} أي: أوقع الإسلام كله بأن أسلم ظاهره وباطنه من الجن وغيرهم {فأولئك} أي: العالو الرتبة {تحرّوا} أي: توخوا وقصدوا مجتهدين {رشداً} أي: صواباً عظيماً وسداداً كان لما عندهم من النقائص شارداً عنهم، فعالجوا أنفسهم حتى ملكوه فجعلوه لهم منزلاً.
{وأما القاسطون} أي: العريقون في صفة الجور عن الصواب من الإنس والجن، فأولئك أهملوا أنفسهم فلم يتحرّوا لها فضلوا فأبعدوا عن الطريق القويم فوقعوا في المهالك التي لا منجى منها. {فكانوا لجهنم} أي: النار البعيدة القعر التي تلقاهم بالتجهم والكراهة والعبوسة {حطباً} أي: توقد بهم النار فهي في اتقاد ما داموا أحياء، مادامت تتقدّ لا يموتون فيستريحون ولا يحيون فينتعشون.
تنبيه: قوله تعالى: {فكانوا} ، أي: في علم الله عز وجلّ. فإن قيل: لم ذكروا عقاب القاسطين ولم يذكروا ثواب المسلمين؟ أجيب: بأنهم في مقام الترهيب فذكروا ما يحذر وطووا ما يحب للعلم به لأنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً بل لا بد أن يزيد عليه تسعة أضعافه وعنده المزيد أو أنهم ذكروه بقولهم {تحرّوا رشداً} أي: تحرّوا رشداً عظيماً لا يعلم كنهه إلا الله تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا في الثواب.
فإن قيل: إنّ الجنّ مخلوقون من النار فكيف يكونون حطباً للنار؟ أجيب: بأنهم وإن خلقوا منها لكنهم يغيرون عن تلك الكيفية فيصيرون لحماً ودماً هكذا قيل وهذا آخر كلام الجن.
وأن في قوله تعالى: {وأن} هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي: وأنهم وهو معطوف على أنه استمع أي وأوحي إلي أنّ الشأن العظيم. {لو استقاموا على الطريقة} أي: طريقة الإسلام {لأسقيناهم} أي: لجعلنا لهم بما لنا من العظمة {ماء غدقاً} أي: لو آمن هؤلاء الكفار لَوَسّعنا عليهم في الدنيا ولبسطنا لهم في الرزق. وضرب الماء الغدق مثلاً، لأنّ الخير والرزق كله في المطر، كما قال تعالى {ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم} (الأعراف: 96)
الآية. وقال تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} (المائدة: 66)
الآية. وقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} (الطلاق: 2)
الآية. وقال تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً} إلى قوله: {ويمددكم بأموال وبنين} (نوح: 10 ـ 12)
الآية.
{لنفتنهم} أي: نعاملهم معاملة المختبر بما لنا من العظمة {فيه} أي: في ذلك الماء الذي تكون عنده أنواع النعم لينكشف حال الشاكر والكافر.
قال الرازي: وهذا بعدما حبس عنهم المطر سنين ا. هـ. قال الجلال المحلي: سبع سنين. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. وقال الحسن وغيره: كانوا سامعين مطيعين، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر ففتنوا بها فوثبوا بإمامهم فقتلوه يعني عثمان رضي الله تعالى عنه. قال البقاعي: ويجوز أن يكون مستعاراً للعلم وأنواع المعارف الناشئة عن العبادات التي هي للنفوس كالنفوس للأبدان، وتكون الفتنة بمعنى التخليص من الهموم والرذائل في الدنيا والنعم في الآخرة من فتنت الذهب، إذا: خلصته من غشه.
{ومن يعرض} أي: إعراضاً مستمراً إلى الموت {عن ذكر ربه} أي: مجاوزاً عن عبادة المحسن إليه المربي له الذي لا إحسان عنده من غيره. وقيل: المراد بالذكر(4/404)
القرآن، وقيل: الوحي. وقيل: الموعظة. {نسلكه} أي: ندخله {عذاباً} يكون مظروفاً فيه كالخيط في ثقب الخرزة في غاية الضيق {صعداً} أي: شاقاً شديداً يعلوه ويغلبه ويصعد عليه، ويكون كل يوم أعلى مما قبله جزاء وفاقاً. وقال ابن عباس: هو جبل في جهنم. قال الخدري: كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ابن عباس: أنّ المعنى مشقة من العذاب، لأنّ الصعد في اللغة هو المشقة، تقول: تصعدني الأمر إذا شق عليك، ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعدني في خطبة النكاح، يريد ما شق علي وما غلبني والمشي في الصعود يشق.
وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم. وقال الكلبي: يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلاً في النار من صخرة ملساء يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة، فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف أيضاً الصعود فذاك دأبه أبداً وهو قوله تعالى: {سأرهقه صعوداً} (المدثر: 17)
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية على الغيبة لإعادة الضمير على الله تعالى والباقون بالنون على الالتفات وهذا كما في قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} (الإسراء: 10)
ثم قال: {باركنا حوله لنريه من آياتنا} (الإسراء: 1)
واتفقوا على فتح الهمزة في قوله تعالى:
{وأن} أي: وأوحي إليَّ أنّ {المساجد لله} أي: مختصة بالملك الأعظم والمساجد قيل جمع مسجد بالكسر وهو موضع السجود، وقال الحسن: أراد بها كل البقاع لأنّ الأرض جعلت كلها مسجداً للنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أينما كنتم فصلوا وأينما صليتم فهو مسجد» . وقيل: إنه جمع مسجد بالفتح مراداً به الأعضاء الواردة في الحديث: الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان وهو قول سعيد بن المسيب، وابن حبيب.
والمعنى: أنّ هذه الأعضاء أنعم الله تعالى بها عليك فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله. قال عطاء: مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها، قال صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم» وذكر الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب» . قال ابن الأثير: الآراب الأعضاء. وهذا القول اختاره ابن الأنباري. وقيل: بل جمع مسجد وهو مصدر بمعنى السجود ويكون الجمع لاختلاف الأنواع. وقال القرطبي: المراد بها البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة قال سعيد بن جبير: قالت الجنّ: كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت {وأنّ المساجد لله} أي: بنيت لذكر الله تعالى وطاعته. وقال ابن عباس: المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسميت مكة مساجد لأنّ كل أحد يسجد إليها.
قال القرطبي: والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة أظهر الأقوال إن شاء الله تعالى وهو مروي عن ابن عباس، وإضافة المساجد إلى الله تعالى إضافة تشريف وتكريم وخص منها المسجد العتيق بالذكر فقال تعالى {وطهر بيتي} (الحج: 26)
وهي وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً قد تنسب إلى غيره تعريفاً قال صلى الله عليه وسلم «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» وفي رواية: «إن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا» . قال القرطبي: وهذا حديث صحيح. وفي حديث سَابَق صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، ويقال مسجد فلان لأنه حبسه ولا خلاف بين الأمّة في تحبيس(4/405)
المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.
{فلا تدعوا} أي: فلا تعبدوا أيها المخلوقون {مع الله} الذي له جميع العظمة {أحداً} وهذا توبيخ للمشركين في دعواهم مع الله تعالى غيره في المسجد الحرام، وقال مجاهد: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله تعالى نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها يقول: فلا تشركوا فيها صنماً أو غيره مما يعبد، وقيل: المعنى أفردوا المساجد لذكر الله تعالى ولا تجعلوا لغير الله تعالى فيها نصيباً وفي الصحيح: «من نشد ضالة في المسجد فقولوا: لا ردّها الله عليك، فإنّ المساجد لم تبن لهذا» وقال الحسن: من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول لا إله إلا الله؛ لأنّ قوله تعالى: {فلا تدعوا مع الله أحداً} في ضمنه أمر بذكر الله تعالى ودعائه، وروى الضحاك عن ابن عباس «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى، وقال: {وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} اللهمّ عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور، فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار، فإذا خرج من المسجد قدّم رجله اليسرى، وقال: اللهمّ صب عليّ الخير صباً ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً ولا تجعل معيشتي كدّاً واجعل لي في الأرض جدّاً» أي: غنى.
وقرأ {وأنه} نافع وشعبة بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بالفتح أي وأوحي إليّ أنه {لما قام عبد الله} أي: عبد الملك الأعلى الذي له الجلال كله والجمال، فلا موجود يدانيه بل كل موجود من فائض فضله وعبد الله هو محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن.
فإن قيل: هلا قيل رسول الله أو النبي؟ أجيب: بأنّ تقديره وأوحي، فلما كان واقعاً في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل أو لأنّ المعنى أنّ عبادة عبد الله ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر حتى تكونوا عليه لبداً، ومعنى {يدعوه} أي: يعبده وقال ابن جريج: يدعوه أي قام إليهم داعياً إلى الله تعالى، فهو في موضع الحال أي موحداً له {كادوا} أي: قرب الجنّ المستمعون لقراءته {يكونون عليه} أي: على عبد الله {لبداً} أي: متراكمين بعضهم على بعض من شدّة ازدحامهم حرصاً على سماع القرآن وقيل: كادوا يركبونه حرصاً قاله الضحاك. وقال ابن عباس: رغبة في سماع القرآن وروي عن مكحول أنّ الجنّ بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفاً، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر، وعن ابن عباس أيضاً أنّ هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود.
وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني لما قام عبد الله محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجنّ على هذا الأمر ليبطلوه فأبى الله تعالى إلا أن ينصره ويتم نوره، واختار الطبري أن يكون كادت العرب يجتمعون على النبيّ صلى الله عليه وسلم ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به، وقرأ هشام بضم اللام والباقون بكسرها، فالأولى جمع لبدة بضم اللام نحو غرفة وغرف. وقيل: بل هو اسم مفرد صفة من الصفات، وعليه قوله تعالى: {مالاً لبداً} (البلد: 6)
وأمّا الثانية فجمع لبدة بالكسر نحو قربة وقرب واللبدة واللبدة الشيء الملبد أي المتراكب بعضه على بعض ومنه لبدة الأسد كقول زهير:(4/406)
*لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد أظفاره لم تقلم*
ومنه اللبد لتلبد بعضه فوق بعض.
ولما قال كفار قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك {قال} صلى الله عليه وسلم مجيباً لهم {إنما أدعو ربي} أي: الذي أوجدني ورباني ولا نعمة عندي إلا منه وحده لا أدعو غيره حتى تعجبوا مني {ولا أشرك به} أي: الآن ولا في مستقبل الزمان بوجه من الوجوه {أحداً} من ودّ وسواع ويغوث ويعوق وغيرها من الصامت والناطق، وقرأ عاصم وحمزة قل بصيغة الأمر التفاتاً، أي: قل يا محمد والباقون قال بصيغة الماضي والخبر إخباراً عن عبد الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم قال الجحدري: وهو في المصحف كذلك وقد تقدّم لذلك نظائر في {قل سبحان ربي} (الإسراء: 93)
في آخر الإسراء وكذا في أوّل الأنبياء وآخرها وآخر المؤمنين.
{قل} أي: يا أشرف الخلق لهؤلاء الذين خالفوك {إني لا أملك لكم} أي: الآن ولا بعده بنفسي من غير إقدار الله تعالى لي {ضراً ولا رشداً} أي: لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً ولا أسوق إليكم خيراً، وقيل: لا أملك لكم ضراً أي كفراً ولا رشداً أي هدى؛ لأنه لا يؤثر شيء من الأشياء إلا الله تعالى، وإنما عليّ البلاغ. وقيل: الضر الموت والرشد الحياة.
{قل} أي: لهؤلاء {إني} وزاد في التأكيد لأنّ ذلك في غاية الاستقرار في النفوس فقال: {لن يجيرني} أي: فيدفع عني ما يدفع المجير عن جاره {من الله} أي: الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه {أحد} أي: كائن من كان إن أرادني سبحانه بسوء {ولن أجد} أي: أصلاً {من دونه} أي: الله تعالى {ملتحداً} أي: معدلاً وموضع ميل وركون ومدخلاً وملتجأ وحيلة وإن اجتهدت كل الجهد، والملتحد الملجأ وأصله المدخل من اللحد وقيل: محيصاً ومعدلاً.
وقوله: {إلا بلاغاً} فيه أوجه أحدها:
أنه استثناء منقطع أي لكن إن بلغت عن الله رحمني لأنّ البلاغ عن الله لا يكون داخلاً تحت قوله {ولن أجد من دونه ملتحداً} لأنه لا يكون من دون الله بل يكون من الله تعالى وبإعانته وتوفيقه.
الثاني: أنه متصل وتأويله أنّ الاستجارة مستعارة من البلاغ إذ هو سببها وسبب رحمته تعالى والمعنى: لن أجد شيئاً أميل إليه واعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني، وإذا كان متصلاً جاز نصبه من وجهين:
أرجحهما أن يكون بدلاً من {ملتحداً} ؛ لأنّ الكلام غير موجب وهو اختيار الزجاج.
الثاني: أنه منصوب على الاستثناء.
لثالث: أنه مستثنى من قوله لا أملك، فإنّ التبليغ إرشاد وانتفاع وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة.
وقوله: {من الله} أي: الذي أحاط بكلّ شيء قدرة وعلماً فيه وجهان أحدهما: أنّ من بمعنى عن لأن بلغ يتعدّى بها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «ألا بلغوا عني» . والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة لبلاغاً. قال الزمخشري: من ليست بصلة للتبليغ، وإنما هي بمنزلة من في قوله تعالى: {براءة من الله} (التوبة: 1)
بمعنى بلاغاً كائناً من الله. وقوله {ورسالاته} فيه وجهان: أحدهما أنه منصوب نسقاً على بلاغاً كأنه قيل لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره. والثاني أنه مجرور نسقاً على الجلالة، أي: إلا بلاغاً عن الله تعالى وعن رسالاته، كذا قدره أبو حيان وجعله هو الظاهر. ويجوز فيه جعل من بمعنى عن، والتجوّز في الحروف مذهب كوفي ومع ذلك فغير منقاس عندهم.
{ومن يعص الله} أي: الذي له العظمة كلها {ورسوله} الذي(4/407)
ختم به النبوّة والرسالة، فجعل رسالته محيطة بجميع الملل في التوحيد وغيره على سبيل الحجر {فإن له} أي: خاصة {نار جهنم} أي: التي تلقاه بالعبوسة والغيظ، وقوله تعالى: {خالدين فيها أبداً} حال مقدّرة من الهاء في له. والمعنى: مقدّر خلودهم والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى من فعل ذلك، فوحد أوّلاً للفظ وجمع للمعنى. وأكد بقوله تعالى: {فيها} ردًّا على من يدعي الانقطاع. قال البقاعي: وأمّا من يدعي أنها لا تحرق وأنّ عذابها عذوبة فليس أحد أجنّ منه إلا من تابعه على ضلاله وغيه ومحاله، وليس لهم دواء إلا السيف في الدنيا والعذاب في الآخرة بما سموه عذوبة وهم صائرون إليه وموقوفون عليه.
وحتى في قوله تعالى: {حتى إذا رأوا} ابتدائية فيها معنى الغاية لمقدر قبلها أي لا يزالون على كفرهم إلى أن يروا {ما يوعدون} من العذاب في الآخرة أو في الدنيا كوقعة بدر {فسيعلمون} أي: في ذلك اليوم بوعد لا خلف فيه {من أضعف ناصراً} أي: من جهة الناصر أنا وإن كنت في هذا الوقت وحيداً مستضعفاً أو هم {وأقل عدداً} وإن كانوا الآن بحيث لا يحصيهم عدداً إلا الله تعالى، فيالله ما أعظم كلام الرسل حيث يستضعفون أنفسهم ويذكرون قوّتهم من جهة مولاهم الذي بيده الملك، وله جنود السموات والأرض بخلاف الجبابرة، فإنهم لا كلام لهم إلا في تعظيم أنفسهم وازدراء غيرهم.
قال مقاتل: لما سمعوا قوله تعالى: {حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً} قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا الذي توّعدنا به، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
{قل} أي: لهؤلاء في جوابهم بإتيانهم العذاب وسألوا استهزاء عن وقت وقوعه {إن} أي: ما {أدري} بوجه من الوجوه {أقريب ما توعدون} أي: فيكون الآن أو قريباً من هذا الأوان بحيث يتوقع عن قرب، وقوله {أم يجعل} أي: أم بعيد يجعل {له} أي: لهذا الوعد {ربي} أي: المحسن إليّ إن قدمه أو أخره {أمداً} أي: أجلاً مضروباً فلا يتوقع دون ذلك الأمد فهو في كل حال متوقع، فكونوا على غاية الحذر لأنه لا بدّ من وقوعه لا كلام فيه، وإنما الكلام في تعيين وقته وليس إليّ.
فإن قيل: أليس إنه صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» فكان عالماً بقرب وقوع القيامة فكيف قال ههنا لا أدري أقريب أم بعيد؟ أجيب: بأنّ المراد بقرب وقوعه هو أنّ ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى، فهذا القدر من القرب معلوم، فأمّا معرفة مقدار القرب المرتب وعدم ذلك فغير معلوم.
تنبيه: أقريب خبر مقدّم وما توعدون مبتدأ مؤخر، ويجوز أن يكون قريب مبتدأ لاعتماده على الاستفهام، وما توعدون فاعل به، أي: أقريب الذي توعدون نحو: أقائم أبواك، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بسكونها. وقوله تعالى: {عالم الغيب} بدل من ربي أو بيان أو خبر مبتدأ مضمر، أي: هو عالم الغيب كله وهو ما لم يبرز إلى عالم الشهادة فهو مختص بعلمه سبحانه فلذلك سبب عنه قوله تعالى: {فلا يظهر} أي: بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات. {على غيبه} الذي غيبه عن غيره فهو مختص به {أحداً} لعزة علم الغيب ولأنه خاصة الملك. {إلا من ارتضى} وقوله تعالى: {من رسول} تبيين لمن ارتضى، أي: إلا من يصطفيه لرسالته ونبوّته فيظهره على ما يشاء من الغيب، وتارة يكون ذلك الرسول ملكاً، وتارة يكون بشراً، وتارة يظهره على ذلك بواسطة ملك، وتارة بغير واسطة(4/408)
كموسى عليه السلام في أوقات المناجاة، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج في العالم الأعلى في حضرة قاب قوسين أو أدنى.
وقال القرطبي: المعنى {فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول} فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه لأنّ الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض المغيبات كما ورد في التنزيل في قوله تعالى: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} (آل عمران: 49)
وقال الزمخشري: في هذه الآية إبطال الكرامات لأنّ الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله تعالى الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وفيها إبطال الكهانة والتنجيم لأنّ أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط ا. هـ. وإنكار الكرامات مذهب المعتزلة.
وأمّا مذهب أهل السنة فيثبتونها، فإنه يجوز أن يلهم الله تعالى بعض أوليائه وقوع بعض الوقائع في المستقبل فيخبر به وهو من إطلاع الله إياه على ذلك، ويدل على صحة ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء وإن يكن في أمّتي أحد فإنه عمر» أخرجه البخاري. قال ابن وهب: تفسير محدثون ملهمون ولمسلم عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمّتي منهم أحد، فإنّ عمر بن الخطاب منهم» ففي هذا إثبات كرامات الأولياء.
فإن قيل: لو جازت الكرامة للولي لما تميزت معجزة النبي من غيرها وانسدّ الطريق إلى معرفة الرسول من غيره؟ أجيب: بأنّ معجزة النبي أمرخارق للعادة مع عدم المعارضة مقترن بالتحدّي، ولا يجوز للولي أن يدّعي خرقاً للعادة مع التحدّي إذ لو ادعاه الولي لكفر من ساعته فبان الفرق بين المعجزة والكرامة. وأمّا الكهانة وما ضاهاها فقال القرطبي: إنّ العلماء قالوا لما تمدّح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصا وينظر في الكواكب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه.
قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفي الأحوال والرتب، فيهم الملك والسوقة والعالم والجاهل والغني والفقير والكبير والصغير مع اختلاف طوالعهم وتباين مواليدهم ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة، فإن قال قائل: إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه فيكون على مقتضى ذلك أنّ هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة إذاً في عمل المواليد ولا دلالة فيها على شقي وسعيد ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم، ولقد أحسن القائل:
*حكم المنجم إن طالع مولدي ... يقضي علي بميتة الغرق*
*قل للمنجم صبحة الطوفان هل ... ولد الجميع بكوكب الغرق*
وقيل لعلي رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج: تلقهم والقمر في العقرب، فقال: فأين قمرهم(4/409)
وكان ذلك في آخر السنة. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها وما فيها من المبالغة في الردّ على من يقول بالنجم. وقال له مسافر بن عون: يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة وسر بعد ثلاث ساعات تمضين من النهار. فقال له عليّ: ولم؟ قال له: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظهرت وظفرت وأصبت ما طلبت، فقال عليّ: ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده، ثم قال: فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون اتخذ من دون الله ندّاً أو ضدّاً، اللهمّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك، ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها، ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر إنما المنجم كالكافر، والكافر في النار، والمنجم كالساحر والساحر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم أو تعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في صحيح مسلم ثم قال: «لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال: إنما كان ذلك بتنجيمي، وما لمحمد منجم وما لنا بعده، وقد فتح الله تعالى علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان، ثم قال: يا أيها الناس توكلوا على الله وثقوا به فإنه يكفي عمن سواه» .
{فإنه} أي: الله سبحانه يظهر ذلك الرسول على ما يريد من ذلك الغيب، وذلك أنه إذا أراد إظهاره عليه {يسلك} أي: يدخل إدخال السلك في الجوهرة في تقوّمه ونفوذه من غير أدنى تعويج إلى غير المراد {من بين يديه} أي: الجهة التي يعلمها ذلك الرسول {ومن خلفه} أي: الجهة التي تغيب عن علمه، فصار ذلك كناية عن كل جهة. قال البقاعي: ويمكن أن يكون ذكر الجهتين دلالة على الكل، وخصهما لأنّ العدو متى أعريت واحدة منهما أتى منها، ومتى حفظتا لم يأت من غيرهما لأنه يصير بين الأوّلين والآخرين {رصداً} أي: حرساً من جنوده يحرسونه ويحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع من الملائكة ويحفظونه من الجنّ أن يسمعوا الوحي فيلقوه إلى الكهنة قبل الرسول، فيطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم حتى يبلغ ما يوحى إليه.
وقال مقاتل وغيره: كان الله إذا بعث رسولاً أتاه إبليس في صورة ملك بخبر، فبعث الله تعالى من بين يديه ومن خلفه رصداً من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان فاحذره، وإذا جاءه ملك قالوا له: هذا رسول ربك. وعن الضحاك: ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك.
{ليعلم} أي: الله علم ظهور كقوله تعالى: {حتى نعلم المجاهدين} (محمد: 31)
{أن} مخففة من الثقيلة، أي أنه {قد أبلغوا} أي: الرسل {رسالات ربهم} وحد أوّلاً على اللفظ في قوله تعالى {من بين يديه ومن خلفه} ثم جمع على المعنى كقوله تعالى: {فأنّ له نار جهنم خالدين فيها} (التوبة: 63) ، والمعنى ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان. وقيل: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أن جبريل قد بلغ رسالات ربه. وقيل: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم أنّ الرسل قد بلغوا رسالات ربهم.
{وأحاط بما لديهم} أي: بما عند الرسل من الحكم والشرائع لا يفوته منها شيء ولا ينسى منها حرفاً، فهو مهيمن عليها حافظ لها {وأحصى}(4/410)
أي: الله سبحانه وتعالى {كل شيء} أي: من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحر وغير ذلك {عدداً} ولو على أقل المقادير الذرّ فيما لم يزل وفيما لا يزال فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ وقال ابن جبير رضي الله عنه: ليعلم الرسل أنّ ربهم قد أحاط بما لديهم فيبلغوا رسالاته.
تنبيه: هذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات وبجميع الموجودات.
و {عدداً} يجوز أن يكون تمييزاً منقولاً من المفعول به، والأصل أحصى عدد كل شيء كقوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيوناً} (القمر: 12)
أي: عيون الأرض، وأن يكون منصوباً على الحال، أي: وضبط كل شيء معدوداً محصوراً وأن يكون مصدراً في معنى الإحصاء.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الجنّ كان له بعدد كل جني صدّق محمداً وكذب به عتق رقبة» حديث موضوع.
سورة المزمل
مكية
في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إلا آيتين منها {واصبر على ما يقولون} والتي تليها ذكره الماوردي، وقال الثعلبي: {إن ربك يعلم أنك تقوم} إلى آخر السورة فإنه نزل بالمدينة.
وهي تسع عشرة أو عشرون آية، ومائتان وخمس وثمانون كلمة، وثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفاً.
{بسم الله} الذي من توكل عليه كفاه في جميع الأحوال {الرحمن} الذي عمّ بنعمة الإيجاد المهتدي والضال {الرحيم} الذي خص حزبه بالسداد في الأفعال والأقوال. وقوله تعالى:
{يا أيها المزمّل} أصله: المتزمل فأدغمت التاء في الزاي، يقال: ازمّل يتزمّل تزمّلاً، فإذا أريد الإدغام اجتلبت همزة الوصل، وهذا الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه ثلاثة أقوال: الأول: قال عكرمة: يا أيها المزمّل بالنبوّة والملتزم للرسالة، وعنه: يا أيها الذي ازمل هذا الأمر، أي: حمله ثم فتر. والثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يا أيها المزمّل بالقرآن. والثالث: قال قتادة رضي الله عنه: يا أيها المزمّل بثيابه. قال النخعي: كان متزملاً بقطيفة عائشة بمرط طوله أربعة عشر ذراعاً قالت عائشة رضي الله عنها: «كان نصفه عليّ وأنا نائمة ونصفه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا مرعزى ولا إبريسماً ولا صوفاً كان سداه شعراً ولحمته وبراً» . ذكره الثعلبي، ولحمة الثوب بفتح اللام وضمها والفتح أفصح ولحمة النسب كذلك والضم أفصح ولحمة البازي بالضم لا غير لأنها كاللقمة.
قال القرطبي: وهذا القول من عائشة رضي الله عنها يدل على أنّ السورة مدنية، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يبن بها إلا بالمدينة، والقول بأنها مكية لا يصح. وقال الضحاك: تزمل لمنامه وقيل: بلغه من المشركين قول سوء فيه فاشتدّ عليه فتزمل وتدثر، فنزلت
{يا أيها المزمّل} و {يا أيها المدثر} (المدثر: 1)
وقيل: كان هذا في ابتداء ما أوحي إليه «فإنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه الوحي في غار حراء رجع إلى خديجة رضي الله عنها زوجته يرجف فؤاده، فقال: زملوني زملوني لقد خشيت على نفسي» أي: أن يكون هذا مبادئ شعر أو كهانة، وكل ذلك من الشيطان أو أن يكون الذي ظهر له بالوحي ليس الملك، وكان صلى الله عليه وسلم يبغض الشعر والكهانة غاية البغضة، فقالت له، وكانت وزيرة صدق(4/411)
رضي الله تعالى عنها: كلا والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» . ونحو هذا من الكمال الذي يثبت. وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً في الليل متزملاً في قطيفة، فنبه ونودي بما يهجن تلك الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفته، فقيل له {يا أيها المزمّل} {قم الليل} أي: الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر، فصل لنا في كل ليلة من هذا الجنس، وقف بين يدينا بالمناجاة والأنس بما أنزل عليك من كلامنا، فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البرّ والبحر والسرّ والجهر، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده وهي جامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة وهي عمادها فذكرها دال على ما عداها.
ولما كان للبدن حظ في الراحة قال تعالى مستثنياً من الليل {إلا قليلاً} أي: من كل ليلة، فإن الاشتغال بالنوم فعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن ألا ترى إلى قول ذي الرمة:
*وكائن تخطت ناقتي من مفازة ... ومن نائم عن نيلها متزمل*
يريد الكسلان المتقاعس الذي لا ينهض في معاظم الأمور وكفايات الخطوب ولا يحمل نفسه المشاق والمتاعب ونحوه.
*سهداً إذا ما نام ليل الهوجل*
ومن أمثالهم:
*أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل*
فذمه بالاشتمال بكسائه وجعل ذلك خلاف الجلد والكيس، وأمر بأن يختار على الهجود التجهد، وعلى التزمل التشمر والتخفف للعبادة والمجاهدة في الله لا جرم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تشمر لذلك مع أصحابه حق التشمر وأقبلوا على إحياء ليلهم ورفضوا له الرقاد والدعة، وتجاهدوا فيه حتى انتفخت أقدامهم واصفرّت ألوانهم وظهرت السيما في وجوههم وتراقى أمرهم إلى حدّ رحمهم له ربهم فخفف عنهم، وقال الكلبي: إنما تزمّل صلى الله عليه وسلم بثيابه ليتهيأ للصلاة وهو اختيار الفرّاء فهو على هذا ليس بتهجين بل هو ثناء عليه وتحسين لحاله التي كان عليها وأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه، وعن عكرمة رضي الله عنه أنّ المعنى يا أيها الذي زمل أمراً عظيماً أي حمله، والزمل الحمل.
قال البغوي: قال الحكماء: كان هذا الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم في أوّل الوحي قبل تبليغ الرسالة، ثم خوطب بعد بالنبيّ والرسول، وقال السيهلي: ليس المزمل من أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه بعض الناس، وعدّوه في أسمائه صلى الله عليه وسلم وإنما المزمل اسم مشتق من حاله التي كان عليها حين الخطاب، وكذلك المدّثر.
وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان:
إحداهما: الملاطفة فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ حين غاضب فاطمة رضي الله تعالى عنهما فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب، فقال له: قم أبا تراب» إشعاراً له بأنه غير عاتب عليه وملاطفة له، وكذلك «قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: قم يا نومان» وكان نائماً ملاطفة له وإشعاراً بترك العتب والتأنيب، فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم {يا أيها المزمل قم} فيه تأنيس له وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه.
والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله أن يتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه؛ لأنّ الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من(4/412)
عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة، والليل مدّة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. قال القرطبي: واختلف هل كان قيامه فرضاً أو نفلاً؟ والدلائل تقوّي أنّ قيامه كان فرضاً؛ لأنّ المندوب لا يقع على بعض الليل دون بعض، لأنّ قيامه ليس مخصوصاً بوقت دون وقت.
واختلف هل كان فرضاً على النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده؟ أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء؟ أو عليه وعلى أمته؟ على ثلاثة أقوال: الأوّل قول سعيد بن جبير رضي الله عنه لتوجه الخطاب إليه. الثاني: قول ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قيام الليل فريضة على النبيّ صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله. والثالث: قول عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أيضاً أنه كان فرضاً عليه وعلى أمته لما روى مسلم أنّ هشام بن عامر قال لعائشة رضي الله عنها: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «ألست تقرأ يا أيها المزمل، فقلت: بلى. فقالت: فإنّ الله عز وجل افترض قيام الليل في أوّل هذه السورة، فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله عز وجلّ في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوّعاً بعد فريضة» وقيل: عسر عليهم تمييز القدر الواجب، فقاموا الليل كله، وشق عليهم فنسخ بقوله تعالى آخرها: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} وكان بين الوجوب ونسخه سنة، وقيل: نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد حتى نسخ بالمدينة.
وروى وكيع ويعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {يا أيها المزمل} كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها وكان بين نزول أوّلها وآخرها نحواً من سنة. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: مكث النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل، فنزلت بعد عشر سنين {إنّ ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} فخفف الله تعالى عنهم. وقيل: كان قيام الليل واجباً ثم نسخ بالصلوات الخمس.
والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم بعث يوم الإثنين في رمضان وهو ابن أربعين سنة، وقيل: ثلاث وأربعين وآمنت به خديجة رضي الله عنها ثم بعدها قيل: عليّ رضي الله عنه وهو ابن تسع سنين، وقيل: ابن عشر. وقيل: أبو بكر، وقيل: زيد بن حارثة، ثم أمر بتبليغ قومه بعد ثلاث من مبعثه، فأوّل ما فرض عليه صلى الله عليه وسلم بعد الإنذار والدعاء إلى التوحيد من قيام الليل ما ذكر في أوّل السورة، ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء إلى بيت المقدس بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ليلة سبع وعشرين من رجب، هذا ما ذكره النووي في روضته.
وقال في فتاويه: بعد النبوة بخمس أو ست وجعل الليلة من ربيع الأول وخالفهما في شرح مسلم وجزم بأنها من ربيع الآخر وقلد فيها القاضي عياضاً، والذي عليه الأكثر ما في الروضة واستمرّ يصلي إلى بيت المقدس مدّة إقامته بمكة وبعد الهجرة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر، ثم أمر باستقبال الكعبة، ثم فرض الصوم بعد الهجرة بسنتين تقريباً وفرضت الزكاة بعد الصوم، وقيل: قبله، وفي السنة الثانية قيل: في نصف شعبان. وقيل: في رجب حوّلت القبلة، وفيها فرضت صدقة الفطر، وفيها ابتدأ صلى الله عليه وسلم صلاة عيد الفطر ثم عيد الأضحى، ثم فرض الحج سنة ست وقيل: سنة خمس ولم يحج صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلا حجة(4/413)
الوداع، واعتمر أربعاً وتوفيّ صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة.
فائدة: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم معصومون قبل النبوة من الكفر وفي المعاصي خلاف وبعدها من الكبائر وكذا من الصغائر ولو سهواً عند المحققين.
وقوله تعالى {نصفه} بدل من قليلاً وقلته بالنظر إلى الكل {أو انقص منه} أي: من النصف {قليلاً} أي: الثلث {أو زد عليه} أي: على النصف إلى الثلثين، وأو للتخيير فكان صلى الله عليه وسلم مخيراً بين هذه المقادير الثلاثة، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب وكذا بعض أصحابه، واشتدّ ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم وقد تقدّم أنّ ذلك نسخ بإيجاب الصلوات الخمس، فصار قيام الليل تطوعاً فينبغي للمتعبد المواظبة عليه خصوصاً في الوقت الذي يبارك الله تعالى بالتجلي فيه، فإنه صح أنه ينزل سبحانه عن أن تشبه ذاته شيئاً أو نزوله نزول غيره، بل هو كناية عن فتح باب السماء الذي هو كناية عن وقت استجابة الدعاء حتى يبقى ثلث الليل، وفي رواية حتى يبقى شطر الليل الآخر إلى سماء الدنيا، فيقول سبحانه هل من سائل فأعطيه هل من تائب فأتوب عليه هل من كذا هل من كذا حتى يطلع الفجر.
ولما أمر بالقيام وقدّر وقته وعينه أمر بهيئة التلاوة التي هي روح الصلاة على وجه عامّ، فقال تعالى: {ورتل القرآن} أي: اقرأه على ترسل وتؤدة وتبيين حروفه وإشباع حركاته بحيث يتمكن السامع من عدّها ويجيء المتلو منه شبيهاً بالثغر المرتل وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان وأن لا يهذه هذاً ولا يسرده سرداً، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شرّ السير الحقحقة، وشرّ القراءة الهذرمة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ولا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذّ الشعر ولكن قفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.
وقوله تعالى: {ترتيلاً} تأكيد في الأمر به وأنه لا بدّ منه للقارئ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: اقرأ على هينتك ثلاث آيات أو أربعاً أو خمساً، وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قام حتى أصبح بآية» والآية {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة: 118)
وسئلت عائشة رضي الله عنها عن قراءته صلى الله عليه وسلم فقالت: «لا كسردكم هذا لو أراد السامع أن يعد حروفها لعدها» . وسئل أنس رضي الله عنه كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت مدًّا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدّ بسم الله ويمدّ الرحمن ويمدّ الرحيم» . وجاء رجل إلى ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذاً كهذ الشعر، لقد عرفت النظائر التي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرن بينهنّ فذكر عشرين سورة من المفصل كل سورتين في ركعة.
وروى الحسن رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «مرّ برجل يقرأ آية ويبكي فقال ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجلّ: {ورتل القرآن ترتيلاً} هذا الترتيل» . وروى أبو داود عن عبد الرحمن بن عوف قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة، فيوقف في أوّل درج الجنة، ويقال له اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها» . وندب إصغاء إليه وبكاء عند القراءة وتحسين صوت بها وتعوذ بها جهراً وإعادته لفصل طويل وجلوس لها واستقبال وتدبر وتخشع. وكرهت(4/414)
بفم نجس. وجازت بحمام. وهي نظراً في المصحف أفضل منها على ظهر قلب، نعم إن زاد خشوعه وحضور قلبه في القراءة عن ظهر قلب فهي أفضل في حقه. وهي أفضل من ذكر لم يخص بمحل، وحرم توسد مصحف. وندب كتبه وإيضاحه ونقطة وشكله، ويحرم كتبه بنجس ومسه بنجس غير معفوّ عنه، وتحرم القراءة بالشواذ وهي ما نقل آحاداً وبعكس الآي وكره العكس في السور إلا في تعليم.
وندب ختم القرآن أوّل نهار وأوّل ليل وختمه في الصلاة أفضل من ختمه خارجها، وندب صيام يوم الختم إلا أن يصادف يوماً نهى الشرع عن صيامه، وندب الدعاء بعده وحضوره. والشروع بعده في ختمة أخرى. وندب كثرة تلاوته. ونسيانه كبيرة وكذا نسيان شيء منه ويحرم تفسيره بلا علم.
{إنا} أي: بما لنا من العظمة {سنلقي} أي: بوعد لا خلف فيه {عليك قولاً} أي: قرآناً، واختلف في معنى قوله تعالى {ثقيلاً} فقال قتادة رضي الله عنه: ثقيل والله فرائضه وحدوده. وقال مجاهد رضي الله عنه: حلاله وحرامه. وقال محمد بن كعب رضي الله عنه: ثقيلاً على المنافقين لأنه يهتك أسرارهم ويبطل أديانهم. وقيل: على الكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم والبيان لضلالهم وسب آلهتهم.
قال السدّي رضي الله عنه: ثقيلاً بمعنى كريم مأخوذ من قولهم: فلان ثقل عليّ، أي: كرم عليّ. وقال الفراء: ثقيلاً، أي رزيناً. وقال الحسن بن الفضل: ثقيلاً أي لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد. وقال ابن زيد: هو والله ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا ثقل في الميزان يوم القيامة. وقيل: ثقيل أي ثابت كثبوت الثقيل في محله. ومعناه: إنه ثابت الإعجاز لا يزول إعجازه أبداً.
وقيل: {ثقيلاً} بمعنى: أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه بالكلية فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته، والفقهاء بحثوا في أحكامه، وكذا أهل اللغة والنحو وأرباب المعاني، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه بفوائد ما وصل إليها المتقدّمون، فعلمنا أنّ الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله، فصار كالجبل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله.
والأولى أن تحمل هذه المعاني كلها فيه. وقيل: المراد هو الوحي كما جاء في الخبر «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها أي: صدرها على الأرض فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرّى عنه» . وعن الحارث بن هشام أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أحياناً يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهذا أشدّ عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصد عرقاً، أي: يجري عرقه كما يجري الدم من الفاصد. وقوله فينفصم عني أي: ينفصل عني ويفارقني، وقد وعيت أي: حفظت ما قال. وقال القشيري: القول الثقيل هو قول لا إله إلا الله لأنه ورد في الخبر: «لا إله إلا الله خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان» . وقال الزمخشري: هذه الآية اعتراض ثم قال: وأراد بهذا الاعتراض أنّ ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن لأنّ الليل وقت السبات والراحة والهدوء، فلا بدّ لمن أحياه من مضارّة لطبعه ومجاهدة لنفسه ا. هـ. فالاعتراض من حيث المعنى لا من حيث الصناعة، وذلك أنّ قوله تعالى:
{إنّ ناشئة الليل} أي: القيام بعد النوم {هي أشدّ وطأ} أي: موافقة(4/415)
السمع للقلب على تفهم القرآن هي أشدّ مطابق لقوله: {قم الليل} فكأنه شابه الاعتراض من حيث دخوله بين هذين المناسبين، والمعنى: سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولاً ثقيلاً يثقل حمله؛ لأنّ الليل للمنام، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل مشقة شديدة على النفس ومجاهدة الشيطان، فهو أمر ثقيل على العبد.
ولما كان التهجد يجمع القول والفعل وبين ما في الفعل لأنه أشق فكان بتقديم الترغيب بالمدحة أحق أتبعه القول فقال: {وأقوم قيلاً} أي: وأعظم سداداً من جهة القيل في فهمه ووقعه في القلوب لحضور القلب، لأنّ الأصوات هادية والدنيا ساكتة فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه، وقال قتادة ومجاهد رضي الله عنهم: أصوب للقراءة وأثبت للقول لأنه زمان التفهم لرياقة الليل بهدوء الأصوات وتجلي الرب سبحانه بحصول البركات وأخلص من الرياء، فبين الله تعالى بهذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار وأنّ الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن أعظم للأجر وأجلب للثواب.
كان عليّ بن الحسين رضي الله عنه يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: هو ناشئة الليل. وقال عطاء وعكرمة رضي الله عنهم: هو بدء الليل. وقال في الصحاح: ناشئة الليل أوّل ساعاته، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: هي الليل كله لأنه ينشأ بعد النهار وهو اختيار مالك، قال ابن عربي: وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة، وقالت عائشة وابن عباس أيضاً ومجاهد رضي الله عنهم: إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم ومن قام قبل النوم فما قام ناشئة. وقال يمان بن كيسان: هو القيام من آخر الليل.
وأما قوله تعالى: {أشدّ وطأ} أي: أثقل على المصلي من ساعات النهار، لأنّ الليل وقت منام وراحة فإذا قام إلى صلاة الليل فقد تحمل المشقة العظيمة، هذا على قراءة كسر الواو وفتح الطاء، وبعدها ألف ممدودة وهمزة منوّنة، وهي قراءة أبي عمرو وابن عامر، وقرأ الباقون بفتح الواو وسكون الطاء وبعدها همزة منونة فهي مصدر وطأت وطأ ومواطأة أي: وافقت على الأمر من الوفاق تقول: فلان يواطئ اسمه اسمي، أي: يوافقه، فالمعنى أشدّ موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان لانقطاع الأصوات والحركات قاله مجاهد وغيره قال تعالى: {ليواطئوا عدّة ما حرّم الله} (التوبة: 37)
أي: ليوافقوا ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر» وقيل: أشدّ مهاداً للتصرّف في الفكر والتدبر. وقيل: أشدّ ثباتاً من النهار، فإنّ الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله، فيكون ذلك أثبت للعمل، والوطء الثبات تقول: وطأت الأرض بقدمي وفي الجملة عبادة الليل أشدّ نشاطاً وأتم إخلاصاً وأكثر بركة وأبلغ في الثواب.
{إنّ لك} أي: أيها المتهجد أو يا أكرم الخلق إن كان الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم {في النهار} الذي هو محل السعي في مصالح الدنيا {سبحاً طويلاً} أي: تصرّفاً وتقلباً وإقبالاً وإدباراً في حوائجك وأشغالك، والسبح: مصدر سبح استعير للتصرف في الحوائج من السباحة في الماء وهي البعد فيه. وقال القرطبي: السبح الجري والدوران. ومنه السباحة في الماء لتقلبه بيديه ورجليه، وفرس سابح شديد الجري. وقيل: السبح الفراغ، أي: إنّ لك فراغاً لحاجات النهار. وعن ابن عباس رضي الله عنهما {سبحاً طويلاً} يعني فراغاً طويلاً لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك. وقيل: إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه.
{واذكر اسم ربك}(4/416)
أي: المحسن إليك والموجد والمدبر لك بكل ما يكون ذكراً من اسم وصفة وثناء وخضوع وتسبيح وتحميد وصلاة وقراءة ودعاء وإقبال على علم شرعي وأدب مرعي، ودُم على ذلك في ليلك ونهارك واحرص عليه، فإذا عظمت الاسم بالذكر فقد عظمت المسمى بالتوحيد والإخلاص، وذلك عون لك على مصالح الدارين، أما الآخرة فواضح وأما الدنيا فقد أرشد النبيّ صلى الله عليه وسلم أعز الخلق عليه فاطمة ابنته رضي الله تعالى عنها لما سألته خادماً يقيها التعب إلى التسبيح والتحميد والتكبير عند النوم.
{وتبتل} أي: اجتهد في قطع نفسك عن كل شاغل والإخلاص في جميع أعمالها بالتدريج قليلاً قليلاً منتهياً {إليه} ولا تزل على ذلك حتى يصير ذلك لك خلقاً فتكون نفسك كأنها منقطعة بغير قاطع.
وقوله تعالى: {تبتيلاً} مصدر تبتل جيء به رعاية للفواصل وهو ملزوم التبتيل، قال الزمخشري: فإن قلت كيف قيل تبتيلاً؟ مكان تبتلاً قلت: لأنّ معنى تبتل بتل نفسه فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل ا. هـ.
والتبتيل الانقطاع ومنه امرأة بتول، أي: منقطعة عن النكاح، وفي الحديث أنه نهى عن التبتل وقال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ـ أي: مؤن النكاح ـ فليتزوج» والمراد به في الآية الكريمة الانقطاع إلى عبادة الله تعالى كما مرّت الإشارة إليه دون ترك النكاح. والتبتل في الأصل: الانقطاع عن الناس والجماعات، وقيل: إن أصله عند العرب التفرّد قاله ابن عرفة، وقال ابن العربي: هذا فيما مضى، وأما اليوم فقد مرجت عهود الناس، وخفت أماناتهم واستولى الحرام على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعزبة أفضل من التأهل، ولكن معنى الآية: وانقطع عن الأوثان والأصنام وعن عبادة غير الله تعالى. وكذلك قال مجاهد رضي الله عنه: معناه أخلص له العبادة ولم يرد التبتيل، فصار التبتل مأموراً به في القرآن منهياً عنه في السنة ومتعلق الأمر غير متعلق النهي فلا يتناقضان، وإنما بعث لتبيين ما أنزل إليهم، فالتبتل المأمور به الانقطاع إلى الله تعالى بإخلاص العبادة كما قال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (البينة: 5)
والتبتل المنهي عنه هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والترهب في الصوامع، لكن عند فساد الزمان يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواضع القطر يفرّ بدينه من الفتن.
ولما كان الواجب على كل أحد شكر المنعم بين سبحانه الذي أنعم بسكن الليل الذي أمرنا بالتهجد فيه ومنتشر النهار الذي أمر بالسبح فيه، فقال تعالى: {رب المشرق} أي: موجد محل الأنوار التي بها ينمحي هذا الليل الذي أنت قائم فيه، ويضيء بها الصباح، وعند الصباح يحمد القوم السرى، قال العلامة تقي الدين بن دقيق العيد:
*كم ليلة فيك وصلنا السرى ... لا نعرف الغمض ولا نستريح*
*واختلف الأصحاب ماذا الذي ... يزيل من شكواهم أو يريح*
*فقيل تعريسهم ساعة ... وقلت بل ذكراك وهو الصحيح*
{والمغرب} أي: الذي يكون عند الليل الذي هو موضع السكون ومحل الخلوات ولذيذ المناجاة، فلا تغرب شمس ولاقمر ولا نجم إلا بتقديره {لاإله} أي: لا معبود بحق {إلا هو} أي: ربك الذي دلت تربيته لك على مجامع العظمة وأبهى صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص، وقرأ {رب}(4/417)
ابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الباء على البدل من ربك، وعن ابن عباس رضي الله عنهما على القسم بإضمار حرف القسم، كقولك: الله لأفعلن، وجوابه: لاإله إلا هو، كما تقول: لا أحد في الدار إلا زيد، والباقون برفعها على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره لا إله إلا هو {فاتخذه} أي: خذه بجميع جهدك وذلك بإفرادك إياه بكونه {وكيلاً} أي على كل من خالفك بأن تفوض جميع أمورك إليه، فإنه يكفيكها كلها، فإنه المنفرد بالقدرة عليها، ولاشيء في يد غيره فلا تهتم بشيء أصلاً.
قال البقاعي: وليس ذلك بأن يترك الإنسان كل عمل، فإن ذلك طمع فارغ، بل بالإجمال في طلب كل ما ندب الإنسان إلى طلبه ليكون متوكلاً في السبب لا من دون سبب، فإنه يكون حينئذ كمن يطلب الولد من غير زوجة وهو مخالف لحكمة هذه الدار المبنية على الأسباب، ولو لم يكن في إفراده بالوكالة إلا أنه يفارق الوكلاء بالعظمة والشرف والرفق من جميع الوجوه، فإن وكيلك من الناس دونك وأنت تتوقع أن يكلمك كثيراً في مصالحك وربك أعظم العظماء وهو يأمرك بأن تكلمه كثيراً في مصالحك وتسأله طويلاً، ووكيلك من الناس إذا حصل مالك سألك الأجرة وهو سبحانه يوفر مالك ويعطيك الأجر، ووكيلك من الناس ينفق عليك من مالك وهو سبحانه يرزقك وينفق عليك من ماله.
ومن تمسك بهذه الآية عاش حرًّا كريماً ومات خالصاً شريفاً ولقي الله تعالى عبداً صافياً مختاراً تقياً، ومن شرط الموحد أن يتوجه إلى الواحد ويقبل عليه ويبذل له نفسه ويفوّض إليه أمره ويترك التدبير ويثق به ويركن إليه ويتذلل لربوبيته ويتواضع لعظمته.
{واصبر على ما يقولون} أي: المخالفون المفهومون من الوكالة من الأذى والسب والاستهزاء، ولا تجزع من قولهم ولا تمتنع من دعواهم وفوّض أمرهم إليّ، فإني إذا كنت وكيلاً لك أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بأمور نفسك {واهجرهم} أي: أعرض عنهم {هجراً جميلاً} أي: لا تتعرّض لهم ولا تشتغل بمكافأتهم، فإنّ ذلك ترك للدعاء إلى الله تعالى، وكان هذا قبل الأمر بالقتال، فإنه صلى الله عليه وسلم منع في أوّل الإسلام من قتال الكفار وأمر هو وأصحابه بالصبر على أذاهم بقوله تعالى: {لتبلونّ في أموالكم} (آل عمران: 186)
الآية، ثم أمر به إذا ابتدؤوا بقوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} (البقرة: 190)
ثم أبيح له ابتداؤه في غير الأشهر الحرم، ثم أمر به مطلقاً من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} (البقرة: 191)
{وذرني} أي: اتركني {والمكذبين} أي: لا تحتاج إلى الظفر بمرادك ومشتهاك إلا أن تخلي بيني وبينهم بأن تكل أمرهم إليّ وتستكفينيه، فإن فيّ ما يفرغ بالك، ويجلي همك وليس ثمّ منع حتى تطلب إليه أن تذره وإياه إلا ترك الاستكفاء والتفويض، كأنه إذا لم يكل إليه أمره فكأنه منعه منه فإذا وكله إليه فقد أزال المنع وتركه وإياه وفيه دليل على الوثوق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما تدور حوله أمنية المخاطب وبما يزيد عليه.
واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال مقاتل: نزلت في المطعمين يوم بدر، وهم عشرة فلم يكن إلا يسيراً حتى قتلوا ببدر. وقال يحيى بن سلام: إنهم بنو المغيرة. وقال سعيد بن جبير: أخبرت أنهم اثنا عشر رجلاً، وقال البغوي: نزلت في صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين.
وقوله تعالى: {أولي النعمة}(4/418)
نعت للمكذبين أي أصحاب التنعم والترفه.
فائدة: النعمة بالفتح التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرّة.
{ومهلهم} أي: اتركهم برفق وتأنّ وتدريج ولا تهتم بشأنهم. وقوله تعالى: {قليلاً} نعت لمصدر، أي: تمهيلاً قليلاً أو لظرف زمان محذوف أي زماناً قليلاً فقتلوا بعد يسير ببدر.
وقوله تعالى: {إنّ لدينا أنكالاً} جمع نكل بالكسر وهو القيد الثقيل الذي لا ينفك أبداً وقال الكلبي: أغلالاً من حديد {وجحيماً} أي: ناراً حامية جدًّا شديدة الاتقاد مما كانوا يتقيدون به من تبريد الشراب والتنعم برقيق اللباس وتكلف أنواع الراحة.
{وطعاماً ذا غصة} أي: يغص به في الحلق وهو الزقوم أو الضريع أو الغسلين أو الشوك من نار لا يخرج ولا ينزل {وعذاباً أليماً} أي: مؤلماً. ومعنى الآية: أنّ لدينا في الآخرة ما يضادّ تنعمهم في الدنيا وهي هذه الأمور الأربعة: النكال والجحيم والطعام الذي يغص به والعذاب الأليم، والمراد به سائر أنواع العذاب، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق.
وعن الحسن أنه أمسى صائماً فأتي بطعام فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعه ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال: ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة فأخبر ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فجاؤوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق.
وقوله تعالى: {يوم ترجف} منصوب بالاستقرار المتعلق به لدينا والرجفة الزلزلة والزعزعة الشديدة فتزلزل {الأرض} أي: كلها {والجبال} أي: التي هي أشدّها {وكانت} أي: وتكون {الجبال} التي هي مراسي الأرض وأوتادها وعبر عن شدّة الاختلاط والتلاشي بالتوحيد، فقال تعالى: {كثيباً} أي: رملاً مجتمعاً، من كثب الشيء إذا جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول في أصله، ومنه الكثبة من اللبن {مهيلاً} قال ابن عباس: رملاً سائلاً يتناثر. وقال الكلبي: هو الذي إذا أخذت منه شيئاً تبعك ما بعده. قال القرطبي: وأصله مهيول وهو مفعول من قولك هلت عليه التراب أهيله إهالة وهيلاً إذا صببته، يقال: مهيل ومهيول، ومكيل ومكيول ومعين ومعيون. قال الشاعر:
*قد كان قومك يحسبونك سيداً ... وأخال أنك سيد معيون*
وقال عليه الصلاة والسلام حين شكوا إليه الجدوبة: «أتكيلون أم تهيلون» ؟ قالوا: نهيل. قال: «كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه» .
وأصل مهيل مهيول استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الهاء فالتقى ساكنان، فسيبويه وأتباعه حذفوا الواو، وكانت أولى بالحذف لأنها زائدة، وإن كانت القاعدة أنّ ما يحذف لالتقاء الساكنين الأوّل، ثم كسروا الهاء لتصح الياء، ووزنه حينئذ مفعل، والكسائي ومن تبعه حذفوا الياء لأنّ القاعدة حذف الأوّل كما مرّ.
ولما خوّف تعالى المكذبين أولي النعمة بأهوال يوم القيامة خوّفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا فقال تعالى: {إنا} أي: بما لنا من العظمة {أرسلنا إليكم} يا أهل مكة شرفاً لكم خاصة وإلى كل من بلغته الدعوة عامّة {رسولاً} أي: عظيماً جدًّا، وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمامهم وأجلهم وأفضلهم قدراً {شاهداً عليكم} أي: بما تصنعون ليؤدّي الشهادة عند طلبها منه يوم ننزع من كل أمّة شهيداً وهو يوم القيامة {كما أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {إلى فرعون} أي: ملك مصر(4/419)
{رسولاً} وهو موسى عليه الصلاة والسلام، وهذا تهديد لأهل مكة بالأخذ الوبيل. قال مقاتل: وإنما ذكر موسى وفرعون دون سائر الرسل لأنّ أهل مكة ازدروا محمداً صلى الله عليه وسلم واستخفوا به لأنه ولد فيهم، كما أنّ فرعون ازدرى بموسى عليه السلام لأنه رباه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى حكاية عن فرعون: {ألم نربك فينا وليداً} (الشعراء: 18)
وذكر الرازي السؤال والجواب. قال ابن عادل: وهو ليس بالقوي لأنّ إبراهيم عليه السلام ولد ونشأ فيما بين قوم نمروذ وكان آزر وزير نمروذ على ما ذكره المفسرون، وكذا القول في هود ونوح وصالح ولوط لقوله تعالى في قصة كل واحد منهم لفظة {أخاهم} لأنه من القبيلة التي بعث إليها انتهى. وقد يقال: الجامع بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام التربية، فإنّ أبا طالب تربى عنده النبيّ صلى الله عليه وسلم وموسى عليه السلام تربى عند فرعون ولم يكن ذلك لغيرهما.
{فعصى فرعون الرسول} إنما عرفه لتقدم ذكره، وهذه أل العهدية والعرب إذا قدمت اسماً ثم أتوا به ثانياً أتوا به معرفاً بأل أو أتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره نحو: رأيت رجلاً فأكرمت الرجل أو فأكرمته، ولو قلت فأكرمت رجلاً لتوهم أنه غير الأوّل. وقال المهدوي: ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدّم ذكره ولذا اختير في أوّل الكتب سلام عليكم وفي آخرها السلام عليكم.
ثم تسبب عن عصيانه قوله تعالى: {فأخذناه} أي: فرعون بما لنا من العظمة، وبين أنه أخذ قهر وغضب بقوله تعالى: {أخذاً وبيلاً} أي: ثقيلاً شديداً، وضرب وبيل وعذاب وبيل، أي: شديد قاله ابن عباس ومجاهد، ومنه مطر وابل، أي: شديد قاله الأخفش. وقال الزجاج: أي: ثقيلاً غليظاً ومنه قيل للمطر وابل، وقيل: مهلكاً. والمعنى: عاقبناه عقوبة غليظة، وفي ذلك تخويف لأهل مكة.
ثم خوّفهم بيوم القيامة فقال تعالى: {فكيف تتقون إن كفرتم} أي: توجدون الوقاية التي تقي أنفسكم إذا كفرتم في الدنيا، والمعنى: لا سبيل لكم إلى التقوى إذا رأيتم القيامة. وقيل: معناه: فكيف تتقون العذاب يوم القيامة إذا كفرتم في الدنيا. وقوله تعالى: {يوماً} مفعول تتقون أي: عذابه أي: بأي حصن تتحصنون من عذاب الله يوم {يجعل الولدان} وقوله تعالى {شيباً} جمع أشيب، والأصل في الشين الضم وكسرت لمجانسة الياء، ويقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال، وهو مجاز، ويجوز أن يراد في الآية الحقيقة والمعنى: يصيرون شيوخاً شمطاً من هول ذلك اليوم وشدّته وذلك حين يقال لآدم عليه السلام قم: فابعث بعث النار من ذريتك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك ـ وفي رواية والخير بين يديك ـ فينادى بصوت إنّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يا رب وما بعث النار. قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد {وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد} (الحج: 2)
فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، قالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أبشروا، فإنّ من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد، ثم قال: أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وفي رواية كالرقة في ذراع الحمار ـ وهي بفتح الراء وسكون القاف الأثر(4/420)
الذي في بطن عضد الحمار ـ وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبر القوم، ثم قال: فثلث أهل الجنة فكبروا، ثم قال: شطر أهل الجنة فكبروا» وفي هذا إشارة إلى الاعتناء بهم لأنّ إعطاء الإنسان مرّة بعد مرّة دليل على الاعتناء به ودوام ملاحظته، وفي هذا أيضاً حملهم على تجديد شكر الله تعالى وحمده على إنعامه عليهم وهو تكبيرهم لهذه البشارة العظيمة.
ثم وصف هول ذلك اليوم بقوله تعالى: {السماء منفطر} أي: ذات انفطار أي: انشقاق {به} أي: بسبب ذلك اليوم لشدّته فالباء سببية، وجوّز الزمخشري أن تكون للاستعانة فإنه قال: والباء في به مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به. وقال القرطبي: معنى به أي: فيه أي: في ذلك اليوم. وقيل: به أي: بالأمر أي: السماء منفطر بما يجعل الولدان شيباً، وقيل: منفطر بالله أي: بأمره.
تنبيه: إنما لم تؤنث الصفة لوجوه، منها: قال أبو عمرو بن العلاء: لأنها بمعنى السقف تقول هذا سماء البيت قال تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً} (الأنبياء: 32)
. ومنها أنها على النسبة أي: ذات انفطار، نحو امرأة مرضع وحائض أي: ذات إرضاع وذات حيض. ومنها أنها تذكر وتؤنث أنشد الفراء:
*فلو رفع السماء إليه قوماً ... لحقنا بالسماء وبالسحاب
ومنها: أنه اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء فيقال: سماءة واسم الجنس يذكر ويؤنث ولهذا قال أبو علي الفارسي: هو كقوله تعالى {منتشر} (القمر: 7)
و {أعجاز نخل منعقر} (القمر: 20)
يعني: فجاء على أحد الجائزين، أو لأنّ تأنيثها ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز تذكيره. قال الشاعر:
*................... والمها ... بالإثمد الحبرى مكحول*
والضمير في قوله تعالى: {كان وعده مفعولاً} يجوز أن يكون لله وإن لم يجر له ذكر للعلم به فيكون المصدر مضافاً لفاعله، ويجوز أن يكون لليوم فيكون مضافاً لمفعوله والفاعل وهو الله تعالى مقدّر. قال المفسرون: كان وعده بالقيامة والحساب والجزاء مفعولاً كائناً لا شك فيه ولا خلف. وقال مقاتل: كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله.
{إن هذه} أي: الآيات الناطقة بالوعيد الشديد أو السورة {تذكرة} أي: تذكير عظيم هو أهل لأن يتعظ به، ويعتبر به المعتبر ولاسيما ما ذكر فيها لأهل الكفر من العذاب.
ولما كان سبحانه قد جعل للإنسان عقلاً يدرك به الحسن والقبيح واختياراً يتمكن به من اتباع ما يريد فلم يبق له مانع من جهة اختيار الأصلح والأحسن إلا قهر المشيئة التي لا اطلاع له عليها ولا حيلة له فيها سبب عن ذلك قوله تعالى: {فمن شاء اتخذ} أي: بغاية جهده {إلى ربه} أي: المحسن إليه خاصة لا إلى غيره {سبيلاً} أي: طريقاً إلى رضاه ورحمته فليرغب فقد أمكن له؛ لأنه أظهر له الحجج والدلائل. قيل: نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى: {فمن شاء ذكره} (المدثر: 55)
قال الثعلبي: والأشبه أنه غير منسوخ.
{إنّ ربك} أي: المدبر لأمرك على ما يكون إحساناً إليك ورفقاً بك {يعلم أنك تقوم} أي: في الصلاة كما أمرت به أوّل السورة {أدنى} أي: زماناً أقل والأدنى مشترك بين الأقرب والأدون الأنزل رتبة؛ لأنّ كلاً منهما يلزم عنه قلة المسافة. {من ثلثي الليل} وقرأ {ونصفه وثلثه} ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بنصب الفاء بعد الصاد ونصب المثلثة بعد اللام ورفع الهاء فيهما عطف على أدنى والباقون بكسر الفاء والمثلثة وكسر الهاء فيهما عطف على ضمير تقوم وقيامه كذلك مطابق لما وقع التخيير فيه أوّل السورة من قيام النصف(4/421)
بتمامه، أو الناقص منه وهو الثلث، أو الزائد عليه وهو الثلثان، أو الأقل من الأقل من النصف وهو الربع.
وقوله تعالى: {وطائفة من الذين معك} عطف على ضمير تقوم، وجاز من غير تأكيد للفصل وقيام طائفة من أصحابه كذلك للتأسي به، ومنهم من كان لا يدري كم يصلي من الليل وكم بقي منه، فكان يقوم الليل كله احتياطاً فقاموا حتى انتفخت أقدامهم سنة وأكثر، فخفف عنهم بقوله تعالى: {والله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يقدّر} أي: تقديراً عظيماً هو في غاية التحرير {الليل والنهار} أي: هو العالم بمقادير الليل والنهار، فيعلم القدر الذي تقومون من الليل والذي تنامون منه.
{علم أن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي: أنه {لن تحصوه} أي: الليل لتقوموا فيما يجب القيام فيه إلا بقيام جميعه، وذلك يشق عليكم {فتاب عليكم} أي: رجع بكم إلى التخفيف بالترخص لكم في ترك القيام المقدّر أوّل السورة.
وقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر} أي: سهل {من القرآن} فيه قولان:
أحدهما أن المراد بهذه القراءة القراءة في الصلاة، وذلك أنّ القراءة أحد أجزاء الصلاة فأطلق اسم الجزء على الكل، والمعنى: فصلوا ما تيسر عليكم، قال الحسن: يعني في صلاة المغرب والعشاء. قال قيس بن أبي حازم: صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أوّل ركعة بالحمد وأوّل آية من البقرة ثم ركع، ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة ثم ركع، فلما انصرف أقبل علينا، فقال: إنّ الله تعالى يقول: {فاقرؤوا ما تيسر منه} .
قال القشيري: والمشهور أنّ نسخ قيام الليل كان في حق الأمة، وبقيت الفريضة في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: بل نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلاً، وإذا ثبت أنّ القيام ليس فرضاً فقوله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} معناه: اقرؤوا إن تيسر عليكم ذلك وصلوا إن شئتم.
والقول الثاني: أنّ المراد بقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} دراسته وتحصيل حفظه وأن لا يعرض للنسيان سواء كان في صلاة أم غيرها، قال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد: خمسين آية. قال القرطبي: قول كعب أصح لقوله صلى الله عليه وسلم «من قام بعشر آيات من القرآن لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» خرجه أبو داود والطيالسي. وروى أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ خمسين آية في يوم أو في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية لم يحاجه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر» فقوله من المقنطرين أي: أعطي قنطاراً من الأجر. وجاء في الحديث «أنه ألف ومائتا أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض» .
وقال أبو عبيدة: القناطير واحدها قنطار، ولا تجد العرب تعرف وزنه ولا واحد للقنطار من لفظه. وقال ثعلب: المعوّل عليه عند العرب أنه أربعة آلاف دينار، فإذا قالوا: قناطير مقنطرة، فهي اثنا عشر ألف دينار. وقيل: إنّ القنطار ملء جلد ثور ذهباً. وقيل: ثمانون ألفاً. وقيل: هو جملة كثيرة مجهولة من المال نقله ابن الأثير. قال القرطبي: والقول الثاني أصح حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ والقول الأوّل مجاز؛ لأنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله، وإذا كان ذلك على قيام لا في(4/422)
قدر القراءة فلا دليل فيه على أنّ الفاتحة لا تتعين في الصلاة، بل هي متعينة في كل ركعة لخبر الصحيحين: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» ولخبر «لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما، ولفعله صلى الله عليه وسلم كما في مسلم مع خبر البخاري «صلوا كما رأيتموني أصلي» ويحمل قوله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر منه} مع خبر «ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن» على الفاتحة أو على العاجز عنها جمعاً بين الأدلة.
ولما كان هذا نسخاً لما كان واجباً من قيام الليل أوّل السورة لعلمه سبحانه بعدم إحصائه فسر ذلك العلم المجمل بعلم مفصل بياناً لحكمة أخرى للنسخ، فقال تعالى: {علم أن} مخففة من الثقيلة أي: أنه {سيكون} أي: بتقدير لا بدّ منه {منكم مرضى} جمع مريض وهذه السورة من أوّل ما نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم ففي ذلك إشارة بأنّ أهل الإسلام يكثرون جدًّا {وآخرون} غير المرضى {يضربون} أي: يوقعون الضرب {في الأرض} أي: يسافرون لأنّ الماشي يجد ويضرب برجله في الأرض {يبتغون} أي: يطلبون طلباً شديداً {من فضل الله} أي: بعض ما أوجده الملك الأعظم لعباده بالتجارة وغيرها {وآخرون} أي: منكم أيها المسلمون {يقاتلون} أي: يطلبون ويوقعون قتل أعداء الله تعالى، ولذلك بينه بقوله تعالى {في سبيل الله} أي: الملك الأعظم، وكل من الفرق الثلاث يشق عليهم ما ذكر في قيام الليل، وسوّى سبحانه في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين للمال الحلال لنفقته على نفسه وعياله والإحسان فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله، قال صلى الله عليه وسلم «ما من جالب يجلب طعاماً من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله} .
وقال ابن مسعود: أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء وقرأ {وآخرون} الآية. وقال ابن عمر: ما خلق الله تعالى موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إليّ من الموت بين شعبتي رجل ابتغى من فضل الله ضارباً في الأرض، وقال طاووس: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وأعاد قوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر منه} أي: من القرآن للتأكيد.
{وأقيموا الصلاة} أي: المكتوبة وهي خمس بجميع الأمور التي تقوم بها من أركانها وشروطها وأبعاضها وهيئاتها {وآتوا الزكاة} أي: زكاة أموالكم. وقال عكرمة وقتادة: صدقة الفطر لأنّ زكاة الأموال وجبت بعد ذلك. وقيل: صدقة التطوع. وقيل: كل فعل خير وقال ابن عباس: طاعة الله تعالى والإخلاص.
{وأقرضوا الله} أي: الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال التي منها الغنى المطلق من أبدانكم وأموالكم في أوقات صحتكم ويساركم {قرضاً حسناً} من نوافل الخيرات كلها برغبة تامّة وعلى هيئة جميلة في ابتدائه وانتهائه. وقال زيد بن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل. وقيل: صلة الرحم وقرى الضيف. وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله.
{وما تقدّموا لأنفسكم} أي: خاصة سلفاً لأجل ما بعد الموت حيث لا تقدرون على الأعمال {من خير} أي(4/423)
خير كان من عبادات البدن والمال {تجدوه} أي: محفوظاً لكم {عند الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {هو} أي: لا غيره {خيراً} أي: لكم وجاز ضمير الفصل بين غير معرفتين؛ لأن أفعل منه كالمعرفة ولذلك يمتنع دخول أداة التعريف عليها. والمعنى: هو خير من الذي تدخرونه إلى الوصية عند الموت، قاله ابن عباس. وقال الزجاج: خيراً لكم من متاع الدنيا. وروى البغوي بسنده عن عبد الله أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وراثه.
قال: اعلموا ما تقولون قالوا: ما نعلم إلا ذاك يا رسول الله. قال: إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر» .
{وأعظم أجراً} قال أبو هريرة: يعني الجنة ويحتمل أن يكون أعظم أجراً لإعطائه بالجنة أجراً.
ولما كان الإنسان إذا عمل ما يمدح عليه ولا سيما إذا كان المادح له ربه ربما أدركه الإعجاب بين له أنه لا يقدر بوجه على أن يقدر الله تعالى حق قدره فلا يزال مقصراً فلا يسعه إلا العفو، فقال عز من قائل: {واستغفروا الله} أي: اطلبوا وأوجدوا ستر الملك الأعظم الذي لا تحيطون بمعرفته، فكيف بأداء حق خدمته لتقصيركم عيناً وأثراً بفعل ما يرضيه واجتناب ما يسخطه.
{إنّ الله} أي: الملك الأعظم {غفور} أي: بالغ الستر لأعيان الذنوب وآثارها حتى لا يكون عنها عقاب ولا عتاب {رحيم} أي: بالغ الإكرام بعد الستر إفضالاً وإحساناً وتشريفاً وامتناناً.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة المزمّل دفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة» حديث موضوع.
سورة المدثر
مكية
وهي خمس أو ست وخمسون آية، ومائتان وخمس وخمسون كلمة، وألف وعشرة أحرف
{بسم الله} الملك الواحد القهار {الرحمن} الذي عمّ برحمته الأبرار والفجار {الرحيم} الذي خص أصفياءه بما يوصلهم إلى دار القرار.
ولما ختمت المزمّل بالبشارة لأرباب البصارة بعد ما بدئت بالاجتهاد في الخدمة المهيء للقيام بأعباء الدعوة افتتحت هذه بمحط حكمة الرسالة وهي النذارة فقال تعالى:
{س74ش1/ش7 يَا?أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَتَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}
{يا أيها المدثر} روي عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أوّل ما نزل من القرآن قال: {يا أيها المدثر} . قلت يقولون {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق: 1)
قال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ذلك الذي قلت، فقال لي جابر: لا أحدثك إلا مثل ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء شهراً فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت عن خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا عليّ ماءً بارداً» ، قال: فنزل {يا أيها المدثر} الآية، وذلك قبل أن تفرض الصلاة، وفي رواية «فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي وذكر نحوه» ، وفيه: فإذا قاعد على عرش في الهواء ـ يعني جبريل عليه السلام ـ فأخذتني رجفة شديدة» وعن جابر من رواية الزهري عن أبي سلمة عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه(4/424)
وسلم يحدّث عن فترة الوحي، فقال لي في حديثه: «فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاء لي بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض فَجُئِثْتُ منه رعباً، فقلت: زملوني زملوني فدثروني، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها المدثر} إلى قوله: {فاهجر} وفي رواية: «فَجُئِثْتُ منه حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي» وذكره ثم حمي الوحي وتتابع.
فإن قيل: إنّ هذا الحديث دال على أنّ سورة المدثر أوّل ما نزل، ويعارضه حديث عائشة المخرج في الصحيحين في بدء الوحي وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وفيه: «فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} حتى بلغ {ما لم يعلم} (العلق: 1 ـ 5)
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده» الحديث؟ أجيب: بأنّ الذي عليه العلماء أنّ أوّل ما نزل من القرآن على الإطلاق {اقرأ باسم ربك الذي خلق} كما صرّح به في حديث عائشة. ومن قال: إنّ سورة المدثر أوّل ما نزل من القرآن فضعيف، وإنما كان نزولها بعد فترة الوحي كما صرّح به في رواية الزهريّ عن أبي سلمة عن جابر، ويدل عليه ما في الحديث وهو يحدّث عن فترة الوحي إلى أن قال: «وأنزل الله تعالى {يا أيها المدثر} » ، ويدل عليه قوله أيضاً: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» .
وحاصله: أنّ أوّل ما نزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة {اقرأ باسم ربك} وأنّ أوّل ما نزل بعد فترة الوحي سورة المدثر، وبهذا يحصل الجمع بين الحديثين.
قوله: «فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض» يريد به السرير الذي يجلس عليه. وقوله: «يحدّث عن فترة الوحي» أي: عن احتباسه وعدم تتابعه وتواليه في النزول وقوله: «فَجُئِثْتُ منه» روي بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضمير، وروي بثاءين مثلثتين بعد الجيم ومعناها فرعبت منه وفزعت، وقوله: «حمي الوحي وتتابع» أي: كثر نزوله وازداد بعد فترته من قولهم: حميت الشمس والنار إذا ازداد حرّها. وقوله: «وصبوا عليّ ماءً بارداً» فيه أنه ينبغي لمن فزع أن يصبّ عليه الماء ليسكن فزعه.
وأصل المدّثر المتدثر وهو الذي يتدثر في ثيابه ليستدفئ بها، وأجمعوا على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سمي مدّثراً لوجوه:
أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم «دثروني» .
وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً متدثراً بثيابه فجاءه جبريل عليه السلام وأيقظه صلى الله عليه وسلم وقال: {يا أيها المدثر قم فأنذر} أي: حذر الناس من العذاب إن لم يؤمنوا، والمعنى: قم من مضجعك واترك التدثر بالثياب، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله عز وجل له.
وثالثها: أنّ الوليد بن المغيرة وأبا جهل وأبا لهب والنضر بن الحارث اجتمعوا وقالوا: إنّ وفود العرب يجتمعون في أيام الحج وهم يسألون عن أمر محمد وقد اختلفتم في الإخبار عنه، فمن قائل هو مجنون وقائل ساحر وقائل كاهن، وتعلم العرب أنّ هذا كله لا يجتمع في رجل واحد فيستدلون باختلاف الأجوبة على أنها أجوبة باطلة سموا محمداً باسم واحد تجتمعون عليه وتسميه العرب به، فقام رجل منهم فقال: إنه شاعر، فلما سمع صلى الله عليه وسلم ذلك اشتدّ عليه ورجع إلى بيته محزوناً فتدثر بقطيفة فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر} .
وقيل: إنه ليس المراد التدثر بالثياب وعلى هذا ففيه وجوه أيضاً:
أحدها: قال عكرمة: المعنى: يا أيها المدّثر بالنبوّة والرسالة من قولهم ألبسه الله لباس التقوى وزينه برداء العلم. قال ابن العربي:(4/425)
وهذا مجاز بعيد لأنه لم يكن نبياً بعد أي: على القول بأنها أوّل سورة نزلت وأمّا على أنها نزلت بعد فترة الوحي فليس ببعيد.
وثانيها: أنّ المدّثر بالثوب يكون كالمختفي فيه، وهو صلى الله عليه وسلم كان في جبل حراء كالمختفي من الناس فكأنه قال: يا أيها المدّثر بدثار الاختفاء قم بهذا الأمر واخرج من زاوية الخمول، واشتغل بإنذار الخلق والدعوة إلى معرفة الحق.
وثالثها: أنه تعالى جعله رحمة للعالمين فكأنه قيل له: يا أيها المدّثر بأثواب العلم العظيم والخلق الكريم والرحمة الكاملة قم فأنذر عذاب ربك، وعلى كلا القولين في ندائه ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله وعبر عنه بصفته ولم يقل: يا محمد.
{وربك} أي: خاصة {فكبر} أي: عظمه عما يقول عبدة الأوثان وصفه بأنه أكبر من أن تكون له صاحبة أو ولد، وفي الحديث أنهم قالوا بم تفتتح الصلاة؟ فنزل {وربك فكبر} أي: صفه بأنه أكبر. قال ابن العربي: وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة، فإنه يرادفه تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأنداد والأصنام دونه ولا يتخذ ولياً غيره ولا يعبد سواه.
وروي أنّ أبا سفيان قال يوم أحد: اعل هبل وهو اسم صنم كان لهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا الله أعلى وأجل، وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها أذاناً وصلاة وذكراً يقول: الله أكبر، وحمل عليه لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق مواردها منها قوله: «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم» ، والشرع يقتضي بعرفه ما يقتضي بعزمه. ومن موارده أوقات الإهلال بالله تعالى تخليصاً له من الشرك وإعلاماً باسمه بالنسك وإفراداً لما شرع من أمره بالنسك، والمنقول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في التكبير في الصلاة هو لفظ الله أكبر.
وقال المفسرون: لما نزل قوله تعالى {وربك فكبر} قام النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: «الله أكبر» فكبرت خديجة رضي الله تعالى عنها وفرحت وعلمت أنه وحي من الله تعالى» ذكره القشيري، وقال مقاتل: هو أن يقال الله أكبر وقيل: المراد منه التكبير في الصلاة، واستشكل ذلك على القول بأنها أوّل سورة نزلت، فإنّ الصلاة لم تكن فرضت. وأجيب: بأنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان له صلوات تطوّع فأمر أن يكبر فيها.
تنبيه: دخلت الفاء في قوله تعالى {فكبر} وفيما بعده لإفادة معنى الشرط كأنه قيل: وما يكن فكبر ربك أو للدلالة على أنّ المقصود الأوّل من الأمر بالقيام أن يكبر ربه عن الشرك والتشبيه، فإنّ أوّل ما يجب معرفة الصانع، وأوّل ما يجب بعد العلم بوجوده تنزيهه والقوم كانوا مقرّين به.
{وثيابك فطهر} أي: من النجاسات لأنّ طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة لا تصح إلا بها وهي الأولى والأحبّ في غير الصلاة، وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثاً. قال الرازي: إذا حملنا التطهير على حقيقته ففي الآية ثلاث احتمالات:
الأوّل: قال الشافعي: المقصود من الآية الإعلام بأنّ الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس.
وثانيها: روي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاء شاة فشق عليه، فرجع إلى بيته حزيناً وتدثر في ثيابه صلى الله عليه وسلم فقيل: {يا أيها المدّثر قم فأنذر} ولا تمنعك تلك الشناعة عن الإنذار {وربك فكبر} على أن لا يتنقم منهم {وثيابك فطهر} عن تلك النجاسات والقاذورات.
وثالثها: قال عبد الرحمن بن زيد بن(4/426)
أسلم: كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات، فأمره الله تعالى أن يصون ثيابه عنها.
وقيل: هو أمر بتقصيرها ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول، وذلك مما لا يؤمن معه إصابة النجاسة. قال صلى الله عليه وسلم «إزار المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من ذلك ففي النار» فجعل صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب وتوعد على ما تحته بالنار، فما بالُ رجال يرسلون أذيالهم ويطيلون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر وقال صلى الله عليه وسلم «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء» وفي رواية «من جرّ إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» . قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إنّ أحد شقي إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لست ممن يصنعه خيلاء» .
وقيل: هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال، ويستهجن من العادات. يقال فلان طاهر الثياب وطاهر الجيب والذيل إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق، وفلان دنس الثياب للغادر وذلك لأنّ الثوب يلابس الإنسان ويشتمل عليه فكني به عنه ألا ترى إلى قولهم: أعجبني زيد ثوبه كما تقول: أعجبني زيد عقله وخلقه، ويقولون: المجد في ثوبه والكرم تحت حلته، ولأنّ الغالب أنّ من طهر باطنه ونقاه عني بتطهير الظاهر وتنقيته، وأبى إلا اجتناب الخبيث وإيثار الطهر في كل شيء. وقال عكرمة: سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى: {وثيابك فطهر} فقال: لا تلبسها على معصية ولا على غدر ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:
*وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من عنده أتقنع*
والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء طاهر الثياب، ويقولون لمن غدر إنه لدنس الثياب. وقال أبيّ بن كعب: لا تلبسها على غدر ولا على ظلم ولا على إثم البسها وأنت برّ طاهر. وقال الحسن والقرطبي: وخلقك فحسن. وقال سعيد بن جبير: وقلبك وبيتك فطهر. وقال مجاهد وابن زيد: وعملك فأصلح. وروى منصور عن أبي رزين قال: يقول: وعملك أصلح. قال: وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا: إنّ فلاناً نجس الثياب. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات عليهما يعني عمله الصالح والطالح» ذكره الماوردي. وقيل: المراد بالثياب الأهل أي: طهرهم من الخطايا بالموعظة والتأديب والعرب تسمي الأهل ثوباً ولباساً وإزاراً. قال تعالى: {هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ} (البقرة: 187)
وقيل: المراد به الدين أي: ودينك فطهر جاء في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: «رأيت الناس وعليهم ثياب منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك ورأيت عمر بن الخطاب وعليه إزار يجرّه قالوا: يا رسول الله، فما أولت ذلك؟ قال: الدين» .
وقوله تعالى: {والرجز} فسره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأوثان {فاهجر} أي: دم على هجره. وقيل: الزاي فيه منقلبة من السين والعرب تعاقب بين السين والزاي لقرب مخرجيهما دليل هذا التأويل قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (الحج: 30)
وروي عن ابن عباس أنّ معناه: اترك المآثم، وقرأ حفص بضم الراء والباقون بكسرها، وهما لغتان ومعناهما واحد، وقال أبو العالية: الرجز بضم الراء الصنم(4/427)
وبالكسر النجاسة والمعصية، وقال الضحاك: يعني الشرك. وقال الكلبي: يعني العذاب. قال البغويّ: ومجاز الآية اهجر ما أوجب لك العذاب من الأعمال.
وقوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} مرفوع منصوب المحل على الحال أي: لا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه كثيراً واجعله خالصاً لله تعالى ولا تطلب عوضاً أصلاً، ومعنى تستكثر أي: طالباً للكثرة كارهاً أن ينقص المال بسبب العطاء، فيكون الاستكثار هنا عبارة عن طلب العوض كيف كان ليكون عطاؤه صلى الله عليه وسلم خالياً عن انتظار العوض والتفات النفس إليه. وقيل: لا تعط شيئاً طالباً للكثير نهى عن الاستقرار وهو أن يهب شيئاً وهو يطمع أن يعوض من الموهوب له أكثر من الموهوب وهذا جائز ومنه الحديث: «المستكثر يثاب من هبته» وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون نهياً خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر الآية؛ لأنّ الله تعالى اختار له أشرف الآداب وأحسن الأخلاق والثاني: أنه نهي تنزيه لا تحريم له ولأمّته. وقيل: إنه تعالى لما أمره بأربعة أشياء: إنذار القوم وتكبير الرب وتطهير الثياب وهجر الرجز.
ثم قال: {ولا تمنن تستكثر} أي: لا تمنن على ربك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما تفعله {ولربك فاصبر} أي: على الأوامر والنواهي متقرّباً بذلك إليه غير ممتن به عليه. وقال الحسن: بحسناتك تستكثرها. وقال ابن عباس: ولا تعط عطية ملتمساً بها أفضل منها. وقيل: لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي مستكثراً بذلك الإنعام، فإنك إنما فعلت ذلك بأمر الله تبارك وتعالى فلا منة لك به عليهم.
ولهذا قال تعالى: {ولربك فاصبر} وقيل: لا تمنن عليهم بنبوّتك لتستكثر أي: لا تأخذ منهم أجراً على ذلك تستكثر به مالك، وقال مجاهد والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير فإنه مما أنعم الله تعالى به عليك. وقال ابن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك إنما عملك منة من الله تعالى عليك إذ جعل لك الله تعالى سبيلاً إلى عبادته. وقال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك لا تقل: دعوت فلم يستجب لي. وقيل: لا تفعل الخير لترائي به الناس.
ولما ذكر تعالى ما يتعلق بإرشاد النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر بعده وعيد الأشقياء بقوله تعالى:
{س74ش8/ش17 فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ * فَذَالِكَ يَوْمَـ?ـ?ِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ * ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ? مَا? مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ? تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَ?? إِنَّهُ? كَانَ ?يَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ? صَعُودًا}
{فإذا نقر} أي: نفخ {في الناقور} أي: في الصور وهو القرن النفخة الثانية فاعول من النقر أي: من التصويت وأصله القرع الذي هو سبب الصوت والفاء للسببية كأنه قال تعالى: اصبر على زمان صعب تلقى فيه عاقبة صبرك وأعداؤك عاقبة ضرهم.
وإذا ظرف لما دل عليه قوله تعالى: {فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين} لأنّ معناه: عسر الأمر على الكافرين وذلك إشارة إلى وقت النقر وهو مبتدأ خبره يوم عسير ويومئذ بدل أو ظرف لخبره إذ التقدير فذلك الوقت وقوع يوم عسير وقرأ على الكافرين وأصحاب النار أبو عمرو والدوري عن الكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح.
ولما كان العسر قد يطلق على الشيء وفيه يسر من بعض الجهات أو يعالج فيرجع يسيراً بين أنه ليس كذلك بقوله تعالى: {غير يسير} فجمع فيه بين إثبات الشيء ونفي ضدّه تحقيقاً لأمره ودفعاً للمجاز عنه، وتقييده بالكافرين يشعر بيسره على المؤمنين فإنهم لا يناقشون الحساب ويحشرون بيض الوجوه ثقال الموازين. قال الرازي: ويحتمل أنه عسير على المؤمنين والكافرين إلا أنه على(4/428)
الكافرين أشد.
تنبيه: قال الحليمي: سمي الصور باسمين فإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان فإنّ نفخة الإصعاق بخلاف نفخة الإحياء.
وجاء في الأخبار أنّ في الصور ثقباً بعدد الأرواح كلها وأنها تجمع في تلك الثقب في النفخة الثانية فتخرج عند النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزعت منه فيعود الجسد حياً بإذن الله تعالى.
{ذرني} أي: اتركني على أي حالة اتفقت {ومن خلقت} معطوف على المفعول أو مفعول معه.
وقوله تعالى: {وحيداً} فيه أوجه: أحدها: أنه حال من الياء في ذرني أي: ذرني وحدي معه فأنا أكفيك في الانتقام منه، الثاني: أنه حال من التاء في خلقت أي: خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه، الثالث: أنه حال من عائد المحذوف أي: خلقته وحيداً، فوحيداً على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف أي: خلقته في بطن أمّه وحيداً لا مال له ولا ولد، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته، قاله مجاهد. الرابع: أن ينتصب على الذم لأنه يقال: إنّ وحيداً كان لقباً للوليد بن المغيرة المخزومي ومعنى وحيداً: ذليلاً قيل: إنه كان يزعم أنه وحيد في فضله وماله وليس في ذلك ما يقتضي صدق مقالته لأنّ هذا اللقب له شهرة به، وقد يلقب الإنسان بما لا يتصف به وإذا كان لقباً تعين نصبه على الذم. قال ابن عباس: كان الوليد يقول: أنا الوحيد بن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي المغيرة نظير.
قال الرازي: وردّ هذا القول بعضهم بأنه تعالى لا يصدقه في دعواه تلك بأنه وحيد لا نظير له ذكره الواحدي وهو ضعيف من وجوه ثلاثة: لأنه قد يكون الوحيد علماً فيزول السؤال لأنّ اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة بل هو قائم مقام الإشارة. الثاني: أن يكون ذلك بحسب ظنه واعتقاده كقوله عز وجل {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان: 49)
. الثالث: أنه وحيد في كفره وعناده وخبثه لأن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف. الرابع: قال أبو سعيد: الوحيد الذي لا أب له كما تقدم في الزنيم.
{وجعلت له} أي: بأسباب أوجدتها أنا وحدي لا بحول منه ولا قوة بدليل أن غيره أقوى منه بدناً وقلباً وأوسع فكراً وعقلاً وهو دونه في ذلك {مالاً ممدوداً} أي: مالاً واسعاً كثيراً. قال ابن عباس: هو ما كان للوليد بمكة والطائف من الإبل والبقر والغنم والحجور والجنان والعبيد والجواري، واختلفوا في مبلغه فقال مجاهد وسعيد بن جبير: ألف دينار. وقال قتادة: ستة آلاف دينار. وقال سفيان الثوري: مرة أربعة آلاف دينار ومرة ألف ألف دينار وقال ابن عباس: تسعة آلاف مثقال فضة وقال الرازي: الممدود هو الذي يكون له مدد يأتي منه الجزء بعد الجزء دائماً ولذلك فسره عمر غلة شهر بشهر. وقال النعمان: الممدود بالزيادة كالزروع والضروع وأنواع التجارات وقال مقاتل: كان له بستان بالطائف لاتنقطع ثماره شتاء ولا صيفاً.
{وبنين} أي: وجعلت له بنين {شهوداً} أي: حضوراً معه لغناهم عن الأسفار بكثرة المال وانتشار الخدم وقوة الأعوان وهم مع حضورهم في الذروة من الحضور بتمام العقل وقوة الحذق، فهم في غاية المعرفة ومع ذلك فهم أعيان المجالس وصدور المحافل كأنه لا شاهد به غيرهم. قال مجاهد وقتادة: كانوا عشرة. وقال السدي والضحاك: كانوا اثني عشر رجلاً، وعن الضحاك سبعة ولدوا بمكة وخمسة بالطائف. وقال مقاتل: كانوا سبعة ولعله اقتصر على من ولد بمكة وعلى كل قول أسلم منهم ثلاثة خالد الذي(4/429)
منّ الله تعالى على المسلمين بإسلامه فكان سيف الله وسيف رسوله صلى الله عليه وسلم وهشام وعمارة.
{ومهدت} أي: بسطت {له} العيش والعمر والولد، والتمهيد عند العرب التوطئة والتهيئة ومنه مهد الصبي. وقال ابن عباس: أي: وسعت له ما بين اليمن إلى الشام وعن مجاهد أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش فلم يرع هذه النعمة العظيمة.l
وقوله تعالى {تمهيداً} تأكيد.
{ثم} أي: بعد الأمر العظيم الذي ارتكبه من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم {يطمع} أي: بغير سبب يدلي به مما جعلناه سبب المزيد من الشكر {أن أزيد} أي: فيما آتيته في دنياه أو في آخرته وهو يكذب رسولنا صلى الله عليه وسلم وقال الحسن: ثم يطمع أن أحله الجنة.
وكان الوليد يقول: إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي، فقال الله تعالى ردًّا عليه وتكذيباً له {كلا} أي: وعزتنا وجلالنا لا تكون له زيادة على ذلك أصلاً، وأمّا النقصان فسيرى إن استمرّ على تكذيبه فليرتدع عن هذا الطمع ولينزجر وليرتجع، فإنه حمق محض وزخرف بحت وغرور صرف، قالوا: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك فقيراً.
تنبيه: كلا قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة فيكون متصلاً بالكلام الأوّل وقيل: كلا بمعنى حقاً.
ويبتدأ بقوله تعالى {إنه} أي: هذا الموصوف {كان} أي: بخلق كأنه جبلة له وطبع لا يقدر على الانفكاك عنه {لآياتنا} على ما لها من العظمة خاصة لكونها هادية إلى الوحدانية لا إلى غيرها من الشبه القائدة إلى الشرك {عنيداً} قال قتادة: أي: جاحداً. وقال مقاتل: معرضاً. وقال مجاهد: إنه المجانب للحق. وجمع العنيد عند، مثل رغيف ورغف والعنيد بمعنى المعاند، والعناد كما قال الملوي من كبر في النفس ويبس في الطبع وشراسة في الأخلاق أو خبل في العقل، وقد جمع ذلك كله إبليس لعنه الله تعالى لأنه خلق من نار وهي من طبعها اليبوسة وعدم الطواعية.
تنبيه: في الآية إشارة إلى أنّ الوليد كان معانداً في أمور كثيرة منها أنه كان يعاند في دلائل التوحيد وصحة النبوّة وصحة البعث، ومنها أنّ كفره كان عناداً لأنه كان يعرف هذه الأشياء بقلبه وينكرها بلسانه. وكفر العناد أفحش أنواع الكفر، ومنها أنّ قوله تعالى كان يدل على أنّ هذه حرفته من قديم الزمان.
{سأرهقه} أي: أكلفه {صعوداً} أي: مشقة من العذاب لا راحة له فيها. وروى الترمذي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنه جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي» وفي رواية أنه «كلما وضع يده في معالجة الصعود ذابت فإذا رفعها عادت وكذا رجله» وقال الكلبي: إنه صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها يجذب من أمامه بسلاسل الحديد ويضرب من خلفه بمقامع الحديد فيصعدها في أربعين عاماً فإذا بلغ ذروتها أسقط إلى أسفلها ثم يكلف أن يصعدها فذلك دأبه أبداً.
