وقولهم: {أأعجمي} أي: أقرآن أعجمي {و} نبي {عربي} استفهام إنكار منهم، وقال مقاتل: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على يسار غلام عامر بن الحضرمي وكان يهودياً أعجمياً يكنى أبا فكيهة فقال المشركون: إنما يعلمه يسار غلام عامر فضربه سيده وقال: إنك تعلم محمداً فقال: هو يعلمني فأنزل الله تعالى هذه الآية» .
وقرأ قالون وأبو عمرو بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما، وورش وابن كثير وابن ذكوان وحفص بتسهيل الثانية ولا إدخال، وأسقط هشام الأولى والباقون بتحقيقهما وقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{قل هو} أي: هذا القرآن {للذين آمنوا} أي: أردنا وقوع الإيمان منهم {هدى} أي: بيان لكل مطلوب {وشفاء} أي: لما في صدورهم من داء الكفر والهوى وقيل: من الأوجاع والأسقام متعلق كما قال الرازي بقولهم: {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه} (فصلت: 5)
الآية كأنه تعالى يقول هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكم لا بلغة أجنبية عنكم، فلا يمكنكم أن تقولوا قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا هذه اللغة فكل من أعطاه الله تعالى طبعاً مائلاً إلى الحق وقلباً داعياً إلى الصدق فإن هذا القرآن يكون في حقه هدى وشفاء، وأما من غرق في بحر الخذلان وشغف بمتابعة الشيطان فهو في ظلمة وعمى كما قال تعالى: {والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر} أي: ثقل فلا يسمعون سماعاً ينفعهم {وهو عليهم عمى} فلا يبصرون الداعي حق الإبصار، ثم قال الرازي: وكل من أنصف علم أن التفسير على هذا الوجه الذي ذكرناه أولى مما ذكروه، أي: أنه متعلق بما قبله لأن السورة تصير بذلك من أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً مسوقاً لغرض واحد انتهى.
ولما بين بهذا بعدهم عن عليائه وطردهم عن فنائه قال تعالى:
{أولئك} أي: البعداء البغضاء مثالهم مثال من {ينادون} أي: يناديهم من يريد نداءهم غير الله تعالى {من مكان بعيد} أي: هم كالمنادي من مكان بعيد لا يسمع ولا يفهم ما ينادى به.
{ولقد آتينا} أي: على ما لنا من العظمة {موسى الكتاب} أي: التوراة {فاختلف} أي: وقع الاختلاف {فيه} وجه تعلقه بما قبله كأنه قيل: إنا لما آتينا موسى الكتاب فقبله بعضهم وهم أصحاب الهدى ورده بعضهم، فكذلك آتيناك الكتاب فقبله بعضهم وهم أصحابك ورده آخرون وهم الذين يقولون قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه {ولولا كلمة} أي: إرادة {سبقت} في الأزل {من ربك} أي: المحسن إليك بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة {لقضي بينهم} أي: في الدنيا فيما اختلفوا فيه من إنصاف المظلوم من ظالمه قال تعالى: {بل الساعة موعدهم} (القمر: 46)
{ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} (فاطر: 45)
{وإنهم لفي شك} أي: المكذبين محيط بهم {منه} أي: القضاء يوم الفصل {مريب} أي: موقع في الريب وهو التهمة والاضطراب بحيث لا يقدرون على التخلص من دائرته أصلاً. ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
{من عمل صالحاً} أي: كائناً من كان {فلنفسه} أي: فنفع عمله لها لا لأحد يتعداها والنفس فقيرة إلى التزكية بالأعمال الصالحة لأنها محل النقائص فلذا عبر بها {ومن أساء} في عمله {فعليها} أي: على نفسه خاصة ليس عليك منه شيء فخفف عن نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنوا(3/522)
فنفع إيمانهم يعود إليهم، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم، والله سبحانه وتعالى يوصل إلى كل أحد ما يليق به من الجزاء {وما ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك لتتميم مكارم الأخلاق {بظلام} أي: بذي ظلم {للعبيد} أي: هذا الجنس فلا يتصور أن يقع ظلم لأحد منهم أصلاً لأن له الغنى المطلق والحكمة البالغة.
{إليه} أي: المحسن إليك لا إلى غيره {يرد علم الساعة} أي: لا سبيل إلى معرفة وقت ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله، وكذا العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله، ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين:
أحدهما قوله تعالى: {وما تخرج من ثمرات} أي: في وقت من الأوقات، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بألف بعد الراء جمعاً، والباقون بغير ألف إفراداً وقوله تعالى: {من أكمامها} جمع كم وكمامة، قال البقاعي تبعاً للزمخشري: بالكسر فيهما وهو وعاء الطلع وكل ما غطى على وجه الإحاطة شيئاً من شأنه أن يخرج فهو كم، وقال الراغب: الكم ما يغطي البدن من القميص وما يغطي الثمرة وجمعه أكمام وهذا يدل على أنه مضموم الكاف أو جعله مشتركاً بين كم القميص وكم الثمرة، ولا خلاف في كم القمص أنه بالضم فيجوز أن يكون في وعاء الثمرة لغتان دون كم القميص جمعاً بين القولين.