{س74ش18/ش30 إِنَّهُ? فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَاذَآ إِs سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَاذَآ إِs قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَآ أَدْرَ?ـاكَ مَا سَقَرُ * تُبْقِى وَتَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}
أي: هذا العنيد {فكر} أي: ردّد فكره وأداره تابعاً لهواه لأجل الوقوع على شيء يطعن به في القرآن أو النبيّ صلى الله عليه وسلم {وقدّر} أي: أوقع تقدير الأمور التي يطعن بها وقاسها في نفسه لعلمه أنها أقرب إلى القبول وذلك أنّ الله تعالى لما أنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} إلى قوله تعالى: {المصير} (غافر: 2 ـ 3)
قام النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبيّ(4/430)
صلى الله عليه وسلم لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله لتصبأنّ قريش كلهم. فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزيناً، فقال له الوليد: ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي؟ قال: وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد وأنك داخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة تسأل من فضل طعامهم فغضب الوليد وقال: ألم تعلم أني من أكثرهم مالاً وولداً، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل، ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أنّ محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا: اللهمّ لا، قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه قط تكهن؟ فقالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط؟ قالوا: اللهمّ لا. قال: تزعمون أنه كذاب فهل جرّبتم عليه شيئاً من الكذب؟ قالوا: اللهمّ لا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين قبل النبوّة من صدقه، فقالت قريش للوليد: فما هو؟ فتفكر في نفسه وقدّر ما أسرّ» .
قال الله تعالى: {فقتل} أي: هلك وطرد ولعن في دنياه هذه {كيف قدر} أي: على أي: كيفية أوقع تقديره هذا.
{ثم قتل} أي: هلك ولعن هذا العنيد هلاكاً ولعناً هو في غاية العظمة فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة. {كيف قدر} فثم للدلالة على أنّ الثانية أبلغ من الأولى ونحوه قوله:
*ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي*
ومعنى قول القائل قتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره للإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد، ويدعو عليه حاسده بذلك. وأما ثم المتوسطة بين الأفعال التي بعدها فهي للدلالة على أنه تأنى في التأمل وتمهل وكان بين الأفعال المتناسقة تراخ وتباعد.
وقوله تعالى: {ثم نظر} عطف على فكر وقدر والدعاء اعتراض بينهما والنظر إما في وجوه قومه وإما فيما يقدح به في القرآن.
{ثم عبس} أي: قبض وجهه وكلحه ونظر مع تقبض جلد وما بين العينين بكراهة شديدة كالمهتم للتفكر في شيء وهو لا يجد فيه فرجاً لأنه ضاقت عليه الحيل لكونه لم يجد فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مطعناً. وقيل: عبس وجهه في وجوه المؤمنين، وذلك أنه لما قال لقريش: إن محمداً ساحر مرّ على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام فعبس في وجوههم. وقيل: عبس على النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاه {وبسر} أي: زاد في القبض والكدح، يقال: وجه باسر، أي: منقبض أسود كالح متغير اللون قاله قتادة.
{ثم} أي: بعد هذا التروي العظيم {أدبر} أي: عما أداه إليه فكره من الإيمان بسلامة المنظور فيه وعلوّه عن المطاعن فحاد عن وجوه الأفكار إلى أقفيتها {واستكبر} أي: أوجد الكبر عن الاعتراف بالحق إيجاد من هو في غاية الرغبة فيه.
{فقال} أي: عقب ما جرّه إليه طبعه الخبيث من إيقاع الكبر على هذا الوجه لكونه رآه نافعاً لهم في الدنيا {إن} أي: ما {هذا} أي: الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم {إلا سحر} أي: أمور تخييلية لا حقائق لها وهي لدقتها بحيث تخفى أسبابها، أما رأيتموه يفرّق(4/431)
بين الرجل وأهله وماله وولده ومواليه، فما هو إلا سحر {يؤثر} أي: من شأنه أن ينقله السامع عن غيره، فهو ينقله من مسيلمة وأهل بابل كما قال:
{إن} أي: ما {هو} أي: القرآن {إلا قول البشر} أي: ليس فيه شيء عن الله تعالى فلا يغتر أحد به ولا يعرج عليه فارتج النادي فرحاً، ثم تفرّقوا معجبين بقوله متعجبين منه قيل: وهذا شبيه بما قال بعضهم:
*لو قيل كم خمس وخمس لاغتدى ... يوماً وليلته يعدّ ويحسب*
*ويقول معضلة عجيب أمرها ... ولئن فهمت لها لأمري أعجب*
*خمس وخمس ستة أو سبعة ... قولان قالهما الخليل وثعلب
... *
فكان قوله هذا سبب هلاكه فكان كما قال بعضهم:
*احفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يلدغنك إنه ثعبان*
*كم في المقابر من قتيل لسانه ... كانت تهاب لقاءه الشجعان*
وقوله تعالى: {سأصليه} أي: أدخله {سقر} أي: جهنم بوعد لا بدّ منه عن قريب بدل من {سأرهقه صعوداً} .
وقوله تعالى: {وما أدراك ما سقر} تعظيم لشأنها.
وقوله تعالى: {لا تبقي ولا تذر} بيان لذلك أو حال من سقر، والعامل فيها معنى التعظيم، والمعنى: لا تبقي شيئاً يلقى فيها إلا أهلكته، فإذا أهلكته لم تذره هالكاً حتى يعاد أو لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة، وسميت سقر من سقرته الشمس إذا أذابته، ولا تنصرف للتعريف والتأنيث. قال ابن عباس: سقر اسم للطبقة السادسة، فإنّ درك النار سبعة جهنم ولظى والحطمة والسعير والجحيم وسقر والهاوية.
{لوّاحة} من لوح الهجير قال:
*تقول ما لاحك يا مسافر ... يا ابنة عمي لاحني الهواجر
{للبشر} أي: محرقة لظاهر الجلد فتدعه أشدّ سواداً من الليل قال تعالى: {تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون} (المؤمنون: 104)
والبشر أعالي البشرة وهو جمع بشرة وجمع البشر أبشار. وعن الحسن: تلوح للناس كقوله تعالى: {ثم لترونها عين اليقين} (التكاثر: 7)
وقيل: اللوح شدة العطش يقال: لاحه العطش ولوحه، أي: غيره. وقال الأخفش: والمعنى: أنها معطشة للبشر، أي: لأهلها وأنشد:
*سقتني على لوح من الماء شربة ... سقاها من الله الرهام النواديا*
يعني باللوح شدّة العطش والرّهام جمع رهمة بالكسر وهي المطرة الضعيفة، وأرهمت السحابة أتت بالرهام.
{عليها تسعة عشر} أي: من الملائكة وهم خزنتها مالك ومعه ثمانية عشر، وقيل: التسعة عشر نقباء. وقال أكثر المفسرين: تسعة عشر ملكاً بأعيانهم. وقيل: تسعة عشر ألف ملك. قال ابن جريج: نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم فقال: «أعينهم كالبرق الخاطف وأنيابهم كالصياصي، وأشعارهم تمس أقدامهم يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نزعت منهم الرحمة، يدفع أحدهم سبعين ألفاً فيرميهم حيث أراد من جهنم» . قال عمرو بن دينار: إنّ واحداً منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر. قال ابن الأثير: الصياصي قرون البقر.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت هذه الآية قال(4/432)
أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمّهاتكم أسمع ابن أبي كبشة يخبر أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ـ يعني الشجعان ـ أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم؟ فقال أبو الأشد بن كلدة بن خلف الجمحي: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، عشرة على ظهري وسبعة على بطني فاكفوني أنتم اثنين. وروي أنه قال: أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وسبعة بمنكبي الأيسر في النار، ونمضي فندخل الجنة، فأنزل الله عز وجل:
{وما جعلنا} أي: لنا من العظمة وإن خفي وجه العظمة فيه على من عمي قلبه {أصحاب النار} أي: خزنتها {إلا ملائكة} أي: لم نجعلهم رجالاً فتغالبوهم وإنما جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنسي الفريقين من الجنّ والإنس فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرحمة والرأفة ولأنهم أشدّ بأساً وأقوى بطشاً فقوّتهم أعظم من قوّة الإنس والجنّ ولذلك جعل الرسول إلى البشر من جنسهم ليكون له رأفة ورحمة بهم.
فإن قيل: ثبت في الأخبار أنّ الملائكة مخلوقون من النور فكيف تطيق المكث في النار؟ أجيب: بأنّ الله تعالى قادر على كل الممكنات فكما أنه لا استبعاد في أنه يبقى الحي في مثل ذلك العذاب الشديد أبد الآباد ولا يموت، فكذا لا استبعاد في إبقاء الملائكة هناك من غير ألم.
{وما جعلنا} أي: بما لنا من العظمة {عدّتهم} أي: مذكورة ومحصورة {إلا فتنة} أي: بلية {للذين كفروا} وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ضلالة وفتنة مفعول ثان على حذف مضاف أي: إلا سبب فتنة وللذين صفة الفتنة وليست فتنة مفعولاً له. وقول البيضاوي وما جعلنا عددهم إلا العدد الذي اقتضى فتنتهم وهو التسعة عشر تبعاً للزمخشري، قال أبو حيان: إنه تحريف لكتاب الله إذ زعم أنّ معنى إلا فتنة للذين كفروا إلا تسعة عشر وهذا لا يذهب إليه عاقل ولا من له أدنى ذكاء.
وقال الرازي: إنما صار هذا العدد سبباً لفتنة الكفار من وجهين: الأوّل: أنّ الكفار يستهزئون ويقولون لم لا يكونون عشرين، وما المقتضي لتخصيص هذا العدد. والثاني: أن الكفار يقولون هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر العالم من الجنّ والإنس من أوّل ما خلق الله إلى قيام الساعة؟
وأجيب: عن الأوّل بأنّ هذا السؤال لازم على كل عدد يفرض، وعن الثاني بأنه لا يبعد أن الله تعالى يرزق ذلك العدد القليل قوّة تفي بذلك، فقد اقتلع جبريل عليه السلام مدائن قوم لوط على أحد جناحيه ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، وأيضاً فأحوال القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا ولا للعقل فيها مجال. وذكر أرباب المعاني في تقرير هذا العدد وجهين:
أحدهما: ما قاله أرباب الحكمة إنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوّتها النظرية والعملية هو القوى الحيوانية والطبيعية، فالقوى الحيوانية هي الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والشهوة والغضب فهذه اثنا عشر، وأما القوى الطبيعية فهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة، فالمجموع تسعة عشر فلما كانت هذه منشآت لا جرم كان عدد الزبانية هكذا.
ثانيهما: أنّ أبواب جهنم سبعة فستة منها للكفار وواحد للفساق، ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة: ترك الاعتقاد وترك الإقرار وترك العمل فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة فالمجموع ثمانية عشر، وأما باب الفساق(4/433)
فليس هناك إلا ترك العمل فالمجموع تسعة عشر مشغولة بغير العبادة فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر.
وقوله تعالى: {ليستيقن الذين} متعلق بجعلنا لا بفتنة. وقيل: بفعل مضمر أي: فعلنا ذلك ليستيقن الذين {أوتوا الكتاب} أي: أعطوا التوراة والإنجيل، فإنه مكتوب فيهما إنه تسعة عشر، فذلك موافقة لما عندهم {ويزداد الذين آمنوا} أي: من أهل الكتاب {إيماناً} أي: تصديقاً لموافقة النبيّ صلى الله عليه وسلم لما في كتبهم {ولا يرتاب} أي: يشك {الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون} في عددهم.
فإن قيل: قد أثبت الاستيقان لأهل الكتاب وزيادة الإيمان للمؤمنين فما فائدة {ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون} ؟ أجيب: بأنّ الإنسان إذا اجتهد في أمر غامض دقيق الحجة كثير الشبه، فحصل له اليقين فربما غفل عن مقدّمة من مقدّمات ذلك الدليل الدقيق فيعود الشك فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك، ففائدة هذه الجملة نفي ذلك الشك، وإنه حصل لهم يقين جازم لا يحصل عقبه شك البتة.
{وليقول الذين في قلوبهم مرض} أي شك ونفاق وإن قل ونزول هذه السورة قبل وجود المنافقين فهو علم من أعلام النبوّة فإنه إخبار بمكة عما سيكون بالمدينة بعد الهجرة ولا ينكر جعل الله تعالى بعض الأمور علة إصلاح ناس وفساد آخرين؛ لأنه لا يسأل عما يفعل على أن العلة قد تكون مقصودة لشيء بالقصد الأوّل ثم يترتب عليها شيء آخر يكون قصده بالقصد الثاني تقول خرجت من البلد لمخافة الشر ومخافة الشر لا يتعلق بها الغرض.
{والكافرون} أي: ويقول الراسخون في الكفر الجازمون بالتكذيب الساترون لما دلت عليه الأدلة من الحق {ماذا} أي: أي شيء {أراد الله} أي: الملك الذي له جميع العظمة {بهذا} أي: العدد القليل في جنب عظمته {مثلاً} قال الجلال المحلي: سموه لغرابته بذلك، وأعرب حالاً. وقال الليث: المثل الحديث ومنه {مثل الجنة التي وعد المتقون} (الرعد: 35)
أي: حديثها والخبر عنها. وقال الرازي: إنما سموه مثلاً لأنه لما كان هذا العدد عدداً عجيباً ظنّ القوم أنه ربما لم يكن مراد الله تعالى منه ما أشعر به ظاهره، بل جعله مثلاً لشيء آخر وتنبيهاً على مقصود آخر لا جرم سموه مثلاً على سبيل الاستعارة لأنهم لما استغربوه ظنوا أنه ضرب مثلاً لغيره، ومثلاً تمييز أو حال وتسمية هذا مثلاً على سبيل الاستعارة لغرابته.
ولما كان التقدير أراد بهذا إضلال من ضل وهو لا يبالي وهداية من اهتدى وهو لا يبالي كان كأنه قيل: هل يفعل مثل ذلك في غير هذا فقال تعالى: {كذلك} أي: مثل هذا المذكور من الإضلال والهداية {يضل الله} أي: الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز {من يشاء} بأي كلام شاء، كإضلال الله تعالى أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم {ويهدي} بقدرته التامّة {من يشاء} بنفس ذلك الكلام أو بغيره كهداية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الآية تدل على مذهب أهل السنة لأنه تعالى قال في أوّل الآية {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا} الخ، ثم قال تعالى: {كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} .
{وما يعلم جنود ربك} أي: المحسن إليك بأنواع الإحسان المدبر لأمرك {إلا هو} أي: الله سبحانه وتعالى. قال مقاتل رضي الله عنه: وهذا جواب لأبي جهل حيث قال: ما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر. وقال مجاهد رضي الله عنه: {وما يعلم جنود ربك} يعني: من الملائكة الذين خلقهم(4/434)
لتعذيب أهل النار، ولا يعلم عدتهم إلا الله تعالى.
والمعنى: أن تسعة عشر هم خزنة النار ولهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى، ولو أراد لجعل الخزنة أكثر من ذلك، فقد روي أنّ البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا تعود لهم نوبة أخرى. وروي أنّ الأرض في السماء كحلقة ملقاة في فلاة، وكل سماء في التي فوقها كذلك، وورد في الخبر: أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع ـ وفي رواية موضع قدم ـ إلا وفيه ملك قائم يصلي ـ وفي رواية ساجد ـ وإنما خص هذا العدد لحكم لا يعلمها إلا هو.
ثم رجع إلى ذكر سقر فقال تعالى: {وما هي} أي: النار التي هي من أعظم جنوده {إلا ذكرى للبشر} أي: ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله وأنه سبحانه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار، وللبشر مفعول بذكرى واللام فيه مزيدة، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة. وقرأ ورش بين بين، والباقون بالفتح. وقوله تعالى:
{س74ش32/ش47 كَs وَالْقَمَرِ * وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ * إِنَّهَا ?حْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ * كُلُّ نَفْس? بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ? * إِ? أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِى جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ * قَالُوا? لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآ?ـ?ِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى? أَتَـ?ـانَا الْيَقِينُ}
{كلا} ردع لمن أنكرها أو إنكار لأن يتذكروا بها قاله البيضاوي. وقال البغويّ: هذا قسم يقول حقاً. وقال الجلال المحلي: استفتاح بمعنى إلا {والقمر} أي: الذي هو آية الليل الهادية من ضل بظلامه.
{والليل إذ أدبر} أي: مضى فانقلب راجعاً من حيث جاء فانكشف ظلامه، وقرأ نافع وحمزة وحفص بسكون الذال المعجمة والدال المهملة بعدها وهمزة قطع مفتوحة بين المعجمة والمهملة الساكنين، والباقون بفتح الذال المعجمة وبعدها ألف وفتح المهملة بعد الألف، فالقراءة الأولى إذ أدبر والثانية إذا دبر وكلاهما لغة. يقال: دبر الليل وأدبر إذا ولى مدبراً ذاهباً. قال أبو عمرو: ودبر لغة قريش، وقال قطرب: دبر أي: أقبل، تقول العرب دبرني فلان أي: جاء خلفي فالليل يأتي خلف النهار.
وقوله تعالى: {والصبح إذا أسفر} أي: أضاء وتبين.
وقوله تعالى: {إنها لإحدى الكبر} جواب للقسم أو تعليل لكلا، والقسم معترض للتوكيد، والكبر جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتائها، فلما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها. ونظير ذلك القواصع في جمع القاصعاء كأنها جمع فاعلة، أي: لإحدى البلايا والدواهي الكبر. ومعنى كونها إحداهنّ أنها من بينهنّ واحدة في العظم لا نظير لها، كما تقول: هو أحد الرجال وهي إحدى النساء.
وقوله تعالى: {نذيراً} تمييز من إحدى على معنى أنها لإحدى الدواهي إنذاراً كما تقول هي إحدى النساء عفافاً وقيل: هي حال وقيل: هو متصل بأوّل السورة أي: قم نذيراً {للبشر} قال الزمخشري: وهو من بدع التفاسير.
وقوله تعالى: {لمن شاء} أي: بإرادته {منكم} بدل من البشر {أن يتقدّم} أي: إلى الخير أو إلى الجنة بالإيمان {أو يتأخر} أي: إلى الشر أو النار بالكفر.
{كل نفس} أي: ذكر أو أنثى على العموم {بما كسبت} أي: خاصة لا ما كسب غيرها {رهينة} أي: مرهونة مأخوذة وليست بتأنيث رهين في قوله تعالى: {كل امرئ بما كسب رهين} (الطور: 21)
لتأنيث النفس لأنه لو قصدت الصفة لقيل: رهين، لأنّ فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن.
ومنه بيت الحماسة:
*أبعد الذي بالنعف تعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل*
كأنه قال: والمعنى كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك.
{إلا أصحاب اليمين} وهم المؤمنون(4/435)
فإنهم فكوا رقابهم بإيمانهم وبما أحسنوا من أعمالهم وقيل: هم الملائكة، وروي عن علي أنهم أطفال المسلمين. وقال مقاتل رضي الله عنه: هم أهل الجنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق حين قال لهم الله: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وعنه أيضاً: هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم. وقال الحسن رضي الله عنه: هم المسلمون الخالصون. وقال القاسم: كل نفس مأخوذة بكسبها بخير أو شر إلا من اعتمد على الفضل، فكل من اعتمد على الكسب فهو رهين به، ومن اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ.
ولما أخرجهم من حكم الارتهان الذي أطلق على الإهلاك لأنه سببه استأنف بيان حالهم فقال تعالى: {في جنات} أي: بساتين في غاية العظم لأنهم أطلقوا أنفسهم وفكوا رقابهم فلم يرتهنوا {يتساءلون} أي: فيما بينهم يسأل بعضهم بعضاً أو يسألون غيرهم.
{عن المجرمين} أي: عن أحوالهم ويقولون لهم بعد إخراج الموحدين من النار:
{ما} محتملة للاستفهام والتعجب والتوبيخ {سلككم} أي: أدخلكم أيها المجرمون إدخالاً هو في غاية الضيق حتى كأنكم السلك في الثقب، وقرأ السوسي بإدغام الكاف في الكاف والباقون بالإظهار {في سقر} .
فأجابوا بأن {قالوا لم نك من المصلين} أي: صلاة يعتدّ بها فكان هذا تنبيهاً على أنّ رسوخ القدم في الصلاة مانع من مثل حالهم وعلى أنهم معاقبون على فروع الشريعة وإن كانت لا تصلح منهم، فلو فعلوها قبل الإيمان لم يعتدّ بها وعلى أنّ الصلاة أعظم الأعمال وأنّ الحسنات بها تقدّم على غيرها.
{ولم نك نطعم المسكين} أي: نعطيه ما يجب علينا إعطاؤه له.
{وكنا نخوض} أي: نوجد الكلام الذي هو في غير مواقعه ولا علم لنا به إيجاد المشي من الخائض في ماء غمر {مع الخائضين} بحيث صار لنا هذا وصفاً راسخاً، فنقول في القرآن: إنه سحر، وإنه شعر، وإنه كهانة، وغير هذا من الأباطيل لا نتورّع عن شيء من ذلك ولا نقف مع عقل ولا نرجع إلى صحيح نقل، فليأخذ الذين يبادرون إلى الكلام في كل ما يسألون عنه من أنواع العلم من غير تثبت منزلتهم من هنا.
{وكنا نكذب} أي: بحيث صار ذلك وصفاً ثابتاً {بيوم الدين} أي: بيوم البعث والجزاء.
{حتى أتانا اليقين} أي: الموت أو مقدّماته الذي قطعنا عن دار العمل. قال الله تعالى {حتى يأتيك اليقين} (الحجر: 99)
فإن قيل: لم أخر التكذيب وهو أخس الخصال الأربع؟ أجيب: بأنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذبين بيوم الدين، والغرض تعظيم الذنب كقوله تعالى: {كان من الذين آمنوا} . ولما أقرّوا على أنفسهم بما أوجب العذاب الدائم فكانوا ممن فسد مزاجه فتعذر علاجه سبب عنه قوله تعالى:
{س74ش48/ش56 فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة? * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِى?ٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً * كَs? بَل s يَخَافُونَ ا?خِرَةَ * كَ? إِنَّهُ? تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ? * وَمَا يَذْكُرُونَ إِ? أَن يَشَآءَ اللَّهُ? هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}
{فما تنفعهم} أي: في حال اتصافهم بهذه الصفات {شفاعة الشافعين} أي: لا شفاعة لهم فلا انتفاع بها، وليس المراد أن ثم شفاعة غير نافعة. كقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (الأنبياء: 28)
وهذه الآية تدل على صحة الشفاعة للمذنبين من المؤمنين بمفهمومها؛ لأنّ تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدل على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: يشفع نبيكم عليه الصلاة والسلام رابع أربعة جبرائيل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ثم الملائكة ثم النبيون ثم الصدّيقون ثم الشهداء، ويبقى قوم في جهنم يقال لهم {ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين} إلى قوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} .(4/436)
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: فهؤلاء الذين في جهنم.
{فما لهم عن التذكرة معرضين} أي: فما لأهل مكة قد أعرضوا وولوا عن القرآن قال مقاتل رضي الله عنه: معرضين عن القرآن من وجهين: أحدهما: الجحود والإنكار، والثاني: ترك العمل بما فيه، وقيل: المراد بالتذكرة العظة بالقرآن وغيره من المواعظ ومعرضين حال من الضمير في الجار الواقع خبراً عن ما الاستفهامية، ومثل هذه الحال تسمى حالاً لازمة، وعن التذكرة متعلق به، أي: أيّ شيء حصل لهم في إعراضهم عن الاتعاظ.
{كأنهم} في إعراضهم عن التذكرة من شدة النفر {حمر} أي: من حمر الوحش وهي أشد الأشياء نفاراً، ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل بسرعة السير بالحمر في عدوها إذا وردت ماء فأحست بما يريبها {مستنفرة} أي: موجدة للنفار بغاية الرغبة حتى كأنها تطلبه من أنفسها لأنه شأنها وطبعها، وقرأ ابن عامر ونافع بفتح الفاء على أنه اسم مفعول أي: نفرها القناص والباقون بكسرها بمعنى نافرة.
{فرّت من قسورة} قال مجاهد رضي الله عنه: هي جماعة الرماة الذين يتصيدونها لا واحد له من لفظه، وهي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: هو القناص، وعن زيد بن أسلم: فريق من رجال أقوياء. وكل ضخم شديد عند العرب قسور وقسورة، وعن أبي المتوكل هي لغط القوم وأصواتهم. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: حبال الصيادين. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: هي الأسد، وهو قول عطاء والكلبي، وذلك أن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت، كذلك هؤلاء المشركون إذا سمعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن هربوا، وعن عكرمة رضي الله عنه ظلمة الليل ويقال لسواد الليل قسورة، وفي تشبيههم بالحمر مذمّة ظاهرة وتهجين لحالهم بين كما في قوله تعالى {كمثل الحمار يحمل أسفاراً} (الجمعة: 5)
شهادة عليهم بالبله وقلة العقل.
ولما كان الجواب قطعاً لا شيء لهم في إعراضهم هذا أضرب عنه بقوله تعالى: {بل يريد} أي: على دعواهم في زعمهم {كل امرئ منهم} أي: المعرضين من ادّعائة الكمال في المروءة {أن يؤتى} أي: من السماء {صحفاً} أي: قراطيس مكتوبة {منشرة} أي: مفتوحة، وذلك أنّ أبا جهل وجماعة من قريش قالوا: يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه: من ربّ العالمين إلى فلان بن فلان ونؤمر فيه باتباعك ونظيره {لن نؤمن لك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه} (الإسراء: 93)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كانوا يقولون: إن كان محمد صادقاً ليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءته من النار. وقال الكلبي رضي الله عنه: إن المشركين قالوا: يا محمد بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوباً عند رأسه ذنبه وكفارته فائتنا بمثل ذلك. وقالوا: إذا كانت ذنوب الإنسان تكتب عليه، فما لنا لا نرى ذلك. قال البغوي: والصحف جمع الصحيفة ومنشرة منشورة.
قال الله تعالى: {كلا} أي: لا يؤتون الصحف. وقيل: حقاً قال البغوي: وكل ما ورد عليك منه فهذا وجهه. قال ابن عادل: والأول أجود لأنه ردّ لقولهم. ثم بين تعالى سبب إعراضهم بقوله تعالى: {بل لا يخافون} أي: في زمن من الأزمان {الآخرة} فهذا هو السبب في إعراضهم.
وقوله تعالى: {كلا} استفتاح قاله الجلال المحلي. وقال البيضاوي: ردع عن إعراضهم. وقال البغوي وتبعه ابن عادل: حقاً {إنه} أي: القرآن {تذكرة} أي: عظيمة توجب إيجاباً(4/437)
عظيماً اتباعه وعدم الانفكاك عنه بوجه، فليس لأحد أن يقول: أنا مغرور لم أجد مذكراً ولا معرّفاً فإنّ عنده أعظم مذكر وأشرف معرّف.
{فمن شاء} أي: أن يذكره {ذكره} أي: اتعظ به وجعله نصب عينيه وعلم معناه وتخلق به فمن فعل ذلك سهل عليه لفظه وبعض معانيه فإنه كالبحر الفرات فمن شاء اغترف.
{وما يذكرون} أي: في وقت من الأوقات {إلا أن يشاء الله} أي: الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه ذكرهم أو مشيئتهم كقوله تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله} (الإنسان: 30)
وهو تصريح بأنّ فعل العبد بمشيئة الله تعالى. وقرأ نافع بتاء الخطاب وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب والباقون بياء الغيبة حملاً على ما تقدم من قوله تعالى: {كل امرئ} .
{هو} أي: الله سبحانه وتعالى وحده {أهل التقوى} أي: أن يتقيه عباده ويحذروا غضبه بكل ما تصل قدرهم إليه لما له من الجلال والعظمة والقهر. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة وأبو عمرو بين بين، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين {وأهل المغفرة} أي: وحقيق أن يطلب غفرانه للذنوب لا سيما إذا اتقاه المذنب؛ لأنّ له الجمال واللطف وهو القادر ولا قدرة لغيره فلا ينفعه شيء ولا يضرّه روى الترمذي وأحمد والحاكم عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} يقول الله تعالى: «أنا أهل أن أتقى فمن اتقى أن يشرك بي غيري فأنا أهل أن أغفر له» ووقف الكسائي على {أهل المغفرة} بالإمالة على أصله وورش بترقيق الراء وقفاً ووصلاً على أصله.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة المدثر أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وكذب به» حديث موضوع.
سورة القيامة
مكية
وهي تسع وثلاثون آية، ومائة وسبع وتسعون كلمة، وستمائة واثنان وخمسون حرفاً
{بسم الله} الذي له الجلال والكمال {الرحمن} الذي عمّ بنعمة الإيجاد أهل الهدى والضلال {الرحيم} الذي سدد أهل العناية في الأفعال والأقوال.
واختلف في لا في قوله تعالى:
{لا أقسم} على أوجه:
أحدها: أنها نافية لكلام المشركين المنكرين للبعث أي: ليس الأمر كما زعموا ثم ابتدأ أقسم {بيوم القيامة} قال القرطبي: إن القرآن جاء بالردّ على الذين أنكروا البعث والجنة والنار، فجاء الإقسام بالردّ عليهم كقولك: لا والله لا أفعل فلا ردّ لكلام قد مضى كقولك: لا والله إن القيامة لحق كأنك أكذبت قوماً أنكروه.
الثاني: أنها مزيدة مثلها في {لئلا يعلم أهل الكتاب} (الحديد: 29)
واعترضوا هذا بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوّله. وأجيب: بأنّ القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض يدل على ذلك أنه قد يجيء ذكر الشيء في سورة ويذكر جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} (الحجر: 6)
وجوابه في سورة أخرى {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} (القلم: 2)
وإذا كان كذلك كان أوّل هذه السورة جارياً مجرى الوسط، وردّ هذا بأنّ القرآن في حكم السورة الواحدة في عدم التناقض لا أن تقرن سورة بما بعدها، فذلك غير جائز.
الثالث: قال الزمخشري: إدخال لا النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم، قال امرؤ القيس:(4/438)
*لا وأبيك ابنة العامريّ ... لا يدّعي القوم أني أفر*
وفائدتها: توكيد القسم، ثم قال الزمخشري بعد أن ذكر وجه الزيادة والاعتراض: والجواب كما تقدّم والوجه أن يقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك: أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له يدل عليه قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} (الجمعة: 75 ـ 76)
فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام، يعني أنه يستأهل فوق ذلك. قال بعضهم: قول الزمخشري: والوجه أن يقال إلى آخره تقرير لقوله: إدخال لا النافية فيه على فعل القسم مستفيض إلى آخره. وحاصل كلامه يرجع إلى أنها نافية وأنّ النفي متسلط على فعل القسم بالمعنى الذي شرحه، وليس فيه نفع لفظاً ولا معنى، وقرأ ابن كثير بخلاف عن البزي بغير ألف بعد اللام والهمزة مضمومة والباقون بالألف ويعبر عن قراءة ابن كثير بالقصر وعن قراءة الباقين بالمدّ.
ولا خلاف في قوله تعالى: {ولا أقسم بالنفس اللوامّة} في المدّ والكلام في لا المتقدّمة وجرى الجلال المحلي على أنها زائدة في الموضعين. واختلف في النفس اللوامّة فقيل: هي نفس المؤمن الذي لا تراه يلوم إلا نفسه تقول: ما أردت بكذا ولا تراه يعاتب إلا نفسه. وقال الحسن رضي الله عنه: هي والله نفس المؤمن ما ترى المؤمن إلا يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلي ما أردت بحديثي، والفاجر لا يحاسب نفسه. وقال مجاهد رضي الله عنه: هي التي تلوم على ما فات، فتلوم نفسها على الشرّ لم فعلته، وعلى الخير لم لا تستكثر منه، وقيل: تلوم نفسها بما تلوم عليه غيرها. وقيل: المراد آدم عليه السلام لم يزل لائماً نفسه على معصيته التي أخرج بها من الجنة. وقيل: هي الملومة فتكون صفة ذمّ وهو قول من نفى أن تكون قسماً، وعلى الأوّل صفة مدح فيكون القسم بها سائغاً. وقال مقاتل رضي الله عنه: هي نفس الكافر يلوم نفسه تحسراً في الآخرة على ما فرّط في جنب الله تعالى.
وجواب القسم محذوف أي: لتبعثنّ دل عليه قوله تعالى: {أيحسب الإنسان} أي: هذا النوع الذي جبل على الأنس بنفسه والنظر في عطفية وأسند الفعل إلى النوع كله؛ لأنّ أكثرهم كذلك لغلبة الحظوظ على العقل إلا من عصم الله تعالى، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها {ألن} أي: أنا لا {نجمع} أي: على ما لنا من العظمة {عظامه} أي: التي هي قالب بدنه فنعيدها كما كانت بعد تمزقها وتفتتها للبعث والحساب.
وقيل: نزلت في عدي بن ربيعة حليف بني زهرة خال الأخنس بن شريق الثقفي وذلك أن عدياً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد حدّثني عن القيامة متى تقوم؟ وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أؤمن بك، أَوَ يجمع الله العظام بعد تفرّقها ورجوعها رميماً ورفاتاً مختلطاً بالتراب وبعد ما نسفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض ولهذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ اكفني جاري السوء عدي بن ربيعة والأخنس بن شريق» وقيل: نزلت في عدوّ الله أبي جهل أنكر البعث بعد الموت وذكر العظام، والمراد نفسه كلها لأنّ العظام قالب الخلق.
تنبيه: ألن هنا موصولة وليس بين الهمزة واللام نون في الرسم كما ترى.
وقوله تعالى: {بلى} إيجاب لما بعد النفي المنسحب عليه الاستفهام وهو وقف حسن، ثم يبتدئ بقوله تعالى: {قادرين} وقيل: المعنى: بل(4/439)
نجمعها قادرين مع جمعها {على أن نسوي بنانه} أي: أصابعه وسلامياته وهي عظامه الصغار التي في يده، خصها بالذكر لأنها أطرافه وآخر ما يتم به خلقه أي: نجمع بعضها على بعض على ما كانت عليه قبل الموت لأنا قدرنا على تفصيل عظامه وتفتيتها، فنقدر على جمعها وتوصيلها، وقدرنا على جمع صغار العظام فنحن على جمع كبارها أقدر، وقال ابن عباس وأكثر المفسرين: على أن نسوي بنانه أي: نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كخف البعير أو كحافر الحمار أو كظلف الخنزير، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئاً، ولكنا فرّقنا أصابعه حتى يفعل بها ما شاء. وقيل: نقدر أن نصير الإنسان في هيئة البهائم فكيف في صورته التي كان عليها وهو كقوله تعالى: {وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون} (الواقعة: 60 ـ 61)
وقوله تعالى: {بل يريد الإنسان} عطف على أيحسب فيجوز أن يكون استفهاماً وأن يكون جواباً لجواز أن يكون الإضراب عن المستفهم وعن الاستفهام {ليفجر أمامه} أي: ليدوم على فجوره فيما يستقبله من زمان لا يبرح عنه ولا يتوب، هذا قول مجاهد رضي الله عنه. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: يقدّم الذنب ويؤخر التوبة، فيقول: سوف أتوب سوف أعمل حتى يأتيه الموت على أشرّ أحواله وأسوأ أعماله. وقال الضحاك رضي الله عنه: هو الأجل يقول: أعيش فأصيب من الدنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يكذب بما أمامه من البعث والحساب، وأصل الفجور الميل وسمي الكافر والفاسق فاجراً لميله عن الحق.
{يسأل} أي: سؤال استهزاء أو استبعاد {أيان} أي: أي وقت يكون {يوم القيامة} .
ولما كان الجواب يوم يكون كذا وكذا عدل عنه إلى ما سبب عن استبعاده لأنه أهول فقال تعالى {فإذا برق البصر} أي: شخص ووقف لما يرى مما كان يكذب به هذا على قراءة نافع بفتح الراء وأما على قراءة كسرها فالمعنى: تحير ودهش مما يرى وقيل: هما لغتان في التحير والدهشة.
{وخسف القمر} أي: أظلم وذهب ضوءه، وقد اشتهر أنّ الخسوف للقمر والكسوف للشمس. وقيل: يكونان فيهما، يقال: خسفت الشمس وكسفت، وخسف القمر وكسف. وقيل: الكسوف أوّله والخسوف آخره.
ولم تلحق علامة التأنيث في قوله تعالى {وجمع الشمس والقمر} لأنّ التأنيث مجازي، وقيل: لتغليب التذكير، وردّ لأنه لا يقال: قام هند وزيد عند الجمهور من العرب. وقال الكسائي: حمل على جمع النيران. وقال الفرّاء: لم يقل جمعت لأنّ المعنى: جمع بينهما قال الفرّاء والزجاج: جمع بينهما في ذهاب ضوئهما فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه. وقال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مكوّرين مظلمين مقرّنين كأنهما ثوران عقيران في النار، وقال عطاء بن يسار رضي الله عنه: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى، وقيل: يجمعان في نار جهنم لأنهما قد عبدا من دون الله تعالى ولا تكون النار عذاباً لهما، لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكفار وحسرتهم.
وقوله تعالى: {يقول الإنسان} أي: لشدّة روعه جرياً مع طبعه جواب إذا من قوله تعالى {فإذا برق البصر} . {يومئذ} أي: إذا كانت هذه الأشياء، وقوله تعالى: {أين المفرّ} منصوب المحل بالقول والمفرّ مصدر بمعنى الفرار. قال الماوردي: ويحتمل وجهين: أحدهما: أين المفرّ من الله تعالى استحياء منه. والثاني:(4/440)
أين المفرّ من جهنم حذراً منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين: أحدهما: أن يكون من الكافر خاصة في عرصة القيامة دون المؤمن لثقة المؤمن ببشرى ربه تعالى. والثاني: أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. وقيل: أبو جهل خاصة.
وقوله تعالى: {كلا} ردع عن طلب المفرّ {لا وزر} أي: لا ملجأ ولا حصن استعير من الجبل. قال السدّي: كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصنوا في الجبال، فقال الله تعالى لهم: لا وزر يعصمكم مني يومئذ واشتقاقه من الوزر وهو الثقل {إلى ربك} أي: المحسن إليك بأنواع الإحسان لا إلى شيء غيره {يومئذ} أي: إذ كانت هذه الأمور {المستقر} أي: استقرار الخلق كلهم ناطقهم وصامتهم ومكان قرارهم وزمانه إلى حكمه سبحانه ومشيئته ظاهراً وباطناً لا حكم لغيره بوجه من الوجوه في ظاهر ولا باطن كما هو في الدنيا. وقال ابن مسعود: المصير والمرجع، قال الله تعالى {إلى ربك الرجعى} (العلق: 8)
و {إليه المصير} (المائدة: 18)
وقال السدّي: المنتهى، نظيره {وإنّ إلى ربك المنتهى} (النجم: 42)
{ينبأ} أي: يخبر تخبيراً عظيماً {الإنسان يومئذ} أي: إذا كان الزلزال الأكبر {بما قدّم} قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: بما قدّم قبل موته من عمل صالح وسيء {وأخر} بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها. وقال ابن عطية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بما قدّم من المعصية وأخر من الطاعة، وقال قتادة: بما قدم من طاعة الله وأخر من حق الله فضيعه. وقال مجاهد: بأوّل عمله وآخره. وقال عطاء: بما قدم في أوّل عمره وما أخر في آخر عمره. وقال يزيد بن أسلم: بما قدّم من أموال نفسه وما أخر خلفة للورثة، والأولى أن يقال ينبأ بجميع ذلك إذ لا منافاة بين هذه الأقوال.
{بل الإنسان} أي: كل واحد من هذا النوع {على نفسه} أي: خاصة {بصيرة} أي: حجة بينة على أعماله والهاء للمبالغة يعني: أنه في غاية المعرفة بأحوال نفسه، فيشهد عليه بعمله سمعه وبصره وجوارحه قال الله تعالى: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} (الإسراء: 14)
.k
قال البغوي: ويحتمل أن يكون معناه: بل للإنسان على نفسه يعني جوارحه، فحذف حرف الجر كقوله تعالى: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم} (البقرة: 33)
أي: لأولادكم، ويجوز أن يكون نعتاً لاسم مؤنث أي: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة.
{ولو ألقى} أي: ذكر بغاية السرعة ذلك الإنسان من غير تلعثم دلالة على غاية الصدق والاهتمام والتملق. وقوله تعالى: {معاذيره} جمع معذرة على غير قياس قاله الجلال المحلي. أي: لو جاء بكل معذرة ما قبلت منه. وقال الزمخشريّ: المعاذير ليس بجمع معذرة، وإنما هو اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر ا. هـ. قال أبو حيان: وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع وإنما هو من أبنية جموع التكسير ا. هـ. وقيل: معاذير جمع معذار وهو الستر، والمعنى: ولو أرخى ستوره والمعاذير الستور بلغة اليمن قاله الضحاك. وحكى الماورديّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: {ولو ألقى معاذيره} أي: ولو تجرّد من ثيابه.
ولما كان صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي نازع جبريل عليه السلام القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن ينفلت منه أمره الله تعالى بأن ينصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه حتى يقضي الله تعالى وحيه ثم يعقبه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه بقوله تعالى:
{لا تحرك به} أي: بالقرآن {لسانك} ما دام جبريل عليه السلام يقرؤه {لتعجل به} أي:(4/441)
لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك، فإنّ هذه العجلة وإن كانت من الكمالات بالنسبة إليك وإلى إخوانك من الأنبياء عليهم السلام كما قال موسى عليه السلام: {وعجلت إليك ربّ لترضى} (طه: 84)
نقل صلى الله عليه وسلم من مقام كامل إلى أكمل منه.
ثم علل النهي عن العجلة بقوله تعالى: {إنّ علينا} أي: بما لنا من العظمة لا على أحد سوانا {جمعه} أي: في صدرك حتى تثبته وتحفظه {وقرآنه} أي: قراءتك إياه يعني جريانه على لسانك.
{فإذا قرأناه} عليك بقراءة جبريل عليه السلام {فاتبع} أي: بغاية جهدك بإلقاء سمعك وإحضار قلبك {قرآنه} أي: قراءته مجموعة على حسب ما أداه رسولنا وجمعناه لك في صدرك، وكرر تلاوته حتى يصير لك به ملكة عظيمة، ويصير لك خلقاً، فيكون قائدك إلى كل خير. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه فأنزل الله تعالى الآية التي في لا أقسم بيوم القيامة {لا تحرّك به لسانك} الآية، فكان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق. فإذا ذهب قرأه كما وعده الله تعالى» قال سعيد بن جبير: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما فأنزل الله عز وجل الآية.
{ثم إن علينا} أي: بما لنا من العظمة {بيانه} أي: بيان ألفاظه ومعانيه لك سواء أسمعته من جبريل عليه السلام على مثل صلصلة الجرس أم بكلام الناس المعتاد بالصوت والحروف، ولغيرك على لسانك وعلى ألسنة العلماء من أمّتك، والآية مشيرة إلى ترك مطلق العجلة؛ لأنه إذا نهى عنها في أعظم الأشياء وأهمها كان غيره بطريق الأولى، والمناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنّ تلك تضمنت الإعراض عن آيات الله تعالى، وهذه تضمنت المبادرة إليها بحفظها.
وقوله تعالى: {كلا} استفتاح بمعنى: ألا. وقال الزمخشري: ردع للنبيّ صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة، وقال جماعة من المفسرين: حقاً، والأوّل جرى عليه الجلال المحلي وهو أظهر. {بل يحبون} متجدّدة على تجدد الزمان {العاجلة} بدليل أنهم يقبلون غاية الإقبال عليها وحبها أوجب لهم ارتكاب ما يعلمون قبحه، فإنّ الآخرة والأولى ضرتان من تقرب من أحدهما لا بدّ من تباعده عن الأخرى، فإن حبك للشيء يعمي ويصم.
{ويذرون} أي: يتركون على أي وجه كان ولو أنه غير مستحسن {الآخرة} لأنهم يبغضونها لارتكابهم ما يضرّهم فيها وجمع الضمير وإن كان مبنى الخطاب مع الإنسان للمعنى. وقرأ {يحبون} و {يذرون} ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بياء الغيبة فيهما حملاً على لفظ الإنسان المذكور أوّلاً؛ لأنّ المراد به الجنس، لأنّ الإنسان بمعنى الناس والباقون بتاء الخطاب فيهما إما خطاباً لكفار قريش أي: تحبون يا كفار قريش العاجلة أي: الدار الدنيا والجاه فيها وتتركون الآخرة والعمل لها، وإما التفاتاً عن الإخبار عن الجنس المتقدّم والإقبال عليه بالخطاب.
ولما ذكر تعالى الآخرة التي أعرضوا عنها ذكر ما يكون فيها بياناً لجهلهم وسفههم وقلة عقولهم وترهيباً لمن أدبر عنها وترغيباً لمن أقبل عليها لطفاً بهم ورحمة لهم فقال تعالى: {وجوه} أي: من المحشورين وهم جميع الخلائق {يومئذ} أي: إذ تقوم الساعة {ناضرة} من النضرة بالضاد(4/442)
وهي النعمة والرفاهية أي: هي بهية مشرقة عليها أثر النعمة بحيث يدل ذلك على نعمة أصحابها.
{إلى ربها} أي: المحسن إليها خاصة باعتبار أن عد النظر إلى غيره كلا نظر {ناظرة} أي: دائماً هم محدقون أبصارهم لا غفلة لهم عن ذلك، فإذا رفع الحجاب عنهم أبصروه بأعينهم بدليل التعدّي بإلى، وذلك النظر جهرة من غير اكتتام ولا تضامّ ولا زحام كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وأكثر المفسرين، وجميع أهل السنة، وروي عن النبيّ عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة من وجوه كثيرة بحيث اشتهر غاية الشهرة، وتكون الرؤية كما مثلت في الأحاديث كما يرى القمر ليلة البدر أي: كل من يريد رؤيته من بيته يراه مجلياً له، هذا وجه الشبه، لا أنه في جهة ولا في حالة لها شبيه تعالى الله الكريم عن التشبيه.
فمن تلك الأحاديث ما روي عن جرير بن عبد الله قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} » (طه: 130)
وفي كتاب النسائي عن وهب قال: «ينكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم شيئاً أحبّ إليهم من النظر ولا أقر لأعينهم» .
وعن جابر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجلى ربنا عز وجل حتى ننظر إلى وجهه فيخرون له سجداً فيقول تعالى: ارفعوا رؤوسكم، فليس هذا يوم عبادة» .
وقدم الجارّ الدال على الاختصاص إشارة إلى أنّ هذا النظر مباين للنظر إلى غيره، فلا يعد ذلك نظراً بالنسبة إليه وعبر بالوجوه عن أصحابها؛ لأنها أدل ما يكون على السرور، وليكون ذكرها أصرح في أنّ المراد بالنظر حقيقته.
روى مسلم في قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس: 26)
كان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم تلا هذه الآية.
وأنكر الرؤية المعتزلة، واحتجوا بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} (الأنعام: 103)
ويقولون: النظر المقرون بإلى ليس اسماً للرؤية بل لمقدّمة الرؤية وهي تقليب الحدقة نحو المرئيّ التماساً لرؤيته ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة وكالإصغاء بالنسبة إلى السمع، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} (الأعراف: 198)
فأثبت النظر حال عدم الرؤية، فتكون الرؤية غاية النظر وأنّ النظر يحصل والرؤية غير حاصلة. قالوا: ويمكن أن يكون معنى قوله تعالى: {ناظرة} منتظرة كقولك أنا أنظر إليك في حاجتي.
وأجيب عن استدلالهم بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} بأن لا تدركه بالإحاطة والجهة فلا يكون ذلك مانعاً للرؤية على هذا الوجه وعن بقية استدلالهم بما ذكروه بجوابين:
أحدهما: أن نقول: النظر هو الرؤية لقول موسى عليه السلام {أرني أنظر إليك} (الأعراف: 143)
فلو كان المراد تقليب الحدقة نحو المرئي لاقتضت الآية إثبات الجهة والمكان، ولأنه أخر النظر عن الإراءة فلا يكون تقليب الحدقة.
الجواب الثاني: سلمنا ما ذكرتموه من أنّ النظر تقليب الحدقة تعذر حمله على الحقيقة فيجب حمله على الرؤية إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وهو أولى من حمله على الانتظار لعدم الملازمة؛ لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية، ولا تعلق بينه وبين الانتظار.
وأمّا قولهم بحمله على الانتظار فأجيب عنه أيضاً بأن الذي هو بمعنى الانتظار في القرآن(4/443)
غير مقرون بإلى، كقوله تعالى: {انظرونا نقتبس من نوركم هل ينظرون إلا أن} (الحديد: 13)
والذي ندعيه أن النظر المقرون بإلى ليس إلا بمعنى الرؤية؛ لأنّ وروده بمعنى الرؤية ظاهرة فلا يكون بمعنى الانتظار دفعاً للاشتراك.
ولما ذكر تعالى أهل النعمة أتبعه أضدادهم من أهل النقمة فقال سبحانه وتعالى:
{ووجوه يومئذ} أي: في ذلك اليوم بعينه {باسرة} أي: شديدة العبوس والكلوح والتكره لما هي فيه من الغم كأنها قد غرقت فيه. وقال السدي: {باسرة} متغيرة.
{تظن} أي: يتوقع أربابها بما ترى من المخايل {أن يفعل بها} أي: بهم فإنه إذا أصيب الوجه الذي هو أشرف ما في الجملة كان ما عداه أولى {فاقرة} وهي الداهية العظيمة، قال أبو عبيدة: سميت بذلك لأنها تكسر فقار الظهر يقال: فقرته الفاقرة أي: كسرت فقار ظهره ومنه سمي الفقير لانكسار فقاره من القل. وقال قتادة: الفاقرة الشر، وقال السدي: الهلاك. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: دخول النار. وقال الكلبي: هي أن تحجب عن رؤية الربّ عز وجل.
وقوله تعالى: {كلا} ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري، وزاد الزمخشري كأنه قيل: ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا إلى ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم وتنقلبون إلى الآجلة التي تبقوا فيها مخلدين {إذا بلغت} النفس {التراقي} وأضمر النفس وإن لم يجر لها ذكر؛ لأنّ الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها كما قال حاتم:
*أماويّ ما يغني الثراء عن الفنى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر*
وتقول العرب: أرسلت، يريدون جاء المطر، ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء. والتراقي: جمع ترقوة وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال، ولكل إنسان ترقوتان. قال البقاعي: ولعله جمع المثنى إشارة إلى شدة انتشارها بغاية الجهد لما فيه من الكرب لاجتماعها من أقاصي البدن إلى هناك ا. هـ. وهذا كناية عن الإشفاء على الموت ذكرهم صعوبة الموت وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها.
{وقيل} أي: قال حاضر وصاحبها وهو المحتضر بعضهم لبعض {من راق} أي: أيكم يرقيه مما به ليحصل له الشفاء. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو من كلام ملائكة الموت، أي: أيكم يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، فالأول اسم فاعل من رقى يرقى بمعنى الرقية بالفتح في الماضي والكسر في المضارع. والثاني: الذي بمعنى الصعود بالكسر في الماضي والفتح في المضارع.
{وظن} أي: أيقن المحتضر لما لاح له من أنوار الآخرة، وقيل: القائل من راق من أهله {أنه} أي: الشأن العظيم الذي هو فيه {الفراق} لما كان أي: فيه من محبوب العاجلة الذي هو الفراق الأعظم الذي لا فراق مثله، ففي الخبر إن العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض تقول: السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة، وسمي اليقين هنا بالظن لأنّ الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه، فإنه يطمع في الحياة لشدّة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها، أو أنّ المراد الظن الغالب إذ لا يحصل يقين الموت مع رجاء الحياة. وقيل: سماه بالظن تهكماً قال الرازي: وهذه الآية تدل على أن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت البدن لأنه تعالى سمى الموت فراقاً، والفراق إنما يكون(4/444)
إذا كانت الروح باقية، فإنّ الفراق والوصال صفة والصفة تستدعي وجود الموصوف.
{والتفت الساق بالساق} أي: اجتمعت إحداهما بالأخرى إذ الالتفاف الاجتماع، قال تعالى: {جئنا بكم لفيفاً} (الإسراء: 104)
ومعنى الكلام اتصلت شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن وغيرهما. وقال الشعبي: التفت ساق الإنسان عند الموت من شدة الكرب. قال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى، وقال سعيد بن المسيب: هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم: التفت ساق الكفن بساق الميت. وقال الضحاك: الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه. وقال السدي: لا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه، وأول الأقوال كما قال النحاس: أحسنها، والعرب لا تذكر الساق إلا في الشدائد والمحن العظام، ومنه قولهم قامت الحرب على ساق، قال أهل المعاني: لأنّ الإنسان إذا دهمته شدة شمر لها عن ساقيه، فقيل للأمر الشديد: ساق. قال الجعدي:
*أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا*
ولما صور وقت تأسفه على الدنيا وإعراضه عنها ذكر غاية ذلك، فقال تعالى مفرداً النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم هذا حق فهمه غيره {إلى ربك} أي: المحسن إليك بجميع ما أنت فيه {يومئذ} أي: إذ وقع هذا الأمر {المساق} أي: السوق إلى حكمه تعالى فقد انقطعت عنه أحكام الدنيا فإما أن تسوقه الملائكة إلى سعادة وإمّا إلى شقاوة.
والضمير في قوله تعالى: {فلا صدّق} راجع للإنسان المذكور في {أيحسب الإنسان} أي: فلا صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أخبره به بما كان يعمل من الأعمال الخبيثة ولا في ماله بالإنفاق في وجوه الخير التي ندب إليها واجبة كانت أو مندوبة. وحذف المعمول لأنه أبلغ في التعميم.
{ولا صلى} أي: ما أمر به من فرض وغيره فلا تمسك بحبل الخالق ولا وصل حبل الخلائق، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لم يصدق بالرسالة ولا صلى، أي: دعا لربه عز وجلّ وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وقال قتادة: فلا صدق بكتاب الله تعالى ولا صلى لله جل ذكره.
{ولكن} أي: فعل ضد ما أمر به بأن {كذب} أي: بما أتاه به النبيّ صلى الله عليه وسلم من قرآن وغيره {وتولى} أي: أعرض عنه وهذا الاستدراك واضح إذ لا يلزم من نفي التصديق والصلاة التكذيب والتولي. وقال القرطبي: معناه: كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان. وقيل: نزلت في أبي جهل.
{ثم ذهب} أي: هذا الإنسان أو أبو جهل {إلى أهله} غير متفكر في عاقبة ما فعل من التكذيب حالة كونه {يتمطى} أي: يتبختر افتخاراً بتكذيبه وإعراضه وعدم مبالاته بذلك وأصله يتمطط أي: يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه، وإنما أبدلت الطاء الثانية ياء كراهة اجتماع الأمثال، وقيل: هو من المطا وهو الظهر لأنه يلويه تبختراً في مشيته.
وقوله تعالى: {أولى لك} فيه التفات من الغيبة والكلمة اسم فعل واللام للتبيين أي: وليك ما تكره {فأولى} أي: فهو أولى بك من غيرك.
وقوله تعالى: {ثم أولى لك فأولى} تأكيد وقيل: هذه الكلمة تقولها العرب لمن قاربه المكروه، وأصلها من الولي وهو القرب. قال الله تعالى: {قاتلوا الذين يلونكم} (التوبة: 123)
وقال قتادة: ذكر لنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية «أخذ بمجامع ثوب(4/445)
أبي جهل بالبطحاء، وقال له: {أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى} فقال أبو جهل: أتوعدني يا محمد فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً، وإني والله لأعز من مشى بين جبليها» . فلما كان يوم بدر صرعه الله شر مصرع وقتله أسوأ قتلة، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لكل أمة فرعون، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل» .
{أيحسب} أي: يجوّز لقلة عقله {الإنسان} أي: الذي هو عبد مربوب ضعيف عاجز محتاج بما يرى من نفسه وأبناء جنسه {أن يترك} أي: يكون تركه بالكلية {سدى} أي: هملاً لاغياً لا يكلف ولا يجازى ولا يعرض على الملك الأعظم الذي خلقه فيسأله عن شكره فيما أسدى إليه، فإنّ ذلك مناف للحكمة فإنها تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن المساوئ والجزاء على كل منهما، وأكثر الظالمين والمظلومين يموتون من غير جزاء فاقتضت الحكمة أنه لا بدّ من البعث للجزاء.
{ألم يك} أي: الإنسان {نطفة} أي: شيئاً يسيراً {من منيَ} أي: ماء من صلب الرجل وترائب المرأة {يمنى} أي: تصب في الرحم سبب الله تعالى للإنسان المعالجة في إخراجها بما ركب فيه من الشهوة، وجعل له من الزوج التي يسرها لقضاء وطره حتى إنّ وقت صبها في الرحم تصب منه بغير اختياره حتى كأنه لا فعل له فيها أصلاً.
فإن قيل: ما فائدة {يمنى} بعد قوله تعالى: {من منيَ} ؟ أجيب: بأن فيه إشارة إلى حقارة حاله كأنه قيل: إنه مخلوق من المني الذي يجري على مجرى النجاسة فلا يليق بمثل هذا أن يتمرد عن طاعة الله تعالى إلا أنه عبر عن هذا المعنى على سبيل الرمز كما في قوله تعالى في عيسى عليه السلام وأمه مريم {كانا يأكلان الطعام} (المائدة: 75)
والمراد منه قضاء الحاجة.
{ثم كان} أي: كوناً محكماً {علقة} أي: دماً أحمر غليظاً شديد الحمرة والغلظ {فخلق} أي: قدر سبحانه عقب ذلك لحمه وعظامه وعصبه وغير ذلك من جواهره وأعراضه {فسوى} أي: عدّل من ذلك خلقاً آخر غاية التعديل شخصاً مستقلاً.
{فجعل} أي: بسبب النطفة {منه} أي: من المنيّ الذي صار علقة، أي: قطعة دم ثم مضغة أي: قطعة لحم {الزوجين} أي: النوعين {الذكر والأنثى} يجتمعان تارة وينفرد كل منهما عن الآخر تارة. قال القرطبيّ: وقد احتج بهذه الآية من رأى إسقاط الخنثى، وأجيب بأن هذه الآية وقرينتها خرجت مخرج الغالب أو أنه في نفس الأمر ذكر أو أنثى.
{أليس ذلك} أي: الخالق المسوي الإله الأعظم الذي قدر على تمييز ما يصلح من ذلك للذكر وما يصلح منه للأنثى {بقادر على أن يحيي الموتى} أي: أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البلى. «روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: سبحانك اللهم بلى» رواه أبو داود والحاكم، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من قرأ سبح اسم ربك الأعلى إماماً كان أو غيره فليقل سبحان ربي الأعلى ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة إلى آخرها فليقل سبحانك اللهم بلى إماماً كان أو غيره. وروى البغوي بسنده من طريق أبي داود عن أعرابيَ عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها {أليس الله بأحكم الحاكمين} (التين: 8)
فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} فليقل: بلى، ومن قرأ والمرسلات فبلغ {فبأي حديث بعده يؤمنون} (المرسلات: 50)
فليقل: آمنا بالله» . وروي أنّ رجلاً كان يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ {أليس ذلك بقادر على أن يحيي(4/446)
الموتى} قال: سبحانك اللهم بلى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أن كان مؤمناً» حديث موضوع.
سورة الإنسان
وتسمى هل أتى والأمشاج والدهر مكية أو مدينة وهي إحدى وثلاثون آية، ومائتان وأربعون كلمة، وألف وأربعة وخمسون حرفاً
واختلف فيها هل هي مكية أو مدينة فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومقاتل والكلبي: مكية وجرى عليه البيضاوي والزمخشري. وقال الجمهور: مدنية، وقال الجلال المحلي: مكية أومدنية ولم يجزم بشيء. وقال الحسن وعكرمة: هي مدنية إلا آية وهي قوله تعالى: {فاصبر لحكم ربك ولاتطع منهم آثماً أو كفوراً} (الإنسان: 24)
وقيل: فيها مكّي من قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً} (الإنسان: 23)
إلى آخر السورة وما تقدمه مدنيّ.
{بسم الله} الذي له الأسماء الحسنى {الرحمن} الذي عم بنعمه الذكر والأنثى. {الرحيم} الذي خص منهم من شاء لمقام الأسنى.
ولما تم الاستدلال على البعث والقدرة عليه تلاه بهذا الاستفهام وهو قوله تعالى:
{هل أتى} قال الزمخشري: بمعنى قد في الاستفهام خاصة والأصل أهل بدليل قول الشاعر:
*سائل فوارس يربوع بسدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم*
فالمعنى: أقد أتى على التقرير والتقريب جميعاً أي: أتى {على الإنسان} قبل زمان قريب {حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} أي: كان شيئاً منسياً غير مذكور نطفة في الأصلاب اه. فقوله على التقرير يعني المفهوم من الاستفهام، وقوله: والتقريب يعني المفهوم من قد التي وقع موقعها هل، ومعنى قوله في الاستفهام خاصة أن هل لا تكون بمعنى قد إلا ومعها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم أو تقديراً كالآية الكريمة، ولو قلت: هل جاء زيد بمعنى قد جاء من غير استفهام لم يجز. وغيره جعلها بمعنى قد من غير هذا القيد، وجرى عليه الجلال المحلي. واعترض على الزمخشري بأنه لم يذكر غير كونها بمعنى قد. وبقي قيد آخر وهو أن يقول في الجمل الفعلية لأنها متى دخلت على جملة اسمية استحال كونها بمعنى قد؛ لأن قد مختصة بالأفعال وأجيب عنه بأن هذا لا يحتاج إليه؛ لأنه تقرّر أن قد لا تباشر الأسماء.
واختلف في المراد من الإنسان، فقال قتادة وعكرمة والشعبيّ: هو آدم عليه السلام مرّت عليه أربعون سنة قبل أن تنفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة والطائف. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية الضحاك أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة ثم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح. وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ الحين المذكور هنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره. وقال الحسن: خلق الله(4/447)
كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دوابّ البرّ والبحر في الأيام الست التي خلق الله تعالى فيها السموات والأرض وآخرها خلق آدم عليه السلام فهو قوله تعالى: {لم يكن شيئاً مذكوراً} .
روي أنّ أبا بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية قال: ليتها تمت فلا نبتلى أي: ليت هذه المدّة التي أتت على آدم عليه السلام {لم يكن شيئاً مذكوراً} تمت على ذلك فلا يلد ولا تبتلى أولاده. وسمع عمر رجلاً يقرأ {لم يكن شيئاً مذكوراً} قال عمر: ليتها تمت يقول: ليته بقي ما كان، هذا وهما ضجيعاه صلى الله عليه وسلم ولكن بقدر القرب يكون الخوف.
فإن قيل: إنّ الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ الروح فيه ما كان إنساناً والآية تقتضي أنه مضى على الإنسان حال كونه إنساناً حين من الدهر مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئاً مذكوراً؟ أجيب: بأن الطين والصلصال إذا كان مصوراً بصورة الإنسان ويكون محكوماً عليه بأنه سينفخ فيه الروح ويصير إنساناً صح تسميته بأنه إنسان.
روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {لم يكن شيئاً مذكوراً} لا في السماء ولا في الأرض بل كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ الروح فصار مذكوراً. قال ابن سلام: لم يكن شيئاً لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ولم يخلق بعده حيواناً.
وقال الزمخشريّ وتبعه جماعة من المفسرين: إنّ المراد بالإنسان جنس بني آدم بدليل قوله تعالى: {إنا خلقنا الإنسان} أي: بعد خلق آدم عليه السلام {من نطفة} أي: مادّة هي شيء يسير جداً من الرجل والمرأة وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه:
*ما لي أراك تكرهين الجنة ... هل أنت إلا نطفة في شنه*
وعلى هذا فالمراد بالحين المدة التي هو فيها في بطن أمه {لم يكن شيئاً مذكوراً} إذ كان علقة ومضغة؛ لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له وقوله تعالى: {أمشاج} أي: أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين نعت لنطفة ووقع الجمع نعتاً لمفرد لأنه في معنى الجمع كقوله {رفرف خضر} أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فوصفت بالجمع، وقال الزمخشريّ: {نطفة أمشاج} كبرمة أعشار وبرد أكياش، وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد، ويقال أيضاً: نطفة مشج قال الشماخ:
*طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين*
ولا يصح أمشاج أن يكون تكسيراً له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما اه. فقد منع أن يكون أمشاجاً جمع مشج بالكسر. قال أبو حيان: وقوله مخالف لنص سيبويه والنحويين على أنّ أفعالاً لا يكون مفرداً، وأجاب بعضهم بأن الزمخشري إنما قال يوصف به المفرد ولم يجعل أفعالاً مفرداً فكأنه جعل كل قطعة من البرمة برمة وكل قطعة من البرد برداً فوصفهما بالجمع، والمعنى: من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الأجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام والخواص يجمع من الأخلاط وهي العناصر الأربعة: ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فأيهما علا كان الشبه له.
وعن ابن عباس رضي الله(4/448)
تعالى عنهما قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد فما كان من عصب وعظم وقوّة فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة، قال القرطبيّ: وقد روي هذا مرفوعاً ذكره البزار وعن قتادة: أمشاج ألوان وأطوار، يريد أنها تكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خلقاً آخر. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: هي عروق النطفة. وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء، والغرض من هذا التنبيه على أنّ الإنسان محدَث فلا بد له من محدث قادر على تصويره وقد صوّره على صور مختلفة فمنها صغير وكبير وطويل وقصير ومستدير وعريض.
ولما كان الإنسان محتاجاً إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه جعل بين العظام مفاصل ثم أوصلها بأوتار وعروق ولحم، ودوّر الرأس وشق في جانبيه السمع، وفي مقدمه البصر والأنف والفم، وشق في البدن سائر المنافذ، ثم مد اليدين والرجلين وقسم رؤوسها بالأصابع وركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة، فسبحان من خلق تلك الأشياء من نطفة سخيفة {أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} (القيامة: 40)
وقوله تعالى: {نبتليه} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه حال من فاعل خلقنا أي: خلقناه حال كوننا مبتلين له، والثاني: أنه حال من الإنسان وصح ذلك لأنّ في الجملة ضميرين كل منهما يعود على ذي الحال، ثم هذه الحال يجوز أن تكون مقارنة إن كان المعنى: نبتليه نصرّفه في بطن أمّه نطفة ثم علقة، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأن تكون مقدرة إن كان المعنى: نبتليه نختبره بالتكليف لأنه وقت خلقه غير مكلف، وفيما يختبره به وجهان: أحدهما: قال الكلبي: تختبره بالخير والشرّ. والثاني: قال الحسن: نختبر شكره في السرّاء وصبره في الضرّاء. وقيل: نبتليه نكلفه بالعمل بعد الخلق. قال مقاتل رضي الله عنه: وقيل: نكلفه ليكون مأموراً بالطاعة ومنهياً عن المعاصي.
{فجعلناه} أي: بما لنا من العظمة بسبب ذلك {سميعاً بصيراً} أي: عظيم السمع والبصر والبصيرة ليتمكن من مشاهدة الدلائل ببصره وسماع الآيات بسمعه ومعرفة الحجج ببصيرته، فيصح تكليفه وابتلاؤه فقدّم العلة الغائية لأنها متقدّمة في الاستحضار على التابع لها المصحح لورودها، وقدّم السمع لأنه أنفع في المخاطبات، ولأنّ الآيات المسموعة أبين من الآيات المرئية، وخصهما بالذكر لأنهما أنفع الحواس، ولأنّ البصر يفهم البصيرة وهي تتضمن الجميع، وقال بعضهم: في الكلام تقديم وتأخير، والأصل إنا جعلناه سميعاً بصيراً نبتليه، أي: جعلنا له ذلك للابتلاء. وقيل: المراد بالسميع المطيع كقولك سمعاً وطاعة وبالبصير العالم يقال: لفلان بصر في هذا الأمر.
{إنا} أي: بما لنا من العظمة {هديناه السبيل} أي: بينا له وعرّفناه طريق الهدى والضلال والخير والشرّ ببعثة الرسل، وقال مجاهد رضي الله عنه: بينا له السبيل إلى السعادة والشقاوة. وقال السدّي رضي الله عنه: السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل: منافعه ومضارّه التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. قال الرازي: والآية تدل على أنّ العقل متأخر عن الحواس. قال: وهو كذلك.
وقوله تعالى: {إمّا شاكراً} أي: لإنعام ربه عليه {وإمّا كفوراً} أي: بليغ الكفر بالإعراض والتكذيب نصب على الحال وفيه وجهان: أحدهما: أنه حال من مفعول(4/449)
هديناه أي: هديناه مبيناً له كلتا حالتيه، والثاني: أنه حال من السبيل على المجاز. قال الزمخشري: ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي: عرّفناه السبيل إمّا سبيلاً شاكراً وإمّا سبيلاً كفوراً كقوله تعالى: {وهديناه النجدين} (البلد: 10)
فوصف السبيل بالشكر والكفر مجازاً، وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» الحديث، وعن جابر رضي الله عنه: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إمّا شاكراً وإمّا كفوراً» .
ولما قسمهم إلى قسمين ذكر جزاء كل فريق فقال تعالى:
{إنا} أي: على ما لنا من العظمة {أعتدنا} أي: هيأنا وأحضرنا بشدّة وغلظة {للكافرين} أي: العريقين في الكفر خاصة وقدم الأسهل في العذاب فالأسهل فقال تعالى: {سلاسلا} جمع سلسلة أي: يقادون ويوثقون بها {وأغلالاً} أي: في أعناقهم تشد فيها السلاسل فتجمع أيديهم إلى أعناقهم {وسعيراً} أي: ناراً حامية جداً شديدة الاتقاد.
وقرأ نافع وهشام وشعبة والكسائي سلاسلاً وصلاً بالتنوين والباقون بغير تنوين وأما الوقف على الثانية فوقف عليها بغير ألف قنبل وحمزة، ووقف البزي وابن ذكوان وحفص بغير ألف وبالألف، ووقف الباقون بالألف ولا وقف على الأولى والرسم بالألف. أمّا من نوّن سلاسل فوجه بأوجه منها أنه قصد بذلك التناسب لأنّ ما قبله وما بعده منوّن منصوب. ومنها أن الكسائي وغيره من أهل الكوفة حكوا عن بعض العرب أنهم يصرفون جميع ما لا ينصرف إلا أفضل منك. وقال الأخفش: سمعنا من العرب من يصرف كل ما لا ينصرف لأنّ الأصل في الأسماء الصرف وترك الصرف لعارض فيها. وروي عن بعضهم أنه يقول: رأيت عمراً بالألف يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأيضاً هذا الجمع قد جمع وإن كان قليلاً، قالوا صواحب وصواحبات. وفي الحديث: «إنكن صواحبات يوسف» ومنها أنه مرسوم في الإمام أي: مصحف الحجاز والكوفة بالألف، رواه أبو عبيدة ورواه قالون عن نافع، وروى بعضهم ذلك عن مصاحف البصرة أيضاً.
وقال الزمخشري: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون هذا التنوين بدلاً من حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف، والثاني: أن يكون صاحب هذه القراءة ممن ضرى برواية الشعر ومرّن لسانه على صرف غير المنصرف ا. هـ. قال بعض المفسرين: وفي هذه العبارة فظاظة وغلظة لا سيما على مشايخ الإسلام وأئمة العلماء الأعلام، وأما من لم ينوّنه فوجهه ظاهر لأنه على صيغة منتهى الجموع وقولهم: قد جمع نحو صواحبات لا يقدح لأنّ المحذور جمع التكسير، وهذا جمع تصحيح، وأما من لم يقف بالألف فواضح.
ولما أوجز في جزاء الكافر أتبعه جزاء الشاكر وأطنب تأكيداً للترتيب فقال تعالى: {إنّ الأبرار} جمع برّ كأرباب جمع رب أو بار كأشهاد جمع شاهد، وفي الصحاح وجمع البار البررة وهم الصادقون في أيمانهم المطيعون لربهم الذين سمت همتهم عن المستحقرات فظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة، وروى ابن عمر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما سماهم الله تعالى الأبرار؛ لأنهم برّوا الآباء والأبناء كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق» . وقال الحسن رضي الله عنه: البرّ الذي لا يؤذي الذرّ. وقال قتادة رضي الله عنه: الأبرار الذين يؤدّون حق الله ويوفون بالنذر. وفي الحديث «الأبرار الذين لا يؤذون(4/450)
أحداً» .
{يشربون من كأس} هو إناء شرب الخمر وهي فيه والمراد من خمر تسمية للحالّ باسم المحل ومن للتبعيض {كان مزاجها} أي: ما تمزج به {كافوراً} لبرده وعذوبته وطيب عرفه، وذكر فعل الكون يدل على أنّ له شأناً في المزج عظيماً يكون فيه كأنه من نفس الجبلة لا كما يعهد، والكافور نبت معروف وكان اشتقاقه من الكفر وهو الستر لأنه يغطي الأشياء برائحته والكافور أيضاً كمام الشجر الذي هو ثمرتها، والكافر البحر، والكافر الليل، والكافر الساتر لنعم الله تعالى، والكافر الزارع لتوريته الحب في الأرض، قال الشاعر:
*وكافر مات على كفره ... وجنة الفردوس للكافر*
والكفارة تغطية الإثم في اليمين الفاجرة والنذور الكاذبة بالمغفرة، والكافور: ماء جوف الشجر مكفور فيغرزونه بالحديد فيخرج إلى ظاهر الشجر فيضربه الهواء فيجمد وينعقد كالصمغ الجامد على الأشجار.
فإن قيل: مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذاً فما السبب في ذكره؟ أجيب: بأوجه:
أحدها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: الكافور اسم عين في الجنة يقال لها عين الكافور، أي: يمازجها ماء هذه العين التي تسمى كافوراً في بياض الكافور ورائحته وبرده ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرّته.
ثانيها: أنّ رائحة الكافور عرض، والعرض لا يكون إلا في جسم فخلق الله تعالى تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب، فسمي ذلك الجسم كافوراً وإن كان طعمه طيباً فيكون الكافور ريحها لا طعمها.
ثالثها: أنّ الله تعالى يخلق الكافور في الجنة مع طعم طيب لذيذ ويسلب عنه ما فيه من المضرّة، ثم إنه تعالى يمزجه بذلك الشراب كما أنه تعالى يسلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من المضارّ وقال سعيد عن قتادة رضي الله عنهم: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. وقيل: يخلق فيها رائحة الكافور وبياضه فكأنها مزجت بالكافور.
وقوله تعالى: {عيناً} في نصبه أوجه: أحدها: أنه بدل من {كافوراً} لأنّ ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وبرده واقتصر على هذا الجلال المحلي.
الثاني: أنه بدل من محل {من كأس} قاله مكي ولم يقدّر حذف مضاف، وقدّر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف، قال: كأنه قيل: يشربون خمراً خمر عين. الثالث: أنه نصب على الاختصاص قاله الزمخشري. الرابع: أنه بإضمار أعني قاله القرطبي، وقيل: غير ذلك.
{يشرب بها} قال الجلال المحلي: منها. وقال البقاعي: أي: بمزاجها. وقال الزمخشري: بها الخمر، قال: كما تقول شربت الماء بالعسل والأوّل أوضح. {عباد الله} أي: أولياؤه.
فإن قيل: الكفار عباد الله وهم لا يشربون منها بالاتفاق؟ أجيب: بأنّ لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان ولكن يشكل بقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} (الزمر: 7)
فإنه يصير تقدير الآية ولا يرضى لعبادة المؤمنين الكفر مع أنه سبحانه لا يرضى الكفر للكافر ولا لغيره، وقد يجاب بأنّ هذا أكثري لا كلي، أو يقال: حيث أضيف العباد أو العبد إلى اسم الله الظاهر سواء كان بلفظ الجلالة أم لا فالمراد به المؤمن، وإن أضيف إلى ضميره تعالى فيكون بحسب المقام، فتارة يختص بالمؤمن كقوله تعالى: {إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان} (الحجر: 42)
وتارة يعمّ كقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} وقوله تعالى: {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم} (الحجر: 49)
{يفجرونها} أي: يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم وإن علت {تفجيراً} سهلاً لا يمتنع عليهم.
{س76ش7/ش13 يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ? مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ? مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَشُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَـ?ـاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَالِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّـ?ـاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَ?ـاهُم بِمَا صَبَرُوا? جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُّتَّكِـ?ِينَ فِيهَا عَلَى ا?رَآ?ـ?ِكِ? يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَزَمْهَرِيرًا}(4/451)
ولما ذكر جزاءهم ذكر وصفهم الذي يستحقون عليه ذلك بقوله تعالى: {يوفون بالنذر} وهذا يجوز أن يكون مستأنفاً ويجوز أن يكون خبراً لكان مضمرة. قال الفراء: التقدير: كانوا يوفون بالنذر في الدنيا وكانوا يخافون. وقال الزمخشري: يوفون جواب من عسى يقول: ما لهم يرزقون ذلك. قال أبو حيان: واستعمل عسى صلة لمن وهو لا يجوز، وأتى بالمضارع بعد عسى غير مقرون بأن وهو قليل أو في الشعر، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأنّ من وفّى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله تعالى كان بما أوجبه الله تعالى عليه أوفى، وقال الكلبي:
{يوفون بالنذر} أي: يتممون العهود لقوله تعالى: {وأفوا بعهد الله} (النمل: 91)
{أوفوا بالعقود} (المائدة: 1)
أمروا بالوفاء بها لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان. قال القرطبي: والنذر حقيقة ما أوجبه المكلف على نفسه من شيء يفعله، وإن شئت قلت في حدّه: هو إيجاب المكلف على نفسه من الطاعات ما لو لم يوجبه لم يلزمه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» .
ولما دل وفاؤهم على سلامة طباعهم قال تعالى عاطفاً دلالة على جمعهم للأمرين المتعاطفين، فهم يفعلون الوفاء لا لأجل شيءٍ بل لكرم الطبع. {ويخافون} أي: مع فعلهم للواجبات {يوماً} قال ابن عبد السلام: شرّ يوم أو أهوال يوم {كان} أي: كوناً هو في جبلته {شرّه} أي: ما فيه من الشدائد {مستطيراً} أي: فاشياً منتشراً غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار. وقال قتادة رضي الله عنه: كان شرّه فاشياً في السموات فانشقت وتناثرت الكواكب وكوّرت الشمس والقمر وفزعت الملائكة ونسفت الجبال وغارت المياه وتكسر كل شيء على الأرض من جبل وبناء، وفي ذلك إشعار بحسن عقيدتهم وإحسانهم واجتنابهم عن المعاصي فإن الخوف أدل دليل على عمارة الباطن، قالوا: ما فارق الخوف قلباً إلا خرب، ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل.
فإن قيل: لم قال تعالى: {كان شرّه} ولم يقل سيكون؟ أجيب: بأنه كقوله تعالى: {أتى أمر الله} (النحل: 1)
فبما قيل في ذاك يقال هنا.
{ويطعمون الطعام} أي: على حسب ما يتيسر لهم من عال ودون، وقوله تعالى: {على حبه} حال إما من الطعام أي: كائنين على حبهم إياه فهو في غاية المكنة منهم والاستعلاء على قلوبهم لقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه، كما قال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} (آل عمران: 92)
ليفهم أنهم للفضل أشدّ بذلاً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حق الصحابة رضي الله عنهم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» لقلة الموجود إذ ذاك وكثرته بعد، وإما من الفاعل والضمير في حبه لله أي: على حب الله وعلى التقديرين فهو مصدر مضاف للمفعول. وقال الفضيل بن عياض: على حب إطعام الطعام.
{مسكيناً} أي: محتاجاً احتياجاً يسيراً فصاحب الاحتياج الكثير أولى {ويتيماً} أي: صغيراً لا أب له {وأسيراً} أي: في أيدي الكفار. وخص هؤلاء بالذكر لأنّ المسكين عاجز عن الاكتساب بنفسه عما يكفيه، واليتيم مات من يكتسب له وبقي عاجزاً عن الكسب لصغره، والأسير لا يتمكن لنفسه نصراً ولا حيلة.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير رضي الله عنهم: الأسير المحبوس فيدخل في ذلك المملوك والمسجون والكافر الذي في أيدي المسلمين، وقد نقل في غزوة بدر أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يؤثر(4/452)
أسيره على نفسه بالخبز، وكان الخبز إذ ذاك عزيزاً حتى كان ذلك الأسير يعجب من مكارمهم حتى كان ذلك مما دعاه إلى الإسلام، وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما دفعهم إليهم قال: «استوصوا بهم خيراً» . وقيل: الأسير المملوك، وقيل: المرأة لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم «اتقوا الله في النساء فإنهنّ عندكم عوان» أي: أسرى.
وقوله تعالى: {إنما نطعمكم} على إضمار القول أي: يقولون بلسان المقال أو الحال: إنما نطعمكم أيها المحتاجون {لوجه الله} أي: لذات الملك الذي استجمع الجلال والإكرام لكونه أمرنا بذلك، وعبر بالوجه لأنّ الوجه يستحى منه ويرجى ويخشى عند رؤيته {لا نريد منكم} لأجل ذلك {جزاء} أي: لنا من أعراض الدنيا {ولا شكوراً} أي: لشي من قول ولا فعل، روي أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل المبعوث ما قالوا، فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله تعالى.
ثم عللوا قولهم هذا على وجه التأكيد بقولهم {إنا نخاف من ربنا} أي: الخالق لنا المحسن إلينا {يوماً} أي: أهوال يوم هو في غاية العظمة وبينوا عظمته بقولهم {عبوساً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ووصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء كقولك: نهارك صائم روي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وأن يشبه في شدّته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل.
{قمطريراً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: طويلاً. وقال مجاهد وقتادة رضي الله عنهم: القمطرير الذي يقبض الوجوه والجباه بالتعبس. وقال الكلبي: العبوس الذي لا انبساط فيه والقمطرير الشديد وقال الأخفش: القمطرير أشدّ ما يكون من الأيام وأطوله في البلاد يقال يوم قمطرير وقماطير إذا كان شديداً كريهاً.
ولما كان فعلهم هذا خالصاً لله تعالى سبب عنه جزاءهم فقال تعالى: {فوقاهم الله} أي: الملك الأعظم بسبب خوفهم {شر ذلك اليوم} أي: العظيم ولا بدّ لهم من نعيم ظاهر وباطن ومسكن يقيمون فيه وملبس وقد أشار إلى الأوّل بقوله تعالى: {ولقاهم} أي: أعطاهم {نضرة} أي: حسناً دائماً في وجوههم، وأشار إلى الثاني بقوله تعالى: {وسروراً} أي: في قلوبهم دائماً في مقابلة خوفهم في الدنيا.
وأشار إلى الثالث بقوله تعالى: {وجزاهم بما صبروا} أي: بسبب ما أوجدوا من الصبر على العبادة من لزوم الطاعة واجتناب المعصية ومنع أنفسهم الشهوات وبذل المحبوبات {جنة} أي: ادخلوا بستاناً جامعاً يأكلون منه ما يشتهون جزاء على ما كانوا يطعمون وإن كان غيرهم يشاركهم في ذلك دونهم في الجزاء وأشار إلى الرابع بقوله تعالى: {وحريراً} أي: ألبسوه أي: هو في غاية العظمة وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري عن ابن عباس أنّ الحسن والحسين رضي الله عنهما مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما صوم ثلاثة أيام إن برئا فشفيا وما معهما شيء، فاستقرض عليّ من شمعون اليهودي الخيبري ثلاثة آصع من شعير وطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا لم يذوقوا(4/453)
إلا الماء وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا وضعوا الطعام بين أيديهم فوقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك زاد في الكشاف فلما أصبحوا أخذ عليّ رضي الله تعالى عنه بيد الحسن والحسين فأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل عليه السلام وقال: خذها يا محمد ـ أي: السورة ـ هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة حديث موضوع.
ثم بين حالهم فيها بقوله تعالى {متكئين فيها} أي: الجنة. واختلفوا في إعراب متكئين، فقال الجلال المحلي: حال من مرفوع ادخلوها المقدر. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون حالاً من المفعول في جزاهم وأن يكون صفة، واعترض عليه في كونه صفة بأنه لا يجوز عند البصريين لأنه كان يلزم الضمير، فيقال: متكئين هم فيها لجريان الصفة على غير من هي له وقيل: إنه من فاعل صبروا، واعترض أنّ الصبر كان في الدنيا والاتكاء في الآخرة، وأجيب بأنه يصح أن يكون حالاً مقدرة لأنّ مآلهم بسبب صبرهم إلى هذه الحالة.
ثم أشار إلى زيادة راحتهم بقوله تعالى: {على الأرائك} أي: السرر في الحجال ولا تكون أريكة إلا مع وجود الحجلة وقيل: الأرائك الفرش على السرر. وقوله تعالى: {لا يرون فيها} أي: الجنة حال ثانية على الخلاف المتقدم في الأولى، ومن جوّز أن تكون الأولى صفة جوّزه في الثانية. وقيل: إنها حال من الضمير المرفوع المستكن في متكئين فتكون حالاً متداخلة. {شمساً} أي: حرًّا {ولا} يرون فيها {زمهريراً} أي: برداً شديداً فالآية من الاحتباك دل نفي الشمس أوّلاً على نفي القمر ودل نفي الزمهرير الذي هو سبب البرد ثانياً على نفي الحرّ الذي سببه الشمس، فأفاد هذا أنّ الجنة غنية عن النيرين، لأنها نيرة بذاتها وأهلها غير محتاجين إلى معرفة زمان إذ لا تكليف فيها بوجه وأنها ظليلة معتدلة دائماً بخلاف الدنيا، فإنّ فيها الحاجة إلى ذلك، والحرّ والبرد فيها من فيح جهنم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اشتكت النار إلى ربها قالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين نفساً في الشتاء ونفساً في الصيف فشدة ما تجدونه من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدونه من الحرّ من سمومها» وقيل: الزمهرير القمر بلغة طيء، وأنشدوا:
*وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر*
ويروى ما ظهر.
{ودانية} أي: قريبة مع الارتفاع {عليهم ظلالها} أي: شجرها من غير أن يحصل منها ما يزيل الاعتدال. واختلف في نصب دانية، فقال البغوي: عطف على متكئين. وقال الجلال المحلي: عطف على محل لا يرون وذكره البغوي بعد الأوّل بصيغة قيل، قال البيضاوي: أو عطف على جنة أي: وجنة أخرى دانية لأنهم وعدوا جنتين لقوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن: 46)
. فإن قيل: إن الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس، والجنة لا شمس فيها فكيف يحصل الظل؟ أجيب: بأنّ أشجار الجنة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار مظلة منها، وإن كان لا شمس ولا قمر كما أن أمشاطهم الذهب والفضة وإن كان لا وسخ ولا شعث.
{وذللت قطوفها} جمع قطف بالكسر وهو العنقود واسم للثمار المقطوفة أي: المجنية {تذليلاً} أي: سهل تناولها تسهيلاً عظيماً لا يردّ اليد(4/454)
عنها بعد ولا شوك لكل من يريد أخذها على أي حالة كانت من اتكاء وغيره، فإن كانوا قعوداً أو مضطجعين تدلت إليهم، وإن كانوا قياماً وكانت على الأرض ارتفعت إليهم، وقال البراء: ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاؤوا، فمن أكل قائماً لم يؤذه ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه، وهذا جزاؤهم على ما كانوا يذللون أنفسهم لأمر الله تعالى.
ولما وصف تعالى طعامهم ولباسهم وسكنهم وصف شرابهم بقوله تعالى: {ويطاف} أي: من أي طائف كان لكثرة الخدم {عليهم بآنية} جمع إناء كسقاء وأسقية وجمع الآنية أوان وهي ظروف للمياه ومعنى يطاف أي: يدور على هؤلاء الأبرار الخدم إذا أرادوا الشرب. ثم بين تلك الآنية بقوله تعالى: {من فضة} قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء أي: الذي في الجنة أشرف وأعلى ولم ينف الآنية الذهبية بل المعنى: يسقون في الأواني الفضة وقد يسقون في الأواني الذهب كما قال تعالى: {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل: 81)
أي: والبرد فنبه بذكر أحدهما على الآخر.
ولما جمع الآنية خص فقال تعالى {وأكواب} جمع كوب، وهو كوز لا عروة له فيسهل الشرب منه من كل موضع فلا يحتاج عند التناول إلى إدارة {كانت} أي: تلك الأكواب كوناً هو من جبلتها {قوارير} أي: كانت بصفة القوارير من الصفاء والرقة والشفوف والإشراق، جمع قارورة وهي ما أقرّ فيه الشراب ونحوه من كل إناء رقيق صاف. وقيل: هو خاص بالزجاج.
ولما كان رأس آية وكان التعبير بالقوارير ربما أفهم أنها من الزجاج، وكان في الزجاج من النقص سرعة الانكسار لإفراط الصلابة، قال تعالى معيد للفظ أوّل الآية الثانية تأكيداً للاتصاف بالصالح من أوصاف الزجاج وبياناً لنوعها: {قوارير من فضة} أي: قد جمعت صفتي الجوهرين المتباينين صفاء الزجاج وشفوفه وبريقه، وبياض الفضة وشرفها ولينها، وقال الكلبي: إن الله تعالى جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم، وإنّ أرض الجنة من فضة فجعل منها قوارير يشربون منها. وقرأ نافع وشعبة والكسائي وصلاً بالتنوين فيهما ووافقهم ابن كثير في الأول دون الثاني، والباقون بغير تنوين، وأما الوقف فمن نون وقف بالألف، ومن لم ينون وقف بغير ألف إلا هشاماً، فإنه وقف على الثاني بالألف وفي الوصل لم ينون فالقراءات حينئذ على خمس مراتب: إحداها: تنوينهما معاً، والوقف عليهما بالألف. الثانية: مقابله وهو عدم تنوينهما وعدم الوقف عليهما بالألف، الثالثة: عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف، الرابعة: تنوين الأول دون الثاني والوقف على الأول بالألف وعلى الثاني بدونها. الخامسة: عدم تنويهما معاً والوقف على الأول بالألف، وعلى الثاني بدونها. وأما من نوّنهما فلما مرّ في تنوين سلاسل؛ لأنهما صيغة منتهى الجموع ذاك على مفاعل وذا على مفاعيل، والوقف بالألف التي هي بدل التنوين، فأما عدم تنوينهما وعدم الوقف بالألف فظاهر، وأما من نوّن الأول دون الثاني فإنه ناسب بين الأول وبين رؤوس الأي، ولم يناسب بين الثاني وبين الأوّل، والوجه في وقفه
على الأوّل بالألف وعلى الثاني بغير ألف ظاهر، وأما من لم ينوّنهما ووقف على الأوّل بألف وعلى الثاني بدونها فلأنّ الأوّل رأس آية فناسب بينه وبين رؤوس الأي في الوقف بالألف وفرق بينه وبين الثاني لأنه ليس برأس آية، وأما من لم ينوّنهما ووقف عليهما بالألف، فإنه ناسب بين الأول(4/455)
وبين رؤوس الأي وناسب بين الثاني وبين الأول.
وقال الزمخشري: وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق؛ لأنها فاصلة وفي الثاني لإتباعه الأوّل يعني: أنهم يأتون بالتنوين بدلاً من حرف الإطلاق الذي للترنم، كقوله:
*يا صاح ما هاج العيون الذرفن*
وقوله تعالى {قدّروها تقديراً} صفة لقوارير من فضة وفي الواو في قدّروها وجهان: أحدهما: أنه للمطاف عليهم، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على تقادير وأشكال على حسب شهواتهم فجاءت كما قدّروا. والثاني: أنه للطائفين بها دل عليه قوله تعالى: {ويطاف عليهم} (الإنسان: 15)
على أنهم قدّروا شرابها على قدر الري وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنه ولا يعجز، وعن مجاهد رضي الله عنه لا تغيض ولا تفيض وعن ابن عباس رضي الله عنهما قدّروها على ملء الكف حتى لا تؤذيهم بثقل أو بإفراط صغر، وجوّز أبو البقاء أن تكون الجملة مستأنفة.
{ويسقون} أي: ممن أرادوه من خدمهم الذين لا يحصون كثرة {فيها} أي: في الجنة أو تلك الأكواب {كأساً} أي: خمراً في إناء {كان مزاجها} أي: ما تمزج به على غاية الإحكام {زنجبيلاً} أي: غاية اللذة، وكانت العرب تلتذ بالشراب الممزوج به لهضمه وتطييبه الطعم، والزنجبيل: نبت معروف، وسمي الكأس بذلك لوجود طعم الزنجبيل فيها قال الأعشى:
*كأن القرنفل والزنجبي ... ل باتابفيها وأريا مشورا*
وقال المسيب بن علس:
*وكأن طعم الزنجبيل به ... إذ اذقته وسلافة الخمر*
وقوله تعالى: {عيناً فيها} أي: الجنة بدل من زنجبيلاً وكون الزنجبيل عيناً فيه خرق للعوائد؛ لأنّ الزنجبيل عندنا شجر يحتاج في تناوله إلى علاج، فبين أنه هناك عين لا يحتاج في صيرورته زنجبيلاً إلى أن تحيله الأرض بتخميره فيها حتى يصير شجراً ليتحوّل عن طعم الماء إلى طعم الزنجبيل {تسمى} أي: تلك العين لسهولة إساغتها ولذة طعمها وسموّ وصفها {سلسبيلاً} والمعنى: أن ماء تلك العين كالزنجبيل الذي تلتذ به العرب سهل المساغ في الحلق، فليس هو كزنجبيل الدنيا يلذع في الحلق فتصعب إساغته. والسلسبيل والسلسل والسلسال ما كان من الشراب غاية في السلاسة زيدت فيه الباء زيادة في المبالغة في هذا المعنى، وقال مقاتل وابن حبان رضي الله عنهما: سميت سلسبيلاً لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان. قال البغوي: وشراب الجنة في برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك من غير لذع. وقال مقاتل رضي الله عنه: يشربها المقربون صرفاً وتمزج لسائر أهل الجنة.
ولما ذكر تعالى المطوف به لأنه الغاية المقصودة وصف الطائف لما في طوافه من العظمة المشهودة بقوله تعالى.
{ويطوف عليهم} أي: بالشراب وغيره من الملاذ والمحاب {ولدان} أي: غلمان هم في سن من هو دون البلوغ؛ لأنّ الفقهاء قالوا:
الناس غلمان وصبيان وأطفال وذراري إلى البلوغ ثم هم بعد البلوغ شبان وفتيان إلى الثلاثين، ثم هم بعدها كهول إلى الأربعين ثم بعدها شيوخ واستنبط بعضهم ذلك من القرآن في حق بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى في حق يحيى: {وآتيناه الحكم صبياً} (مريم: 12)
وفي حق عيسى: {يكلم الناس في المهد وكهلاً} (آل عمران: 46)
وعن إبراهيم: {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له(4/456)
إبراهيم} (الأنبياء: 60)
وعن يعقوب: {إنّ له اباً شيخاً كبيراً} (يوسف: 78)
. وقالوا: وأقل أهل الجنة من يخدمه ألف غلام، ويعطى في الجنة قدر الدنيا عشر مرّات. وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها.
ثم وصف تعالى تلك الغلمان بقوله تعالى: {مخلدون} أي: قد حكم من لا يرد حكمه بأن يكونوا كذلك دائماً من غير علة ولا ارتفاع عن ذلك الحدّ مع أنهم مزينون بالحلي وهو الحلق والأساور والقرط والملابس الحسنة.
{إذا رأيتهم} أي: يا أعلى الخلق وأنت أثبت الناس نظراً أو أيها الرائي الشامل لكل راء في أي حالة رأيتهم فيها {حسبتهم} أي: من بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في الخدمة {لؤلؤاً منثوراً} أي: من سلكه أو من صدفه وهو أحسن منه في غير ذلك، قال بعض المفسرين: هم غلمان ينشئهم الله تعالى لخدمة المؤمنين. وقال بعضهم: أطفال المؤمنين لأنهم ماتوا على الفطرة. وقال ابن برجان: وأرى والله أعلم أنهم من علم الله تعالى إيمانه من أولاد الكفار، وتكون خدماً لأهل الجنة كما كانوا لنا في الدنيا سبياً وخداماً. وأما أولاد المؤمنين فيلحقون بآبائهم سناً وملكاً سروراً لهم. ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ابنه إبراهيم عليه السلام: «إن له لظئراً تتم رضاعه في الجنة» فإنه يدل على انتقال شأنه فيما هنالك وكتنقله في الأحوال في الدنيا، ولا دليل على خصوصيته بذلك. وقرأ السوسي وشعبة بإبدال الهمزة الأولى الساكنة وقفاً ووصلاً، وإذا وقف حمزة أبدل الأولى والثانية.
ولما ذكر المخدوم والخدم ذكر المكان بقوله تعالى: {وإذا رأيت} أي: وجدت منك الرؤية {ثم} أي: هناك في أي مكان كان في الجنة، وأي شيء كان فيها. وقوله تعالى {رأيت} جواب إذا أي: رأيت {نعيماً} أي: ليس فيه كدر بوجه من الوجوه ولا يقدر على وصفه واصف. {وملكاً كبيراً} أي: لم يخطر على باله مما هو فيه من السعة وكثرة الموجود والعظمة.
قال سفيان الثوري: بلغنا أن المُلْك الكبير تسليم الملائكة عليهم. وقيل: كون التيجان على رؤوسهم كما تكون على رؤوس الملوك، وقال الحكيم الترمذي: هو ملك التكوين إذا أرادوا شيئاً، قالوا له: كن فيكون. وفي الخبر: إنّ الملك الكبير هو أنّ أدناهم منزلة أي: وما فيهم دنيء الذي في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كما يرى أدناه وإن أعظمهم منزلة من ينظر إلى وجه ربه سبحانه وتعالى كل يوم. أي: قدر يوم من أيام الدنيا مرّتين.
ولما ذكر الدار وساكنيها من مخدوم وخدم ذكر لباسهم بقوله تعالى: {عاليهم} أي: فوقهم {ثياب سندس} هو ما رق من الحرير {خضر وإستبرق} وهو ما غلظ من الديباج فهو البطائن، والسندس الظهائر، وقرأ نافع وحمزة {عاليهم} بسكون الياء بعد اللام وكسر الهاء والباقون بفتح الياء وضم الهاء؛ لأنّ الياء لما سكنت كسرت الهاء ولما تحرّكت ضمت الهاء، فأما قراءة نافع وحمزة ففيها أوجه: أظهرها: أن يكون خبراً مقدّماً، وثياب مبتدأ مؤخر.
وأمّا قراءة الباقين ففيها أيضاً أوجه: أظهرها: أن يكون خبراً مقدّماً وثياب مبتدأ مؤخراً. كأنه قال: فوقهم ثياب. قال أبو البقاء: لأنّ عاليهم بمعنى فوقهم، والضمير المتصل به للمطوف عليهم أو للخادم والمخدوم جميعاً وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب. وقرأ نافع وحفص خضر وإستبرق برفعهما، وقرأ حمزة والكسائي بخفضهما. وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع خضر وجرّ إستبرق، وقرأ ابن كثير وشعبة بجرّ خضر ورفع إستبرق.
وحاصل القراءات(4/457)
في ذلك أربع مراتب: الأولى: رفعهما، الثانية: خفضهما، الثالثة: رفع الأوّل وخفض الثاني، الرابعة: عكس ذلك. فأمّا القراءة الأولى: فإنّ رفع خضر على النعت لثياب ورفع إستبرق نسق على الثياب، ولكن على حذف مضاف أي: وثياب إستبرق، وأمّا القراءة الثانية: فيكون جرّ خضر على النعت لسندس. ثم استشكل على هذا وصف المفرد بالجمع، فقال مكي: هو اسم جمع، وقيل: هو جمع سندسة كتمر وتمرة، ووصف اسم الجنس بالجمع صحيح قال تعالى: {وينشىء السحاب الثقال} (الرعد: 12) ، {وأعجاز نخل منقعر} (القمر: 20) ، {ومن الشجر الأخضر} (يس: 80)
وإذا كانوا قد وصفوا المحلى لكونه مراداً به الجنس بالجمع في قولهم: أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض وفي التنزيل {أو الطفل الذين} فلأن يوجد ذلك في أسماء الجموع أو أسماء الأجناس الفارق بينها وبين واحدها تاء التأنيث بطريق الأولى، وجرّ إستبرق نسقاً على سندس لأنّ المعنى: ثياب من سندس وثياب من إستبرق، وأمّا القراءة الثالثة: فرفع خضر نعتاً لثياب وجرّ إستبرق نسقاً على سندس أي: ثياب خضر من سندس ومن إستبرق، فعلى هذا يكون الإستبرق أيضاً أخضر، وأمّا القراءة الرابعة: فجرّ خضر على أنه نعت لسندس ورفع إستبرق على النسق على ثياب بحذف مضاف أي: وثياب إستبرق.
ثم أخبر تعالى عن تحليتهم بقوله سبحانه {وحلوا} أي: المخدوم والخادم {أساور من فضة} وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب وهي بالغة من الأعضاء ما يبلغه التحجيل في الوضوء كما قال صلى الله عليه وسلم «الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» فلذلك كان أبو هريرة يرفع إلى المنكبين وإلى الساقين.
تنبيه: قال هنا: {أساور من فضة} وفي سورة فاطر: {يحلون فيها من أساور من ذهب} (فاطر: 33)
وفي سورة الحج: {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤ} (الحج: 23)
فقيل: حلي الرجال الفضة وحلي النساء الذهب. وقيل: تارة يلبسون الذهب وتارة يلبسون الفضة. وقيل: يجمع في يدي أحدهم سواران من ذهب، وسواران من فضة، وسواران من لؤلؤ لتجتمع لهما محاسن الجنة قاله سعيد بن المسيب. وقيل: يعطى كل أحد ما يرغب فيه وتميل نفسه إليه. وقيل: أسورة الفضة إنما تكون للولدان وأسورة الذهب للنساء. وقيل: هذا للنساء والصبيان. وقيل: هذا يكون بحسب الأوقات والأعمال.
{وسقاهم ربهم} أي: الموجد لهم المحسن إليهم المدبر لمصالحهم {شراباً طهوراً} أي: ليس هو كشراب الدنيا سواء أكان من الخمر أم من الماء أم من غيرهما فهو بالغ الطهارة.
وقال عليّ رضي الله عنه: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من ساقها عينان فيشربون من إحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم فلا تتغير أبشارهم ولا تشعث شعورهم أبداً، ثم يشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من الأذى ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون لهم سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقال النخعي وأبو قلابة: هو إذا شربوه بعد أكلهم طهرهم وصار ما أكلوه وشربوه رشح مسك وضمرت بطونهم. وقال مقاتل: هو من عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة، من شرب منها نزع الله تعالى ما كان في قلبه من غش وغل وحسد وما كان في جوفه من أذى، وعلى هذا فيكون فعول للمبالغة. وقال الرازي: قوله تعالى {طهوراً} في تفسيره احتمالات: أحدها: لا يكون نجساً كخمر الدنيا، وثانيها: المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة(4/458)
وتدوسه الأرجل الدنسة ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها.
وثالثها: أنه لا يؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهراً لأنه يطهر بواطنهم من الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية.
فإن قيل: هل هذا نوع آخر غير ما ذكر قبل ذلك من أنهم يشربون من الكافور والزنجبيل والسلسبيل أم لا؟ أجيب: بأنه نوع آخر لوجوه: أولها: رفع. ثانيها: أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه بقوله تعالى: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} وذلك يدل على فضل هذا دون غيره، ثالثها: ما روي أنه تقدّم إليهم الأطعمة والأشربة، فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر ذلك بطونهم ويفيض عرقاً من جلودهم مثل ريح المسك، وهذا يدل على أنّ ذلك الشراب مغاير لتلك الأشربة، ولأنّ هذا الشراب يهضم سائر الأشربة، ثم إنّ له مع هذا الهضم تأثيراً عجيباً وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقاً يفوح منه ريح كريح المسك ويطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الخسيسة والركون إلى ما سوى الحق فيتجرّد لمطالعة جلاله متلذذاً بلقائه باقياً ببقائه وهو منتهى درجات الصدّيقين وكل ذلك يدل على المغايرة.
وقوله تعالى: {إنّ} على إضمار القول أي: ويقال لهم إنّ {هذا كان لكم جزاء} أي: على أعمالكم التي كنتم تجاهدون فيها أنفسكم عن هواها إلى ما يرضي ربكم والإشارة إلى ما تقدّم من عطاء الله تعالى لهم {وكان} أي: على وجه الثبات {سعيكم مشكوراً} أي: لا نضيع شيئاً منه ونجازي بأكثر منه أضعافاً مضاعفة.
ولما بين تعالى بهذا القرآن العظيم الوعد والوعيد ذكر سبحانه أنه من عنده وليس هو بسحر ولا كهانة ولا شعر بقوله تعالى: {إنا نحن} أي: على ما لنا من العظمة التي لا نهاية لها لا غيرنا {نزلنا عليك} وأنت أعظم الخلق إنزالاً استعلى حتى صار المنزَّل خلُقُاً لك {القرآن} أي: الجامع لكل هدى {تنزيلاً} قال ابن عباس: متفرّقاً آية بعد آية ولم ينزل جملة واحدة.
قال الرازي: والمقصود من هذه الآية تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم وشرح صدره فيما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم من كهانة وسحر، فذكر تعالى أنّ ذلك وحي من الله تعالى فكأنه تعالى يقول: إن كان هؤلاء الكفار يقولون: إنّ ذلك كهانة فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد: إنّ ذلك وحي حق وتنزيل صدق من عندي. وفي ذلك فائدتان، الأولى: إزالة الوحشة الحاصلة بسبب طعن الكفار، لأنّ الله تعالى عظمه وصدّقه. الثانية: تقويته على تحمل مشاق التكليف، فكأنه تعالى يقول له: إني ما نزلت القرآن عليك متفرّقاً إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، وقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال.
{فاصبر لحكم ربك} أي: المحسن إليك. قال ابن عباس: اصبر على أذى المشركين ثم نسخ بآية القتال. وقيل: اصبر لما يحكم عليك به من الطاعات أو انتظر حكم الله إذ وعدك بالنصر عليهم ولا تستعجل فإنه كائن لا محالة {ولا تطع منهم} أي: الكفرة الذين هم ضد الشاكرين {آثماً} أي: داعياً إلى إثم سواء كان مجرّداً عن مطلق الكفر أو مصاحباً له {أو كفوراً} أي: مبالغاً في الكفر وداعياً إليه وإن كان كبيراً وعظيماً في الدنيا، فإنّ الحق أكبر من كل كبير. وقال قتادة: أراد بالآثم والكفور أبا جهل، وذلك أنه(4/459)
لما فرضت الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم نهاه أبو جهل عنها وقال: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأنّ على عنقه.
وقال مقاتل: أراد بالآثم عتبة بن ربيعة وبالكفور الوليد بن المغيرة، وكانا أتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم يعرضان عليه الأموال والتزويج على أن يترك ذكر النبوّة عرض عليه عتبة ابنته وكانت من أجمل النساء، وعرض عليه الوليد أن يعطيه من الأموال حتى يرضى ويترك ما هو عليه، فقرأ عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات من أوّل حم السجدة إلى قوله تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} (فصلت: 13)
فانصرفا عنه. وقال أحدهما: ظننت أنّ الكعبة ستقع عليّ.
فإن قيل: كانوا كلهم كفرة فما معنى القسمة في قوله: {آثماً أو كفوراً} أجيب: بأنّ معناه: ولا تطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً لك إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه؛ لأنهم إمّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر، فنهي أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث.
ثم قال فإن قيل: معنى أو: ولا تطع أحدهما فهلا جيء بالواو ليكون نهياً عن إطاعتهما جميعاً؟ أجيب: بأنه لو قال: ولا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما وإذا قيل: ولا تطع أحدهما علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما أنهى عن طاعتهما جميعاً كما إذا نهى أن يقول لأبويه: أف علم أنه نهى عن ضربهما بطريق الأولى.
فإن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم ما كان يطيع أحداً منهم فما فائدة هذا النهي؟ أجيب: بأنّ المقصود بيان أنّ الناس محتاجون إلى التنبيه والإرشاد لأجل ما تركب فيهم من الشهوة الداعية إلى النساء وأنّ الواحد لو استغنى عن توفيق الله تعالى وإرشاده لكان أحق الناس به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم دائماً أبداً، ومتى ظهر لك ذلك عرفت أنّ كل مسلم لا بدّ له من الرغبة إلى الله تعالى والتضرّع إليه أن يصونه عن الشهوات.
{واذكر} أي: في الصلاة {اسم ربك} أي: المحسن إليك بكل جميل {بكرة} أي: الفجر {وأصيلاً} أي: الظهر والعصر.
{ومن الليل} أي: بعضه والباقي للراحة بالنوم {فاسجد له} أي: المغرب والعشاء {وسبحه ليلاً طويلاً} أي: صل التطوّع فيه كما تقدّم من ثلثيه أو نصفه أو ثلثه أو اذكره بلسانك بكرة عند قيامك من منامك الذي هو الموتة الصغرى وتذكرك أنه يحيي الموتى ويحشرهم جميعاً وأصيلاً أي: عند انقراض نهارك وتذكرك انقراض دنياك وطي هذا العالم لأجل يوم الفصل، وفي ذكر الوقتين إشارة إلى دوام الذكر وذكر اسمه لازم لذكره والذي عليه أكثر المفسرين. الأوّل قال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة لأنّ الصلاة أفضل الأعمال البدنية لأنها أعظم الذكر لأنها ذكر اللسان والجنان والأركان فوظفت فيها أركان لسانية وحركات وسكنات على هيئات مخصوصة من عادتها أن لا تفعل إلا بين يدي الملوك.
ولما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعظيم والأمر والنهي عدل سبحانه إلى شرح أحوال الكفار والمتمردّين فقال تعالى: {إنّ هؤلاء} أي: الذين يغفلون عن الله من الكفار والمتمردّين {يحبون} أي: محبة تجدّد عندهم زيادتها في كل وقت {العاجلة} لقصور نظرهم وجمودهم على المحسوسات التي الإقبال عليها منشأ البلادة والقصور ومعدن(4/460)
الأمراض للقلوب التي في الصدور، ومن تعاطى أسباب الأمراض مرض وسمي كفوراً، ومن تعاطى ضدّ ذلك شفي وسمي شاكراً.
{ويذرون} أي: ويتركون {وراءهم} أي: قدّامهم على وجه الإحاطة بهم وهم عنه معرضون كما يعرض الإنسان عما وراءه أو خلف ظهورهم لا يعبؤون به وقوله تعالى: {يوماً} مفعول يذرون لا ظرف وقوله تعالى: {ثقيلاً} وصف له استعير له الثقل لشدّته وهو له من الشيء الثقيل الباهظ لحامله ونحوه ثقلت في السموات والأرض.
{نحن خلقناهم} أي: بما لنا من العظمة لا غيرنا {وشددنا} أي: قوّينا {أسرهم} أي: توصيل عظامهم بعضها ببعض وتوثيق عظامهم بالأعصاب بعد أن كانوا نطفاً أمشاجاً في غاية الضعف. وأصل الأسر الربط والتوثيق، ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقدّ وهو الإسار، وفرس مأسور الخلق {وإذا شئنا} أي: بما لنا من العظمة أن نبدّل ما نشاء من صفاتهم أو ذواتهم {بدّلنا أمثالهم} أي: جئنا بأمثالهم بدلاً منهم إمّا بأن نهلكهم ونأتي ببدلهم ممن يطيع، وإمّا بتغيير صفاتهم كما شوهد في بعض الأوقات من المسخ وغيره، وقوله تعالى: {تبديلاً} تأكيد. قال الجلال المحلي: ووقعت إذا موقع إن، نحو {إن يشأ يذهبكم} (النساء: 133)
لأنه تعالى لم يشأ ذلك وإذاً لما يقع. وفي ذلك رد لقول الزمخشري: وحقه أن يجيء بإن لا بإذا كقوله: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم} (محمد: 38)
{إن يشأ يذهبكم} (النساء: 133)
{إن هذه} أي: السورة أو الآيات القريبة {تذكرة} أي: عظة للخلق فإنّ في تصفحها تنبيهات للغافلين، وفي تدبرها وتذكرها فوائد جمة للطالبين السالكين ممن ألقى سمعه وأحضر قلبه وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه {فمن شاء} أي: بأن اجتهد في وصوله إلى ربه {اتخذ} أي: أخذ بجهده في مجاهدة نفسه ومغالبة هواه {إلى ربه} أي: المحسن إليه الذي ينبغي له أن يحبه بجميع جوارحه وقلبه ويجتهد في القرب منه {سبيلاً} أي: طريقاً واضحاً سهلاً واسعاً بأفعال الطاعة التي أمر بها لأنا بينا الأمور غاية البيان وكشفنا اللبس وأزلنا جميع موانع الفهم، فلم يبق مانع من استطراق الطريق غير مشيئتنا.
{وما تشاؤون} أي: في وقت من الأوقات شيئاً من الأشياء. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالياء التحتية على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب. وإذا وقف حمزة سهل الهمزة مع المدّ والقصر، وله أيضاً إبدالها واواً مع المدّ والقصر {إلا} وقت {أن يشاء الله} أي: الملك الأعلى الذي له الأمر كله والملك كله على حسب ما يريد ويقدر وقد صح بهذا ما قال الأشعري وسائر أهل السنة من أن للعبد مشيئة تسمى كسباً لا تؤثر إلا بمشيئة الله تعالى، وانتفى مذهب القدرية الذين يقولون: إنا نخلق أفعالنا، ومذهب الجبرية القائلين: لا فعل لنا أصلاً، ومثل الملوي ذلك بمن يريد قطع بطيخة فحدّد سكينة وهيأها وأوجد فيها أسباب القطع وأزال عنها موانعه، ثم وضعها على البطيخة فهي لا تقطع دون أن يتحامل عليها التحامل المعروف لذلك، ولو وضع عليها ما لا يصلح للقطع كحطبة مثلاً لم تقطع ولو تحامل، فالعبد كالسكين خلقه الله تعالى وهيأه بما أعطاه من القدرة للفعل، فمن قال: أنا أخلق فعلي مستقلاً به فهو كمن قال: السكين تقطع بمجرّد وضعها من غير تحامل، ومن قال: الفاعل هو الله من غير نظر إلى العبد أصلاً كان كمن قال: هو يقطع البطيخة بتحامل يده أو قصبة ملساء من غير سكين، والذي يقول: إنه باشر بقدرته المهيأة لفعل(4/461)
يخلقه الله تعالى لها في ذلك الفعل، كمن قال: إنّ السكين قطعت بالتحامل عليها بهذا أجرى الله سبحانه وتعالى عادته في الناس ولو شاء غير ذلك فعل، ولا يخفى أنّ هذا هو الحق الذي لا مرية فيه.
ثم علل ذلك بإحاطته بمشيئتهم بقوله تعالى {إنّ الله} أي: المحيط علماً وقدرة {كان} أي: أزلاً وأبداً {عليماً} أي: بما يستأهل كل أحد {حكيماً} أي: بالغ الحكمة فهو يمنع منعاً محكماً من أن يشاء غيره ما لم يأذن فيه فمن علم في جبلته خيراً أعانه عليه، ومن علم منه الشرّ ساقه إليه وحمله عليه وهو معنى قوله تعالى: {يدخل من يشاء} أي: ممن علمه من أهل السعادة {في رحمته} أي: جنته وهم المؤمنون. وقوله تعالى {والظالمين} أي: الكافرين منصوب بفعل يفسره قوله تعالى: {أعدّ لهم} مثل أوعد وكافأ ليطابق الجمل المعطوف عليها {عذاباً أليماً} أي: مؤلماً فهم فيه خالدون أبد الآبدين.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريراً» حديث موضوع.
سورة المرسلات عرفاً
مكية
في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها وهي قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} فمدنية.
وقال ابن مسعود: «نزلت والمرسلات عرفاً على النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ ونحن معه نسير حتى أوينا إلى غار منى فنزلت، فبينما نحن نتلقاها منه وإن فاه رطب بها إذ وثبت حية فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيتم شرّها كما وقيت شرّكم» ا. هـ. والغار المذكور مشهور في منى وقد زرته ولله الحمد، وعن كريب مولى ابن عباس قال: قرأت سورة والمرسلات عرفاً فسمعتني أمّ الفضل امرأة العباس فبكت. وقالت: والله يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب.
وهي خمسون آية وإحدى وثمانون كلمة وثمانمائة وستة عشر حرفاً.
{بسم الله} الملك الحق المبين {الرحمن} المنعم على الخلق أجمعين {الرحيم} الذي خص بكرامته عباده المؤمنين.
{والمرسلات عرفاً} أي: الرياح متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضها بعضاً ونصبها على الحال، هذا ما عليه الجمهور من أنها الرياح قال تعالى: {وأرسلنا الرياح} (الحجر: 22)
وقال تعالى: {ويرسل الرياح} (الأعراف: 57)
. وروى مسروق عن عبد الله قال: هي الملائكة أرسلت بالعرف من أمر الله تعالى ونهيه والخير والوحي، وهو قول أبي هريرة ومقاتل والكلبي، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الأنبياء عليهم السلام أرسلوا بلا إله إلا الله. وقال أبو صالح: هم الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات. وقيل: المراد السحاب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت إليه ومن أرسلت إليه.
{فالعاصفات} أي: الرياح الشديدة {عصفاً} أي: عظيماً بما لها من النتائج الصالحة، وقيل: الملائكة شبهت لسرعة جريها في أمر الله تعالى بالرياح، وقيل: الملائكة تعصف بروح الكافر يقال: عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه، وناقة عصوف أي: تعصف بركابها فتمضي كأنها ريح في السرعة،(4/462)
وعصفت الحرب بالقوم أي: ذهبت بهم. وقيل: يحتمل أنها الآيات المهلكة كالزلازل والخسوف.
{والناشرات ونشراً} أي: الرياح اللينة تنشر المطر. وقال الحسن: هي الرياح التي يرسلها الله تعالى بين يدي رحمته، وقيل: الأمطار لأنها تنشر النبات بمعنى تحييه. وروي عن السدي أنها الملائكة تنشر كتب الله تعالى. وروى الضحاك أنها الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد.
تنبيه: إنما قال الله تعالى {والناشرات} بالواو لأنه استئناف قسم آخر.
{فالفارقات فرقاً} أي: الرياح تفرق السحاب وتبدده قاله مجاهد، وعن ابن عباس هي الملائكة تفرّق الأقوات والأرزاق والآجال، وقيل: هم الرسل فرّقوا بين ما أمر الله تعالى به وما نهى عنه أي: بينوا ذلك، وقيل: آيات القرآن تفرّق بين الحق والباطل والحلال والحرام.
{فالملقيات ذكراً} أي: الملائكة تنزل بالوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وقيل: هو جبريل عليه السلام وحده سمي باسم الجمع تعظيماً.
فإن قيل: ما المناسبة على هذا بين الرياح والملائكة في القسم؟ أجيب: بأنّ الملائكة روحانيون، فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم كالرياح.
وقيل: المراد به الرسل يلقون إلى أممهم ما أنزل عليهم، وذكراً مفعول به ناصبه الملقيات.
{عذراً أو نذراً} مصدران من عذر إذا محا الإساءة، ومن أنذر إذا خوّف على فعل كالكفر والشكر. ويجوز أن يكون جمع عذير بمعنى المعذور، وجمع نذير بمعنى الإنذار، وبمعنى العاذر والمنذر. ونصبهما إمّا على البدل من ذكراً على الوجهين الأوّلين أو على المفعول له، وإمّا على الوجه الثالث، فعلى الحال بمعنى عاذرين أو منذرين. وقرأ {أو نذراً} نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة بضم الذال والباقون بسكونها.
وقوله تعالى: {إنما توعدون لواقع} جواب القسم، ومعناه أنّ الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة، وقال الكلبي: المراد أنّ كل ما توعدون به من الخير والشرّ لواقع.
ثم بين وقت وقوعه فقال تعالى: {فإذا النجوم} أي: على كثرتها {طمست} أي: محي نورها أو ذهب نورها ومحقت ذواتها، وهو موافق لقوله تعالى: {انتثرت} (الإنفطار: 20)
و {انكدرت} (التكوير: 2)
قال الزمخشري: ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور.
{وإذا السماء} أي: على عظمها {فرجت} أي: فتحت وشققت فكانت أبواباً، والفرج الشق ونظيره {إذا السماء انشقت} (الانشقاق: 1)
{وإذا الجبال} أي: على صلابتها {نسفت} أي: ذهب بها كلها بسرعة من نسفت الشيء: إذا اختطفته، أو نسفت كالحب إذا نسف بالمنسف، ونحوه {وبست الجبال بساً} (الواقعة: 5)
{وكانت الجبال كثيباً مهيلاً} (المزمل: 14)
{وإذا الرسل} أي: الذين أنذروا الناس ذلك اليوم فكُذبوا {أقتت} قال مجاهد والزجاج: المراد بهذا التأقيت تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم، أي: جمعت لميقات يومٍ معلومٍ وهو يوم القيامة، والوقت الأجل الذي يكون عنده الشيء المؤخر إليه، فالمعنى: جعل لها وقت أجل للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم كقوله تعالى: {يوم يجمع الله الرسل} (المائدة: 109)
. وقرأ أبو عمرو بواو مضمومة والباقون بهمزة مضمومة وهما لغتان، والعرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم: وكدت وأكدت.
وقوله تعالى: {لأي يوم} أي: عظيم متعلق بقوله تعالى: {أجلت} وهذه الجملة معمولة لقول مضمر أي: يقال لأي يوم أجلت، وهذا القول المضمر يجوز أن يكون جواباً لإذا وأن يكون حالاً من مرفوع.(4/463)
{أقتت} أي: مقولاً فيها لأي يوم أجلت أي: أخرت، وهذا تعظيم لذلك اليوم وتعجيب له وقوله تعالى: {ليوم الفصل} بيان ليوم التأجيل. وقيل: اللام بمعنى إلى، ذكره مكي. قال ابن عباس: يوم فصل الرحمن بين الخلائق كقوله تعالى: {إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين} (الدخان: 40)
ثم أتبع هذا التعظيم تعظيماً آخر بقوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الفصل} أي: ومن أين تعلم كنهه ولم تر مثله في شدّته ومهابته، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين والباقون بالفتح.
ثم أتبعه تهويلاً ثالثاً بقوله تعالى: {ويل يومئذ} أي: إذ يكون يوم الفصل {للمكذبين} أي: بذلك، قال القرطبي: ويل عذاب وخزي لمن كذب بالله تعالى وبرسله وكتبه وبيوم الفصل، وهو وعيد وكرّره في هذه السورة عند كل آية كأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإنّ لكل مكذب بشيء عذاباً سوى عذاب تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرماً من تكذيبه لغيره؛ لأنه أقبح في تعظيمه وأعظم في الردّ على الله تعالى، وإنما يقسم له من الويل على قدر ذلك وعلى قدر وفاقه، وهو قوله تعالى: {جزاء وفاقاً} (النبأ: 26)
. وقيل: كرره لمعنى تكرار التخويف والوعيد، وروي عن النعمان بن بشير قال: ويل واد في جهنم فيه ألوان العذاب، وقاله ابن عباس وغيره، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «عرضت عليّ جهنم فلم أر فيها وادياً أعظم من الويل» ، وروي أيضاً أنه مجمع ما يسيل من قيح أهل النار وصديدهم، وإنما يسيل الشيء فيما سفل من الأرض، وقد علم العباد في الدنيا أنّ شرّ المواضع ما استنقع فيها مياه الأدناس والأقذار والغسالات والجيف وماء الحمامات، فذكر أنّ الوادي مستنقع صديد أهل الكفر والشرك ليعلم العاقل أنه لا شيء أقذر منه قذارة ولا أنتن منه نتناً.
تنبيه: ويل مبتدأ، وسوّغ الابتداء به الدعاء، ويومئذ ظرف للويل وللمكذبين خبره. وقال الزمخشري: فإن قلت كيف وقع النكرة مبتدأ؟ قلت: هو في أصله مصدر منصوب ساد مسدّ فعله لكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه {سلام عليكم} (الرعد: 24)
واعترض بأنّ الذي ذكره ليس من المسوّغات التي ذكرها النحويون، وإنما المسوغ كونه دعاء وفائدة العدول إلى الرفع ما ذكره.
{ألم نهلك} أي: بما لنا من العظمة {الأوّلين} من لدن آدم عليه السلام إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم كقوم نوح وعاد وثمود بتكذيبهم أي: أهلكناهم {ثم نتبعهم الآخرين} أي: ممن كذبوا ككفار مكة فنهلكهم كما أهلكنا الأوّلين ونسلك بهم سبيلهم؛ لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم.
{كذلك} أي: مثل ذلك الفعل الشنيع {نفعل بالمجرمين} أي: بكل من أجرم فيما يستقبل إمّا بالسيف وإمّا بالهلاك.d
{ويل يومئذ} أي: إذ يوجد ذلك الفعل {للمكذبين} أي: بآيات الله وأنبيائه، قال البيضاوي: فليس تكراراً وكذا إن أطلق التكذيب أو علق في الموضعين بواحد لأنّ الويل الأوّل بعذاب الآخرة، وهذا للإهلاك في الدنيا مع أنّ التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب.
{ألم نخلقكم} أي: أيها المكذبون بما لنا من العظمة التي لا تغيرها عظمة {من ماء مهين} أي: ضعيف حقير وهو المني، وهذا نوع آخر من تخويف الكفار وهو من وجهين: الأوّل: أنه تعالى ذكرهم عظيم إنعامه عليهم وكل ما كان نعمه عليه أكثر كان جنايته في حقه أقبح وأفحش. الثاني:(4/464)
أنه تعالى ذكرهم أنه قادر على الابتداء، والقادر على الابتداء قادر على الإعادة، فكما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة لا جرم قال تعالى في حقهم: {ويل يومئذ للمكذبين} وهذه الآية نظير قوله تعالى: {ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} (السجدة: 8)
. وقرأ كل القراء بإدغام القاف في الكاف وإبقاء الصفة ولهم أيضاً إدغام الصفة مع الحذف.
{فجعلناه} أي: بما لنا من القدرة والعظمة بالإنزال للماء في الرحم {في قرار} أي: مكان {مكين} أي: حريز وهو الرحم.
{إلى قدر معلوم} أي: وهو وقت الولادة، كقوله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة} إلى قوله: {ويعلم ما في الأرحام} (لقمان: 34)
{فقدرنا} أي: ذلك دون غيرنا {فنعم القادرون} نحن، وقرأ نافع والكسائي بتشديد الدال فيصح على هذه القراءة أن يكون المعنى: فقدّرناه والباقون بالتخفيف، وقال عليّ كرم الله وجهه: ولا يبعد أن يكون المعنى في التخفيف والتشديد واحداً؛ لأنّ العرب تقول: قدر وقدرعليه الموت.
{ويل يومئذ} أي: إذ كان ذلك {للمكذبين} أي: بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة.
وقوله تعالى: {ألم نجعل} أي: نصير بما شئنا بما لنا من العظمة {الأرض كفاتاً} مصدر كفت بمعنى ضم وعاء ضامّة.
{أحياء} أي: على ظهرها في الدور وغيرها {وأمواتاً} أي: في بطنها في القبور وغيرها. وقيل: الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض أي: الأرض منقسمة إلى حيّ وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت، وقيل: كفاتاً جمع كافت كصيام وقيام جمع صائم وقائم، وقال الخليل: تقليب الشيء ظهراً لبطن أو بطناً لظهر ويقال انكفت القوم إلى منازلهم، أي: انقلبوا، فمعنى الكفات أنهم يتصرّفون على ظهرها وينقلبون إليها فيدفعون فيها.
{وجعلنا} أي: بما لنا من القدرة التامّة {فيها} أي: الأرض {رواسي} أي: جبالاً لولاها لمادت بأهلها، ومن العجائب مراسيها من فوقها خلافاً لمراسي السفن {شامخات} أي: مرتفعات جمع شامخ وهو المرتفع جدّاً، ومنه شمخ بأنفه إذا تكبر، جعل كناية عن ذلك كثنى العطف وصعر الخدّ، كما قال لقمان لابنه: {ولا تصعر خدّك للناس} (لقمان: 18)
{وأسقيناكم} أي: بما لنا من العظمة {ماء} أي: من الأنهار والعيون والغدران والآبار وغير ذلك {فراتاً} أي: عذباً تشربون منه ودوابكم وتسقون منه زرعكم، وهذه الأمور أعجب من البعث، روي في الأرض من الجنة سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة.
{ويل يومئذ} أي: إذ تقوم الساعة {للمكذبين} أي: بأمثال هذه النعم.
وقوله تعالى: {انطلقوا} على إرادة القول، أي: يقال للمكذبين يوم القيامة: انطلقوا. {إلى ما كنتم به تكذبون} من العذاب يعني: النار فقد شاهدتموها عياناً.
{انطلقوا إلى ظل} أي: ظل دخان جهنم لقوله تعالى: {وظل من يحموم} (الواقعة: 43)
. {ذي ثلاث شعب} أي: تشعب لعظمه كما يرى الدخان العظيم يتفرّق ذوائب. وقيل: يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظللهم حتى يفرغ حسابهم والمؤمنون في ظل العرش، وقيل: إن الشعب الثلاث: هي الضريع والزقوم والغسلين؛ لأنها أوصاف النار وقوله تعالى: {لا ظليل} أي: كنين يظلهم من حرّ ذلك اليوم تهكم بهم وردّ لما يوهم لفظ الظل. {ولا يغني} أي: ولا يردّ عنهم شيئاً {من اللهب} أي: لهب النار، فليس كالظل الذي يقي حرّ الشمس، وهذا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين. واللهب ما يعلو(4/465)
على النار إذا اضطربت من أحمر وأصفر وأخضر.
{إنها} أي: النار {ترمي} أي: من شدّة الاشتعال {بشرر} وهو ما تطاير من النار {كالقصر} أي: كل شررة كالقصر من البناء في عظمه وارتفاعه. قال ابن مسعود: يعني الحصون، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ترمي بشرر كالقصر} قيل: هي الخشب العظام المقطعة، قال: وكنا نعمد إلى الخشبة فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندّخرها للشتاء فكنا نسميها القصر. وقال سعيد بن جبير والضحاك: هي أصول النخل والشجر العظام واحدتها قصرة مثل جمرة وجمر.
وقوله تعالى: {كأنه} أي: الشرر {جمالات} قرأه حمزة والكسائي وحفص بغير ألف بعد اللام على التوحيد والباقون بالألف على الجمع، جمع جمالة وهي التي قرأ بها أوّلاً وهي جمع جمل مثل حجارة وحجر. وقوله تعالى: {صفر} جمع أصفر أي: في هيئتها ولونها. وفي الحديث «شرار النار أصفر كالقير» والعرب تسمي سود الإبل صفراً لشوب سوادها بصفرة، فقيل: صفر في الآية بمعنى سود لما ذكروا في شعر عمران بن حطان الخارجي:
*دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ... بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى*
قال الترمذيّ: وهذا القول ضعيف ومحال في اللغة أن يكون من يشوبه شيء قليل، فينسب كله إلى ذلك الشائب، فالعجب ممن قد قال هذا. وقد قال الله تعالى: {جمالات صفر} فلا نسلم من هذا شيئاً في اللغة. وقيل: شبه الشرر بالجمالات لسرعة سيرها، وقيل: لمتابعة بعضها بعضاً.
{ويل يومئذ} أي: إذ يكون ذلك {للمكذبين} أي: بهذه الأمور العظام.
{هذا} أي: يوم القيامة {يوم لا ينطقون} أي: بشيء من فرط الدهشة والحيرة، وهذا نوع آخر من أنواع تخويف الكفار بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح وهذا في بعض المواقف، فإنّ يوم القيامة يوم طويل ذو مواطن ومواقيت ينطقون في وقت ولا ينطقون في وقت، ولذلك ورد الأمر أن في القرآن الكريم ففي بعضها يختصمون ويتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم فلا ينطقون.
وروى عكرمة أنّ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون} و {لا تسمع إلا همساً} (طه: 108)
و {أقبل بعضهم على بعض يتساءلون} (الصافات: 27)
فقال: إنّ الله تعالى يقول: {وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} (الحج: 47)
فإنّ لكل مقدار من هذه الأيام لوناً من هذه الألوان. وقال الحسن: فيه إضمار أي: هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة نافعة، فجعل نطقهم كلا نطق لأنه لا ينفع ولا يسمع، ومن نطق بما لا ينفع فكأنه ما نطق كما يقال لمن تكلم بكلام لا يفيد: ما قلت شيئاً. وقيل: إنّ هذا وقت جوابهم {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} (المؤمنون: 108)
{ولا يؤذن لهم} أي: في العذر وقوله تعالى: {فيعتذرون} عطف على يؤذن من غير تسبب عنه فهو داخل في حيز النفي أي: لا إذن فلا اعتذار.
{ويل يومئذ} أي: إذ كان هذا الموقف {للمكذبين} أي: الذين لا تقبل منهم معذرة.
{هذا يوم الفصل} وهذا نوع آخر من أنواع تهديد الكفار وتخويفهم أي: يقال لهم هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق فيتبين المحق من المبطل {جمعناكم} أيها المكذبون من هذه الأمّة بما لنا من العظمة {والأوّلين} من المكذبين قبلكم فتحاسبون وتعذبون جميعاً. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: جمع الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم والذين كذبوا النبيين من قبل.
وقوله تعالى: {فإن كان لكم(4/466)
كيد} أي: حيلة في دفع العذاب عنكم {فكيدون} أي: فاحتالوا لأنفسكم وقاوون، ولن تجدوا ذلك تقريع لهم على كيدهم لدين الله تعالى وذويه وتسجيل عليهم بالعجب، وقيل: إنّ ذلك من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فيكون كقول هود عليه السلام {فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون} (هود: 55)
{ويل يومئذ} أي: إذ يقال لهم هذا الكلام فيكون زيادة في عذابهم {للمكذبين} أي: الراسخين في التكذيب في ذلك.
ثم ذكر ضد المكذبين بقوله تعالى: {إنّ المتقين} أي: الذين اتقوا الشرك لأنهم في مقابلة المكذبين {في ظلال} أي: تكاثف أشجار إذ لا شمس يظل من حرّها {وعيون} أي: من ماء وعسل ولبن وخمر كما قال تعالى: {فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} (محمد: 15)
. وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم العين والباقون بكسرها.
{وفواكه مما يشتهون} في هذا إعلام بأن المأكل والمشرب في الجنة بحسب شهواتهم بخلاف الدنيا فبحسب ما يجد الناس في الأغلب.
وقوله تعالى: {كلوا واشربوا} في موضع الحال من ضمير المتقين في الظرف الذي هو في ظلال أي: هم مستقرّون في ظلال مقولاً لهم ذلك.
وقوله تعالى: {هنيئاً} حال أي: متهنئين {بما} أي: بسبب ما {كنتم تعملون} من طاعات الله تعالى.
{إنا} أي: بما لنا من العظمة {كذلك} أي: كما جزينا المتقين هذا الجزاء العظيم {نجزي المحسنين} أي: نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأعمالهم في الدنيا.
{ويل يومئذ} أي: إذ يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين {للمكذبين} أي: يمحض لهم العذاب المخلد ضدّ النعيم المؤبد.
وقوله تعالى: {كلوا وتمتعوا} خطاب للكفار في الدنيا {قليلاً} أي: من الزمان وغايته إلى الموت وهو زمان قليل لأنه زائل مع قصر مدّته في زمن الآخرة وفي هذا تهديد لهم، ويجوز أن يكون ذلك خطاباً لهم في الآخرة إيذاناً بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم، وكانوا من أهله تذكيراً بحالهم السمجة بما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم والملك الخالد، وهذا ما جرى عليه الزمخشري أوّلاً وذكر الأول ثانياً، واقتصر الجلال المحلي على ما ذكرته أولاً وهو أولى. قال بعض العلماء: التمتع بالدنيا من أفعال الكافرين، والسعي لها من أفعال الظالمين، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين، والسكون فيها على حد الإذن، والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين، والإعراض عنها من أفعال الزاهدين، وأهل الحقيقة أجل خطراً من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها.
ثم علل ذلك مؤكداً بقوله تعالى لأنهم ينكرون وصفهم بذلك: {إنكم مجرمون} ففيه دلالة على أنّ كل مجرم يتمتع أياماً قلائل، ثم البقاء في الهلاك أبداً.
{ويل يومئذ} أي: إذ تعذبون بإجرامكم {للمكذبين} حيث عرّضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل.
{وإذا قيل لهم} أي: لهؤلاء المجرمين من أي: قائل كان {اركعوا} أي: صلوا الصلاة التي فيها الركوع كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما وأطلقوه عليها تسمية لها باسم جزئها، وخص هذا الجزء لأنه يقال على الخضوع والطاعة ولأنه خاص بصلاة المسلمين {لا يركعون} أي: لا يصلون، قال الرازي: وهذا ظاهر لأنّ الركوع من أركانها، فبين تعالى أنّ هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون ويجوز أن يكون اركعوا بمعنى(4/467)
اخشعوا وتواضعوا لله بقبول وحيه واتباع دينه، واطرحوا هذا الاستكبار لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على استكبارهم، وأن يكون بمعنى اركعوا في الصلاة إذ روي أنها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة فقالوا: لا نجبي فإنها مسبة علينا فقال صلى الله عليه وسلم «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» . قال في القاموس: جبى تجبية وضع يديه على ركبتيه أو على الأرض أو انكب على وجهه، والتجبية أن تقوم قيام الراكع. واستدل بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وأنهم حال كفرهم يستحقون الذم والعقاب بترك الصلاة؛ لأنّ الله تعالى ذمهم حال كفرهم، وعلى أنّ الأمر للوجوب لأنّ الله تعالى ذمهم بمجرّد ترك المأمور به، وهو يدل على أنّ الأمر للوجوب.
فإن قيل: إنما ذمهم لكفرهم. أجيب بأنه تعالى ذمهم على كفرهم من وجوه إلا أنه تعالى إنما ذمهم في هذه الآية لتركهم المأمور به.
وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها.
{ويل يومئذ} أي: إذ يكون الفصل {للمكذبين} أي: بما أمروا به.
قال الرازي: إنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها بهذه الوجوه العشرة المذكورة وحث على التمسك بالنظر والاستدلال والانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجب من الكفار، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل القطعية مع تجليها ووضوحها {فبأي حديث بعده} أي: القرآن {يؤمنون} أي: لا يمكن إيمانهم بغيره من كتب الله تعالى بعد تكذيبهم به لاشتماله على الإعجاز الذي لم يشتمل عليه غيره، واستدل بعض المعتزلة بهذه الآية على أنّ القرآن حادث لأن الله تعالى وصفه بأنه حديث والحديث ضد القديم والضدان لا يجتمعان، فإذا كان حديثاً وجب أن لا يكون قديماً. وأجيب: بأن المراد منه هذه الألفاظ ولا نزاع في أنها محدثة.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والمرسلات كتب الله تعالى له أنه ليس من المشركين» حديث موضوع.
سورة عم يتساءلون
وتسمى سورة النبأ مكية وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية ومائةوثلاثة وسبعون كلمة وسبعمائة وسبعون حرفاً
{بسم الله} الذي له الملك كله {الرحمن} الذي عم الوجود بفضله {الرحيم} الذي تمحضت أولياؤه جنته. وقوله تعالى:
{عم} أصله عن ما على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية وأدغمت النون في الميم وحذفت ألف ما، كقوله فيم واستعمال الأصل قليل. ومنه قول حسان:
*على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرّغ في رماد*
ومعنى هذا الاستفهام تفخيم الشأن كأنه قال عن أي شيء {يتساءلون} ، ونحوه قولك: زيد ما زيد جعلته لانقطاع قرينه وعدم نظيره كأنه شيء خفي عليك، فأنت تسأل عن جنسه وتفحص عن جوهره كما تقول: ما الغول، وما العنقاء تريد أي شيء هو من الأشياء هذا أصله، ثم جرد للعبارة عن التفخيم حتى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية، ولذا لما وقف البزي ألحق الميم هاء السكت بخلاف عنه، والضمير في يتساءلون لأهل مكة، كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم. وذلك أن النبيّ(4/468)
صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد وأخبرهم بالبعث بعد الموت وتلا عليهم القرآن جعلوا يتساءلون بينهم فيقولون: ماذا جاء به محمد، ويسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاء، وقيل: الضمير للمسلمين والكافرين جميعاً وكانوا جميعاً يتساءلون عنه، أما المسلم فليزداد خشية واستعداداً، وأما الكافر فليزداد استهزاء.
ثم ذكر أن تساؤلهم عماذا؟ فقال تعالى: {عن النبأ العظيم} قال مجاهد والأكثرون: هو القرآن، دليله قوله تعالى: {قل هو نبأ عظيم} (ص: 67)
وقال قتادة: هو البعث.
فإن قيل: إذا كان الضمير يرجع للكافر، فكيف يكون قوله تعالى: {الذي هم} أي: بضمائرهم مع ادعائهم أنها أقوى الضمائر {فيه مختلفون} مع أنّ الكفار كانوا متفقين على إنكار البعث؟ أجيب: بأنا لا نسلم اتفاقهم على ذلك بل كان فيهم من يثبت المعاد الروحاني وهم جمهور النصارى، وأما المعاد الجسماني فمنهم من يقطع القول بإنكاره ومنهم من يشك، وأما إذا كان المتساءل عنه القرآن فقد اختلفوا فيه كثيراً وقيل: المتساءل عنه نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
وقوله تعالى: {كلا} ردع للمتسائلين هزؤاً، {سيعلمون} ما يحل بهم على إنكارهم له.
وقوله تعالى: {ثم كلا سيعلمون} تأكيد وجيء فيه بثم للإيذان بأن الوعيد الثاني أشدّ من الأول. وقال الضحاك: الأولى للكفار والثانية للمؤمنين، أي: سيعلم الكافرون عاقبة تكذيبهم وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم.
ثم أومأ تعالى إلى القدرة على البعث بقوله تعالى: {ألم نجعل} أي: بما لنا من العظمة {الأرض مهاداً} أي: فراشاً كالمهد للصبيّ وهو ما يمهد له فينوّم عليه تسمية للممهود بالمصدر كضرب الأمير.
{والجبال} أي: التي تعرفون شدّتها وعظمها. {أوتاداً} أي: تثبت بها الأرض كما تثبت الخيام بالأوتاد، والاستفهام للتقرير، فيستدل بذلك على قدرته على جميع الممكنات. وإذا ثبت ذلك ثبت القول بصحة البعث، وإنه قادر على تخريب الدنيا بسماواتها وكواكبها وأرضها وعلى إيجاد عالم الآخرة.
تنبيه: مهاداً مفعول ثان لأنّ الجعل بمعنى التصيير، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق فتكون حالاً مقدّرة.
{وخلقناكم} أي: بما دل على ذلك من مظاهر العظمة {أزواجاً} أي: أصنافاً ذكوراً وإناثاً وقيل: ألواناً.
{وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {نومكم سباتاً} أي: راحة لأبدانكم. قال الزجاج: السبات أن ينقطع عن الحركة والروح فيه. وقيل: معناه جلعنا نومكم قطعاً لأعمالكم وقيل: المسبوت الميت من السبت وهو القطع لأنه مقطوع عن الحركة والنوم أحد التوفيتين.
وقوله تعالى: {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {الليل} أي: بعد ذهاب الضياء حتى كأنه لم يكن {لباساً} فيه استعارة أي: يستركم عن العيون بظلمته كما إذا أردتم هرباً من عدوّ أو بياتاً له أو إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه من كثير من الأمور. قال الشاعر:
*وكم لظلام الليل عندي من يد ... تخبر أنّ المانوية تكذب*
ولما جعل النوم موتاً جعل اليقظة معاشاً فقال تعالى: {وجعلنا} أي: بما لنا من القدرة التامّة {النهار} أي: الذي آيته الشمس {معاشاً} أي: حياة تبعثون فيه عن نومكم، أو وقت معاش تتقلبون فيه في حوائجكم ومكاسبكم لتحصيل ما تعيشون به فمعاشاً على هذا اسم زمان.
{وبنينا} بما لنا من الملك التامّ {فوقكم سبعاً} أي: سبع سماوات وقوله تعالى: {شداداً} جمع شديدة أي: قوية(4/469)
محكمة لا يؤثر فيها مرور الزمان لا فطور فيها ولا فروج. ونظيره قوله تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً} (الأنبياء: 32)
{وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة مما لا يقدر عليه غيرنا {سراجاً} أي: منيراً متلألئاً {وهاجاً} أي: وقاداً وهي الشمس.
{وأنزلنا} أي: بما لنا من كمال الأوصاف {من المعصرات} أي: السحاب إذا أعصرت أي: شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أجز الزرع أي: حان أن يجز، وأعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض.
وعن الحسن وقتادة: هي السماوات، وتأويله أنّ الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكأنّ السموات عصرن. وقيل: من الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب. وقيل: الرياح ذوات الأعاصير، وإنما جعلت مبدأ للإنزال لأنها تنشىء السحاب وتدرّ أخلافه. {ماء ثجاجاً} أي: منصباً بكثرة يقال: ثجه وثج بنفسه. وفي الحديث: «أفضل الحج العج والثج» أي: رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مثجاً يسيل غرباً، يعني: يثج الكلام ثجاً في خطبته.
{لنخرج} أي: بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب {به} أي: بذلك الماء {حباً} أي: نجماً ذا حب مما يتقوّت به كالحنطة والشعير والأرز {ونباتاً} أي: ما يعتلف به كالتبن والحشيش، كما قال تعالى: {كلوا وارعوا أنعامكم} (طه: 54)
{والحب ذو العصف والريحان} (الرحمن: 12)
{وجنات} أي: بساتين تجمع أنواع الأشجار والنبات المقتات وغيره {ألفافاً} أي: ملتفة بالشجر جمع لفيف كشريف وأشراف.
وقيل: هو جمع الجمع، يقال: جنة لفاء وجمعها لف بضم اللام وجمع الجمع ألفاف. وقيل: لا واحد له كالأوزاع والأخياف. وقيل: الواحد لف. قال صحاب الإقليد أنشدني الحسن بن علي الطوسي:
*جنة لف وعيش مغدق ... وندامى كلهم بيض زهر*
وقال الزمخشري: ولو قيل: هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً.
{إن يوم الفصل} أي: بين الخلائق {كان} أي: في علم الله تعالى وفي حكمه كوناً لا بدّ منه {ميقاتاً} أي: وقتاً للثواب والعقاب، أو وقتاً توقت به الدنيا وتنتهي عنده مع ما فيها من الخلائق.
وقوله تعالى: {يوم ينفخ في الصور} أي: القرن بدل من يوم الفصل أو بيان له، والنافخ إسرافيل عليه السلام أو من أذن الله تعالى له في ذلك {فتأتون} أي: بعد القيام من القبور إلى الموقف {أفواجاً} أي: جماعات مختلفة.
وعن معاذ أنه سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم أرسل عينيه باكياً، وقال: تحشر عشرة أصناف من أمّتي، بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمياً، وبعضهم صماً بكماً، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم، يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتناً من الجيف، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم.
ثم فسر هؤلاء بقوله: فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس يعني: النمام، وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت، وأما المنكبون على وجوههم فأكلة الربا، واما العمي فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين(4/470)
يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم فعلهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان، وأما الذين أشدّ نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى في أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء» ا. هـ. وقد تكلم في صحة هذا الحديث نعوذ بالله تعالى من هؤلاء ونسأله التوفيق لنا ولأحبابنا، فإنه كريم جواد لا يردّ من سأله.
{وفتحت السماء} أي: شققت لنزول الملائكة {فكانت أبواباً} فإن قيل: هذه الآية تقتضي أنّ السماء بجملتها تصير أبواباً؟ أجيب: بوجوه أوّلها: أنّ تلك الأبواب لما كثرت صارت كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة، كقوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيوناً} (القمر: 12)
كأنّ كلها عيون تتفجر. ثانيها: أنه على حذف مضاف، أي: فكانت ذات أبواب. ثالثها: أن الضمير في قوله تعالى: {فكانت أبواباً} يعود إلى مضمر، والتقدير فكانت تلك المواضع المفتوحة أبواباً، وقيل: الأبواب الطرق والمسالك أي: تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقاً لا يسدها شيء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف التاء بعد الفاء والباقون بتشديدها.
{وسيرت الجبال} أي: ذهب بها عن أماكنها {فكانت سراباً} أي: لا شيء كما أنّ السراب كذلك يظنه الرائي ماء وليس بماء، قال الرازي: إنّ الله تعالى ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة ويمكن الجمع بينها بأن نقول أول أحوالها الاندكاك وهو قوله تعالى: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} (الحاقة: 14)
والحالة الثانية: أن تصير كالعهن المنفوش وهو قوله تعالى: {وتكون الجبال كالعهن المنفوش} (القارعة: 5)
والحالة الثالثة: أن تصير كالهباء وهو قوله تعالى: {وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً} (الواقعة: 5 ـ 6)
الحالة الرابعة: أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدّمة قارة في مواضعها فترسل عليها الرياح فتنسفها عن وجه الأرض، فتطيرها في الهواء وهو قوله تعالى: {ويسئلونك عن الجبال قل ينسفها ربي نسفاً} (طه: 105)
الحالة الخامسة: أن تصير سراباً أي: لا شيء كما يرى السراب من بعد. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بإدغام تاء التأنيث في السين والباقون بالإظهار.
{إنّ جهنم} أي: النار التي تلقى أصحابها متجهمة لهم بغاية ما يكرهون {كانت مرصاداً} أي: ترصد الكفار أو موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار أو خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في مرورهم عليها، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ على جسر جهنم سبع محابس يسأل العبد عند أوّلها عن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة، فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فيسأل عن المظالم، فإن خرج منها وإلا فيقال: انظروا إن كان له تطوّع أكملوا أعماله، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة.
وأما الكافر فهو مستمرّ فيها كما قال تعالى: {للطاغين} أي: الكافرين {مآبا} أي: مرجعاً يرجعون إليه.
وقرأ حمزة {لابثين فيها} بغير ألف بين اللام والباء الموحدة والباقون بألف وهما لغتان والأولى أبلغ قاله البيضاوي.
وقوله تعالى: {أحقاباً} جمع حقب والحقب الواحد(4/471)
ثمانون سنة، كل سنة اثنا عشر شهراً كل شهر ثلاثون يوماً كل يوم ألف سنة، روي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال مجاهد: الأحقاب ثلاثة وأربعون حقباً. وقال الحسن: إنّ الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدّة بل قال: {لابثين فيها أحقاباً} فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل آخر إلى الأبد، فليس للأحقاب عدّة إلا الخلود، روي عن عبد الله أنه قال: لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا ولو علم أهل الجنة أنهم يلبثون في الجنة عدد حصى الدنيا لحزنوا. وقال مقاتل بن حبان: الحقب الواحد سبعة عشر ألف سنة. قال: وهذه الآية منسوخة نسختها {فلن نزيدكم إلا عذاباً} يعني: أنّ العدد قد ارتفع والخلود قد دخل وعلى تقدير عدم النسخ فهو من قبيل المفهوم فلا يعارض المنطوق الدال على خلود الكفار، ويجوز أن يراد {لابثين فيها أحقاباً} .
{لا يذقون} أي: غير ذائقين {فيها} أي: النار {برداً ولا شراباً} {إلا حميماً وغساقاً} ثم يبدّلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب، ويجوز أن يكون جمع حقب من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان إذا أخطأ الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب فيتنصب حالاً عنهم يعني: لابثين فيها حقبين جهدين، وقوله تعالى: {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً} تفسير له والاستثناء منقطع يعني: لا يذوقون فيها برداً. قال عطاء والحسن: أي: راحة وروحاً، أي: ينفس عنهم حرّ النار ولا شراباً يسكن من عطشهم ولكن يذوقون فيها حميماً أي: ماء حارًّا غاية الحرارة وغساقاً وهو ما يسيل من صديد أهل النار فإنهم يذوقونه وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ البرد النوم ومثله، قال الكسائي وأبو عبيدة: تقول العرب منع البرد البرد أي: أذهب البرد النوم، قال الشاعر:
*فلو شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا*
وقرأ حمزة والكسائيّ وجعفر بتشديد السين والباقون بتخفيفها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الغساق الزمهرير يحرقهم ببرده.
جوزوا بذلك {جزاء وفاقاً} أي: موافقاً لعملهم قال مقاتل: وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الكفر ولا عذاب أعظم من النار.
وقوله تعالى: {إنهم كانوا لا يرجون حساباً} بيان لما وافقه هذا الجزاء أي: لا يخافون أن يحاسبوا. والمعنى: أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ولا أنهم يحاسبون.
{وكذبوا بآياتنا} أي: بما جاءت به الأنبياء عليهم السلام، وقيل: القرآن وقرأ {كذاباً} غير الكسائيّ بالتشديد أي: تكذيباً، قال الفراء: وهي لغة يمانية فصيحة يقولون في مصدر التفعيل فعال. وقال الزمخشري: وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره، وسمعني بعضهم أفسر آية فقال: لقد فسرتها فساراً ما سمع بمثله. وقرأ الكسائيّ بالتخفيف مصدر كذب بدليل قول الشاعر:
*فصدقته وكذبته ... والمرء ينفعه كذابه*
قال الزمخشري: وهو مثل قوله: {أنبتكم من الأرض نباتاً} (نوح: 17)
يعني: وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً، أو تنصبه بكذبوا لأنه يتضمن معنى كذبوا؛ لأنه كل مكذب بالحق كاذب، وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة، أو كذبوا بها مكاذبين لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين(4/472)
وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يغالب في أمر فبلغ فيه أقصى جهده.
{وكل شيء} أي: من الأعمال وغيرها {أحصيناه} أي: ضبطناه، وقوله تعالى: {كتاباً} فيه وجهان أحدهما: أنه مصدر في موضع إحصاء والإحصاء والكتب يتشاركان في معنى الضبط، ثانيهما: أن يكون حالاً بمعنى مكتوباً في اللوح المحفوظ كقوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} (يس: 12)
. وقيل: أراد ما تكتبه الملائكة الموكلون بالعباد بأمر الله تعالى إياهم بالكتابة لقوله تعالى: {وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين} (الإنفطار: 10 ـ 11)
والجملة اعتراض.
وقوله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم} أي: شيئاً من الأشياء في وقت من الأوقات {إلا عذاباً} تسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات، قال الرازي: وفي هذه الآية مبالغات منها لن للتأكيد ومنها الالتفات، ومنها إعادة قوله تعالى: {فذوقوا} بعد ذكر العذاب، قال أبو بردة: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أشدّ آية في القرآن؟ فقال صلى الله عليه وسلم «قوله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} » أي: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب و {كلما خبت زدناهم سعيراً} .
ولما ذكر تعالى ما للكافرين أتبعه بذكر ما للمؤمنين فقال تعالى:
{إنّ للمتقين مفازاً} أي: مكان فوز في الجنة.
وقوله تعالى: {حدائق} أي: بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة بدل من مفازاً بدل الإشمال أو البعض أو بيان له وقوله تعالى: {وأعناباً} أي: كروماً عطف على مفازاً.
{وكواعب} أي: جواري تكعب ثديهنّ جمع كاعب {أتراباً} أي: على سنّ واحد جمع ترب بكسر التاء وسكون الراء وقيل: الأتراب اللدات.
{وكأساً دهاقاً} أي: خمراً مالئة محالها وفي القتال {وأنهار من خمر} والدهاق المترعة ودهق الحوض ملأه حتى قال: قطني، وقال ابن عباس: مترعة مملوءة. وقال عكرمة: صافية.
{لا يسمعون فيها} أي: الجنة في وقت ما عند شرب الخمر وغيره من الأحوال {لغواً} أي: لغطاً يستحق أن يلغى بأن يكون ليس له معنى، وقوله تعالى: {ولا كذاباً} قرأه بالتخفيف الكسائي وبالتشديد الباقون، أي: تكذيباً من واحد لغيره بخلاف ما يقع في الدنيا عند شرب الخمر.
{جزاء من ربك} أي: المحسن إليك بما أعطاك جزاهم بذلك جزاء. وقوله تعالى: {عطاء} بدل من جزاء وهو اسم مصدر وجعله الزمخشري منصوباً بجزاء نصب المفعول به، وردّه أبو حيان بأنه جعل جزاء مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة التي هي {إنّ للمتقين} قال: والمصدر المؤكد لا يعمل لأنه لا ينحل لحرف مصدري والفعل ولا نعلم في ذلك خلافاً {حساباً} أي: كافياً وافياً يقال: أحسبت فلاناً أي: أعطيته ما يكفيه حتى قال حسبي. وقال ابن قتيبة أي: عطاء كثيراً، وقيل: جزاء بقدر أعمالهم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن} برفع رب والرحمن وابن عامر وعاصم بخفضهما والآخران بخفض الأول ورفع الثاني.
أما رفعهما فمن أوجه: أحدها: أن يكون رب خبر مبتدأ مضمر أي: هو رب والرحمن كذلك، أو مبتدأ خبره لا يملكون، ثانيها: أن يجعل رب مبتدأ والرحمن خبره، ولا يملكون خبراً ثانياً أو مستأنفاً، ثالثها: أن يكون ربّ مبتدأ والرحمن نعته، ولا يملكون خبر رب. رابعها: أن يكون رب مبتدأ والرحمن مبتدأ ثانٍ ولا يملكون خبره، والجملة خبر الأوّل، وحصل الربط بتكرير المبتدأ بمعناه وهو(4/473)
رأي الأخفش، ويجوز أن يكون لا يملكون حالاً وتكون لازمة.
وأما جرّهما فعلى البيان والنعت أو يجعل رب السموات تابعاً للأوّل والرحمن تابعاً للثاني، وأما جرّ الأوّل فعلى التبعية للأوّل. ورفع الثاني، فعلى الابتداء والخبر الجملة الفعلية وهي لا يملكون أي: الخلق. {منه} أي: من الله تعالى {خطاباً} والضمير في لا يملكون لأهل السموات والأرض أي: ليس في أيديهم ما يخاطب به الله، ويأمر به في أمر الثواب والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرّف الملاك، فيزيدون فيه أو ينقصون منه أولا يملكون أن يخاطبوا بشيء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب إلا أن يهب لهم ذلك ويأذن لهم فيه.
وقوله تعالى: {يوم} متعلق بلا يملكون أو لا يتكلمون {يقوم الروح والملائكة} وقوله تعالى: {صفاً} حال أي: مصطفين، والروح أعظم خلقاً من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو ملك عظيم ما خلق الله تعالى بعد العرش خلقاً أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفاً وقامت الملائكة كلهم صفاً واحداً، فيكون عظم خلقه مثلهم، وقال الشعبي: هو جبريل عليه السلام، وقيل: ملك موكل على الأرواح.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الروح ملك أعظم من السموات ومن الجبال ومن الملائكة وهو في السماء الرابعة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق من كل تسبيحة ملك يجيء يوم القيامة صفاً وحده.
وقال مجاهد وقتادة رضي الله عنهم: الروح خلق على صورة بني آدم وليسوا بناس يقومون صفاً والملائكة صفاً هؤلاء جند وهؤلاء جند. وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خلق على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا معه واحد منهم، وقال الحسن رضي الله عنه: هو بنو آدم ورواه قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال: هذا ما كان يكتمه ابن عباس، وقيل: هو جند من جنود الله تعالى ليسوا ملائكة، لهم رؤوس وأيد وأرجل يأكلون الطعام. وقيل: أرواح بني آدم، وقال زيد بن أسلم: هو القرآن، وقرأ {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} (الشورى: 52)
وإذا كان هؤلاء {لا يتكلمون} وهم من أفضل الخلق وأشرفهم وأكثرهم طاعة وأقربهم منه تعالى لا يملكون التكلم، فما ظنك بمن عداهم من أهل السموات والأرض، ويجوز رجوع الضمير للخلق أجمعين.
{إلا من أذن له} أي: في الكلام إذناً خاصاً {الرحمن} أي: الملك الذي لا تكون النعمة إلا منه {وقال} قولاً {صواباً} في الدنيا أي: حقاً من المؤمنين والملائكة وهما شريطتان: أن يكون المتكلم مأذوناً له في الكلام، وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى. لقوله تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} (الأنبياء: 28)
وقيل: القول الصواب لا إله إلا الله.
{ذلك} أي: المشار إليه لبعد مكانته وعظم رتبته وعلوّ منزلته {اليوم الحق} أي: الكائن لا محالة وهو يوم القيامة {فمن شاء اتخذ إلى ربه} أي: المحسن إليه {مآباً} أي: مرجعاً وسبيلاً لطاعته ليسلم من العذاب في ذلك اليوم، فإنّ الله تعالى جعل لهم قوة واختياراً، ولكن لا يقدر أحد منهم على مشيئة شيء إلا بمشيئة الله تعالى.
{إنّا} أي: على ما لنا من العظمة {أنذرناكم} أي: يا كفار مكة {عذاباً قريباً} أي: عذاب يوم القيامة الآتي وكل آت قريب، وقوله تعالى: {يوم} ظرف لعذاباً بصفته {ينظر المرء} أي: كل امرئ سواء كان مؤمناً أو كافراً نظراً لا مرية فيه {ما} أي: الذي {قدمت يداه} أي: كسبه في الدنيا من خير وشرّ،(4/474)
وقال الحسن رضي الله عنه: أراد بالمرء المؤمن أي: يجد لنفسه عملاً، وأما الكافر فلا يجد لنفسه عملاً فيتمنى أن يكون تراباً، ولأنه تعالى قال: {ويقول الكافر} فعلم أنه أراد بالمرء المؤمن وقيل: هو الكافر لقوله تعالى: {إنا أنذرناكم} فيكون الكافر ظاهراً وضع موضع الضمير لزيادة الذمّ. ومعنى {ما قدّمت يداه} من الشرّ كقوله تعالى: {ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق، ذلك بما قدمت يداك} (الحج: 9 ـ 10)
وما يجوز أن تكون استفهامية منصوبة بقدّمت أي: ينظر أي شيء قدّمت يداه أو موصولة منصوبة بينظر يقال: نظرته بمعنى نظرت إليه والراجع إلى الصلة محذوف.
وقال مقاتل رضي الله عنه: نزل قوله تعالى: {يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه} في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، و {ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} في أخية الأسود بن عبد الأسد وقال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الكافر هنا إبليس، وذلك أنه عاب آدم عليه السلام بأنه خلق من تراب وافتخر بأنه خلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه من الثواب والراحة ورأى ما هو فيه من الشدّة والعذاب تمنى أنه كان بمكان آدم فيقول {يا ليتني كنت تراباً} . قال: ورأيته في بعض التفاسير.
قال البغويّ: قال أبو هريرة رضي الله عنه فيقول التراب: لا ولا كرامة لكل من جعلك مثلي. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: يحشر الخلق كلهم من دابة وطائر وإنسان ثم يقال للبهائم والطير: كونوا تراباً، فعند ذلك يقول الكافر {يا ليتني كنت تراباً} أي: فلا أعذب وقيل: معنى {يا ليتني كنت تراباً} أي: لم أبعث. وقال أبو الزناد: إذا قضي بين الناس وأمر بأهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجنّ: عودوا تراباً فيعودون تراباً فعند ذلك يقول الكافر حين يراهم: {يا ليتني كنت تراباً} ، وقال ليث بن أبي سليم مؤمنو الجنّ يعودون تراباً. وقال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وغيرهما: مؤمنو الجنّ حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها، والذي عليه الأكثر أنهم مكلفون مثابون ومعاقبون كبني آدم، وقيل: يحشر الله تعالى الحيوان غير مكلف حتى يقتص للجماء من القرناء ثم يردّه تراباً فيودّ الكافر حاله.
وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة عمّ سقاه الله تعالى برد الشراب يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة النازعات
مكية
وهي خمس أو ست وأربعون آية ومائةوسبعون كلمة وسبعمائة وثلاثون حرفاً
{بسم الله} الذي أحاط علمه بالكائنات {الرحمن} الذي أنعم على سائر الموجودات {الرحيم} الذي خص أولياءه بالجنات
{والنازعات} أي: الملائكة تنزع أرواح الكفار {غرقاً} أي: تنزع أرواحهم من أجسادهم بشدّة كما يغرق النازع في القوس ليبلغ بها غاية المدّ بعدما نزعها، حتى إذا كادت تخرج ردّها إلى جسده فهذا عملهم بالكفار. وقال عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما: يريد نفس الكفار ينزعها ملك الموت من أجسادهم من تحت كل شعرة ومن تحت الأظافير وأصول القدمين نزعاً كالسفود ينزع من الصوف الرطب، ثم يغرقها أي: يرجعها إلى أجسادهم ثم ينزعها، فهذا عمله في الكفار.
وقال السدّي رضي الله عنه: والنازعات هي النفوس حين(4/475)
تغرق في الصدور، وقال مجاهد رضي الله عنه: هي الموت ينزع النفوس. وقال الحسن وقتادة رضي الله عنهم: هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب. وقال عطاء وعكرمة رضي الله عنهم: هي النفوس، وقيل: الغزاة.
تنبيه: غرقاً يجوز أن يكون مصدراً على حذف الزوائد بمعنى إغراقاً، وانتصابه بما قبله لملاقاته في المعنى، وأن يكون على الحال أي: ذوات إغراق.
يقال: أغرق في الشيء يغرق فيه إذا أوغل وبلغ أقصى غايته.
{والناشطات نشطاً} أي: الملائكة تنشط أرواح المؤمنين أي: تسلها برفق فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنه.
وفي الحديث: «كأنما نشط من عقال» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «هي أنفس المؤمنين تنشط للخروج عند الموت لما ترى من الكرامة؛ لأنّ الجنة تعرض عليهم قبل الموت» . وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «هي الملائكة تنشط أرواح الكفار مما بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أفواههم بالكد والغم» والنشط الجذب والنزع، يقال: نشط الدنو نشطاً انتزعها» . وقال السدّي رضي الله عنه: هي النفس تنشط من بين القدمين، أي: تجذب، وقال قتادة رضي الله عنه: هي النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي: تذهب. يقال: نشط من بلد إلى بلد إذا خرج في سرعة، ويقال حمار ناشط ينشط من بلد إلى بلد. وقال الجوهري: يعني النجوم تنشط من برج إلى برج، كالثور الناشط من بلد إلى بلد.
{والسابحات سبحاً} أي: الملائكة تسبح من السماء بأمره أي: ينزلون من السماء مسرعين كالفرس الجواد. يقال له: سابح إذا أسرع في جريه، وقال عليّ رضي الله عنه: هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين. قال الكلبي: كالذي يسبح في الماء، فأحياناً ينغمس وأحياناً يرتفع يسلونها سلاً رفيقاً بسهولة، ثم يدعونها حتى تستريح. وعن مجاهد رضي الله عنه: السابحات الموت يسبح في نفوس بني آدم. وقال قتادة والحسن رضي الله عنهم: هي النجوم تسبح في أفلاكها، وكذا الشمس والقمر، قال تعالى: {كل في فلك يسبحون} (الأنبياء: 33)
. وقال عطاء: هي السفن في الماء. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أرواح المؤمنين تسبح شوقاً إلى لقاء الله تعالى ورحمته حتى تخرج، وقيل: هي خيل الغزاة، قال عنترة:
*والخيل تعلم حين تس ... بح في حياض الموت سبحا*
{فالسابقات سبقاً} أي: الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، وقال مجاهد رضي الله عنه: هي الملائكة سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها شوقاً إلى لقاء الله تعالى وكرامته، وقد عاينت السرور. وقال قتادة رضي الله عنه: هي النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير. وقال عطاء: هي الخيل التي تسبق في الجهاد، وقيل: هي ما يسبق من الأرواح قبل الأجساد إلى جنة أو نار. قال الجرجاني: ذكر السابقات بالفاء لأنها مسببة عن الذي قبلها، أي: واللاتي يسبحن فيسبقن.
قال الواحدي: وهذا غير مطرد في قوله تعالى: {فالمدبرات أمراً} أي: الملائكة تدبر أمر الدنيا، أي: تنزل بتدبيره. قال الرازي: ويمكن الجواب بأنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيره، فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المدبرات هي الملائكة وكلوا بأمور عرّفهم الله تعالى العمل بها.
قال عبد الرحمن بن سابط: يدبر الأمر في الدنيا أربعة من الملائكة: جبريل(4/476)
وميكائيل وملك الموت وإسرافيل عليهم السلام، فأما جبريل فوكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فوكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فوكل بقبض الأرواح، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم، وليس في الملائكة أقرب منه وبينه وبين العرش خمسمائة عام. وقيل: هي الكواكب السبع، حكي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
وفي تدبيرها بالأمور وجهان: أحدهما تدبير طلوعها وأفولها، والثاني في تدبير ما قضى الله تعالى فيها من تقليب الأحوال أقسم سبحانه وتعالى بهذه الأمور على قيام الساعة والبعث، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، وأما العباد فلا يصح لهم أن يقسموا بغير الله تعالى وصفاته.
وقوله تعالى: {يوم ترجف} أي: تضطرب اضطراباً كثيراً مزعجاً {الراجفة} أي: الصيحة منصوب بالجواب، أي: لتبعثنّ يا كفار مكة {يوم ترجف الراجفة} وهي النفخة الأولى بها يرجف كل شيء، أي: يتزلزل ويتحرّك لها كل شيء، ويموت منها جميع الخلائق فوصفت بما يحدث منها. {تتبعها الرادفة} أي: الصيحة التابعة لها وهي النفخة الثانية، ردفت الأولى وبينهما أربعون سنة، والجملة حال من الراجفة واليوم واسع للنفختين وغيرهما، فصح ظرفيته للبعث الواقع عقيب الثانية. وقال قتادة رضي الله عنه: هما صيحتان فالأولى تميت كل شيء والأخرى تحيي كل شيء بإذن الله سبحانه وتعالى، وقال عطاء: الراجفة القيامة والرادفة البعث. روي عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام وقال: يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه» .
{قلوب يومئذ} أي: إذ قام الخلائق بالصيحة التابعة للأولى {واجفة} أي: خائفة قلقة مضطربة من الوجيف وهو صفة القلوب، وقال مجاهد رضي الله عنه: وجلة. وقال السدّي: زائلة عن أماكنها، نظيره {إذ القلوب لدى الحناجر} (غافر: 18)
{أبصارها} أي: أبصار أصحابها، فهو من الاستخدام {خاشعة} أي: ذليلة من الخوف، ولذا أضافها إلى القلوب، كقوله تعالى: {خاشعين من الذل} (الشورى: 45)
{يقولون} أي: أرباب القلوب والأبصار في الدنيا استهزاء وإنكاراً للبعث {أئنا لمردودون} أي: بعد الموت {في الحافرة} أي: في الحياة التي كنا فيها قبل الموت، وهي حالتنا الأولى، فنصير أحياء بعد الموت كما كنا، تقول العرب: رجع فلان في حافرته، أي: رجع من حيث جاء، والحافرة عندهم اسم لابتداء الشيء وأوّل الشيء. وقال بعضهم: الحافرة وجه الأرض التي تحفر فيها قبورهم، سميت حافرة بمعنى المحفورة. كقوله تعالى: {عيشة راضية} (الحاقة: 21)
أي: مرضية، وقيل: سميت حافرة لأنها مستقرّ الحوافر، أي: إنا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقاً جديداً نمشي عليها، وقال ابن زيد: الحافرة النار.
{أئذا كنا} أي: كوناً صار جبلة لنا. {عظاماً نخرة} أي: بالية متفتتة نحيى بعد ذلك، وقرأ: أئنا وإذا نافع وابن عامر والكسائي بالاستفهام في الأوّل والخبر في الثاني، والباقون بالاستفهام فيهما، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو والباقون بالتحقيق، وأدخل بين الهمزتين قالون وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه ألفاً والباقون بغير إدخال.
وقرأ نخرة حمزة وشعبة والكسائي بالألف بعد النون والباقون بغير ألف، وهما لغتان، مثل: الطمع والطامع، والحذر والحاذر، معناهما البالية، وفرق قوم بينهما فقالوا: النخرة البالية، والنخرة المجوّفة التي تمر فيها الريح فتنخر أي: تصوّت.
{قالوا} أي: المنكرون(4/477)
للبعث {تلك} أي: رجعتنا العجيبة إلى الحياة {إذاً} أي: إن صحت {كرّة} أي: رجعة {خاسرة} أي: ذات خسران أو خسار أصحابها، والمعنى: إن صحت فنحن إذاً خاسرون بتكذيبنا وهو استهزاء منهم. وعن الحسن رضي الله عنه أن خاسرة بمعنى كاذبة، أي: ليست كائنة.
قال الله تعالى: {فإنما هي} أي: الرادفة التي يتبعها البعث {زجرة} أي: صيحة بانتهار تتضمن الأمر بالقيام والسوق إلى المحشر والمنع من التخلف {واحدة} عبر بالزجرة لأنه أشدّ من النهي، لأنها صيحة لا يتخلف عنها القيام أصلاً فكان كأنه بلسان قال عن تلك الصيحة: أيها الأجساد البالية انتهي عن الرقاد وقومي إلى الميعاد بما حكمنا به من المعاد، فقد انتهى زمن الحصاد، وآن أوان الاجتناء لما قدّم من الزاد، فيا خسارة من ليس له زاد.
{فإذا هم} أي: فتسبب عن تلك النفخة وهي الثانية أن كل الخلائق {بالساهرة} أي: صاروا على وجه الأرض بعدما كانوا في جوفها. والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة، قال بعض أهل اللغة: تراهم سموها ساهرة لأنّ فيها نوم الحيوان وسهرهم. قال سفيان رضي الله عنه: هي أرض الشام، وقال قتادة رضي الله عنه: هي جهنم.
فإن قيل: بم يتعلق {فإنما هي زجرة واحدة} ؟ أجيب: بأنه متعلق بمحذوف معناه لا تستصعبوها {فإنما هي زجرة واحدة} يعني: لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله تعالى، فإنها سهلة هينة في قدرته تعالى.
وقال الزمخشري: الساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك، لأنّ السراب يجري فيها من قولهم: عين ساهرة أي: جارية الماء وفي ضدها نائمة. قال الأشعث بن قيس:
*وساهرة يضحى السراب مجللاً ... لأقطارها قد جبتها متلثما*
أو لأنّ سالكها لا ينام خوف الهلكة. وقال الراغب: هي وجه الأرض. وقيل: أرض القيامة، وحقيقتها التي يكثر الوطء بها كأنها سهرت من ذلك، والأسهران عرقان في الأنف، والساهور غلاف القمر الذي يدخل فيه عند كسوفه. وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الساهرة أرض من فضة لم يعص الله عليها قط جعلها حينئذ، وقيل: الساهرة اسم للأرض السابعة يأتي بها الله تعالى فيحاسب عليها الخلائق، وذلك حين تبدّل الأرض غير الأرض وقال وهب بن منبه: جبل بيت المقدس. وقال عثمان بن أبي العاتكة: إنه اسم مكان من الأرض بعينه بالشأم، وهو الصقع الذي بين جبل أريحاء وجبل حسان يمدّه الله تعالى كيف شاء.
ثم إنّ الله تعالى سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
{هل أتاك} يا أشرف الخلق {حديث موسى} أي: أليس قد أتاك حديثه، فيسليك على تكذيب قومك ويهدّدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم، فإنه كان أقوى أهل الأرض بما كان له من كثرة الجنود فلما أصرّ على التكذيب ولم يرجع ولا أفاده التأديب أغرقناه وآله، ولم نبقِ منهم أحداً، وقد كانوا لا يحصون عدداً بحيث قيل: إنّ طليعته كانت على عدد بني إسرائيل ستمائة ألف فكيف بقومك الضعاف.
وقوله تعالى: {إذ} أي: حين {ناداه} منصوب بحديث لا بأتاك {ربه} أي: المحسن إليه بالرسالة وغيرها {بالواد المقدّس} أي: المطهر غاية الطهر بتشريف الله تعالى له بإنزال النبوّة المفيضة للبركات. وقوله تعالى: {طوى} اسم الوادي وهو الذي طوي فيه الشرّ عن بني إسرائيل، ومن أراد الله تعالى من خلقه ونشر فيه(4/478)
بركات النبوّة على جميع أهل الأرض المسلم بإسلامه وغيره برفع عذاب الاستئصال عنه، فإن العلماء قالوا: إنّ عذاب الاستئصال ارتفع حين أنزلت التوراة، وهو واد بالطور بين إيلة ومصر، وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو بغير تنوين في الوصل والباقون بالتنوين.
وقوله تعالى: {اذهب إلى فرعون} أي: ملك مصر الذي كان يستعبد بني إسرائيل على إرادة القول {إنه طغى} أي: تجاوز الحدّ في الكفر وعلا وتكبر.
وقال الرازي: لم يبين أنه طغى في أي شيء، فقيل: تكبر على الله تعالى وكفر به، وقيل: تكبر على الخلق واستعبدهم. { {
وروي عن الحسن رضي الله عنه قال: كان فرعون علجاً من همدان، وقال مجاهد رضي الله عنه: كان من أهل إصطخر. وعن الحسن أيضاً: كان من أصبهان يقال له: ذو الظفر طوله أربعة أشبار.
وقوله تعالى: {فقل} أي: له {هل لك} أي: هل لك سبيل {إلى أن تزكى} أي: تتطهر من الكفر والطغيان. قال ابن عباس رضي الله عنهما: بأن تشهد أن لا إله إلا الله. وقال أبو البقاء: لما كان المعنى أدعوك جاء بإلى، وقال غيره: يقال هل لك في كذا، وهل لك إلى كذا كما تقول: هل ترغب فيه وهل ترغب إليه. وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الزاي، والأصل تتزكى والباقون بتخفيفها.
{وأهديك إلى ربك} أي: وأنبهك على معرفة المحسن إليه {فتخشى} لأنّ الخشية لا تكون إلا بالمعرفة قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28)
أي: العلماء به، وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شرّ. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل» بدأ بمخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا، وأردفه الكلام الرفيق ليستدعيه للتلطف في القول ويستنزله بالمداراة من علوه كما أمر بذلك في قوله تعالى: {فقولا له قولاً ليناً} (طه: 25)
الآية. وقال الرازي: سائر الآيات تدل على أنه تعالى لما نادى موسى عليه السلام ذكر له أشياء كثيرة {نودي إني أنا ربك} إلى قوله تعالى: {لنريك من آياتنا الكبرى اذهب إلى فرعون إنه طغى} (طه: 12 ـ 24)
فدل قوله تعالى: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} أنه من جملة ما ناداه به لا كل ما ناداه به، وأيضاً فليس الغرض أنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى فرعون فقط، بل إلى كل من كان في الطور إلا أنه خصه بالذكر لأنّ دعوته جارية مجرى كل القوم.
والفاء في قوله تعالى: {فأراه} عاطفة على محذوف يعني: فذهب فأراه {الآية الكبرى} كقوله تعالى: {اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} (البقرة: 60)
أي: فضرب فانفجرت.
واختلفوا في الآية الكبرى أي: العلامة العظمى وهي المعجزة. فقال عطاء وابن عباس رضي الله عنهم: هي العصا. وقال مقاتل والكلبي رضي الله عنهما: هي اليد البيضاء تبرق كالشمس، والأوّل أولى لأنه ليس في اليد إلا انقلاب لونها، وهذا حاصل في العصا لأنها لما انقلبت حية لا بدّ وأن يتغير اللون الأوّل، فإذن كل ما في اليد فهو حاصل في العصا، وأمور أخر وهي الحياة في الجرم الجمادي وتزايد أجزائه، وحصول القدرة الكبيرة والقوّة الشديدة وابتلاعها أشياء كثيرة وزوال الحياة والقدرة عنها، وذهاب تلك الأجزاء التي عظمت، وزوال ذلك اللون والشكل اللذين صارت العصا بهما حية، وكل واحد من هذه الوجوه كان معجزاً مستقلاً في نفسه، فعلمنا أنّ الآية الكبرى هي العصا. وقال مجاهد رضي الله عنه: هي مجموع العصا واليد، وقيل: فلق البحر، وقيل: جميع آياته التسع.
{فكذب} أي: فتسبب عن رؤيته ذلك(4/479)
أن كذب موسى عليه السلام {وعصى} الله تعالى بعد ظهور الآية وتحقيق الأمر، وقيل: كذب بالقول وعصى بالتمرّد والتجبر.
{ثم أدبر} أي: تولى وأعرض عن الإيمان بعد المهل والأناة إعراضاً عظيماً بالتمادي على أعظم ما كان فيه من الطغيان بعد خطوب جليلة ومشاهد طويلة، حال كونه {يسعى} أي: يعمل بالفساد في الأرض، أو أنه لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسعى أي: يسرع في مشيته. قال الحسن رضي الله عنه: كان رجلاً طياشاً خفيفاً، وتولى عن موسى عليه السلام يسعى ويجتهد في مكايدته، أو أريد: ثم أقبل يسعى كما تقول: أقبل فلان يفعل كذا بمعنى أنشأ يفعل، فوضع أدبر موضع أقبل لئلا يوصف بالإقبال.
{فحشر} أي: فتسبب عن إدباره أنه جمع السحرة للمعارضة وجنوده للقتال {فنادى} حينئذ بأعلى صوته. قال حمزة الكرماني: قال له موسى عليه السلام: إنّ ربي أرسلني إليك لئن آمنت بربك تكون أربعمائة سنة في النعيم والسرور، ثم تموت فتدخل الجنة فقال: حتى أستشير هامان فاستشاره، فقال: أتصير عبداً بعدما كنت رباً، فعند ذلك جمع بعث الشرط وجمع السحرة والجنود.
فلما اجتمعوا قام عدوّ الله على سريره {فقال أنا ربكم الأعلى} أي: لا رب فوقي، وقيل: أراد أنّ الأصنام أرباب وأنا ربها وربكم، وقيل: أمر منادياً فنادى في الناس بذلك، وقيل: قام فيهم خطيباً فقال ذلك.
{فأخذه الله} أي: أهلكه بالغرق الملك الأعظم الذي لا كفء له {نكال} أي: عقوبة {الآخرة} أي: هذه الكلمة وهي قوله {أنا ربكم الأعلى} . {والأولى} وهي قوله: {ما علمت لكم من إله غيري} (القصص: 38)
. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكان بين الكلمتين أربعون سنة، والمعنى: أمهله في الأولى ثم أخذه في الآخرة فعذبه بكلمتيه. وقال الحسن رضي الله عنه: {نكال الآخرة والأولى} هو أن أغرقه في الدنيا وعذبه في الآخرة. وعن قتادة رضي الله عنه: الآخرة هي قوله: {أنا ربكم الأعلى} والأولى تكذيبه لموسى عليه السلام.
ثم إنه تعالى ختم هذه القصة بقوله تعالى: {إنّ في ذلك} أي: الأمر العظيم الذي فعله فرعون والذي فعل به حين كذب وعصى {لعبرة} أي: لعظة {لمن يخشى} أي: لمن يخاف الله تعالى لأنّ الخشية أساس الخير كما مرّت الإشارة إليه.
ثم خاطب تعالى منكري البعث بقوله تعالى:
{أأنتم} أي: أيها الأحياء مع كونكم خلقاً ضعيفاً {أشدّ خلقاً} أي: أخلقكم بعد الموت أشدّ في تقديركم {أم السماء} أي: فمن قدر على خلق السماء على عظمها من السعة والكبر والعلوّ والمنافع قدر على الإعادة، وهذا كقوله تعالى: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} (غافر: 57) ، والمقصود من الآية الاستدلال على منكري البعث، ونظيره قوله تعالى: {أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} (يس: 81)
ومعنى الكلام التقريع والتوبيخ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، والباقون بتحقيقهما، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام، والباقون بغير إدخال. { {
وقوله تعالى: {بناها} بيان لكيفية خلقه إياها فالوقف على السماء والابتداء بما بعدها وقوله تعالى: {رفع سمكها} جملة مفسرة لكيفية البناء، والسمك الارتفاع أي: جعل مقدارها في سمت العلوّ مديداً رفيعاً مسيرة خمسمائة عام {فسوّاها} أي: فعدلها مستوية ملساء ليس فيها تفاوت ولا فطور، أو فتممها بما علم أنها تتم به وأصلحها من قولك: سوّى فلان أمر فلان.
{وأغطش} أي: أظلم {ليلها} أي:(4/480)
جعله مظلماً بغياب شمسها فأخفى ضياءها بامتداد ظل الأرض على كل ما كانت الشمس ظهرت عليه، فصار لا يهتدي معه إلى ما كان في حال الضياء، وأضاف الليل إلى السماء لأنّ الليل يكون بغروب الشمس والشمس تضاف إلى السماء. ويقال: نجوم الليل، لأنّ ظهورها بالليل.
وقوله تعالى: {وأخرج ضحاها} فيه حذف، أي: ضحى شمسها، أو أضاف الليل والضحى لها للملابسة التي بينها وبينهما لأنّ الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوّها، وإنما عبر عن النهار بالضحى؛ لأنّ الضحى أكمل أجزاء النهار بالنور والضوء.
{والأرض بعد ذلك} أي: بعد المذكور كله {دحاها} أي: بسطها ومهدها للسكنى وبقية المنافع، وكانت مخلوقة قبل السماء من غير دحو فلا معارضة بينها وبين آية فصلت؛ لأنه خلق الأرض أولاً غير مدحوة ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض. قال ابن عباس رضي الله عنهما: خلق الله تعالى الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء فسوّاها سبع سموات ثم دحا الأرض بعد ذلك. وقيل: معناه والأرض مع ذلك دحاها كقوله تعالى: {عتلّ بعد ذلك} (القلم: 13)
أي: مع ذلك، ومنه قولهم: أنت أحمق، وأنت بعد هذا سيء الخلق.
وقيل: بعد بمعنى قبل كقوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} (الأنبياء: 105)
أي: من قبل، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خلق الله تعالى الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت.
{أخرج منها} أي: الأرض {ماءها} أي: بتفجير عيونها، وإضافتها إليها دليل على أنه مودوع فيها {ومرعاها} أي: النبات الذي يرعى مما يأكله الناس والأنعام من العشب والشجر والثمر والحب حتى النار والملح، لأنّ النار من العيدان قال تعالى: {أفرأيتم النار التي تورون} (الواقعة: 71)
الآية، والملح من الماء، واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام: {يرتع ويلعب} (يوسف: 12)
والمرعى في الأصل موضع الرعي.
تنبيه: أخرج حال بإضمار قد أي: مخرجاً، وإضمار قد هو قول الجمهور وخالف الكوفيون والأخفش.
{والجبال أرساها} أي: أثبتها على وجه الأرض لتسكن، ونظيره قوله تعالى: {والجبال أوتاداً} (النبأ: 7)
وقوله تعالى: {متاعاً} مفعول له لمقدّر، أي: فعل ذلك منفعة أو مصدر لعامل مقدّر أي: متعكم تمتيعاً.
{لكم} وقوله تعالى: {ولأنعامكم} جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، وذكر الأنعام لكثرة الانتفاع بها.
{فإذا جاءت الطامة الكبرى} أي: الداهية التي تطم على الدواهي أي: تعلو وتغلب، وفي أمثالهم: جرى الوادي فطم على القرى، قال ابن عباس: وهي النفخة الثانية التي يكون معها البعث. وقال الضحاك: هي القيامة سميت بذلك لأنها تطم على كل شيء فتغمره. وقال القاسم بن الوليد الهمداني: هي الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار.
وقوله تعالى: {يوم يتذكر} أي: تذكراً عظيماً {الإنسان} أي: الخلق الآنس بنفسه الغافل عما خلق له بدل من إذا {ما سعى} في الدنيا من خير أو شرّ، يعني: إذا رأى أعماله مدوّنة في كتابه تذكرها، وكان قد نسيها كقوله تعالى: {أحصاه الله ونسوه} (المجادلة: 6)
وما في {ما سعى} موصولة أو مصدرية.
{وبرّزت الجحيم} أي: أظهرت النار المحرقة إظهاراً بيناً مكشوفاً {لمن يرى} أي: لكل راء، كقولهم: قد تبين الصبح لذي عينين، يريدون لكل من له بصر، وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى على أحد، لكن الناجي لا ينصرف بصره إليها فلا يراها، كما قال تعالى: {لا يسمعون(4/481)
حسيسها} (الأنبياء: 102)
وجواب إذا قوله: {فأمّا من طغى} أي: تجاوز الحد في العدوان حتى كفر بربه {وآثر} أي: قدّم واختار {الحياة الدنيا} أي: انهمك فيها ولم يستعدّ للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس {فإنّ الجحيم} أي: النار الشديدة التوقد العظيمة {هي} أي: خاصة {المأوى} أي: مأواه كما تقول للرجل: غض الطرف، تريد طرفك، وليست الألف واللام بدلاً عن الإضافة، ولكن لما علم أنّ الطاغي هو صاحب المأوى، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره تركت الإضافة.
تنبيه: {هي} يجوز أن تكون فصلاً أو مبتدأ.
{وأمّا من خاف مقام ربه} أي: قيامه بين يديه لعلمه بالمبدأ وبالمعاد، وقال مجاهد: خوفه في الدنيا من الله تعالى عند مواقعة الذنب فيقلع عنه نظيره {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن: 46)
{ونهى النفس} أي: الأمارة بالسوء {عن الهوى} وهو اتباع الشهوات وزجرها عنها وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير.
{فإنّ الجنة} أي: البستان لكل ما يشتهى {هي} أي: خاصة {المأوى} أي: ليس له سواها مأوى، وحاصل الجواب أنّ العاصي في النار والطائع في الجنة. قال الرازي: هذان الوصفان مضادان للوصفين المتقدّمين فقوله تعالى: {فأما من خاف مقام ربه} ضد قوله تعالى: {فأما من طغى} . {ونهى النفس عن الهوى} ضد قوله تعالى: {وآثر الحياة الدنيا} فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين الوصفين جميع الطاعات. وقال عبد الله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق، فتعوّذوا بالله من ذلك الزمان.
تنبيه: اختلف في سبب نزول هاتين الآيتين، فقيل: نزلتا في مصعب بن عمير وأخيه. روى الضحاك عن ابن عباس قال: {أمّا من طغى} فهو أخو مصعب بن عمير أسر يوم بدر وأخذته الأنصار فقالوا: من أنت، قال: أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدّوه في الوثاق وأكرموه وبيتوه عندهم فلما أصبحوا حدّثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال: ما هو لي بأخ شدّوا أسيركم، فإنّ أمّه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً، فأوثقوه حتى تبعث أمّه فداءه، {وأمّا من خاف مقام ربه} فمصعب بن عمير وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه، والمشاقص جمع مشقص وهو السهم العريض، فلما رآه صلى الله عليه وسلم متشحطاً في دمه قال صلى الله عليه وسلم «عند الله أحتسبك» وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإنّ شراك نعله من ذهب» وعن ابن عباس أيضاً: نزلت في رجلين أبي جهل بن هشام ومصعب بن عمير. وقال السدي: نزلت الآية الثانية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وقال الكلبي: هما عامّتان.
ولما سمع المشركون أخبار القيامة ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل الطامّة الكبرى والصاخة والقارعة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً متى تكون الساعة؟ نزل: {يسئلونك} يا أشرف الخلق {عن الساعة} أي: البعث الآخر لكثرة ما تتوعدهم به من أمرها {أيان مرساها} أي: في أي وقت إرساؤها، أي: إقامتها أرادوا متى يقيمها الله تعالى ويثبتها ويكوّنها، أو أيان منتهاها ومستقرّها، كما أنّ مرسى السفينة مستقرّها حيث تنتهي إليه.
فأجابهم الله تعالى بقوله سبحانه: {فيم} أي: في أي شيء {أنت من ذكراها} أي: من أن تذكر وقتها لهم وتعلهم به.
تنبيه: {فيم} خبر مقدّم و {أنت} مبتدأ مؤخر و {من ذكراها} متعلق بما تعلق به الخبر، والمعنى: أنت في أي شيء من ذكراها، أي: ما أنت من(4/482)
ذكراها لهم وتبيين وقتها في شيء. وعن عائشة رضي الله عنها «لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت» فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها، كأنه قيل: في أيّ شغل واهتمام أنت من ذكراها والسؤال عنها، والمعنى: أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.
{إلى ربك} أي: المحسن إليك بأنواع النعم {منتهاها} أي: منتهى علمها لم يؤت علمها أحداً من خلقه كقوله تعالى: {إنما علمها عند ربي} (الأعراف: 187)
وقوله تعالى: {إنّ الله عنده علم الساعة} (لقمان: 34)
قال القرطبي: ويجوز أن يكون إنكاراً على المشركين في مسألتهم، أي: فيم أنت من ذلك حتى يسألونك، بيانه: ولست ممن يعلمه. روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقيل: الوقف على قوله تعالى: {فيم} وهو خبر مبتدأ مضمر أي: فيم هذا السؤال، ثم يبتدأ بقوله تعالى: {أنت من ذكراها} أي: أرسلناك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل المبعوث في فم الساعة ذكر من ذكراها وعلامة من علاماتها فكفاهم بذلك دليلاً على دنوّها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها.
{إنما أنت} أي: يا أشرف الرسل {منذر} أي: إنما بعثت لإنذار {من يخشاها} أي: لتخويف من يخاف هولها، وهو لا يناسب تعيين الوقت وتخصيص من يخشى؛ لأنه المنتفع به، أي: إنما ينفع إنذارك من يخافها وإن كنت منذر الكل مكلف.
{كأنهم} قال البغوي: يعني: كفار قريش {يوم يرونها} أي: يعلمون قيام الساعة علماً هو كالرؤية ويرون ما يحدث فيها بعد سماع الصيحة وقيامهم من القبور مع علمهم بما مرّ من زمانهم وما أتى فيه {لم يلبثوا} أي: في الدنيا أو في القبور {إلا عشية} أي: من الزوال إلى غروب الشمس {أو ضحاها} أو ضحى عشية من العشايا وهو البكرة إلى الزوال، والعشية بعد ذلك أضيف إليها الضحى؛ لأنها من النهار، والإضافة تحصل بأدنى ملابسة، وهي هنا كونهما من نهار واحد، فالمراد ساعة من نهار من أوّله أو آخره لم يستكملوا نهاراً تامّاً، ولم يجمعوا بين طرفيه، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» .
فإن قيل: هلا قال: إلا عشية أو ضحى، وما فائدة الإضافة؟ أجيب: بأنّ ذلك للدلالة على أنّ مدة لبثهم كأنها لم تبلغ يوماً كاملاً، ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه، فلما ترك اليوم أضافه على عشيته فهو كقوله تعالى: {لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} (الأحقاف: 35)
وحسن الإضافة وقوع الكلمة فاصلة.
تنبيه: قرأ {حديث موسى} ، {طوى} ، {طغى} ، {تزكى} ، {فتخشى} ، {وعصى} ، {يسعى} ، {فنادى} ، {الأعلى} ، {والأولى} ، {يخشى} ، {ما سعى} ، {طغى} ، {الدنيا} ، {المأوى} ، {عن الهوى} ، {المأوى} ، حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين وبين، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين. وقرأ {فأراه الآية الكبرى} ، {الطامّة الكبرى} {لمن يرى} ، {من ذكراها} ، أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح في الجميع.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والنازعات كان ممن حبسه الله تعالى في القبر والقيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة مكتوبة» حديث موضوع.
سورة عبس
مكية وتسمى سورة السفرة
وهي اثنان وأربعون آية ومائة وثلاثون كلمة وثلاثمائة وثلاثون حرفاً(4/483)
{بسم الله} الواحد القهار {الرحمن} الذي عمّ بإنعامه الأبرار والفجار {الرحيم} الذي خص أولياءه برحمته في دار القرار.
{عبس} أي: كلح وجهه النبي صلى الله عليه وسلم {وتولى} أي: أعرض بوجهه لأجل {أن جاءه الأعمى} وهو ابن أمّ مكتوم وأم مكتوم أمّ ابيه واسمها عاتكة بنت عامر بن مخزوم، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤيّ، وذلك أنه جاءه وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية ابن خلف، والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم فيتأيد بهم الإسلام ويسلم بإسلامهم أتباعهم، فتعلو كلمة الله تعالى، فقال: يا رسول الله، أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى وكرّر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد: إنما اتبعه العميان والعبيد والسفلة فعبس وجهه وأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربي» ، ويبسط له رداءه ويقول له: «هل لك حاجة؟» واستخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين غزاهما. قال أنس بن مالك: رأيته يوم القادسية راكباً وعليه درع وله راية سوداء. { {
{وما يدريك} أي: أيّ شيء يجعلك دارياً بحاله {لعله} أي: الأعمى {يزكى} فيه إدغام التاء في الأصل في الزاي، أي: يتطهر من الذنوب بما يسمع منك وفي ذلك إيماء بأنّ إعراضه كان لتزكية غيره.
{أو يذكر} فيه إدغام التاء في الذال أي: يتعظ وتسبب عن تزكيته وتذكره قوله تعالى: {فتنفعه الذكرى} أي: العظمة المسموعة منك، وقرأ عاصم بنصب العين والباقون برفعها، فمن رفع فهو نسق على قوله تعالى: {أو يذكر} ومن نصب فعلى جواب الترجي كقوله تعالى في غافر: {فأطلع إلى إله موسى} (غافر: 37)
. وقال ابن عطية في جواب التمني لأن قوله تعالى: {أو يذكر} في حكم قوله تعالى: {لعله يزكى} .
واعترض عليه أبو حيان: بأنّ هذا ليس تمنياً وإنما هو ترجٍ. وأجيب عنه: بأنه إنما يريد التمني المفهوم وقت الذكرى.
وقرأ الذكرى أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح وقيل: الضمير في لعله للكافر يعني: أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر فتقرّبه الذكرى إلى قبول الحق وما يدريك أنّ ما طمعت فيه كائن.
{أما من استغنى} أي: بالمال، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: استغنى عن الله وعن الإيمان بما له من المال.
{فأنت له} أي: دون الأعمى {تصدّى} أي: تتعرّض له بالإقبال عليه والمصادّة المعارضة وقرأ نافع وابن كثير بتشديد الصاد بإدغام التاء الثانية في الأصل فيها والباقون بالتخفيف.
{وما} أي: فعلت ذلك والحال أنه ما {عليك} أي: وليس عليك بأس {ألا يزكى} أي: في أن لا يتزكى بالإسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم إن عليك إلا البلاغ.
{وأما من جاءك} حال كونه {يسعى} أي: يسرع في طلب الخير وهو ابن أمّ مكتوم {وهو} أي: والحال أنه {يخشى} أي: الله أو الكفار في أذاهم على الإتيان إليك. وقيل: جاء وليس معه قائد فهو يخشى الكبوة، وقرأ قالون وأبو عمرو والسدّي بسكون الهاء والباقون بضمها.
{فأنت عنه تلهى} فيه حذف التاء الآخرة في الأصل، أي: تتشاغل، وقرأ {وتولى} ، {الأعمى} ، {يزكى} ، {من استغنى} ، {تصدّى} ، {يزكى} ، {يسعى} ، {يخشى}(4/484)
، {تلهى} حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين بين، والفتح عن ورش قليل والباقون بالفتح.
وقوله تعالى: {كلا} ردع من العاتب عليه وعن معاودة مثله. فإن قيل: ما فعله ابن أمّ مكتوم كان يستحق عليه التأديب والزجر، فكيف عاتب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على تأديبه، لأنه وإن كان أعمى فقد سمع مخاطبته صلى الله عليه وسلم لأولئك الكفار، وكان بسماعه يعرف شدّة اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم بشأنهم، فكان إقدامه على قطع كلامه صلى الله عليه وسلم لغرض نفسه قبل تمام كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم معصية عظيمة، وأيضاً فإنّ الأهمّ يقدّم على المهمّ، وكان قد أسلم وتعلم ما يحتاج من أمر الدين، وأما أولئك الكفار فلم يكونوا أسلموا، وكان إسلامهم سبباً لإسلام غيرهم، فكان كلام ابن أمّ مكتوم كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل، وذلك يحرم أيضاً. فإنّ الله تعالى ذمّ الذين ينادونه من وراء الحجرات بمجرّد ندائهم، فهذا النداء الذي هو كالصارف للكفار عن الإيمان أولى أن يكون ذنباً، وأيضاً فمع هذا الاعتناء كيف لقب بالأعمى، وأيضاً فالنبيّ صلى الله عليه وسلم له أن يؤدّب أصحابه بما يراه مصلحة، والتعبيس من ذلك القبيل؟
أجيب: بأنّ ما فعله ابن أمّ مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالماً بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مشغولاً بغيره وأنه يرجو إسلامهم، ولكنه لم يعلم بذلك. وأيضاً الله سبحانه وتعالى إنما عاتبه على ذلك حتى لا تنكسر قلوب الضعفاء، أو ليعلم أنّ المؤمن الفقير خير من الغنيّ الكافر.
وقال ابن زيد: إنما عبس النبيّ صلى الله عليه وسلم لابن أمّ مكتوم وأعرض عنه لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه فدفعه ابن أمّ مكتوم وأبى إلا أن يتكلم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان في هذا نوع جفاء منه، ومع هذا نزل في حقه ذلك، وأما ذكره بلفظ الأعمى فليس للتحقير بل كان بسبب عماه يستحق أن يزيده تعطفاً وترؤفاً وتقريباً وترحيباً، ولقد تأدب الناس بأدب الله تعالى في هذا تأدباً حسناً، فقد روي عن سفيان الثوري رضي الله عنه: أنّ الفقراء كانوا بمجلسه أمراء، وأما كونه صلى الله عليه وسلم كان مأذوناً له في تأديب أصحابه فلأنّ تقديمهم ربما يوهم ترجيح تقديم الأغنياء على الفقراء فلهذا السبب عوتب.
قال الحسن رضي الله عنه: لما تلا جبريل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآيات عاد وجهه كأنما نسف فيه الرماد ينتظر ما يحكم الله تعالى عليه فلما قال: {كلا} سرّي عنه أي: لا تفعل مثل ذلك، وقد بينا نحن أنّ ذلك محمول على ترك الأولى. ثم قال الله تعالى: {إنها} أي: هذه السورة. وقال مقاتل رضي الله عنه: آيات القرآن. وقيل: القرآن، وأنثه لتأنيث خبره وهو قوله تعالى: {تذكرة} أي: عظة للخلق يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها.
{فمن شاء ذكره} أي: كان حافظاً له غير ناس، وذكر الضمير لأنّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ.
ثم إنّ الله تعالى أخبر عن جلالة ذلك عنده فقال سبحانه {في صحف} أي: منتسخة من اللوح المحفوظ، وقيل: هي كتب الأنبياء عليهم السلام، دليله قوله تعالى: {إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى} (الأعلى، الآيتان: 18 ـ 19)
. {مكرمة} أي: عند الله تعالى.
{مرفوعة} أي: في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار {مطهرة} أي: منزهة عن أيدي الشياطين لا يمسها إلا أيدي ملائكة كرام مطهرين.
كما قال تعالى: {بأيدي سفرة} أي: كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ وهم الملائكة الكرام الكاتبون(4/485)
واحدهم سافر يقال: سفرت، أي: كتبت، ومنه قيل للكتاب: سفر وجمعه أسفار. وقيل: هم الرسل من الملائكة واحدهم سفير وهو الرسول، وسفير القوم هو الذي يسعى بينهم بالصلح، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم.
ثم أثنى تعالى عليهم بقوله سبحانه: {كرام} أي: على الله تعالى وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في كرام قال: مكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إلا إذا خلا بزوجته أو برز لغائط وقيل: يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم. وقوله: {بررة} جمع بارّ كساحر وسحرة وفاجر وفجرة، والبارّ هو الصادق المطيع. ومنه برّ فلان في يمينه أي: صدق، وفلان يبر خالقه أي: يطيعه. فمعنى بررة مطيعين صادقين لله تعالى في أعمالهم.
ولما ذكر تعالى ترفع صناديد قريش على فقراء المسلمين عجب عباده المؤمنين من ذلك فقال سبحانه.
{قتل الإنسان} أي: لعن الكافر، وقوله تعالى: {ما أكفره} استفهام توبيخ، أي: ما أشدّ تغطيته للحق وجحده له وعناده فيه لإنكاره البعث وإشراكه بربه وغير ذلك مما حمله على الكفر.
وقوله تعالى: {من أي شيء خلقه} استفهام تقرير. { {
ثم بينه بقوله تعالى: {من نطفة} أي: ماء يسير جدّاً لا من غيره. {خلقه} أي: أوجده مقدّراً على ما هو عليه من التخطيط {فقدّره} أي: علقة ثم مضغة إلى آخر خلقه فكأنه قيل: وأي سبب في هذا الترفع مع أنّ أوّله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين الوقتين حامل عذرة، فإنّ خلقة الإنسان تصلح أن يستدل بها على وجود الصانع؛ لأنه يستدل بها على أحوال البعث والحشر. قيل: نزلت في عتبة بن أبي لهب والظاهر العموم.
فإن قيل: الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز فالقادر على الكل كيف يليق به ذلك، والتعجب أيضاً إنما يليق بالجاهل بسبب الشيء، فالعالم به كيف يليق به ذلك؟ أجيب: بأنّ ذلك ورد على أسلوب كلام العرب لبيان استحقاقهم لأعظم العقاب حيث أتوا بأعظم القبائح. كقولهم إذا تعجبوا من شيء: قاتله الله ما أحسنه، وأخزاه الله ما أظلمه، والمعنى: اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا.
وقيل: الاستفهام استفهام تحقير له فذكر أوّل مراتبه وهو قوله تعالى: {من نطفة خلقه} ولا شك أنّ النطفة شيء حقير مهين، ومن كان أصله ذلك كيف يتكبر وقوله تعالى: {فقدّره} أي: أطواراً وقيل: سوّاه كقوله تعالى: {ثم سوّاك رجلاً} (الكهف: 37)
أو قدّر كل عضو في الكيفية والكمية بالقدر اللائق لمصلحته كقوله تعالى: {وخلق كل شيء فقدّره تقديراً} (الفرقان: 2)
ثم ذكر المرتبة الوسطى بقوله تعالى: {ثم} بعد انتهاء المدّة {السبيل} أي: طريق خروجه من بطن أمّه {يسره} أي: سهل له أمره في خروجه بأن فتح له الرحم وألهمه الخروج منه، ولا شك أنّ خروجه من أضيق المسالك من أعجب العجائب يقال: إنه كان رأسه في بطن أمّه من فوق ورجلاه من تحت، فإذا جاء وقت الخروج انقلب فمن الذي أعطاه ذلك الإلهام المراد، ومنه قوله تعالى: {وهديناه النجدين} (البلد: 10)
أي: التمييز بين الخير والشرّ.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سبيل الشقاء والسعادة. وقال ابن زيد: سبيل الإسلام. قال أبو بكر بن طاهر: يسر على كل أحد ما خلقه له وقدر عليه لقوله صلى الله عليه وسلم «كل ميسر لما خلق له» . ثم ذكر المرتبة الأخيرة بقوله تعالى: {ثم أماته} وأشار إلى إيجاب المبادرة بالتجهيز بالفاء المعقبة في قوله تعالى: {فأقبره} أي: جعله في قبر يستره إكراماً له، ولم يجعله ممن يلقى على وجه الأرض تأكله الطير وغيرها.
{ثم إذا شاء أنشره} أي: أحياه بعد موته للبعث، ومفعول شاء(4/486)
محذوف أي: شاء إنشاره وأنشره جواب إذا، وقرأ قالون وأبو عمرو البزي بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وسهل الثانية ورش وقنبل ولهما أيضاً إبدالها ألفاً والباقون بتحقيقهما.
وقوله تعالى: {كلا} ردع للإنسان عما هو عليه، وقيل: معناها حقاً. قال الأوّل الزمخشري وتبعه البيضاوي، وقال الثاني الجلال المحلي. {لما يقض} أي: يفعل {ما أمره} به ربه من الإيمان وترك التكبر. وقيل: لم يوف بالميثاق الذي أخذ عليه في صلب آدم عليه السلام. وقيل: المعنى: إن ذلك الإنسان الكافر لم يقض ما أمره به من التأمّل في دلائل الله تعالى والتدبر في عجائب خلقه.
ولما كانت عادة الله تعالى جارية في القرآن أنه كلما ذكر دلائل الإنسان ذكر عقبها دلائل الآفاق بدأ من ذلك بما يحتاج إليه الإنسان بقوله تعالى: {فلينظر الإنسان} أي: يوقع النظر التامّ بكل شيء يقدر على النظر به من بصره وبصيرته {إلى طعامه} أي: الذي هو قوام حياته كيف هيأ له أسباب المعاش ليستعدّ بها للمعاد.
قال الحسن ومجاهد: فلينظر إلى طعامه إلى مدخله ومخرجه. وروي عن الضحاك أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا ضحاك، ما طعامك؟» قلت: يا رسول الله، اللحم واللبن، قال: «فشرابك ماذا؟» قلت: الماء قد علمته، قال: «فإن الله تعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلاً للدنيا» .
وروي عن ابن عمر أنّ الرجل يدخل الخلاء فينظر ما يخرج منه فيأتيه الملك فيقول انظر إلى ما تحليت به إلام صار.
وقرأ {أنا صببنا} أي: بما لنا من العظمة {الماء} عاصم وحمزة والكسائي بفتح الهمزة على أنه بدل اشتمال بمعنى أنّ صب الماء سبب في إخراج الطعام فهو مشتمل عليه بهذا التقدير، أو أنه تقدير لام العلة، أي: فلينظر لأنا ثم حذف الخافض، وقال البغوي: أنا بالفتح على تكرير الخافض مجازه فلينظر إلى أنا وقرأ الباقون بالكسر على الاستئناف تعديداً لنعمه تعالى عليه، وقوله تعالى {صباً} تأكيد، والمراد بالماء المطر.
ولما كان الإنسان محتاجاً إلى جميع ما في الوجود ولو نقص منه شيء اختل أمره وبدأ أولاً بالسماوي لأنه أشرف وبالماء الذي هو حياة كل شيء تنبيهاً له على ابتداء خلقه. ثنى بالأرض التي هي كالأنثى بالنسبة إلى السماء فقال تعالى {ثم} أي: بعد مهلة من إنزال الماء {شققنا} أي: بما لنا من العظمة {الأرض} أي: بالنبات الذي هو في غاية الضعف عن شق أضعف الأشياء فكيف بالأرض اليابسة، وقوله تعالى {شقاً} تأكيد.
ثم سبب عن الشق ما هو كالتفسير له فقال تعالى: {فأنبتنا} أي: بما لنا من القدرة التامة {فيها} أي: بسبب الشق {حباً} أي: قمحاً وشعيراً وسلتاً وسائر ما يحصد ويدخر، وقدّم ذلك لأنه كالأصل في التغذية {وعنباً} وذكره بعد الحب لأنه غذاء من وجه وفاكهة من وجه {وقضباً} قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الرطب لأنه يقتضب من النخل، أي: يقطع ورجحه بعضهم لذكره بعد العنب لأنهما يقترنان كثيراً، وقيل: القت الرطب، وقيل: كل ما يقضب من البقول لبني آدم، وقيل: هو الرطبة والمقضاب أرضه، سمي بمصدر قضبه إذا قطعه لأنه يقضب مرة بعد أخرى. وقال الحسن: القضب العلف للدواب.
{وزيتوناً} وهو ما يعصر منه الزيت يكون فيه حرافة وغضاضة فيه إصلاح المزاج. وقوله تعالى: {ونخلاً} جمع نخلة، وكل من هذه الأشجار مخالف للآخر في الشكل والحمل وغير ذلك مع المرافقة في الأرض والسقي.
وقوله تعالى {وحدائق غلباً} جمع أغلب وغلباء(4/487)
كحمر في أحمر وحمراء، أي: بساتين كثيرة الأشجار. والأصل في الوصف بالغلب الرقاب، يقال: رجل أغلب وامرأة غلباء غليظا الرقبة فاستعير. قال عمرو بن معد يكرب:
*يمشي بها غلب الرجال كأنهم ... بزل كسين من الكحيل جلالا*
وقال مجاهد ومقاتل: الغلب الملتفة الشجر بعضه في بعض. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الطوال. وقيل: غلاظ الأشجار.
{وفاكهة} وهي ما تأكله الناس من ثمار الأشجار كالتين والخوخ، قال النووي في منهاجه: ويدخل في فاكهة رطب وعنب ورمّان وأترج ورطب ويابس أي: كالتمر والزبيب، قال: قلت: وليمون ونبق وبطيخ ولب فستق وبندق وغيرها في الأصح. {وأباً} وهو ما تأكله الدواب لأنه يؤب أي: يؤمّ وينتجع إليه. وقال عكرمة: الفاكهة ما يأكله الناس، والأب ما تأكله الدواب، وقيل: التبن. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأب فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا علم لي به. وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية فقال: كل هذا عرفنا فما الأب؟ ثم رفض عصا كانت بيده، ثم قال: هذا لعمر الله التكلف وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأبّ، ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه.
فإن قيل: هذا يشبه النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته؟ أجيب: بأنه لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكثر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم الذي لا يعمل به تكلفاً عندهم، فأراد أنّ الآية مسوقة عندهم في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأب بعض ما أنبته الله تعالى للإنسان متاعاً له أو لإنعامه، فعليك بما هو أهمّ من النهوض بالشكر لله تعالى على ما بين لك، ولم يشكل مما عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك من مشكلات القرآن.
{متاعاً} أي: العشب، أي: منفعة أو تمتيعاً كما تقدّم في السورة قبلها {لكم} أي: الفاكهة {ولأنعامكم} وتقدّم أيضاً في السورة التي قبلها معرفة الأنعام والحكمة في الاقتصار عليها.
ولما ذكر تعالى هذه الأشياء وكان المقصود منها ثلاثة: أوّلها: الدلائل الدالة على التوحيد، وثانيها: الدلائل الدالة على القدرة والمعاد. وثالثها: أنّ هذا الإله الذي أحسن إلى عبيده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان لا يليق بالعاقل أن يتمرّد على طاعته وأن يتكبر على عبيده أتبع ذلك بما يكون كالمؤكد لهذه الأغراض وهو شرح أحوال القيامة، فإن الإنسان إذا سمعها خاف فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمّل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر، ويدعوه أيضاً إلى ترك التكبر على الناس وإلى إظهار التواضع فقال تعالى:
{فإذا جاءت} أي: كانت ووجدت لأنّ كل ما هو كائن لاقيك وجاء إليك {الصاخة} أي: صيحة القيامة وهي النفخة الثانية التي تصخ الأذن، أي: تصمها لشدّة وقعتها. مأخوذة من صخه بالحجر أي: صكه به. وقال الزمخشري: صخ لحديثه مثل أصاخ فوصفت النفخة بالصاخة مجازاً، لأنّ الناس يصخون لها. وقال ابن العربي: الصاخة التي تورث الصمم وإنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة كقوله:(4/488)
*أصمني سرّهم أيام فرقتهم ... وهل سمعتم بسرّ يورث الصمما*
وجواب {إذا} محذوف دل عليه قوله تعالى: {فإذا جاءت الصاخة} أي: اشتغل كل واحد بنفسه.
وقوله تعالى: {يوم يفرّ المرء} بدل من إذا {من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته} أي: زوجته {وبنيه} لاشتغاله بما هو مدفوع إليه، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئاً كقوله تعالى: {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً} (الدخان: 41) { {
فيفرّ المرء من هؤلاء الذين كان يفرّ إليهم في دار الدنيا ويستجير بهم لكثرة ما يشغله. وبدأ بالأخ لأنه أدناهم رتبة في الحب والذب، ثم بالأمّ لأنها كانت مشاركة له في الإلف ويلزم من حمايتها أكثر مما يلزم للأخ، وهو لها آلف وعليها أحنّ وعليها أرق وأعطف، ثم بالأب لأنه أعظم منها في الإلف لأنه أقرب منها في النوع، وللولد عليه من المعاطفة ما له من مزيد النفع أكثر ممن قبله، ثم بالصاحبة لأنّ الزوجة التي هي أهل لأن تصحب ألصق بالفؤاد وأعرق في الوداد، وكان الإنسان أذب عنها عند الشدائد، ثم بالولد لأنّ له من المحبة والمعاطفة بالسرور والمشاورة في الأمر ما ليس لغيره، ولذلك يضيع عليه رزقه وعمره.
فقدّم أدناهم مرتبة في الحب والذب، فأدناهم على سبيل الترقي وأخر الأوجب في ذلك فالأوجب بخلاف ما في سورة سأل فكأنه قيل: يفرّ المرء من أخيه بل من أمّه بل من أبيه بل من صاحبته بل من بنيه، وقيل: يفرّ منهم حذراً من مطالبتهم بالتبعات. يقول الأخ: لم تواسني بمالك، والأبوان: قصرت في برّنا، والصاحبة: أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت، والبنون: لم تعلمنا ولم ترشدنا، وقيل: أوّل من يفرّ من أخيه هابيل، ومن أبويه إبراهيم عليه السلام، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح.
ولما ذكر الفرار أتبعه سببه فقال تعالى: {لكل امرئ} وإن كان أعظم الناس مروءة {منهم يومئذ} أي: إذ تكون هذه الدواهي العظام والشدائد والآلام. {شأن} أي: أمر عظيم. وقوله تعالى: {يغنيه} حال، أي: يشغله عن شأن غيره. وعن سودة رضي الله تعالى عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يبعث الناس حفاة عراة غرلاً ـ أي: بالقلفة ـ قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان» فقلت: يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال صلى الله عليه وسلم «قد شغل الناس {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} » . وقال قتيبة: يغنيه أي: يصرفه عن قرابته، ومنه يقال: أغن عني وجهك أي: اصرفه. وقال أهل المعاني: يغنيه أي: ذلك الهمّ الذي حصل له قد ملأ صدره، فلم يبق فيه متسع لهم آخر، فصار شبيهاً بالغنى في أنه ملك شيئاً كثيراً.
ولما ذكر تعالى حال القيامة في الهول بين أنّ المكلفين على قسمين: سعداء وأشقياء فوصف سبحانه السعيد بقوله تعالى: {وجوه يومئذ} أي: إذ كان ما تقدّم من الفرار وغيره {مسفرة} أي: مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء. وعن ابن عباس: من قيام الليل لما روي في الحديث «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهارِ» . وعن الضحاك من آثار الوضوء. وقيل: من طول ما اغبرّت في سبيل الله تعالى.
{ضاحكة} أي: مسرورة فرحة. قال الكلبيّ: يعني بالفراغ من الحساب {مستبشرة} أي: بما آتاها الله تعالى من الكرامة.
ثم وصف الشقيّ بقوله تعالى: {ووجوه يومئذ} أي: إذ وجد ما ذكر. {عليها غبرة} أي: غبار.
{ترهقها} أي: تعلوها {قترة} أي: سواد كالدخان ولا يرى أوحش من(4/489)
اجتماع الغبرة والسواد في الوجه كما يرى في وجوه الزنوج إذا اغبرّت.
{أولئك} أي: البعداء البغضاء الذين يصنع بهم هذا {هم} أي: خاصة {الكفرة الفجرة} جمع الكافر والفاجر وهو الكاذب والمفتري على الله تعالى فجمع تعالى إلى سواد وجوههم الغبرة كما جمعوا الفجور إلى الكفر.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة عبس وتولى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر» حديث موضوع، وكان من حق البيضاوي أن لا يعبر بقال بل بعن كالزمخشري أو نحوها، ويأتي مثله في نظائره.
سورة التكوير
مكية
وهي تسع وعشرون آية ومائة وأربع كلماتوأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفاً
{بسم الله} الذي أحاط علمه بالكائنات {الرحمن} الذي عمّ وجوده سائر البريات {الرحيم} الذي خص حزبه بنعيم الجنات.
واختلف في معنى قوله تعالى: {إذا الشمس} أي: التي هي أعظم آيات السماء الظاهرة وأوضحها للحس {كوّرت} فقال ابن عباس: أظلمت. وقال قتادة: ذهب ضوءها. وقال سعيد بن جبير: غوّرت. وقال مجاهد: اضمحلت. وقال الزجاج: لفت كما تلف العمامة، يقال: كرت العمامة على رأسي أكوّرها كوراً، وكورتها تكويراً إذا لففتها، وأصل التكوير جمع بعض الشيء إلى بعض، فمعناه أنّ الشمس يجمع بعضها إلى بعض، ثم تلف، فإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها. قال ابن عباس: يكوّر الله تعالى الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر، ثم يبعث عليها ريحاً دبوراً فتضرمها فتصير ناراً. وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الشمس والقمر يكوّران يوم القيامة» .
تنبيه: ارتفاع الشمس على الفاعلية ورافعها فعل مضمر يفسره كوّرت؛ لأن إذا تطلب الفعل لما فيها من معنى الشرط.
{وإذا النجوم} أي: كلها كبارها وصغارها {انكدرت} أي: انقضت وتساقطت على الأرض.
قال تعالى: {وإذا الكواكب انتثرت} والأصل في الانكدار الانصباب.
قال العجاج في مدحه لعمرو بن معديكرب: { {
*إذا الكرام ابتدروا الباع ابتدر ... تقضي البازي إذا البازي كسر
*أبصر خربان فضاء فانكدر*
أي: فانقض وسقط، والخربان جمع خرب وهو ذكر الحبارى، والباع يستعمل في الكرم، يقال: فلان كريم الباع؛ والمعنى: أنّ الكرام إذا ابتدروا فعل المكرمات بدرهم عمرو، أي: أسرع كانقضاض البازي.
وروي عن ابن عباس أنّ النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي الملائكة عليهم السلام، فإذا مات من في السموات ومن في الأرض تساقطت تلك الكواكب من أيدي الملائكة، لأنه مات من كان يمسكها.
{وإذا الجبال} التي هي في العالم السفلي كالنجوم في العالم العلوي، وهي أصلب ما في الأرض. {سيرت} أي: ذهب بها عن وجه الأرض فصارت هباء منبثاً، وصارت الأرض قاعاً صفصفاً.
{وإذا العشار} أي: النوق الحوامل جمع عشراء كالنفاس جمع نفساء، وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى(4/490)
أن تضع لتمام السنة، وهي أنفس ما يكون عند أهلها. روي أنه صلى الله عليه وسلم «مرّ في أصحابه بعشار من النوق فغض بصره، فقيل له: هذه أنفس أموالنا فلم لا تنظر إليها؟ فقال: قد نهاني الله عن ذلك ثم تلا: {ولا تمدّنّ عينيك} (الحجر: 88)
الآية» .
{عطلت} أي: تركت مسيبة مهملة بلا راع، أو عطلها أهلها عن الحلب والصر لاشتغالهم بأنفسهم، أو السحاب عطلت عن المطر والعرب تشبه السحاب بالحامل، والأوّل على وجه المثل لأنّ في القيامة لا تكون ناقة عشراء، والمعنى: أنّ يوم القيامة بحالة لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه.
{وإذا الوحوش} أي: دواب الأرض التي لا تأنس بأحد التي تظن أنها لا عبرة بها ولا التفات إليها فما ظنك بغيرها {حشرت} أي: جمعت بعد البعث ليقتص لبعضها من بعض ثم تصير تراباً. قال قتادة: يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص. وقيل: إذا قضي بينها ردّت تراباً فلا يبقى منه إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس ونحوه. وعن ابن عباس حشرها موتها، يقال إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم: حشرتهم السنة.
وقرأ {وإذا البحار سجرت} أي: على كثرتها ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الجيم والباقون بتشديدها. قال ابن عباس: أوقدت فصارت ناراً تضطرم. وقال مجاهد: فجر بعضها في بعض العذب والملح، فصارت البحار كلها بحراً واحداً. وقال القشيري: يرفع الله تعالى الحاجز الذي ذكره، فإذا رفع ذلك البزرخ تفجرت مياه البحار فعمت الأرض كلها وصارت بحراً واحداً. وروى أبو العالية عن أبيّ بن كعب قال: ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم؛ إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على الأرض فتحرّكت واضطربت وفزعت الجنّ إلى الإنس والإنس إلى الجنّ، واختلطت الدواب والطير والوحش، وماج بعضهم في بعض فذلك قوله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} أي: اختلطت {وإذا البحار سجرت} قال الجنّ للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحر، فإذا هو نار تتأجج. قال: فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم. وعن ابن عباس قال: هي اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا وستة في الآخرة، وهي ما ذكر من بعد.
{وإذا النفوس} أي: من كل ذي نفس من الناس وغيرهم {زوّجت} أي: قرنت بأجسادها، وروي أنّ عمر سئل عن هذه الآية، فقال: يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار. وقال الحسن وقتادة: ألحق كل امرىء بشيعته، اليهود باليهود والنصارى بالنصارى. وقال عطاء: زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين، وقرنت نفوس الشياطين بالكافرين.
{وإذا الموؤدة} أي: الجارية المدفونة حية. كان الرجل في الجاهلية إذ ولد له بنت، فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمّها: طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها، وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيذهب بها إلى البئر، فيقول لها: انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي بالأرض.
وقال ابن عباس: كانت الحامل(4/491)
إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإذا ولدت ولداً حبسته. وكانوا يفعلون ذلك لخوف لحوق العار بهم من أجلهنّ، أو الخوف من الإملاق، كما قال تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} (الأنعام: 151)
وكانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به فهو أحق بهنّ، وكان صعصعة بن ناجية ممن منع الوأد وفيه افتخر الفرزدق في قوله:
*ومنا الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم توءد*
{سئلت بأيّ} أي: بسبب أيّ {ذنب} يا أيها الجاهلون {قتلت} أي: استحقت به عندكم القتل، وهي لم تباشر سوءاً لكونها لم تصل إلى حدّ التكليف.
فإن قيل: ما معنى سؤالها عن ذنبها الذي قتلت به، وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها؟ أجيب: بأن سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها نحو التبكيت في قوله تعالى لعيسى عليه السلام: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} (المائدة: 116)
. وروي أنّ قيس بن عاصم «جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني وأدت ثمان بنات كنّ لي في الجاهلية. فقال صلى الله عليه وسلم أعتق عن كل واحدة منهنّ رقبة. قال: يا رسول الله، إني صاحب إبل؟ فقال له صلى الله عليه وسلم أهد عن كل واحدة منهنّ بدنة إن شئت» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ المرأة التي تقتل ولدها تأتي يوم القيامة متعلقاً ولدها بيدها ملطخاً بدمائه فيقول: يا رب هذه أمّي وهذه قتلتني» .
{وإذا الصحف نشرت} أي: فتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال العباد من خير وشر تطوى بالموت، وتنشر في القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها فيقول: {ما لهذا الكتاب لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها} (الكهف: 49)
. وروي عن عمر أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر الناس حفاة عراة» فقالت أمّ سلمة: كيف بالنساء؟ فقال: «شغل الناس يا أمّ سلمة» . قالت: وما يشغلهم، قال: «نشر الصحف فيها مثاقيل الذر، ومثاقيل الخردل» . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بتخفيف الشين والباقون بتشديدها على تكرير النشر للمبالغة في تقريع العاصي وتبشير المطيع وقيل لتكرير ذلك من الإنسان. { {
{وإذا السماء} أي: هذا الجنس كله أفرده لأنه يعلم بالقدرة على بعضه القدرة على الباقي. {كشطت} أي: نزعت عن أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاة والغطاء عن الشيء. قال القرطبي: يقال: كشطت البعير كشطاً نزعت جلده ولا يقال سلخت لأنّ العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته، والمعنى: أزيلت عما فوقها. وقال القرطبي: طويت.
{وإذا الجحيم} أي: النار الشديدة التأجج {سعرت} أي: أججت فأضرمت للكفار وزيد في إحمائها يقال سعرت الناء وأسعرتها. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة» واحتج بهذه الآية من قال: النار مخلوقة الآن لأنه يدل على أنّ سعيرها معلق بيوم القيامة. وقرأ نافع وابن ذكوان وعاصم بتشديد العين والباقون بتخفيفها.
{وإذا الجنة} أي: البستان(4/492)
ذو الأشجار الملتفة والرياض المعجبة {أزلفت} أي: قرّبت لأهلها ليدخلوها. قال الحسن: إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها. وقال عبد الله بن زيد: زينت والزلفى في كلام العرب القربة.
وقوله تعالى: {علمت نفس} جواب إذا أوّل السورة وما عطف عليها، أي: علمت كل نفس من النفوس وقت هذه المذكورات وهو يوم القيامة، فالتنكير فيه مثله في تمرة خير من جرادة، ودلالة هذا السياق للهول على ذلك يوجب اليقين فيه {ما} أي: كل شيء {أحضرت} من خير وشر.
روي عن ابن عباس وعمر أنهما قرأا فلما بلغا {علمت نفس ما أحضرت} قالا: لهذا أجريت القصة. قال الرازي: ومعلوم أنّ العمل لا يمكن إحضاره فالمراد إذن ما أحضرته في صحائفها، أو ما أحضرته عند المحاسبة وعند الميزان من آثار تلك الأعمال. وعن ابن مسعود: أنّ قارئاً قرأها عنده، فلما بلغ {علمت نفس ما أحضرت} قال: واقطع ظهراه.
{فلا أقسم} لا مزيدة، أي: أقسم {بالخنس الجوار الكنس} هي النجوم الخمسة زحل والمشتري والمرّيخ والزهرة وعطارد تخنس بضم النون، أي: ترجع في مجراها وراءها بينا نرى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوّله، وتكنس بكسر النون تدخل في كناسها، أي: تغيب في المواضع التي تغيب فيها فخنوسها رجوعها، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس. وقيل: هي جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل، أي: تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها.
{والليل} أي: الذي هو محل ظهور النجوم وزوال خنوسها وذهاب كنوسها {إذا عسعس} قال البغوي: قال الحسن: أقبل بظلامه. وقال آخرون: أدبر، تقول العرب عسعس الليل وسعسع إذا أدبر، ولم يبق منه إلا القليل.
{والصبح إذا تنفس} أي: امتدّ حتى يصير نهاراً بيناً، يقال للنهار إذا زاد تنفس، ومعنى التنفس: خروج النسيم من الجوف، وفي كيفية المجاز قولان: الأوّل: أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفساً له على المجاز، فقيل: تنفس الصبح. الثاني: أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي حبس بحيث لا يتحرّك، فإذا تنفس وجد راحة فهنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن، فعبر عنه بالتنفس.
وقوله تعالى: {إنه} أي: القرآن {لقول رسول كريم} هو المقسم عليه، والمعنى: أنه لقول رسول عن الله تعالى كريم على الله تعالى، أي: انتفت عنه وجوه المذامّ كلها، وثبت له وجوه المحامد كلها، وهو جبريل عليه السلام. وأضاف الكلام إليه لأنه قاله عن الله عز وجلّ.
{ذي قوّة} أي: شديد القوى. روى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: من قوّته قلعه مدائن قوم لوط بقوادم جناحه فرفعها إلى السماء ثم قلبها، وأبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة فنفخه بجناحه نفخة ألقاه إلى أقصى جبل بالهند، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، ويهبط من السماء إلى الأرض ويصعد في أسرع من الطرف.
{عند ذي العرش} أي: الملك الأعلى المحيط عرشه بجميع الأكوان الذي لا عند في الحقيقة إلا له، وهو الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {مكين} أي: ذي مكانة متعلق به عند، أي: ذي منزلة ومكانة ليس عندية جهة بل عندية إكرام وتشريف كقوله تعالى: «أنا عند المنكسرة قلوبهم» وقيل: قويّ في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال بها.
{مطاع ثمّ} أي: في السموات.(4/493)
قال الحسن: فرض الله تعالى على أهل السموات طاعة جبريل عليه السلام كما فرض على أهل الأرض طاعة محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: «من طاعة جبريل عليه السلام الملائكة أنه لما أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم قال جبريل عليه السلام لرضوان خازن الجنان: افتح له ففتح فدخلها فرأى ما فيها» . {أمين} أي: بليغ الأمانة على الوحي الذي يجيء به. وقيل: الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى حينئذ: ذي قوة على تبليغ الوحي {مطاع} أي: يطيعه من أطاع الله تعالى.
{وما صاحبكم} أي: الذي طالت صحبته لكم، وأنتم تعلمون أنه في غاية الكمال حتى إنه ليس له وصف عندكم إلا الأمين، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وهذا عطف على أنه إلى آخر المقسم عليه.
وأغرق في النفي فقال تعالى: {بمجنون} أي: كما زعمتم يتهم في قوله: {بل جاء بالحق وصدّق المرسلين} (الصافات: 37)
فما القرآن الذي يتلوه عليكم قول مجنون، ولا قول متوسط في العقل بل قول أعقل العقلاء وأكمل الكمل. { {
تنبيه: استدلّ بذلك بعضهم على فضل جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم حيث عدّ فضائل جبريل عليه السلام واقتصر على نفي الجنون عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو كما قال البيضاوي: ضعيف؛ إذ المقصود منه نفي قولهم إنما يعلمه بشر، وقولهم افترى على الله كذباً، وقولهم أم به جنة لا تعديد فضله والموازنة بينهما.
{ولقد رآه} أي: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها، وله ستمائة جناح. {بالأفق المبين} أي: البين، وهو الأفق الأعلى الذي عند سدرة المنتهى حيث لا يكون لبس أصلاً، ولا يكون للشيطان على ذلك المكان سبيل فعرفه حق المعرفة. وقال مجاهد وقتادة: بالأفق الأعلى من ناحية المشرق.
وعن ابن عباس «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: «إني أحب أن أراك على صورتك التي تكون فيها في السماء» قال: لن تقوى على ذلك، قال: «بلى» . قال: فأين تشاء أن أتخيل لك، قال: «بالأبطح» . قال: لا يسعني، قال: «فبمنى» . قال: لا تسعني. قال: «فبعرفات» . قال ذلك بالحري أن يسعني، فواعده فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم للوقت، فإذا هو بجبريل قد أقبل من جبل عرفات بخشخشة وكلكلة قد ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم خرّ مغشياً عليه، قال: فتحوّل جبريل عن صورته فضمه إلى صدره، وقال: يا محمد لا تخف فكيف لو رأيت إسرافيل، ورأسه تحت العرش ورجلاه في التخوم السابعة، وإنّ العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى حتى يصير مثل الوصع ـ يعني: العصفور ـ حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته. وقيل: إنّ محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل بالأفق المبين، وهو قول ابن مسعود وقد مرّ ذلك في سورة النجم.
{وما} أي: وسمعه ورآه والحال أنه ما {هو} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {على الغيب} أي: ما غاب من الوحي وخبر السماء، ورؤية جبريل وغير ذلك مما أخبر به. وقرأ {بنين} ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء المشالة من الظنة، وهي التهمة، أي: فليس بمتهم، والباقون بالضاد موافقة للمرسوم من الضن وهو البخل، أي: فليس ببخيل بالوحي فيزوي بعضه، أو يسأل تعليمه فلا يعلمه كما يكتم الكاهن ما عنده حتى يأخذ عليه حلواناً وهو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبيّ بالضاد، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ(4/494)
بهما.
قال الزمخشري: وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب، ومعرفة مخرجيهما مما لا بدّ منه للقارئ، فإنّ أكثر العجم لا يفرقون بين الحرفين وإن فرقوا ففرقاً غير صواب، وبينهما بون بعيد، فإنّ مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، وكان عمر بن الخطاب أضبط يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين. وأمّا الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء، ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان، واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب.
فإن قلت: فإن وضع المصلي أحد الحرفين مكان صاحبه، قلت: هو كوضع الذال مكان الجيم والثاء مكان السين لأنّ التفاوت بين الضاد والظاء كالتفاوت بين أخواتهما اه. كلامه بحروفه.
{وما هو} أي: القرآن الذي من جملة معجزاته الإخبار بالمغيبات. وأغرق في النفي بالتأكيد بالباء فقال تعالى: {بقول شيطان} أي: مسترق للسمع فيوحيه إليه كما يوحيه إلى بعض الكهنة {رجيم} أي: مرجوم مطرود بعيد من الرحمة، وذلك أنّ قريشاً كانوا يقولون: إنّ هذا القرآن يجيء به شيطان فيلقيه على لسانه، يريدون بالشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه، فنفى الله تعالى ذلك.
وقوله تعالى: {فأين} منصوب بقوله تعالى: {تذهبون} لأنه ظرف مبهم، وقال أبو البقاء: أي إلى أين فحذف الجار، أي: فأيّ طريق تسلكون في إنكاركم القرآن وإعراضكم عنه، وفي هذا استضلال لهم فيما يسلكون من أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم والقرآن كقولك لتارك الجادّة أين تذهب.
{إن} أي: ما {هو} أي: القرآن الذي آتاكم به الرسول {إلا ذكر} أي: عظة وشرف {للعالمين} من إنس وجنّ وملك.
وقوله تعالى: {لمن شاء منكم} بدل من العالمين بإعادة الجار {أن يستقيم} باتباع الحق. قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، وهذا هو القدر وهو رأس القدرية فنزل {وما تشاؤون} الاستقامة على الحق {إلا أن يشاء الله} أي: إلا وقت أن يشاء الملك الأعظم الذي بيده كل شيء مشيئتكم الاستقامة عليه {رب العالمين} أي: مالك الخلق. وفي هذا إعلام أنّ أحداً لا يعمل خيراً إلا بتوفيق الله تعالى، ولا شراً إلا بخذلانه. ونقل البغوي في أوّل السورة بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن ينظر في يوم القيامة فليقرأ {إذا الشمس كوّرت} » .
وأمّا قول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة التكوير أعاذه الله أن يفضحه حسن تنشر صحيفته» . فحديث موضوع.
سورة الانفطار
مكية
وهي تسع عشرة آية وثمانون كلمة وثلاثمائة وسبعة وعشرون حرفاً
{بسم الله} الذي خلق كل شيء فقدّره تقديراً {الرحمن} الذي دبر الكائنات تدبيراً {الرحيم} الذي أرسل رسوله للخلق نذيراً.
{إذا السماء} أي: على شدّة إحكامها واتساقها وارتفاعها {انفطرت}(4/495)
أي: انشقت لنزول الملائكة كقوله تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام} (الفرقان: 25)
{وإذا الكواكب} أي: النجوم الصغار والكبار كلها الغراء الزاهرة المتوقدة توقد النار المرصعة ترصيع المسامير {انتثرت} أي: تساقطت متفرّقة؛ لأنّ عند انتقاض تركيب السماء تنتثر النجوم على الأرض.
{وإذا البحار} المتفرّقة في الأرض وهي ضابطة لها أتم ضبط لنفع العباد على كثرتها {فجرت} أي: فتح بعضها في بعض فاختلط العذب بالملح وزال البرزخ الذي بينها فصارت البحار بحراً واحداً وروي أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية. وهو معنى التسجير عند الحسن في قوله تعالى: {وإذا البحار سجرت} (التكوير: 60)
وقال هنا: فجرت بغت.
{وإذا القبور} أي: مع ذلك كله {بعثرت} أي: قلبت، يقال: بعثره وبحثره بالعين والحاء. قال الزمخشري: وهما مركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما، أي: فهما بمعنى، والمعنى: قلب أعلاها أسفلها وقلب باطنها ظاهرها، وخرج ما فيها من الموتى أحياء، وقيل: التبعثر إخراج ما في بطنها من الذهب والفضة، ثم تخرج الموتى بعد ذلك، وجواب إذا أوّل السورة وما عطف عليه. { {
{علمت نفس} أي: كل نفس وقت هذه المذكورات، وهو يوم القيامة {ما قدّمت} من عمل {وأخرت} أي: جميع ما عملت من خير أو شر أو غيرهما. فإن قيل: أي وقت من القيامة يحصل هذا العلم. قال الرازي: أمّا العلم الإجمالي فيحصل في أوّل زمان الحشر؛ لأنّ المطيع يرى آثار السعادة، والعاصي يرى آثار الشقاوة في أوّل الأمر، وأمّا العلم التفصيلي، فإنما يحصل عند قراءة الكتب والمحاسبة.
وقوله تعالى: {يا أيها الإنسان} أي: البشر الآنس بنفسه الناسي لما يعنيه خطاب لمنكري البعث. وروى عطاء عن ابن عباس: أنها نزلت في الوليد بن المغيرة. وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في أبي الشريق ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقبه الله تعالى في أوّل أمره. وقيل: تتناول جميع العصاة لأنّ الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. {ما غرّك بربك} أي: ما خدعك وسوّل لك الباطل حتى تركت ما أوجب عليك المحسن إليك وأتيت بالمحرّمات {الكريم} أي: الذي له الكمال كله المقتضي لأن لا يهمل الظالم ولا يسوى بين المحسن والمسيء، هذا إذا حملنا الإنسان على جميع العصاة، فإن حملناه على الكافر وهو ظاهر الآية فالمعنى: ما الذي دعاك إلى الكفر وإنكار الحشر والنشر.
فإن قيل: كونه كريماً يقتضي أن يغترّ الإنسان بكرمه لأنه جواد مطلق، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع وعصيان المذنب، وهذا يوجب الاغترار كما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه صيح بغلام له مرّات فلم يلبه، فنظر فإذا هو بالباب فقال له: لم لا تجيبني؟ فقال: لثقتي بحلمك وأمني عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه.
وقالوا أيضاً: من كرم ساء أدب غلمانه. وإذا ثبت أنّ كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله ههنا مانعاً من الاغترار؟ أجيب: بأنّ حق الإنسان أن لا يغتر بكرم الله تعالى عليه حيث خلقه حياً، وتفضل عليه فهو من كرمه لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدّة التوبة، وتأخيراً للجزاء إلى أن يجمع الناس للجزاء فالحاصل أنّ تأخير العقوبة لأجل الكرم، وذلك لا يقتضي الاغترار بهذا التفضيل فإنه منكر خارج عن حدّ الحكمة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلاها: «غرّه جهله» . وقال عمر: غرّه حمقه وجهله. وقال الحسن:(4/496)
غرّه والله شيطانه الخبيث، أي: زين له المعاصي. وقال له: افعل ما شئت فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلاً، وهو متفضل عليك آخراً حتى ورّطه.
وقيل للفضيل بن عياض: إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك: {ما غرّك بربك الكريم} ماذا تقول له؟ قال: أقول غرّني ستورك المرخاة، وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر وليس باعتذار كما يظنه الطماع، ويظنّ به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم أنما قال {بربك الكريم} دون سائر صفاته ليلقن عبده الجواب حتى يقول: غرّني كرم الكريم. وقال مقاتل: غرّه عفو الله حيث لم يعاقبه أوّل مرّة. وقال السدي: غرّه رفق الله تعالى به. وقال قتادة: سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان. وقال ابن مسعود: ما منكم من أحد إلا سيخلو الله تعالى به يوم القيامة فيقول: ما غرّك بي يا ابن آدم؟ ماذا عملت فيما علمت؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟
{الذي خلقك} أي: أوجدك من العدم مهيأ بتقدير الأعضاء {فسوّاك} عقب تلك الأطوار بتصوير الأعضاء والمنافع بالفعل {فعدلك} أي: جعل كل شيء من ذلك سليماً مودعاً فيه قوّة المنافع التي خلقه الله تعالى لها.
تنبيه: قوله تعالى: {الذي} يحتمل الإتباع على البدل والبيان والنعت والقطع إلى الرفع والنصب. واعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بالكرم ذكر هذه الأمور الثلاثة كالدلالة على تحقيق ذلك الكرم فقوله سبحانه {الذي خلقك} أي: بعد أن لم تكن لا شك أنه كرم لأنه وجود، والوجود خير من العدم، والحياة خير من الموت. كما قال تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم} (البقرة: 28)
وقوله تعالى: {فسوّاك} أي: جعلك مستوي الخلقة سالم الأعضاء غاية في الكرم كما قال تعالى: {أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سوّاك رجلاً} (الكهف: 37)
أي: معتدل الخلق والأعضاء. وقال ذو النون المصري: أي: سخر لك المكوّنات أجمع، وما جعلك مسخراً لشيء منها، ثم أنطق لسانك بالذكر وقلبك بالعقل وروحك بالمعرفة ومدّك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلاً. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد، بمعنى جعلك متناسب الأطراف فلم يجعل إحدى يديك أو رجليك أطول، ولا إحدى عينيك أوسع فهو من التعديل. وهو كقوله تعالى: {بلى قادرين على أن نسوّي بنانه} (القيامة: 4)
. وقال عطاء عن ابن عباس: جعلك قائماً معتدلاً حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية. وقال أبو علي الفارسي: عدلك خلقك في أحسن تقويم مستوياً على جميع الحيوان والنبات، وواصلاً في الكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم. وأمّا قراءة التخفيف فتحتمل هذا أي: عدل بعض أعضائك ببعض ويحتمل أن يكون من العدول، أي: صرفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال. ونقل القفال عن بعضهم: أنهما لغتان بمعنى واحد.
{في أيّ صورة} أي: من الصور التي تعرفها والتي لا تعرفها من الدواب والطيور وغير ذلك من الحيوان وغيره، وما في قوله تعالى: {ما شاء} مزيدة، وفي أيّ متعلق بركب في قوله تعالى {ركبك} أي: ركبك في أي صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه. فإن قيل: هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها؟ أجيب: بأنها بيان لعدلك ويجوز أن تتعلق بمحذوف، أي: ركبك حاصلاً في بعض(4/497)
الصور، ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف، ويجوز أن يتعلق بعدلك ويكون في أي معنى التعجب، أي: فعدلك في صورة عجيبة: ثم قال: {ما شاء ركبك} من التراكيب يعني: تركيباً حسناً.
وقوله تعالى: {كلا} ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى والتعلق به، وهو موجب الشكر والطاعة إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية. وقوله تعالى: {بل تكذبون} أي: يا كفار مكة {بالدين} إضراب إلى ما هو السبب الأصلي في اغترارهم والمراد بالدين الجزاء على الأعمال والإسلام.
{وإنّ} أي: والحال أنّ {عليكم} أي: ممن أقمناهم من جندنا من الملائكة {لحافظين} أي: على أعمالكم بحيث لا يخفى عليهم منها جليل ولا حقير.
{كراماً} أي: على الله تعالى {كاتبين} أي: لهذه الأعمال في الصحف كما تكتب الشهود منكم العهود ليقع الجزاء على غاية التحرير.
تنبيه: هذا الخطاب وإن كان خطاب مشافهة إلا أنّ الأمّة أجمعت على عموم هذا الخطاب في حق المكلفين، وقوله تعالى: {حافظين} جمع يحتمل أن يكونوا حافظين لجميع بني آدم من غير أن يختص واحد من الملائكة بواحد من بني آدم، ويحتمل أن يكون الموكل بكل واحد منهم غير الموكل بالآخر، ويحتمل أن يكون الموكل بكل واحد منهم جمعاً من الملائكة، كما قيل: اثنان بالليل واثنان بالنهار، أو كما قيل: إنهم خمسة.
واختلفوا في الكفار هل عليهم حفظة. فقيل: لا لأنّ أمرهم ظاهر وعملهم واحد، قال تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم} (الرحمن: 41)
وقيل: عليهم حفظة وهو ظاهر قوله تعالى: {بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين} وقوله تعالى: {وأمّا من أوتي كتابه بشماله} (الحاقة: 25)
وقوله تعالى: {وأمّا من أوتي كتابه وراء ظهره} (الانشقاق: 10)
فأخبر أنّ لهم كتاباً وأنّ عليهم حفظة.
فإن قيل فأي شيء يكتب الذي عن يمينه ولا حسنة له؟ أجيب: بأنّ الذي عن شماله يكتب بإذن صاحبه ويكون صاحبه شاهداً على ذلك وإن لم يكتب. وفي هذه الآية دلالة على أنّ الشاهد لا يشهد إلا بعد العلم لوصف الملائكة بكونهم حافظين كراماً كاتبين.
{يعلمون} أي: على التجدد والاستمرار {ما تفعلون} فدل على أنهم يكونون عالمين بها حتى إنهم يكتبونها، فإذا كتبوها يكونون عالمين عند أداء الشهادة، وفي تعظيم الكتبة تعظيم لأمر الجزاء، فإنه عند الله من جلائل الأمور، ولولا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه وفيه إنذار وتهويل للعصاة، ولطف بالمؤمنين. وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال: ما أشدها من آية على الغافلين.
ولما وصف تعالى الكرام الكاتبين لأعمال العباد ذكر أحوال العاملين، وقسمهم قسمين، وبدأ بقسم أهل السعادة.
فقال تعالى: {إنّ الأبرار} أي: المؤمنين الصادقين في إيمانهم بأداء فرائض الله تعالى واجتناب معاصيه {لفي نعيم} أي: محيط بهم أبد الآبدين، وهو نعيم الجنة الذي لا نهاية له. { {
ثم ذكر قسم أهل الشقاوة بقوله تعالى: {وإنّ الفجار} الذي من شأنهم الخروج عما ينبغي الاستقرار فيه من رضا الله تعالى إلى سخطه، وهم الكفار {لفي جحيم} أي: نار محرقة تتوقد غاية التوقد فهم فيها أبد الآبدين.
{يصلونها} أي: يدخلونها ويقاسون حرّها {يوم الدين} أي: يوم الجزاء وهو يوم القيامة.
{وما هم عنها} أي: الجحيم {بغائبين} أي: مخرجين، ويجوز أن يراد يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل ذلك في قبورهم. وقيل: أخبر الله تعالى في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات حالة الحياة التي يحفظ فيها عمله، وحالة الآخرة التي يجازى فيها، وحالة البرزخ وهو قوله تعالى: {وما هم(4/498)
عنها بغائبين} .
وروي أن سليمان بن عبد الملك قال لأبي حازم المدني: ليت شعري ما لنا عند الله، قال: اعرض عملك على كتاب الله تعالى، فإنك تعلم ما لك عند الله تعالى، قال: فأين أجد ذلك في كتاب الله؟ قال: عند قوله تعالى: {إنّ الأبرار لفي نعيم} الآية.k
قال سليمان: فأين رحمة الله تعالى؟ قال: قريب من المحسنين.
ثم عظم سبحانه وتعالى ذلك اليوم فقال: {وما أدراك} أي: وما أعلمك وإن اجتهدت في تطلب الدراية به {ما يوم الدين} أي: أيّ شيء هو في طوله وهوله وفظاعته وزلزاله.
ثم كرره تعجباً لشأنه فقال تعالى: {ثم ما أدراك} أي: كذلك {ما يوم الدين} أي: إنّ يوم الدين الذي بحيث لا تدرك دراية دار كنهه في الهول والشدّة، وكيفما تصوّرته فهو فوق ذلك وعلى أضعافه. والتكرير لزيادة التهويل.
ثم أجمل تعالى القول في وصفه فقال سبحانه: {يوم لا تملك} أي: بوجه من الوجوه في وقت ما {نفس} أي: أيّ نفس كانت {لنفس شيئاً} أي: قل أوجل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع يوم على أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو يوم. وجوّز الزمخشري أن يكون بدلاً مما قبله، يعني: يوم الدين، والباقون بالفتح بإضمار أعني أو اذكر.
{والأمر} أي: كله {يومئذ} أي: إذ كان البعث للجزاء {لله} أي: ملك الملوك لا أمر لغيره فيه فلا يملك الله تعالى في ذلك اليوم أحداً شيئاً كما ملكهم في الدنيا.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة انفطرت كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة وبعدد كل قبر حسنة» . حديث موضوع.
سورة المطففين
مدنية
في قول الحسن وعكرمة ومقاتل.
قال مقاتل: وهي أوّل سورة نزلت بالمدينة، وقال ابن عباس وقتادة: مدنية إلا ثمان آيات وهي قوله تعالى: {إن الذين أجرموا} إلى آخرها فهو مكيّ. وقال الكلبي وجابر بن زيد نزلت بين مكة والمدينة، ولعل هذا هو سبب الاختلاف وقال ابن مسعود والضحاك: مكية.
وهي ست وثلاثون آية وتسع وتسعون كلمة وسبعمائة وثمانون حرفاً.
{بسم الله} الذي توكل عليه كفاه {الرحمن} الذي عمّ جوده الأبرار والعصاة {الرحيم} الذي خص أهل طاعته بهداه.
{ويل} مبتدأ، وسوغ الابتداء به كونه دعاء، وهو إمّا كلمة عذاب أو هلاك ثابت عظيم في كل حال من أحوال الدنيا والآخرة، أو واد في جهنم. وقوله تعالى: {للمطففين} خبره، والتطفيف البخس في الكيل والوزن؛ لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير. قال الزجاج: وإنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان: مطفف لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف. { {
وروى ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، وكانوا من أبخس الناس كيلاً فنزلت فأحسنوا الكيل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم وقال: «خمس بخمس» قيل: يا رسول الله ما خمس؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوّهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر» . وقال: السدي: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وبها رجل يعرف بأبي جهينة، ومعه صاعان(4/499)
يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فنزلت.
وقيل: كان أهل المدينة تجاراً يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت. وعن عليّ أنه مرّ برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت كأنه أمر بالتسوية أوّلاً ليعتادها ويفصل الواجب من النفل. وعن ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والميزان، وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعاً وكانا مفرّقين في الحرمين، كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون. وعن ابن عمر أنه كان يمرّ بالبائع فيقول: اتق الله وأوف الكيل، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إنّ العرق يلجمهم إلى أنصاف آذانهم. وعن عكرمة أشهد أنّ كل كيال ووزان في النار فقيل له: إن ابنك كيال أو وزان فقال: أشهد أنه في النار. وعن أبيّ: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين.
ثم بين تعالى المطففين من هم بقوله تعالى: {الذين إذا اكتالوا} أي: عالجوا الكيل {على الناس} أي: كائنين من كانوا لا يخافون شيئاً، ولا يراعون أحداً بل صارت الخيانة والوقاحة لهم ديدناً {يستوفون} أي: إذا كالوا منهم وأبدل على مكان من للدلالة على أن اكتيالهم من الناس اكتيال يضرهم ويتحامل فيه عليهم، ويجوز أن يتعلق على بيستوفون ويقدّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أي: يستوفون على الناس خاصة، وأمّا أنفسهم فيستوفون لها. وقال الفراء: من وعلى يتعاقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه، فإذا قال: اكتلت عليك فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك فكقوله: استوفيت منك.
{وإذا كالوهم} أي: كالوا للناس أي: حقهم، أي: مالهم من الحق {أو وزنوهم} أي: وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل، كما قال القائل:
*ولقد جنيتك أكمؤاً وعساقلاً ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر*
وقال آخر: والحريص بصيدك لا الجواد. بمعنى جنيت لك ويصيد لك ويقال: وزنتك حقك، وكلتك طعامك، أي: وزنت لك وكلت لك، ونصحتك ونصحت لك، وكسبتك وكسبت لك والأكمؤ جمع كمأة، والعساقل ضرب منها، وأصله: عساقيل لأنّ واحدها عسقول كعصفور فحذفت الياء للضرورة، وبنات أوبر ضرب من الكمأة رديء.
{يخسرون} جواب إذا، وهو يتعدى بالهمزة. يقال: خسر الرجل وأخسرته أنا مفعوله محذوف، أي: يخسرون الناس متاعهم. وقيل: يخسرون أي: ينقصون بلغة فارس أي: ينقصون الكيل أو الوزن.
وقوله تعالى: {ألا يظنّ أولئك} أي: الأخساء البعداء الأراذل {أنهم مبعوثون ليوم} أي: لأجله أو فيه، وزاد التهويل بقوله تعالى: {عظيم} إنكاراً وتعجيباً من حالهم في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة والخردلة. وقيل: الظنّ بمعنى اليقين. وقوله تعالى:
{يوم} يجوز نصبه بمبعوثون، أو بإضمار أعني، أو بدل من محل يوم فناصبه يبعثون {يقوم الناس} أي: من قبورهم {لرب العالمين} أي: الخلائق لأجل أمره وجزائه وحسابه. وعن ابن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يوم يقول الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» . وعن المقداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من(4/500)
العباد. حتى تكون قيد ميل أو اثنين ـ قال سليم: لا أدري أي: الميلين يعني: مسافة الأرض أو الميل الذي تكتحل به العين ـ قال: فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق بقدر أعمالهم فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه على حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يشير بيده إلى فيه يقول: ألجمه إلجاماً» . وعن قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجوه يوم القيامة. وعن عبد الملك بن مروان أنّ أعرابياً قال له: سمعت ما قال الله في المطففين أراد بذلك أنّ المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم، الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن، وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظنّ ووصف اليوم بالعظم وقيام الناس فيه لله تعالى خاضعين، ووصفه ذاته برب العالمين بيان بليغ لعظم الذنب، وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط والعمل على السوية، والعدل في كل أخذ وإعطاء بل في كل قول وعمل.
وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله تعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده. وعن بعض المفسرين أنّ لفظ التطفيف يتناول التطفيف في الوزن والكيل. وفي إظهار العيب وإخفائه وفي طلب الإنصاف والانتصاف، ويقال: من لم يرض لأخيه المسلم ما يرضاه لنفسه فليس بمنصف، والمعاشرة والصحبة في هذه المادّة، والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه من هذه الجملة، ومن طلب حق نفسه من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلبه.
وقوله تعالى: {كلا} ردع، أي: ليس الأمر على ما هم عليه فليرتدعوا، وههنا تم الكلام. وقال الحسن: كلا ابتداء متصل بما بعده على معنى حقاً، وجرى الجلال المحلي وأكثر المفسرين على الأوّل.
{إنّ كتاب الفجار} أي: كتب أعمال الكفار وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف. واختلف في معنى قوله سبحانه وتعالى: {لفي سجين} فقيل: هو كتاب جامع، وهو ديوان الشر دوّن الله تعالى فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجنّ والإنس، وقيل: هو مكان تحت الأرض السابعة وهو محل إبليس وجنوده. وقال عبد الله بن عمر: سجين في الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفار. { {
وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سجين أسفل سبع أرضين وعليون في السماء السابعة تحت العرش» . وقال الكلبي: هو صخرة تحت الأرض السابعة خضراء خضرة السموات منها يجعل كتاب الفجار فيها. وقال وهب: هي آخر سلطان إبليس. وعن كعب الأحبار: أنّ روح الفاجر يعني: الكافر يصعد بها إلى السماء فتأبى السماء أن تقبلها، ثم هبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فتدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين، وهو موضع جند إبليس وذلك استهانة بها، ويشهدها الشياطين المدحورون كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون. وقال عكرمة: لفي سجين، أي: في خسار وضلال.
{وما أدراك} أي: جعلك دارياً وإن اجتهدت في ذلك.
{ما سجين} وقال الزجاج: أي: ليس لك ذلك ما كنت تعلمه أنت ولا قومك.
وقوله تعالى: {كتاب مرقوم} ليس تفسيراً لسجين بل هو بيان للكتاب المذكور في قوله تعالى: {إن كتاب الفجار} أي: هو كتاب مرقوم، أي: مسطور(4/501)
بين الكتابة مكتوب فيه أعمالهم مثبت عليهم كالرقم في الثوب لا ينسى ولا يمحى حتى يجازون به، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه. وقيل: الرقم الختم بلغة حمير، واقتصر على هذا الجلال المحلي. وقال قتادة: رقم عليه بشرّ كأنه علم بعلامة يعرف بها أنه كافر. والمعنى: أنّ ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان، وسمي سجيناً فعيلاً من السجن وهو الحبس والتضييق في جهنم، أو لأنه مطروح تحت الأرض كما مرّ.
فإن قيل: سجين هل هو اسم أو صفة؟ أجيب: بأنه اسم علم منقول من وصف كحاتم، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف.
{ويل} أي: أعظم الهلاك {يومئذ} أي: إذ تقوم الناس لما تقدّم {للمكذبين} أي: بذلك أو بالحق. وقوله تعالى:
{الذين يكذبون بيوم} أي: بسبب الإخبار بيوم {الدين} أي: الجزاء الذي هو سر الوجود بدل أو بيان للمكذبين، ثم أخبر عن صفة من يكذب بيوم الدين بثلاث صفات ذكر أولها بقوله تعالى:
{وما} أي: والحال أنه ما {يكذب به} أي: بذلك اليوم {إلا كل معتد} أي: متجاوز عن النظر غال في التقليد، حتى استقصر قدرة الله تعالى وعلمه، فاستحال منه الإعادة. ثم ذكر الصفة الثانية بقوله تعالى: {أثيم} أي: منهمك في الشهوات المحرجة بحيث اشتغل عما وراءها وحملته على الإنكار لما عداها. ثم ذكر الصفة الثالثة بقوله تعالى:
{إذا تتلى عليه آياتنا} أي: القرآن {قال أساطير الأوّلين} أي: الحكايات سطرت قديماً جمع أسطور بالضم، وذلك لفرط جهله وإعراضه عن الحق فلا تنفعه شواهد النقل كما لا تنفعه دلائل العقل، وهذا عام في كل موصوف بذلك، وقال الكلبي: هو الوليد بن المغيرة. وقيل: هو النضر بن الحارث. وقوله تعالى:
{كلا} ردع وزجر، أي: ليس هو أساطير الأوّلين، وقال الحسن: معناها حقاً كما مرّ. {بل ران} أي: غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم السماء {على قلوبهم} أي: كل من قال هذا القول {ما كانوا يكسبون} أي: كما يركب الصدأ من إصرارهم على الكبائر وتسويف التوبة حتى طبع على قلوبهم فلا تقبل الخير ولا تميل إليه. روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المؤمن إذا أذنب ذنباً نكتت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها وإذا زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلكم الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه المبين» . وقال أبو معاذ: الران أن يسودّ القلب من الذنوب، والطبع أن يطبع على القلب وهو أشدّ من الران، والأقفال أشدّ من الطبع، وهو أن يقفل على القلب، قال تعالى: {أم على قلوب أقفالها} (محمد: 24)
وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب ويغشى فيموت القلب.
قال صلى الله عليه وسلم «إياكم والمحقرات من الذنوب فإنّ الذنب على الذنب يوقد على صاحبه جحيماً ضخمة» . وعن الحسن: الذنب بعد الذنب يسود القلب. يقال: ران عليه الذنب وغان عليه ربنا وغينا والغين الغيم، ويقال: ران فيه النوم: رسخ فيه، ورانت به الخمرة ذهبت به. وقرأ حمزة وشعبة والكسائي بالإمالة: محضة، والباقون بالفتح وسكت حفص على اللام وقفة لطيفة من غير قطع والباقون بغير سكت.
وقوله تعالى: {كلا} ردع عن الكسب الرائن على قلوبهم، وقيل: بمعنى حقاً كما مرّ {إنهم عن ربهم} أي: المحسن إليهم {يومئذ لمحجوبون} أي: فلا يرونه بخلاف المؤمنين فإنهم يرونه كما ثبت لك في الأحاديث الصحيحة. وقال الحسن: لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد(4/502)
لزهقت أنفسهم في الدنيا. وسئل مالك عن هذه الآية فقال: لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه.
وفي قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} دلالة على أنّ أولياء الله يرون الله تعالى، ومن نفى الرؤية كالزمخشري جعله تمثيلاً للاستخفاف بهم وإهانتهم؛ لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء والمكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأذناب المهانون عندهم. وعن ابن عباس وقتادة: محجوبون عن رحمته. وعن ابن كيسان: عن كرامته.
{ثم إنهم} أي: بعد ما شاء الله تعالى من إمهالهم {لصالوا الجحيم} أي: لداخلوا النار المحرقة.
{ثم يقال} أي: تقول لهم الخزنة {هذا} أي: العذاب {الذي كنتم به تكذبون} أي: في دار الدنيا.
وقوله تعالى: {كلا} ردع عن التكذيب، وقيل: معناها حقاً كما مرّ. وقال البيضاوي: تكرير للأوّل ليعقب بوعد الأبرار كما عقب بوعيد الفجار إشعار بأنّ التطفيف فجور والإيفاء برّ، وردع عن التكذيب {إنّ كتاب الأبرار} أي: كتب أعمال المؤمنين الصادقين في إيمانهم {لفي عليين} وعليون علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته صلحاء الثقلين، منقول من جمع فعيل من العلو كسجين من السجن، سمي بذلك إمّا لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، وإمّا لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريماً له وتعظيماً. وروي «أنّ الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقبلونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم إنكم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه أخلص عمله فاجعلوه في عليين، وقد غفرت له وإنها لتصعد بعمل العبد فيزكونه فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على قلبه، وإنه لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين» . وعن البراء مرفوعاً: «عليين في السماء السابعة تحت العرش» . وقال ابن عباس: هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش، أعمالهم مكتوبة فيها. وقال كعب وقتادة: هو قائمة العرش اليمنى. وقال عطاء عن ابن عباس: هو الجنة. وقال الضحاك: سدرة المنتهى. وقال بعض أهل المعاني علو بعد علو وشرف بعد شرف، ولذلك جمعت بالياء والنون. قال الفراء: هو اسم موضع على صيغة الجمع لا واحد له من لفظه مثل عشرين وثلاثين.
{وما أدراك} أي: جعلك دارياً وإن بالغت في الفحص {ما عليون} أي: ما كتاب عليين هو {كتاب} أي: عظيم {مرقوم} أي: فيه أنّ فلاناً أمن من النار رقماً، يا له من رقم ما أبهاه وأجمله.
{يشهده المقرّبون} يحضرونه فيشهدون على ما فيه يوم القيامة، أو يحفظونه.
ولما عظم كتابهم عظم منزلتهم بقوله تعالى:
{إنّ الأبرار لفي نعيم} أي: في الجنة ثم بين ذلك النعيم بأمور ثلاثة: أوّلها: قوله تعالى:
{على الأرائك} أي: الأسرة في الحجال، ولا يسمى أريكة إلا إذا كان كذلك، والحجال بكسر الحاء جمع حجلة، وهي بيت يزين بالثياب والستور والأسرة، قاله الجوهري. {ينظرون} أي: إلى ما شاؤوا مدّ أعينهم إليه من مناظر الجنة، وإلى ما أولاهم الله تعالى من النعمة والكرامة، وإلى أعدائهم يعذبون في النار، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك. وقال الرازي: ينظرون إلى ربهم بدليل قوله تعالى:
{تعرف} أي: أيها الناظر إليهم {في وجوههم} عند رؤيتهم {نضرة النعيم} أي: بهجته وحسنه ورونقه كما ترى في وجوه الأغنياء وأهل الترفه، أو الخطاب إمّا للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لكل ناظر، وقال الحسن: النضرة في الوجه والسرور في(4/503)
القلب وهذا هو الأمر الثاني. وأمّا الثالث فهو قوله تعالى:
{يسقون من رحيق} أي: خمر صافية طيبة وقال مقاتل: الخمر البيضاء. وقال الرازي: لعله الخمر الموصوف بقوله تعالى: {لا فيها غول} (الصافات: 47)
{مختوم} أي: ختم ومنع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه الأبرار. وقال القفال: يحتمل أن يكون ختم عليه تكريماً له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان، وهناك خمر أخرى تجري انهاراً لقوله تعالى: {وأنهار من خمره لذة للشاربين} (محمد: 15)
إلا أنّ هذا المختوم أشرف من الجاري.
{ختامه مسك} أي: آخر شربه يفوح منه مسك، فالمختوم الذي له ختام، أي: آخر شربه، وختم كل شيء الفراغ منه. وقال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك. وقال ابن زيد: ختامه عند الله مسك. وقيل: طينه مسك. وقيل: تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة.
{وفي ذلك} أي: الأمر العظيم البعيد التناول، وهو العيش والنعيم أو الشراب الذي هذا وصفه {فليتنافس} أي: فليرغب غاية الرغبة بجميع الجهد والاختيار {المتنافسون} أي: الذين من شأنهم المنافسة، وهو أن يطلب كل منهم أن يكون ذلك المتنافس فيه لنفسه خاصة دون غيره؛ لأنه نفيس جداً، والنفيس هو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتتغالى فيه، والمنافسة في مثل هذا بكثرة الأعمال الصالحة والنيات الخالصة.
وقال مجاهد: فليعمل العاملون نظيره قوله تعالى: {لمثل هذا فليعمل العاملون} (الصافات: 61)
وقال مقاتل بن سليمان: فليسارع المتسارعون. وقال عطاء: فليستبق المستبقون. وقال الزمخشري: فليرتقب المرتقبون. والمعنى: واحد. وأصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ويريده كل أحد لنفسه، وينفس فيه على غيره أي: يضنّ.
{ومزاجه} أي: ما يمزج به ذلك الرحيق {من تسنيم} وهو علم لعين بعينها سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه؛ لأنها تأتيهم من فوق على ما روي أنها تجري في الهواء مسنمة فتصب في أواني أهل الجنة على مقدار الحاجة، فإذا امتلأت أمسكت.
وقوله تعالى: {عيناً} نصب على المدح، وقال الزجاج: نصب على الحال. {يشرب بها} أي: بسببها على طريقة المزج منها {المقرّبون} وضمن يشرب معنى يلتذ، فهم يشربونها صرفاً، وتمزج سائر أهل الجنة.
{إنّ الذين أجرموا} أي: قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وهم رؤوساء قريش. {كانوا من الذين آمنوا} وهم فقراء الصحابة عمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين {يضحكون} أي: استهزاء بهم.
{وإذا مرّوا} أي: المؤمنون {بهم} أي: بالذين أجرموا {يتغامزون} أي: يشير المجرمون إلى المؤمنين بالجفن والحاجب استهزاء بهم. وقيل: يغمز بعضهم بعضاً ويشيرون بأعينهم.x
قيل: جاء عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخروا منه المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع وضحكوا منه، فنزلت قبل أن يصل عليّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم
{وإذا انقلبوا} أي: رجع الذين أجرموا برغبتهم في الرجوع وإقبالهم عليه من غير تكرّه {إلى أهلهم} أي: منازلهم التي هي عامرة بجماعتهم. وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم، وأبو عمرو بكسر الهاء، والباقون بكسر الهاء وضم الميم {انقلبوا} حالة كونهم {فاكهين} أي: متلذذين بما كان من مكنتهم ورفعتهم التي أوصلتهم إلى الاستسخار بغيرهم، قال ابن برجان: روي عنه عليه الصلاة والسلام: «إن الدين بدأ غريباً وسيعود(4/504)
غريباً كما بدأ» «يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر» وفي أخرى: «يكون المؤمن فيهم أذل من الأمة» وفي أخرى: «العالم فيهم أنتن من جيفة حمار فالله المستعان» . وقرأ حفص بغير ألف بين الفاء والكاف والباقون بالألف، قيل هما بمعنى، وقيل: فكهين فرحين وفاكهين ناعمين. وقيل: فاكهين أصحاب فاكهة ومزاح.
{وإذا رأوهم} أي: رأى المجرمون المؤمنين {قالوا} أي: المجرمون {إنّ هؤلاء} أي: المؤمنين {لضالون} أي: لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم يرون أنهم على شيء، وهم على ضلال في تركهم التنعيم الحاضر بسبب شيء لا يدرى هل له وجود أم لا؟
قال الله تعالى: {وما} أي: والحال أنهم ما {أرسلوا} أي: الكفار {عليهم} أي: على المؤمنين {حافظين} أي: موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم، وهذا تهكّم بهم. وقيل: هو من جملة قول الكفار، وأنهم إذا رأوا المسلمين قالوا: إنّ هؤلاء لضالون، وأنهم لم يرسلوا عليهم حافظين، إنكار لصدّهم إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإسلام، وجدّهم في ذلك.
وقوله تعالى: {فاليوم} منصوب بيضحكون، ولا يضر تقديمه على المبتدأ؛ لأنه لو تقدّم العامل هنا لجاز؛ إذ لا لبس بخلاف: زيد قام في الدار لا يجوز في الدار زيد قام، ومعنى فاليوم أي: في الآخرة {الذين آمنوا} ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان {من الكفار يضحكون} وفي سبب هذا الضحك وجوه منها:
أنّ الكفار كانوا يضحكون على المؤمنين في الدينا بسبب ما هم فيه من الضر والبؤس، وفي الآخرة يضحك المؤمنون على الكافرين بسبب ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر، ومن ألوان العذاب بعد النعيم والترفه.
ومنها أنهم علموا أنهم كانوا في الدنيا على غير شيء، وأنهم باعوا الباقي بالفاني.
ومنها أنهم يرون أنفسهم قد فازوا بالنعيم المقيم ونالوا بالتعب اليسير راحة الأبد.
ومنها: قال أبو صالح: يقال لأهل النار وهم فيها: اخرجوا وتفتح لهم أبوابها فإذا رأوها وقد فتحت أبوابها أقبلوا إليها يريدون الخروج والمؤمنون ينظرون إليهم، فإذا انتهوا إلى أبوابها غُلِّقت دونهم، يفعل ذلك بهم مراراً فذلك سبب الضحك.
ومنها: أنهم إذا دخلوا الجنة وأجلسوا على الأرائك ينظرون إلى الكفار كما قال تعالى: {على الأرائك} أي: الأسرة العالية {ينظرون} إليهم كيف يعذبون في النار ويرفعون أصواتهم بالويل والثبور ويلعن بعضهم بعضاً.
تنبيه: ينظرون حال من يضحكون، أي: يضحكون ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان. وقال كعب: بين الجنة والنار كوى، إذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوّ له كان في الدنيا اطلع عليه من تلك الكوى كما قال تعالى: {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} (الصافات: 55)
فإذا اطلعوا من الجنة على أعدائهم وهم يعذبون في النار ضحكوا.
قال الله تعالى: {هل ثوّب الكفار} أي: هل جوزوا {ما كانوا يفعلون} أي: جزاء استهزائهم بالمؤمنين، ومعنى الاستفهام ههنا: التقرير، وثوّبه وأثابه بمعنى واحد إذا جازاه. قال أوس:
*سأجزيك أو يجزيك عني مثوّب
... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدى
وقرأ الكسائي وهشام بإدغام اللام في الثاء والباقون بالإظهار. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة المطففين سقاه الله تعالى من الرحيق المختوم يوم القيامة» . حديث موضوع.(4/505)
سورة الانشقاق
مكية
وهي ثلاث أو خمس وعشرون آية ومائةوسبع كلمات وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفاً
{بسم الله} الذي شقق الأرض بالنبات {الرحمن} الذي عمّ جوده أهل الأرض والسموات {الرحيم} الذي خص أهل طاعته بالجنات.
وقوله تعالى: {إذا السماء} أي: على ما لها من الأحكام والعظمة {انشقت} كقوله تعالى: {إذا الشمس كوّرت} (التكوير: 1) { {
في إضمار الفعل وعدمه، وفي إذا هذه احتمالان: أحدهما: أن تكون شرطية، والثاني: أن تكون غير شرطية. فعلى الأوّل في جوابها أوجه: أحدها: أنه محذوف ليذهب المقدر كل مذهب، أو اكتفاء بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار، وهو قوله تعالى: {علمت نفس} (الإنفطار: 5، وسورة التكوير: 14)
والثاني: جوابها ما دل عليه {فملاقيه} الثالث: أنه {يا أيها الإنسان} على حذف الفاء وعلى كونها غير شرطية فهي مبتدأ، وخبرها إذا الثانية والواو مزيدة، تقديره: وقت انشقاق السماء وقت مدّ الأرض، أي: يقع الأمران في وقت. قاله الأخفش. وقيل: إنه منصوب مفعولاً به بإضمار اذكر انشقاقها بالغمام، وهو من علامات القيامة كقوله تعالى: {ويوم تشقق السماء بالغمام} (الفرقان: 25)
وعن عليّ تنشق من المجرّة. قال ابن الأثير: المجرّة هي البياض المعترض في السماء والسراب من جانبها.
{وأذنت} أي: سمعت وأطاعت في الانشقاق {لربها} أي: لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها انقياد المطواع الذي ورد عليه الأمر من جهة المطاع، فأنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع، كقوله: {أتينا طائعين} (فصلت: 110)
{وحقت} أي: حق لها أن تسمع وتطيع بأن تنقاد ولا تمتنع. يقال: حق بكذا فهو محقوق وحقيق.
{وإذا الأرض} أي: على ما لها من الصلابة {مدّت} أي: زيد في سعتها كمدّ الأديم ولم يبق عليها بناء ولا جبل، كما قال تعالى: {قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمّتا} (طه: 106 ـ 107)
وعن ابن عباس مدّت مدّ الأديم العكاظيّ لأنّ الأديم إذا مدّ زال كل انثناء فيه وأمت واستوى.
{وألقت} أي: أخرجت {ما فيها} من الكنوز والموتى كقوله تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} (الزلزلة: 21)
. {وتخلت} أي: خلت منها حتى لم يبق في بطنها شيء، وذلك يؤذن بعظم الأمر كما تلقي الحامل ما في بطنها عند الشدّة، ووصفت الأرض بذلك توسعاً وإلا فالتحقيق أنّ الله تعالى هو المخرج لتلك الأشياء من الأرض.
وقوله تعالى: {وأذنت لربها وحقت} تقدّم تفسيره، وهذا ليس بتكرار لأنّ الأول في السماء وهذا في الأرض، وتقدّم جواب إذا. ومن جملة ما قيل فيه: وما عطف عليه أنه محذوف دل عليه ما بعده، تقديره: لقي الإنسان عمله وذلك كله يوم القيامة. واختلف في الإنسان في قوله تعالى:
{يا أيها الإنسان} أي: الآنس بنفسه الناسي لأمر ربه {إنك كادح} فقيل: المراد جنس الإنسان كقولك: يا أيها الرجل، فكأنه خطاب خص به أحد من الناس. قال القفال: وهو أبلغ من العموم؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين بخلاف اللفظ العامّ. وقيل: المراد منه رجل بعينه، فقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى: إنك كادح في إبلاغ رسالات الله تعالى وإرشاد عباده وتحمل الضرر من الكفار، فأبشر فإنك تلقى الله تعالى بهذا العمل. وقال(4/506)
ابن عباس: هو أبيّ بن خلف وكدحه هو جدّه واجتهاده في طلب الدنيا، وإيذاء النبيّ صلى الله عليه وسلم والإصرار على الكفر. والكدح: جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه.
ومعنى كادح {إلى ربك} أي: جاهد إلى لقائه وهو الموت، أي: هذا الكدح يستمرّ إلى هذا الزمن وقال القفال: تقديره إنك كادح في دنياك. {كدحاً} تصير إلى ربك. وقوله تعالى: {فملاقيه} يجوز أن يكون عطفاً على كادح، والسبب فيه ظاهر، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي: فأنت ملاقيه، وقيل: جواب إذا، والضمير في ملاقيه إمّا للرب أي: ملاقي حكمه لا مفر لك منه، وإمّا للكدح إلا أنّ الكدح عمل وهو عرض لا يبقى، فملاقاته ممتنعة، فالمراد جزاء كدحك من خير أو شرّ. وقال الرازي: المراد ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال، ويؤكد هذا قوله تعالى بعده:
{فأمّا من أوتي كتابه} أي: كتاب عمله الذي كتبته الملائكة. {بيمينه} أي: من أمامه وهو المؤمن المطيع.
{فسوف يحاسب} أي: يقع حسابه بوعد لا خلف فيه، وإن طال الأمد لإظهار الجبروت والكبرياء والقهر. {حساباً يسيراً} هو عرض عمله عليه كما فسر في حديث الصحيحين وفيه: «من نوقش الحساب هلك» وفي رواية: «من حوسب عذب» . وقالت عائشة: «أليس يقول الله تعالى: {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} فقال: إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذب» وإنما حوسب حساباً سهلاً لأنه كان يحاسب نفسه فلا تقع له المخالفة إلا ذهولاً، فلأجل ذلك تعرض أعماله فيقبل حسنها ويعفى عن سيئها.
{وينقلب} أي: يرجع بنفسه من غير مزعج برغبة وقبول {إلى أهله} أي: الذين أهله بهم في الجنة من الحور العين والآدميات والذريات إذا كانوا مؤمنين {مسروراً} أي: قد أوتي جنة وحريراً، فإنه كان في الدنيا في أهله مشفقاً من العرض على الله يحاسب نفسه حساباً عسيراً مع ما هو فيه من نكد الأهل وضيق العيش.
{س84ش10/ش15 وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ? وَرَآءَ ظَهْرِهِ? * فَسَوْفَ يَدْعُوا? ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ? كَانَ فِى? أَهْلِهِ? مَسْرُورًا * إِنَّهُ? ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَى? إِنَّ رَبَّهُ? كَانَ بِهِ? بَصِيرًا}
{وأمّا من أوتي كتابه وراء ظهره} وهو الكافر تغل يمناه إلى عنقه، وتجعل يسراه وراء ظهره فيأخذ بها كتابه.
{فسوف يدعو} أي: بوعد لا خلف في وقوعه {ثبوراً} يقول: يا ثبوراه، والثبور: الهلاك، كقوله تعالى: {دعوا هنالك ثبوراً} (الفرقان: 13)
{ويصلى سعيراً} أي: يدخل النار الشديدة. وقرأ أبو عمرو وعاصم بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام، والباقون بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وإذا فتح ورش غلظ اللام، وإذا أمال رقق والباقون بالفتح.
{إنه كان} أي: بما هو له كالجبلة {في أهله} أي: عشيرته في الدنيا {مسروراً} قال القفال: أي: منعماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والجهاد مقدماً على المعاصي آمناً من الحساب والثواب والعقاب لا يخاف الله تعالى، ولا يرجوه فأبدله الله تعالى بذلك السرور غماً باقياً لا ينقطع.
وقيل: إنّ قوله تعالى: {إنه كان في أهله مسروراً} كقوله تعالى: {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين} (المطففين: 31)
أي: متنعمين في الدنيا معجبين بما هم عليه من الكفر بالله تعالى والتكذيب بالبعث، ويضحكون ممن آمن بالله تعالى، وصدّق بالحساب كما قال صلى الله عليه وسلم «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» . {إنه ظنّ} أي: لضعف نظره {أن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي: أنه {لن يحور} أي: لن يرجع إلى الله تعالى(4/507)
تكذيباً بالمعاد. يقال: لا يحور ولا يحول، أي: لا يرجع ولا يتغير. قال لبيد:
*وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
... يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
وعن ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها: حوري، أي: ارجعي.
وقوله تعالى: {بلى} إيجاب لما بعد النفي في لن يحور، أي: بلى ليحورنّ. {إنّ ربه} أي: الذي ابتدأ إنشاؤه ورباه {كان} أي: أزلاً وأبداً {به بصيراً} أي: من يوم خلقه إلى يوم بعثه، أو بأعماله لا ينساها. وقال عطاء: بصيراً بما سبق عليه في أمّ الكتاب من الشقاوة.
واختلفوا في الشفق في قوله تعالى:
{فلا أقسم بالشفق} فقال مجاهد: هو النهار كله. وقال عكرمة: ما بقي من النهار. وقال ابن عباس وأكثر المفسرين: هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس. وقال قوم: هو البياض الذي يعقب تلك الحمرة.
تنبيه: سمي بذلك لرقته، ومنه الشفقة على الإنسان رقة القلب عليه واللام في لا أقسم مزيدة للتأكيد.
{والليل} أي: الذي يغلبه ويذهبه {وما وسق} أي: ما جمع وضم يقال وسقه فاتسق واستوسق قال الشاعر:
*مستوسقات لو يجدن سائقاً*
ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين اتسع واستوسع، ومعناه: وما جمعه وستره وآوى إليه من الدواب وغيرها.
{والقمر} أي: الذي هو آيته {إذا اتسق} أي: إذا اجتمع واستوى ليلة أربع عشرة. وقال قتادة: استدار وهو افتعل من الوسق.
تنبيه: قد اختلف العلماء في القسم بهذه الأشياء هل هو قسم بها أو بخالقها؟ فذهب المتكلمون. إلى أنّ القسم واقع بربها وإن كان محذوفاً؛ لأنّ ذلك معلوم من حيث ورود الحظر بأن يقسم بغير الله تعالى أو بصفة من صفاته، وقد مرّ أنّ ذلك يكره في حق الإنسان، فإنّ الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وجواب القسم. { {
{لتركبنّ} أي: أيها الناس، أصله تركبون حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال والواو لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بفتح الباء الموحدة على خطاب الإنسان، والباقون بضمها على خطاب الجمع، وهو معنى الإنسان إذ المراد به الجنس أي: لتركبنّ أيها الإنسان {طبقاً} مجاوزاً {عن طبق} أي: حالاً بعد حال. قال عكرمة: رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ. وعن ابن عباس: الموت ثم البعث ثم العرض. وعن عطاء: مرّة فقيراً ومرّة غنياً. وقال أبو عبيدة: لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالهم لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» .
وقوله تعالى: {فما لهم} أي: الكفار {لا يؤمنون} استفهام إنكار، أي: أيّ مانع لهم من الإيمان، أو أي حجة في تركه بعد وجود براهينه.
{و} ما لهم {إذا قرئ} أي: من أي: قارئ قراءة مشروعة {عليهم القرآن} أي: الجامع لكل ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم الفارق بين كل ملتبس {لا يسجدون} أي: لا يخضعون بأن يؤمنوا به لإعجازه، أو لا يصلون، قاله مقاتل، أو لا يسجدون لتلاوته لما روى أنه صلى الله عليه وسلم «قرأ {واسجد واقترب} (العلق: 19)
فسجد ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق رؤوسهم فنزلت» . وعن أبي هريرة قال: «سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {اقرأ باسم ربك} و {إذا السماء انشقت} » . وعن نافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ(4/508)
{إذا السماء انشقت} فسجد فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. وليس في ذلك دلالة على وجوبها فهي مندوبة. وعن الحسن: هي واجبة. واحتج أبو حنيفة على وجوب السجود بأنه تعالى ذمّ من سمعه ولم يسجد. وعن ابن عباس: ليس في المفصل سجدة، وما روى أبو هريرة يخالفه. وعن أنس: صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان فسجدوا.
{بل الذين كفروا يكذبون} أي: بالقرآن والبعث.
{والله أعلم بما يوعون} أي: بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر والحسد والبغي والبغضاء، أو بما يجمعون في صحفهم من الكفر والتكذيب وأعمال السوء، ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب.
وقوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} أي: مؤلم استهزاء بهم، أو أنّ البشارة بمعنى الإخبار، أي: أخبرهم.
وقوله تعالى: {إلا} استثناء منقطع، أي: لكن {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} تحقيقاً لإيمانهم {لهم أجر غير ممنون} أي: غير مقطوع ولا منقوص ولا ممنون به عليهم. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ {إذا السماء انشقت} أعاذه الله تعالى أن يعطيه كتابه وراء ظهره» حديث موضوع.
سورة البروج
مكية
وهي اثنتان وعشرون آية ومائة وتسع كلماتوأربعمائة وثمانية وخمسون حرفاً
{بسم الله} الذي أحاط علمه بالكائنات {الرحمن} الذي عمّ جوده سائر المخلوقات {الرحيم} الذي خص أهل السعادة بالجنات.
وقوله تعالى: {والسماء} أي: العالية غاية العلوّ، المحكمة غاية الإحكام {ذات البروج} قسم أقسم الله تعالى به، وتقدّم الكلام على ذلك مراراً، وفي البروج أقوال: فقال مجاهد: هي البروج الاثنا عشر، شبهت بالقصور؛ لأنها تنزلها السيارات. وقال الحسن: هي النجوم، وقيل: هي منازل القمر. وقال عكرمة: هي قصور في السماء. وقيل: عظام الكواكب سميت بروجاً لظهورها. وقيل: أبواب السماء. وقوله تعالى:
{واليوم الموعود} قسم آخر وهو يوم القيامة. قال ابن عباس: وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه.
واختلفوا في قوله سبحانه وتعالى:
{وشاهد ومشهود} فقال أبو هريرة وابن عباس: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة. وروى مرفوعاً: «اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة. والشاهد يوم الجمعة» خرّجه الترمذي في جامعه. قال القشيري: فيوم الجمعة يشهد على عامله بما عمل فيه. قال القرطبي: وكذا سائر الأيام والليالي لما روى أبو نعيم الحافظ عن معاوية أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادى فيه يا ابن آدم أنا خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك شاهد، فاعمل فيّ خيراً أشهد لك به غداً فإني إذا مضيت لم ترني أبداً، ويقول الليل مثل ذلك» حديث غريب. وحكى القشيري عن عمر أنّ الشاهد يوم الأضحى. وقال ابن المسيب: الشاهد يوم التروية، والمشهود يوم عرفة. وروي عن علي: الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر. وقال مقاتل: أعضاء الإنسان هي الشاهد لقوله تعالى: {يوم تشهد عليهم(4/509)
ألسنتهم} (النور: 24)
الآية. وقال الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم لقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} (البقرة: 143)
الآية. وقيل: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {إنا أرسلناك شاهداً} (الأحزاب: 45)
وقيل: آدم. وقيل: الحفظة الشاهد والمشهود أولاد آدم، وقيل: غير ذلك وكل ذلك صحيح.
واختلف في جواب القسم فقال الجلال المحلي: جواب القسم محذوف صدره أي: لقد {قتل} أي: لعن {أصحاب الأخدود} وقال الزمخشري: محذوف ويدل عليه قوله: {قتل أصحاب الأخدود} وكأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون يعني: كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود، فإنّ السورة وردت لتثبيت المؤمنين على أذاهم وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم. واستظهر هذا البيضاوي. والأخدود: هو الشق المستطيل في الأرض كالنهر، وجمعه أخاديد، واختلف فيهم فعن صهيب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب فقعد إليه، وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب فقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه وإذا رجع قعد إلى الراهب وسمع كلامه، فإذا أتى أهله ضربوه فشكا إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر،. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر فأخذ حجراً ثم قال: اللهمّ إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى تمضي الناس فرماها فقتلها فمضى الناس فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي: بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبلى فإن ابتليت فلا تدل عليّ فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس الملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال: هذا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فإن آمنت به دعوت الله تعالى فشفاك فآمن بالله فشفاه الله تعالى، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من ردّ عليك بصرك؟ قال: ربي.
قال: ربك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي: بنيّ قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، قال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقال: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل: له: ارجع عن دينك فأبى ففعل به كالراهب، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال: اذهبوا إلى جبل كذا فاصعدوا به، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهمّ اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهمّ اكفنيهم بما شئت فانكفأت السفينة بهم فغرقوا، وجاء يمشي(4/510)
إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس وقل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ووضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده على صدغه موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام ثلاثاً، فأتى الملك فقيل: له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس، فأمر بالأخدود بأفواه السكك فحدت وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها. أو قيل له: اقتحم، قال: ففعلوا حتى جاءت امرأة معها
صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال الصبي: يا أمّاه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت» . قال البغوي: هذا حديث صحيح. وقيل: إنّ الصبي قال لها: قعي ولا تقاعسي. وقيل: ما هي إلا غميضة فصبرت. وذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه أنّ رجلاً كان قد بقي على دين عيسى، فوقع على نجران فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير، وخيرهم بين النار واليهودية، فأبوا عليه فخدّ الأخاديد وأحرق اثني عشر ألفاً في الأخاديد. وقيل: سبعين ألفاً. ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هارباً واقتحم البحر بفرسه فغرق. قال الكلبي: وذو نواس قتل عبد الله بن التامر رضي الله عنه.
وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر أن خربة احترقت في زمن عمر فوجدوا عبد الله بن التامر واضعاً يده على ضربة في رأسه، إذا أميطت يده عنها أنبعت دماً وإذا تركت ارتدّت مكانها، وفي يده خاتم من حديد فيه: ربي الله. فبلغ ذلك عمر فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه.
وعن ابن عباس قال: كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرحبيل في الفترة قبل أن يولد النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر، وكان أبوه سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام، ولم يجد بدّاً من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم، وكان في طريقه راهب حسن الصوت فأعجبه ذلك، وذكر قريباً من معنى حديث صهيب إلى أن قال الغلام للملك: إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول. قال: فكيف أقتلك؟ قال: تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم على اسم إلهي، ففعل الملك فقتله فقال الناس: لا إله إلا إله، عبد الله بن التامر لا دين إلا دينه، فغضب الملك وأغلق باب المدينة، وأخذ أفواه السكك وأخدّ أخدوداً وملأه ناراً ثم عرضهم رجلاً رجلاً، فمن رجع عن الإسلام تركه، ومن قال: ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود وأحرقه، وكان في مملكته امرأة فأسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاثة: أحدهم رضيع فقال لها الملك: ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار فأبت، فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار، ثم قال لها: ارجعي فأبت فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الصبي: يا أمّاه لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحق ولا بأس عليك فألقى الصبي في النار، وألقيت أمّه على أثره.
وعن علي أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال: هم أهل كتاب، وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم،(4/511)
فتناولها بعض ملوكهم فسكر فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج، فقالت له: المخرج أن تخطب الناس فتقول: يا أيها الناس إنّ الله تعالى أحل لكم نكاح الأخوات، ثم تخطبهم بعد ذلك: أنّ الله تعالى حرّمه. فخطب فلم يقبلوا منه فقالت: ابسط فيهم السوط فلم يقبلوا، فأمرت بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها، فهم الذين أرادهم الله تعالى بقوله: {أصحاب الأخدود} وعن مقاتل: كانت الأخاديد ثلاثة: واحدة بنجران باليمن، وأخرى بالشام، وأخرى بفارس حرقوا بالنار، أما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي، وأما التي بفارس فبختنصر، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس. فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآناً، وأنزل في التي كانت بنجران. وذلك أنّ رجلاً مسلماً ممن يقرأ الإنجيل أجر نفسه في عمل وجعل يقرأ الانجيل فرأت بنت المستأجر النور يضيء من قراءة الإنجيل فذكرت ذلك لأبيها فرمقه فرآه فسأله فلم يخبره، فلم يزل به حتى أخبره بالدين وبالإسلام فتابعه هو وسبعة وثمانون إنساناً ما بين رجل وامرأة، وهذا بعد ما رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، فسمع ذلك يوسف ذو نواس فخدّ لهم في الأرض، وأوقد فيها فعرضهم على الكفر، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار، ومن رجع عن دين عيسى لم يقذفه، وأنّ امرأة جاءت ومعها صغير لا يتكلم فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار، فضُربت حتى تقدّمت فلم تزل كذلك ثلاث مرّات، فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها يا أمّاه إني أرى أمامك ناراً لا تُطفأ، فلما سمعت ذلك قذفا جميعاً أنفسهما في النار فجعلها الله وابنها في الجنة. فقذف في النار في يوم واحد سبعة وسبعون إنساناً فذلك قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود} .
وقوله تعالى: {النار} بدل اشتمال من الأخدود. وقوله تعالى: {ذات الوقود} وصف لها بأنها نار عظيمة لها، ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس، واللام في الوقود للجنس.
وقوله تعالى: {إذ هم عليها قعود} ظرف لقتل أي: لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين حولها، ومعنى عليها على ما يدنوا منها من حافات الأخدود كقوله:
*وبات على النار الندى والمحلق*
وكما تقول: مررت عليه تريد مستعلياً المكان الذي يدنو منه، فكانوا يقعدون حولها على الكراسي. وقال القرطبي: عليها. قوله وقال القرطبي عليها كذا في جميع النسخ وفيه سقط فراجعه.
{وهم على ما يفعلون بالمؤمنين} بالله من تعذيبهم بالإلقاء في النار إن لم يرجعوا عن إيمانهم {شهود} أي: يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه لم يقصر فيما أمر به أو شهود بمعنى حضور، إذ روي أنّ الله تعالى أنجى المؤمنين الملقين في النار بقبض أرواحهم قبل وقوعهم فيها وخرجت النار إلى القاعدين فأحرقتهم. قال الرازي: يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود القاتلين، ويمكن أن يكون المراد بهم المقتولين. والمشهور أن المقتولين هم المؤمنون. وروي أن المقتولين هم الجبابرة. روي أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفرة فأحرقتهم، ونجّى الله المؤمنين منها سالمين وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنس والواحدي. وتأوّلوا قوله تعالى: {فلهم عذاب جهنم} أي: في الآخرة {ولهم عذاب الحريق} أي: في الدنيا.
فإن فسر أصحاب الأخدود بالقاتلين فيكون قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود} دعاء عليهم كقوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره} (عبس: 17)
وإن فسر بالمقتولين كان المعنى:(4/512)
أنّ المؤمنين قتلوا بالنار فيكون ذلك خبراً لا دعاءً. والمقصود من هذه الآية: تثبيت قلوب المؤمنين وإخبارهم بما كان يلقاه من قبلهم من الشدائد. وذكر لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلقون من أذى الكفار ليتأسوا بهذا الغلام في صبره على الأذى والصلب، وبذل نفسه في إظهار دعوته ودخول الناس في الدين مع صغر سنه، وكذلك صبر الراهب على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار، وكذلك أكثر الناس لما آمنوا بالله تعالى.
{وما نقموا} أي: وما أنكروا وكرهوا {منهم} من الخلات وكان ذنباً ونقصاً {إلا أن يؤمنوا} أي: يجدّدوا الإيمان مستمرّين عليه {بالله} أي: الذي له الكمال كله {العزيز} في ملكه الذي يغلب من أراد ولا يغلبه شيء. {الحميد} أي: المحيط بجميع صفات الكمال، فهو يثيب من أطاعه أعظم ثواب وينتقم ممن عصاه بأشدّ العذاب. وهذا استثناء على طريقة قول القائل:
*ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم
... بهن فلول من قراع الكتائب*
أي: من ضرابها، والكتائب بالتاء المثناة: جمع كتيبة وهي الجيش، وقال ابن الرقيات:
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
ونظيره قوله تعالى: {هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله} (المائدة: 59)
ولما ذكر تعالى الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به ويعبد، وهو كونه عزيزاً غالباً قادراً يخشى عقابه، حميداً منعماً يجب الحمد على نعمه، ويرجى ثوابه قرر ذلك بقوله تعالى:
{الذي له} أي: خاصة {ملك السموات والأرض} أي: على جهة العموم مطلقاً، فكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له تقديراً، لأنّ ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغيّ، وإنّ الناقمين أهلٌ لانتقام الله تعالى منهم بعذاب لا يعدله عذاب. {والله} الملك الأعظم الذي له الإحاطة الكاملة {على كل شيء شهيد} فلا يغيب عنه شيء، وهذا لأنّ الله علم ما فعلوا وهو مجازيهم عليه.
ولما ذكر قصة اأصحاب الأخدود أتبعها ما يتفرّع من أحكام الثواب والعقاب فقال تعالى:
{إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} أي: أحرقوهم بالنار، يقال: فتنت الشيء إذا أحرقته، والعرب تقول: فتن فلان الدرهم والدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته. ونظيره {يوم هم على النار يفتنون} (الذاريات: 7)
. قال الرازي: ويحتمل أن يكون المراد: كلُّ مَنْ فَعَلَ ذلك. قال: وهذا أولى لأنّ اللفظ عامّ والحكم عامٌّ، والتخصيص ترك للظاهر من غير دليل.
ولما كانت التوبة مقبولة قبل الغرغرة ولو طال الزمان عبر سبحانه بأداة التراخي فقال تعالى: {ثم لم يتوبوا} أي: عن كفرهم وعما فعلوا.
{فلهم عذاب جهنم} أي: بكفرهم {ولهم عذاب الحريق} أي: عذاب إحراقهم المؤمنين في الآخرة، وقيل: في الدنيا فأحرقتهم كما تقدّم، ومفهوم الآية أنهم لو تابوا لخرجوا من هذا الوعيد، وذلك يدل على أنّ الله تعالى يقبل التوبة من القاتل المتعمد خلاف ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما. ولما ذكر سبحانه وعيد المجرمين ذكر ما أعدّ للمؤمنين بقوله تعالى:
{إن الذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان من المقذوفين في النار وغيرهم من كل طائفة في كل زمان {وعملوا الصالحات} تحقيقاً لإيمانهم {لهم جنات} أي: بساتين تفضلاً منه تعالى {تجري من تحتها} أي: تحت غرفها وأسرّتها وجميع أماكنها {الأنهار} يتلذذون ببردها(4/513)
في نظير ذلك الحرّ الذي صبروا عليه في الدنيا، ويزول عنهم برؤية ذلك مع خضرة الجنان جميع المضارّ والأحزان.
{ذلك} أي: الأمر العالي الدرجة العظيم البركة {الفوز} أي: الظفر بجميع المطالب {الكبير} وهو رضا الله تعالى لا دخول الجنة.
وقال تعالى: {ذلك الفوز} ولم يقل تلك، لأنّ ذلك إشارة إلى إخبار الله تعالى بحصول الجنان وتلك إشارة إلى الجنة الواحدة، وإخبار الله تعالى عن ذلك يدل على كونه راضياً.
{إنّ بطش ربك} أي: أخذ المحسن إليك المربي لك المدبر لأمرك الجبابرة والظلمة {لشديد} كقوله تعالى: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد} (هود: 102)
قال المبردّ: {إنّ بطش ربك} جواب القسم، والبطش هو الأخذ بعنف فإذا وصف بالشدّة فقد تضاعف. ولما كان هذا البطش لا يتأتى إلا لكامل القدرة دل على كمال قدرته واختصاصه بذلك بقوله تعالى مؤكداً لما له من الإنكار:
{إنه هو} أي: وحده {يبدئ} أي: يوجد ابتداء أيّ خلق أراد إلى أيّ هيئة أراد {ويعيد} أي: ذلك المخلوق عند البعث. وروى عكرمة قال: عجب الكفار من إحياء الله تعالى الأموات أي: فنزلت.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يبدئ لهم عذاب الحريق في الدنيا ثم يعيده عليهم في الآخرة، وهذا اختيار الطبري. وقيل: يبدئ البطش ويعيده فيبطش بهم في الدنيا والآخرة، أو دل باقتداره على الإبداء والإعادة على شدّة بطشه، أو أوعد الكفرة بأن يعيدهم كما بدأهم ليبطش لهم؛ إذ لم يشكروا نعمة الإبداء وكذبوا بالإعادة.
{وهو} أي: وحده {الغفور} أي: الستور لعباده المؤمنين. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها.
وقوله تعالى: {الودود} مبالغة في الود. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو المتودّد لعباده بالمغفرة، وعن المبرد: هو الذي لا ولد له. وأنشد:
*وأركب في الودّ عريانة
... ذلول الجماع لقاحاً ودودا* { {
أي: لا ولد لها تحنّ إليه. وقيل: هو فعول بمعنى مفعول كالركوب والحلوب بمعنى المركوب والمحلوب. وقيل: يغفر ويودّ أن يغفر.
{ذو العرش} ومالكه، أي: ذو الملك والسلطان كما يقال فلان على سرير ملكه، وإن لم يكن على سرير، ويقال: ثلّ عرشه، أي: ذهب سلطانه، أو السرير الدال على اختصاص الملك بالملك، وانفراده بالتدبير والسيادة والسياسة الذي به قوام الأمور، وقرأ {المجيد} حمزة والكسائي بجرّ الدال على أنه نعت للعرش أو لربك في قوله تعالى: {إن بطش ربك} قال مكي: وقيل: لا يجوز أن يكون نعتاً للعرش لأنه من صفات الله تعالى اه. وهذا ممنوع لأنّ مجد العرش علوّه وعظمه كما قاله الزمخشري. وقد وصف العرش بالكريم في آخر المؤمنين. وقرأ الباقون برفع الدال على أنه خبر بعد خبر. وقيل: هو نعت لذو، واستدل بعضهم على تعدّد الخبر بهذه الآية، ومن منع قال لأنها في معنى خبر واحد، أي: جامع بين هذه الأوصاف الشريفة، أو كل منها خبر لمبتدأ مضمر، والمجد: هو النهاية في الكرم والفضل، والله سبحانه موصوف بذلك وتقدّم وصف عرشه بذلك.
{فعالٌ} أي: على سبيل التكرار والمبالغة {لما يريد} قال القفال: أي: يفعل ما يريد على ما يراه لا يعترض عليه أحد، ولا يغلبه غالب فيدخل أولياءه الجنة لا يمنعه مانع، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء،(4/514)
فهو يفعل ما يريد.
وعن أبي اليسر: دخل ناس من الصحابة على أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه يعودونه فقالوا: ألا نأتيك بطبيب؟ قال: قد رآني. قالوا: فماذا قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد. وقال الزمخشري: فعال خبر مبتدأ محذوف، وإنما قال فعال لأنّ ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. وقال الطبري: رفع فعال وهو نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب الغفور الودود.
تنبيه: دلت هذه الآية أنّ جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. قال بعضهم: ودلت على أنّ الله تعالى لا يجب عليه شيء لأنها دالة على أنه يفعل ما يريد.
{هل} أي: قد {أتاك} أي: يا أشرف الرسل {حديث} أي: خبر {الجنود} أي: الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم وقوله تعالى: {فرعون وثمود} يجوز أن يكون بدلاً من الجنود، واستشكل كونه بدلاً؛ لأنه لم يكن مطابقاً للمبدل منه في الجمعية. وأجيب: بأنه على حذف مضاف، أي: جنود فرعون وأنّ المراد فرعون وقومه، واستغنى بذكره عن ذكرهم لأنهم أتباعه، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أعني لأنه لما لم يطابق ما قبله وجب قطعه.
والمعنى: إنك قد عرفت ما فعل الله تعالى بهم حين كذبوا رسلهم كيف هلكوا بكفرهم فقومك إن لم يؤمنوا بك فعل بهم كما فعل بهؤلاء، فاصبر كما صبر الأنبياء قبلك على أممهم.
{بل الذين كفروا} أي: من هؤلاء الذين لا يؤمنون بك {في تكذيب} لك لا يرعوون عنه، ومعنى الإضراب: أنّ حالهم أعجب من حال هؤلاء فإنهم سمعوا قصتهم ورأوا آثار هلاكهم وكذبوا أشدّ من تكذيبهم، وإنما خص فرعون وثمود لأنّ ثمود في بلاد العرب وقصتهم عندهم مشهورة، وإن كانوا من المتقدّمين، وأمر فرعون كان مشهوراً عند أهل الكتاب وغيرهم، وكان من المتأخرين في الهلاك فدل بهما على أمثالهما.
وقوله تعالى: {والله} أي: والحال أن الملك الذي له الكمال كله {من ورائهم محيط} وفيه وجوه:
أحدها: أن المراد وصف اقتداره عليهم وأنهم في قبضته وحصره، كالمحاط إذا أحيط به من ورائه ينسدّ عليه مسلكه فلا يجد مهرباً، يقول الله تعالى: فهم كذا في قبضتي وأنا قادر على إهلاكهم ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم إياك فلا تجزع من تكذيبهم، إياك فليسوا يفوتونني إذا أردت الانتقام منهم.
ثانيها: أن يكون المراد من هذه الإحاطة قرب هلاكهم كقوله تعالى: {وظنوا أنهم أحيط بهم} (يونس: 22)
فهو عبارة عن مشارفة الهلاك.
ثالثها: أنه تعالى محيط بأعمالهم، أي: عالم بها فيجازيهم عليها.
{بل هو} أي: هذا القرآن الذي كذبوا به، وهو لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {قرآن} أي: جامع لكل منفعة جليلة بالغ الذروة العليا في كل شرف {مجيد} أي: شريف وحيد في اللفظ والمعنى، وليس كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة.
{في لوح} هو في الهواء فوق السماء السابعة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده، دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله عز وجل وصدّق بوعيده واتبع رسله أدخله الجنة، قال: واللوح لوح من درّة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدرّ والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور وكلامه نور، معقود بالعرش وأصله في حجر ملك.
وقرأ {محفوظ} بالرفع نافع على أنه نعت لقرآن، والباقون بالجرّ على أنه نعت للوح. وقال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش وقال البغوي: هو أمّ الكتاب، ومنه تنسخ الكتب محفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه(4/515)
والنقصان. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة البروج أعطاه الله تعالى بعدد كل يوم جمعة وكل يوم عرفة يكون في الدنيا عشر حسنات» حديث موضوع.
سورة الطارق
مكية
وهي سبع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وإحدى وسبعون حرفاً
{بسم الله} مالك الخلق أجمعين {الرحمن} الذي عمّ جوده المؤمنين والكافرين {الرحيم} الذي خص رحمته بعباده المؤمنين.
وقوله تعالى: {والسماء والطارق} قسم أقسم الله تعالى به، وقد أكثر الله تعالى في كتابه العزيز ذكر السماء والشمس والقمر؛ لأنّ أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة. ولما كان الطارق يطلق على غير النجم أبهمه أوّلاً، ثم عظم القسم به بقوله تعالى:
{وما أدراك} أي: أعلمك يا أشرف خلقنا، وإن حاولت معرفة ذلك وبالغت في الفحص عنه {ما الطارق} وهذا مبتدأ وخبر في محل المفعول الثاني لأدري، وما بعد ما الأولى خبرها، وفيه تعظيم لشأن الطارق. وأصله كل آت ليلاً ومنه النجوم لطلوعها ليلاً. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وشعبة وابن ذكوان بخلافٍ عنه بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح.k
ثم فسر الطارق بقوله تعالى: { {
{النجم الثاقب} أي: المضيء لثقبه الظلام بضوئه فينفذ فيه كما قيل: دُرِّيّ لأنه يدرؤه، أي: يدفعه، والمراد جنس النجوم أو جنس الشهب التي يرجم بها. وقال محمد بن الحسين: هو زحل. وقال ابن زيد: هو الثريا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الجدي. وقال عليّ: هو نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة فهو طارق حين ينزل وحين يرجع.
وفي الصحاح: الطارق النجم الذي يقال له: كوكب الصبح. قال الماوردي: وأصل الطرق الدق، ومنه سميت المطرقة، وسمي النجم طارقاً لأنه يطرق الجني أي: يقتله. روي أنّ أبا طالب أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذا انحط نجم فامتلأت الأرض نوراً ففزع أبو طالب، وقال: أيّ شيء هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «هذا نجم رمي به وإنه آية من آيات الله تعالى» فعجب أبو طالب فنزلت السورة. وقال مجاهد: الثاقب المتوهج، وجواب القسم.
{إن كل نفس} أي: من الأنفس مطلقاً لا سيما نفوس الناس {لما عليها} أي: بخصوصها {حافظ} وقرأ ابن عامر وعاصم بتشديد الميم والباقون بتخفيفها تكون مزيدة، وإن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي: أنه واللام فارقة وعلى تشديدها فإن نافية، ولما بمعنى إلا. والحافظ: هو المهيمن الرقيب وهو الله تعالى، {وكان الله على كل شيء رقيباً} (الأحزاب: 52) ، {وكان الله على كل شيء مقيتاً} (النساء: 85) ، أو ملك يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير وشرّ. وروى الزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكاً يذبون عنه كما يذب أحدكم عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين اختطفته الشياطين. ولما ذكر تعالى أن على كل نفس حافظاً أتبعه بوصية الإنسان بالنظر في حاله فقال تعالى:
{فلينظر الإنسان} أي: الآنس بنفسه الناظر في عطفه نظر اعتبار في أمره ونشأته(4/516)
الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبته. وقوله تعالى: {مم خلق} استفهام، أي: من أيّ شيء، وجوابه.
{خلق} أي: الإنسان على أيسر وجه وأسهله بعد خلق أبيه آدم عليه السلام من تراب وأمّه حوّاء رضي الله تعالى عنها من ضلعه. {من ماء دافق} أي: مدفوق، فاعل بمعنى مفعول كقوله تعالى: {عيشة راضية} (الحاقة: 21)
أو دافق على النسب، أي: ذي دفق أو اندفاق. وقال ابن عطية: يصح أن يكون الماء دافقاً؛ لأنّ بعضه يدفق بعضاً أي: يدفعه فمنه دافق ومنه مدفوق، والدفق الصب أي: مصبوب في الرحم، ولم يقل تعالى من ماءين فإنه من ماء الرجل وماء المرأة، لأنّ الولد مخلوق منهما لامتزاجهما في الرحم فصارا كالماء الواحد، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه.
{يخرج من بين الصلب} أي: للرجل وهو عظام الظهر {والترائب} أي: للمرأة جمع تريبة وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة، وعن عكرمة: الترائب ما بين ثدييها، وقيل: الترائب التراقي، وقيل: أضلاع الرجل التي أسفل الصدر. وحكى الزجاج: أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة أضلاع من يسرة الصدر. وقال ابن عادل جاء في الحديث: «أنّ الولد يخلق من ماء الرجل يخرج من صلبه العظم والعصب، ومن ماء المرأة يخرج من ترائبها اللحم والدم. وحكى القرطبي: إنّ ماء الرجل ينزل من الدماغ ثم يجتمع في الانثيين، وهذا لا يعارضه قوله تعالى: {من بين الصلب والترائب} لأنه ينزل من الدماغ ثم يجتمع في الانثين قال المهدودي: ومن جعل يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة لضمير للإنسان.
والضمير في قوله تعالى:
{إنه} للخالق المدلول عليه بخلق لأنه معلوم أن لا خالق سواه سبحانه وتعالى وفي الضمير في قوله تعالى: {على رجعه} وجهان أحدهما: أنه ضمير الإنسان أي: بعثه بعد موته {لقادر} وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، والثاني: أنه ضمير الماء، أي: رجع المنيّ في الإحليل أو الصلب وهذا قول مجاهد. وعن الضحاك أنّ المعنى: إنه على ردَّ الإنسان في الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الكبر. وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج؛ لقادر. وقال الماوردي: يحتمل أنه قادر على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه إلى الآخرة؛ لأنّ الكفار يسئلون فيها الرجعة.
وقوله تعالى: {يوم} منصوب برجعه ومن يجعل الضمير في رجعه للماء وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب، أو الإحليل وحاله الأولى نصب الظرف بمضمر، أي: واذكر يوم. {تبلى} تختبر وتكشف، {السرائر} أي: ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرهما وما أخفى الأعمال وذلك يوم القيامة وبلاؤها تعرفها وتصفحها والتمييز بين ما طاب منها وما خبث. وعن الحسن أنه سمع رجلاً ينشد:
*سيبقى لها في مضمر القلب والحشا
... سريرة ودّ يوم تبلى السرائر*
فقال: ما أغفله عما في والسماء والطارق. وقال عطاء بن رباح: إن السرائر فرائض الأعمال كالصوم والصلاة والوضوء والغسل من الجنابة، فإنها سرائر بين الله تعالى وبين العبد، ولو شاء العبد لقال: صمت ولم يصم، وصليت، ولم يصل واغتسلت ولم يغتسل فيختبر حتى يظهر من أداها ممن ضيعها. وقال ابن عمر: يبدي الله تعال كل سرّ فيكون زيناً في وجوه، وشيناً في وجوه. يعني: فمن أدّاها كان وجهه مشرقاً، ومن لم يؤدها كان وجهه أغبر.
{فما له} أي: لهذا الإنسان المنكر للبعث الذي(4/517)
أخرجت سرائره. وأعرق في النفي والتعميم فقال تعالى: {من قوة} أي: منعة في نفسه يمتنع بها {ولا ناصر} أي: ينصره من عذاب الله تعالى فيدفعه عنه. ثم ذكر تعالى قسماً آخر فقال تعالى:
{والسماء} أي: التي تقدّم الإقسام بها، وَصَفَها بما يؤكد العلم بالبعث فقال تعالى: {ذات الرجع} أي: التي ترجع بالدوران إلى الموضع الذي تتحرك عنه فترجع الأحوال التي كانت، وتصرّمت من الليل والنهار والشمس والقمر والكواكب، والفصول من الشتاء وما فيه من برد ومطر، والصيف وما فيه من حرّ وصفاء وسكون، وغير ذلك. وقيل: ذات النفع. وقيل: ذات الملائكة لرجوعهم فيهم بأعمال العبادة. وقيل: ذات المطر لعوده كل حين، أو لما قيل: من أن السحاب تحمل الماء من البحار، ثم ترجعه إلى الأرض، وعلى هذا يجوز أن يراد بالسماء السحاب.
{والأرض} أي: مسكنكم الذي أنتم ملابسوه ومعاينوه كل وقت. {ذات الصدع} أي: تنصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار والعيون، نظيره: قوله تعالى: {ثم شققنا شقاً} (عبس: 26)
الآية والصدع بمعنى الشق لأنه يصدع الأرض فتنصدع، به فكأنما قال تعالى: والأرض ذات النبات. وقال مجاهد: ذات الطرق التي تصدعها المشاة، وقيل: ذات الحرث لأنه يصدعها، وقيل: ذات الأموات لإصداعهم عنها للنشور. قال الرازي: واعلم أنه تعالى كما جعل كيفية خلقة الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد، ذكر في هذا القسم كيفية خلقة النبات فقوله تعالى: {والسماء ذات الرجع} كالأب، وقوله تعالى: {والأرض ذات الصدع} كالأمّ وكلاهما من النعم العظام، لأنّ نعم الدنيا موقوفةٌ على ما ينزل من السماء مكرّراً، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك.
ثم أردف هذا القسم بالمقسم عليه وهو قوله تعالى:
{إنه لقول فصل} وفي هذا الضمير قولان أحدهما: ما قاله القفال: وهو أن المعنى: أنّ ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم يوم تبلى السرائر قول فصل وحق. والثاني: أنه عائد على القرآن، أي: القرآن فاصل بين الحق والباطل كما قيل له: فرقان. قال الرازي: والأوّل أولى؛ لأنّ عود الضمير إلى المذكور السالف أولى انتهى. وأكثر المفسرين على الثاني.
والفصل: الحكم الذي ينفصل به الحق من الباطل، ومنه فصل الخصومات وهو قطعها بالحكم الجزم. ويقال: هذا قول فصل قاطع للشرّ والنزاع معناه جدّ؛ لقوله تعالى:
{وما هو} أي: في باطنه ولا ظاهره {بالهزل} أي: باللعب والباطل بل هو جدّ كله لا هوادة فيه: ومن حقه وقد وصفه الله تعالى بذلك أن يكون مهيباً في الصدور، معظماً في القلوب، يترفع به قارئه وسامعه أن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح، وأن يلقي ذهنه إلى أنّ جبار السموات والأرض يخاطبه فيأمره وينهاه، ويعده ويوعده حتى إن لم يستفزه الخوف، ولم تتبالغ فيه الخشية، فأدنى أمره أن يكون جاداً غير هازل، فقد نفى الله تعالى عن المشركين ذلك في قوله تعالى: {وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون} (النجم: 61)
{والغوا فيه} (فصلت: 26)
هذا على عود الضمير للقرآن، وعلى جعله للأوّل فيكون الشخص خائفاً وجلاً من ذلك الذي تبلى فيه السرائر.
{إنهم} أي: الكفار أعداء الله تعالى {يكيدون كيداً} أي: يمكرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه. واختلف في ذلك الكيد، فقيل: إلقاء الشبهات كقولهم {إن هي إلا حياتنا الدنيا} (الأنعام: 29)
{من يحيي العظام وهي رميم} (يس: 78)
{أجعل الآلهة إلهاً واحداً} (ص: 5)
وما أشبه ذلك وقيل: قصدهم قتله لقوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} (الأنفال: 30)(4/518)
الآية. وأما قوله تعالى:
{وأكيد} أي: أنا بإتمام اقتداري {كيداً} فاختلف فيه أيضاً، فقيل: معناه أجازيهم جزاء كيدهم، وقيل: هو ما أوقع الله تعالى بهم يوم بدر من القتل والأسر، وقيل: استدراجهم من حيث لا يعلمون، وقيل: كيد الله تعالى لهم بنصره وإعلاء درجته تسمية لأحد المتقابلين باسم الآخر لقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى: 40)
. وقول الشاعر:
*ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا*
وكقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} (التوبة: 67)
{يخادعون الله وهو خادعهم} (النساء: 142)
ولما كان هذا معلماً بأنهم عدم لا اعتبار بهم، قال تعالى مسبباً عنه تهديداً لهم {فمهل الكافرين} أي: فمهل يا أشرف الخلق هؤلاء البعداء، ولا تستعجل بالانتقام ولا بالدعاء عليهم بإهلاكهم فإنا لا نعجل لأنّ العجلة وهي إيقاع الشيء في غير وقته الأليق به نقص. وقوله تعالى: {أمهلهم} تأكيد حسنه مخالفة اللفظ، أي: أنظرهم {رويداً} أي: قليلاً، وهو مصدر مؤكد لمعنى العامل مصغر، روداً وأرواداً على الترخيم، وقد أخذهم الله تعالى ببدر ونسخ الإمهال بالأمر بالجهاد والقتال.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله تعالى بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات» حديث موضوع.
سورة الأعلى مكية
في قول الجمهور وقال الضحاك مدنية، قال النووي: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحيها لكثرة مااشتملت عليه من العلوم والخبرات، وهي تسع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وأربعة وثمانون حرفاً.
{بسم الله} عالم الغيب فلا تخفى عليه خافية {الرحمن} الذي عمّ جوده كل أنس وجنّ وملك ودابة {الرحيم} الذي خص أولياءه بمعرفتهم إحسانه.
واختلف في قوله سبحانه وتعالى: {سبح اسم ربك} فالأكثرون على أن المعنى: نزه ربك المحسن إليك بعد إيجادك على صفة الكمال عما لا يليق به، فاسم زائد، كقول لبيد:
* ... إلى الحول ثم اسم السلام عليكما*
وقيل: عَظِّمْ ربك {الأعلى} والاسم زائد كما مرّ، قصد به تعظيم المسمى، وذكر الطبري أن المعنى: نزه اسم ربك الأعلى عن أن تسمي به أحداً سواه. وقيل: نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم لذكره وقال الرازي: معنى {سبح اسم ربك الأعلى} أي: نزِّهْهُ عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه. أما في ذاته فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض، وأما في صفاته فأن تعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهيةٌ ولا ناقصة، وأما في أفعاله فأن تعتقد أنه سبحانه مالك مطلق لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور، وأما في أسمائه فأن لا تذكره سبحانه إلا بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجهٍ من الوجوه، سواءٌ ورد الإذن فيها أم لم يرد، وأما في أحكامه سبحانه فأن تعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه بل لمحض المالكية. قال البغوي: ويحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحد، لأنّ أحداً لا يقول سبحان الله. وسبحان اسم ربنا إنما يقول: سبحان الله وسبحان ربنا. فكان معنى: {سبح اسم(4/519)
ربك} اه. وكون الاسم عين المسمى أو غيره قد ذكرتها في مقدّمتي على البسملة والحمدلة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: سبح أي: صل بأمر ربك. وذهب جماعة من الصحابة والتابعين على أنّ المراد قل: سبحان ربي الأعلى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ {سبح اسم ربك الأعلى} فقال: «سبحان ربي الأعلى» . وعن عقبة بن عامر «أنه لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} (الواقعة: 74)
قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجعلوها في ركوعكم» . ولما نزل {سبح اسم ربك الأعلى} قال: اجعلوها في سجودكم» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك. وروي «أنّ أوّل من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل» .
ولما أمر تعالى بالتسبيح فكان سائلاً قال: الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة فما الدليل على وجود الرب تعالى؟
فقال تعالى: {الذي خلق} أي: أوجد من العدم فله صفة الإيجاد لكل ما أراده لا يعسر عليه شيء {فسوّى} أي: مخلوقه. وقال الرازي: يحتمل أن يريد الناس خاصة، ويحتمل أن يريد الحيوان، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه تعالى، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوهاً: أحدها: اعتدال قامته وحسن خلقه، كما قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} (التين: 4)
وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه بقوله تعالى: {فتبارك الله أحسن الخالقين} (المؤمنون: 14)
. ثانيها: كل حيوان مستعدّ لنوع واحد من الأعمال فقط، أمّا الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع الأعمال بواسطة الآلات. ثالثها: أنه تعالى هيأه للتكليف والقيام بأداء العبادات. وقال بعضهم: خلق في أصلاب الآباء وسوّى في أرحام الأمّهات.
ومن حمله على جميع الحيوانات فمعناه: أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من الآلات والأعضاء، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية: هو أنه تعالى قادرٌ على كل الممكنات، عالمٌ بجميع المعلومات، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفاً بالأحكام والإتقان، مبرّأٌ عن النقص والاضطراب.
وقرأ {والذي قدر} الكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد قال البغوي: وهما بمعنى واحد، أي: أوقع تقديره في أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها وغير ذلك من أحوالها، فجعل البطش لليد، والمشي للرجل، والسمع للأذن، والبصر للعين ونحو ذلك {فهدى} قال مجاهد: هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراعيها. وقال مقاتل والكلبي: في قوله تعالى: {فهدى} عرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى، كما قال تعالى في سورة طه: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه: 50)
أي: الذكر للأنثى. وقال عطاء: جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له. وقيل: قدّر أقواتهم وأرزاقهم وهداهم لمعاشهم إن كانوا أناساً، ولمراعيهم إن كانوا وحوشاً. وقال السدّي: قدّر مدّة الجنين في الرحم ثم هداه إلى الخروج من الرحم، ومن ذلك هدايات الإنسان إلى مصالحه من أغذيته وأدويته وأمور دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض إلى معايشها ومصالحها.
يقال: إن الأفعى إذا أتى عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله تعالى أن تمسح عينيها بورق الرازيانج الغض فيردّ إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوي تلك المسافة على طولها وعماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها فترجع باصرة بإذن الله تعالى.
وقيل: {فهدى} أي: دلهم بأفعاله على توحيده، وكونه عالماً قادراً،(4/520)
والاستدلال بالخلق والهداية معتمد الأنبياء، قال إبراهيم عليه السلام {الذي خلقني فهو يهدين} (الشعراء: 78)
وقال موسى عليه السلام لفرعون: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه: 50)
ولما ذكر سبحانه ما يختص بالناس اتبعه ما يختص بالحيوان فقال تعالى:
{والذي أخرج المرعى} أي: أنبت ما ترعاه الدواب. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المرعى الكلأ الأخضر.
{فجعله} أي: بعد أطوار من زمن إخراجه بعد خضرته {غثاء} أي: جافاً هشيماً {أحوى} أي: أسود يابساً. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون أحوى حالاً من المرعى أي: أخرجه أحوى أي: أسود من شدّة الخضرة والري فجعله غثاء بعد حويه. وقال ابن زيد: هذا مثل ضربه الله تعالى للكفار ولذهاب الدنيا بعد نضارتها.
وقوله تعالى: {سنقرؤك فلا تنسى} بشارة من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإعطاء آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي وهو أمّي لا يكتب ولا يقرأ فيحفظه ولا ينساه، فهو نفيٌ أخبر الله تعالى أنّ نبيه صلى الله عليه وسلم لا ينسى. وقيل: نهيٌ، والألف مزيدة للفاصلة كقوله تعالى: {السبيلا} (الأحزاب: 67)
أي: فلا تفعله كرامةً، وتكريره لئلا ينساه، ومنعه مكي لأنه لا ينهى عما ليس باختياره. وأجيب: بأنّ هذا غير لازم؛ إذ المعنى: النهي عن تعاطي أسباب النسيان وهو شائع. قال الرزاي: وهذه الآية تدل على المعجزة من وجهين.
الأوّل: أنه كان رجلاً أمّياً فحفظه لهذا الكتاب المطوّل من غير دراسة ولا تكرار خارق للعادة فيكون معجزاً.
الثاني: أنّ هذه السورة من أول ما نزل بمكة، فهذا إخبار عن أمر عجيب مخالف للعادة سيقع في المستقبل، وقد وقع فكان هذا إخباراً، فيكون معجزاً.
وفي المشيئة في قوله تعالى: {إلا ما شاء الله} أي: المَلِك الذي له الأمر كله وجوه: أحدها: التبرّك بهذه الكلمة كقوله تعالى:
{ولا تقولنّ لشيءٍ إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23 ـ 24)
فكأنه تعالى يقول: إني عالم بجميع المعلومات، وعالم بعواقب الأمور على التفصيل، ومع ذلك لا أخبر بوقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة، فأنت وأمّتك يا أشرف الخلق أولى بها. ثانيها: قال الفرّاء: إنه تعالى ما شاء أن ينسى محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى يصيره ناسياً لذلك لقدر عليه كقوله تعالى: {ولئن شئنا لنذهبنّ بالذي أوحينا إليك} (الإسراء: 86)
ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك. ونظيره قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} (الزمر: 65)
مع أنه صلى الله عليه وسلم ما أشرك البتة ففائدة هذا الاستثناء أنّ الله تعالى يعرفه قدرته حتى يعلم أنّ عدم النسيان من فضل الله تعالى وإحسانه لا من قوّته.
ثالثها: أنّ الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوّز صلى الله عليه وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي أن يكون ذلك هو المستثنى، فلا جرمٌ بالغ في التثبت والتحفظ في جميع المواضع، فكان المقصود من ذكر الاستثناء بقاؤه صلى الله عليه وسلم على التيقظ في جميع الأحوال.
رابعها: أن ينساه بنسخ تلاوته وحكمه، وكان صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه السلام خوف النسيان فكأنه قيل له: لا تعجل بها إنك لا تنسى ولا تتعب نفسك بالجهر بها.
{إنه} أي: الذي مهما شاء كان {يعلم الجهر} أي: القول والفعل {وما يخفى} أي: منهما، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما في قلبك ونفسك. وقال محمد بن حاتم يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. وقيل: الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك، وما يخفى ما نسخ من صدرك.
وقوله تعالى: {ونيسرك(4/521)
لليسرى} عطف على سنقرؤك، فهو داخل في حيز التنفيس، وما بينهما من الجملة اعتراض. قال الضحاك: واليسرى هي الشريعة اليسرى وهي الحنيفية السهلة.v
وقال ابن مسعود: اليسرى الجنة، أي: نيسرك إلى العمل المؤدّي إلى الجنة، وقيل: اليسرى الطريقة اليسرى، وهي أعمال الخير والأمر في قوله تعالى:
{فذكر} للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: فذكر بالقرآن {إن نفعت الذكرى} أي: الموعظة، وإن شرطية، وفيه استبعاد لتذكرهم. ومنه قول القائل:
*لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي*
ولأنه صلى الله عليه وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوّاً وطغياناً، وكان صلى الله عليه وسلم يتلظى حسرة وتلهفاً ويزداد جهداً في تذكيرهم، وحرصاً عليه فقيل: إن نفعت الذكرى وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير. وقيل: إن بمعنى إذ كقوله تعالى: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} (آل عمران: 139)
وقيل: بعده شيء محذوف تقديره إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع. كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل: 81)
أي: البرد وقاله الفراء والنحاس. وقيل: إن بمعنى ما لا بمعنى الشرط لأنّ الذكرى باقية بكل حال.
ثم بين تعالى من تنفعه الذكرى بقوله سبحانه.
{سيذكر} أي: بوعد لا خلف فيه {من يخشى} أي: يخاف الله تعالى فهي كآية {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} (ق: 45)
وإن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجب عليه تذكيرهم نفعتهم الذكرى أم لم تنفعهم. وقال ابن عباس: نزلت في ابن أمّ مكتوم. وقيل: في عثمان بن عفان. قال الماوردي: وقد تذكر من يرجوه إلا أن تذكر الخاشع أبلغ فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء. وقال القشيري: المعنى: عمم أنت بالتذكير والوعظ وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء. فإن قيل: التذكير إنما يكون بشيء قد علم، وهؤلاء لم يزالوا كفاراً معاندين أجيب: بأنّ ذلك لظهوره وقوّة دليله، كأنه معلوم لكنه يزول بسبب التقليد والفساد.
تنبيه: السين في قوله تعالى: {سيذكر} يحتمل أن تكون بمعنى سوف، وسوف من الله تعالى واجب كقوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} ويحتمل أن يكون المعنى: أنّ من خشي فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التدبر والنظر.
ولما بين تعالى من ينتفع بالذكرى بين من لا ينتفع بها بقوله تعالى:
{ويتجنبها} أي: الذكرى أن يتركها جانباً لا يلتفت إليها {الأشقى} .
{الذي يصلى النار} وهو الكافر. فإن قيل: الأشقى يستدعي وجود شقي فكيف قال هذا القسم؟ أجيب: بأنّ لفظ الأشقى من غير مشاركة كقوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرّاً وأحسن مقيلاً} (الفرقان: 24) ، وقوله تعالى: {وهو أهون عليه} (الروم: 27)
. قال الرازي: الفرق ثلاثة العارف والمتوقف والمعاند، فالسعيد هو العارف، والمتوقف له بعض الشقاوة، والأشقى هو المعاند. وقال الزمخشري: الأشقى هو الكافر؛ لأنه أشقى من الفاسق، أو الذي هو أشقى الكفرة؛ لتوغله في معاداة النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعقبة بن ربيعة.
واختلف في قوله تعالى: {الكبرى} أي: العظمى على وجوه: أحدها: قال الحسن: هي نار جهنم، والصغرى نار الدنيا. ثانيها: أنّ في الآخرة نيراناً ودركات متفاضلة، فكما أنّ الكافر أشقى العصاة فكذلك يصلى أعظم النيران. ثالثها: أنّ النار الكبرى هي النار السفلى فهي نصيب(4/522)
الكفار، كما قال تعالى: {إنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار} (النساء: 145)
. فإن قيل: قوله تعالى:
{ثم لا يموت فيها ولا يحيى} يقتضي أن ثم حالة غير الحياة والموت، وذلك غير معقول. أجيب: عن ذلك بوجهين: أحدهما: لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه كما قال تعالى: {لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} (فاطر: 36)
وهذا جاء على مذهب العرب يقولون للمبتلى بالبلاء الشديد لا هو حيّ ولا هو ميت. ثانيهما: أنّ نفس أحدهم في النار في حلقة لا تخرج فيموت، ولا ترجع إلى موضعها فيحيا.
تنبيه: قوله تعالى: ثم للتراخي بين الرتب في الشدّة.
ولما ذكر تعالى وعيد من أعرض عن النظر في دلائل الله تعالى أتبعه بالوعد لضدّه فقال تعالى:
{قد أفلح} أي: فاز بكل مراد {من تزكى} أي: تطهر من الكفر بالإيمان؛ لما روي عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من تزكى وشهد أي لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله» . وقيل: تطهر للصلاة وأدّى الزكاة.
{وذكر اسم ربه} أي: بقلبه ولسانه مكبراً {فصلى} أي: الصلوات الخمس. قال الزمخشري: وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح وعلى أنها ليست من الصلاة؛ لأنّ الصلاة معطوفة عليها. وقال قتادة: تزكى: عَمِلَ صالحاً. وعن عطاء نزلت في صدقة الفطر. قال ابن سيرين: قد أفلح من تزكى، قال: خرج فصلى بعد ما أدّى زكاة الفطر وصلى صلاة العيد. قال بعضهم: لا أدري ما وجه هذا التأويل فإنّ هذه السورة مكية ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. وأجاب البغوي: بأنه يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم كقوله تعالى: {وأنت حل بهذا البلد} (البلد: 2)
والسورة مكية وظهر أثر الحل يوم الفتح قال صلى الله عليه وسلم «أحلت لي ساعة من نهار» . وقيل: المراد زكاة الأعمال لا زكاة الأموال، أي: زكى أعماله من الرياء والتقصير. وروي عن عطاء أنه قال: إنّ هذه الآية نزلت في عثمان، وذلك أنه كان بالمدينة منافق له نخلة مائلة إلى دار رجل من الأنصار، إذا هبت الريح تساقط منها بسر ورطب في دار الأنصاري فيأكل هو وعياله من ذلك، فخاصمه المنافق، فذكر الأنصاري ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فأرسل خلف المنافق وهو لا يعلم نفاقه فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «إنّ أخاك الأنصاري ذكر أنّ بسرك ورطبك يقع في منزله فيأكل هو وعياله منه فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها؟ قال: أبيع عاجلاً بآجل لا أفعل» فذكروا أنّ عثمان قد أعطاه حائطاً من نخل بدل نخلته. ويقول فيه: {قد أفلح من تزكى} وفي المنافق {ويتجنبها الأشقى} وقال الضحاك: نزلت في أبي بكر
وقرأ {بل تؤثرون الحياة الدنيا} أبو عمرو بياء الغيبة، والباقون بتاء الخطاب، ومعناه على القراءة الأولى: بل تؤثرون الأشقون، وعلى القراءة الثانية: بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا بالعز الحاضر مع أنها شرٌّ وفانية اشتغالاً بها لأجل حضورها كالحيوانات التي هي مقيدة بالمحسوسات على الاستكثار من الثواب.
{والآخرة} ، أي: والحال أنّ الدار التي هي غاية القصد المبرأة عن العيب المنزهة عن الخروج عن الحكمة {خير} ، أي: من الدنيا {وأبقى} لأنها تشتمل على السعادة الجسمانية، والروحانية، ليست كذلك فالآخرة خير من الدنيا ولأنّ الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام والآخرة ليست كذلك، ولأنّ الدنيا فانية والأخرة باقية، والباقي خير من الفاني.
وعن عمر:(4/523)
ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب. وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية فقال: أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قلنا: لا. قال: لأنّ الدنيا أحضرت، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها، وأنّ الآخرة نعتت لنا وزويت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل.
والإشارة في قوله تعالى: {إنّ هذا لفي الصحف الأولى} إلى قوله {قد أفلح من تزكى} إلى قوله {خير وأبقى} ، أي: هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وقيل: إلى ما في السورة كلها، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس. وقال الضحاك: إنّ هذا القرآن لفي الصحف الأولى ولم يرد أنّ هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف، وإنما معناه أنّ معنى هذا الكلام في تلك الصحف.
ثم بين تلك الصحف وهي المنزلة قبل القرآن بقوله تعالى:
{صحف إبراهيم} وقدمه لأنّ صحفه أقرب إلى الوعظ كما نطق به حديث أبي ذر {وموسى} وختم به لأنّ الغالب على كتابة الأحكام والمواعظ فيه قليلة، ومنها الزواجر البليغة كاللعن لمن خالف أوامر التوراة التي أعظمها البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وروي عن أبيّ بن كعب «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كم أنزل الله تعال من كتاب؟ فقال: مائة وأربعة كتب، منها على آدم عشر صحف وعلى شيث خمسون صحيفة، وعلى اخنوخ وهو إدريس ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان» . وقيل: في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه. عارفاً بزمانه، مقبلاً على شأنه. وعن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما ب {سبح اسم ربك الأعلى} و {قل يا أيها الكافرون} وفي الوتر ب {قل هو الله أحد} و {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} » .
وقرأ الأعلى، فسوى، المرعى، أحوى، فلا تنسى، وما يخفى، من يخشى، الأشقى، ولا يحيى، من تزكى، فصلى، الدنيا، وأبقى، الأولى، وموسى حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش وأبو عمرو بين بين، والفتح عن ورش قليل، أمّا الأعلى الذي، والأشقى الذي إذا وقف عليهما فالإمالة، وإن وصلا فلا إمالة والباقون بالفتح. وقرأ: الذكرى، الكبرى، أبو عمرو والكسائي بالإمالة محضة. وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله تعالى على إبراهيم وموسى ومحمد عليهم السلام» . حديث موضوع.
سورة الغاشية
مكية بالإجماع
وهي ست وعشرون آية واثنان وتسعون كلمةوثلاثمائة وإحدى وثمانون حرفاً
{بسم الله} علام الغيوب {الرحمن} كاشف الكروب {الرحيم} الذي خص أولياءه بالعفو عن الذنوب.
وقوله سبحانه وتعالى: {هل أتاك حديث الغاشية} فيه وجهان: أحدهما: أنّ هل بمعنى قد، أي: قد جاءك يا أشرف الخلق حديث الغاشية، كقوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} (الإنسان: 1)
. قال قطرب: والثاني: أنه استفهام على حاله، وتسميه أهل البيان التشويق، والمعنى: إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك وهو معنى قول الكلبي، والغاشية: الداهية التي تغشى الناس(4/524)
بشدائدها وتلبسهم أهوالها وهي القيامة من قوله: {يوم يغشاهم العذاب} (العنكبوت: 55)
وقيل: هي النار من قوله تعالى: {وتغشى وجوههم النار} (إبراهيم: 50)
{ومن فوقهم غواش} (الأعراف: 41)
. وقيل: المراد النفخة الثانية للبعث لأنها تغشى الخلق. وقيل: الغاشية أهل النار يغشونها ويقتحمون فيها.
{وجوه} ، أي: كثيرة جدّاً كائنة {يومئذ} ، أي: يوم إذ غشيت {خاشعة} ، أي: ذليلة من الخجل والفضيحة والخوف من العذاب، والمراد بالوجوه في الموضعين: أصحابها. { {
{عاملة ناصبة} ، أي: ذات نصب وتعب. قال سعيد بن جبير عن قتادة: تكبرت في الدنيا عن طاعة الله تعالى فأعملها الله تعالى وأنصبها في النار بجرّ السلاسل الثقال وحمل الأغلال، والوقوف حفاة عراة في العَرَصَات في يوم كان مقداره ألف سنة. وقال ابن مسعود: تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل. وقال الحسن: لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب له فأعملها وأنصبها في جهنم. وقال ابن عباس: هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله تعالى على الكفر، مثل عبدة الأوثان والرهبان وغيرهم لا يقبل الله تعالى منهم إلا ما كان خالصاً له. وعن علي أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» الحديث.
وقرأ {تصلى} أبو عمرو وشعبة بضم التاء الفوقية على ما لم يسم فاعله، والباقون بفتحها على تسمية الفاعل، والضمير على كلتا القراءتين للوجوه. والمعنى: تدخل {ناراً حاميةً} ، أي: شديدة الحرّ قد أحميت وأوقدت مدّة طويلة، ومنه حمى النار بالكسر، أي: اشتدّ حرّه. وحكى الكسائي اشتدّ حمى الشمس وحموها بمعنى. قال صلى الله عليه وسلم «أوقد عليها ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسوّدت فهي سوداء مظلمة» . وقيل: المصلى عند العرب أن يحفروا حفيراً فيجمعون فيه جمراً كثيراً، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه، فأمّا ما شوي فوق الجمر أو على المقلى أو في التنور فلا يسمى مصلياً.
ولما بين تعالى مكانهم ذكر شرابهم فقال تعالى: {تسقى من عين آنية} ، أي: شديدة الحرارة كقوله تعالى: {بين حميم آن} (الرحمن: 44)
متناه في الحرارة. روي أنه لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لأذابتها.
ولما ذكر تعالى شرابهم أتبعه بذكر طعامهم فقال تعالى: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} قال مجاهد: هو نبت ذو شوك لاطىء بالأرض تسميه قريش الشبرق، فإذا هاج سموه الضريع، وهو أخبث طعام وأبشعه. قال الكلبي: لا تقربه دابة إذا يبس. وقال ابن زيد: أمّا في الدنيا فإنّ الضريع الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار. وجاء في الحديث عن ابن عباس يرفعه: «الضريع شيء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة، وأشد حرّاً من النار» قال أبو الدرداء والحسن: «إنّ الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بالضريع ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون فيعطشهم ألف سنة، ثم يسقون من عين آنية لا هنيئة ولا مريئة، فلما أدنوه من وجوههم سلخ جلود وجوههم وشواها فإذا وصل بطونهم قطعها فذلك قوله تعالى: {وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم} (محمد: 15)
. قال بعض المفسرين: فلما نزلت هذه(4/525)
الآية قال المشركون: إنّ إبلنا لتسمن على الضريع، وكذبوا في ذلك فإنّ الإبل إنما ترعاه ما دام رطباً ويسمى شبرقاً فإذا يبس لا يأكله شيء. قال أبو ذؤيب يصف حماراً:
*رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وصار ضريعاً بان عنه النحائص*
والنحوص: من الأتن التي لا لبن لها.
ولما قالوا ذلك أنزل الله تعالى تكذيباً لهم: {لا يسمن ولا يغني} ، أي: يكفي كفاية مبتدأة {من جوع} فلا يحفظ الصحة ولا يمنع الهزال فنفى السمن والشبع عنه، وعلى تقدير أن يصدقوا فيكون المعنى: أنّ طعامكم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع. فإن قيل: كيف قيل: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} وفي الحاقة: {ولا طعام إلا من غسلين} (الحاقة: 36)
أجيب: بأنّ العذاب ألوان والمعذبون طبقات، فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع لكل باب منهم جزء مقسوم.
ولما ذكر تعالى وعيد الكفار أتبعه بشرح أحوال المؤمنين فقال تعالى: {وجوه يومئذٍ} ، أي: يوم تغشى الناس ووصفها بصفات الأولى قوله تعالى: {ناعمة} ، أي: ذات بهجة وحسن كقوله تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} (المطففين: 24)
أو متنعمة. قال مقاتل: في نعمة وكرامة. الصفة الثانية: قوله تعالى:
{لسعيها} ، أي: في الدنيا بالأعمال الصالحة {راضيةٌ} ، أي: في الآخرة بثواب سعيها حين رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة الصفة الثالثة قوله تعالى:
{في جنة} ثم توصف الجنة بصفات الأولى قوله تعالى: {عالية} ، أي: علية المحل والقدر، والصفة الثانية: قوله تعالى:
{لا يسمع فيها لاغية} قرأ بالتاء الفوقية نافع مضمومة لاغية بالرفع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء التحتية مضمومة لاغية بالرفع لقيامها مقام الفاعل، والباقون بالتاء الفوقية مفتوحة لاغية بالنصب فيجوز أن تكون التاء للخطاب، أي: لا تسمع أنت وأن تكون للتأنيث، أي: لا تسمع الوجوه واللغو. وقال ابن عباس: الكذب والبهتان والكفر بالله تعالى. وقال قتادة: لا با طل ولا إثم. وقال الحسن: هو الشتم. وقال الفراء: الحلف الكاذب، والأولى كما قيل: لا يسمع في كلامهم كلمة ذات لغو، وإنما يتكلمون بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم وهذا أحسن الأقوال قاله القفال. وقال الكلبي: لا يسمع في الجنة حالف بيمين لا برّة ولا فاجرة.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: {فيها} ، أي: الجنة {عين جارية} قال الزمخشري: يريد عيوناً في غاية الكثرة كقوله تعالى: {علمت نفس} (التكوير: 14)
وقال القفال: فيها عين شراب جارية على وجه الأرض في غير أخدود، وتجري لهم كما أرادوا.
الصفة الرابعة: قوله تعالى: {فيها سرر مرفوعة} ، أي: عالية في الهواء. قال ابن عباس: ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء ما لم يجيء أهلها، فإذا أرادوا أن يجلسوا عليها تواضعت ثم ترتفع على مواضعها.
الصفة الخامسة قوله تعالى: {وأكواب موضوعة} جمع كوب، وهي الكيزان التي لا عرى لها. قال قتادة: فهي دون الإبريق.
وفي قوله تعالى: {موضوعة} وجوه أحدها: أنها معدّة لأهلها كالرجل يلتمس من الرجل شيئاً فيقول هو ههنا موضوع بمعنى معدّ. ثانيها: موضوعة على حافات العين الجارية كلما أرادوا الشرب وجدوها مملوءة من الشراب. ثالثها: موضوعة بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب أو فضة أو من جواهر(4/526)
وتلذذهم بالشرب فيها رابعها: أن يكون المراد موضوعة عن حدّ الكبر، أي: هي أوساط بين الكبر والصغر كقوله {قدّروها تقديراً} (الإنسان: 16)
الصفة السادسة: قوله تعالى:
{ونمارق} وهي الوسائد، واحدها: نمرقة بضم النون والراء وكسرهما لغتان أشهرهما الأولى وهي وسادة صغيرة قالت:
*نحن بنات طارق
... نمشي على النمارق*
{مصفوفة} أي: واحدة على جنب واحدة أخرى قال الشاعر:
*كهولاً وشباناً حساناً وجوههم ... لهم سرر مصفوفة ونمارق*
الصفة السابعة: قوله تعالى: {وزرابيّ} وهي جمع زربية بفتح الزاي وكسرها لغتان مشهورتان وهي بسط عراض فاخرة. وقال ابن عباس: الطنافس التي لها خمل، أي: وبر رقيق. واختلف في قوله تعالى: {مبثوثة} فقال قتادة: مبسوطة. وقال عكرمة: بعضها فوق بعض. وقال الفراء: كثيرة. وقال القتيبي: مفرّقة في المجالس. قال القرطبي: وهذا أصح فهي كثيرة متفرّقة ومنه قوله تعالى: {وبث فيها من كل دابة} (البقرة: 164)
ولما ذكر تعالى أمر الدارين تعجب الكفار من ذلك فكذبوه وأنكروه فذكرهم الله تعالى صنعه وقدرته بقوله تعالى:
{أفلا ينظرون} ، أي: المنكرون لقدرته سبحانه وتعالى على الجنة، وما ذكر فيها، والنار وما ذكر فيها، أي: نظر اعتبار. {إلى الإبل} ونبه على أنه عجيب خلقها مما ينبغي أن تتوفر الدعاوي على الاستفهام والسؤال عنه بأداة الاستفهام، فقال تعالى:
{كيف خلقت} ، أي: خلقاً عجيباً دالاً على كمال قدرته وحسن تدبيره، حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرّها إلى البلاد النائية فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعارض ضعيفاً ولا تنازع صغيراً وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار. وعن بعض الحكماء أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه وقد نشأ في بلاد لا إبل بها فتفكر، ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق وحين أراد بها أن تكون سفائن البرّ صبرها على احتمال العطش، حتى إنّ ظماءها لتصبر على عشر فصاعداً ليتأتى لها قطع البراري والمفاوز مع ما لها من منافع أخر، ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المثبتة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً، ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع لأنها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا ترعاه سائر البهائم.
وعن سعيد بن جبير قال: لقيت شريحاً القاضي فقلت له: أين تريد؟ قال: أريد الكناسة، قلت: وما تصنع بها؟ قال: أنظر إلى الإبل كيف خلقت.
تنبيه: الإبل اسم جمع واحده بعير وناقة وجمل ولا واحد لها من لفظها. وقال المبرد: الإبل هنا القطع العظيمة من السحاب. قال الثعلبي: ولم أجد لذلك أصلاً في كتب الأئمة.
وقال الماوردي: وفي الإبل وجهان: أظهرهما: أنها الإبل، والثاني: أنها السحاب فإن كان المراد بها السحاب فلما فيها من الآيات والدلالات الدالة على قدرته والمنافع العامّة لجميع خلقه، وإن كان المراد بها الإبل فلأنّ الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوانات لأنّ ضروب الحيوان أربعة حلوبة وركوبة وأكولة وحمولة والإبل تجمع هذه الخلال الأربع، فكانت النعمة بها أعم وظهور القدرة فيها أتم وقيل للحسن: الفيل أعظم من الأعجوبة فقال العرب: بعيدة العهد بالفيل(4/527)
ثم هو لا يؤكل لحمه ولا يركب ولا يحلب درّه.
{وإلى السماء} التي هي من جملة مخلوقاتنا {كيف رفعت} ، أي: رفعاً بعيداً بلا إمساك وبغير عمد على ما لها من السعة والكبر والثقل والإحكام، وما فيها من الكواكب والغرائب والعجائب.
{وإلى الجبال} ، أي: الشامخة وهي أشد الأرض {كيف نصبت} نصباً ثابتاً فهي راسية لا تميل ولا تزول كما قال تعالى: {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم} (الأنبياء: 31)
{وإلى الأرض} ، أي: على سعتها {كيف سطحت} سطحاً بتمهيد وتوطئة فهي مهاد للتقلب عليها. واستدلّ بعضهم بذلك على أنّ الأرض ليست بكرة. قال الرزاي: وهو ضعيف لأنّ الكرة إذا كانت في غاية العظمة تكون كل قطعة منها كالسطح. فإن قيل: كيف حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض ولا مناسبة؟ أجيب: بأنّ من فسرها بالسحاب فالمناسبة ظاهرة، وذلك على طريق التشبيه والمجاز، ومن فسرها بالإبل فالمناسبة بينها وبين السماء والأرض والجبال من وجهين:
أحدهما: أنّ القرآن نزل على العرب وكانوا يسافرون كثيراً ويسيرون عليها في أوديتهم وبواديهم مستوحشين ومنفردين عن الناس، والإنسان إذا انفرد أقبل على التفكر في الأشياء لأنه ليس معه من يحادثه وليس هناك ما يشغل به سمعه وبصره، فلا بدّ من أن يجعل دأبه التفكر فإذا تفكر في تلك الحال فأوّل ما يقع بصره على البعير الذي هو راكبه فيرى منظراً عجيباً، وإن نظر إلى فوق لم ير غير السماء وإن نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإن نظر إلى تحت لم ير غير الأرض فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر.
ثانيهما: أنّ جميع المخلوقات دالة على الصانع جلت قدرته إلا أنها قسمان منها ما للشهوة فيه حظ كالوجه الحسن والبساتين النزهة والذهب والفضة، فهذه مع دلالتها على الصانع قد يمنع استسحانها عن كمال النظر فيها ومنها ما لا حظ فيه للشهوة كهذه الأشياء فأمر بالنظر فيها؛ إذ لا مانع من إكمال النظر فيها. وقال عطاء عن ابن عباس: كأن الله تعالى يقول هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل، أو يرفع مثل السماء، أو ينصب مثل الجبال، أو يسطح مثل الأرض غيري.
ولما بين تعالى الدلائل على صحة التوحيد والمعاد قال سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم
{فذكر} ، أي: بنعم الله تعالى ودلائل توحيده وعظهم بذلك وخوّفهم يا أشرف الخلق {إنما أنت مذكر} فلا عليك أن لا ينظروا ولم يذكروا أو ما عليك إلا البلاغ كما قال تعالى: {إن عليك إلا البلاغ} (الشورى: 48)
{لست عليهم بمسيطر} ، أي: بمسلط فتقتلهم وتكرههم على الإيمان كقوله تعالى: {وما أنت عليهم بجبار} (ق: 50)
وهذا قبل الأمر بالجهاد. وقرأ هشام بالسين وقرأ حمزة بخلاف عن خلف بإشمام الصاد كالزاي، والباقون بالصاد الخالصة.
وقوله تعالى: {إلا من تولى} استثناء منقطع، أي: لكن من تولى عن الإيمان {وكفر} ، أي: بالقرآن.
{فيعذبه الله} ، أي: الذي له الكمال كله بسبب تكبره عن الحق ومخالفته لأمرك {العذاب الأكبر} ، أي: عذاب الآخرة لأنهم عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر. وقيل: استثناء متصل فإنّ جهاد الكفار وقتلهم تسليط فكأنه أوعدهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة وقيل: هو استثناء من قوله تعالى: {فذكر} إلا من انقطع طمعك من إيمانه، وتولى فاستحق العذاب(4/528)
الأكبر وما بينهما اعتراض.
{إن إلينا} ، أي: خاصة بما لنا من العظمة {إيابهم} ، أي: رجوعهم بعد البعث.
{ثم إنّ علينا} ، أي: خاصة بما لنا من القدرة والتنزه عن نقص العيب والجور وكل نقص لا على غيرنا {حسابهم} ، أي: جزاءهم فلا نتركه أبداً، وفي هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه كان يشق عليه تكذيبهم.
فإن قيل: ما معنى تقديم الظرف؟ أجيب: بأنّ معناه التشديد في الوعيد، وإنّ إيابهم إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وإنّ حسابهم ليس إلا عليه وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ الغاشية حاسبه الله حساباً يسيراً» حديث موضوع.
سورة الفجر
مكية
وقيل: مدنية وهي تسع وعشرون آية وقيل: ثلاثون آية ومائةوتسع وثلاثون كلمة وخمسمائة وسبعة وتسعون حرفاً
{بسم الله} الملك المعبود {الرحمن} الذي عمّ خلقه بالكرم والجود {الرحيم} الذي سدّد أهل عنايته بفضله فهو الحليم الودود.
وقوله تعالى: {والفجر} ، أي: فجر كل يوم قسم كما أقسم بالصبح في قوله تعالى: {والصبح إذا أسفر} (المدثر: 34)
{والصبح إذا تنفس} (التكوير: 18)
وقال قتادة: هو فجر أوّل يوم من المحرّم تتفجر منه السنة. وقال الضحاك: فجر ذي الحجة، وقيل: ذلك على مضاف محذوف، أي: وصلاة الفجر. وقيل: ورب الفجر وتقدّم أنّ الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته، واختلف في قوله تعالى:
{وليال عشر} فقال مجاهد وقتادة: هو عشر ذي الحجة. وقال الضحاك: هو العشر الأوّل من رمضان. وعن ابن عباس: أنه العشر الأخير من رمضان. وعن يمان بن رباب هو العشر الأوّل من المحرّم التي عاشرها يوم عاشوراء، ولصومه فضل عظيم. فإن قيل: لم ذكر الليالي من بين ما أقسم به؟ أجيب: بأنّ ذلك للتعظيم.
{والشفع} ، أي: الزوج {والوتر} ، أي: الفرد، وقيل: الشفع الخلق كلهم قال الله تعالى: {وخلقناكم أزواجاً} (النبأ: 8)
والوتر هو الله تعالى. قاله أبو سعيد الخدري. وقال مجاهد ومسروق: الشفع الخلق كله، قال الله تعالى: {ومن كل شيء خلقنا زوجين} (الذاريات: 49)
الكفر والإيمان، والهدى والضلال، والسعادة والشقاوة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والجنّ والإنس، والوتر هو الله تعالى {قل هو الله أحد} (الإخلاص: 1)
. وقال قتادة: هما الصلوات منها شفع ومنها وتر. روى ذلك عن عمران بن حصين مرفوعاً وعن ابن عباس الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب. وقال الحسين بن الفضل: الشفع درجات الجنة لأنها ثمان، والوتر دركات النار لأنها سبع دركات. سئل أبو بكر الوراق عن الشفع والوتر فقال: الشفع تضاد أوصاف المخلوقين من العز والذل، والقدرة والعجز، والقوّة والضعف، والعلم والجهل، والبصر والعمى. والوتر انفراد صفات الله سبحانه وتعالى عز بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوّة بلا ضعف، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت. وعن عكرمة الوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر، واختاره النحاس وقال هو الذي صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيوم عرفة وتر لأنه تاسعها ويوم النحر شفع لأنه عاشرها.(4/529)
وقال ابن الزبير: الشفع الحادي عشر والثاني عشر من أيام منى، والوتر الثالث عشر. وقال الضحاك: الشفع عشر ذي الحجة والوتر أيام منى الثلاثة. وقيل: الشفع والوتر آدم عليه السلام كان وتراً فشفع بزوجته حوّاء، حكاه القشيريّ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقرأ حمزة والكسائيّ بكسر الواو والباقون بفتحها وهما لغتان الفتح لغة قريش ومن والاها والكسر لغة تميم.
وقوله تعالى: {والليل إذا يسر} قسم خامس بعدما أقسم بالليالي العشر على الخصوص أقسم به على العموم، ومعنى يسر سار وذهب كما قال الله تعالى: {والليل إذا أدبر} (المدثر: 33)
. وقال قتادة: إذا جاء وأقبل وقيل: معنى يسر، أي: يسري فيه كما يقال: ليل نائم ونهار صائم، ومنه قوله تعالى: {بل مكر الليل والنهار} (سبأ: 33)
وقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء بعد الراء وصلاً لا وقفاً، وأثبتها ابن كثير في الحالين، وحذفها الباقون في الحالين لسقوطها في خط المصحف الكريم وإثباتها هو الأصل لأنها لام فعل مضارع مرفوع، ومن فرق بين حالتي الوقف والوصل فلأنّ الوقف محل استراحة وسئل الأخفش عن العلة في سقوط الياء فقال: الليل لا يسري ولكن يسري فيه فهو مصروف فلما صرفه تجنبه حظه من الإعراب كقوله تعالى: {وما كانت أمك بغياً} (مريم: 28)
ولم يقل بغية، لأنه صرفه عن باغية وهذه الأسماء كلها مجرورة بالقسم والجواب محذوف تقديره: لتعذبن يا كفار مكة بدليل قوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد} إلى قوله تعالى: {فصبّ عليهم ربك سوط عذاب إنّ ربك لبالمرصاد} وما بينهما اعتراض.
وقوله تعالى: {هل في ذلك} ، أي: القسم والمقسم به {قسم} ، أي: حلف أو محلوف {لذي حجر} استفهام معناه التقرير، كقولك: ألم أنعم عليك إذا كنت قد أنعمت أو المراد منه التأكيد لما أقسم عليه كمن ذكر حجة بالغة، ثم قال: هل فيما ذكرته حجة والمعنى: إنّ من كان ذا لب علم أنّ ما أقسم الله تعالى به هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه والحجر العقل لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي كما يسمى عقلاً ونهية لأنه يعقل وينهى وحصاه من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفراء: يقال إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها.
وقوله تعالى: {ألم تر} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولكن المراد به العموم والمراد بالرؤية العلم، أي: ألم تعلم يا أشرف رسلنا {كيف فعل ربك} ، أي: المحسن إليك بأنواع النعم {بعاد} {إرم} وهو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ثم إنهم جعلوا لفظ عاد اسماً للقبيلة كما يقال لبني هاشم: هاشم، ولبني تميم: تميم، ثم قيل: للأوّلين منهم عاد الأولى، وإرم تسمية لهم باسم جدهم ولمن بعدهم عاد الأخيرة. فإرم في قوله تعالى: {عاد إرم} عطف بيان لعاد وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة وقيل: إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها. وقوله تعالى: {ذات} ، أي: صاحبة {العماد} فينظر فيه إن كانت صفة للقبيلة فالمعنى: أنهم كانوا بدويين أهل عمد وطوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة. وقيل: ذات البناء الرفيع وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى: أنها ذات أساطين وروي أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال: أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من(4/530)
الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثم وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها جل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل.
وقوله تعالى: {التي لم يخلق مثلها في البلاد} صفة أخرى لإرم فإن كانت للقبيلة فلم تخلق مثل عاد في البلاد عظم أجرام وقوّة. قال الزمخشري: كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيقلبها على الحي فيهلكهم. وروي عن مالك أنه كانت تمرّ بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة. وإن كانت للبلدة فلم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا، والمقصود من هذه الحكاية زجر الكفار فإنّ الله تعالى بين أنه أهلكهم بما كفروا وكذبوا الرسل مع الذي اختصوا به من هذه الوجوه، فلأن تكونوا مثل ذلك أيها الكفار إذا أقمتم على كفركم مع ضعفكم أولى وقد ذكركم الله تعالى ثلاث قصص هذه القصة الأولى.
وأما الثانية: فهي في قوله تعالى: {وثمودا الذين جابوا} ، أي: قطعوا {الصخر} جمع صخرة وهي الحجر واتخذوها بيوتاً كقوله تعالى: {وتنحتون من الجبال بيوتاً} (الشعراء: 149)
. {بالواد} ، أي: وادي القرى، قيل: أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة. وقيل: سبعة آلاف مدينة كلها من الحجارة.
تنبيه: أثبت الياء ورش وابن كثير وصلاً، وأثبتها وقفاً ابن كثير بخلاف عن قنبل.
{س89ش10/ش14 وَفِرْعَوْنَ ذِى ا?وْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا? فِى الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا? فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}
وأما القصة الثالثة: فهي في قوله تعالى: {وفرعون} ، أي: وفعل بفرعون {ذي الأوتاد} واختلف في تسميته بذلك على وجهين:
أحدهما: أنه سمي بذلك عل كثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا.
والثاني: أنه كان يتد أربعة أوتاد يشدّ إليها يدي ورجلي من يعذبه وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنّ فرعون إنما سمي ذا الأوتاد لأنه كانت امرأة وهي امرأة خازنه حزقيل، وكان مؤمناً كتم إيمانه مائة سنة وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذا سقط المشط من يدها فقالت: تعس من كفر بالله، فقالت بنت فرعون: وهل لك إله غير أبي؟ فقال: إلهي وإله أبيك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي، قال: ما يبكيك؟ فقالت: الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهك وإلهها وإله السموات والأرض واحد لا شريك له، فأرسل إليها فسألها عن ذلك، فقالت: صدقت. فقال لها: ويحك اكفري بإلهك وأقرّي بأني إلهك، قالت: لا أفعل فمدّها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب، وقال لها: اكفري بالله وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين فقالت له: لو عذبتني سبعين شهراً ما كفرت بالله، وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها، وقال لها: اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على فيك وكانت رضيعة فقالت: لو ذبحت من في الأرض على فيّ ما كفرت بالله عز وجل، فأتى بابنتها فلما اضجعت على صدرها وأراد ذبحها جزعت المرأة(4/531)
فانطق الله تعالى لسان ابنتها فتكلمت، وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالاً وقالت: يا أمّاه لا تجزعي فإن الله تعالى قد بنى لك بيتاً في الجنة فاصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله تعالى وكرامته، فذبحت فلم تلبث أن ماتت فاسكنها الله تعالى الجنة قال: وبعث في طلب زوجها حزقيل: فلم يقدروا عليه، فقيل: لفرعون: إنه قد زوى في موضع كذا في جبل كذا فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلي ويليه صفوف من الوحوش خلفه يصلون خلفه، فلما رأيا ذلك انصرفا فقال حزقيل: اللهم أنت تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ولم يظهر عليّ أحد فأيما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجل في عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة
إلى النار، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن، وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رؤوس الملأ فقال له فرعون: وهل معك غيرك؟ قال: نعم فلان فدعى به، فقال: حق ما يقول هذا؟ قال: لا ما رأيت كما قال شيئاً فأعطاه فرعون فأجزل وأما الآخر فقتله ثم صلبه. قال: وكان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت: وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي من فرعون وأنا مسلمة وهو كافر، فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريباً منها، فقالت: يا فرعون أنت أشر الخلق وأخبثه عمدت على الماشطة فقتلتها، فقال: لعل بك الجنون الذي كان بها؟ قالت: ما بي من جنون، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فمزق ما عليها وضربها وأرسل على أبويها فدعاهما فقال لهما: ألا تريان أنّ الجنون الذي كان بالماشطة أصابها. قالت: أعوذ بالله من ذلك إني أشهد أن ربي وربك ورب السموات والأرض واحد لا شريك له، فقال أبوها: يا آسية ألست من خير نساء العماليق وزوجك إله العماليق، قالت: أعوذ بالله من ذلك إن كان ما يقول حقاً فقولا له أن يتوّجني تاجاً تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله، فقال لهما فرعون: أخرجاها عني فمدّها بين أربعة أوتاد يعذبها ففتح الله لها باباً إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت: {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله} (التحريم: 11)
فقبض الله تعالى روحها وأدخلها الجنة. وروي عن أبي هريرة أنّ فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وجعل على صدرها رحاً واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت: {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة} ففرج الله تعالى عن بيتها في الجنة فرأته.
وقوله تعالى: {الذين طغوا} ، أي: تجبروا {في البلاد} في محل نصب على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعاً على هم الذين طغوا في البلاد، أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون فالضمير يرجع لعاد وثمود وفرعون وقيل: يرجع إلى فرعون خاصة.
{فأكثروا} ، أي: طغاتهم {فيها الفساد} ، أي: بالقتل والكفر والمعاصي قال القفال: وبالجملة فالفساد ضد الصلاح يتناول جميع أقسام البر، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم فمن عمل بغير أمر الله تعالى وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد.
{فصب} ، أي: أنزل إنزالاً هو في غاية القوة {عليهم} ، أي: في الدنيا {ربك} ، أي: المحسن إليك بكل جميل {سوط} ، أي: نوع {عذاب} وقال قتادة: يعني ألواناً من العذاب صبه عليهم، وقال أهل المعاني هذا على(4/532)
الاستعارة لأن السوط عندهم غاية العذاب. وقال الفراء: هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب، وأصل ذلك أنّ السوط هو عذابهم الذي يعذبون به فجرى إلى كلّ عذاب إذا كان فيه غاية العذاب. وقال الزجاج: جعل سوطهم الذي ضربهم به العذاب.
وعن الحسن أنه كان إذا أتى على هذه الآية قال: إنّ الله تعالى عنده أسواط كثيرة فأخذهم بسوط منها. وقال قتادة: كل شيء عذب الله تعالى به فهو سوط، وشبه بصب السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه.
{إنّ ربك} ، أي: المحسن إليك بالرسالة {لبالمرصاد} ، أي: يرصد أعمال العباد لا يفوته منها شيء ليجازيهم عليها والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد، مفعال من رصده كالميقات من وقته، وهذا مثل لإرصاد العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه. وعن بعض العرب أنه قيل: له: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد أنه قرأ هذه السورة عند المنصور حتى بلغ هذه فقال: {إنّ ربك لبالمرصاد} يا أبا جعفر عرّض له في هذا النداء بأنه بعض من توعده بذلك من الجبابرة. قال الزمخشري: فلله دره، أي: أسد فراس كان بين ثوبيه يدق الظلمة بإنكاره ويقصع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه.
وقوله تعالى: {فأما الإنسان} متصل بقوله تعالى: {إنّ ربك لبالمرصاد} فكأنه قيل: إنّ الله تعالى يريد من الإنسان الطاعة والسعي للعاقبة، وهو لا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها {إذا ما ابتلاه} ، أي: اختبره بالنعمة {ربه} ، أي: الذي أبدعه وأحسن إليه بما يحفظ وجوده ليظهر شكره أو كفره {فأكرمه} ، أي: جعله عزيزاً بين الناس وأعطاه ما يكرمونه به من الجاه والمال {ونعمه} ، أي: جعله متلذذاً مترفهاً بما وسع الله تعالى عليه.
وقوله تعالى: {فيقول} ، أي: سروراً بذلك افتخاراً {ربي أكرمن} ، أي: فضلني بما أعطاني خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، ودخول الفاء لما في أمّا من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير، كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتداء بالأنعام فيظن أنّ ذلك عن استحقاق فيرتفع به.
وكذا قوله تعالى: {وأما إذا ما ابتلاه فقدر} ، أي: ضيق {عليه رزقه} التقدير وأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه، أي: بالفقر ليوازي قسيمه {فيقول} ، أي: الإنسان بسبب الضيق {ربي أهانن} فيهتم لذلك ويضيق به ذرعاً ويكون أكبر همه، وهذا في حق الكافر لقصور نظره وسوء فكره فيرى الكرامة والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته.Y { {
وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: في عتبة بن ربيعة. وقيل: أبي بن خلف. فإن قيل: كيف سمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقتيره ابتلاء؟ أجيب: بأن كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع فالحكمة فيهما واحدة، ونحوه قوله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء: 35)
. فإن قيل: هلا قال فأهانه وقدر عليه رزقه كما قال فأكرمه ونعمه؟ أجيب: بأن البسط إكرام من الله تعالى لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة، وأما التقتير فليس بإهانة له لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ولكن تركاً للكرامة، وقد يكون المولى مكرماً ومهيناً وغير مكرم ولا مهين. وإذا أهدى لك زيد هدية قلت: أكرمني بالهدية، ولا تقول أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد إليك. فإن(4/533)
قيل: قد قال تعالى فأكرمه فصحح إكرامه وأثبته ثم أنكر قوله: {ربي أكرمن} وذمّه عليه كما أنكر قوله: {أهانن} وذمه عليه؟ أجيب: بوجهين:
أحدهما: إنما أنكر قوله: {ربي أكرمن} وذمه عليه لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله تعالى عليه وأثبته، وهو قصده على أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراماً مستحقاً ومستوجباً على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم كقوله: {إنما أوتيته على علم عندي} (القصص:78)
وإنما أعطاه الله تعالى على وجه التفضل من غير استحباب منه له، ولا سابقة مما لا يعتد الله تعالى إلا به، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها.
ثانيهما: أن ينساق الإنكار والذم إلى قوله: {ربي أهانن} يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه، وإذا لم يتفضل عليه يسمى ترك التفضل هواناً وليس بهوان. قال الزمخشري: ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله تعالى: {فأكرمه} وقرأ {ما ابتلاه} في الموضعين حمزة بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح، وقرأ {ربي أكرمن} {ربي أهانن} نافع بإثبات الياء فيهما وصلاً لا وقفاً، وقرأ البزي بإثباتها فيهما وقفاً ووصلاً، وعن أبي عمرو فيهما في الوصل الإثبات والحذف عنه في الوصل أعدل، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً. وقرأ ابن عامر {فقدّر عليه رزقه} بتشديد الدال والباقون بتخفيفها، وهما لغتان معناهما ضيق. وقيل: قدر بمعنى قتر وقدر أعطاه ما يكفيه.
ثم ردّ الله تعالى على من ظن أنّ سعة الرزق إكرام وأنّ الفقر إهانة بقوله تعالى:
{كلا} ، أي: ليس الإكرام بالغنى والإهانة بالفقر إنما هما بالإطاعة والمعصية، وكفار مكة لا ينتبهون لذلك {بل} لهم فعل أشر من هذا القول وهو أنهم {لا يكرمون اليتيم} ، أي: لا يحسنون إليه مع غناهم، أو لا يعطونه حقه من الميراث. قال مقاتل: كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف فكان يدفعه فنزلت:
{ولا يحضون} ، أي: يحثون حثاً عظيماً {على طعام} ، أي: إطعام {المسكين} فيكون اسم مصدر بمعنى الإطعام، ويجوز أن يكون على حذف مضاف، أي: على بذل أو على إعطاء، وفي إضافته إليه إشارة إلى أنه شريك للغنيّ في ماله بقدر الزكاة.
{ويأكلون} على سبيل التجدد والاستمرار {التراث} ، أي: الميراث والتاء في التراث بدل من واو لأنه من الوراثة.
{أكلاً لماً} ، أي: ذا لم واللمّ الجمع الشديد. يقال: لممت الشيء لماً، أي: جمعته جمعاً. قال الحطيئة:
*إذا كان لما يتبع الذم ربه ... فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا*
والجمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا يورثون النساء والصبيان ويأكلون انصباءهم ويأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك، فيلمون في الأكل بين حلاله وحرامه ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفر بالمال مهلاً مهلاً من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلاً واسعاً جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه كما يفعل البطالون.
ولما دل على حب الدنيا بأمر خارجي دل عليه في الإنسان فقال تعالى:
{ويحبون} ، أي: على سبيل الاستمرار {المال} ، أي: هذا النوع من، أي: شيء كان وأكد بالمصدر والوصف فقال تعالى {حباً جماً} ، أي: كثيراً شديداً مع الحرص والشره ومنع الحقوق. وقوله تعالى:
{كلا} ردع لهم عن(4/534)
ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أخبر تعالى عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم فقال عز من قائل: {إذا دكت الأرض} ، أي: حصل دكها ورجها وزلزلتها لتسويتها فتكون كالأديم الممدود بشدّة المط لا عوج فيها بوجه {دكاً دكاً} ، أي: مرّة بعد مرّة، وكسر كل شيء على ظهرها من جبل وبناء وشجر فلم يبق على ظهرها شيء وينعدم.
{وجاء ربك} قال الحسن: أمره وقضاؤه {والملك} ، أي: الملائكة. وقوله تعالى: {صفاً صفاً} حال، أي: مصطفين، أي: ذوي صفوف كثيرة فتنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس. { {
{وجيء} ، أي: بأسهل أمر {يومئذ} ، أي: إذ وقع ما ذكر {بجهنم} ، أي: النار التي تتجهم من يصلاها كقوله تعالى: {وبرزت الجحيم} (النازعات: 36)
ويروى «أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه فأخبروا علياً فجاء فاحتضنه من خلفه وقبل ما بين عاتقيه، ثم قال: يا نبيّ الله بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيرك فتلا عليه الآية. فقال له علي: كيف يجاء بها؟ قال: يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثم تعرض لي جهنم فتقول: ما لك ولي يا محمد إنّ الله تعالى قد حرم لحمك علي فلا يبقى أحد إلا قال: نفسي نفسي إلا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: رب أمّتي أمّتي» . وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: تقاد جهنم بسبعين ألف زمام كل زمام بيد ألف ملك لها تغيظ وزفير حتى تنصب على يسار العرش.
وقوله تعالى: {يومئذ} ، أي: يوم يجاء بجهنم بدل من إذ وجوابها {يتذكر الإنسان} ، أي: يتذكر الكافر ما فرط أو يتعظ لأنه يعلم قبح معاصيه فيندم عليها {وأنى له الذكرى} ، أي: ومن أين له منفعة الذكرى. قال الزمخشري: لا بد من حذف مضاف وإلا فبين {يتذكر} وبين {وأنى له الذكرى} تناف وتناقض.
تنبيه: أنى خبر مقدّم والذكرى مبتدأ مؤخر وله متعلق بما تعلق به الظرف. وقرأ {وأنى} حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وقرأ الدوري عن أبي عمرو بالإمالة بين بين والباقون بالفتح. وقرأ {الذكرى} أبو عمرو وحمزة والكسائيّ بالإمالة محضة، وقرأ ورش بين بين، والباقون بالفتح.
{يقول} ، أي: يقول مع تذكره {يا} للتنبيه {ليتني قدّمت لحياتي} ، أي: في حياتي فاللام بمعنى في، أو قدّمت الإيمان والخير لحياة لا موت فيها، أو وقت حياتي في الدنيا.
{فيومئذ} ، أي: يوم يقول الإنسان ذلك وقرأ {لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد} الكسائي بفتح الذال والثاء على البناء للمفعول، والباقون بكسرهما على البناء للفاعل فأمّا قراءة الكسائي فضمير عذابه ووثاقه للكافر، والمعنى: لا يعذب أحد مثل تعذيبه ولا يوثق مثل إيثاقه، وأما على قراءة الباقين فالضمير فيهما لله تعالى إلى غيره، أو الزبانية المتولين العذاب بأمر الله تعالى.
ولما وصف الله تعالى حال من اطمأن إلى الدنيا وصف حال من اطمأن إلى معرفته وعبوديته وسلم أمره إليه فقال تعالى:
{يا أيتها النفس المطمئنة} قال الحسن، أي: المؤمنة الموقنة. وقال مجاهد: الراضية بقضاء الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بثواب الله تعالى. وقال ابن كيسان: المخلصة. وقال ابن زيد: التي بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث ويوم الجمع، ويقال لها: عند الموت.
{ارجعي إلى ربك} ، أي: إلى أمره وإرادته وقال ابن عباس رضي الله تعالى(4/535)
عنهما: على صاحبك وجسدك. وقال الحسن: إلى ثواب ربك. {راضية} ، أي: بما أوتيته {مرضية} ، أي: عند الله تعالى بعملك، أي: جامعة بين الوصفين لأنه لا يلزم من أحدهما الآخر، وهما حالان. قال القفال: هذا وإن كان أمراً في الظاهرة فهو خبر في المعنى، والتقدير: أنّ النفس إذا كانت مطمئنة رجعت إلى الله تعالى في القيامة بسبب هذا الأمر.
{فادخلي في} ، أي: في جملة {عبادي} ، أي: الصالحين والوافدين عليّ الذين هم أهل الإضافة إليّ، أو في أجساد عبادي التي خرجت في الدنيا منها.
{وادخلي جنتي} ، أي: معهم، هي جنة عدن وهي أعلى الجنان ويجيء الأمر بمعنى الخبر كثيراً في كلامهم كقولهم إذا لم تستح فاصنع ما شئت. وقال سعيد بن زيد: «قرأ رجل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الاية فقال أبو بكر: ما أحسن هذا يا رسول الله فقال له: إنّ الملك سيقوله لك يا أبا بكر» . وقال سعيد بن جبير: مات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالطائف فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط فدخل نعشه لم ير خارجاً منه فلما دفن تليت هذه الاية على شفير القبر لا يدرى من تلاها {يا أيتها النفس} الآية. وروى الضحاك أنها نزلت في عثمان حين وقف بئر رومة وقيل: في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك، فحوّل الله تعالى وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوّله. وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب. قال الزمخشري: والظاهر العموم. وقول البيضاوي تبعاً له أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نوراً يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة البلد
مكية
وهي عشرون آية واثنان وثمانون كلمة وثلاثمائة وعشرون حرفاً
{بسم الله} الملك الذي لا راد لأمره {الرحمن} الذي عم سائر خلقه بفضله {الرحيم} الذي خص أهل طاعته بجنته.
واختلف في لا في قوله تعالى: {لا أقسم} فقال الأخفش: إنها مزيدة، أي: أقسم كما تقدّم في قوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة} (القيامة: 1)
وقد أقسم به سبحانه وتعالى. قال الشاعر: { {
*تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... وكاد صميم القلب لا يتقطع*
أي: يتقطع، ودخل حرف لا صلة، وكقوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد} (الأعراف: 12)
وقد قال تعالى في ص: {ما منعك أن تسجد} وأجاز الأخفش أيضاً أن تكون بمعنى إلا. وقيل: هي نفي صحيح، والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه، حكاه مكي. وأجمعوا على أن المراد بالبلد في قوله تعالى: {بهذا البلد} ، أي: الحرام وهو مكة، وفضلها معروف فإنه تعالى جعلها حرماً آمناً. وقال تعالى: {ومن دخله كان آمناً} (آل عمران: 97)
وجعل مسجده قبلة لأهل المشرق والمغرب. فقال تعالى: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} (البقرة: 144)
وأمر الناس بحج البيت فقال تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع} (آل عمران: 97)
وقال تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} (البقرة: 125)
وقال تعالى: {وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت} (الحج: و26)
وقال تعالى: {وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} (الحج: 27)
وشرف مقام إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى {واتخذوا من(4/536)
مقام إبراهيم مصلى} (البقرة: 125)
وحرم صيده وجعل البيت المعمور بإزائه، ودحيت الأرض من تحته، فهذه الفضائل وأكثر منها إنما اجتمعت في مكة لا جرم أقسم الله تعالى بها.
{وأنت} ، أي: يا أشرف الخلق {حل} ، أي: حلال لك ما لم يحل لغيرك من قتل من تريد ممن يدعي أنه لا قدرة لأحد عليه {بهذا البلد} بأن يحل لك فتقاتل فيه.
وقد أنجز الله له هذا الوعد يوم الفتح وأحلها له، وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له فأحل ما شاء وحرم ما شاء قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابة وغيرهما، وحرم دار أبي سفيان ثم قال: «إنّ الله حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي، ولن تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشدها. فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا، فقال صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر» . ونظير {وأنت حل} في معنى الاستقبال قوله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} (الزمر: 30)
ومثله واسع في كلام العرب، تقول لمن تعده الإكرام والحباء لأنت مكرم محبوّ، وهو في كلام الله تعالى واسع لأنّ الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال وأنّ تفسيره بالحال محال أنّ السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة من وقت نزولها، فما بال الفتح والجملة اعتراض بين المقسم به وما عطف عليه.
واختلف في قوله تعالى: {ووالد وما ولد} فقال الزمخشري: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ولده أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه، وحرم أبيه إبراهيم، ومنشأ أبيه إسماعيل وبمن ولده وبه. وقال البغويّ: هما آدم وذريّته، وقيل: كلُّ والد وولده. فإن قيل: هلا قيل: ومن ولد؟ أجيب: بأنّ فيه ما في قوله تعالى: {والله أعلم بما وضعت} (آل عمران: 36)
أي: بأي شيء وضعت يعني، أي: بأي شيء وضعت يعني موضوعاً عجيب الشأن، أو أن ما بمعنى من. والذي عليه أكثر المفسرين هما آدم وذريّته؛ لأنهم أعجب ما خلق الله تعالى على وجه الأرض لما فيهم من البيان والنطق والتدبير واستخراج العلوم، وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه، وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها. ولقد قال الله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} (الإسراء: 70)
وقيل: هما آدم والصالحون من ذريته، وأما الطالحون فكأنهم بهائم كما قال تعالى: {إن هم كالأنعام بل هم إلا أضلّ} (الفرقان: 44)
{صم بكم عمي فهم لا يرجعون} (البقرة: 18)
والمقسم عليه قوله تعالى:
{لقد خلقنا الإنسان} ، أي: الجنس {في كبد} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي: شدّة ونصب، وعنه أيضاً في شدّة من حمله وولادته ورضاعه ونبت أسنانه وسائر أحواله. وعن عكرمة منتصباً في بطن أمّه، والكبد الاستواء والاستقامة، فهذا امتنان عليه في الحقيقة، ولم يخلق الله تعالى دابة في بطنها أمّها إلا منكبة على وجهها إلا ابن آدم فإنه منتصب انتصاباً.
وقال ابن كيسان: منتصباً في بطن أمه فإذا أراد الله تعالى أن يخرجه من بطن أمه قلب رأسه إلى رجلي أمه. وقال الحسن: يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة. وقال يمان: لم يخلق الله تعالى خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق.
قال بعض العلماء أوّل ما يكابد قطع سرته ثم إذا قمط قماطاً وشدّ رباطاً، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته ضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشدّ من اللطام، ثم يكابد(4/537)
الختان والأوجاع، ثم المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج، وشغل الأولاد والخدم، وشغل المسكن والجيران، ثم الكبر والهرم، وضعف الركب والقدم، في مصائب يكثر تعدادها من صداع الرأس ووجع الأضراس، ورمد العين، وهمّ الدين، ووجع السنّ، وألم الأذن، ويكابد محناً في المال والنفس من الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا يقاسي فيه شدّة، ثم يكابد بعد ذلك مشقة الموت، ثم بعده سؤال الملك وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله تعالى إلى أن يستقرّ به القرار، إما في الجنة وإما في النار، فدل هذا على أنّ له خالقاً دبره وقضى عليه بهذه الأحوال، ولو كان الأمر إليه ما أختار هذه الشدائد فليتمثل أمر خالقه. وقال ابن زيد: المراد بالإنسان هنا آدم عليه السلام.
وقوله تعالى: {في كبد} ، أي: في وسط السماء. وقال مقاتل: في كبد، أي: في قوّة نزلت في أبي الأشدين، واسمه أسيد بن كلدة بن جمح، وكان شديداً قوياً، يضع الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول: من أزالني عنه فله كذا وكذا، فيجذبه عشرة فيتمزق الأديم من تحت قدميه، ولا تزول قدماه ويبقى موضع قدميه، وكان من أعداء النبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه نزل.
{أيحسب} ، أي: أيظنّ الإنسان قويّ قريش، وهو أبو الأشدين بقوّته، قوله أبي الأشدين هكذا في النسخ بصيغة التثنية، وفي حاشية الجمل، والأشد هكذا بالإفراد في كثير من نسخ هذا الشرح، وكثير من عبارات المفسرين، وفي بعض نسخ هذا الشرح وكثير من من التفاسير الأشدين بصيغة التثنية فليحرّر اه. {أن} مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أي: أنه {لن يقدر عليه} ، أي: خاصة {أحد} ، أي: من أهل الأرض أو السماء فيغلبه حتى أنه يعاند خالقه، والله تعالى قادر عليه في كل وقت. وقيل: نزلت في المغيرة بن الوليد المخزومي.
{يقول} ، أي: يفتخر بقوّته وشدّته {أهلكت} ، أي: على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم {مالاً لبداً} ، أي: كثيراً بعضه على بعض.
{أيحسب} ، أي: هذا الإنسان العنيد بقلة عقله {أن} ، أي: أنه {لم يره أحد} قال سعيد بن جبير:، أي: أظنّ أن الله تعالى لم يره ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وقال الكلبي: إنه كان كاذباً في قوله أنه أنفقه ولم ينفق جميع ما قال، والمعنى: أيظنّ أن الله تعالى لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته.
وقرأ {أيحسب} في الموضعين ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بكسرها ثم ذكره نعمه عليه ليعتبر بقوله تعالى:
أي: بما لنا من القدرة التامّة {له عينين} يبصر بهما المرئيات وإلا تعطل عليه أكثر مايريد، شققناهما وهو في الرحم في ظلمات ثلاث على مقدار مناسب لا تزيد إحداهما على الأخرى شيئاً، وقدرنا البياض والسواد والشهلة والزرقة وغير ذلك على ماترون، وأودعناهما البصر على كيفيةٍ يعجز الخلق عن إدراكهما.
{ولساناً} يترجم به عن ضمائره {وشفتين} يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك. قال قتادة: نِعَمُ الله تعالى عليه متظاهرة فيقررّه بها كي يشكره. قال البغوي: وجاء في الحديث أن الله تعالى يقول: «يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق، وإن نازعك فرجك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق» .
{وهديناه} ، أي: أتيناه من العقل {النجدين} قال أكثر المفسرين: بيّنا له طريق الخير والشر والهدى والضلال والحق والباطل كقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإمّا كفوراً} (الإنسان: 3)
وصار بما جعلناه له من ذلك سميعاً بصيراً عالماً، فصار موضعاً للتكليف. روى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها(4/538)
الناس هلموا إلى ربكم فإنّ ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى، يا أيها الناس إنما هما نجدان نجد خير ونجد شرّ فلم جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير» . قال المنذري: النجد هنا الطريق. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بيّنا له الثديين، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك، وأصله المكان المرتفع.
{فلا اقتحم العقبة} ، أي: فهلا أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب وإطعام المساكين والأيتام بل غمط النعم وكفر بالمنعم.
والمعنى: أن الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضي النافع عند الله تعالى، لا أن يهلك مالاً لبداً في الرياء والفخر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون على هذا الوجه {كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم} (آل عمران: 117)
الآية. وقيل: معناه لم يقتحمها ولاجاوزها والاقتحام الدخول في الأمر الشديد، وذكر العقبة مثل ضربة الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البرّ فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة يقول الله تعالى لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام، وهذا معنى قول قتادة وقيل: إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بعقبة، فإذا أعتق رقبة وأطعم المساكين كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها وروى عن ابن عمر أنّ هذه العقبة جبل في جهنم، وقال الحسن: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله تعالى ومجاهدة النفس.w
وقال مجاهد: هي الصراط يضرب على متن جهنم كحد السيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة صعوداً وهبوطاً واستواء، وإنّ بجنبيه كلاليب وخطاطيف كأنها شوك السعدان، فناجٍ مسلم وناجٍ مخدوش، ومكردس في النار منكوس، وفي الناس من يمرّ كالريح العاصف، ومنهم من يمرّ كالرجل يعدو، ومنهم من يمرّ كالرجل يسير، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم الزالون، ومنهم من يكردس في النار. وقال ابن زيد: فهلا سلك طريق النجاة.
وقوله تعالى: {وما أدراك} ، أي: أعلمك أيها السامع لكلامنا الراغب فيما عندنا {ما العقبة} تعظيم لشأنها والجملة اعتراض قال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه {وما أدراك} فإنه أخبر به وما كان، قال: {وما يدريك} فإنه لم يخبر به، ثم بين سبب جوازها بقوله تعالى:
{فك} ، أي: الإنسان {رقبة} ، أي: خلصها من الرق وذلك بأن يعتق رقبة في ملكه أو يعطي مكاتباً ما يصرفه في فك رقبته. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه» . قال الزمخشري: وفي الحديث: «أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم دلني على عمل يدخلني الجنة. قال: تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال: أو ليسا سواء؟ قال: لا إعتاقها أن تنفرد بعتقها، وفكها أن تعين في تخليصها من قود أو غرم، والعتق والصدقة من أفضل الأعمال» .
وعن أبي حنيفة أن العتق أفضل من الصدقة، وعن صاحبيه: الصدقة أفضل. قال الزمخشري: والآية أدل على قول أبي حنيفة لتقديم العتق. وقال عكرمة: يعني فك رقبته من الذنوب. وقال الماوردي: ويحتمل أنه أراد فك رقبته وخلاص نفسه باجتناب المعاصي وفعل الطاعات، ولا يمنع الخبر من هذا التأويل وهو أشبه بالصواب.
{أو إطعام} ، أي: دفع الإطعام لشيء له قابلية ذلك. {في يوم ذي مسغبة} ، أي: مجاعة، والسغب: الجوع.
{يتيماً} ، أي: إنساناً صغيراً لا أب له {ذا مقربة} ، أي: ذا قرابة لك بأن كان بينك وبينه قرابة، يقال: فلان ذو قرابتي، وذو مقربتي.
{أو مسكيناً}(4/539)
وهو من له مال أو كسب يقع موقعاً من كفايته، ولا يكفيه. {ذا متربة} ، أي: لصوق بالتراب لفقره. يقال: ترب إذا افتقر، ومعناه: التصق بالتراب وأما أترب فاستغنى، أي: صار ذا مال كالتراب في الكثرة كما قيل: أثرى. وعنه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ذا متربة} : «الذي مأواه المزابل» قال ابن عباس رضي الله عنهما: «هو المطروح على الطرق الذي لا بيت له» . وقال مجاهد: وهو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره. وقال قتادة: أنه ذو العيال. واحتج بهذه الآية على أنّ المسكين يملك شيئاً لأنه لو كان لا يملك شيئاً لكان تقييده بقوله تعالى: {ذا متربة} تكريراً. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة برفع الكاف وجرّ رقبة وكسر همزة إطعام وفتح العين وبعدها ألف ورفع الميم منوّنة، والباقون فك بنصب الكاف رقبة بالنصب أطعم بفتح الهمزة والعين والميم بغير تنوين، ولا ألف بين العين والميم.
فإن قيل: قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة} إلى آخره ذكر لا مرّة واحدة. قال الفرّاء والزجاج: والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد لا كقوله تعالى: {فلا صدّق ولا صلى} (القيامة: 31) .
أجيب: بأنه إنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه فيجوز أن يكون قوله تعالى:
{ثم كان من الذين آمنوا} قائماً مقام التكرير فكأنه قال: {فلا اقتحم العقبة} ولا آمن. وقال الزمخشري: هي متكرّرة في المعنى: لأنّ معنى فلا اقتحم العقبة فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك. قال أبو حيان: ولا يتيم له هذا إلا على قراءة فك فعلاً ماضياً. وعن مجاهد: أنّ قوله تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} يدل على أن: لا بمعنى لم ولا يلزم التكرير مع لم فإن كرّرت لا كقوله تعالى {فلا صدّق ولا صلى} فهو كقوله تعالى: {لم يسرفوا ولم يقتروا} (الفرقان: 67)
تنبيه: ثم كان معطوف على اقتحم وثم للترتيب، والمعنى: كان وقت الاقتحام من الذين آمنوا. وقال الزمخشري: جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت، لأنّ الإيمان هو السابق المقدّم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به. {وتواصوا} ، أي: وصبروا وأوصى بعضهم بعضاً {بالصبر} ، أي: على الطاعة وعن المعصية والمحن التي يبتلى بها المؤمن.
{وتواصوا بالمرحمة} ، أي: بالرحمة على عباده بأن يكونوا متراحمين متعاطفين، أي: بما يؤدّي إلى رحمة الله تعالى.
{أولئك} ، أي: الموصوفون بهذه الصفات {أصحاب الميمنة} ، أي: الجانب الذي فيه اليمن والبركة والنجاة من كل هلكة. وقال محمد بن كعب:، أي: الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم. وقال يحيى بن سلام: لأنهم ميامين على أنفسهم. وقال ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن. وقال ميمون بن مهران: لأنّ منزلتهم عن اليمين. وقال الزمخشري: الميمنة اليمين أو اليمن.
{والذين كفروا} ، أي: ستروا ما تظهر لهم مرائي بصائرهم من العلم {بآياتنا} ، أي: على ما لها من العظمة بالإضافة إلينا، والظهور الذي لا يمكن خفاؤه من القرآن وغيره {هم أصحاب المشأمة} ، أي: الخصلة المكسبة للشؤم والحرمان قال محمد بن كعب:، أي: الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم. وقال يحيى بن سلام: لأنهم مشائيم على أنفسهم. وقال ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر عليه السلام. وقال ميمون: لأنّ منزلتهم عن اليسار. وقال الزمخشري: المشأمة الشمال أو الشؤم.
قال القرطبي: ويجمع هذه الأقوال أصحاب الميمنة هم أصحاب الجنة وأصحاب المشأمة هم أصحاب النار.
{عليهم} ، أي: خاصة {نار مؤصدة} ، أي: مطبقة وقرأ أبو عمرو وحفص وحمزة بالهمزة، والباقون بغير(4/540)
همزة، أي: بواو ساكنة، وهما لغتان. يقال: أصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته، وقيل: معنى المهموز المطبقة، وغير المهموز المغلقة. وإذا وقف حمزة أبدل على أصله. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة لا أقسم بهذا البلد أعطاه الله الأمان من غضبه يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة الشمس مكية
وهي خمس عشرة آية وأربع وخمسون كلمةومائتان وسبعة وأربعون حرفاً
{بسم الله} الذي له الأسماء الحسنى {الرحمن} الذي يعلم السرّ وأخفى {الرحيم} الذي خص خواصه بالفردوس الأعلى.
وقوله تعالى: {والشمس} ، أي: الجامعة بين النفع والضرّ، بالنور والحرّ {وضحاها} قسم وقد تقدّم الكلام على أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته وقيل: التقدير ورب الشمس إلى تمام القسم. واختلف في قوله تعالى: {وضحاها} فقال مجاهد والكلبي: ضوءها وقال قتادة: هو النهار كله. وقال مقاتل: هو حرّها، وقال لقوله تعالى في طه: {ولا تضحى} (طه: 119) ، أي: لا يؤذيك الحرّ. وقال البريدي: انبساطها. قال الرازي: إنما أقسم بالشمس لكثرة ما يتعلق بها من المصالح، فإن أهل العالم كانوا كالأموات في الليل، فلما ظهر الصبح في المشرق صار ذلك الضوء كالروح الذي تنفخ فيه الحياة فصارت الأموات أحياء، ولا تزال تلك الحياة في القوّة والزيادة إلى غاية كمالها وقت الضحوة، وذلك يشبه استقرار أهل الجنة.
{والقمر} ، أي: المكتسب من نورها كما أن أنوار النفوس من أنوار العقول {إذا تلاها} ، أي: تبعها، وذلك إذا سقطت رؤى الهلال. قال الليث: يقال تلوت فلاناً إذا اتبعته. وقال ابن زيد: إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر تلاها القمر بالطلوع وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب. وقال الفرّاء: تلاها، أي: أخذ منها يعني أن القمر يأخذ من ضوء الشمس. وقال الزجاج: تلاها، أي: حين استوى ودار وكان مثلها في الضياء والنور وذلك في الليالي البيض.
{والنهار} ، أي: الذي هو محل الانتشار فيما جرت به الأقدار {إذا جلاها} ، أي: الشمس بارتفاعه لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء وقيل: الضمير للظلمة أو للدنيا أو للأرض وإن لم يجر لها ذكر، كقولهم: أصبحت باردة يريدون الغداة، وأرسلت يريدون السماء.
{والليل} ، أي: الذي هو ضدّ النهار فهو محل السكون والانقباض {إذا يغشاها} ، أي: يغطيها بظلمته فتغيب وتظلم الآفاق وقيل: الكتابة للأرض، أي: يغشى الدنيا بالظلمة فتظلم الآفاق فالكناية ترجع إلى غير مذكور، وجيء يغشاها مضارعاً دون ما قبله وما بعده مراعاة للفواصل؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيب إذا غشيها فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع.
تنبيه: إذا في الثلاثة لمجرّد الظرفية والعامل فيها فعل القسم.
{والسماء وما} ، أي: ومن {بناها} ، أي: خلقها على هذا السقف المحكم. أقسم تعالى بنفسه وبأعظم مخلوقاته.
وقوله تعالى: {والأرض} ، أي: التي هي فراشكم {وما} ، أي: ومن {طحاها} ، أي: بسطها وسطحها على الماء كذلك.
وكذا قوله تعالى: {ونفس} ، أي: أي نفس جمع فيها سبحانه العالم بأسره {وما} ، أي: ومن {سوّاها} ، أي: عدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها، وما فيها من(4/541)
الجواهر والأعراض والمعاني وغير ذلك. فإن قيل: لم نُكرت النفس؟ أجيب: بوجهين:
أحدهما: أنه يريد نفساً خاصة من بين النفوس، وهي نفس آدم عليه السلام، كأنه قال تعالى: وواحدة من النفوس.
ثانيهما: أنه يريد كل نفسٍ، ونكره للتكثير على الطريقة المذكورة في قوله تعالى: {علمت نفس} (التكوير: 14)
وإنما أوثرت ما على من فيما ذكر لإرادة الوصفية بما ضمنا وإن لم يوصف بلفظها؛ إذ المراد أنها تقع على نوع من يعقل وعلى صفته، ولذلك مثلوا بقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم} (النساء: 3)
وقدّروها بأنكحوا الطيب، وهذا تنفرد به ما دون من. وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم.
أقسم الله تعالى بأنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة حتى يتأمّل المكلف فيها ويشكر عليها، لأنّ الذي يقسم الله تعالى به يحصل به روح في القلب فتكون الدواعي إلى تأمّله أقرب.
{فألهمها} ، أي: النفس {فجورها وتقواها} قال ابن عباس رضي الله عنهما: بين لها الخير والشرّ، وعنه: علمها الطاعة والمعصية. وعن أبي صالح: عرّفها ما تأتي وما تتقي. وقال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها. وقال ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها للفجور. واختار الزجاج هذا وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان.
قال البغوي: وهذا بين أنّ الله تعالى خلق في المؤمن التقوى وفي الكافر الفجور وعن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضى عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وثبتت الحجة عليهم؟ قلت: بل شيء قضى عليهم، ومضى عليهم، فقال: أفلا يكون ظلماً؟ قال: ففزعت منه فزعاً شديداً وقلت: إنه ليس شيء إلا وهو خلقه وملك يده {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون} (الأنبياء: 23)
فقال لي سدّدك الله إنما سألتك لأختبر عقلك. إنّ رجلاً من جهينة أو مزينة أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكادحون فيه أشيء قضى الله عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وأكدت به الحجة، فقال: في شيء قد مضى عليهم، قال فقلت: ففيم العمل الآن؟ قال: من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها.
وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى: {ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها} » . وعن جابر قال: «جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أو فيما يستقبل؟ قال: «بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. قال: ففيم العمل؟ قال: اعملوا وكل ميسر لما خلق له» . واختلف في جواب القسم فأكثر المفسرين على أنه:
{قد أفلح} ، أي: ظفر بجميع المرادات، والأصل: لقد وإنما حذفت لطول الكلام. وقيل: إنه ليس بجواب وإنما جيء به تابعاً لقوله تعالى: {فألهمها فجورها وتقواها} على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء، والجواب محذوف تقديره: ليدمدمن الله عليهم، أي: أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود؛ لأنهم قد كذبوا صالحاً أو لتبعثن وقيل: هو على التقديم والتأخير من غير حذف.
والمعنى: {قد أفلح من زكاها} ، أي: طهرها من الذنوب ونماها وأصلحها، وصفاها تصفية عظيمة مما يسره الله تعالى له من العلوم النافعة والأعمال الصالحة {وقد خاب} ، أي: خسر {من دساها} ، أي: أغواها إغواءً عظيماً أو أفسدها وأهلكها(4/542)
بخبائث الاعتقادات، ومساوئ الأعمال وقبائح السيئات. {والشمس وضحاها} وفاعل زكاها ودساها ضمير من، وقيل: ضمير الباري سبحانه، أي: قد أفلح من زكاها بالطاعة، {وقد خاب من دساها} ، أي: خسرت نفسٌ دساها الله تعالى بالمعصية. وأنكر الزمخشري على صاحب هذا القول لمنافرته مذهبه، ولكن قال بعض المفسرين: الحق أنه خلاف الظاهر لا كما قاله الزمخشري. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: خابت نفس أضلها الله تعالى وأغواها، وأصل الزكاة النموّ والزيادة، ومنه زكى الزرع إذا كثر ريعه، ومنه تزكية القاضي الشاهد؛ لأنه يرفعه بالتعديل. وأصل دساها دسسها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء فأبدل من السين الثانية ياء، والمعنى: أخملها وأخفى محلها بالكفر والمعصية، وعن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والكسل والبخل والجبن والهمّ» . وفي رواية: «والهرم وعذاب القبر اللهمّ آت نفسي تقواها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهمّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن نفس لا تشبع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعوة لا يستجاب لها» .
{كذبت ثمود} وهم قوم صالح، كذبوا رسولهم صالحاً عليه السلام وأنث فعلهم لضعف أثر تكذيبهم؛ لأنّ كل سامع له يعرف ظلمهم فيه لوضوح آيتهم {بطغواها} ، أي: أوقعت التكذيب لرسولها بكل ما أتى به عن الله تعالى، أي: طغيانها. وقيل: إن الباء للاستعانة. قال الزمخشري: مثلها في كتبت بالقلم. والطغوى من الطغيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واواً في الاسم، وتركوا القلب في الصفة، فقالوا: امرأة خزياً وصدياً، يعني: فعلت التكذيب بطغيانها كما تقول: ظلمني بجراءته على الله تعالى. وقيل: كذبت بما أوعدت به من عذاب ذي الطغوى كقوله تعالى: {فأهلكوا بالطاغية} (الحاقة: 5)
{إذ} ، أي: تحقق تكذيبهم أو طغيانهم بالفعل حين {انبعث أشقاها} ، أي: قام وأسرع وذلك أنهم لما كذبوا بالعذاب، وكذبوا صالحاً عليه السلام انبعث أشقى القوم وهو قدار بن سالف وكان رجلاً أشقر أزرق قصيراً فعقر الناقة، وعن عبد الله بن زمعة أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب فذكر الناقة والذي عقرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « {إذ انبعث أشقاها} انبعث لها رجل عزيز عارم متبع في أهله مثل أبي زمعة» . وقوله: عارم، أي: شديد ممتنع. قال الزمخشري: ويجوز أن يكونوا جماعة. والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
تنبيه: إذ منصوب بكذبت أو بطغواها. { {
{فقال لهم} ، أي: بسبب الانبعاث أو التكذيب الذي دل على قصدهم لها بالأذى {رسول الله} ، أي: صالح عليه السلام، وعبر بالرسول لأنّ وظيفته الإبلاغ والتحذير الذي ذكر هنا، ولذلك قال تعالى مشيراً بحذف العامل إلى ضيق الحال عن ذكره لعظم الهول وسرعة التعذيب عند مسها بالأذى. وزاد في التعظيم بإعادة الجلالة {ناقة الله} ، أي: الملك الأعظم الذي له الأمر كله، وهي منصوبة على التحذير كقولك: الأسد الأسد، والصبي الصبي بإضمار اتقوا أو احذروا ناقة الله. {وسقياها} ، أي: وشربها في يومها، وكان لها يوم ولهم يوم؛ لأنهم لما اقترحوا الناقة فأخرجها لهم من الصخرة جعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم فشق عليهم. وإضافة الناقة إلى الله تعالى إضافة تشريف كبيت الله.
{فكذبوه} ، أي: صالحاً عليه السلام بطغيانهم(4/543)
في وعيدهم بالعذاب {فعقروها} ، أي: عقرها الأشقى بسبب ذلك التكذيب، وأضيف إلى الكل؛ لأنهم رضوا بفعله، وإن كان العاقر جماعة فواضح. وقال قتادة: بلغنا إنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم. وقال الفرّاء: عقرها اثنان، والعرب تقول: هذان أفضل الناس وهذان خير الناس، وهذه المرأة أشقى القوم ولهذا لم يقل أشقياها.
{فدمدم} أي فأطبق {عليهم ربهم} ، أي: الذي أحسن إليهم فغمرهم إحسانه فقطعه عنهم بسبب تكذيبهم فأهلكهم وأطبق عليهم العذاب، يقال: دمدمت عليه القبر أطبقته عليه {بذنبهم} ، أي: بسبب كفرهم وتكذيبهم وعقرهم الناقة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {دمدم عليهم ربهم بذنبهم} ، أي: بجرمهم. وقال القشيري: وقيل: دمدمت على الميت التراب، أي: سوّيته عليه. فالمعنى على هذا: فجعلهم تحت التراب، {فسوّاها} ، أي: فسوّى عليهم الأرض فجعلهم تحت التراب وعلى الأوّل فسوّى الدمدمة عليهم، أي: عمهم بها فلم يفلت منهم أحداً.
وقرأ {ولا يخاف} نافع وابن عامر بالفاء، والباقون بالواو فالفاء تقتضي التعقيب، والواو يجوز أن تكون للحال، وأن تكون للاستئناف الإخباري. وضمير الفاعل في يخاف الأظهر عوده على الله تعالى؛ لأنه أقرب مذكور، وهو قول ابن عباس، ويؤيده قراءة الفاء المسببة عن الدمدمة والتسوية والهاء في قوله تعالى: {عقباها} ترجع إلى الفعلة، وذلك لأنه تعالى يفعل ذلك بحقَ. وكل من فعل فعلاً يحق فإنه لا يخاف عاقبة فعله.
وقيل: المراد تحقيق ذلك الفعل والله تعالى أجل من أن يوصف بذلك. وقيل: المعنى أنه تعالى بالغ في الإنذار إليهم مبالغة كمن لا يخاف عاقبة عذابهم. وقيل: يرجع ذلك إلى رسولهم صالح عليه السلام، أي: لا يخاف عقبى هذه العقوبة لإنذاره إياهم ونجاه الله وأهلكهم. وقال السدّي: يرجع الضمير إلى أشقاها، أي: انبعث لعقرها والحال أنه غير خائف عاقبة هذه الفعلة الشنعاء.
وقرأ الكسائي جميع رؤوس آي هذه السورة بالإمالة محضة، وقرأها أبو عمرو بين بين، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، وأمال حمزة مثل الكسائي إلا تلاها وضحاها ففتحهما، والباقون بالفتح واتفقوا على فتح فعقروها. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والشمس فكأنما تصدّق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر» حديث موضوع.
سورة والليل مكية
وهي إحدى وعشرون آية وإحدى وسبعون كلمة وثلاثمائة وعشرة أحرف
{بسم الله} الملك الحق المبين {الرحمن} الذي عمّ رزقه العالمين {الرحيم} الذي خص بجنته المؤمنين.
وقوله تعالى: {والليل} ، أي: الذي هو آلة الظلام {إذا يغشى} قسم. وقد مرّ الكلام على ذلك، ولم يذكر تعالى مفعولاً للعلم به، فقيل: يغشى بظلمته كل ما بين السماء والأرض، وقيل: يغشى النهار، وقيل: الأرض، وقيل: الخلائق. قال قتادة: أوّل ما خلق الله تعالى النور والظلمة ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلماً، والنور نهاراً مضيئاً مبصراً.
وقوله تعالى: {والنهار} ، أي: الذي هو سبب انكشاف الأمور {إذا تجلى} ، أي: تكشف وظهر قسم آخر. قال الرازي: أقسم بالليل الذي يأوي(4/544)
فيه كل حيوان إلى مأواه وتسكن الخلق عن الاضطراب، ويغشاهم النوم الذي جعله الله تعالى راحة لأبدانهم وغذاء لأرواحهم، ثم أقسم بالنهار إذا تجلى؛ لأن النهار إذا جاء انكشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة، وجاء الوقت الذي تتحرّك فيه الناس لمعايشهم وتتحرك الطير من أوكارها والهوامّ من مكانها، فلو كان الدهر كله ليلاً لتعذّر المعاش، ولو كان كله نهاراً لبطلت الراحة، لكن المصلحة في تعاقبهما كما قال تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} (الفرقان: 62)
وقال تعالى: {وسخر لكم الليل والنهار} (إبراهيم: 33)
.u
{وما} بمعنى من أي، ومن {خلق الذكر والأنثى} ، أي: فيكون قد أقسم بنفسه، أو مصدرية، أي: وخلق الله الذكر والأنثى وجاز إضمار اسم الله تعالى لأنه معلوم لانفراده بالخلق؛ إذ لا خالق سواه والذكر والأنثى آدم وحوّاء عليهما السلام، أو كل ذكر وأنثى من سائر الحيوانات. والخنثى وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله تعالى غير مشكل معلوم بالذكورة أو الأنوثة، فلو حلف بالطلاق أنه لم يلق ذكراً ولا أنثى وقد لقي خنثى مشكلاً كان حانثاً، لأنه في الحقيقة ذكر أو أنثى وإن كان مشكلاً عندنا. وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميين فقط لاختصاصهم بولاية الله تعالى وطاعته.
وقوله تعالى: {إنّ سعيكم} ، أي: عملكم {لشتى} جواب القسم، والمعنى: أنّ أعمالكم لتختلف، فعامل للجنة بالطاعة وعامل للنار بالمعصية، ويجوز أن يكون محذوفاً كما قيل في نظائره المتقدّمة، وشتى: واحده شتيت مثل: مريض ومرضى، وإنما قيل: للمختلف شتى: لتباعد ما بين بعضه وبعضه، أي: إنّ عملكم المتباعد بعضه من بعض لشتى؛ لأنّ بعضه ضلال وبعضه هدى، أي: فيكم مؤمن وبر وكافر وفاجر، ومطيع وعاص. وقيل: لشتى، أي: لمختلف الجزاء، فمنكم مثاب بالجنة ومعاقب بالنار. وقيل: لمختلف الأخلاق فمنكم راحمٌ وقاسٍ وحليمٌ وطائشٌ وجوادٌ وبخيل قال بعض المفسرين: نزلت هذه الآية في أبي بكر وأبي سفيان بن حرب. وروى أبو مالك الأشعري «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» ، أي: مهلكها.
وقوله تعالى: {فأمّا من أعطى} ، أي: وقع منه إعطاء على ما حدّدناه له وأمرناه به {واتقى} ، أي: ووقعت منه التقوى، وهي إيجاد الوقايات من الطاعات واجتناب المعاصي خوفاً من سطواتنا.
{وصدّق بالحسنى} تفصيل مبين لتشتيت المساعي. واختلف في الحسنى فقال ابن عباس:، أي: بلا إله إلا الله. وقال مجاهد: بالجنة لقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى} (يونس: 26)
. وقال زيد بن أسلم: الصلاة والزكاة والصوم. { {
{فسنيسره} ، أي: نهيئه بما لنا من العظمة بوعدٍ لا خلف فيه {لليسرى} ، أي: لأسباب الخير والصلاح حتى يسهل فعلها. وقال زيد بن أسلم: لليسرى، أي: للجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من نفس منفوسة إلا كتب الله تعالى مدخلها، فقال القوم: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أمّا من كان من أهل السعادة فإنه ميسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فإنه ميسر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ {فأمّا من أعطى وأتقى وصدّق بالحسنى فسنيسره لليسرى} » .
{وأمّا من بخل} ، أي: أوجد هذه الحقيقة الخبيثة فمنع ما أمر به وندب إليه. {واستغنى} ، أي: طلب الغنى عن الناس وعما وعد به من الثواب، أو وجده بما زعمت له نفسه الخائنة(4/545)
وظنونه الكاذبة فلم يحسن إلى الناس ولا عمل للعقبى.
{وكذب} ، أي: أوقع التكذيب لمن يستحق التصديق {بالحسنى} ، أي: فأنكرها وكان عامداً مع المحسوسات كالبهائم.
{فسنيسره} ، أي: نهيئه {للعسرى} ، أي: للخلة المؤدية إلى العسرة والشدة كدخول النار. وعن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف، وعنه فسنيسره للعسرى، أي: سأحول بينه وبين الإيمان بالله ورسوله وعنه أيضاً.
{وأمّا من بخل} ، أي: بماله واستغنى عن ربه {وكذب بالحسنى} ، أي: بالخلف الذي وعده الله تعالى في قوله سبحانه: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} (سبأ: 39)
وقال مجاهد: {وكذب بالحسنى} ، أي: بالجنة، وعنه بلا إله إلا الله ويجوز في مافي قوله تعالى:
{وما يغني عنه ماله} أن تكون نافية، أي: لا يغني عنه ماله شيئاً وأن تكون استفهاماً انكارياً، أي: شيء يغني عنه ماله {إذا تردّى} قال أبو صالح: أي إذا سقط في جهنم. وقيل: هو كناية عن الموت كما قال القائل: { {
*نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رداآن تطوى فيهما وحنوط*
ولما عرفهم سبحانه أنّ سعيهم شتّى وبين للمحسنين من اليسرى وما للمسيئين من العسرى أخبرهم بأنّ عليه بيان الهدى من الضلال بقوله تعالى:
{إنّ علينا} ، أي: بما لنا من القدرة والعظمة {للهدى} ، أي: للإرشاد إلى الحق بموجب قضائنا، أو بمقتضى حكمتنا فنبين طريق الهدى من طريق الضلال ليمتثل أمرنا بسلوك الأوّل، ونهينا عن ارتكاب الثاني. وقال الفراء: معناه إن علينا للهدى والإضلال فحذف المعطوف، كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل: 81)
وهو معنى قول ابن عباس: يريد أرشد أوليائي للعمل بطاعتي، وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي، وهو معنى الإضلال. وقيل: معناه من سلك سبيل الهدى فعلى الله تعالى سبيله كقوله تعالى: {وعلى الله قصد السبيل} (النحل: 9)
{وإنّ لنا للآخرة والأولى} ، أي: لنا ما في الدنيا والآخرة فنعطي في الدارين ما نشاء لمن نشاء فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق. وعن ابن عباس قال: ثواب الدنيا والآخرة. وهو كقوله تعالى: {من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} (النساء: 134)
{فأنذرتكم} ، أي: حذرتكم وخوّفتكم يا أيها المخالفون للطريق الذي بينته {ناراً تلظى} بحذف إحدى التاءين من الأصل، أي: تتلهب وتتوقد وتتوهج، يقال: تلظت النار تلظياً، ومنه سميت جهنم لظى. وقرأ البزي في الوصل بتشديد التاء وهو عَسِرٌ لالتقاء الساكنين على غير حدّهما، وهو نظير قوله تعالى: {إذ تلقونه} (النور: 15)
والباقون بغير تشديد. { {
{لا يصلاها} ، أي: لا يقاسى شدّتها على طريق اللزوم والانغماس {إلا الأشقى} ، أي: الذي هو في الذروة من الشقاوة وهو الكافر فإنّ الفاسق وإن دخلها لم يلزمها ولذلك سماه أشقى ووصفه بقوله تعالى:
{الذي كذب} النبيّ صلى الله عليه وسلم {وتولى} ، أي: عن الإيمان، أو كذب الحق وأعرض عن الطاعة أو الأشقى بمعنى الشقي كقوله: لست فيها بأوحد، أي: واحد. والحصر مؤوّل لقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48)
فيكون المراد الصليّ المؤبد.
{وسيجنبها} ، أي: النار الموصوفة بوعد لا خلف فيه {الأتقى} ، أي: الذي اتقى الشرك والمعاصي فإنه لا يدخلها فضلاً أن يدخلها ويصلاها، ومفهوم ذلك على التفسير الأوّل أنّ من أتقى الشرك دون المعصية لا يتجنبها ولا يلزم ذلك صليها ولا يخالف الحصر السابق، أو الأتقى(4/546)
بمعنى التقى على وزان ما مرّ.
{الذي يؤتي ماله} ، أي: يصرفه في وجوه الخير لقوله تعالى: {يتزكى} فإنه بدل من يؤتى أو حال من فاعله فعلى الأوّل: لا محل له لأنه داخل في حكم الصلة، والصلة لا محل لها. وعلى الثاني: محله نصب. قال البغوي: يعني أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه في قول الجميع. قال ابن الزبير: كان يبتاع الضَعَفَة فيعتقهم، فقال له أبوه: أي بنيّ لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، فقال: منع ظهري أريد، فأنزل الله تعالى {وسيجنبها الأتقى} إلى آخر السورة. وذكر محمد بن إسحاق قال: كان بلال لبعض بني جمح وهو بلال ابن رباح واسم أمّه حمامة، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الشمس فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، فيقول: وهو في ذلك أحد أحد. قال محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال: مرّ به أبو بكر يوماً وهم يصنعون به ذلك، وكانت دار أبي بكر في بني جمح، فقال لأمية ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين، قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، قال أبو بكر: أفعل عندي غلام أسود أجلد منه، وهو على دينك أعطيكه، قال: قد فعلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذه فأعتقه. وكان قد أعتق ست رقاب على الإسلام قبل أن يهاجر وبلال سابعهم، وهم عامر بن هبيرة قوله ابن هبيرة: هكذا في النسخ والذي في حاشية الجمل ابن فهيرة بالفاء والهاء اه شهد بدراً وأحداً، وقتل يوم بئر معونة شهيداً، وأعتق أمّ عميس فأصيب بصرها حين أعتقها فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان، فرد الله تعالى بصرها وأعتق النهدية وابنتها وكانتا لامرأةٍ لبني عبد الدار، فمرّ بهما وقد بعثتهما سيدتهما يحتطبان لها وهي تقول لهما: والله لا أعتقكما أبداً، فقال أبو بكر: كلا يا أمّ فلان، فقالت: كلا أنت أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم؟ قالت: بكذا وكذا، قال:
قد أخذتهما وهما حرّتان. ومرّ بجارية من بني المرسل وهي تعذب فابتاعها فأعتقها.
وقال سعيد بن المسيب: بلغني أنّ أمية بن خلف قال له أبو بكر في بلال: أتبيعه؟ قال: نعم أبيعه بقسطاس عبدٍ لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوارٍ ومواشٍ وكان مشركاً، حمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون ماله له فأبى، فأبغضه أبو بكر فلما قال له أمية: أبيعه بغلامك قسطاس اغتنمه أبو بكر وباعه به. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: عذب المشركون بلالاً وبلال يقول أحد أحد، فمرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أحد يعني الله تعالى ينجيك، ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: يا أبا بكر إنّ بلالاً يعذب في الله فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف إلى منزله فأخذ رطلاً من ذهب ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالاً قال: نعم فاشتراه فأعتقه، فقال: المشركون ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده» فأنزل الله تعالى:
{وما لأحد عنده} ، أي: أبي بكر {من نعمة تجزى} » ، أي: يد يكافئه عليها.
وقوله تعالى: {إلا ابتغاء} استثناء منقطع، أي: لم يفعل ذلك مجازاة لأحد بيد كانت له عنده لكن فعله ابتغاء {وجه ربه} ، أي: المحسن إليه {الأعلى} وطلب رضاه. ويجوز أن يكون متصلاً عن محذوف مثل {لا يؤتى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} لا لمكافأة نعمة {ولسوف يرضى} ، أي: بما يعطى من الثواب في الجنة. وروي عن عليّ قال: قال رسول الله(4/547)
صلى الله عليه وسلم «رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وأعتق بلالاً» والآية تشمل من فعل مثل فعله فيبعد عن النار ويثاب. وقرأ حمزة والكسائيّ يغشى، تجلى، والأنثى، لشتى، من أعطى، وأتقى، وصدّق بالحسنى واستغنى بالحسنى، تردّى، للهدى، والأولى، تلظى، الأشقى، وتولى، الأتقى، يتزكى، تجزى، الأعلى، يرضى بالإمالة محضة في جميع ذلك، وأمال ورش جميع ذلك بين بين والفتح عنه قليل، وله في من أعطى الفتح وبين اللفظين سواء، وأمال أبو عمرو بين بين إلا من أعطى لأنه ليس برأس آية، والباقون بالفتح، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي لليسرى للعسرى بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين والباقون بالفتح، وأمال حمزة والكسائي يصلاها محضة ولورش الفتح وبين اللفظين وإذا فتح اللام وإذا أمال رققها، وأمّا الأشقى والأتقى فلا يمالان إلا في الوقف دون الوصل. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والليل أعطاه الله تعالى حتى يرضى وعافاه من العسر ويسر له اليسر» حديث موضوع.
سورة الضحى مكية
وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة وسبعون حرفاً
ولما نزلت كبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فسنّ التكبير آخرها وروى الأمر به خاتمتها وخاتمة كل سورة بعدها وهو الله أكبر أو لا إله إلا الله والله أكبر.
{بسم الله} الملك ذي الجلال والإكرام {الرحمن} الذي عمّ بنعمته الخاص والعام {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بإتمام الإنعام.
وقوله تعالى: {والضحى} قسم، وقد مرّ الكلام على ذلك وخصه بالقسم لأنها الساعة التي كلم فيها موسى عليه السلام وألقى السحرة فيها سجداً، وهو صدر النهار كله بدليل أنه قابله بالليل في قوله تعالى:
{والليل} ، أي: الذي به تمام الصلاح {إذا سجى} ، أي: سكن وركد ظلامه يقال ليلة ساجية ساكنة الريح وقيل: معناه سكون الناس والأصوات فيه، وسجى البحر: سكنت أمواجه، وطرف ساج فاتر.
وقال قتادة: أقسم بالضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى وبليلة المعراج التي عرج فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى قدّم هنا الضحى وفي السورة التي قبلها الليل؟ أجيب: بأنّ لكل منهما أثراً عظيماً في صلاح العالم.
ولليل فضيلة السبق لقوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} (الأنعام: 1)
وللنهار فضيلة النور فقدّم سبحانه هذا تارة وهذا أخرى، كالركوع والسجود في قوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} (الحج: 77)
وقوله تعالى: {واسجدي واركعي مع الراكعين} (آل عمران: 43)
أو أنه قدّم الليل في سورة أبي بكر لأنّ أبا بكر سبقه كفر، وقدّم الضحى في سورة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه نور محض ولم يتقدّمه ذنب، أو أنّ سورة الليل سورة أبي بكر وسورة الضحى سورة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يجعل بينهما واسطة بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر رضي الله تعالى عنه. { {
فإن قيل: ما الحكمة في كونه تعالى ذكر الضحى، وهو ساعة وذكر الليل بجملته؟ أجيب: بأنّ في ذلك(4/548)
إشارة إلى أن ساعة من نهار توازن جميع الليل كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم يوازن جميع الأنبياء عليهم السلام، وأيضاً الضحى وقت السرور والليل وقت الوحشة ففيه إشارة إلى أنّ سرور الدنيا أقل من شرورها، وأنّ هموم الدنيا أدوم من سرورها، فإنّ الضحى ساعة والليل ساعات.
ويروى أنّ الله تعالى لما خلق العرش أظلت عمامة سوداء ونادت ماذا أمطر؟ فأجيبت: أن امطري السرور ساعة فلهذا ترى الهموم والأحزان دائمة والسرور قليلاً ونادراً، وقدّم ذكر الضحى وأخر الليل؛ لأنه يشبه الموت.
وقوله تعالى: {ما ودّعك} ، أي: تركك يا أشرف الرسل تركاً تحصل به فرقة كفرقة المودّع، ولو على أحسن الوجوه الذي هو مراد المودع {ربك} ، أي: المحسن إليك جواب القسم {وما قلى} ، أي: وما أبغضك بغضاً ما، وتركت الكاف لأنه رأس آية كقوله تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} (الأحزاب: 35)
أي الله.
تنبيه: اختلفوا في سبب نزول هذه الآية على ثلاثة أقوال أحدها ما روى البخاري عن جندب بن سفيان قال: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت أمّ جميل امرأة أبي لهب، فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث» فنزلت.
ثانيها: ما روى أبو عمرو قال: «أبطأ جبريل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى شق عليه فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو وأنزل عليه الآية» .
ثالثها: ما روي «أنّ خولة كانت تخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات فمكث النبيّ صلى الله عليه وسلم أياماً لا ينزل عليه الوحي، فقال صلى الله عليه وسلم يا خولة ما حدث في بيتي إنّ جبريل عليه السلام لا يأتيني قالت خولة: فكنست فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا جرو ميت فأخذته فألقيته خلف الجدار فجاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ترعد لحياه وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة، فقال: يا خولة، دثريني فأنزل الله تعالى هذه السورة.
ولما نزل جبريل عليه السلام سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن التأخير فقال: أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة» .
رابعها: ما روي «أنّ اليهود سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف؟ فقال صلى الله عليه وسلم سأخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي إلى أن نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23)
فأخبره بما سئل عنه، وفي هذه القصة نزلت {ما ودّعك ربك} » واختلفوا في مدّة احتباس الوحي عنه. فقال ابن جرير: اثنا عشر يوماً. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوماً. وقال مقاتل: أربعون يوماً. قالوا: وقال المشركون: إنّ محمداً ودّعه ربه وقلاه فأنزل الله تعالى هذه السورة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك؟ فقال جبريل عليه السلام: إني كنت إليك أشدّ شوقاً ولكني عبد مأمور وأنزل الله تعالى: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} » (مريم: 64)
{وللآخرة} التي هي المقصود من الوجود بالذات لأنها باقية خاصة عن شوائب الكدر {خير لك} ، أي: لما فيها من الكرامات لك {من الأولى} ، أي: الدنيا الفانية التي لا سرور فيها خالص وقيد تعالى بقوله سبحانه: {لك} لأنها ليست خيراً لكل أحد.
قال البقاعي: إنّ الناس على أربعة أقسام: منهم من له(4/549)
الخير في الدارين وهم أهل الطاعة الأغنياء، ومنهم: من له الشرّ فيهما وهم الكفرة الفقراء، ومنهم من له صورة خير في الدنيا وشرّ في الآخرة وهم الكفرة الأغنياء، ومنهم من له صورة شرّ في الدنيا وخير في الآخرة وهم المؤمنون الفقراء. وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أهل البيت أختار الله لنا الآخرة على الدنيا» .
{ولسوف يعطيك} ، أي: بوعد لا خلف فيه وإن تأخر وقته بما أفهمته الأداة {ربك} ، أي: المحسن إليك بسائر النعم في الآخرة من الخيرات عطاء جزيلاً {فترضى} ، أي: به فقال صلى الله عليه وسلم «إذاً لا أرضى وواحد من أمّتي في النار» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رفع يديه وقال: «اللهمّ أمّتي أمّتي وبكى فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمّتك ولا نسوءك» . وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لكل نبيّ دعوة مستجابة فتعجل كل نبيّ دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة فهي نائلة من مات لا يشرك بالله شيئاً» وعن عوف بن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني آت من عند ربي يخبرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة، فهي نائلة من مات لا يشرك بالله شيئاً» . وعن شريح قال: سمعت أبا جعفر محمد بن عليّ يقول: إنكم معشر أهل العراق تقولون أرجى آية في القرآن {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (الزمر: 53)
وإنا أهل البيت نقول: أرجى آية في كتاب الله {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وفي هذا موعد لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من الفتح والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجاً، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن، وهدم بأيديهم من ممالك الجبابرة، وأنهبتهم من كنوز الأكاسرة وما قذف في قلوب أهل الشرق والغرب من الرعب وتهيب الإسلام وفشوّ الدعوة واستيلاء المسلمين.
ولما أعطاه في الآخرة من الثواب الذي لا يعلم كنهه إلا الله تعالى. قال ابن عباس: له الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. فإن قيل: ما هذه اللام الداخلة على سوف؟ أجيب: بأنها لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك، وذلك أنها لا تخلو من أن تكون لام قسم ابتداء، ولام الابتداء، لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر فلا بدّ من تقدير مبتدأ وخبر، وأن يكون أصله: ولأنت سوف يعطيك.
فإن قيل: ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير؟ أجيب: بأن معناه: أنّ العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة على أنه تعالى أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بالحال التي كان عليها.
فقال جل ذكره: {ألم يجدك} وهو استفهام تقرير، أي: وجدك {يتيماً} وذلك أنّ أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر، وقيل: مات قبل ولادته وماتت أمّه وهو ابن ثمان سنين. {فآوى} ، أي: بأن ضمك إلى عمك أبي طالب فأحسن تربيتك. وعن مجاهد: هو من قول العرب درة يتيمة إذا لم يكن لها نظير، فالمعنى: ألم يجدك(4/550)
يتيماً واحداً في شرفك فآواك الله تعالى بأصحاب يحفظونك ويحوطونك. وهذا خلاف الظاهر من الآية، ولهذا قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أنه من قولهم: درة يتيمة، وأنّ المعنى: ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير فآواك. فإن قيل: كيف أنّ الله تعالى يمنّ بنعمه والمنّ بها لا يليق، ولهذا ذمّ فرعون في قوله لموسى عليه السلام: {ألم نربك فينا وليداً} (الشعراء: 18)
أجيب: بأنّ ذلك يحسن إذا قصد به تقوية قلبه ووعده بدوام النعمة، فامتنان الله تعالى زيادة نعمة بخلاف امتنان الآدمي.
واختلفوا في قوله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى} فأكثر المفسرين على أنه كان ضالاً عما هو عليه الآن من الشريعة فهداه الله تعالى إليها، وقيل: الضلال بمعنى الغفلة كقوله تعالى: {لا يضل ربي ولا ينسى} (طه: 52) ، أي: لا يغفل. وقال تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (يوسف: 3)
. وقال الضحاك: المعنى: لم تكن تدري القرآن وشرائع الإسلام فهداك إلى القرآن وشرائع الإسلام.
وقال السدي: وجدك ضالاً، أي: في قوم ضلال فهداهم الله تعالى بك، أو فهداك على إرشادهم. وقيل: وجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها. وقيل: ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فذكرك كقوله تعالى: {أن تضل إحداهما} (البقرة: 282)
. وقيل: وجدك طالباً للقبلة فهداك إليها. كقوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} (البقرة: 144)
الآية، ويكون الضلال بمعنى الطلب لأنّ الضال طالب وقيل: وجدك ضائعاً في قومك فهداك إليهم، ويكون الضلال. بمعنى المحبة كما قال تعالى: {تالله إنك لفي ضلالك القديم} (يوسف: 95) ، أي: محبتك. قال الشاعر:
*هذا الضلال أشاب مني المفرقا ... والعارضين ولم أكن متحققا*
*عجباً لعزة في اختيار قطيعتي ... بعد الضلال فحبلها قد أخلقا*
وروى الضحاك عن ابن عباس: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ضل في شعاب مكة وهو صبي صغير فرآه أبو جهل منصرفاً من أغنامه فردّه إلى عبد المطلب. وقال سعيد بن المسيب: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة عبد خديجة، فبينما هو راكب ذات ليلة مظلمة ناقة فجاء إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل بها عن الطريق فجاء جبريل عليه السلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الحبشة وردّه إلى القافلة، فمنّ الله تعالى عليه بذلك وقيل: وجدك ضالاً نفسك لا تدري من أنت فعرفك نفسك وحالك. وقال كعب: إنّ حليمة لما قضت حق الرضاع جاءت برسول الله صلى الله عليه وسلم لتردّه على عبد المطلب فسمعت عند باب مكة هنيأ لك يا بطحاء مكة اليوم يرد إليك النور والبهاء والجمال قالت: فوضعته لأصلح شأني فسمعت هدّة شديدة فالتفت فلم أره، فقلت: معشر الناس أين الصبي؟ فقالوا: لم نر شيئاً فصحت وامحمداه فإذا شيخ فان يتوكأ على عصا، فقال: اذهبي إلى الصنم الأعظم فإن شاء أن يرده إليك فعل ثم طاف الشيخ بالصنم وقبل رأسه، وقال: يا رب لم تزل منتك على قريش وهذه السعدية تزعم أنّ ابنها قد ضلّ فردّه إن شئت فانكب على وجهه وتساقطت الأصنام، وقالت إليك عنا أيها الشيخ فهلاكنا على يد محمد فألقى الشيخ عصاه وارتعد، وقال: إنّ لابنك رباً لا يضيعه فاطلبيه(4/551)
على مهل فانحشرت قريش إلى عبد المطلب، وطلبوه في جميع مكة فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً وتضرّع إلى الله تعالى أن يرده، وقال:
*يا رب ردّ ولدي محمداً ... اردده ربي واصطنع عندي يدا*
فسمعوا منادياً ينادي من السماء معاشر الناس لا تضجوا فإن لمحمد رباً لا يخذله ولا يضيعه وإنّ محمداً بوادي ثمامة عند شجرة السمر فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالأغصان وبالورق. وفي رواية ما زال عبد المطلب يردّد البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة ومحمد صلى الله عليه وسلم بين يديه، وهو يقول: ألا تدري ماذا جرى من ابنك فقال عبد المطلب: ولم؟ فقال: إني أنخت الناقة وأركبته خلفي فأبت الناقة أن تقوم فلما أركبته أمامي قامت الناقة. قال ابن عباس: ردّه الله تعالى إلى جده بيد عدوّه كما فعل موسى عليه السلام حين حفظه عند فرعون. وقيل: وجدك ضالاً ليلة المعراج حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق فهداك إلى ساق العرش. وقال بعض المتكلمين إذا وجدت العرب شجرة منفردة من الأرض لا شجرة معها سموها ضالة فيهدى بها إلى الطريق، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وجدك ضالاً} ، أي: لا أحد على دينك بل أنت وحيد ليس معك أحد فهديت بك الخلق إليّ.
وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره فقوله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى} ، أي: وجد قومك ضلالاً فهداهم بك، وقيل: غير ذلك. قال الزمخشري: ومن قال: كان على أمر قومه أربعين سنة فإن أراد أنه كان على خلوّهم من العلوم السمعية فنعم، وإن أراد أنه كان على كفرهم ودينهم فمعاذ الله والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوّة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة، فما بال الكفر والجهل بالصانع ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، وكفى بالنبيّ نقيصة عند الكفار أن يسبق له كفر.
{ووجدك عائلاً} ، أي: فقيراً {فأغنى} قال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق واختاره الفراء، وقال: لم يكن غني عن كثرة المال ولكن الله تعالى أرضاه بما أعطاه، وذلك حقيقة الغني. قال صلى الله عليه وسلم «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» وقال صلى الله عليه وسلم «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه» .
وقيل: أغناك بمال خديجة وتربية أبي طالب، ولما اختل ذلك أغناه بمال أبي بكر ولما اختل ذلك أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم. روى الزمخشري: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «جعل رزقي تحت ظل رمحي» . وقال الرزاي: العائل ذو العيلة ثم أطلق على الفقير، ويجوز أن يراد ووجدك ذا عيال لا تقدر على التوسعة عليهم فأغناك بما جعل لك من ربح التجارة، ثم من كسب الغنائم.
وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته، قلت: يا رب إنك آتيت سليمان بن داود ملكاً عظيماً، وآتيت فلاناً كذا قال: يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويتك، قلت: بلى يا رب. قال: ألم أجدك ضالاً فهديتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أجدك عائلاً فأغنيتك؟ قلت: بلى يا رب» . وفي رواية «ألم أشرح لك صدرك ووضعت عنك وزرك؟ قلت بلى يا رب» .
ثم أوصاه باليتامى والمساكين(4/552)
والفقراء فقال تعالى: {فأمّا اليتيم} ، أي: هذا النوع {فلا تقهر} قال مجاهد: لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيماً. وقال الفراء: لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه كما كانت العرب تفعل في أموال اليتامى، تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشرّ بيت في المسلمين فيه يتيم يساء إليه، ثم قال بإصبعيه: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وهو يشير بإصبعيه» . اليتيم منصوب بتقهر، وبه استدل ابن مالك على أنه لا يلزم من تقديم المعمول تقديم العامل، ألا ترى أنّ اليتيم منصوب بالمجزوم وقد تقدّم على الجازم، ولو تقدّم على لا، لامتنع؛ لأنّ المجزوم لا يتقدّم على جازمه كالمجرور لا يتقدّم على جاره وفي الآية دلالة على اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه، وقال صلى الله عليه وسلم «من ضمّ يتيماً وكان في نفقته وكفاه مؤنته كان له حجاباً من النار يوم القيامة» . وقال: «من مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة» . وقال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم.
فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم اليتم؟ أجيب: بوجوه:
أحدها: أن يعرف حرارة اليتيم فيرفق باليتيم.
ثانيها: يشاركه في الاسم فيكرمه لأجل ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا سميتم الولد محمداً فأكرموه ووسعوا له في المجلس» .
ثالثها: ليستند من أوّل عمره على الله تعالى فيشبه إبراهيم عليه السلام في قوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
رابعها: أنّ اليتيم تظهر عيوبه فلما لم يجدوا عيباً لم يجدوا فيه مطعناً.
خامسها: جعله يتيماً ليعلم كل أحد أن فضيلته ابتداء من الله تعالى لا من تعليم، لأن من له أب فإنه يؤدّبه ويعلمه.
سادسها: اليتم والفقر نقص في العادة فكونه صلى الله عليه وسلم مع هذين الوصفين من أكرم الخلق كان ذلك قلباً للعادة فيكون معجزة.
{وأما السائل} ، أي: الذي أحوجته العيلة أو غيرها إلى السؤال {فلا تنهر} ، أي: فلا تزجر، يقال نهره وأنهره إذا زجره وأغلظ عليه القول ولكن ردّه رداً جميلاً قال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل بريدنا إلى الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء. وقيل: المراد بالسائل هنا الذي يسأل عن الدين. وروى الزمخشري أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رددت السائل ثلاثاً فلم يرجع فلا عليك أن تزبره» .
وقيل: أما أنه ليس السائل المستجدي ولكن طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره.
{وأما بنعمة ربك} ، أي: المحسن إليك بالنبوّة وغيرها {فحدّث} بها فإن التحدّث بها شكرها، وإنما يجوز لغيره صلى الله عليه وسلم مثل هذا إذا قصد به اللطف وأن يقتدي به غيره وأمن على نفسه الفتنة والستر أفضل ولو لم يكن في الذكر إلا التشبه بأهل الرياء والسمعة لكفي.
والمعنى: إنك كنت يتيماً وضالاً وعائلاً فآواك الله وهداك وأغناك، فمهما يكن من شيء فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث، واقتد بالله فتعطف على اليتيم وآوه فقد ذقت اليتم وهوانه ورأيت كيف فعل الله تعالى بك، وترحم على السائل وتفقده بمعروفك ولا تزجره عن بابك كما رحمك ربك فأغناك بعد الفقر، وحدث بنعمة الله كلها. ويدخل تحت هدايته الضلال وتعليمه الشرائع، والقرآن مقتد بالله تعالى في أن هداه من الضلالة.
وقال مجاهد: تلك النعمة هي القرآن، والتحديث به أن يقرأ ويقرئ غيره. وعنه أيضاً: تلك النعمة هي النبوّة، أي: بلغ ما أنزل إليك من ربك. وقيل: تلك(4/553)
النعمة هي أن وفقك الله سبحانه وتعالى فراعيت حق اليتيم والسائل فحدّث بها ليقتدي بك غيرك. وعن الحسن بن علي قال: إذا عملت خيراً فحدّث به إخوانك ليقتدوا بك إلا أن هذا لا يحسن إلا إذا لم يتضمن رياء وظن أنّ غيره يقتدي به كما علم مما مرّ. وروي «أنّ شخصاً كان جالساً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فرآه رث الثياب فقال له صلى الله عليه وسلم ألك مال؟ قال: نعم. فقال له صلى الله عليه وسلم إذا آتاك الله مالاً فلير أثره عليك» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله جميل يحب الجمال» ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده» . فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى أخر حق نفسه عن حق اليتيم والسائل؟ أجيب: بكأنه يقول: أنا أغنى الأغنياء وهما محتاجان، وحق المحتاج أولى بالتقديم وأختار قوله سبحانه وتعالى: فحدث على قوله تعالى فأخبر ليكون ذلك حديثاً عنه لا ينساه ويعيده مرّة بعد أخرى.
وقرأ {والضحى} ، {سجى} ، {قلى} ، {الأولى} ، {فترضى} ، {فآوى} ، {فهدى} ، {فأغنى} ، حمزة والكسائيّ بإمالة محضة لكن حمزة لم يمل سجى، وأمال ورش وأبو عمرو بين بين والفتح عن ورش قليل، والباقون بالفتح.
وروى أبيّ بن كعب «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بلغ الضحى كبر بين كل سورتين إلى أن يختم القرآن، ويفصل بينهما بسكتة» . وكان المعنى: في ذلك «أنّ الوحي تأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً فقال ناس من المشركين: قد ودعه صاحبه وقلاه فنزلت هذه السورة فقال صلى الله عليه وسلم الله أكبر» . قال مجاهد: قرأت على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأمرني به، وأخبر أنه صلى الله عليه وسلم أمره به. وبعض القرّاء لا يكبر لأنّ ذلك ذريعة إلى الزيادة في القرآن.
وقال القرطبي: القرآن ثبت نقله بالتواتر سوره وآياته وحروفه بغير زيادة ولا نقصان فالتكبير ليس بقرآن. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والضحى جعله الله فيمن يرضى لمحمد أن يشفع له وعشر حسنات يكتبها الله له بعدد كل يتيم وسائل» حديث موضوع.
سورة ألم نشرح مكية
وهي ثمان آيات وتسع وعشرون كلمة ومائة وثلاثة أحرف.
{بسم الله} الظاهر الباطن الملك العلام {الرحمن} الذي عمّ المخلوقين بالإنعام {الرحيم} الذي خص أولياءه بدار السلام.
وقوله تعالى: {ألم نشرح} استفهام تقرير، أي: شرحنا بما يليق بعظمتنا {لك} يا أشرف الخلق {صدرك} بالنبوّة وغيرها حتى وسع مناجاتنا ودعوة الخلق، أو فسحناه بما أودعنا فيه من الحكم والعلوم وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي كان يكون معه العمى والجهل. وعن الحسن: ملىء حكمة وعلماً.
وقيل: إنه إشارة إلى ما روي أنّ جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صباه أو في يوم الميثاق فاستخرج قلبه فغسله ثم ملأه إيماناً وعلماً.
فإن قيل: لم قال تعالى صدرك ولم يقل قلبك؟ أجيب: بأن محل الوسوسة هو الصدر كما قال تعالى: {يوسوس في صدور الناس} (الناس: 5) { {
وأبدلها بدواعي الخير فلذلك خص الشرح بالصدر دون القلب. وقال محمد بن علي الترمذي: القلب محل العقل والمعرفة، والشيطان يجيء إلى الصدر الذي(4/554)
هو حصن القلب، فإذا وجد مسلكاً أغار فيه وثبت جنده فيه وبث فيه الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة، فإذا طرد العدوّ في الابتداء حصل الأمن وانشرح الصدر. فإن قيل: لم قال تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} ولم يقل: ألم نشرح صدرك؟ أجيب: بوجهين:
أحدهما: كأنه تعالى يقول لام بلام فأنت إنما تفعل جميع الطاعة لأجلي، وأنا أيضاً جميع ما أفعله لأجلك.
ثانيهما: أنّ فيه تنبيهاً على أنّ منافع الرسالة عائدة إليك لأجلك لا لأجلنا.
واختلف في قوله تعالى: {ووضعنا} ، أي: بما لنا من العظمة {عنك وزرك} فقال الحسن ومجاهد: حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية وهو قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر} (الفتح: 2)
وقال الحسين بن الفضل: يعني الخطأ والسهو. وقيل: ذنوب أمتك، وأضافها إليه لاشتغال قلبه بها.
{الذي أنقض} ، أي: أثقل {ظهرك} قال أبو عبيدة: خففنا عنك أعباء النبوّة والقيام بها حتى لا تثقل عليك وقيل: كان في الابتداء يثقل عليه الوحي حتى يكاد يرمي نفسه من شاهق إلى أن جاءه جبريل عليه السلام، وأزال عنه ما كان يخاف من تغير العقل وقيل: عصمناك من احتمال الوزر، وحفظناك قبل النبوّة في الأربعين من الأدناس، حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر.
{ورفعنا} ، أي: بما لنا من القدرة التامّة {لك ذكرك} روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: يقول الله عز وجل: لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم عرفة، وأيام التشريق، وعند الجمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، ومشارق الأرض ومغاربها.
ولو أنّ رجلاً عبد الله تعالى، وصدّق بالجنة والنار، وكل شيء ولم يشهد أنّ محمداً رسول الله لم ينتفع بشيء، وكان كافراً وقيل: أعلينا ذكرك فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك ولا دين إلا ودينك يظهر عليه.
وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود وكرائم الدرجات. وقال الضحاك: لا تقبل صلاة إلا به، ولا تجوز خطبة إلا به. وقال مجاهد: يعني التأذين. وفيه يقول حسان بن ثابت:
*أغرّ عليه للنبوّة خاتم ... من الله مشهور يلوح ويشهد*
*وضم الإله اسم النبيّ إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد*
*وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد*
وقيل: رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله. وقيل: عام في كل ما ذكر، وهذا أولى وكم من موضع في القرآن يذكر فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك قوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة: 62)
. وقوله تعالى: {ومن يطيع الله ورسوله فقد فاز} (الأحزاب: 71)
. وقوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (المائدة: 92)
ولما كان المشركون يعيرونه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم، ذكره ما أنعم الله به عليه من جلائل النعم، ثم وعده اليسر والرخاء بعد الشدّة فقال تعالى:
{فإن مع العسر} ، أي: ضيق الصدر والوزر المنقض للظهر وضلال القوم وإيذائهم {يسراً} ، أي: كالشرح والوضع والتوفيق(4/555)
للاهتداء والطاعة فلا تيأس من روح الله إذا عراك ما يهمك، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسراً. فإن قيل: إنّ مع للصحبة فما معنى اصطحاب العسر واليسر؟ أجيب: بأن الله تعالى أراد أن يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب، فقرب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في التسلية وتقوية القلوب.
وقوله تعالى: {إنّ مع العسر ويسراً} استئناف وعد الله تعالى بأن العسر متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة، كقولك: للصائم فرحة، ثم فرحة، أي: فرحة عند الإفطار وفرحة عند لقاء الرب، ويجوز أن يراد باليسرين ما تيسر من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تيسر لهم أيام الخلفاء وقيل: تكرير.
فإن قيل: ما معنى قول ابن عباس رضي الله عنه وابن مسعود رضي الله عنهما: لن يغلب عسر يسرين، وقد روي مرفوعاً أنه صلى الله عليه وسلم «خرج ذات يوم وهو يضحك ويقول: لن يغلب عسر يسرين» أجيب: بأن هذا حمل على الظاهر وبناء على قوّة الرجاء، وأنّ موعد الله لا يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ وأبلغه، والقول عنه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريراً للأولى كما كرر في قوله تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات: 15)
لتقرير معناها في النفوس، وتمكينها في القلوب، وكما تكرر المفرد في قولك: زيد زيد. وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردف بيسر لا محالة، والثانية عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر فهما يسران على تقدير الاستئناف.
وإنما كان العسر واحد لأنه لا يخلو إما أن يكون تعريفه للعهد، وهو العسر الذي كانوا فيه فهو هو، لأنّ حكمه حكم زيد في قولك: إنّ مع زيد مالاً إنّ مع زيد مالاً، وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضاً.
وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفاً غير مكرر فقد تناول بعضاً غير البعض الأوّل بغير إشكال، أو بأن لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعد الله المؤمنين فيها واليسر الذي وعدهم في الآخرة إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا فأما يسر الآخرة فدائم غير زائل، أي: لا يجتمعان في الغلبة كقوله صلى الله عليه وسلم «شهرا عيد لا ينقصان» ، أي: لا يجتمعان في النقصان. فإن قيل: فما معنى التنكير؟ أجيب: بأنه للتفخيم، كأنه قيل: إنّ مع العسر يسراً عظيماً وأي يسر.
روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه» . وللطبراني عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كان العسر في جحر لدخل اليسر حتى يخرجه» . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية» .
ولما عدد تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه السابقة ووعده الآنفة حثه على الشكر والاجتهاد في العبادة بقوله تعالى:
{فإذا فرغت} قال ابن عباس رضي الله عنهما: فرغت من صلاتك المكتوبة {فانصب} ، أي: انصب في الدعاء. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. وقال الشعبيّ: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك. وقال الحسن وزيد بن أسلم: إذا فرغت من جهاد عدوّك فانصب في عبادة ربك وصل. وقال ابن حيان عن الكلبيّ: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب {استغفر لذنبك وللمؤمنين} (محمد: 19)
. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أكره أن أرى أحدكم فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة.
{وإلى ربك} ، أي: المحسن إليك بفضائل النعم(4/556)
خصوصاً بما ذكر في هاتين السورتين {فارغب} ، أي: اجعل رغبتك إليه خصوصاً، ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه.
وقيل: تضرع إليه راغباً في الجنة راهباً من النار عصمنا الله تعالى وأحبابنا منها بمحمد صلى الله عليه وسلم وآله.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ ألم نشرح فكأنما جاءني وأنا مغتمّ ففرج عني» حديث موضوع.
سورة التين والزيتون مكية
وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة مدنية وهي ثمان آيات وأربع وثلاثون كلمة ومائة وخمسون حرفاً.
{بسم الله} الذي له الملك كله {الرحمن} الذي وسع الخلائق عدله {الرحيم} الذي خص أولياءه بتوفيقه فظهر عليهم جوده وفضله.
وقوله تعالى: {والتين والزيتون} قسم وتقدّم نظائر ذلك أقسم بهما لأنهما عجيبتان من بين أصناف الأشجار المثمرة، روي أنه «أهدي للنبيّ صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه، وقال لأصحابه: كلوا فلو قلت: إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه» لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيباً واستاك به وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة» . وسمعته يقول: «هي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي» . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو تينكم هذا الذي تأكلون وزيتونكم هذا الذي تعصرون منه الزيت. وقال عكرمة: هما جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانية طور تيناً وطور زيتاً؛ لأنهما منبتا التين والزيتون.
وقيل: التين جبال ما بين حلوان وهمدان، والزيتون جبال الشام لأنها منابتهما، كأنه قيل: ومنابت التين والزيتون. وقال محمد بن كعب: التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون مسجد إيليا. وقال الضحاك: مسجدان بالشام. وقال ابن زيد: التين مسجد دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس، وحسن القسم بهما لأنهما موضع الطاعة. وقيل: التين مسجد نوح عليه السلام الذي بناه على الجودي، والزيتون مسجد بيت المقدس. { {
{وطور سينين} ، أي: الجبل الذي ناجى عليه موسى عليه السلام ربه عز وجل، وسينين وسيناء اسمان للموضع الذي هو فيه فأضيف الجبل إلى المكان الذي هو فيه. وقال مقاتل والكلبيّ: سينين كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسيناء بلغة النبط ولم ينصرف سينين كما لا ينصرف سيناء لأنه جعل اسماً للبقعة أو الأرض، ولو جعل اسماً للمكان أو للمنزل، أو اسم مذكر لانصرف لأنك سميت مذكراً بمذكر وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام وهي الأرض المقدّسة، وقد بارك فيها قال الله تعالى: {إلى المسجد القصى الذي باركنا حوله} (الإسراء: 1)
ولا يجوز أن يكون سينين نعتاً للطور لإضافته إليه.
{وهذا البلد الأمين} ، أي: الآمن، من أمن الرجل أمانة فهو أمين، وهي مكة حرسها الله تعالى؛ لأنها الحرم الذي يأمن الناس فيه في الجاهلية والإسلام، لا ينفر صيده ولا يعضد ورقه، أي: شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد أو المأمون فيه يأمن فيه من دخله.
قال الزمخشريّ: ومعنى القسم بهذه(4/557)
الأشياء الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر منها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم عليه السلام، ومولد عيسى عليه السلام ومنشؤه والطور المكان الذي نودي منه موسى عليه السلام، ومكة البيت الذي هو هدى للعالمين ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه اه.
وقوله تعالى: {لقد خلقنا} ، أي: قدّرنا وأوجدنا بما لنا من العظمة والقدرة التامّة {الإنسان} جواب القسم والمراد بالإنسان: الجنس الذي جمع فيه الشهوة والعقل، وفيه من الإنس بنفسه ما ينسيه أكثر مهمه الشامل لآدم عليه السلام وذريته. وقيل: نزلت في منكري البعث. وقيل: في الوليد بن المغيرة وقيل: كلدة بن أسيد. وقوله تعالى: {في أحسن تقويم} صفة لمحذوف، أي: في تقويم أحسن تقويم. وقال أبو البقاء: في أحسن تقويم في موضع الحال من الإنسان، وأراد بالتقويم القوام لأن التقويم فعل وذاك وصف للخالق لا للمخلوق، ويجوز أن يكون التقدير في أحسن قوام التقويم فحذف المضاف، ويجوز أن تكون في زائدة، أي: قومناه أحسن تقويم اه.
وأحسن تقويم أعدله لأنه تعالى خلق كل شيء منكباً على وجهه وخلق الإنسان مستوياً، وله لسان ذلق ويد وأصابع يقبض بها. قال ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإنّ الله تعالى خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً وهذه صفات الله تعالى وعبر عنها بعض العلماء، ووقع البيان بقوله: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» يعني: على صفاته المتقدّم ذكرها.
وفي رواية على صورة الرحمن ومن أين يكون للرحمن صورة شخصية فلم تكن إلا معاني. وروي أنّ عيسى بن يوسف الهاشميّ كان يحب زوجته حباً شديداً، فقال لها يوماً: أنت طالق ثلاثاً إن لم تكوني أحسن من القمر فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني فبات بليلة عظيمة فلما أصبح غدا إلى دار المنصور فأخبره الخبر، فاستحضر الفقهاء واستشارهم، فقال جميع من حضر قد طلقت إلا رجلاً واحداً من أصحاب أبي حنيفة فإنه كان ساكتاً، فقال له المنصور: ما لك لا تتكلم، فقال الرجل: بسم الله الرحمن الرحيم {والتين والزيتون} إلى قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} يا أمير المؤمنين فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه، فقال المنصور لعيسى: الأمر كما قال الرجل فأقبل على زوجتك، فأرسل المنصور إليها أطيعي زوجك فما طلقك. وهذا يدل على أنّ الإنسان أحسن خلق الله تعالى ولذلك قيل: إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات اجتمع فيه.
{ثم رددناه} أي: بعض أفراداه بما لنا من القدرة الكاملة {أسفل سافلين} أي: إلى الهرم وأرذل العمر فيضعف بدنه وينقص عقله، والسافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال، والشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعاً لأنه لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً، فقوس ظهره بعد اعتداله، وأبيض شعره بعد اسوداده، وكل بصره وسمعه وكانا حديدين، وتغير كل شيء منه فمشيه دليف وصوته خفات وقوّته ضعف وشهامته خرف. وقيل: ثم رددناه إلى النار لأنها دركات بعضها أسفل من بعض.
فقوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا} أي: تصديقاً لدعواهم الإيمان {الصالحات} أي: الطاعات استثناء متصل على الثاني على أنّ المعنى: رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً يعني: أقبح من قبح صورة(4/558)
وأشوهه خلقة، وهم أهل النار وأسفل من سفل من أهل الدركات. فالاتصال على هذا واضح، وعلى الأوّل منقطع، أي: لكن الذين كانوا صالحين من الهرمى {فلهم} أي: فتسبب عن ذلك أن كان لهم {أجر غير ممنون} أي: ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم وصبرهم على ابتلاء الله تعالى لهم بالشيخوخة والهرم وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم وفي الحديث: «إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب له ما كان يعمل» . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إلا الذين قرؤوا القرآن، وقال: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر. ثم قال تعالى إلزاماً للحجة:
{فما يكذبك} أي: أيها الإنسان الكافر {بعد} أي: بعد ما ذكر من خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يستوي ويكمل ويصير في أحسن تقويم، ثم يردّ إلى أرذل العمر الدال على القدرة على البعث، فيقول: إنّ الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني فما سبب تكذيبك أيها الإنسان {بالدين} أي: الجزاء بعد هذا الدليل القاطع. وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى هذا يكون المعنى: فما الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء أو البعث بعد هذه العبر التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت
وقوله تعالى: {أليس الله} أي: الملك الأعظم على ما له من صفات الكمال {بأحكم الحاكمين} أي: بأقضى القاضين. وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله. وفي الحديث: «من قرأ التين إلى آخرها فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» . وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والتين أعطاه الله تعالى خصلتين العافية واليقين ما دام في دار الدنيا وإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة» حديث موضوع.
سورة العلق مكية
وهي عشرون آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وسبعون حرفاً
{بسم الله} الذي له صفة الكمال المستحق للإلهية {الرحمن} الذي عم جوده سائر البرية {الرحيم} الذي خص أهل طاعته بألطافه السنية.
عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: أنّ أوّل سورة نزلت من القرآن.
{اقرأ باسم ربك} وأوّل ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله تعالى: {ما لم يعلم} وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة» ولمسلم «الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحق» . وفي رواية «حتى فجاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال له: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ،. قلت: ما أنا بقارئ،. قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ،. قلت: ما أنا بقارئ،. قال: فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربك} حتى بلغ {ما لم يعلم} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/559)
يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: لقد خشيت على نفسي، فقالت له خديجة: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله تعالى أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى يا ليتني أكون فيها جذعاً ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجيّ هم؟ فقال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل
ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي» زاد البخاري قال: «وفتر الوحي حتى حزن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً حتى يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل عليه السلام فقال له: يا محمد إنك لرسول الله حقاً فيسكن لذلك جأشه، وتقرّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا مثل ذلك، فإذا وافى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له: مثل ذلك» . ففي الحديث دليل صحيح على أن سورة اقرأ أوّل ما نزل من القرآن، وفيه ردّ على من قال: إنّ المدثر أول ما نزل من القرآن، وعلى من قال: إنّ الفاتحة أوّل ما نزل ثم سورة القلم. وفي هذا الحديث من مراسيل الصحابة، ومرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني. وإنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك فيأتيه بصريح النبوّة بغتة فلا تحملها القوى البشرية، فبدئ بأوائل علامة النبوّة توطئة للوحي.
تنبيه: محل {باسم ربك} النصب على الحال، أي: اقرأ مفتتحاً باسم ربك أو مستعيناً به، قل: بسم الله ثم اقرأ. وقال أبو عبيدة: مجازه اقرأ اسم ربك، يعني: أنّ الباء زائدة، والمعنى: اذكر اسمه، أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تعالى تأديباً. وقيل: الباء بمعنى على، أي: أقرأ على اسم ربك كما في قوله تعالى: {وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها} (هود: 41)
قاله الأخفش. فإن قيل: كيف قدم هذا الفعل على الجاررّ وقدر مؤخراً في بسم الله الرحمن الرحيم، أي: على سبيل الأولوية كما في {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة: 4)
ولأنه تعالى مقدم ذاتاً لأنه قديم واجب الوجود لذاته فيقدم ذكراً؟ أجيب: بأن هذا في ابتداء القراءة وتعليمها لما مرّ أنها أول سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم باعتبار هذا العارض، وإن كان ذكر الله تعالى أهم في نفسه. وذكرت أجوبة غير هذا في مقدّمتي على البسلمة والحمدلة
وقوله تعالى: {الذي خلق} يجوز أن لا يقدّر له مفعول، ويراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه وأن يقدّر له مفعول ويراد خلق كل شيء فيتناول كل مخلوق لأنه مطلق فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض.
وقوله تعالى: {خلق الإنسان} أي: هذا الجنس الذي من شأنه الإنس بنفسه، وما رأى من أخلاقه وحسنه وما ألفه من أبناء(4/560)
جنسه تخصيص بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لأنّ التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان كما قال الله تعالى: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان} (الرحمن: 1 ـ 2)
فقيل: الذي خلق مبهماً، ثم فسره بقوله: {خلق الإنسان} تفخيماً لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته وقوله تعالى: {من علق} جمع علقة وهي الدم الجامد، فإذا جرى فهو المسفوح ولما كان الإنسان اسم جنس في معنى الجمع جمع العلق، ولمشاكلة رؤس الآي أيضاً
وقوله تعالى: {اقرأ} تكرير للمبالغة، أو الأول مطلق والثاني للتبيلغ، أو في الصلاة قال البيضاوي: ولعله لما قيل له: {اقرأ باسم ربك} قال ما أنا بقارئ فقيل له اقرأ: {وربك الأكرم} أي: الزائد في الكرم على كل كريم، فإنه ينعم على عباده النعم التي لا تحصى، ويحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه، وركوبهم المناهي في إطراحهم الأوامر، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم، فما لكرمه غاية ولا أمد، وكأنه ليس وراء التكرّم بإفادة الفوائد العلمية تكرّم حيث قال الأكرم:
{الذي علم} أي: بعد الحلم عن معاجلتهم بالعقاب جوداً منه تعالى من غير مانع من خوف عاقبة، ولا رجاء منفعة {بالقلم} أي: الخط بالقلم.
{علم الإنسان ما لم يعلم} فدل على كمال كرمه بأنه علَّم عباده مالم يعلموه، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به. ولبعضهم في صفة القلم:
*وروا قم رقش كمثل أراقم ... قطف الخطا نيالة أقصى المدى*
*سود القوائم ما يجدّ مسيرها ... إلا إذا لعبت بها بيض المدى*
وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى، ولولا ذلك لم يقم دين ولم يصلح عيش فدل على كمال كرمه تعالى. وروى عبد الله بن عمر قال: «قلت: يا رسول الله أكتب ما أسمع منك من الحديث قال: نعم فاكتب فإنّ الله تعالى علم بالقلم» . ويروى أنّ سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام فقال: ريح لا يبقى،. فقال: فما قيده؟ قال: الكتابة. وعن عمر قال: خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده، ثم قال تعالى لسائر الحيوان: كن فكان، وهي القلم والعرش وجنة عدن وآدم عليه السلام.
وفيمن علم بالقلم ثلاثة أقوال: أحدها: قال كعب: أوّل من كتب بالقلم آدم عليه الصلاة والسلام. ثانيها: قال الضحاك: إدريس عليه السلام. ثالثها: أنه جميع من كتب بالقلم لأنه ما علم إلا بتعليم الله تعالى.
وقال القرطبي: الأقلام ثلاثة في الأصل: القلم الأوّل: الذي خلقه الله تعالى بيده وأمره أن يكتب في اللوح المحفوظ، والثاني: قلم الملائكة الذي يكتبون به المقادير والكوائن، والثالث: أقلام الناس يكتبون بها كلامهم ويصلون بها إلى مآربهم. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهنّ الكتابة» . قال بعض العلماء: وإنما حذرهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لأنّ في إسكانهنّ الغرف تطلعاً إلى الرجال وليس في ذلك تحصين لهنّ ولا تستر، وذلك أنهنّ لا يملكن أنفسهنّ حين يشرفن على الرجال فتحدث الفتنة فحذر من ذلك، وكذلك تعليم الكتابة ربما كان سبباً للفتنة(4/561)
لأنها قد تكتب لمن تهوى، والكتابة عين من العيون بها يبصر الشاهد الغائب، والخط إشارة اليد وفيها تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسان، فهي أبلغ من اللسان فأحب صلى الله عليه وسلم أن يقطع عن المرأة أسباب الفتنة تحصيناً لها.
وقوله تعالى: {كلا} ردع لمن كفر بنعمة الله تعالى بطغيانه، وإن لم يذكره لدلالة الكلام عليه، فإنه تعالى قد عدّ مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهاراً لما أنعم عليه من أن نقله من أحسن المراتب إلى أعلاها تقريراً لربوبيته وتحقيقاً لأكرميته، {إن الإنسان} أي: هذا النوع الذي من شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه {ليطغى} أي: من شأنه إلا من عصمه الله تعالى أن يزيد على الحدّ الذي لا ينبغي له مجاوزته. { {
{أن رآه} أي: رأى نفسه {استغنى} أي: وجد له الغنى بالمال وقيل: أن يرتفع عن منزلته في اللباس والطعام وغير ذلك. نزلت في أبي جهل كان إذا زاد ماله زاد في ثيابه ومركبه وطعامه فذلك طغيانه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون أتاه أبو جهل، فقال: يا محمد أتزعم أنّ من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهباً لعلنا نأخذ فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد خيرهم في ذلك فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوا، فإن لم يفعلوا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة، فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء لهم. وقيل: {أن رآه استغنى} بالعشيرة والأنصار والأعوان، وحذف اللام من قوله تعالى: {أن رآه} كما يقال إنكم لتطغون أن رأيتم غناكم، فرأى علمية واستغنى مفعول ثان، وأن رأى مفعول له.
{إنَّ إلى ربك} أي: المحسن إليك بالرسالة التي رفع بها ذكرك لا إلى غيره {الرجعى} مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع، ففي ذلك تخويف للإنسان بأن يجازي العاصي بما يستحقه.
وقوله تعالى: {أرأيت} في مواضعها الثلاث للتعجب {الذي ينهى} أي: على سبيل التجدد والاستمرار وهو أبو جهل. { {
{عبداً} أي: من العبيد وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم {إذا صلى} أي: خدم سيده الذي لا يقدر أحد أن ينكر سيادته بإيقاع الصلاة التي هي أعظم العبادات. نزلت في أبي جهل وذلك أنه نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقالوا: نعم. فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته، ولأعفرنّ وجهه في التراب،. قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته فنكص على عقبيه وهو يتقي بيده، فقيل: له: مالك؟، فقال: إن بيني وبينه خندقاً من النار وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً فأنزل الله تعالى هذه الآية» . وفي رواية «لو فعله لأخذته الملائكة» زاد الترمذي: «عياناً» . وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة وفائدة التنكير في قوله تعالى: {عبداً} الدلالة على أنه كامل العبودية، كأنه قيل: ينهى أشدّ الخلق عبودية عن العبادة وهذا عين الجهل.
وقيل: إن هذا الوعيد يلزم كل من ينهى عن الصلاة عن طاعة الله تعالى ولا يدخل في ذلك المنع من الصلاة في الدار المغصوبة، وفي الأوقات المكروهة لأنه قد ورد النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة ولا يدخل أيضاً منع السيد عبده والرجل زوجته عن صوم التطوّع وقيام الليل والاعتكاف، لأنّ ذلك مصلحة إلا أن يأذن(4/562)
فيه السيد والزوج.
{أرأيت إن كان} أي: المنهي وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم {على الهدى} وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء، وعن ورش إبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائي، والباقون بالتحقيق
وقوله تعالى: {أو أمر بالتقوى} أي: بالإخلاص والتوحيد للتقسيم.
تنبيه: قوله تعالى: {أرأيت} تكرير للأوّل وكذا الذي في قوله:
{أرأيت إن كذب} وهو أبو جهل {وتولى} عن الإيمان.
{ألم يعلم} أي: يقع له علم يوماً من الأيام {بأن الله} الذي له صفات الكمال {يرى} ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك، أي: أعجب منه يا مخاطب في نهيه عن الصلاة من حيث إنّ المنهي على الهدى آمر بالتقوى وفي وجه التعجب وجوه:
أحدها: إنه صلى الله عليه وسلم قال «اللهمّ أعز الإسلام إمّا بأبي جهل وإمّا بعمر بن الخطاب» وهو ينهى عبداً إذا صلى.
الثاني: إنه يلقب بأبي الحكم فقيل: أيلقب بهذا وهو ينهى عن الصلاة فيتعجب منه، ومن حيث أن الناهي مكذب متول عن الإيمان.
الثالث: إنه كان يأمر وينهى ويعتقد وجوب طاعته ثم إنه ينهى عن طاعة الله تعالى.
وقوله تعالى: {كلا} ردع للناهي {لئن لم ينته} أي: عما هو فيه واللام لام قسم {لنسفعاً بالناصية} أي: لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدّة. قال عمرو بن معديكرب:
*قوم إذا نقع الصريخ رأيتهم ... ما بين ملجم مهره أو سافع*
والنقع الصوت. ولما علم أنها ناصية المذكور اكتفى باللام عن الإضافة، والآية وإن كانت في أبي جهل فهي عظة للناس وتهديد لمن يمنع غيره عن طاعة الله تعالى.
وقوله تعالى: {ناصية} بدل من الناصية قال الزمخشري: وجاز بدلها عن المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت، أي: ب {كاذبة خاطئة} واستقلت بفائدة واعترض عليه بأنّ هذا مذهب الكوفيين فإنهم لا يجيزون إبدال نكرة من معرفة إلا بشرط وصفها، أو كونها بلفظ الأوّل ومذهب البصريين لا يشترط شيء، والمعنى: لنأخذن بناصية أبي جهل الكاذبة في قولها الخاطئة في فعلها، والخاطئ معاقب مأخوذ والمخطئ غير مأخوذ ووصفت الناصية بالكاذبة الخاطئة كوصف الوجوه في قوله تعالى: {إلى ربها ناظرة} (القيامة: 23)
وإنما وصفت الناصية بالكاذبة لأنه كان يكذب على الله تعالى في أنه لم يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وعلى رسوله في أنه ساحر وليس بنبي ووصفت بأنها خاطئة لأنّ صاحبها تمرّد على الله تعالى كما قال تعالى: {لا يأكله إلا الخاطئون} (الحاقة: 37)
فهما في الحقيقة لصاحبها وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب خاطىء.
وروي أنّ أبا جهل مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال: ألم أنهك فأغلظ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتنهرني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً، فوالله لأملأنّ عليك هذا الوادي إن شئت خيلاً جرداً ورجالاً مرداً فأنزل الله تعالى:
{فليدع} أي: دعاء استغاثة {ناديه} أي: أهل ناديه ليعينوه فهو على حذف مضاف، لأنّ النادي هو المجلس الذي ينتدى فيه القوم قال تعالى: {وتأتون في ناديكم المنكر} (العنكبوت: 29)
أي: يتحدّثون فيه أو على التجوّز لأنه مشتمل على الناس كقوله تعالى: {واسأل القرية} (يوسف: 82)
ولا يسمى المكان نادياً حتى يكون فيه أهله، والمعنى فليدع عشيرته فلينتصر بهم.
{سندع} أي: بوعد لا خلف فيه {الزبانية} قال ابن عباس رضي الله عنهما:(4/563)
يريد زبانية جهنم سموا بها لأنهم يدفعون أهل النار إليها بشدّة، جمع زبني مأخوذ من الزبن وهو الدفع. وقال الزمخشري: الزبانية في كلام العرب الشُّرط الواحد زبنية. وقال الزجاج: هم الملائكة الغلاظ الشداد. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله تعالى. وروي «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى: {لنسفعاً بالناصية} قال: أبو جهل: أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك» . قال الله تعالى: {فليدع ناديه سندع الزبانية} فلما ذكر الزبانية رجع فزعاً، فقيل: له: خشيت منه؟ قال: لا ولكن رأيت عنده فارساً وهدّدني بالزبانية فلا أدري الزبانية، ومال إليّ الفارس فخشيت منه أن يأكلني. قال ابن عباس رضي الله عنهما: والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته» .
وقوله تعالى: {كلا} ردع لأبي جهل، أي: ليس الأمر على ما يظنه أبو جهل {ولا تطعه} أي: فيما دعاك إليه من ترك الصلاة كقوله تعالى: {ولا تطع المكذبين} وقوله تعالى: {واسجد} يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة، وأن يكون سجود التلاوة في هذه السورة، ويدل لهذا ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إذا السماء انشقت} (الانشقاق: 1)
وفي {اقرأ باسم ربك الذي خلق} سجدتين، وهذا نص أن المراد سجود التلاوة، ويدل للأوّل قوله تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى} إلى قوله تعالى: {كلا لا تطعه واسجد} أي: ودم على سجودك. قال الزمخشري: يريد الصلاة لأنه لا يرى سجود التلاوة في المفصل والحديث عليه. {واقترب} أي: وتقرّب إلى ربك بطاعته وبالدعاء إليه. قال صلى الله عليه وسلم «أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن ـ أي: فحقيق ـ أن يستجاب لكم» . «وكان صلى الله عليه وسلم يكثر في سجوده من البكاء والتضرّع حتى قالت عائشة رضي الله عنها: قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر فما هذا البكاء في السجود؟ وما هذا الجهد الشديد؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً» . وفي رواية: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء» . وقرأ ليطغى، واستغنى، إذا صلى، على الهدى، بالتقوى، وتولى حمزة والكسائي جميع ذلك بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين بين والفتح عن ورش قليل، والباقون بالفتح. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله» حديث موضوع.
سورة القدر مدنية
في قول أكثر المفسرين، وحكى الماوردي عكسه، وذكر الواحدي أنها أوّل سورة نزلت بالمدينة وهي خمس آيات وثلاثون كلمة ومائة واثنتا عشر حرفاً.
{بسم الله} الملك الأعظم الذي لا يعبد إلا إياه {الرحمن} الذي عمّ بجوده جميع خلقه أقصاه وأدناه {الرحيم} الذي قرّب أهل طاعته وأبعد من عداهم وأشقاه.
وقوله تعالى: {إنا أنزلناه} أي: بما لنا من العظمة، أي: القرآن فيه تعظيم له من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصاً به دون غيره.
والثاني: أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن(4/564)
التنبيه عليه.
والثالث: الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه، وهو قوله تعالى: {في ليلة القدر} .
{وما أدراك} أي: أعلمك يا أشرف الخلق {ما ليلة القدر} فإن في ذلك تعظيماً لشأنها. روي أنه أنزله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأملاه جبريل عليه السلام على السفرة، ثم كان ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحاجة إليه. وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه نزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين سنة، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة. قال ابن العربي: وهذا باطل ليس بين جبريل وبين الله تعالى واسطة، ولا بين جبريل وبين محمد صلى الله عليه وسلم واسطة، وعن الشعبي: إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: المعنى أنزل في شأنها وفضلها فليست ظرفاً، وإنما هو كقول عمر رضي الله عنه: خشيت أن ينزل فيّ قرآن. وقول عائشة رضي الله عنها لأنا أحقر في شأني أن ينزل فيّ قرآن. وسميت ليلة القدر لأن الله تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره إلى السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلمه إلى مدبرات الأمور من الملائكة، وهم إسرافيل وميكائيل وعزرائيل وجبرائيل عليهم السلام، كقوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} (الدخان: 4)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر، وهذا يصلح أن يكون جمعاً بين القولين في قوله تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} فإنه قيل فيها: إنها ليلة النصف من شعبان وقيل: ليلة القدر وحينئذ لا خلاف، وقيل: سميت بذلك لتضيقها بالملائكة. قال الخليل: لأن الأرض تضيق فيها الملائكة كقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه} (الطلاق: 7)
وقيل: سميت بذلك لعظمها وشرفها وقدرها من قولهم: لفلان قدر، أي: شرف ومنزلة قاله الأزهري وغيره. وقيل: سميت بذلك لأن للطاعة قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً. وقيل: لأنه أنزل فيها كتاباً ذا قدر على رسول ذي قدر، ومعنى أنّ الله تعالى يقدر الآجال: أنه يظهر ذلك لملائكته ويأمرهم بفعل ما هو من سعتهم بأن يكتب لهم ما قدّره في تلك السنة، ويعرّفهم إياه، وليس المراد أنه يحدث في تلك الليلة لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل قيل: للحسين بن الفضل: أليس قد قدر الله تعالى المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض، قال نعم، قيل له: فما معنى ليلة القدر، قال: سوق المقادير إلى المواقيت، وتنفيذ القضاء المقدّر.
واختلفوا هل هي باقية أو لا؟ فقيل: إنها كانت مرّة ثم انقطعت، وقيل: إنها رفعت بعد النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح أنها باقية إلى يوم القيامة. وروي عن عبد الله بن محسن مولى معاوية قال: قلت لأبي بكر: زعموا أن ليلة القدر قد رفعت، قال: كذب من قال ذلك، قلت: هي في كل شهر رمضان أستقبله، قال: نعم. وعن سعيد بن المسيب أنه سئل عن ليلة القدر أهي شيء كان فذهب، أم هي في كل عام، فقال: بل هي لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ما بقي منهم اثنان، واستدل من قال برفعها بقوله صلى الله عليه وسلم حين تلاحى الرجلان: «إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم» وهذا غفلة من هذا(4/565)
القائل ففي آخر الحديث «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها.
واختلفوا في وقتها فأكثر أهل العلم أنها مختصة برمضان، واحتجوا بقوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} (البقرة: 185)
. وقال تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} . فوجب أن لا تكون ليلة القدر إلا في رمضان لئلا يلزم التناقض. وروي عن أبي بن كعب أنه قال: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان حلف بذلك ثلاث مرات، وعن ابن عمر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال: «هي في كل رمضان» وقيل: هي دائرة في جميع السنة لا تختص برمضان حتى لو علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر لا يقع ما لم تنقض سنة من حين حلف، يروى ذلك عن أبي حنيفة. وعن ابن مسعود أنه قال: من أراد أن يعرف ليلة القدر فلينظر إلى غرة رمضان، أي: إلى أوّله فإن كان يوم الأحد فليلة القدر ليلة تسع وعشرين، وإن كان يوم الإثنين فليلة القدر إحدى وعشرين، وإن كان يوم الثلاثاء فليلة سبع وعشرين، وإن كان يوم الأربعاء فليلة تسعة عشر، وإن كان يوم الخميس فليلة خمس وعشرين، وإن كان ليلة الجمعة فليلة سبعة عشر، وإن كان يوم السبت فليلة ثلاث وعشرين. وعلى القول الأول هل هي في كل زمان أو في العشر الأخير قولان: أحدهما: أنها في كل شهره.
واختلفوا في، أي: ليلة منه فقال ابن رزين: هي الليلة الأولى من رمضان، وقال الحسن البصري: السابعة عشر، وقال أنس: التاسعة عشر، وقال محمد بن إسحاق: الحادية والعشرون، وقال ابن عباس: الثالثة والعشرون، وقال أبيّ بن كعب: السابعة والعشرون. وقيل: التاسعة والعشرون، وقيل: ليلة الثلاثين، وكل استدل على قوله بما يطول الكلام عليه. والقول الثاني وهو ما عليه الأكثرون أنها مختصة بالعشر الأخير منه، واستدل لذلك بأشياء منها: ما روى عبادة بن الصامت «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال: في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر» . ومنها: ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان» . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها» . وعنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله» .
واختلفوا في أنها أي: ليلة من العشر، هل في ليلة من ليالي العشر كله، أو في أوتاره فقط، وهل تلزم ليلة بعينها، أو تنتقل في جميعه أقوال. والذي عليه الأكثر أنها في جميعه، ولكن أرجاها أوتاره وأرجى الأوتار عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين يدل للأوّل خبر الصحيحين وللثاني خبر مسلم وأنها تلزم عنده ليلة بعينها. وقال المزني صاحب الشافعي وابن خزيمة: أنها متنقلة في ليالي العشر جمعاً بين الأحاديث، قال النووي: وهو قويّ. وقال في مجموعه أنه الظاهر المختار وخصها بعض العلماء بأوتار العشر الأواخر، وبعضهم بأشفاعه.
وقال ابن عباس وأبيّ: هي ليلة سبع وعشرين وهو مذهب أكثر أهل العلم، واستنبط ذلك بعضهم من أنّ ليلة القدر ذكرت ثلاث مرّات، وهي تسعة أحرف، وإذا ضربت تسعة في ثلاثة تكن سبعة وعشرين، وبعضهم استنبط ذلك من عدد كلمات السورة،(4/566)
وقال: إنها ثلاثون كلمة وفاقاً، وقوله تعالى: {هي} السابع والعشرون، وهي كناية عن هذه الليلة فبان أنها ليلة السابع والعشرين، وهو استنباط لطيف وليس بدليل كما قيل: وفيها نحو الثلاثين قولاً وبضع وعشرون حديثاً وأفردت بالتصنيف، وفيما ذكرناه كفاية.
وذكروا للسبب في إخفائها عن الناس وجوهاً:
أحدها: أنه تعالى أخفاها ليعظموا جميع السنة على القول بأنها فيها، أو جميع رمضان على القول به، أو جميع العشر الأخير على القول به، كما أخفى رضاه في الطاعات ليرغبوا في كلها، وأخفى غضبه في المعاصي ليحذروها كلها، وأخفى وليه من المسلمين ليعظموهم كلهم، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في الدعوات، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليجتهدوا في العبادة في جميع الأوقات المنهيّ عنها طمعاً في إدراكها، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل أسمائه تعالى، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسامها، وأخفى قيام الساعة ليكونوا على وجل من قيامها بغتة.
ثانيها: أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر واجتهد في الطاعة رجاء أن يدركها فيباهي الله تعالى به ملائكته، ويقول: تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء وهذا جدّه واجتهاده في الليلة المظنونة، فكيف لو جعلتها معلومة فحينئذ يظهر أني أعلم ما لا تعلمون. ثالثها: ليجتهدوا في طلبها والتماسها فينالوا بذلك أجر المجتهدين في العبادة، بخلاف ما لو عينت في ليلة بعينها لحصل الاقتصار عليها ففاتت العبادة في غيرها.
ثم ذكر الله تعالى فضلها من ثلاثة أوجه: أحدها: ما ذكره بقوله سبحانه: {ليلة القدر} أي: التي خصصناها بإنزالنا فيها {خير من ألف شهر} ليس فيها ليلة القدر فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ليست فيها ليلة قدر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما «ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وتمنى ذلك لأمّته، فقال: يا رب، جعلت أمتي أقصر الأمم أعماراً وأقلها أعمالاً، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، فقال تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولأمتك إلى يوم القيامة» ، أي: فهي من خصائص هذه الأمة.
وعن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي يبلغ غيرهم، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر التي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له: عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر، فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد، وهي أفضل ليالي السنة، ويدخل في ذلك ليلة الإسراء فهي أفضل منها إن لم تكن ليلة الإسراء ليلة القدر، كما قيل: إن الإسراء كان في رمضان، وإنما كان كذلك لما يريد الله تعالى فيها من المنافع فيكتب فيها جميع خير السنة وشرّها ورزقها وأجلها وبلائها ورخائها ومعاشها إلى مثلها من السنة، ولا يشكل ذلك بما قيل: إن الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى، لما ورد أنّ الله تعالى يأمر بنسخ ما يكون في السنة من الآجال والأمراض والأرزاق ونحوها في ليلة النصف من شعبان، فإذا كان ليلة القدر فيسلمها(4/567)
إلى أربابها. وقيل: يقدّر في ليلة النصف من شعبان الآجال والأمراض، وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة.
الوجه الثاني: من فضائلها ما ذكره الله تعالى في قوله جلّ ذكره.
{تنزل} أي: تنزلاً متدرجاً متواصلاً على غاية ما يكون من الخفة والسرعة بما أشار إليه حذف التاء {الملائكة} أي: إلى الأرض. روي أنه إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة وهم سكان سدرة المنتهى {والروح} أي: جبريل عليه السلام {فيها} أي: في الليلة ومعه أربعة ألوية فينصب لواء على قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ولواء على ظهر بيت المقدس، ولواء على ظهر المسجد الحرام، ولواء على ظهر سيناء، ولا يدع بيتاً فيه مؤمن ولا مؤمنة إلا دخله وسلم عليهم، يقول: يا مؤمن ويا مؤمنة السلام يقرئك السلام إلا على مدمن خمر، وقاطع رحم، وآكل لحم خنزير. وعن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم، أو قاعد يذكر الله تعالى» . وهذا يدل على أن الملائكة كلهم لا ينزلون، وظاهر الآية نزول الجميع وجمع بين ذلك بما روي أنهم ينزلون فوجاً فوجاً كما أنّ أهل الحج يدخلون الكعبة فوجاً بعد فوج، وإن كانت لا تسعهم دفعة واحدة كما أن الأرض لا تسع الملائكة دفعة واحدة، ولذلك ذكر بلفظ تنزل الذي يقتضي المرّة بعد المرّة، أي: ينزل فوج ويصعد فوج والله أعلم بذلك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن الملائكة في تلك الليلة أكثر من عدد الحصى، وقال بعضهم: الروح ملك تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة وله ألف رأس أعظم من الدنيا، وفي كل رأس ألف وجه، وفي كل وجه ألف فم، وفي كل فم ألف لسان يسبح الله تعالى بكل لسان ألف نوع من التسبيح والتحميد والتمجيد، ولكل لسان لغة لا تشبه لغة أخرى. فإذا فتح أفواهه بالتسبيح خرّت ملائكة السموات السبع سجداً مخافة أن تحرقهم أنوار أفواهه، وإنما يسبح الله تعالى غدوة وعشية فينزل في ليلة القدر لشرفها وعلوّ شأنها فيستغفر للصائمين والصائمات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بتلك الأفواه كلها إلى طلوع الفجر.
وعن عليّ أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ليلة أسري بي ملكاً رجلاه جاوزت من الأرض السابعة السفلى، ورأسه من السماء السابعة العليا، ومن لدن رأسه إلى قدميه وجوه وأجنحة في كل وجه فم ولسان يسبح الرحمن تسبيحاً لا يسبحه العضو الآخر، ولو أمره الله تعالى أن يلتقم السموات السبع والأرضين السبع لقمة واحدة، كما يلتقم أحدكم اللقمة لأطاق ذلك، ثم لم تكن تلك في فيه إلا كلقمة أحدكم في فيه، ولو سمع أهل الدنيا صوته بالتسبيح لصعقوا، ما بين شحمة أذنه إلى منكبه خفقان الطير السريع سبعة آلاف سنة، وهو رأس الملائكة» . وقيل: الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر. {بإذن ربهم} أي: بأمر المحسن إليهم المربي لهم {من كل أمر} أي: قضاه الله تعالى فيها لتلك السنة إلى قابل، وتقدّم الجمع بينها وبين ليلة النصف من شعبان، ومن سببية بمعنى الباء.
الوجه الثالث: فضائلها ما ذكره تعالى بقوله سبحانه:
{سلام} أي: عظيم جدّاً، وهو خبر مقدّم والمبتدأ. {هي} جعلت سلاماً لكثرة السلام فيها من الملائكة لا يمرّون بمؤمن ولا مؤمنة إلا سلمت عليه وستمرّون(4/568)
على ذلك من غروب الشمس {حتى} أي: إلى {مطلع الفجر} أي: وقت مطلعه، أي: طلوعه. وقرأ الكسائي بكسر اللام على أنه كالمرجع، واسم زمان على غير قياس كالمشرق، والباقون بفتحها.
ومن فضائلها أنّ من قامها غفرت له ذنوبه ففي الصحيحين: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه» . قال النووي في «شرح مسلم» : ولا ينال فضلها إلا من أطلعه الله تعالى عليها فلو قامها إنسان ولم يشعر بها لم ينل فضلها. قال الأذرعي وكلام المتولي ينازعه حيث قال: يستحب التعبد في كل ليالي العشر حتى يحوز الفضيلة على اليقين اه.
وهذا أولى نعم حال من أطلق أكمل إذا قام بوظائفها. وعن أبي هريرة مرفوعاً «من صلى العشاء الأخيرة في جماعة من رمضان فقد أدرك ليلة القدر» ، أي: أخذ حظاً منها. ويسنّ لمن رآها أن يكتمها، ويسنّ أن يكثر الدعاء والتعبد في ليالي رمضان وأن يكون من دعائه: «اللهمّ إنك عفوّ كريم تحب العفو فاعف عني» .
ومن علاماتها أنّ الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها، رواه مسلم عن أبيّ بن كعب وعن ابن مسعود: قال: «إنّ الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان إلا صبيحة ليلة القدر فإنها تطلع يومئذ بيضاء ليس لها شعاع» . فإن قيل: لا فائدة في هذه العلامة فإنها قد انقضت. أجيب: بأنه يستحب أن يجتهد في ليلتها ويبقى يعرفها كما مرّ عن الشافعي أنها تلزم ليلة واحدة. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة القدر أعطى من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر» حديث موضوع.
سورة لم يكن
وتسمى القيامة، وتسمى المنفكين مكية في قول يحيى بن سلام، ومدنية في قول الجمهور، وهي ثمان آيات وأربع وتسعون كلمة وثلاث مائة وتسعون حرفاً.
{بسم الله} الذي لا يخرج شيء عن مراده {الرحمن} الذي عمّ بنعمه جميع عباده {الرحيم} الذي خص أولياءه بإسعاده.
ولما كان الكفار جنسين أهل كتاب ومشركين ذكرهم الله تعالى في قوله سبحانه:
{لم يكن الذين كفروا} أي: في مطلق الزمان الماضي والحال والاستقبال {من أهل الكتاب} أي: من اليهود والنصارى الذين كان أصل دينهم حقاً فألحدوا فيه بالتبديل والتحريف والاعوجاج في صفات الله تعالى، ثم نسخه الله تعالى بما شرع من مخالفته في الفروع وموافقته في الأصول فكذبوا. {والمشركين} أي: بعبادة الأصنام والنار والشمس، ونحو ذلك ممن هم عريقون في دين لم يكن له أصل في الحق، بأن لم يكن لهم كتاب.
تنبيه: من للبيان. وقوله تعالى: {منفكين} خبر يكن، أي: منفصلين وزائلين عما كانوا عليه من دينهم انفكاكاً يزيلهم عنه بالكلية بحيث لا تبقى لهم به علقة، ويثبتون على ذلك الانفكاك، وأصل الفك الفتح والانفصال لما كان ملتحماً من فك الكتاب والختم والعظم إذا أزيل ما كان ملتصقاً أو متصلاً به، أو عن الموعد باتباع الحق إذا جاءهم الرسول المبشر به، فإنّ أهل الكتاب كانوا يستفتحون به، والمشركين كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من(4/569)
إحدى الأمم.
فإن قيل: لِمَ قال تعالى: {كفروا} بلفظ الماضي، وذكر المشركين باسم الفاعل؟ { {
أجيب: بأنّ أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أوّل الأمر، لأنهم كانوا مصدّقين بالتوراة والإنجيل وبمبعث محمد صلى الله عليه وسلم بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وذلك يدل على الثبات على الكفر.
وقوله تعالى: {حتى} أي: إلى أن {تأتيهم البينة} متعلق بيكن أو بمنفكين، والبينة الآية التي هي البيان كالفجر المنير الذي لا يزداد بالتمادي إلا طوراً وضياء ونوراً، وذلك هو الرسول صلى الله عليه وسلم وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب، وهو القرآن.
وقوله تعالى: {رسول} أي: عظيم جدّاً بدل من البينة بنفسه، أو بتقدير مضاف، أي: سنة رسول، أو مبتدأ وزاد عظمته بقوله تعالى واصفاً له: {من الله} أي: الذي له الجلال والإكرام وهو محمد صلى الله عليه وسلم لأنه في نفسه بينة وحجة ولذلك سماه الله تعالى سراجاً منيراً، ولأنّ اللام في البينة للتعريف، أي: هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى عليهم السلام. وقد يكون التعريف للتفخيم؛ إذ هو البينة التي لا مزيد عليها والبينة كل البينة، وكذا التنكير وقد جمعها الله تعالى ههنا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم
ونظيره: قوله تعالى حين أثنى على نفسه: {ذو العرش المجيد فعال لما يريد} (البروج، الآيتان: 15 ـ 16)
فنكر بعد التعريف. وقال أبو مسلم: المراد من البينة مطلق الرسول وما معه من الآيات التي أعظمها الكتاب سواء التوراة أو الزبور أو الانجيل أو القرآن، وعبر بالمضارع لتجدّد البيان في كل وقت بتجدّد الرسالة والتلاوة. وقال البغوي: لفظه مستقبل ومعناه الماضي، أي: حتى أتتهم البينة، وتبعه على ذلك الجلال المحلى. وقوله تعالى: {يتلو صحفاً} صفة الرسول، أو خبره والرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان أمّياً لكنه لما تلا مثل ما في الصحف كان كالتالي لها. وقيل: المراد جبريل عليه السلام وهو التالي للصحف المنتسخة من اللوح التي ذكرت في سورة عبس، ولا بدّ من مضاف محذوف وهو الوحي. والصحف جمع صحيفة وهي: القرطاس، والمراد فيها عبر بها عنه لشدّة المواصلة {مطهرة} أي: في غاية الطهارة والنزاهة من كل قذر مما جعلنا لها من البعد عن الأدناس بأنّ الباطل من الشرك بالأوثان، وغيرها من كل زيغ لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها، وأنها لا يمسها إلا المطهرون.
{فيها} أي: تلك الصحف {كتب} أي: أحكام مكتوبة {قيمة} أي: مستقيمة ناطقة بالحق والعدل الذي لا مرية فيه ليس فيه شرك، ولا اعوجاج بنوع من الأنواع.
{وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب} أي: عما كانوا عليه، وخص أهل الكتاب بالتفرق دون غيرهم وإن كانوا مجموعين مع الكافرين، لأنهم يظنون بهم علماً فإذا تفرّقوا كان غيرهم ممن لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. {إلا من بعد جاءتهم البينة} أي: أتتهم البينة الواضحة، والمعنيّ به محمد صلى الله عليه وسلم أتى بالقرآن موافقاً للذي في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته، وذلك أنهم كانوا مجمعين على نبوته فلما بعث صلى الله عليه وسلم جحدوا نبوّته وتفرّقوا، فمنهم من كفر بغياً وحسداً ومنهم من آمن كقوله تعالى: {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} (الشورى: 14)
. وقال تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} (البقرة: 89)
وقد كان مجيء البينة يقتضي اجتماعهم على الحق لا تفرّقهم(4/570)
فيه. وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف بعد الجيم محضة، والباقون بالفتح.
ولما كان حال من أضل على علم أشنع زاد في فضيحتهم فقال تعالى:
{وما أمروا} أي: هؤلاء في التوراة والإنجيل {إلا ليعبدوا الله} أي: يوحدوا الإله الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد غيره، واللام بمعنى أن كقوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} (النساء: 26)
. وقوله تعالى: {مخلصين له الدين} فيه دليل على وجوب النية في العبادات لأنّ الإخلاص من عمل القلب، وهو أن يراد به وجه الله تعالى لا غيره، ومن ذلك قوله: {إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين} (الزمر: 11)
. {حنفاء} أي: مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وأصل الحنف في اللغة: الميل وخصه العرف بالميل إلى الخير، وسموا الميل إلى الشرّ إلحاداً والحنيف المطلق الذي يكون متبرئاً عن أصول الملل الخمسة اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين. وعن فروعها من جميع النحل إلى الاعتقادات، وعن توابعها من الخطأ والنسيان إلى العمل الصالح، وهو مقام التقى، وعن المكروهات إلى المستحبات وهو المقام الأوّل من الورع، وعن الفضول شفقة على خلق الله وهو ما لا يعني إلى ما يعنى وهو المقام الثاني من الورع، وعما يجر إلى الفضول وهو مقام الزهد، فالآية جامعة لمقامي الإخلاص. الناظر: أحدهما: إلى الحق، والثاني: إلى الخلق.
ولما ذكر أصل الدين أتبعه الفروع، وبدأ بأعظمها الذي هو مجمع الدين وموضع التجرّد عن العوائق، فقال عز من قائل: {ويقيموا} أي: يعدلوا من غير اعوجاج بجميع الشرائط والأركان والحدود {الصلاة} لتصير بذلك أهلاً بأن تقوم بنفسها، وهي من التعظيم لأمر الله تعالى.
ولما ذكر تعالى صلة الخالق أتبعها صلة الخلائق بقوله تعالى: {ويؤتوا الزكاة} أي: يدفعوها لمستحقيها شفقة على خلق الله تعالى إعانة على الدين، أي: ولكنهم حرّفوا ذلك وبدّلوه بطبائعهم المعوجة، وتدخل الزكاة عند أهل الله تعالى في كل ما رزق الله من عقل وسمع وبصر ولسان ويد ورجل وجاه، وغير ذلك كما هو واضح من قوله تعالى: {وممارزقناهم ينفقون} (البقرة: 3)
. {وذلك} أي: والحال أنّ هذا الموصوف من العبادة على الوجه المذكور {دين القيمة} أي: الملة المستقيمة، وأضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين، وأنث القيمة ردّاً بها إلى الملة. وقيل: الهاء للمبالغة فيه. وقيل: القيمة هي الكتب التي جرى ذكرها، أي: وذلك دين الكتب القيمة فيما تدعو إليه وتأمر به، كما قال تعالى: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} (البقرة: 213)
. وقال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى: {وذلك دين القيمة} فقال: القيمة جمع القيم، والقيم والقائم واحد. قال البغوي: ومجاز الآية: وذلك دين القائمين لله تعالى بالتوحيد.
ثم ذكر تعالى ما للفريقين فقال سبحانه:
{إنّ الذين كفروا} أي: وقع منهم الستر لمرأى عقولهم بعد صرفها للنظر الصحيح فضلوا واستمروا على ذلك، وإن لم يكونوا عريقين فيه {من أهل الكتاب} أي: اليهود والنصارى {والمشركين} أي: العريقين في الشرك {في نارجهنم} أي: النار التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة {خالدين فيها} أي: يوم القيامة، أو في الحال لسعيهم لموجباتها. واشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب التساوي في النوع، بل يختلف بحسب اشتداد الكفر وخفته {أولئك} أي: هؤلاء البعداء البغضاء {هم} أي: خاصة بما لضمائرهم من الخبث {شر البرية} أي:(4/571)
الخليقة الذين أهملوا إصلاح أنفسهم وفرّطوا في حوائجهم ومآربهم، وهذا يحتمل أن يكون على التعميم، وأن يكون بالنسبة لعصر النبيّ صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وأني فضلتكم على العالمين} (البقرة: 47)
أي: عالمي زمانهم، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل من هو شرّ منهم، مثل فرعون وعاقر ناقة صالح.
ولما ذكر تعالى الأعداء وبدأ بهم لأنّ ذلك أردع لهم أتبعه الأولياء فقال تعالى مؤكداً ما للكفار من الإنكار:
{إنّ الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} أي: هذا النوع {أولئك} أي: هؤلاء العالو الدرجات {هم} أي: خاصة {خير البرية} أي: على التعميم، أو برية عصرهم يأتي فيه ما مرّ. وقرأ نافع وابن ذكوان بالهمز في الحرفين لأنه من قولهم برأ الله الخلق، والباقون بالياء المشدّدة بعد الراء كالذرية ترك همزه في الاستعمال. ثم ذكر ثوابهم بقوله تعالى: { {
{جزاؤهم} أي: على طاعاتهم وعظمه بقوله تعالى: {عند ربهم} أي: المربي لهم والمحسن إليهم {جنات عدن} أي: إقامة لا يحولون عنها {تجري} أي: جرياً دائماً لا انقطاع له {من تحتها} أي: تحت أشجارها وغرفها {الأنهار خالدين فيها} أي: يوم القيامة، أو في الحال لسعيهم في موجباتها وأكد معنى الخلود تعظيماً لجزائهم بقوله تعالى: {أبداً رضي الله} أي: بما له من نعوت الجلال والجمال {عنهم} أي: بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق {ورضوا عنه} لأنهم لم يبق لهم أمنية إلا أعطاهموها مع علمهم أنه تفضل في جميع ذلك لا يجب عليه لأحد شيء، ولا يقدره أحد حق قدره فلو أخذ الخلق بما يستحقونه لأهلكهم كما قال تعالى: {لو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} (فاطر: 45)
. وقال ابن عباس: ورضوا عنه بثواب الله عز وجل. {ذلك} أي: الأمر العالي الذي جوزوا به {لمن خشي ربه} أي: خاف المحسن إليه خوفاً يليق به فلم يركن إلى التسويف والتكاسل، فإنّ الخشية ملاك الأمر والباعث على كل خير وهي للعارفين، فإنّ الإنسان إذا استشعر عذاباً يأتيه لحقته حالة يقال لها: الخوف، وهي انخلاع القلب عن طمأنينته، فإن اشتدّ سمي: وجلاً لجولانه في نفسه، فإن اشتدّ سمي: رهباً لأدائه إلى الهرب وهي حالة المؤمنين الفارّين إلى الله تعالى. ومن غلب عليه الحب لاستغراقه في شهود الجماليات لحقته حالة تسمى مهابة ووراء هذا الخشية {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28)
فمن خاف ربه هذا الخوف أنفك عن جميع ما عنده مما لا يليق بجنابه تعالى، وما فارق الخوف قلباً إلا خرب. روى أنس «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كعب: إنّ الله أمرني أن أقرأ عليك {لم يكن الذين كفروا} قال أبيّ: وسماني لك؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم نعم فبكى أبيّ» . قال البقاعي: سبب تخصيصه بذلك أنه وجد اثنين من الصحابة قد خالفاه في القراءة فرفعهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهما فعرضا عليه فحسن لهما قال: فسقط في نفسي من التكذيب أشدّ ما يكون في الجاهلية، فضرب صلى الله عليه وسلم في صدري ففضت عرقاً وكأنما أنظر إلى الله فرقاً، أي: خوفاً ثم قصَّ عليّ خبر التخفيف بالسبعة الأحرف، وكانت السورة التي وقع فيها الخلاف النحل، وفيها أنه تعالى يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم يوم البعث شهيداً، وأنه نزل عليه الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة، وأنه نزل عليه روح القدس بالحق ليثبت الذين آمنوا،(4/572)
وأنّ اليهود اختلفوا في السبت.
وسورة لم يكن على قصرها حاوية إجمالاً لكل ما في النحل على طولها وزيادة، وفيها التحذير من الشك بعد البيان، وتقبيح حال من فعل ذلك وأنّ حاله يكون كحال الكفرة من أهل الكتاب في العناد فيكون شر البرية فقرأها صلى الله عليه وسلم تذكيراً له بذلك كله على وجه أبلغ وأخصر ليكون أسرع له تصوّراً، فيكون أرسخ في النفس، وأثبت في القلب، وأعشق للطبع، فاختصه الله بالتثبيت، وأراد له الثبات فكان من المريدين المرادين لما وصل إلى قلبه بركة ضربة النبيّ صلى الله عليه وسلم لصدره، وصار كلما قرأ هذه السورة الجامعة غائباً عن تلاوة نفسه مصغياً بإذن قلبه إلى روح النبوّة يتلو عليه ذلك فيدوم له حال الشهود الذي وصل إليه بسر تلك الضربة، ولثبوته في هذا المقام قال صلى الله عليه وسلم «اقرؤكم أُبيّ» . قال القرطبي: وفيه من الفقه قراءة العالم على المتعلم. وقال بعضهم: إنما قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبيّ ليعلم الناس التواضع، لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على دونه في المنزلة. وقيل: إنّ أبياً كان أسرع أخذاً لألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد بقراءته عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليه ويعلم غيره وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ؛ إذ أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة لم يكن كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلاً» . حديث موضوع.
سورة الزلزلة مدنية
في قول ابن عباس وقتادة ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر وهي ثمان آيات وخمس وثلاثون كلمة ومائة وتسع وأربعون حرفاً.
{بسم الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {الرحمن} الذي عمّ الخلق بنعمته الظاهرة قسماً {الرحيم} الذي أتم النعمة على خواصه حقيقة عيناً واسماً.
ولما قال تعالى: للمؤمنين {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن} كأنَّ المكلف قال: متى يكون ذلك فقيل: له:
{إذا زلزلت الأرض} أي: تحرّكت واضطربت لقيام الساعة، فالعاملون كلهم يكونون في الخوف وأنت في ذلك الوقت تنال جزاءك وتكون آمناً لقوله تعالى: {وهم من فزع يومئذ آمنون} (النمل: 89)
. {زلزالها} أي: تحريكها الشديد المناسب لعظم جرم الأرض وعظمة ذلك كما تقول: أكرم التقي إكرامه، وأهن الفاسق إهانته تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة.
ولما كان الاضطراب العظيم يكشف عن الخفي في المضطرب قال تعالى: { {
{وأخرجت الأرض} أي: كلها، ولم يضمر تحقيقاً للعموم {أثقالها} أي: مما هو مدفون فيها من الكنوز والأموات. قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها. وقال ابن عباس ومجاهد: أثقالها أمواتها تخرجهم في النفخة الثانية، ومنه قيل للجنّ والإنس: الثقلان. وقيل: أثقالها كنوزها، ومنه الحديث: «تنفى الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول:(4/573)
في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً» فيعطيها الله تعالى قوّة إخراج ذلك كله كما كان يعطيها قوّة أن تخرج النبات الصغير اللطيف الطريّ الذي هو أنعم من الحرير، فتشق الأرض الصلبة التي تكل عنها المعاويل شق النواة مع ما لها من الصلابة التي استعصت بها على الحديد، فتنفلق نصفين وينبت منها سائر ما يريده سبحانه وتعالى فالذي قدر على ذلك قادر على تكوين الموتى في بطن الأرض، وإعادتهم على ما كانوا عليه كما يكون الجنين في البطن، ويشق جميع منافذه من السمع والبصر والفم وغير ذلك من غير أن يدخل هناك بيكار ولا منشار، ثم يخرج من البطن. هكذا إخراج الموتى من غير فرق كل ذلك عليه هين سبحانه. ما أعظم شأنه وأعز سلطانه.
{وقال الإنسان} أي: هذا النوع الصادق بالقليل والكثير لما له من النسيان لما أكده عنده من أمر البعث لما له من الإنس بنفسه، والنظر في عطفه على سبيل التعجب أو الدهش والحيرة أو الكافر كما يقول: {من بعثنا من مرقدنا} (يس: 52)
فيقول له المؤمن: {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} (يس: 52)
. {ما لها} أي: أيّ شيء ثبت للأرض في هذه الزلزلة الشديدة التي لم يعهد مثلها ولفظت ما في بطنها.
{يومئذ} أي: إذ كان ما ذكر من الزلزال وما لزم عنه وقوله تعالى: {تحدّث أخبارها} جواب إذا وهو الناصب لها عند الجمهور، ومعنى تحدّث، أي: تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شرّ يومئذ، ثم قيل: هو من قول الله تعالى، وقيل: من قول الإنسان، أي: يقول الإنسان ما لها تحدّث أخبارها متعجباً. روى الترمذي عن أبي هريرة أنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {يومئذ تحدّث أخبارها} قال: «أتدرون ما أخبارها قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا وكذا كذا وكذا. قال: فهذه أخبارها» .
في تحديثها بأخبارها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّ الله تعالى يقلبها حيواناً ناطقاً فتتكلم بذلك.
ثانيها: أنّ الله تعالى يحدث فيها الكلام.
ثالثها: أن يكون فيها بيان يقوم مقام الكلام. قيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره يومئذ تحدث أخبارها فيقول الإنسان مالها أي: تخبر الأرض بما عمل عليها.
{بأن ربك} متعلق بتحدِّث، ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها والباء سببية، أي: تحدّث بسبب أن ربك المحسن إليك بأنواع النعم {أوحى لها} أي: أذن لها أن تتكلم بذلك المذكور بالقال أو بالحال على ما مرّ. قال البقاعي: وعدل عن قوله إليها إلى قول الله تعالى: {لها} إيذاناً بالإسراع في الإيحاء. وقال البغوي: أوحى إليها واحد. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة،. وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح.
وقوله تعالى: {يومئذ} بدل من يومئذ قبله منصوب بقوله تعالى: {يصدر} أو بأذكر مقدّراً، أي: واذكر يوم إذ كان ما تقدّم وهو حين يقوم الناس من القبور يصدر {الناس} أي: يرجعون من قبورهم إلى ربهم الذي كان لهم بالمرصاد ليفصل بينهم. وقرأ حمزة والكسائي بإشمام الصاد بين الصاد والزاي، والباقون بالصاد الخالصة {أشتاتاً} أي: متفرّقين بحسب مراتبهم في الذوات والأحوال من مؤمن وكافر، وآمن وخائف، ومطيع وعاص. وعن ابن عباس: متفرّقين على قدر أعمالهم أهل الإيمان على حدة، أو متفرّقين فأخذ ذات اليمين(4/574)
على الجنة، وأخذ ذات الشمال إلى النار {ليروا} أي: يرى الله تعالى المحسن منهم والمسيء بواسطة من شاء من جنوده، أو بغير واسطة حين يكلم سبحانه كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة كما أخبر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم {أعمالهم} فيعلموا جزاءها، أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله، ثم سبب عن ذلك قوله تعالى مفصلاً الجملة التي قبله: {فمن يعمل} من محسن أو مسيء، مسلم أو كافر {مثقال ذرّة خيراً} أي: من جهة الخير {يره} أي: يرى ثوابه حاضراً لا يغيب عنه شيء منه، لأنّ المحاسب له الإحاطة علماً وقدرة.
{ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره} فالمؤمن يراه ليشتدّ سروره به، والكافر يوقف على عمله أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان، أو على أنه جوزي في الدنيا فهو صورة بلا معنى ليشتدّ ندمه وتبقى حسرته. وعن ابن عباس: من يعمل من الكفار خيراً يره في الدنيا ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرّة من شر من المؤمنين يره في الدنيا ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا تاب ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرّة من خير يقبل منه ويضاعف في الآخرة
وفي بعض الأحاديث: إنّ الذرّة لا زنة لها، وهذا مثل ضربه الله تعالى ليبين أنه لا يغفل عن عمل ابن آدم صغيراً ولا كبيراً، وهو كقوله تعالى: {إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة} (النساء: 40)
. وذكر بعض أهل اللغة أنّ الذرأن يضرب الرجل يده على الأرض فما علق من التراب فهو الذر. وعن ابن عباس: إذا وضعت يدك على الأرض ورفعتها فكل واحدة مما لزق من التراب ذرّة، وفسرها بعضهم بالنملة الصغيرة، وبعضهم بالهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة. وقال محمد كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرّة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى خير ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ، من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله تعالى شررّ ودليله ما روى أنس «أن هذه الآية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يأكل فأمسك وقال: يا رسول الله وإنا لنرى ما عملنا من خير وشرّ؟ فقال صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر ويدّخر لكم مثاقيل ذر الخير حتى تعطوه يوم القيامة» . وقال أبو إدريس: إنّ مصداقه من كتاب الله عز وجل: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى: 30)
. وقال مقاتل: نزلت في رجلين أحدهما كان يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول: إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر فنزلت هذه الآية لترغبهم في القليل من الخير يعطوه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة» وتحذرهم من اليسير من الذنب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: «إياك ومحقرات الذنوب فإنّ لها من الله تعالى طالباً» وقال ابن مسعود: هذه الآية أحكم آية في القرآن وأصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية.
وقال كعب الأحبار: لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آيتان أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره} . وكان صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الجامعة الفاذة(4/575)
حين سئل عن زكاة الحمير فقال: «ما نزل عليّ فيها شيء غير هذه الآية الجامعة الفاذة» : {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره} . وروى مالك في الموطأ أنّ مسكيناً استطعم عائشة رضي الله عنها وبين يديها عنب، فقالت لإنسان خذ حبة فأعطه إياها فجعل ينظر إليها ويتعجب فقالت: أتعجب كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرّة، وكذا تصدّق عمر رضي الله عنه، وإنما فعلا ذلك لتعليم الغير وإلا فهما من كرماء الصحابة. قال الربيع بن خيثم مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه الآية فلما بلغ آخرها قال: حسبي قد انتهت الموعظة.
تنبيه: قوله تعالى: {يره} جواب الشرط في الموضعين. وقرأ هشام بسكون هاء يره وصلاً في الحرفين، والباقون بضمها وصلاً وساكنة وقفاً كسائر هاء الكناية. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ إذا زلزلت أربع مرّات كان كمن قرأ القرآن كله» ، رواه الثعلبي بسند ضعيف لكن يشهد له ما رواه ابن أبي شيبة مرفوعاً «إذا زلزلت تعدل ربع القرآن» .
سورة والعاديات مكية
في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، ومدنية في قول ابن عباس وأنس ابن مالك، وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة وثلاثة وستون حرفاً.
{بسم الله} الذي له الأمر كله فلا يسئل عما يفعل {الرحمن} الذي نعمته أتم نعمة وأشمل {الرحيم} الذي خص أولياءه بتوفيقه وأتم نعمته عليهم وأكمل.
وقوله سبحانه وتعالى:
{والعاديات ضبحاً} قسم أقسم الله سبحانه بخيل الغزاة تعدو فتضبح، والضبح: صوت أنفاسها إذا عدون. وعن ابن عباس أنه حكاه فقال: أح أح، قال عنترة:
*والخيل تكدح حين تض ... بح في حياض الموت ضبحا*
وانتصاب ضبحاً على يضبحن أو بالعاديات، كأنه قيل: والضابحات ضبحاً لأنّ الضبح يكون مع العدو، أو على الحال، أي: ضابحات، والعاديات جمع عادية وهي الجارية بسرعة من العدو وهو المشي بسرعة. { {
وعن ابن عباس: كنت جالساً في الحجر فجاء رجل فسألني عن العاديات ضبحاً ففسرتها بالخيل فذهب إلى عليّ رضي الله عنه، وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت، فقال: ادعه لي فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا فرسان؛ فرس للزبير وفرس للمقداد العاديات ضبحاً الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى. قال الزمخشري: فإن صحت الرواية فقد استعير الضبح للإبل كما استعير المشافر والحافر للإنسان، والشفتان للمهر وما أشبه ذلك. قال ابن عباس: وليس شيء من الحيوان يضبح غير الفرس والكلب والثعلب، ونقل غيره أنّ الضبح يكون في الإبل والأسود من الحيات والبوم والضرو والأرنب والثعلب والفرس.
ثم اتبع عدوها ما ينشأ عنه فقال تعالى عاطفاً بأداة التعقيب:
{فالموريات قدحاً} قال عكرمة والضحاك: هي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة لا سيما عند سلوك الأوعار، وقدحاً منصوب لما انتصب به ضبحاً. قال(4/576)
الزمخشري: ففيه الثلاثة أوجه المتقدّمة. وعن ابن عباس: أورت بحوافرها غباراً، وهذا إنما يناسب من فسر العاديات بالإبل. وقال ابن مسعود: هي الإبل تطأ الحصى فتخرج منه النار أصل القدح: الاستخراج، ومنه قدحت العين إذا أخرجت منها الماء الفاسد. وعن قتادة وابن عباس أيضاً: أنّ الموريات قدحاً الرجال في الحرب، والعرب تقول: إذا أرادوا أنّ الرجل يمكر بصاحبه والله لأمكرنّ بك ثم لأورين لك، وعن ابن عباس أيضاً: هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل لحاجتهم وطعامهم، وعنه أيضاً: إنها نيران المجاهدين إذا كثرت إرهاباً ليظنهم العدوّ كثيراً قال القرطبي: وهذه الأقوال مجاز كقولهم: فلان يوري زناد الضلالة والأوّل الحقيقة وأنّ الخيل من شدّة عدوها تقدح النار بحوافرها. وقال مقاتل: تسمى تلك النار نار أبي حباب، وأبو حباب كان شيخاً من مضر في الجاهلية من أبخل الناس، وكان لا يوقد نار الخبز ولا غيره حتى تنام العيون فيوقد نويرة تقد مرّة وتخمد أخرى، فإن استيقظ لها أحداً أطفأها كراهة أن ينتفع بها أحد، فشبهت العرب هذه النار بناره لأنه لا ينتفع بها.
ولما ذكر العدو وما يتأثر عنده ذكر نتيجته وغايته بقوله:
{فالمغيرات} أي: بإغارة أهلها وقوله تعالى: {صبحاً} ظرف، أي: التي تغير وقت الصبح يقال أغار بغير إغارة إذا باغت عدوّه لنهب أو قتل أو أسر، قال الشاعر:
*فليت لي بهم قوماً إذا اركبوا ... شنوا الإغارة فرساناً وركبانا*
وغار لغية.
{فأثرن} أي: فهيجن {به} أي: بفعل الإغارة ومكانها وزمانها من شدّة العدو {نقعاً} أي: غبار الشدّة حركتهنّ والنقع الغبار.
تنبيه: عطف الفعل وهو فأثرن على الاسم لأنه في تأويل الفعل لوقوعه صلة لأل. وقال الزمخشري: معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، لأنّ المعنى واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن.
{فوسطن به} أي: بذلك النقع أو العدو أو الوقت {جمعاً} من العدوّ، أي: صرن وسط العدو وهو الكتيبة، يقال: وسطت القوم بالتخفيف ووسطتهم بالتشديد، وتوسطتهم بمعنى واحد. وقال القرطبي: يعني جمع منى وهو مزدلفة، فوجه القسم على هذا أنّ الله تعالى أقسم بالإبل لما فيها من المنافع الكثيرة وتعريضه بإبل الحج للترغيب فيه، وفيه تعريض على من لم يحج بعد القدرة عليه كما في قوله تعالى: {ومن كفر} أي: من لم يحج {فإنّ الله غنيّ عن العالمين} (آل عمران: 97)
وجواب القسم قوله تعالى:
{إنّ الإنسان} أي: هذاالنوع بما له من الإنس بنفسه والنسيان لما ينفعه {لربه} المحسن إليه بإبداعه ثم بإبقائه وتدبيره وتربيته {لكنود} قال ابن عباس: لكفور جحود لنعم الله تعالى. وقال الكلبي: هو بلسان ربيعة ومضر الكفور وبلسان كندة وحضرموت العاصي. وقال الحسن: هو الذي يعدّ المصائب وينسى النعم وقال أبو عبيدة: هو قليل الخير والأرض الكنود التي لا تنبت شيئاً، وفي الحديث عن أبي امامة هو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده. وقال الفضيل بن عياض: الكنود الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، والشكور الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة.
{وإنه} أي: الإنسان {على ذلك}(4/577)
أي: الكنود العظيم حيث أقدم على مخالفة الملك الأعظم المحسن مع الكفر لإحسانه {لشهيد} أي: يشهد على نفسه ولا يقدّر أن يجحده لظهور أثره عليه، أو أن الله تعالى على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد.
{وإنه} أي: الإنسان من حيث هو {لحب} أي: لأجل حب {الخير} أي: المال الذي لا يعدّ غيره لجهله خيراً {لشديد} أي: بخيل بالمال ضابط له ممسك عليه، أو بليغ القوة في حبه لأنّ منفعته في الدنيا، وهو متقيد بالعاجل الحاضر المحسوس مع علمه بأنّ أقل ما فيه أنه يشغله عن حسن الخدمة لربه تعالى، ومع ذلك فهو لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق، وهو لحب عبادة ربه وشكر نعمته ضعيف متقاعس.
ثم سبب عن ذلك قوله تعالى:
{أفلا يعلم} أي: هذا الإنسان الذي أنساه أنسه بنفسه {إذا بعثر} أي: انتثر بغاية السهولة وأخرج {ما في القبور} أي: من الموتى. قال أبو عبيدة: بعثرت المتاع: جعلت أسفله أعلاه. قال محمد بن كعب: ذلك حين يبعثون. فإن قيل: لِمَ قال: {ما في القبور} ولم يقل من، ثم قال بعد ذلك:
{إن ربهم بهم} أجيب: عن الأوّل بأنّ ما في الأرض غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب، أو أنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل يصيرون كذلك بعد البعث، فلذلك كان الضمير الأوّل ضمير غير العقلاء، والضمير الثاني ضمير العقلاء.
{وحُصِّل} أي: أخرج وجمع بغاية السهولة {ما في الصدور} من خير وشر مما يظن مضمره أنه لا يعلمه أحد أصلاً، وظهر مكتوباً في صحائف الأعمال وهذا يدل على أن النيات يحاسب عليها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها. وتخصيص الصدر بذلك لأنه محله القلب.
{إن ربهم} أي: المحسن إليهم بخلقهم وخلقهم وتربيتهم {بهم يومئذ} أي: إذا كانت هذه الأمور وهو يوم القيامة {لخبير} أي: لمحيط بهم من جميع الجهات عالم غاية العلم ببواطن أمورهم فكيف بظواهرها ومعنى علمه بهم يوم القيامة مجازاته لهم، وإلا فهو خبير بهم في ذلك اليوم وفي غيره فكيف ينبغي للعاقل أن يعلق آماله بالمال فضلاً عن أن يؤثره على الباقي. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والعاديات أعطي من الأجر حسنات من بات بالمزدلفة وشهد جمعاً» حديث موضوع.
سورة القارعة مكية
وهي إحدى عشرة آية وست وثلاثون كلمة ومائة واثنان وخمسون حرفاً
{بسم الله} الملك الأعلى {الرحمن} الذي عمت نعمه إيجاده جميع الورى {الرحيم} الذي يخص أولياءه بالتوفيق لما يحب ويرضى.
ولما ختم العاديات بالبعث ذكر صيحته بقوله تعالى:
{القارعة} أي: الصيحة، أو القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها والأجرام الكثيفة بالتشقق والانفطار، والأشياء الثابتة بالانتشار. وقوله تعالى:
{ما القارعة} تهويل لشأنها وهما مبتدأ وخبر، خبر القارعة، وأكد تعظيمها إعلاماً بأنه مهما خطر في بالك من عظمها فهي أعظم منه، فقال تعالى:
{وما أدراك} أي: أعلمك {ما القارعة} أي: إنك لا تعرفها لأنك لم تعهد مثلها، وما الأولى مبتدأ وما بعدها خبره، وما الثانية وخبرها في محل المفعول الثاني لأدري. { {
واختلف في ناصب {يوم} على(4/578)
وجهين أحدهما أنه بمضمر دلّ عليه القارعة، أي: تقرعهم يوم. وقيل تقديره: تأتي القارعة يوم {يكون الناس} والثاني أنه أذكر مقدّراً فهو مفعول به لا ظرف. وقوله تعالى: {كالفراش المبثوث} يجوز أن يكون خبراً للناقصة وأن يكون حالاً من فاعل التامة، أي: يؤخذون ويحشرون شبه الفراش شبههم في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، والتطاير إلى الداعي من كل جانب كما يتطاير الفراش إلى النار، والفراش طائر معروف. قال قتادة: الفراش الطير الذي يتساقط في النار والسراج، الواحدة فراشة. وقال الفراء: هو الهمج من البعوض والجراد وغيرهما، وبه يضرب المثل في الطيش والهرج يقال: أطيش من فراشة. وأنشدوا:
*فراشة الحلم فرعون العذاب وأن ... تطلب نداه فكلب دونه كلب*
وفي أمثالهم: أضعف من فراشة، وأذل وأجهل. وسمي فراشاً لتفرشه وانتشاره. وروى مسلم عن جابر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهنّ عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي» . وفي تشبيه الناس بالفراش مبالغات شتى منها الطيش الذي يلحقهم وانتشارهم في الأرض، وركوب بعضهم بعضاً، والكثرة والضعف، والذلة والمجيء من غير ذهاب، والقصد إلى الداعي من كل جهة، والتطاير إلى النار. قال جرير:
*إنّ الفرزدق ما علمت وقومه ... مثل الفراش غشين نار المصطلى*
والمبثوث المتفرق، وقال تعالى في موضع آخر: {كأنهم جراد منتشر} (القمر: 7)
فإن قيل: كيف شبه الشيء الواحد بالصغير والكبير معاً لأنه شبههم بالجراد المنتشر والفراش المبثوث؟ أجيب: بأنّ التشبيه بالفراش في ذهاب كل واحد إلى غير جهة الآخر، وأمّا التشبيه بالجراد فبالكثرة والتتابع.
{وتكون الجبال} على ما هي عليه من الشدّة والصلابة وأنها صخوراً راسخة {كالعهن} أي: الصوف المصبوغ ألواناً لأنها ملوّنه قال تعالى: {ومن الجبال جدد بيض وحمر} (فاطر: 27)
أي: وغير ذلك {المنفوش} أي: المندوف المفرّق الأجزاء فتراها لذلك متطايرة في الجوّ كالهباء المنثور، كما قال تعالى في موضع آخر: {هباءً منبثاً} (الواقعة: 6)
حتى تعود الأرض كلها لا عوج فيها ولا أمّتا.
ثم سبب عن ذلك تعالى مفصلاً لهم:
{فأمّا من ثقلت موازينه} أي: برجحان الحسنات، وفي الموازين قولان: أحدهما: أنه جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى، وهذا قول الفراء. والثاني: قال ابن عباس: إنه جمع ميزان له لسان وكفتان لا يوزن فيه إلا الأعمال، فتوزن فيه الصحف المكتوبة فيها الحسنات والسيئات أو الأعمال أنفسها، فيؤتى بحسنات المؤمن في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان فإذا رجحت فالجنة له، ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة فيخف ميزانه فيدخل النار.
وقيل: إنما توزن أعمال المؤمنين فمن ثقلت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن ثقلت سيئاته على حسناته دخل النار فيقتص منه على قدرها، ثم يخرج منها فيدخل الجنة، أو يعفو الله عنه فيدخل الجنة بفضله ورحمته. وأمّا الكافر فقد قال الله تعالى في حقه: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} (الكهف: 105)
ثم قيل: إنه ميزان واحد بيد جبريل(4/579)
عليه السلام يزن به أعمال بني آدم، فعبر عنه بلفظ الجمع. وقيل: موازين لكل حادثة ميزان، وقيل: الموازين الحجج والدلائل قاله عبد العزيز بن يحيى، واستشهد بقول الشاعر:
*قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة ... عندي لكل مخاصم ميزانه*
{فهو} أي: بسبب رجحان حسناته {في عيشة} أي: حياة يتقلب فيها. قال البقاعي: ولعله ألحقها بالهاء الدالة على الوحدة، والمراد العيش ليفهم أنها على حالة واحدة في الصفاء واللذة وليست ذات ألوان كحياة الدنيا {راضية} أي: ذات رضا أو مرضية لأنّ أمّه جنة عالية.
{وأمّا من خفت} أي: طاشت {موازينه} أي: غلبت سيئاته، أو لم تكن له حسنة لاتباعه الباطل وخفته عليه في الدنيا.
{فأمّه} أي: التي تؤويه وتضمه إليها كما يقال للأرض أم لأنها تقصد لذلك، ويسكن إليها كما يسكن إلى الأمّ وكذا المسكن {هاوية} أي: نار نازلة سافلة جدّاً، فهو بحيث لا يزال يهوي فيها نازلاً فهو في عيشة ساخطة فالآية من الاحتباك ذكر العيشة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً وذكر الأمّ ثانياً، دليلاً على حذفها أوّلاً، والهاوية اسم من أسماء جهنم وهي المهواة لا يدرك قعرها.
وقال قتادة: هي كلمة عربية كان الرجل إذا وقع في أمر شديد يقال: هوت أمّه. وقيل: أراد أمّ رأسه يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم، وإلى هذا التأويل ذهب قتادة وأبو صالح. وروي عن أبي بكر أنه قال: وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباع الحق وثقله في الدنيا، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحسنات أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل وخفته في الدنيا، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا السيئات أن يخف.
{وما أدراك} أي: وأيّ شيء أعلمك وإن اشتدّ تكلفك {ماهيه} أي: الهاوية، والأصل ما هي فدخلت الهاء للسكت وقرأ حمزة في الوصل بغيرها بعد الياء التحتية ووقف بها، والباقون بإثباتها وصلاً ووقفاً.
فإن قيل: قال هنا: {وما أدراك ماهيه} وقال أوّل السورة: {وما أدراك ما القارعة} ولم يقل ما أدراك ما الهاوية؟.
أجيب: بأنّ كونها قارعة أمر محسوس وكونها هاوية ليس كذلك فظهر الفرق.
وقوله تعالى: {نار حامية} خبر مبتدأ مضمر، أي: هي، أي: الهاوية نار شديدة الحرارة. روى مسلم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ناركم هذه التي توقد جزء من سبعين جزءً من حرّ جهنم، قالوا: وإنها لكافية يا رسول الله؟ قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءً كلها مثل حرّها» وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة القارعة ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة التكاثر مكية
وهي ثمان آيات وثمانية وعشرون كلمة ومائة وعشرون حرفاً
{بسم الله} ذي الجلال والإكرام {الرحمن} الذي عمّ بالإيجاد بعد الإعدام {الرحيم} الذي خص أولياءه بتمام الإنعام.
ولما ختم القارعة بالشقي افتتح هذه بفعل الشقاوة ومبتدأ الحشر لينزجر السامع. فقال تعالى:
{ألهاكم التكاثر} أي: شغلكم المباهاة والمفاخرة والمكاثرة بكثرة(4/580)
المال والعدد عن طاعة ربكم، وما ينجيكم من سخطه.
{حتى زرتم المقابر} أي: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا، والاستباق إليها والتهالك عليها إلى أن أتاكم الموت، لا همّ لكم غيرها عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم، والعمل لآخرتكم، وزيارة القبر عبارة عن الموت. قال الأخطل:
*لن يخلص العام خليل عشراً ... ذاق الضماد أو يزور القبرا*
تنبيه: حتى غاية لقوله تعالى: {ألهاكم} وهو عطف عليه، والمعنى: حتى أتاكم الموت فصرتم في المقابر زواراً ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار، يقال لمن مات: قد زار قبره.
فإن قيل: شأن الزائر أن ينصرف قريباً والأموات ملازمون للقبور فكيف يقال: إنه زار القبر، وأيضاً حتى زرتم إخبار عن الماضي فكيف يحمل على المستقبل.
أجيب: عن الأول: بأن سكان القبور لا بد أن ينصرفوا عنها، فإن كل آت قريب، وعن الثاني: لتحققه عبر عنه بالماضي كقوله تعالى: {أتى أمر الله} (النحل: 10) { {
وقال أبو مسلم: إنّ الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعبيراً للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدّمت منهم زيارة القبور. وقال مقاتل والكلبي: نزلت في حيين من قريش بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عدداً فكثرهم بنو عبد مناف، وقالت بنو سهم: إنّ البغي أهلكنا في الجاهلية فعادّونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات، لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عدداً، والمعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم ثم صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكماً بهم، وإنما حذف الملهى عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة.
وقال قتادة: في اليهود قالوا نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً، أو أنهم كانوا يزورون المقابر فيقولون: هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان عند تفاخرهم، والمعنى: ألهاكم ذلك وهو مما لا يعينكم ولا يجدي عنكم في دنياكم وآخرتكم عما يعينكم من أمر الدين الذي هو أهمّ وأعنى من كل مهمّ من المقابر، والمقابر: جمع مقبرة بفتح الباء وضمها، ويسمى سعيد المقبري لأنه كان يسكن المقابر. قال القرطبي: لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة، واعترضه ابن عادل: بأنّ الله تعالى قال في سورة أخرى: {ثم أماته فأقبره} (عبس: 21)
وهذا ممنوع فإنه قال المقابر، فلفظ هذه الآية غير لفظ تلك. وزيارة القبور من أعظم الأدوية للقلب القاسي لأنها تذكر الموت والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد في الدنيا وترك الرغبة فيها قال صلى الله عليه وسلم «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة» . وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن زوّارات القبور» . فتكره لهنّ لقلة صبرهنّ وكثرة جزعهنّ نعم زيارة النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة لهنّ ويلحق به بقية الأنبياء والعلماء، وينبغي لمن زار القبور أن يتأدّب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها الطواف عليها فقط فإنّ هذه حالة يشاركه فيها البهائم، بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى وإصلاح فساد قلبه، ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن والدعاء، ويتجنب الجلوس عليها.
ويسلم إذا دخل المقابر فيقول: «السلام عليكم(4/581)
دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» . وإذا وصل على قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضاً، وأتاه من قبل وجهه لأنه في زيارته كمخاطبه حياً، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، ويتأمّل حال من مضى من إخوانه كيف انقطعت آمالهم ولم تغن عنهم أموالهم، ومجيء التراب على محاسنهم ووجوههم، وافترقت في التراب أجزاؤهم، وترمل من بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم وأنه لا بدّ صائر إلى مصيرهم، وأنّ حاله كحالهم وماله كمالهم.
وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: «انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية قال: يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدّقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت» . وعن مالك قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان، ويبقى واحد يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله» . وقرأ ألهاكم حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح.
وقوله تعالى: {كلا} ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بذنبه. وقوله تعالى: {سوف تعلمون} إنذار ليخافوا فينتبهوا عن غفلتهم وقوله تعالى:
{ثم كلا سوف تعلمون} تكرير للتأكيد وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأوّل وأشدّ كما يقال للمنصوع أقول لك لا تفعل، والمعنى سوف تعلمون والخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى، وإن هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة عليكم.
وعن عليّ كرم الله وجهه ورضي الله عنه {كلا سوف تعلمون} في الدنيا.
{ثم كلا سوف تعلمون} في الآخرة فعلى هذا يكون غير مكرّر لحصول التغاير بينهما لأجل تغاير المتعلقين وثم على بابها من المهلة. وعن ابن عباس {كلا سوف تعلمون} ما ينزل بكم من العذاب في القبور {ثم كلا سوف تعلمون} في الآخرة إذا حل بكم العذاب فالتكرار للحالتين. وروى زر بن حبيش عن علي كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة فأشار على أنّ قوله تعالى: {كلا سوف تعلمون} في القبور. وقيل: {كلا سوف تعلمون} إذا نزل بكم الموت وجاءتكم رسل ربكم بنزع أرواحكم {ثم كلا سوف تعلمون} في القيامة أنكم معذبون، وعلى هذا تضمنت أحوال القيامة، من بعث وحشر وعرض وسؤال إلى غير ذلك من أهوال القيامة، وقال الضحاك: {كلا سوف تعلمون} يعني الكفار {ثم كلا سوف تعلمون} أيها المؤمنون فالأوّل وعيد والثاني وعد.
ولما كان هذا أمراً صادقاً أشار تعالى إلى أنه يكفي هذه الأمّة المرحومة التأكيد بمرّة واحدة، فقال سبحانه مردّداً الأمر بين تأكيد الردع تالياً بالأداة الصالحة له، ولأن يكون بمعنى حقاً كما يقوله أئمة القراءة.
{كلا} أي: ليشتدّ ارتداعكم عن التكاثر، فإنه أساس كل بلاء فإنكم {لو تعلمون} أي: أيها الكافرون {علم اليقين} أي: لو يقع لكم علم على وجه اليقين مرّة من الدهر لعلمتم ما بين أيديكم فلم يلهكم التكاثر ولضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون فحذف الجواب أخوف ليذهب الوهم معه كل مذهب ولا يجوز أن يكون.
{لترون الجحيم} جوابها الآن هذا مثبت، وجواب لو يكون منفياً ولأنه تعالى عطف عليه، ثم لتسألن وهو مستقبل لا بد من وقوعه وحذف جواب لو كثير. قال الأخفش: التقدير لو تعلمون علم اليقين لالهاكم بل هو جواب قسم محذوف أكد به الوعيد، وأوضح به(4/582)
ما أنذرهم منه بعد إبهامه تفخيماً.
وقوله تعالى: {ثم لترونها} تكرير للتأكيد، والأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، والثانية إذا وردوها والمراد بالأولى المعرفة والثانية الإبصار. {عين اليقين} أي: الرؤية التي هي نفس اليقين، فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين. قال الرازي: واليقين مركب الإخلاص في هذا الطريق، وهو غاية درجات العامة وأوّل خطرة الخاصة. قال صلى الله عليه وسلم «خير ما ألقي في القلب اليقين» وعلمه قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق. وقال قتادة: اليقين هنا الموت، وعنه أيضاً. البعث، أي: لو تعلمون علم الموت، أو البعث فعبر عنه الموت باليقين، والعلم من أشدّ البواعث على العمل. وقيل: لو تعلمون اليوم في الدنيا علم اليقين بما أمامكم مما وصفت..
{لترونّ الجحيم} بعيون قلوبكم، فإنّ علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك. وقرأ لترونَ ابن عامر والكسائي بضم التاء، والباقون بالفتح.
{ثم لتسئلنّ} حذف منه نون الرفع لتوالي النونات، والواو لالتقاء الساكنين {يومئذ} أي: يوم رؤيتها {عن النعيم} وهو ما يلتذ به في الدنيا من الصحة والفراغ والأمن والمطعم والمشرب وغير ذلك، والمراد بذلك ما يشغله عن الطاعة للقرينة والنصوص الكثيرة كقوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} (الأعراف: 32)
وقوله تعالى: {كلوا من الطيبات} (المؤمنون: 51)
وقال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار، لأنّ أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال: يا رسول الله، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم من خبز وشعير ولحم وبسر وماء عذب، أيكون من النعيم الذي يسأل عنه، فقال صلى الله عليه وسلم «إنما ذلك للكفار ثم قرأ صلى الله عليه وسلم {وهل نجازي إلا الكفور} (سبأ: 17)
» لأنّ ظاهر الآية يدل على ذلك لأنّ الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى، والاشتغال بشكره فالله تعالى يسألهم عنها يوم القيامة حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه لسعادتهم كان من أعظم الأسباب لشقاوتهم. وقيل: السؤال عام في حق المؤمن والكافر لقوله صلى الله عليه وسلم «أوّل ما يسأل العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له: ألم نصحح جسمك، ألم نروك من الماء البارد؟» . وقيل: الزائد على ما لا بدّ منه، وقيل: غير ذلك. قال الرازي: والأولى على جميع النعم لأنّ الألف واللام تفيد الاستغراق وليس صرف اللفظ على البعض أولى من صرفه إلى الباقي، فيسأل عنها هل شكرها أم كفرها.
وإذا قيل: إنّ هذا السؤال للكافر، فقيل: هو في موقف الحساب، وقيل: بعد دخول النار يقال لهم: إنما حل بكم هذا العذاب لاشتغالكم في الدنيا بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ ألهاكم التكاثر لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا، وأعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية» حديث موضوع إلا آخره، فرواه الحاكم بلفظ «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية؟ قال: أو ما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر» .
سورة العصر مكية
وروي عن ابن عباس وعبادة أنها مدنية، وهي ثلاث آيات وأربع عشرة كلمة وثمانية وستون حرفاً(4/583)
{بسم الله} الذي كل شيء هالك إلا وجهه {الرحمن} الذي عمّ الوجود بإنعامه فليس شيء شبهه {الرحيم} الذي أعز أولياءه فكانوا للدّهر غرّة ولأهله جبهه.
وقوله تعالى: {والعصر} قسم، واختلف في المراد به. فقال ابن عباس: والدهر أقسم به لأنّ فيه عبرة للناظر بتصرّف الأحوال وتبدلها وما فيها من الدلالة على الصانع، وقيل: معناه ورب العصر ومرّ الكلام في أمثاله وقال ابن كيسان أراد بالعصر الليل والنهار، يقال لهما العصران وقال الحسن: بعد زوال الشمس إلى غروبها وقال قتادة: آخر ساعة من ساعات النهار وقال مقاتل: أقسم بصلاة العصر وهي الصلاة الوسطى، وهذا أشبه قال صلى الله عليه وسلم «من فاتته الصلاة الوسطى فكأنما وتر أهله وماله» ولأنّ التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بعشائهم.
ونقل ابن عادل عن مالك أنّ من حلف أن لا يكلم الرجل عصراً لم يكلمه سنة. قال ابن العربيّ: إنما حمل مالك يمين الحالف على السنة لأنه أكثر ما قيل: فيه. ونقل عن الشافعي يبرّ بساعة إلا أن تكون له نية. وجواب القسم. { {
{إن الإنسان} أي: الجنس {لفي خسر} أي: نقص بحسب مساعيهم في أهوائهم وصرف أعمارهم في إغراضهم لما لهم بالطبع من الميل إلى الحاضر، والإعراض عن الغائب، والإغترار بالفاني.
تنبيه: تنكير خسر يحتمل التهويل والتحقير، فإن حمل على الأوّل وهو الظاهر كان المعنى: أنّ الإنسان لفي خسر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله تعالى، لأنّ الذنب يعظم أمّا لعظم من في حقه الذنب، أو لأنه وقع في مقابلة النعم العظيمة، فلذلك كان الذنب في غاية العظم. وإن حمل على الثاني كان المعنى: إن خسران الإنسان دون خسران الشيطان
ولما كان الحكم على الجنس حكماً على الكلّ لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا ذلك، وكان فيهم من خلصه الله تعالى مما طبع عليه الإنسان وحفظه عن الميل استثناهم بقوله عز من قائل:
{إلا الذين آمنوا} أي: أوجدوا الإيمان وهو التصديق بما علم بالضرورة مجيء النبيّ صلى الله عليه وسلم به من توحيده سبحانه، والتصديق بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. {وعملوا} أي: تصديقاً لما أقرّوا به من الإيمان {الصالحات} أي: هذا الجنس من إيقاع الأوامر واجتناب النواهي، واشتروا الآخرة بالدنيا فلم يلههم التكاثر ففازوا بالحياة الأبدية والسعادة السرمدية، فلم يلحقهم شيء من الخسران.
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: المراد بالإنسان الكافر، وقال في رواية الضحاك: يريد به جماعة من المشركين الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب. وقيل: لفي خسر غبن وقال الأخفش لفي هلكة وقال الفراء: لفي عقوبة. وقال ابن زيد: لفي شرّ. وروى ابن عوف عن إبراهيم قال: أراد أن الإنسان إذا عمر في الدنيا وأهرم لفي ضعف ونقص وتراجع إلا المؤمنين فإنه يكتب لهم أجورهم التي كانوا يعملونها في حال شبابهم، ونظيره قوله تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا} (التين: 4 ـ 6)
ولما كان الإنسان بعد كماله في نفسه بالأعمال لا ينتفي عنه مطلق الخسر إلا بتكميل غيره، وحينئذ كان وارثاً لأنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا للتكميل. قال تعالى مخصصاً لما دخل في الأعمال الصالحة منبهاً على عظمه: {وتواصوا} أي: أوصى بعضهم بعضاً بلسان الحال والمقال {بالحق} أي: الأمر الثابت وهو كل ما(4/584)
حكم الشرع بصحته ولا يسوغ إنكاره، وهو الخير كله من توحيد الله تعالى وطاعته، واتباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة {وتواصوا} أيضاً {بالصبر} عن المعاصي وعلى الطاعات، وعلى ما يبتلي الله به عباده من الأمراض وغيرها.
ويروى عن أبيّ بن كعب أنه قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم والعصر، ثم قلت: ما تفسيرها يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم «والعصر قسم من الله أقسم ربكم بآخر النهار أنّ الإنسان لفي خسر أبو جهل إلا الذين آمنوا أبو بكر، وعملوا الصالحات عمر وتواصوا بالحق عثمان، وتواصوا بالصبر عليّ» . وهكذا خطب ابن عباس على المنبر موقوفاً عليه. وقال قتادة: بالحق، أي: بالقرآن. وقال السدّي: الحق هنا الله عز وجل. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والعصر غفر الله له، وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر» . حديث موضوع.
سورة الهمزة مكية
وهي تسع آيات وثلاثون كلمة ومائة وثلاثون حرفاً
{بسم الله} الحكم العدل {الرحمن} الذي عمّ جوده أهل البخل وأولي العدل {الرحيم} الذي خص أولياءه بزيادة الفضل
وقوله تعالى: {ويل} فيه قولان: أحدهما: أنه كلمة عذاب، والثاني: أنه واد في جهنم {لكل همزة لمزة} قال ابن عباس: هم المشاؤون بالنميمة المفرّقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب، فعلى هذا هما بمعنى. وقال صلى الله عليه وسلم «شرّ عباد الله المشاؤون بالنميمةالمفسدون بين الأحبة الباغون للبراء العيب» . وقال مقاتل: الهمزة الذي يعيبك في الغيب، واللمزة الذي يعيبك في الوجه. وقال أبو العالية والحسن: الهمزة الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل، واللمزة الذي يغتابه من خلفه، وهذا اختيار النحاس. ومنه قوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات} (التوبة: 58)
. وقال سعيد بن جبير: الهمزة الذي يأكل لحوم الناس ويغتابهم، واللمزة الطعان عليهم. وقال ابن زيد: الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم. وقال سفيان الثوري: يهمز بلسانه ويلمز بعينه. وقال ابن كيسان: الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ، واللمزة الذي يكسر عينه ويشير برأسه ويرمز بحاجبه. وحاصل هذه الأقاويل يرجع إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب، ويدخل في ذلك من يحاكي الناس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا منهم. وأصل الهمز الكسر واللمز الطعن، ثم خصا بالكسر من أعراض الناس والطعن فيهم حتى صار ذلك عادة، لأنه خلق ثابت في جبلتهم والذي دلّ على الاعتياد صيغة فعلة بضم ففتح، كما يقال: ضحكة للذي يفعل الضحك كثيراً حتى صار عادة له وضرى به.
واختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية، فقال الكلبي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي كان يقع في الناس ويغتابهم. وقال محمد بن إسحاق: ما زلنا نسمع أنّ سورة الهمزة نزلت في أمية بن خلف الجمحيّ. وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان يغتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم من ورائه، ويطعن عليه في وجهه. وقال مجاهد: هي عامّة في حق من هذه صفته.
وقوله تعالى: {الذي جمع مالاً} بدل من كل،(4/585)
أو ذمّ منصوب أو مرفوع. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتشديد الميم على المبالغة والتكثير ولأنه يوافق قوله تعالى: {وعدّده} والباقون بتخفيفها، وهي محتملة للتكثير وعدمه، ومعنى عدّده: أحصاه وجعله للحوادث. وقال الضحاك: أعدّ ماله لمن يرثه من أولاده، وقيل: فاخر بعدده وكثرته: والمقصود الذم على إمساك المال عن سبيل الطاعة كقوله تعالى:
{مناع للخير} (ص: 5)
وقوله تعالى: {جمع فأوعى} (المعراج: 18)
{يحسب} أي: يظنّ لجهله {أنّ ماله أخلده} أي: أوصله إلى رتبة الخلد في الدنيا فيصير خالداً فيها لا يموت، أو يعمل من تشييد البنيان الموثق بالصخر والآجر وغرس الأشجار وعمارة الأرض عمل من يظنّ أنّ ماله أبقاه حياً، أو هو تعريض بالعمل الصالح، أو أنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم، فأمّا المال فما أخلد أحداً فيه. وروي أنه كان للأخنس أربعة آلاف دينار، وقيل: عشرة آلاف دينار. وعن الحسن: أنه عاد موسراً فقال: ما تقول في ألوف لم أفتد بها من لئيم ولا تفضلت بها على كريم؟ قال: لماذا؟ قال: لنبوة الزمان، وجفوة السلطان ونوائب الدهر، ومخافة الفقر. قال: إذاً تدعه لمن لا يحمدك، وترد على من لا يعذرك. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين، والباقون بكسرها.
وقوله تعالى: {كلا} ردع له عن حسبانه، وقيل: معناه حقاً. وقوله تعالى: {لينبذنّ} جواب قسم محذوف، أي: ليطرحن بعد موته {في الحطمة} أي: الطبقة من جهنم التي شأنها أن تحطم، أي: تكسر بشدّة وعنف كل ما طرح فيها يكون أخسر الخاسرين ويقال للرجل الأكول: إنه لحطمة.
{وما أدراك} أي: وأيّ شيء أعلمك، ولو بمحاولة منك للعلم واجتهاد في التعرف مع كونك أعلم الحكماء {ما الحطمة} أي: الدركة النارية التي سميت هذا الاسم بهذه الخاصة، وإنه ليس في الوجود الذي شاهدتموه ما يقاربها ليكون مثالاً لها، ثم فسرها بقوله تعالى:
{نار الله} أي: الملك الأعظم الذي له الملك كله {الموقدة} أي: التي وجد وتحتم إيقاده، ومن الذي يطيق محاولة ما أوقد فهي لا يزال لها هذا الاسم ثابتاً.
روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة» .
{التي تطلع} أي: إطلاعاً شديداً {على الأفئدة} جمع فؤاد وهو القلب الذي يكاد يحترق من شدّة ذكائه فكان ينبغي أن يجعل ذكاءه في أسباب الخلاص، وإطلاعها عليه بأن تعلو وسطه وتشتمل عليه اشتمالاً بليغاً سُمِّيَ بذلك لشدّة توقدّه وخُصَّ لأنه ألطف ما في البدن وأشدّ تألماً بأدنى شيء من الأذى، ولأنه منشأ العقائد الفاسدة، ومعدن حبّ المال الذي هو منشأ حبّ الفساد والضلال، وعنه تصدر الأفعال القبيحة. وقيل: معنى {تطلع على الأفئدة} أي: تعمل ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب يقال: اطلع على كذا، أي: علمه.
ثم أشار إلى خلودهم فيهابقوله تعالى مؤكداً لأنهم يكذبون بها:
{إنها عليهم مؤصدة} قال الحسن: مطبقة، أي: بغاية الضيق. وقال مجاهد: مغلقة بلغة قريش، يقال: أصدت الباب، أي: أغلقته ومنه قول عبد الله بن قيس:
*إنّ في القصر لو دخلنا غزالاً ... مفتناً مؤصداً عليه الحجاب*
ثم بين حال عذابهم بقوله تعالى:
{في} أي: في حال كونهم موثوقين في {عمد} قرأ حمزة والكسائي وشعبة بضم العين والميم جمع عمود نحو رسول ورسل، وقيل: جمع عماد ككتاب وكتب، والباقون(4/586)
بفتحهما فقيل: هو اسم جمع لعمود، وقيل: بل هو جمع له. قال الفراء: كأديم وأدم. وقال أبو عبيدة: هو جمع عماد. {ممددة} أي: معترضة كأنها موضوعة على الأرض في غاية المكنة فلا يستطيع الموثوق بها على نوع حيلة في أمرها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنّ الله يبعث عليهم ملائكة بأطباق من نار ومسامير من نار، وعمد من نار، فيطبق عليهم بتلك الأطباق، وتسدّ بتلك المسامير، وتمدّ بتلك العمد فلا يبقى فيها خلل يدخل منه روح ولا يخرج منه غم فيكون كلامهم فيها زفيراً وشهيقاً» .
وقال قتادة: عمد تعذبون بها، واختاره الطبريّ. وقال ابن عباس: إنّ العمد الممدّدة أغلال في أعناقهم. وقال أبو صالح قيود في أرجلهم. وقال القشيري: العمد أوتاد الأطباق. وقيل: المعنى في دهور ممدودة لا انقطاع لها. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه» حديث موضوع.
سورة الفيل مكية
وهي خمس آيات وعشرون كلمة وستة وتسعون حرفاً
{بسم الله} الذي قدّر به في كل شيء عاملة {الرحمن} الذي له النعمة الشاملة {الرحيم} الذي يخص أهل الاصطفاء بالنعمة الكاملة:
وقوله تعالى: {ألم تر} استفهام تعجب، أي: أعجب {كيف فعل ربك} أي: المحسن إليك {بأصحاب الفيل} فهو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهو وإن لم يشهد تلك الواقعة لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها فكأنه رآها، وإنما قال تعالى: كيف لأن المراد ذكر ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله وقدرته وعزة بيته، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وكانت قصة الفيل ما روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، وكتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب فسمع بذلك رجل من بني مالك بن كنانة، فخرج إليها فدخلها ليلاً فقعد فيها ولطخ بالعذرة قبلتها، فبلغ ذلك أبرهة فقال: من أجترأ علييّ فقيل: صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع الذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان له فيل يقال له محمود، وكان فيلاً لم ير مثله عظماً وجسماً وقوّة فبعث به إليه فخرج أبرهة في الحبشة سائراً إلى مكة، وخرج معه بالفيل واثنى عشر فيلاً غيره، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: كان معه ألف فيل.
وقيل: كان وحده، فسمعت العرب بذلك فأعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم فخرج ملك من ملوك اليمن يقال له ذونفر بمن أطاعه من قومه فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ ذانفر، فقال له: أيها الملك استبقني فإن استبقائي خير لك من قتلي فاستبقاه فأوثقه، وكان أبرهة رجلاً حليماً. ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج له نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم، ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ نفيلاً، فقال نفيل: أيها الملك إني دليل بأرض العرب وهاتان(4/587)
يداي على قومي بالسمع والطاعة فاستبقاه، وخرج معه يدله حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف، فقال: أيها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك إنما تريد البيت الذي بمكة نحن نبعث معك من يدلك عليه فبعثوا أبا رغال مولى لهم، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال وهو الذي يرجم قبره، وبعث أبرهة من المغمس رجلاً من الحبشة يقال له: الأسود بن مسعود على مقدمة خيله وأمره بالغارة على نعم الناس فجمع الأسود إليه أموال الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير.
ثم إنّ أبرهة بعث بحناطة الحميري إلى أهل مكة فقال: سل عن شريفها ثم أبلغه ما أرسلك به إليه أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت. فانطلق حتى دخل مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال: إنّ الملك أرسلني إليك لأخبرك إنه لم يأت لقتال إنما جئت لأهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، ولا لنا به يدانا سنخلي بينه وبين ما جاء إليه، فإن هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخلّ بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به قوّة.
قال: فانطلق معي إلى الملك، قال بعض العلماء: أنه أردفه على بغلة كان عليها وركب معه بنيه حتى قدم العسكر، وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب فأتاه فقال: يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا، فقال: ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشياً، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل، فإنه صديق لي فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير ويعظم خطرك ومنزلتك عنده، فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له: إنّ هذا سيد قريش صاحب عين مكة يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب الملك له مائتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه فإنه صديق لي أحبّ ما وصل إليه من الخير.
فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك هذا سيد قريش صاحب عين مكة يطعم الناس في السهل والوحوش على رؤوس الجبال يستأذن عليك، وأنا أحبّ أن تأذن له فيكلمك وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك فأذن له، وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه وكره أن يجلس معه على السرير، وأن يجلس تحته فهبط إلى البساط فجلس عليه، ثم دعاه فأجلسه معه.
ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يردّ إليّ مائتي بعير أصابها لي. فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت فيك، قال لِمَ؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك، وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه وتكلمني في مائتي بعير أصبتها؟ قال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه. قال: ما كان ليمنعه مني، قال: فأنت وذاك فأمر بإبله فردت عليه، وقيل: عرض عليه عبد المطلب أموال تهامة ليرجع فأبى فلما ردت الإبل على عبد المطلب خرج فأخبر قريشاً الخبر، وأمرهم أن يتفرّقوا في الشعاب، ويتحرّزوا في رؤوس الجبال تخوّفاً عليهم من معرّة الجيش، وأتى عبد المطلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول:
*يا رب لا أرجو سواكا ... يا ربّ فامنع منهم حماكا*
*إنّ عدوّ البيت من عاداكا ... أمنعهم أن يخربوا قراكا*(4/588)
وقال أيضاً:
*لا هم إن المرء يمنع ... رحله فامنع حلالك*
*لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك*
*جروا جموع بلادهم
... والفيل كي يسبوا عيالك*
*عمدوا حماك بكيدهم ... جهلاً وما رقبوا جلالك*
*إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمر ما بدا لك*
ثم ترك عبد المطلب الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه فأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وهيأ جيشه وهيأ فيله، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه وقال: أبرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام فبرك الفيل فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام مهرولاً، فوجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك فضربوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم وخرج عبد المطلب يشتدّ حتى صعد الجبل فأرسل الله تعالى عليهم ما قصه في قوله سبحانه:
{ألم يجعل} أي: جعل بما له من الإحسان إلى العرب لا سيما قريش {كيدهم} أي: في هدم الكعبة {في تضليل} أي: خسارة وهلاك.
{وأرسل عليهم} أي: خاصة من بين ما هناك من كفار العرب {طيراً} أي: طيوراً سوداء، وقيل: خضراء وقيل: بيضاء {أبابيل} أي: جماعات بكثرة متفرّقة يتبع بعضها بعضاً من نواحي شتى فوجاً فوجاً وزمرة زمرة أما كل فرقة منها طائر يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق. وقيل: أبابيل كالإبل المؤبلة. قال الفراء: لا واحد لها من لفظها، وقيل: واحدها إبالة. وقال الكسائي: كنت أسمع النحويين يقولون: واحدها أبول كعجول وعجاجيل. وقال ابن عباس: كانت طيراً لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب. وقال عكرمة لها رؤوس كرؤوس السباع. وقال سعيد بن جبير: خضر لها مناقير صفر وقال قتادة: طير سود.
{ترميهم} أي: الطير {بحجارة} أي: عظيمة في الكثرة والفعل، صغيرة في المقدار والحجم مع كل طائر حجر في منقاره، وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة. وعن ابن عباس أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بالحمرة كالجزع الظفاري، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ففرّوا فهلكوا في كل طريق ومنهل وأمّا أبرهة فتساقطت أنامله كلها كلما سقطت أنملة اتبعها مدّة وقيح ودم، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير، وما مات حتى انصدع صدره من قلبه، وانفلت وزيره أبويكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة فلما أتمها وقع عليه الحجر فخرّ ميتاً بين يديه لأن تلك الحجارة كانت {من سجيل} أي: طين متحجر مصنوع للعذاب في موضع هو في غاية العلو
ولما تسبب عن هذا الرمي هلاكهم، وكان ذلك بفعل الله تعالى لأنه الذي خلق الأثر قطعاً، لأنّ مثله لا ينشأ عنه ما نشأ من الهلاك قال الله تعالى:
{فجعلهم} أي: ربك المحسن إليك بإحسانه على قومك لأجلك بذلك {كعصف مأكول} أي: كورق زرع أكلته فراثته فيبس وتفرّقت أجزاءه شبه قطع أوصالهم بتفرّق أجزاء الروث. قال مجاهد: العصف ورق الحنطة. وقال قتادة: هو التبن. وقال عكرمة كالحبّ إذا أكل وصار أجوف، لأنّ الحجر كان يأتي في الرأس فيحرق(4/589)
بما له الحرارة وشدّة الوقع كلما مرّ به حتى يخرج من الدبر، ويصير موضع تجويفه أسود لما له من من النارية. وقال ابن عباس: هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة كهيئة الغلاف له، وروي أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة وعن عكرمة: من أصابه جدره وهو أوّل جدري ظهر. وعن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن الطير فقال: حمام مكة منها، وقيل: جاءت عشية ثم صبحتهم.
واختلف في تاريخ عام الفيل، فقيل: كان قبل مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة وقيل: بثلاث وعشرين سنة.
والأكثرون على أنه كان في العام الذي ولد فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن عائشة قالت: رأيت سائس الفيل وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس، وقال عبد الملك بن مروان: لعتاب بن أسيد: أنت أكبر أم النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: النبيّ صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسنّ منه، ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس، بل قيل: لم يكن بمكة أحد إلا رأى قائد الفيل وسائسه أعميين يتكففان الناس لأنّ عائشة مع صغر سنها رأتهما. وقال ابن إسحاق لما ردّ الله تعالى الحبشة عن مكة المشرّفة عظمت العرب قريشاً، وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوّهم، فكان ذلك نعمة من الله عليهم.
وقال بعض العلماء: كانت قصة الفيل مما نعدّه من معجزاته صلى الله عليه وسلم وإن كانت قبله، لأنها كانت توكيداً لأمره وتمهيداً لشأنه. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الفيل أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ» حديث موضوع.
سورة قريش مكية
في قول الجمهور ومدنية في قول الضحاك والكلبيوهي أربع آيات وسبع عشرة كلمة وثلاثة وسبعون حرفاً
{بسم الله} الذي له جميع الكمال {الرحمن} ذي النعم والأفضال {الرحيم} الذي خص أولياءه بالقرب والإجلال.
وقوله تعالى: {لإيلاف قريش} في متعلقه أوجه أحدها: أنه ما في السورة قبلها من قوله تعالى: {فجعلهم كعصف مأكول} . قال الزمخشري: وهذا بمنزلة التضمين في الشعر، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصح إلا به، وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة بلا فصل، وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب، وقرأ في الأولى والتين اه. وإلى هذا ذهب الأخفش. وقال الرازي: المشهور أنهما سورتان ولا يلزم من التعلق الاتحاد لأنّ القرآن كسورة واحدة.
ثانيها: أنه مضمر تقديره فعلنا ذلك، وهو إيقاعهم للإيلاف وهو الفهم لبلدهم الذي ينشأ عنه طمأنينتهم وهيبة الناس لهم وقيل: تقديره اعجبوا لئلاف قريش رحلة الشتاء والصيف وتركهم عبادة رب هذا البيت.
ثالثها: أنه متعلق بقوله تعالى: {فليعبدوا} أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين لأنهما أظهر نعمة عليهم، وهذا هو الذي صدر به الزمخشري كلامه، وفي هذا إشارة إلى تمام قدرته سبحانه، وأنه إذا أراد شيئاً يسر سببه لأنّ التدبير كله له يخفض من يشاء، وإن عز،(4/590)
ويرفع من يشاء وإن ذل، وقريش هم ولد النضر بن كنانة ومن ولده النضر فهو قرشيّ، ومن لم يلده النضر فليس بقرشيّ. قال صلى الله عليه وسلم «إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» وأخرج الحاكم وصححه البيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «فضل الله قريشاً بسبع خلال أني منهم، وأنّ النبوّة فيهم، وأنّ الله نصرهم على الفيل، وأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده غيرهم وأنّ الحجابة والسقاية فيهم، وأنّ الله أنزل فيهم سورة من القرآن» وسموا قريشاً من القرش وهو التكسب والجمع، يقال: فلان يقرش لعياله ويقترش، أي: يكتسب، وهم كانوا تجاراً حرّاصاً على جمع المال، وقا أبو ريحانة: سأل معاوية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لم سميت قريش قريشاً؟ قال: لدابة تكون في البحر من أعظم دوابه تعبث بالسفن، ولا تطاق إلا بالنار يقال لها: القرش، ولا تمرّ بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، وهي تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى،. قال: وهل تعرف العرب ذلك في أشعارها، قال: نعم فأنشده شعر الجمحي:
*وقريش هي التي تسكن البح ... ر بها سميت قريش قريشاً*
*تأكل الغث والسمين فلا تت ... رك فيه لذي الجناحين ريشاً*
*هكذا في الكتاب حي قريش ... يأكلون البلاد أكلاً كميشا*
*ولهم آخر الزمان نبيّ ... يكثر القتل منهموا والخموشا*
وقيل: هو من تقرش الرجل إذا تنزه عن مدانس الأمور، أومن تقارشت الرماح في الحرب إذا دخل بعضها في بعض.
وقوله تعالى: {إيلافهم} بدل من الإيلاف الأول، وقرأ ابن عامر لإلاف بغير ياء بعد الهمزة، والباقون لإيلاف بياء بعدها، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني وهو إيلافهم بالياء بعد الهمزة. قال ابن عادل: ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين أن القراء اختلفوا في سقوط الياء، وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطاً، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها منها خطاً، وهذا أدل دليل على أنّ القراء متبعون الأثر والرواية لا مجرّد الخط. وقوله تعالى: {رحلة الشتاء} منصوب بإيلافهم مفعول به كما نصب يتيماً بإطعام، وهي التي يرحلونها في زمنه إلى اليمن لأنها بلاد حارة ينالون منهامتاجر الحبوب. {والصيف} التي يرحلونها إلى الشام في زمنه؛ لأنها بلاد باردة ينالون فيها منافع الثمار، وهم آمنون من سائر العرب لأجل عزهم بالحرم المعظم وبيت الله، والناس يتخطفون من حولهم ولا يجترىء أحد عليهم.
والإيلاف من قولك: آلفت المكان أولفه إيلافاً إذا بلغته فأنا مؤلف، والأصل رحلتي الشتاء والصيف ولكنه أفرد ليشمل كل رحلة كما هو شأن المصادر وأسماء الأجناس، وفي ذلك إشارة إلى أنهم يتمكنون من الرحلة إلى أي بلاد أرادوا لشمول الأمن لهم. قال مالك: الشتاء نصف السنة والصيف نصفها.
وقال قوم: الزمان أربعة أقسام شتاء وربيع وصيف وخريف، وقيل: شتاء وصيف وقيظ وخريف. قال القرطبي: الذي قاله مالك أصح لأنّ الله تعالى قسم الزمان قسمين، ولم يجعل لهما ثالثاً، وروى عكرمة عن ابن(4/591)
عباس رضي الله عنهما: أنهم كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف، وقال آخرون: كانت لهم رحلتان في كل عام للتجارة إحداهما: في الشتاء إلى اليمن لأنها أدفأ، والأخرى في الصيف إلى الشام، وكان الحرم وادياً جدباً لا زرع فيه ولا ضرع، وكانت قريش تعيش بتجارتهم ورحلتهم ولولا الرحلتان لم يكن لهم مقام بمكة، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرف، وأول من سنّ لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف، وكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، وفي ذلك يقول الشاعر:
*قل للذي طلب السماحة والندى ... هلا مررت بآل عبد مناف*
*هلا مررت بهم تريد قراهم ... منعوك من ضر ومن اتلاف*
*الرائشين وليس يوجد رائش ... والقائلين هلم للأضياف*
*والخالطين فقيرهم بغنيهم ... حتى يكون فقيرهم كالكافي*
*والقائلين بكل وعد صادق ... والراحلين برحلة الإيلاف*
*عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف*
*سفرين سنهما له ولقومه ... سفر الشتاء ورحلة الأصياف*
وتبع هاشماً على ذلك إخوته فكان هاشم يؤالف إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بجاه هذه الإخوة، أي: بعهودهم التي أخذوها بالأمان لهم من ملك كل ناحية من هذه النواحي.
ولما كان هذا التدبير لهم من الله تعالى كافياً لهمومهم الظاهرة بالغنى والباطنة بالأمن، وكان شكر المنعم واجباً، قال تعالى: {فليعبدوا} أي: قريش على سبيل الوجوب شكراً على هذه النعمة خاصة إن لم يشكروه على جميع نعمه التي لا تحصى، لأنهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان وأبعدهم عن الكفران {رب هذا البيت} أي: الموجد له والمحسن إلى أهله بحفظه من كل طاغ، وبإذلال الجبابرة له ليكمل إحسانه إليهم، وعطفه عليهم بإكمال إعزازه لهم في الدنيا والآخرة، والمراد به الكعبة عبر عنها بالإشارة تعظيماً لشأنها.
ثم وصف نفسه الأقدس بما هو ثمرة الرحلتين ومظهر لزيادة شرف البيت بقوله تعالى:
{الذي أطعمهم} أي: قريشاً بحمل الميرة إلى مكة بالرحلتين إطعاماً مبتدأ {من جوع} أي: عظيم فيه غيرهم من العرب، أو كانوا هم فيه قبل ذلك؛ لأنّ بلدهم ليس بذي زرع فهم عرضة للفقر الذي ينشأ عنه الجوع فكفاهم ذلك وحده، ولم يشركه أحد في كفايتهم فليس من الشكر إشراكهم غيره معه في عبادته، ولا من البر بأبيهم إبراهيم عليه السلام الذي دعا لهم بالرزق بقوله عليه السلام: {وارزقهم من الثمرات} (إبراهيم: 37)
ونهى أشدّ النهي عن عبادة الأصنام ولم يقل أشبعهم لأنه ليس كلهم كان يشبع منهم طالب لأكثر مما هو عنده، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب {وآمنهم} أي: تخصيصاً لهم {من خوف} أي: شديد جدّاً من أصحاب الفيل الذين أرادوا خراب البيت الذي به نظامهم، وما ينال من حولهم من التخطف بالقتل والنهب والغارات، ومن الجذام بدعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام،(4/592)
ومن الطاعن والدخان بتأمين النبيّ صلى الله عليه وسلم
وعن ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضهم بعضاً فأمنت قريش ذلك لمكان الحرم. وقيل: شق عليهم السفر في الشتاء والصيف فألقى الله تعالى في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاماً في السفن، فحملوا فخافت قريش منهم وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام وأعانوهم بالأقوات، فكان أهل مكة يخرجون إلى جدّة بالإبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين. وقيل: إنّ قريشاً لما كذبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» فاشتدّ القحط فقالوا: يا محمد، ادع الله لنا فإنا مؤمنون. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمن فحملوا الطعام إلى مكة وأخصب أهلها» . وقال الضحاك والربيع في قوله تعالى: {وآمنهم من خوف} ، أي: من خوف الحبشة. وقال عليّ: {وآمنهم من خوف} أن تكون الخلافة إلا فيهم. قال الزمخشريّ: من بدع التفاسير {وآمنهم من خوف} أن تكون الخلافة في غيرهم اه. لكن إن ثبت ذلك عن علي كرم الله وجهه فليس كما قال وقيل: كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها» حديث موضوع.
سورة الدين وتسمى
سورة الماعون مكية
في قول عطاء وجابر وأحد قولي ابن عباس رضي الله عنهما، ومدنية في قول له آخر وهو قول قتادة وغيره، وهي سبع آيات وخمس وعشرون كلمة ومائة وثلاثة وعشرون حرفاً.
{بسم الله} الذي له كل كمال {الرحمن} الذي عم جميع عباده بالنوال {الرحيم} الذي خص أولياءه بنعمة الإفضال.
وقوله تعالى: {أرأيت} استفهام معناه التعجب. وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ولورش أيضاً إبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائيّ. قال الزمخشريّ: وليس بالاختيار لأن حذفها مختص بالمضارع، ولم يصح عن العرب ريت، ولكن الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أول الكلام، ونحوه:
*صاح هل ريت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب*
وخففها الباقون، والمعنى: أرأيت {الذي يكذب} أي: يوقع التكذيب لمن يخبره كائناً من كان {بالدين} أي: بالجزاء والحساب، أي: هل عرفته أم لم تعرفه.
{فذلك} بتقدير هو بعد الفاء، أي: البغيض البعيد المبعد من كل خير {الذي يدُّع} أي: يدفع دفعاً عظيماً بغاية القسوة {اليتيم} ولا يحث على إكرامه لأنّ الله تعالى نزع الرحمة من قلبه، ولا ينزعها إلا من شقي لأنه لا حامل على الإحسان إليه إلا الخوف من الله تعالى، فكان التكذيب بجزائه مسبباً للغلظة عليه. وقال قتادة: يقهره ويظلمه فإنهم كانوا لا يورّثون النساء ولا الصغار، ويقولون: إنما يحوز المال من يطعن بالسنان ويضرب بالحسام. وقال صلى الله عليه وسلم «من ضم يتيماً من المسلمين حتى يستغني فقد وجبت له(4/593)
الجنة» .
واختلف فيمن نزل ذلك فيه، فقال مقاتل: في العاص بن وائل السهمي. وقال السديّ: في الوليد بن المغيرة. وقال الضحاك: في عمرو بن عابد المخزومي. وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: في رجل من المنافقين. وقيل: في أبي جهل. { {
{ولا يحض} أي: يحث نفسه ولا غيره {على طعام المسكين} أي: بذله له وإطعامه إياه، بل يمقته ولا يكرمه ولا يرحمه، وقد تضمن هذا أنّ علامة التكذيب بالبعث إيذاء الضعيف، والتهاون بالمعروف
ولما كان هذا مع الخلائق أتبعه حاله مع الخالق بقوله تعالى:
{فويل} أي: عذاب، أو واد في جهنم {للمصلين الذين هم} أي: بضمائرهم وخالص سرائرهم {عن صلاتهم} التي هي جديرة بأن تضاف إليهم لوجوبها عليهم وإيجابها لأجل مصالحهم ومنافعهم بالتزكية وغيرها {ساهون} أي: عريقون في الغفلة عنها وتضييعها، وعدم المبالاة بها، وقلة الالتفات إليها. وروى البغويّ بسنده أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: «هو إضاعة الوقت» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «هم المنافقون يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس ويصلونها في العلانية مع الناس إذا حضروا» لقوله تعالى:
{الذين هم} أي: بجملة سرائرهم {يراؤون} أي: بصلاتهم وغيرها الناس، لأنهم يفعلون الخير ليراهم الناس لا لرجاء الثواب، ولا لخوف العقاب من الله تعالى، ولذلك يتركون الصلاة إذا غابوا عن الناس. وقال إبراهيم: هو الذي يلتفت في صلاته. وقال قطرب: هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله تعالى. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لو قال في صلاتهم ساهون لكانت في المؤمنين. وقال عطاء: الحمد لله الذي قال تعالى: {عن صلاتهم ساهون} ولم يقل في صلاتهم ساهون فدل على أنّ الآية في المنافقين وقال قتادة: ساه عنها لا يبالي صلى أم لم يصلّ. وقال مجاهد: غافلون عنها متهاونون بها. وقال الحسن: هو الذي إن صلاها صلاها رياء، وإن فاتته لم يندم، وقيل: هم الذي يسهون عنها قلة مبالاة بها حتى تفوتهم، أو يخرج وقتها، أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف، ولكن ينقرونها نقراً من غير خشوع، ولا اجتناب لما يكره فيها من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات، لا يدري الواحد منهم عن كم انصرف، ولا ما قرأ من السورة، وكما ترى صلاة أكثر من ترى من الذين عادتهم الرياء بأعمالهم، ومنع حقوق أموالهم والمعنى: أنّ هؤلاء أحق أن يكون سهوهم عن الصلاة التي هي عماد الدين.
والفارق بين الإيمان والكفر والرياء الذي هو شعبة من الشرك ومنع الزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام علماً على أنهم مكذبون بالدين، وكم ترى من المتسمين بالإسلام بل بالعلم من هو منهم على هذه الصفة فيا مصيبتاه.
فإن قيل: كيف جعل المصلين قائماً مقام ضمير الذي يكذب، وهو واحد؟ أجيب: بأن معناه الجمع لأنّ المراد به الجنس. فإن قيل: أي: فرق بين قوله تعالى: {عن صلاتهم} وقولك في صلاتهم؟ أجيب: بأن معنى عن أنهم ساهون عنها سهو ترك وقلة التفات إليها وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشياطين من المسلمين، ومعنى في أن السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته فضلاً عن غيره، ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. وعن أنس الحمد لله على أن لم يقل في صلاتهم، وقد مرّت(4/594)
الإشارة إلى بعض ذلك. فإن قيل: ما معنى المراآة؟ أجيب: بأنها مفاعلة من الإراءة، لأن المرائي يري الناس عمله وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به، ولا يكون الرجل مرائياً بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها لقوله صلى الله عليه وسلم «ولا غمة في فرائض الله» لأنها أعلام الإسلام وشعائر الدين، ولأنّ تاركها يستحق الذم والمقت فوجب إناطة الهمة بالإظهار، وإن كان تطوّعاً فحقه أن يخفي لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه، فإن أظهره قاصداً للاقتدار به كان جميلاً.
وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين فتثني عليه بالصلاح. وعن بعضهم: أنه رأى رجلاً في المسجد قد سجد سجدة الشكر فأطال، فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك، وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة على أنّ اجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص. ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح الأسود» .
ثم بين أن من هو بهذه الصفة يغلب عليه الشح بقوله تعالى:
{ويمنعون} أي: على تجدد الأوقات {الماعون} أي: حقوق الأموال والشيء اليسير من المنافع، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: الماعون الفأس والدلو والقدر وأشباه ذلك وهي رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال مجاهد: الماعون أعلاها الزكاة المفروضة، وأدناها عارية المتاع. وعن عليّ أنها الزكاة. وقال محمد بن كعب الكلبيّ: الماعون المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم.
وقال قطرب: أصل الماعون من القلة، تقول العرب: ما له سعنة ولا معنة، أي: شيء قليل فسمى الزكاة والصدقة والمعروف ماعوناً لأنه قليل من كثير وقيل: الماعون ما لا يحل منعه مثل الماء والملح والنار. وقول البيضاويّ تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة أرأيت غفر له إن كان للزكاة مؤدّياً» حديث موضوع.
سورة الكوثر وتسمى سورة النحر مكية
في قول ابن عباس رضي الله عنهما والكلبي ومقاتل، ومدنية في قول الحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة، وهي ثلاث آيات وعشر كلمات واثنان وأربعون حرفاً
{بسم الله} الذي لا حد لفائض فضله {الرحمن} الذي شمل الخلائق بجوده فلا رادّ لأمره {الرحيم} الذي خص حزبه بالاعتصام بحبله
وقوله تعالى: {إنا} أي: بما لنا من العظمة {أعطيناك} أي: خوّلناك مع التمكين العظيم يا أشرف الخلق {الكوثر} أي: نهراً في الجنة هو حوضه صلى الله عليه وسلم ترد عليه أمّته، لما روي عن أنس أنه قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ غفا إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزل عليّ آنفاً سورة فقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر} إلى آخرها، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم؟ قال: فإنه نهر وعدنيه ربي خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول رب إنه من أمّتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك» . وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر(4/595)
والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج» . وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر يجري بياضه بياض اللبن، وأحلى من العسل، وحافتاه خيام الدر، فضربت بيدي فإذا الثرى مسك أذفر،. فقلت لجبريل: ما هذا؟ قال: الكوثر أعطاكه الله تعالى» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها لا يظمأ أبداً» .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إلىّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: إي: رب أصحابي، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» . وعن ثوبان أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عرضه فقال: «من مقامي إلى عمان» وسئل عن شرابه فقال: «أشدّ بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل فيه ميزابان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورق» . وعن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهطان من أصحابي» ، أو قال: «من أمتي فيجلون عن الحوض فأقول: أي: رب أصحابي، فيقول إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك كإنهم ارتدّوا على ادبارهم القهقرى» .
ولمسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ترد عليّ أمّتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبيّ الله تعرفنا قال: نعم لكم سيما ليست لأحد غيركم تردون عليّ غرّاً محجلين من آثار الوضوء، وليصدنّ عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يا رب هؤلاء أصحابي فيجيبني فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك» . وأحاديث الحوض كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية لأولي الألباب فنسأل الله تعالى أن يروينا منه نحن وأحبابنا، ويدخلنا وإياهم الجنة بغير حساب.
قال القاضي عياض: أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان. وقال ابن عادل: وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأوّل ولا يختلف فيه، وحديثه متواتر النقل رواه خلائق من الصحابة اه. وقيل: الكوثر القرآن العظيم، وقيل:: هو النبوّة والكتاب والحكمة وقيل: هو كثرة أتباعه.
وقيل: الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى إياه. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: الكوثر الخير الكثير. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: إن ناساً يزعمون أن الكوثر نهر في الجنة؟ فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى إياه.
وأصل الكوثر فوعل من الكثرة والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير القدر والخطر كوثراً قيل: لأعرابية رجع ابنها من السفر: آب ابنك، قالت: آب بكوثر، وقال الشاعر:
*وأنت كثير يا ابن مروان طيب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا*
وقيل: الكوثر الفضائل الكثيرة التي فضلها على جميع الخلائق.
تنبيه: لا منافاة بين هذه الأقوال كلها فقد أعطيها النبيّ صلى الله عليه وسلم وأعطي صلى الله عليه وسلم النبوّة والحكمة والعلم والشفاعة والحوض المورود، والمقام المحمود، وكثرة الاتباع، وإظهاره على الأديان كلها، والنصر على الأعداء، وكثرة الفتوح في زمنه إلى يوم القيامة، وأولى الأقاويل في الكوثر وهو الذي(4/596)
عليه جمهور العلماء أنه نهر في الجنة.
ولما كمل له سبحانه من النعم ما لا يأتي عليه حصر مما لا يناسب أدناه نعيم الدنيا بجملتها سبب عنه قوله تعالى آمراً بما هو جامع لمجامع الشكر:
{فصلِّ} أي: بقطع العلائق عن الخلائق بالوقوف بين يدي الله تعالى في حضرة المراقبة شكراً لإحسان المنعم، خلافاً للساهي عنها والمرائي فيها. {لربك} أي: المحسن إليك بأنواع النعم مراغماً من شئت فلا سبيل لأحد عليك {وأنحر} أي: أنفق له الكوثر من المال على المحاويج خلافاً لمن يدعهم ويمنعهم الماعون، والنحر أفضل نفقات العرب لأنّ الجزور الواحد يغني مائة مسكين، وإذا أطلق العرب المال انصرف إلى الإبل.
وقال محمد بن كعب: إن ناساً كانوا يصلون لغير الله تعالى، وينحرون لغير الله فأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يصلي وينحر لله عز وجل. وقال عكرمة وعطاء وقتادة: {فصل لربك} صلاة العيد يوم النحر، وانحر نسكك، واقتصر على هذا الجلال المحلي وقال سعيد بن جبير ومجاهد: فصل الصلاة المفروضة بجمع، أي: مزدلفة، وانحر البدن بمنى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر. وعن علي: أنّ معناه أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره. وقال الكلبيّ: استقبل القبلة بنحرك. وعن عطاء أمره أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحره.
{إنّ شانئك} أي: مبغضك والشانىء المبغض، يقال: شنأه يشنؤه، أي: أبغضه {هو الأبتر} أي: المنقطع عن كل خير، وأما أنت فقد أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك فمعطي ذلك كله هو الله رب العالمين فاجتمعت لك العطيتان السنيتان إصابة أشرف عطاء وأوفره من أكرم معط وأعظم منعم، أو المنقطع العقب لا أنت لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أعقابك وأولادك وذكرك مرفوع على المنابر والمنائر وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر يبدأ بذكر الله تعالى ويثني بذكرك ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف فمثلك لا يقال له أبتر إنما الأبتر هو شانئك المسيء في الدنيا والآخرة وقال الرازي: هذه السورة كالمقابلة للتي قبلها فإنه ذكر في الأولى البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الماعون وذكر ههنا في مقابلة البخل {إنا أعطيناك الكوثر} وفي مقابلة الصلاة {فصلّ} أي: دم على الصلاة وفي مقابلة الرياء {لربك} أي: لرضاه خالصاً، وفي مقابلة منع الماعون {وانحر} أي: تصدّق بلحم الأضاحي ثم ختم السورة بقوله تعالى: {إنّ شانئك هو الأبتر} أي: أنّ المشاقق الذي اتى بتلك الأفعال القبيحة سيموت ولا يبقى له أثر وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل وفي الآخرة الثواب الجزيل.
واختلف المفسرون في الشانىء فقيل: هو العاص بن وائل وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات ثم مات البنون وبقي البنات أبتر فقيل: إنّ العاص وقف مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يكلمه فقال له جمع من صناديد قريش: مع من كنت واقفاً مع ذلك الأبتر، وكان قد توفيّ قبل ذلك عبد الله ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا أبتر فلان فلما توفي عبد الله ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل على أصحابه فقال: بتر محمد فنزلت. وقال السديّ: إنّ قريشاً كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده بتر فلان فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا بتر محمد(4/597)
فليس له من يقوم بأمره من بعده فنزلت.
وقيل: لما أوحى الله تعالى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا قريش إلى الإيمان قالوا: أبتر منا محمد، أي: خالفنا وانقطع عنا فنزلت.
تنبيه: قال أهل العلم قد احتوت هذه السورة على قصرها على معان بليغة وأساليب بديعة منها دلالة استهلال السورة على أنه تعالى أعطاه كثيراً من كثير ومنها إسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه، ومنها إيراده بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه كما في قوله تعالى: {أتى أمر الله} (النحل: 1)
ومنها: تأكيد الجملة بأن. ومنها بناء الفعل على الاسم ليفيد الإسناد مرّتين.
ومنها: الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرة.
ومنها: حذف الموصوف بالكوثر لأنّ في حذفه من فرط الشياع والإبهام ما ليس في إثباته، ومنها تعريفه بأل الجنسية الدالة على الاستغراق.
ومنها: فاء التعقيب الدالة على السبب فإنّ الإنعام سبب للشكر والعبادة، ومنها التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى، ومنها أنّ الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي الصلاة قوامها وأفضلها والأمر بالنحر إشارة إلى الأعمال البدينة التي النحر أسناها، ومنها حذف متعلق انحر إذ التقدير فصل لربك وانحر له، ومنها مراعاة السجع فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلف، ومنها قوله تعالى: {لربك} في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى دلالة على أنه المربي له والمصلح بنعمه، فلا يلتمس كل خير إلا منهن ومنها الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى: {لربك} ومنها الأمر بترك الاهتمام بشانئه للاستئناف، وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ، ولم يسمه ليشمل كل من اتصف بهذه الصفة القبيحة، ولو كان المراد شخصاً معيناً لعينه الله تعالى.
ومنها: التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة على أنه لم يتصف إلا بمجرّد قيام الصفة به من غير أن تؤثر فيمن يشنؤه شيئاً البتة، لأنّ من يشنأ شخصاً قد يؤثر شنؤه شيئاً.
ومنها: تأكيد الجملة بأن المؤذنة بتأكيد الخبر، ولذلك يتلقى بها القسم وتقدير القسم يصلح هنا. ومنها الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلنا فصلاً، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد؛ إذ يصير الإسناد مرّتين.
ومنها: تعريف الأبتر بأل المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة كأنه قيل: الكامل في هذه الصفة. ومنها إقباله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بالخطاب من أوّل السورة إلى آخرها. وقول البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الكوثر سقاه الله من كل نهر في الجنة، ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قرّبه العباد في يوم النحر، أو يقرّبونه» حديث موضوع.
سورة الكافرون مكية
في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك، وتسمى أيضاً سورة المعابدة والإخلاص لأنها في إخلاص العبادة والدين كما أن {قل هو الله أحد} في إخلاص التوحيد، واجتماع النفاق فيهما محال لمن اعتقدهما وعمل بهما. ويقال لها ولسورة الإخلاص: المقشقشتان، أي: المبرئتان من النفاق. قال الشاعر:
*أعيذك بالمقشقشتين مما ... أحاذره ومن نظر العيون*(4/598)
وهي ست آيات وستة وعشرون كلمة وأربعة وسبعون حرفاً.
{بسم الله} الذي لا يستطيع أحد أن يقدره حق قدره {الرحمن} الذي عمّ برحمته من أوجب عليهم شكره {الرحيم} الذي وفق أهل ودّه فالتزموا نهيه وأمره
وقوله تعالى: {قل} أي: يا أشرف الخلق {يا أيها الكافرون} إلى آخر السورة نزل في رهط من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد، وأمية بن خلف. قالوا: يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك ونشركك في امرنا كله، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيراً كنا قد شركناك فيه وأخذنا حظاً منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه، فقال: معاذ الله أن نشرك به غيره، قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد إلهك، قال: حتى أنظر ما يأتي إليّ من ربي فأنزل الله تعالى هذه السورة، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة فأيسوا منه عند ذلك وأذوه وأصحابه، وفي مناداتهم بهذا الوصف الذي يسترذلونه في بلدهم، ومحل عزهم وحميتهم إيذان بأنه محروس منهم علم من أعلام النبوّة.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في التحريم: {يا أيها الذين كفروا} (التحريم: 7)
وههنا قال: {قل يا أيها الكافرون؟} .
أجيب: بأنّ في سورة التحريم إنما يقال لهم يوم القيامة، وثم لا يكون رسولاً إليهم فأزال الواسطة فيكونون في ذلك الوقت مطيعين لا كافرين فلذلك ذكره تعالى بلفظ الماضي، وأمّا هنا فكانوا موصوفين بالكفر، وكان الرسول رسولاً إليهم فقال تعالى: {قل يا أيها الكافرون} ، أي: الذي قد حكم بثباتهم على الكفر فلا انفكاك لهم عنه فستروا ما تدلّ عليه عقولهم من الاعتقاد الحق لو جردّوها من أدناس الحظ وهم كفرة مخصوصون، وهم من حكم بموته على الكفر بما طابقه من الواقع، ودل عليه التعبير بالوصف دون الفعل، واستغرق اللام كل من كان على هذا الوصف في كل مكان وكل زمان، والتعبير بالجمع الذي هو أصل في القلة، وقد يستعار للكثرة إشارة إلى البشارة بقلة المطبوع على قلبه من العرب المخاطبين بهذا في حياته صلى الله عليه وسلم
وقال الله تعالى له: {قل يا أيها الكافرون} لأنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالرفق واللين في جميع الأمور كما قال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران: 159)
وقال تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} (آل عمران: 159)
وقال تعالى: {بالمؤمنين رؤوف رحيم} (آل عمران: 159)
ثم كان مأموراً بأن يدعوهم إلى الله تعالى بالوجه الأحسن، فلذا خاطبهم بيا أيها فكانوا يقولون: كيف يليق هذا التغليظ بذلك الرفق، فأجاب بأني مأمور بهذا الكلام لا أني ذكرته من عند نفسي.
ولما كان القصد إعلامهم بالبراءة منهم من كل وجه، وأنه لا يبالي بهم بوجه لأنه محفوظ منهم قال:
{لا أعبد} أي: الآن {ما تعبدون} من دون الله من المعبودات الظاهرة والباطنة بوجه من وجوه العبادات في سرّ ولا علن؛ لأنه لا يصلح للعبادة بوجه.
{ولا أنتم عابدون} أي: الآن {ما أعبد} وهو الله تعالى وحده.
{ولا أنا عابد} ، أي: في الاستقبال ما عبدتم} من دون الله تعالى.
{ولا أنتم عابدون} ، أي: في الاستقبال {ما أعبد} وهو الله وحده لا شريك له، وهذا خطاب لمن علم الله تعالى(4/599)
منهم أنهم لا يؤمنون. وإطلاق ما على الله تعالى على جهة المقابلة، وبهذا زال التكرار ووجه التكرار كما قال أكثر أهل المعاني: هو أن القرآن نزل بلسان العرب وعلى مجارى خطابهم ومن مذاهبهم التكرار لإرادة التأكيد والإفهام، كما أنّ من مذاهبهم الاختصار لإرادة التخفيف والإيجاز فالقائل بالتأكيد يقول قوله تعالى: {ولا أنا عابد ما عبدتم} تأكيد لقوله تعالى: {لا أعبد ما تعبدون} (التكاثر: 3 ـ 4)
وقوله تعالى: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} ثانياً تأكيد لقوله تعالى: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} ومثله {فبأي آلاء ربكما تكذبان} (الرحمن: 77)
و {ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات: 15)
في سورتيهما و {كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} وفي الحديث: «فلا أذن ثم لا أذن إنما فاطمة بضعة مني» وفائدة التأكيد هنا قطع أطماع الكفار وتحقيق الأخبار وهو إقامتهم على الكفر، وأنهم لا يسلمون أبداً وعلى الأوّل قد تقيدت كل جملة بزمان غير الزمان الآخر قال ابن عادل: وفيه نظر كيف يقيد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفي عبادته لما يعبدون بزمان، وهذا مما لا يصح اه. وقد يردّ هذا بأنه صلى الله عليه وسلم نفى في الجملة الأولى الحال، وفي الثانية الاستقبال وقول البيضاوي: فإن لا، لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الاستقبال كما أنّ ما لا تدخل إلا على المضارع بمعنى الحال جرى على الغالب فيهما
ولما أيس منهم صلى الله عليه وسلم قال: {لكم دينكم} أي: الذي أنتم عليه من الشرك {ولي دين} أي: الذي أنا عليه من التوحيد وهو دين الإسلام، وفي هذا معنى التهديد كقوله تعالى: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} (القصص: 55)
أي: إن رضيتم بدينكم فقد رضينا بديننا، وهذا كما قال الجلال المحلي: قبل أن يؤمر بالحرب، وقيل: السورة كلها منسوخة وقيل: ما نسخ منها شيء لأنها خبر، ومعنى لكم دينكم، أي: جزاء دينكم ولي دين، أي: جزاء ديني وسمي دينهم ديناً لأنهم اعتقدوه، وقيل: المعنى: لكم جزاؤكم ولي جزائي لأنّ الدين الجزاء، وحذفت ياء الإضافة من دين للتبعية وقفاً ووصلاً. قرأ نافع وهشام وحفص والبزي بخلاف عنه بفتح الياء والباقون بإسكانها.
فائدة: قال الرازي: جرت العادة بأنّ الناس يتمثلون بهذه الآية عند المتاركة وذلك غير جائز، لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبر فيه فيعمل بموجبه.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الكافرين فكأنما قرأ ربع القرآن، وتباعدت منه مردة الشياطين، وبرئ من الشرك، ويعافى من الفزع الأكبر» حديث موضوع إلا الجملة الأولى منه فرواها الترمذي.
سورة النصر مدنية
بالإجماع وتسمى سورة التوديع، وهي ثلاث آيات وستة عشر كلمة وتسعة وسبعون حرفاً
{بسم الله} الذي له الأمر كله فهو العليم الحكيم {الرحمن} الذي أرسلك رحمة من الله العليّ العظيم {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بفضله العميم.
وقوله تعالى: {إذا} منصوب بسبح {جاء نصر الله} ، أي: الملك الأعظم الذي لا مثل له، ولا أمر لأحد معه بإظهاره إياك على أعدائك ومعنى جاء استقرّ وثبت في المستقبل بمجيء وقته المضروب له في الأزل، وزاد في تعظيمه بالإضافة ثم بكونها(4/600)
إلى اسم الذات. { {
وقرأ حمزة وابن ذكوان بإمالة الألف بعد الجيم محضة والباقون بالفتح، والإعلام به قبل كونه من أعلام النبوّة، روي أنها نزلت أيام التشريق بمنى في حجة الوداع {والفتح} ، أي: فتح مكة وهو الفتح الذي يقال له فتح الفتوح، وقصته مشهورة في البغوي وغيره فلا نطيل بذكرها، وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطواف العرب، وأقام بها خمس عشرة ليلة، ثم خرج إلى هوزان وحين دخلها وقف على باب الكعبة ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم قال: يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، ثم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الله تعالى قد أمكنه من رقابهم عنوة وكانوا له فيأ فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء ثم بايعوه على الإسلام في دين الله تعالى في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} (آل عمران: 85)
وقيل: المراد جنس نصر الله تعالى المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم. فإن قيل: ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه؟ أجيب: بأنّ النصر الإعانة والإظهار على العدوّ، ومنه نصر الله تعالى الأرض أغاثها قال الشاعر:
*إذا انسلخ الشهر الحرام فودّعي ... بلاد تميم وانصري آل عامر*
ويروى:
*إذا دخل الشهر الحرام فجاوزي ... بلاد تميم وانصري أرض عامر*
والفتح فتح البلاد، وقال الرازي: الفرق بين النصر والفتح أنّ الفتح هو الإعانة على تحصيل المطلوب الذي كان متعلقاً به، والنصر كالسبب فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف الفتح عليه.
فإن قيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائماً منصوراً بالدلائل والمعجزات فما المعنى: بتخصيص لفظ النصر بفتح مكة؟.
أجيب: بأنّ المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع. فإن قيل: النصر لا يكون إلا من الله تعالى، قال الله تعالى: {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} (آل عمران: 126)
فما فائدة التقييد بنصر الله؟ أجيب: بأنّ معناه نصر لا يليق إلا بالله تعالى، كما يقال هذا صنعة زيد إذا كان مشهوراً بإحكام الصنعة والمقصود منه تعظيم حال تلك الصنعة فكذا ههنا. فإن قيل: الذين أعانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة هم أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم إنه تعالى سمى نصرتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم نصر الله فما السبب في ذلك؟ أجيب: بأنّ النصر وإن كان على يد الصحابة لكن لا بدّ له من داع وباعث وهو من الله تعالى، فإن قيل: فعلى هذا الجواب يكون فعل العبد مقدّماً على فعل الله تعالى، وهذا بخلاف النصر لأنه تعالى قال: {إن تنصروا الله ينصركم} (محمد: 7)
فجعل نصره مقدّماً على نصره لنا؟ أجيب: بأنه لا امتناع في أن يكون فعل العبد سبباً لفعل آخر يصدر عن الله تعالى، فإنّ أسباب الحوادث ومسبباتها على ترتيب عجيب تعجز عن إدراكه العقول البشرية.
ولما عبر عن المعنى: بالمجيء عبر عن المرئي بالرؤية فقال تعالى:
{ورأيت} ، أي: ببصرك ((الناس)) ، أي: العرب الذي كانوا حقيرين عند جميع الأمم فصاروا بك هم الناس كما دلت عليه لام(4/601)
الكمال، وصار سائر أهل الأرض لهم أتباعاً بالنسبة إليهم رعاعاً حال كونهم {يدخلون} شيئاً فشيئاً متجدّداً دخولهم مستمرّاً {في دين الله} ، أي: شرع من لم تزل كلمته هي العليا {أفواجاً} ، أي: جماعات كثيفة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون واحداً واحداً واثنين اثنين.
وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم، فقيل له في ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دخل الناس في دين الله أفواجاً وسيخرجون منه أفواجاً» . وقال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل اليمن وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين بعضهم يؤذنون، وبعضهم يقرؤون القرآن، وبعضهم يهللون فسر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك. قال أبو هريرة لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الله أكبر جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم الإيمان يمان، والفقه يمان والحكمة يمانية» وقال: «أجد نفس ربكم من قبل اليمن» وفي هذا تأويلات:
أحدها: أنه الفرج لتتابع إسلامهم أفواجاً.
الثاني: أنّ الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأهل اليمن وهم الأنصار. وعن الحسن لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أقبلت العرب بعضها على بعض، فقالوا: أمّا إذ ظفر بأهل الحرم فليس به يدان، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل ومن كل من أرادهم فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجاً من غير قتال أمّة بعد أمّة. قال الضحاك: والأمة أربعون رجلاً.
تنبيه: دين الله تعالى هو الإسلام لقوله تعالى: {إنّ الدين عند الله الإسلام} (آل عمران: 19)
وقال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} (آل عمران: 85)
وإضافة الدين إلى الاسم الدال على الإلهية إشارة على أنه يجب أن يعبد لكونه إلهاً وللدّين أسماء أخر منها الصراط قال تعالى: {صراط الله} (الشورى: 53)
ومنها النور {يريدون ليطفئوا نور الله} (التوبة: 32)
ومنها الهدى قال تعالى: {هدى الله يهدي به من يشاء} (الأنعام: 88)
ومنها العروة الوثقى قال تعالى: {ومن يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} (البقرة: 256)
ومنها الحبل المتين قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله} (آل عمران: 103)
ومنها صبغة الله، ومنها فطرة الله.
تنبيه: جمهور الفقهاء وأكثر المتكلمين على أنّ إيمان المقلد صحيح، واحتجوا بهذه الآية قالوا: إنّ الله تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على نبيه صلى الله عليه وسلم فلو لم يكن إيمانهم صحيحاً لما ذكره في هذا المعرض، ثم إنا نعلم قطعاً أنهم كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدليل ولإثبات كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ولإثبات الصفات والتنزيهات بالدليل والعلم بأنّ أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري فعلمنا أنّ إيمان المقلد صحيح.
فإن قيل: إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل لأنّ أصول هذه الدلائل ظاهرة، بل كانوا جاهلين بالتفاصيل؟.
أجيب: بأنّ الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان، فإنّ الدليل إذا كان مثلاً من عشر مقدمات فمن علم تسعة منها وكان في المقدّمة العاشرة مقلداً كان في النتيجة مقلداً لا محالة.
ولما كمل الدين أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يشتغل بنفسه فقال عز من قائل:
{فسبح} ، أي: نزه بقولك وفعلك بالصلاة وغيرها تسبيحاً ملتبساً {بحمد ربك} ، أي: الذي أنجز لك الوعد بإكمال الدين وقمع المعتدين المحسن إليك بجميع ذلك، لأنّ هذا كله لكرامتك وإلا فهو عزيز(4/602)
حميد على كل حال تعجباً لتيسير الله تعالى لهذا الفتح الذي لم يخطر ببال أحد حامداً له عليه، أو فصل له حامداً على نعمه قاله ابن عباس. روي أنه صلى الله عليه وسلم «لما دخل مكة بدأ بالسجود فدخل الكعبة وصلى ثمان ركعات» . {واستغفره} ، أي: اطلب غفرانه لتقتدي بك أمّتك في المواظبة على الأمان الثاني، فإنّ الأمان الأول الذي هو وجودك بين أظهرهم قد دنا رجوعه إلى معدنه في الرفيق الأعلى، والمحل الأقدس، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره كما أشار إلى ذلك الاستغفار عقب الصلاة التي هي أعظم العبادات وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت: «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه سورة إذا جاء نصر الله والفتح إلا يقول: استغفر الله وأتوب إليه، قال: فإني أمرت بها، ثم قرأ {إذا جاء نصر الله والفتح} إلى آخرها» . وقال عكرمة: لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم قط أشد اجتهاداً في أمور الآخرة ما كان عند نزولها. وقال مقاتل: لما نزلت قرأها النبيّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص والعباس ففرحوا واستبشروا، وبكى العباس فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم «ما يبكيك يا عمّ؟ قال: نعيت إليك نفسك،. قال: إنه كما قلت، فعاش بعدها ستون يوماً ما رؤى ضاحكاً مستبشراً» وقيل: نزلت في منى بعد أيام التشريق في حجة الوداع فبكى عمر والعباس، فقيل لهما: هذا يوم فرح، فقالا: لا بل فيه نعي النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن ابن عمر نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع ثم نزل {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} (المائدة: 3)
فعاش صلى الله عليه وسلم بعدها ثمانين يوماً، ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوماً، ثم نزلت {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} (التوبة: 128)
فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوماً، ثم نزل: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} (البقرة: 281)
فعاش بعدها أحداً وعشرين يوماً. وقال مقاتل: سبعة أيام، وقيل: غير ذلك. وقال الرازي: اتفق الصحابة على أنّ هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لوجوه:
أحدها: أنهم عرفوا ذلك لما خطب صلى الله عليه وسلم عقب السورة وذكر التخيير، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته لما نزلت هذه السورة: «إنّ عبداً خيره الله بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله فقال أبو بكر رضي الله عنه: فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا» .
ثانيها: أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجاً دل ذلك على حصول الكمال والتمام، وذلك يستعقبه الزوال كما قيل::
*إذا تمّ أمر بدا نقصه ... توقع زوالاً إذا قيل تم*
ثالثها: أنه تعالى أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقاً، واشتغاله بذلك يمنعه من الاشتغال بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أنّ أمر التبليغ قد تم وكمل، وذلك يقتضي انقضاء الأجل إذ لو بقي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لكان كالمعزول من الرسالة وذلك غير جائز وعن ابن عباس: أن عمر كان يدنيه ويأذن له مع أهل بدر، فقال عبد الرحمن: أتأذن لهذا الفتى معنا وفي أبنائنا من هو مثله؟ فقال: إنه من قد علمتم. قال ابن عباس: فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} ولا أراه سألهم إلا من أجلي، فقال بعضهم: أمر الله(4/603)
تعالى نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه فقلت ليس كذلك ولكن نعيت إليه نفسه، فقال عمر: ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم، ثم قال: كيف تلوموني عليه بعد ما ترون. وروي أنه صلى الله عليه وسلم «دعا فاطمة رضي الله عنها فقال: يابنتاه إني نعيت إلى نفسي فبكت، فقال: لا تبكي فإنك أوّل أهلي لحوقاً بي» وعن عائشة «كان صلى الله عليه وسلم يكثر قبل موته أن يقول: «سبحانك اللهمّ وبحمدك اشتغفرك وأتوب إليك» وعنها أيضاً «ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت {إذا جاء نصر الله والفتح} إلا يقول فيها: سبحانك اللهمّ وبحمدك اللهمّ اغفر لي» . وقالت أم سلمة رضي الله عنها: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال: «سبحان الله وبحمده استغفر الله وأتوب إليه. قال: فإني أمرتُ بها ثم قرأ {إذا جاء نصر الله والفتح} إلا آخرها» . وقيل: استغفره هضماً لنفسك واستصغاراً لعملك واستدراكاً لما فرط منك بالالتفات على غيره وعنه عليه الصلاة والسلام: «إني استغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» وقيل: استغفر لأمّتك وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار على طريق النزول من الخالق إلى الخلق، كما قيل: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله.
ولما أمره الله تعالى بالتسبيح والاستغفار أرشده إلى التوبة بقوله تعالى: {إنه} ، أي: المحسن إليك بالنصر والفتح وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر {كان} ، أي: ولم يزل {تواباً} ، أي: رجاعاً بمن ذهب به الشيطان من أهل رحمته، فهو الذي رجع بأنصارك عما كانوا عليه من الاجتماع على الكفر والاختلاف والعداوات، فأيدك الله تعالى بدخولهم في الدين شيئاً فشيئاً إلى أن دخلت مكة بعشرة آلاف، وهو أيضاً يرجع بك إلى الحالة التي يزداد بهاظهور رفعتك في الرفيق الأعلى. قال الله تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى} (الضحى: 4)
فتفوز بتلك السعادات العالية. وعن ابن مسعود: أنّ هذه السورة تسمى سورة التوديع. قال قتادة ومقاتل: عاش النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين وهذا بناء على أنها نزلت قبل فتح مكة، وهو قول الأكثر فإنّ الفتح كان في سنة ثمان، وأمّا من قال: عاش دون ذلك كما مر فبناء على أنها نزلت في حجة الوداع كما مرّ أيضاً.
تنبيه: في الآية سؤالات أحدها أنّ قوله تعالى: {كان تواباً} يدل على الماضي وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل. ثانيها: هلا قال غفاراً كما قال في سورة نوح عليه السلام. ثالثها: أنه قال تعالى: {نصر الله} وقال تعالى: {في دين الله} وقال تعالى {بحمد ربك} ولم يقل بحمد الله؟ أجيب: عن الأوّل بوجوه:
أحدها: أنّ هذا أبلغ كأنه يقول إني تبت على من هو أقبح فعلاً منكم كاليهود، فإنهم بعد ظهور المعجزات العظيمة كفلق البحر ونتق الجبل ونزول المنّ والسلوى عصوا ربهم وأتوا بالقبائح، ولما تابوا قبلت توبتهم فإذا كنت قابلاً لتوبة أولئك وهم دونكم أفلا أقبل توبتكم وأنتم خير أمّة أخرجت للناس.
ثانيها: إني شرعت في توبة العصاة، والشروع ملزم على قول النعمان فكيف في كرم الرحمن.
ثالثها: كنت تواباً قبل أمركم بالاستغفار، أفلا أقبل وقد أمرتكم.
رابعها: كأنه أشار إلى تخفيف جنايتهم، أي: لستم أوّل من جنى وتاب، والمعصية إذا عمت خفت.
خامسها: كأنه نظير ما يقال لقد أحسن الله إليك فيما مضى، كذلك يحسن إليك فيما بقي. وأجيب: عن الثاني(4/604)
بوجهين: أحدهما لعله خص هذه الأمة بزيادة الشرف لأنه لا يقال في صفات العبد: غفار، ويقال: تواب إذا كان آتياً بالتوبة فيقول تعالى: كنت لي سمياً من أوّل الأمر أنت مؤمن وأنا مؤمن، وإن كان المعنى: مختلفاً فتب حتى تصير سمياً في آخر الأمر، وأنت تواب وأنا تواب ثم التوّاب في حق الله تعالى إنه يقبل التوبة كثيراً. فيجب على العبد أن يكون إتيانه بالتوبة كثيراً. وثانيهما: أنه تعالى إنما قال تواباً لأنّ القائل قد يقول استغفر الله وليس بتائب كقوله عليه الصلاة والسلام: «المستغفر بلسانه المصر بقلبه كالمستهزئ بربه» .
فإن قيل: قد يقول أتوب وليس بتائب؟ أجيب: بأن ذا يكون كاذباً لأنّ التوبة اسم للرجوع والندم، بخلاف الاستغفار فإنه لا يكون كاذباً فيه فصار تقدير الكلام: واستغفره بالتوبة، وفيه تنبيه على أنّ خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار فكذا خواتيم الأعمار. وأجيب عن الثالث: بأنه تعالى راعى العدل فذكر اسم الذات مرّتين، وذكر اسم الفعل مرّتين أحدهما الرب، والثاني التوّاب. ولما كانت التربية تحصل أولاّ والتوبة آخراً، لا جرم ذكر اسم الرب أولاً واسم التوبة آخراً فنسأل الله تعالى من فضله وكرمة أن يمنّ علينا بتوبة نصوح لا ننكث بعدها أبداً، فإنه كريم رحيم.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة {إذا نصر الله} «أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد يوم فتح مكة» حديث موضوع.
سورة تبت مكية
وهي خمس آيات وثلاث وعشرون كلمة وسبعة وسبعون حرفاً
{بسم الله} المتكبر الجبار المضل الهاد {الرحمن} الذي عمّ خلقه بنعمه بعد الإكرام بالإيجاد {الرحيم} الذي خص بتوفيقه أهل الوداد
وقوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب} دعاء عليه، وسبب نزول ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (الشعراء: 214)
صعد صلى الله عليه وسلم الصفا جعل ينادي: «يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا عنده، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولاً لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدّقون؟ قالوا: بلى/.
قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك لهذا دعوتنا جميعاً فنزلت» .
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل ونادى: «يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش وذكر نحوه» .
وفي رواية فصعد الصفا فهتف: «يا صباحاه فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ فقالوا: محمد فاجتمعوا إليه فقال صلى الله عليه وسلم أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدّقيّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لك أما جمعتنا إلا لهذا فنزلت» .
وعن أبي زيد أنّ ابا لهب أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا أعطى إن آمنت بك يا محمد فقال صلى الله عليه وسلم «كما يعطى المسلمون فقال ما لي عليهم فضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم وأيّ شيء تبتغي قال: تباً لهذا من دين أن أكون وهؤلاء سواء فنزلت» . ومعنى تبت قال ابن عباس: خابت. وقال قتادة: خسرت. وقال عطاء: صلت. وقال ابن جبير: هلكت والتباب الهلاك، ومنه قولهم:(4/605)
أشابة أم تابة، أي: هالكة من الهرم والتعجيز، والمعنى: هلكت يداه لأنه فيما يروى أخذ حجراً ليرمي به النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: رماه به فأدمى عقبه فلهذا ذكرت اليد وإن كان المراد جملة البدن فهو كقولهم: خسرت يده، وكسبت يده فأضيفت الأفعال إلى اليد، وذلك على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كله وجميعه، أو عبر باليدين لأنّ الغالب أنّ الأعمال تزاول بهما. وقال يمان بن رباب: صفرت من كل خير حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان سمع الناس هاتفاً يقول:
*لقد خلوك وانصرفوا ... فما آبوا ولا رجعوا*
*ولم يوافوا نذورهم ... فتباً للذي صنعوا*
وقيل: المراد باليدين دينه ودنياه، أو أولاه وعقباه، أو المراد بأحدهما جرّ المنفعة وبالأخرى دفع المضرّة، أو لأنّ اليمين سلاح واليسرى جنة. وأبو لهب هو ابن عبد المطلب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى. فإن قيل:: لماذا كني بذلك ولم يكن له ولد اسمه لهب، وأيضاً فالتكنية من باب التعظيم؟ أجيب: عن الأوّل بأنّ الكنية قد تكون اسماً كما سمي أبو سفيان وأبو طالب ونحو ذلك، فإنّ هؤلاء أسماؤهم كناهم، أو لتلهب وجنتيه وكان مشرق الوجه أحمره؟ وأجيب عن الثاني بوجوه: أحدها: أنه لما كان اسماً خرج عن إفادة التعظيم، ثانيها: أن اسمه، كان عبد العزى كما مرّ فعدل عنه إلى كنيته لقبح اسمه لأنّ الله تعالى لم يضف العبودية في كتابه إلى صنم. ثالثها: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته فكان جديراً بأن يذكر بها، كقولهم: أبو الخير وأبو الشر لصدورهما منه، أو لأنّ الكنية كانت أغلب من الاسم، أو لأنها أنقص منه، ولذلك ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم دون كناهم.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لما كناه والكنية تكرمة، ثم ذكر ثلاثة أجوبة إمّا لشهرته بكنيته، وإمّا لقبح اسمه كما تقدّم، وإمّا لأنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حالته كنيته اه. وهذا يقتضي أنّ الكنية أشرف من اللقب لا أنقص وهو عكس قول تقدّم. وقرأ ابن كثير بإسكان الهاء، والباقون بفتحها وهما لغتان بمعنى نحو: النهر والنهر
وقوله تعالى: {وتب} خبر كما يقال: أهلكه الله وقد هلك، فالأول: أخرج مخرج الدعاء عليه، والثاني: أخرج مخرج الخبر فحقق به ما أريد من الإسناد إلى اليدين من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده، وقيل: المراد ماله وملكه كما يقال فلان قليل ذات اليد يعنون به المال، وبالثاني نفسه.
ولما دعا صلى الله عليه وسلم أقربيه إلى الله تعالى وخوّفهم، قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فإني أفتدي نفسي بمالي وولدي فأنزل الله تعالى:
{ما أغنى عنه} أي: عن أبي لهب {ماله} ، أي: الكثير الذي جرت العادة أنه منج من الهلاك، فإنه كان صاحب مواش كثيرة. {وما كسب} ، أي: من الولد والأصحاب والعز بعشيرته التي كان يؤذي بها النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان ابنه عتبة شديد الأذى للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «اللهمّ سلط عليه كلباً من كلابك فكان أبو لهب يعرف أن هذه الدعوة، لا بدّ أن تدركه فسافر إلى الشأم فأوصى به الرفاق لينجوه من هذه الدعوة فكانوا يحدقون به إذا نام ليكون وسطهم والحمول محيطة به وهم محيطون بها، والركاب محيطة(4/606)
بهم، فلم ينفعهم بل جاء الأسد فتشمم الناس حتى وصل إليه فاقتلع رأسه» وإنما كان الولد من الكسب لقوله صلى الله عليه وسلم «أطيب ما يأكل أحدكم من كسبه، وإنّ ولده من كسبه» .
تنبيه: ما في {ما أغنى} يجوز فيها النفي والاستفهام فعلى الاستفهام، تكون منصوبة المحل بما بعدها التقدير: أي شيء أغنى المال وقدم لكونه له صدر الكلام، ويجوز في ما في قوله تعالى: {وما كسب} أن تكون بمعنى الذي فالعائد محذوف، وأن تكون مصدرية، أي: وكسبه وأغنى بمعنى يغني. ثم أوعده سبحانه بالنار فقال تعالى:
{سيصلى} أي: عن قريب بوعد لا خلف فيه {ناراً} يندس فيها وتنعطف عليه وتحيط به {ذات لهب} ، أي: لا تسكن ولا تخمد أيداً لأنّ ذلك مدلول الصحبة المعبر عنها بذات وذلك بعد موته.
ولما أخبر تعالى عنه بكمال التباب الذي هو نهاية الخسار زاده تحقيراً بذكر من يصونها بأزرى صورة وأشنعها بقوله تعالى:
{وامرأته} وهو عطف على ضمير يصلى سوغه الفصل بالمفعول وصفته، وهي أمّ جميل وهي أخت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، مثل زوجها في التباب والصليّ من غير أن يغني عنها شيء من مال ولا حسب ولا نسب، وعدل عن ذكرها لأنّ صفتها القباحة وهي ضدّ كنيتها. قال البقاعي: ومن هنا يؤخذ كراهة التلقيب بناصر الدين ونحوها لمن ليس متصفاً بما دل عليه لقبه. وقوله تعالى: {حمالة الحطب} فيه وجهان:
أحدهما: هو حقيقة. قال قتادة: وكانت تعير النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفقر، ثم كانت مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها لشدّة بخلها فعيرت بالبخل، وقال ابن زيد: كانت تحمل العضاه والشوك تلقيه في الليل في طريق النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير، وقال برّة الهمداني: كانت أمّ جميل تأتي في كل يوم بإبالة من الحسك فتطرحها في طريق المسلمين فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة عييت فقعدت على حجر تستريح فجذبها الملك من خلفها فأهلكها.
الوجه الثاني: أنّ ذلك مجاز عن المشي بالتسمية ورمي الفتن بين الناس، ويقال للمشاء بين الناس بالنمائم المفسد بين الناس يحمل الحطب منهم، أي: يوقد بينهم ويثير الشر قال الشاعر:
*من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ... ولم تمش بين الناس بالحطب الرطب*
جعله رطباً ليدلّ على التدخين الذي هو زيادة في الشرّ. وقال سعيد بن جبير: حمالة الخطايا والذنوب من قولهم: فلان يحتطب على ظهره قال تعالى: {يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام: 31)
وقرأ عاصم بنصب التاء من حمالة على الشتم، قال الزمخشري: وأنا أستحب هذه القراءة، وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب شتم أمّ جميل اه. والباقون برفعها على أنها صفة امرأته فإنها مرفوعة باتفاق إما بالعطف على الضمير في سيصلى كما مرّ، ويكون قوله تعالى:
{في جيدها حبل} حالاً من امرأته، أو على الابتداء ففي جيدها حبل هو الخبر وحبل فاعل به، ويجوز أن يكون في جيدها خبراً مقدّماً وحبل مبتدأ مؤخراً، والجملة حالية أو خبر ثان. والجيد العنق ويجمع على أجياد.
وقوله تعالى: {من مسد} صفة لحبل والمسد ليف المقل، وقيل: الليف مطلقاً، وقال أبو عبيد: هو حبل يكون من صوف، وقال الحسن: هي حبال من شجر ينبت باليمن يسمى المسدد، وكانت تفتله.(4/607)
وقال الضحاك وغيره: هذا في الدنيا وكانت تعير النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف فخنقها الله عز وجل به فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار. فإن قيل: إن كان ذلك حبلها فكيف يبقى في النار؟ أجيب: بأنّ الله تعالى قادر على تجدده كلما احترق كما يبقي اللحم والعظم أبداً في النار. وعن ابن عباس قال: هو سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً تدخل فيها وتخرج من أسفلها، ويلوي سائرها على عنقها.
وقال قتادة: هو قلادة من ودع. وقال الحسن: إنما كان خرزاً في عنقها. وقال سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت: واللات والعزى لانفقنها في عداوة محمد، ويكون ذلك عذاباً في جيدها يوم القيامة. وقيل: إنّ ذلك إشارة إلى الخذلان يعني أنها مربوطة عن الإيمان لما سبق لها من الشقاء كالمربوط في جيده بحبل من مسد والمسد الفتل، يقال: مسد حبله يمسده مسداً، أي: أجاد فتله والجمع أمساد. وروي أنها لما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر، وفي يدها فهر من حجارة تريد أن ترميه به فلما وقفت عليه أخذ الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، والله إني لشاعرة:
* ... مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما ترى ما رأتك قال صلى الله عليه وسلم «ما رأتني لقد أخذ الله تعالى بصرها» عني وكانت قريش إنما تسمي محمداً صلى الله عليه وسلم مذمما ثم يسبونه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «ألاتعجبوا لما صرف الله تعالى عني من أذى قريش يهجون مذمماً وأنا محمداً» . انظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا الأذى ويحلم عليهم فينبغي لغيره أن يكون له به أسوة قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب: 21)
تنبيه: احتج أهل السنة على تكليف ما لا يطاق بأنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان بتصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه أنه لا يؤمن من أهل النار، فإنه قد صار مكلفاً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وذلك مذكور في أصول الفقه. وقد تضمنت هذه الآيات الأخبار عن الغيب بثلاثة أوجه:
أحدها: الإخبار عنه بالتباب والخسران وقد كان ذلك.
ثانيها: الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده وقد كان ذلك.
ثالثها: الإخبار عنه بأنه من أهل النار وقد كان ذلك، لأنه مات على الكفر هو وامرأته ففي ذلك معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وامرأته خنقها الله تعالى بحبلها كما مرّ، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال فمات، وأقام ثلاثة أيام لا يدفن حتى أنتن ثم إنّ ولده غسله بالماء قذفاً من بعيد مخافة عدوى العدسة وكانت قريش تتقيها كما تتقي الطاعون، ثم احتملوه إلى أعلى مكة وأسندوه إلى جدار ثم رضموا عليه الحجارة. وقيل: إنّ الله تعالى يدخل امرأته جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الحطب، ولا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من أصل شجرة الزقوم، أو من الضريع وفي جيدها حبل من مسد من سلاسل النار، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه.
وقول(4/608)
البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة» . حديث موضوع.
سورة الإخلاص مكية
في قول ابن مسعود والحسن وعطاء وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك والسدّي، وهي أربع آيات وخمس عشرة كلمة وسبعة وأربعون حرفاً.
{بسم الله} الذي له جميع الكمال ذي الجلال والجمال {الرحمن} الذي أفاض على جميع خلقه عموم الأفضال {الرحيم} الذي خص أهل وداده من نور الإنعام بالإتمام والأكمال.
واختلف في سبب نزول سورة {قل هو الله أحد} فروى أبو العالية عن أبيّ بن كعب: أنّ المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنسب لنا ربك فنزلت. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال عامر: إلى من تدعنا يا محمد؟ فقال: إلى الله تعالى، قال: صفه لنا، أمن ذهب هو أم من فضة أم من حديد أم من خشب فنزلت، واهلك الله تعالى أربد بالصاعقة وعامر من الطفيل بالطاعون. وقال الضحاك وقتادة ومقاتل: جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فإنّ الله تعالى أنزل صفته في التوراة فأخبرنا من أي: شيء هو، وهل يأكل ويشرب، ومن ورث ومن يرثه فنزلت. { {
تنبيه: هو ضمير الشأن وهو مبتدأ وخبره الله، وأحد بدل أو خبر ثان يدل على مجامع صفات الجلال كما دل الله تعالى على جميع صفات الكمال؛ إذ الواحد الحقيقي ما يكون منزه الذات عن التركيب والتعدّد وما يستلزم أحدهما كالجسيمة والتحيز والمشاركة في الحقيقة، وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامّة المقضية للألوهية. فائدة: جاء في الواحد عن العرب لغات كثيرة، يقال: واحد وأحد ووحد ووحيد ووحاد وأحاد وموحد وأوحد، وهذا كله راجع إلى معنى الواحد، وإن كان في ذلك معان لطيفة ولم يجيء في صفات الله تعالى إلا الواحد والأحد.
وقوله تعالى: {الله} ، أي: الذي ثبتت إلهيته وأحديته لا غيره مبتدأ خبره {الصمد} وأخلى هذه الجملة عن العاطف لأنها كالنتيجة للأولى، أو الدليل عليها. والصمد: السيد المصمود إليه في الحوائج، والمعنى: هو الله الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السموات والأرض وخالقكم، وهو واحد متوحد بالإلوهية ولا يشارك فيها وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق لا يستغنون عنه، وهو الغني عنهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الصمد هو الذي لا جوف له، وقال الشعبي: هو الذي لا يأكل ولا يشرب، وقال الربيع: هو الذي لا تعتريه الآفات، وقال مقاتل بن حبان: هو الذي لاعيب فيه، وقال قتادة: هو الباقي بعد فناء خلقه، وقال سعيد بن جبير: هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله، وقال السدّي: هو المقصود إليه في الرغائب المستغاث به عند المصائب. تقول العرب: صمدت فلاناً أصمده صمداً بسكون الميم إذا قصدته.
وعن أبيّ بن كعب: هو الذي {لم يلد} لأنّ من يلد سيموت، ومن يرث يورث عنه ففسر الصمد بما بعده. وينبغي أن تجعل هذه(4/609)
التفاسير كلها تفسيراً واحداً فإنه متصف بجميعها فكونه لم يلد لأنه لم يجانس ولم يفتقر إلى من يعينه، أو يخلف عنه لامتناع الحاجة والفناء عليه لدوامه في أبديته، والاقتصار على الماضي لوروده ردّا على من قال الملائكة بنات الله، أو العزيز أو المسيح أو غيره.
ولما بين أنه لا فصل له ظهر أنه لا جنس له فدل عليه بقوله تعالى:
{ولم يولد} لأنه لو تولد عنه غيره تولد هو عن غيره كما هو المعهود والمعقول، فهو قديم لا أوّل له، بل هو الأوّل الذي لم يسبقه عدم لأنّ الولادة تتكوّن ولا تتشخص إلا بواسطة المادّة وعلاقتها وكل ما كان مادّياً أو كان له علاقة بالمادة كان متولداً عن غيره، والله سبحانه وتعالى منزه عن جميع ذلك.
{ولم يكن} ، أي: لم يتحقق ولم يوجد بوجه من الوجوه ولا بتقدير من التقادير {له} ، أي: خاصة {كفواً} ، أي: مثلاً ومساوياً {أحد} على الإطلاق، أي: لا يساويه في قوّة الوجود لأنه لو ساواه في ذلك لكانت مساواته باعتبار الجنس والفصل، فيكون وجوده متولداً عن الازدواج الحاصل من الجنس الذي يكون كالأمّ، والفصل الذي يكون كالأب، وقد ثبت أنه لا يصح بوجه من الوجوه أن يكون في شيء من الولادة، لأنّ وجوب وجوده لذاته فانتفى أن يساويه شيء. وكان الأصل أن يؤخر الظرف؛ لأنه صلة لكن لما كان المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى قدّم تقديماً للأهمّ، ويجوز أن يكون حالاً من الممتكن في كفؤاً، أو خبراً، أو يكون كفؤاً حالاً من أحد وعطف هاتين الجملتين على الجملة التي قبلهما، لأنّ الثلاث شرح الصمدية النافية لأقسام الأمثال فهي كالجملة الواحدة.
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إياي يقول: لن يعيدني كما بدأني، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفؤاً أحد» . وقرأ حمزة بسكون الفاء والباقون بضمها، وقرأ حفص كفواً بالواو وقفاً ووصلاً، وإذا وقف حمزة وقف بالواو.
وروي في فضائل هذه السورة أحاديث كثيرة منها ما روى البخاري عن أبي سعيد الخدري «أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ {قل هو الله أحد} يردّدها فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقللها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» .
فإن قيل: لم كانت تعدل ثلث القرآن؟
أجيب: بأن القرآن أنزل أثلاثاً ثلث أحكام، وثلث وعد ووعيد، وثلث أسماء وصفات فجمعت هذه السورة أحد الأثلاث، وهو الأسماء والصفات. وقيل: إنها تعدل القرآن كله مع قصر متنها وتقارب طرفيها، وما ذاك إلا لاحتوائها على صفات الله تعالى وعدله وتوحيده، وكفى بذلك دليلاً لمن اعترف بفضلها.
ومنها ما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية فكان يقرأ في صلاتهم فيختم ب {قل هو الله أحد} فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال صلى الله عليه وسلم أخبروه أن الله تعالى يحبه» .
ومنها ما رواه الترمذي عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرأ {قل هو الله أحد} فقال صلى الله عليه وسلم وجبت قلت: ما وجبت؟ قال: الجنة» .
ومنها ما روى أنس أيضاً «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/610)
قال: من قرأ {قل هو الله أحد} خمسين مرة «غفرت ذنوبه» . ومنها ما روى سعيد بن المسيب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ {قل هو الله أحد} عشر مرّات بنى الله له قصراً في الجنة، ومن قرأها عشرين مرّة بنى الله له قصرين في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرّة بنى الله له ثلاث قصور في الجنة، فقال عمر: إذن تكثر قصورنا فقال صلى الله عليه وسلم أوسع من ذلك» .
ومنها ما رواه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه «أنه صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ {قل هو الله أحد} بعد صلاة الصبح اثنتى عشرة مرّة فكأنما قرأ القرآن أربع مرّات، وكان أفضل أهل الأرض يومئذ إذا اتقى» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ {قل هو الله أحد} «في مرضه الذي يموت فيه لم يفتن في قبره، وأمن من ضغطة القبر، وحملته الملائكة بأكفها حتى تجيزه من الصراط إلى الجنة» . وقد أفردت أحاديثها بالتأليف وفي هذا القدر كفاية لأولي الألباب.
ولها أسماء كثيرة، وزيادة الأسماء تدل على شرف المسمى. أحدها: أنها سورة التفريد، ثانيها: سورة التجريد، ثالثها: سورة التوحيد، رابعها: سورة الإخلاص، خامسها: سورة النجاة، سادسها: سورة الولاية، سابعها: سورة النسبة، لقولهم: أنسب لنا ربك، ثامنها: سورة المعرفة، تاسعها: سورة الجمال، عاشرها: سورة المقشقشة، حادي عشرها: سورة المعوذة، ثاني عشرها: سورة الصمد، ثالث عشرها: سورة الأساس، قال: أسست السموات السبع والأرضين السبع على {قل هو الله أحد} ، رابع عشرها: المانعة لأنها تمنع فتنة القبر ونفحات النار، خامس عشرها: سورة المحتضر لأنّ الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت، سادس عشرها: المنفرة لأن الشياطين تنفر عند قراءتها، سابع عشرها: سورة البراءة لأنها براءة من الشرك، ثامن عشرها: المذكرة لأنها تذكر العبد خالص التوحيد، تاسع عشرها: سورة النور لأنها تنوّر القلب المكمل للعشرين سورة الإنسان قال صلى الله عليه وسلم «إذا قال العبد: الله، قال الله: دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي» . فنسأل الله تعالى أن يجيرنا من عذابه، ويدخلنا الجنة نحن وجميع الأحباب بغير حساب؛ لأنه كريم حليم وهاب.
وما رواه البيضاوي من أنها تعدل ثلث القرآن فرواه البخاري، ومن أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرؤها الخ فرواه الترمذي والنسائي وغيرهما.
سورة الفلق مكية
في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، ومدنية في قول ابن عباس وقتادة، وهي خمس آيات وثلاث وعشرون كلمة وأربعة وسبعون حرفاً.
{بسم الله} الذي له جميع الحول {الرحمن} الذي استجمع كمال الطول {الرحيم} الذي أتم على أهل ودّه جميع النول. "
واختلف في سبب نزول سورة {قل أعوذ برب الفلق} فقال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم: كان غلام من اليهود يخدم النبيّ صلى الله عليه وسلم فدنت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم وعدّة أسنان من مشطه وأعطاها اليهود، فسحروه فيها، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود فنزلت هذه و {قل أعوذ برب الناس} فيه.(4/611)
وعن عائشة رضي الله عنها «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم طب، أي: سحر حتى كأنه يخيل إليه أنه صنع شيئاً وما صنعه، وأنه دعى ربه ثم قال: أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، فقالت عائشة رضي الله عنها: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال الآخر: مطبوب، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فيماذا، قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في ذروان، وذروان بئر بني زريق، قالت عائشة رضي الله عنها: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى عائشة فقال: والله لكأنّ ماءها نقاعة الحناء ولكأنّ نخلها رؤوس الشياطين، قالت: فقلت: يا رسول الله هل أخرجته؟ قال: أما أنا فقد شفاني الله وكرهت أن أثير على الناس منه شراً» .
وعن زيد بن أرقم قال: «سحر النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى ذلك أياماً فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن رجلاً من اليهود سحرك وعقد لك عقداً في بئر كذا وكذا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فاستخرجها فجاء بها، فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال، قال: فما ذكر ذلك اليهودي ولا أرى وجهه قط» . وروي «أنه كان تحت صخرة في البئر، فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة فإذا فيها مشاطة من رأسه صلى الله عليه وسلم وأسنان مشطه» .
وعن مقاتل والكلبي: كان ذلك في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة، وقيل: كانت مغروزة بالإبرة فأنزل الله هاتين السورتين، وهما إحدى عشر آية سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات كلما قرأ آية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها فقام صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال. وروي: أنه لبث فيه ستة أشهر اشتدّ عليه بثلاث ليال فنزلت المعوّذتان، وروي: أنه كان يخيل له أنه يطأ زوجاته، وليس بواطىء قال سفيان: وهذا أشدّ ما يكون من السحر.
وعن أبي سعيد الخدري: «أنّ جبريل عليه السلام أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، اشتكيت، قال: نعم، قال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، ومن شرّ كل نفس أو عين حاسد، والله يشفيك بسم الله أرقيك» .
فإن قيل: المستعاذ منه هل هو بقضاء الله وقدره، أو لا فإن كان بقضاء الله وقدره فكيف أمر بالاستعاذة مع أن ما قدر لا بدّ واقع؟ وإن لم يكن بقضاء الله وقدره فذلك قدح في القدرة؟ أجيب: بأنّ كل ما وقع في الوجود فهو بقضاء الله وقدره، والاستشفاء بالتعوّذ والرقي من قضاء الله يدل على صحة ذلك ما روى الترمذي عن أبي خزامة عن أبيه قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقي بها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها هل يردّ من قضاء الله شيئاً؟ قال: هو من قدر الله» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن عمر: نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، ومعنى أعوذ: أستجير وأعتصم وأحترز، والفلق: الصبح في قول الأكثرين، ومنه قوله تعالى: {فالق الإصباح} (الأنعام: 96)
لأنه ظا هر في تغير الحال، ومحاكاة يوم القيامة الذي هو أعظم فلق يشق ظلمة الفناء، والهلاك بالبعث والأحياء. وقال الملوي: الفلق بالسكون والحركة كل شيء انفلق عنه ظلمة العدم، وأوجد من الكائنات جميعاً. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سجن في جهنم. وقال الكلبي: واد في جهنم. وقال الضحاك: يعني الخلق، وقيل: المطمئن من الأرض وجمعه: فلقان مثل(4/612)
خلق وخلقان، وقيل: الفلق الجبال والصخور وتنفلق بالمياه، أي: تنشق وقيل: هو التفليق بين الجبال لأنها تنشق من خوف الله تعالى. ولفظ الرب هنا أوقع من سائر أسمائه تعالى، لأن الإعادة من المشارّ تربية.
ولما كانت الأشياء قسمين: عالم الخلق وعالم الأمر، وكان عالم الأمر خيراً كله فكان الشر منحصراً في عالم الخلق خصه بالاستعاذة فقال تعالى معمماً فيها:
{من شر ما خلق} فخص عالم الخلق بالاستعاذة منه لانحصار الشر فيه يكون اختيارياً من العاقل الداخل تحت مدلول ما وغيره من سائر الحيوانات كالكفر والظلم ونهش السباع ولدغ ذوات السموم، وتارة طبيعياً كإحراق النار، وإهلاك السموم.
وقيل: المراد به إبليس خاصة لأنه لم يخلق الله خلقاً شراً منه، ولأنّ السحر لا يتم إلا به وبأعوانه وجنوده، وقيل: من شر كل ذي شر.
وقوله تعالى: {ومن شر غاسق إذا وقب} فيه أوجه: أحدها: ما روي عن عائشة قالت: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال: يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فإنّ هذا هو الغاسق إذا وقب» أخرجه الترمذي، وقال: حديث صحيح حسن فعلى هذا المراد به القمر إذا خسف وأسود وذهب ضوءه، أو إذا دخل في المحاق وهو آخر الشهر، وفي ذلك الوقت يتم السحر المؤثر للتمريض، وهذا مناسب لسبب نزول هذه السورة.
ثانيها: ما روي عن ابن عباس: أنّ الغاسق الليل إذا وقب، أي: أقبل بظلمته من المشرق، وسمي الليل غاسقاً لأنه أبرد من النهار. والغسق: البرد، وإنما أمر بالتعوّذ من الليل لأنّ فيه الآفات ويقل: الغوث، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل، وقولهم: أعذر الليل لأنه إذا أظلم كثر فيه العدوّ، وفيه يتم السحر، وأسند الشر إليه لملابسته له من حدوثه فيه.
ثالثها: إنه الثريا إذا سقطت وغابت، ويقال: أنّ الأسقام تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها، فلهذا أمر بالتعوّذ من الثريا عند سقوطها.
رابعها: أنه الأسود من الحيات، ووقبه: ضربه ونقبه والوقب الثقب، ومنه: وقبت الثريد.
ولما كان السحر أعظم ما يكون لما فيه من تفريق المرء من زوجه وأبيه وابنه ونحو ذلك عقب ذلك بقوله تعالى:
{ومن شرّ النفاثات في العقد} ، أي: النساء، أو النفوس، أو الجماعات السواحر اللواتي تعقد عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين عليها، والنفث: النفخ مع ريق. وقال أبو عبيدة: النفاثات من بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبيّ صلى الله عليه وسلم فإن قيل: ما معنى الاستعاذة من شرّهن؟ أجيب: بثلاثة أوجه: أحدها: أنه يستعاذ من عملهنّ الذي هو صنعة السحر، ومن إثمهنّ في ذلك. ثانيها: أن يستعاذ من فتنتهنّ الناس بسحرهنّ وما يخدعنهم به من باطلهنّ. ثالثها: أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهنّ. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بهنّ النساء الكيادات من قوله تعالى:
{إنّ كيدكنّ عظيم} (يوسف: 28)
تشبيهاً لكيدهنّ بالسحر والنفث في العقد، أو اللاتي يفتنّ الرجال بتعرضهنّ لهم وعرضهنّ محاسنهنّ كأنهنّ يسحرنهم بذلك.
تنبيه: اختلف في النفث في الرقي، فجوّزه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ويدل عليه حديث عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذتين» . وروى محمد بن حاطب: «أنّ يده احترقت فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام زعم أنه لم يحفظه» . وروى «أنّ قوماً لدغ رجل منهم فأتوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه(4/613)
وسلم فقالوا: هل فيكم من راق؟ قالوا: لا حتى تجعلوا لنا شيئاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فجعل رجل منهم يقرأ فاتحة الكتاب ويرقي ويتفل حتى برئ، فأخذوه، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: وما يدريك أنها رقية خذوا واضربوا لي معكم بسهم» . وأنكر جماعة النفث والتفل في الرقي، وأجازوا النفخ بلا ريق. وقال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد. وقيل: إنّ النفث في العقد إنما يكون مذموماً إذا كان سحراً مضراً بالأرواح والأبدان، وإذا كان النفث لإصلاح الأرواح والأبدان فلا يضر، وليس بمذموم ولا مكروه بل هو مندوب إليه.
ولما كان أعظم حامل على السحر وغيره من أذى الناس الحسد، وهو تمني زوال نعمة المحسود للحاسد، أو غيره قال تعالى:
{ومن شرّ حاسد} ، أي: ثابت الاتصاف بالحسد معروف فيه، وأعظم الحساد الشيطان الذي ليس له دأب إلا السعي في إزالة نعم العبادات عن الإنسان بالغفلات، ثم قيد ذلك بقوله تعالى: {إذا حسد} ، أي: إذا ظهر حسده وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود، لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمر فلا ضرر يعود منه على من حسده، بل هو الضار لنفسه لاغتمامه بسرور غيره.
وعن عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالماً أشبه بالمظلوم من حاسد، وفي إشعار الآية إدعاء بما يحسد عليه من نعم الدارين لأنّ خير الناس من عاش محسوداً ومات محسوداً. فإن قيل: لم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه؟ أجيب: بأنّ النفاثات عرفت لأنه كل نفاثة شريرة، ونكر غاسق لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض وكذلك كل حاسد لا يضر.
وربّ حسد محمود وهو الحسد في الخيرات، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «لا حسد إلا في اثنتين» الحديث. وقال أبو تمام: وما حاسد في المكرمات بحاسد. وقال آخر: إن العلا حسن في مثلها الحسد.
فائدة: قال بعض الحكماء: الحاسد بارز ربه من خمسة أوجه: أولها: أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. ثانيها: أنه ساخط لقسمة ربه كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة. ثالثها: إنه ضاد فعل الله تعالى إن فضل ببره من شاء، وهو يبخل بفضل الله تعالى. رابعها: أنه خذل أولياء الله تعالى، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم. خامسها: أنه أعان عدوّ الله إبليس، والحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة، ولا ينال في الدنيا إلا جزعاً وغماً، ولا ينال في الآخرة إلا حزناً واحتراقاً، ولا ينال من الله تعالى إلا بعداً ومقتاً.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم آكل الحرام، ومكثر الغيبة، ومن كان في قلبه غلّ أو حسد للمسلمين» . وقيل: المراد بالحاسد في الآية اليهود، فإنهم كانوا يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم فإن قيل: قوله تعالى: {من شر ما خلق} تعميم في كل ما يستعاذ منه فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد؟ أجيب: بأنه قد خص شر هؤلاء من كل شر لخفاء أمرهم، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم، كأنما يغتال به، وقالوا: شر العداة المداجي الذي يكيدك من حيث لا تشعر وأخرج الإمام أحمد عن الزبير بن العوّام أنه صلى الله عليه وسلم قال: «دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، ألا والبغضاء هي الحالقة» . فنسأل الله تعالى أن يحفظنا ومحبينا منه إنه كريم جواد.
وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لقد أنزلت عليّ سورتان ما أنزل مثلهما» . وروى ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «وإنك إن تقرأ سورتين(4/614)
لا أحب ولا أرضى عند الله منهما يعني المعوّذتين» . وعن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوّذون؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم قال: {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ بربّ الناس} . وما رواه الزمخشري ولم يقله البيضاوي هنا لكن قال في آخر السورة الآتية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ المعوّذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى» حديث موضوع.
سورة الناس مكية
وهي ست آيات وعشرون كلمة وتسعة وتسعون حرفاً
{بسم الله} المحيط بكل ما بطن كإحاطته بكل ظاهر {الرحمن} الذي عمت نعمته كل باد وحاضر {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بإتمام النعمة في جميع أمورهم الأوّل منها والأثناء والآخر.
ولما أمر الله تعالى نبيه بالاستعاذة مما تقدّم أمره أن يستعيذ من شر الوسواس بقوله تعالى:
{قل} ، أي: يا أشرف المرسلين {أعوذ} ، أي: اعتصم والتجئ {برب} ، أي: مالك وخالق {الناس} وخصهم بالذكر وإن كان رب جميع المحدثات لأمرين: أحدهما: أنّ الناس يعظمون فأعلم بذكرهم أنه رب لهم وإن عظموا. الثاني: أنه أمر بالاستعاذة من شرهم فاعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم. قال الملوي: والرب من له ملك الرق، وجلب الخيرات من السماء والأرض وإنقاذها، ودفع الشرور ورفعها، والنقل من النقص إلى الكمال، والتدبير العام العائد بالحفظ والتتميم على المربوب. { {
وقوله تعالى: {ملك الناس} إشارة إلى أنّ له كمال التصرف ونفوذ القدرة، وتمام السلطان فإليه الفزع، وهو المستغاث والملجأ والمنجا والمعاد. وقوله تعالى: {إله الناس} إشارة إلى أنه تعالى كما انفرد بربوبيتهم وملكهم لم يشركه في ذلك أحد فكذلك هو وحده إلههم لا يشركه في ألوهيته أحد، وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى، فإنّ الرب هو القادر الخالق إلى غير ذلك مما يتوقف الإصلاح والرحمة والقدرة الذي هو بمعنى الربوبية عليه من أوصاف الجمال. والملك هو الآمر والناهي المعز المذل إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى العظمة والجلال، وأمّا الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال، ونعوت الجلال فيدخل فيه جميع الأسماء الحسنى، ولتضمنها لجميع معاني الأسماء الحسنى كان المستعيذ جديراً بأن يعاذ، وقد يوقع ترتيبها على الوجه الأكمل الدال على الواحدانية لأنّ من رأى ما عليه من النعم الظاهرة والباطنة علم أنّ له مربياً، فإذا درج في العروج في درج معارفه سبحانه علم أنه غني عن الكل والكل إليه محتاج، وعن أمره تعالى تجري أمورهم فيعلم أنه ملكهم، ثم يعلم بانفراده بتدبيرهم بعد إبداعهم أنه المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها.
فائدة: قد أجمع جميع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف من مالك، بخلاف الفاتحة كما مضى لأنّ المالك إذا أضيف إلى اليوم أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض، وأنه لا أمر لأحد معه، ولا مشاركة في شيء من ذلك، وهو معنى الملك بالضم. وأمّا إضافة المالك إلى الناس فإنها لا تستلزم أن يكون ملكهم، فلو قرئ به هنا لنقص الملك بالضم، وأطبقوا في آل(4/615)
عمران على إثبات الألف في المضاف وحذفها من المضاف إليه، لأنّ المقصود من السياق أنه سبحانه يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء. والملك بكسر الميم أليق بهذا المعنى، وأسرار كلام الله تعالى أعظم من أن تحيط بها العقول، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها.
تنبيه: يجوز في ملك الناس وإله الناس أن يكونا وصفين لرب الناس، وأن يكونا بدلين، وأن يكونا عطف بيان، واقتصر عليه الزمخشري قال: كقولك: سيرة أبي حفص عمر الفاروق بين بملك الناس، ثم زيد بياناً بإله الناس، لأنه قد يقال لغيره: رب الناس كقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} (التوبة: 31)
وقد يقال: ملك الناس. وأمّا إله الناس فخاص لا شركة فيه فجعل غاية للبيان. فإن قيل: هلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرّة واحدة؟ أجيب: بأنّ عطف البيان للبيان فكان مظنة للإظهار دون الإضمار.
{من شر الوسواس} وهو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأمّا المصدر فوسواس بالكسر كزلزال، والمراد به شيطان سمي بالمصدر كأنه وسوس في نفسه، لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه أو أريد ذو الوسواس والوسوسة الصوت الخفي، ويقال لحس الصائد، والكلاب، وأصوات الحلي: وسواس. «والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» . كما في الصحيح فهو الذي يوسوس بالذنب سراً ليكون أحلى، ولا يزال يزينه ويثير الشهوة الداعية إليه حتى يوقع الإنسان، فإذا أوقعه وسوس لغيره إن فلاناً فعل كذا حتى يفضحه بذلك، فإذا افتضح ازداد جراءة على أمثال ذلك كأنه يقول: قد وقع ما كنت أحذر من إيقاعه فلا يكون شيء غير الذي كان فيجترئ على الذنب.
ولما كان الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل دواء غير السأم وهو الموت، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره تعالى فإنه يطرد الشيطان وينير القلب ويصفيه، وصف سبحانه الموسوس عند استعماله الدواء بقوله تعالى: {الخناس} ، أي: الذي عادته أن يخنس، أي: يتوارى ويتأخر ويختفي بعد ظهوره مرّة بعد مرّة كلما كان الذكر خنس وكلما بطل عاد إلى وسواسه، فالذكر له كالمقامع التي تقمع المفسد فهو شديد النفور منه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلاً كما حكي عن بعض السلف أنّ المؤمن يضني شيطانه كما يضني الرجل بعيره في السفر.
قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب، وقيل: كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس، ويقال: رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه، فإذا ذكر الله تعالى خنس ورجع ووضع رأسه فذلك قوله تعالى:
{الذي يوسوس} ، أي: يلقي المعاني الضارة على وجه الخفاء والتكرير {في صدور الناس} ، أي: المضطربين إذا أغفلوا عن ذكر ربهم من غير سماع. وقال مقاتل: إنّ الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلطه الله تعالى على ذلك. وقال القرطبي: وسوسته هي الدعاء إلى إطاعته بكلام خفيّ يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع صوت.
تنبيه: يجوز في محل {الذي يوسوس} الحركات الثلاث، فالجرّ على الصفة والرفع والنصب على الشم، ويحسن أن يقف القارئ على الخناس ويبتدئ الذي يوسوس على أحد هذين الوجهين.
وقوله تعالى: {من الجنة} ، أي: الجنّ الذين هم في غاية الشر والتمرد، والخناس {والناس} ، أي: أهل الاضطراب والذبذبة بيان(4/616)
للذي يوسوس على أن الشيطان ضربان: جني وأنسي كما قال تعالى: {شياطين الإنس والجنّ} (الأنعام: 112)
ويجوز أن يكون بدلاً من الذي يوسوس، أي: الموسوس من الجن والإنس، وأن يكون حالاً من الضمير في يوسوس، أي: حال كونه من هذين الجنسين. وقيل: غير ذلك. قال الحسن: هما شيطانان لنا أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإنّ من الإنس شياطين. فنعوذ بالله من شياطين الجنّ والإنس. وعن أبي ذر قال لرجل هل تعوّذت بالله من شيطان الإنس، فقال: أومن الإنس شياطين؟ قال: نعم لقوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا شياطين الإنس والجنّ} الآية.
وذهب قوم إلى أنّ المراد بالناس هنا الجن سموا ناساً كما سموا رجالاً في قوله تعالى: {وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ} (الجن: 6)
وكما سموا نفراً في قوله تعالى: {قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن} (الجن: 1)
وكما سموا قوماً نقل الفراء عن بعض العرب أنه قال: وهو يحدّث جاء قوم من الجنّ فوقفوا، فقيل: من أنتم؟ فقالوا: ناس من الجنّ، فعلى هذا يكون والناس عطفاً على الجنة ويكون التكرير لاختلاف اللفظين. والجنة جمع جني كما يقال: أنس وأنسي والهاء لتأنيث الجماعة. وقيل: إنّ إبليس يوسوس في صدور الجنّ كما يوسوس في صدور الناس فعلى هذا يكون في صدور الناس عاماً في الجميع.
و {من الجنة والناس} بياناً لما يوسوس في صدروهم. وقيل: معنى {من شر الوسواس} الوسوسة التي تكون {من الجنة والناس} وهو حديث النفس.
قال صلى الله عليه وسلم «إنّ الله تعالى تجاوز لأمّتي عما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به» . وعن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تر آيات نزلت الليلة لم ير مثلهنّ قط {أعوذ برب الفلق} و {أعوذ برب الناس} a. وعنه أيضاً أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المتعوذ؟ قلت: بلى، قال: {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فنفث فيهم وقرأ {قل هو الله أحد} و {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما رأسه ووجه وما أقبل من جسده يصنع ذلك ثلاث مرات» . وعنها أيضاً «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذتين وينفث، فلما اشتدّ وجعه كنت أقرأهما عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها» . وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به أناء الليل وأطراف النهار» . وعن ابن عباس قال: «قال رجل: يا رسول الله، أي: الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال: الحال المرتحل، قال: وما الحال المرتحل؟ قال: الذي يضرب من أوّل القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل» .
وعن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أذن الله لأحد ما أذن لنبيّ حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به» .
لطيفة: نختم بها كما ختم بها الفخر الرازي رحمه الله تعالى تفسيره، وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة، وهي أنه رب الفلق والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات: وهي الغاسق والنفاثات والحاسد. وأمّا في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث: وهي الرب والملك والإله،(4/617)
والمستعاذ منه آفة واحدة وهي الوسوسة.
والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يقدر بقدر المطلوب، فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن، والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين، وهذا تنبيه على أنّ مضرة الدين وإن قلت أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت.
وهذا آخر ما يسره الله تعالى من السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير فدونك تفسيراً كأنه سبيكة عسجد، أو در منضد جمع من التفاسير معظمها ومن القراءات متواترها، ومن الأقاويل أظهرها، ومن الأحاديث صحيحها وحسنها محرّر الدلائل في هذا الفنّ مظهراً لدقائق استعملنا الفكر فيها إذا الليل جنّ، فإذا ظفرت بفائدة شاردة فادع لي بالتجاوز والمغفرة، أو بزلة قلم أو لسان فافتح لها باب التجاوز والمعذرة:
*فلا بدّ من عيب فإن تجدنه ... فسامح وكن بالستر أعظم مفضل*
*فمن ذا الذي ما ساء قط ومن له ال ... محاسن قد تمت سوى خير مرسل*
وأنا أعوذ بجميع كلمات الله الكاملة التامّة، وألوذ بكنف رحمته الشاملة العامّة من كل ما يكلم الدين ويثلم اليقين، أو يعود في العاقبة بالندم، أو يقدح في الإيمان المسوط باللحم والدم، وأسأله بخضوع العنق وخشوع البصر، ووضع الخد لجلاله الأعظم الأكبر مستشفعاً إليه بنوره الذي هو الشيبة في الإسلام، متوسلاً إليه بسيد الأنام عليه الصلاة والسلام، وبالتوبة الممحصة للآثام وبما عنيت به من مصابرتي على تواكل من القوي، وتخاذل من الخطأ، ثم أسأله بحق صراطه المستقيم، وقرآنه المجيد الكريم، وبما لقيت من كدح اليمين، وعرق الجبين في عمل هذا التفسير المبين عن حقائقه المخلص عن مضايقه، المطلع على غوامضه، المثبت في مداحضه، المكتنز بالفوائد التي لا توجد إلا فيه المحيط بما لا يكتنه من بديع ألفاظه، ومعانيه مع الإيجاز الحاذف للفضول، وتجنب المستكره المملول متوسط الحجم، وخير الأمور أوساطها لا تفريطها ولا إفراطها. هذا ولسان التقصير في طول مدحه قصير:
أعيذه بالمصطفى ... من حاسد قد هما
بذمّه وقد غدا ... من أجله مهتما
فليس يبغي ذمّه ... إلا بغيض أعمى
كفاه ربي شرهم ... وزان منه الرسما
وزاد في تدبيرهم ... تدميرهم والغما
وردّهم بغيظهم ... فلم ينالوا غنما
وزاده سعادة ... ولازمته النعمى
فنسأل الله الكريم الذي به الضر والنفع، والإعطاء والمنع أن يجعله لوجهه خالصاً، وإن يداركني بألطافه إذ الظل أضحى في القيامة قالصاً، وأن يتجاوز عني إنه السميع العليم، وأن يرفع به درجتي في جنات النعيم، وأن يجعله ذخيرة لي عنده إنه ذو الفضل العظيم، وأن ينفع به من تلقاه بالقبول إنه جواد كريم، وأن يخفف عني كل تعب ومؤنة، وأن يمدّني بحسن المعونة، وأن يهب(4/618)
لي خاتمة الخير، ويقيني مصارع السوء، وأن يتجاوز عن فرطاتي يوم التناد، ولا يفضحني بها على رؤوس الأشهاد أنا ووالدي وأولادي، وأقاربي وأحبابي، ويحلنا دار المقام من فضله بواسع طوله وسابغ نوله إنه هو الجواد الكريم، الرؤوف الرحيم، وهذا شيء ما كان في قدرتي فإني والله معترف بقصر الباع، وكثرة الزلل، ولكن فضل الله وكرمه لا يعلل بشيء من العلل. فلهذا رجوت أن أكون متصفاً بإحدى الخصال الثلاث التي إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا منها، بل أرجو من الله الكريم، اجتماعها إنه جواد كريم حليم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: وكان الفراغ من تأليفه يوم الاثنين المبارك، ثالث عشر صفر الخير، من شهور سنة ثمان وستين وتسعمائة من الهجرة النبوّية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، على يد مؤلفه فقير رحمة ربه القريب محمد بن أحمد الشربيني الخطيب غفر الله تعالى له ذنوبه، وستر في الدارين عيوبه والمسلمين، والحمد لله ربّ العالمين، وصلاة الله وسلامه على سيدنا محمد خاتم النبيين، والمرسلين والصحابة أجمعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
* * *
يقول المتوسل إلى الله بالجاه الصديقي إبراهيم عبد الغفار الدسوقي، مصحح دار الطباعة جمل الله طباعه قد تم طبع السراج المنير بعون الله الملك القدير، وهذا الكتاب العجيب المنسوب للإمام الخطيب قد اعتنت بتحريره دار الطباعة، وبذلت في تنقيره غاية الاستطاعة، فأزالت عنه ربقة التحريف، وأطلقته من أسر التصحيف بمراجعة أصول أساليبه، والبحث عن صواب تراكيبه، فحصلت بركاته وعمت نفحاته، وأنار الآفاق بدر وجوده، وروى الظماء قاموس فضله وجوده، وتحلت بصحاح جواهر معانيه أجياد مباشريه ومبتاعيه، ثم إنّ تمام بيعه في اثنا طبعه أوّل دليل على عموم نفعه، وهذا كما يقع في خلدي ويقيني من كرامات مؤلفه محمد بن أحمد الشربيني وكان تمام طبعه بدار الطباعة العامرة الكائنة ببولاق مصر القاهرة على ذمّة هذه المصلحة الميمونة التي هي بطالع السعد مقرونة في سنة خمس وثمانين ومائتين وألف من هجرة من خلقه الله على أكمل وصف، مشمولاً بنظر المجدّ في نفع أوطانه، الباذل مروءته في قضاء حاج إخوانه من عليه أحاسن أخلاقه تثنى حضرة حسين بك حسني، فإنه لا يزال باحثاً عن عموم المنافع عند وجود المقتضيات، وزوال الموانع في ظل من تعطرت الأفواه بطيب ثنائه، وبلغ من كل وصف جميل حدّ انتهائه، ومحا ظلم الظلم بسنا صورته، وأثبت مراسم العدل بحسن سيرته، وأفاض على أهل مملكته غيوث إنعامه وإحسانه، وشملهم بعظيم رأفته ومزيد امتنانه، وبسط لهم بساط عدله، وحلاهم بحلي جوده وفضله. عزيز الديار المصرية، وحامي حمى حوزتها النيليه بشدّة بأسه وعزمه الجلي، سعادة أفندينا إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي لا زال ملحوظاً بعين العناية الإلهية، موفقاً لسائر الآراء الخيرية محفوظ الجناب، مقصود الأعتاب، مسروراً بسائر الأنجال بجاه خاتم رسل ذي الجلال. ولما تهيأ للتمام والكمال،(4/619)
ولبس من حسن الطبع حلة الجمال انطلق لسان اليراع يقرظه، وبعين الإطراء يلحظه فقال:
*كلام الله أفضل ما رواه ... رسول الله عن جبريل قطعا*
*عجائبه يحار اللب فيها ... وليست تنقضي بدعاً وصنعا*
*وخادمه بتفسير المعاني ... أجل الناس منقبة ووضعا*
*ولا سيما الخطيب أبو المعالي ... مبين الآي أفذاذاً وشفعا*
*هو التفسير إيضاحاً وبسطاً ... ومتبعوه أرقى الناس طبعا*
*ولما تم حسناً قلت أرخ ... وفي أوب الخطيب وتم طبعاً*
فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المؤيد بباهر المعجزات، وعلى أصحابه الكرام البررة، وآل بيته المنتخبين الخيرة ما توالى الجديدان وتعاقب النيران.(4/620)