والمثال الثاني قوله تعالى: {وما تحمل من أنثى} حملاً ناقصاً أو تاماً، وأكد النفي بإعادة النافي ليشهد كل على حياله {ولا تضع} حملاً حياً أو ميتاً {إلا} حال كونه متلبساً {بعمله} ولا علم لأحد غيره بذلك، ومن ادعى علماً به فليخبر بأن ثمرة الحديقة الفلانية والبستان الفلاني والبلد الفلاني تخرج في الوقت الفلاني أو لا تخرج العام شيئاً، والمرأة الفلانية تحمل في الوقت الفلاني وتضع في وقت كذا أو لا تحمل العام شيئاً، ومن المعلوم أنه لا يحيط بهذا علماً إلا الله تعالى.
فإن قيل: قد يقول الرجل الصالح من أصحاب الكشوف قولاً فيصيب فيه وكذلك الكهان والمنجمون؟ أجيب: بأن أصحاب الكشوف إذا قالوا قولاً فهو من إلهام الله تعالى واطلاعه إياهم عليه فكان من علمه الذي يرد إليه، وأما الكهان والمنجمون فلا يمكنهم القطع والجزم في شيء مما يقولونه البتة وإنما غايتهم ادعاء ظن ضعيف قلما يصيب، وعلم الله تعالى هو العلم اليقين المقطوع به الذي لا يشاركه فيه أحد جل ربنا وعلا {ويوم يناديهم} أي: المشركين بعد بعثهم من القبول للفصل بينهم في سائر الأمور {أين شركائي} أي: الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم ويحمونكم من العقاب واللوم {قالوا} أي: المشركون {آذناك} أي: أعلمناك {ما منا} وأكدوا النفي بإدخال الجار في المبتدأ {من شهيد} أي: يشهد أن لك شريكاً وذلك لما رأوا العذاب تبرؤوا من الأصنام وقيل: معناه ما منا أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم فلا يبصرونها في ساعة التوبيخ، وقيل: هذا كلام الأصنام كأن الله تعالى يحييها وأنها تقول ما منا من شهيد أي: أحد يشهد بصحة ما أضافوا إلينا من الشركة، وعلى هذا التقدير فمعنى ضلالتهم عنهم أنهم لا ينفعونهم فكأنهم ضلوا عنهم وهو معنى قوله تعالى:
{وضل} أي: ذهب وغاب وخفي {عنهم ما كانوا} أي: دائماً {يدعون} في كل حين على وجه العبادة {من قبل} فهم لا يرونه فضلاً عن أنهم يجدون نفعه {وظنوا} أي: في ذلك الحال {ما لهم} وأبلغ في النفي(3/523)
بإدخال الجار على المبتدأ المؤخر فقال: {من محيض} أي: مهرب وملجأ ومعدل، ولما بين تعالى من حال هؤلاء الكفار أنهم بعد أن كانوا مصرين على القول بإثبات الشركاء والأضداد لله تعالى في الدنيا تبرؤوا عن تلك الشركاء في الآخرة، بين تعالى أن الإنسان في جميع الأوقات متغير الأحوال فإن أحس بخير وقدرة تعاظم وإن أحس ببلاء ومحنة ذلّ بقوله تعالى:
{لا يسأم} أي: لا يمل ولا يعجز {الإنسان} أي: الآنس بنفسه الناظر في إعطافه الذي لم يتأهل للمعارف الإلهية والطرق الشرعية {من دعاء الخير} أي: لا يزال يسأل ربه المال والصحة وغيرهما {وإن مسه الشر} أي: من فقر وشدة وغيرهما {فيؤوس} من فضل الله تعالى {قنوط} من رحمة الله تعالى، والمعنى: أن الإنسان في حال الإقبال لا ينتهي إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها، وفي حال الإدبار والحرمان يصير آيساً قانطاً، وهذه صفة الكافر لقوله تعالى: {لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} (يوسف: 87)
تنبيه: في قوله تعالى {يؤوس قنوط} مبالغة من وجهين؛ أحدهما: من طريق فعول، والثاني: من طريق التكرار واليأس من صفة القلب، والقنوط أن تظهر آثار اليأس في الوجه والأحوال الظاهرة، ثم بين تعالى حال هذا الذي صار آيساً قانطاً بقوله تعالى:
{ولئن} اللام لام القسم {أذقناه} أي: آتينا ذلك الإنسان {رحمة} أي: غنى وصحة {منا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة {من بعد ضراء} أي: شدة وبلاء {مسته} فإنه يأتي بثلاثة أنواع من الأقاويل الفاسدة الموجبة للكفر والبعد من الله تعالى، الأول منها ما حكاه الله بقوله سبحانه: {ليقولن} بمجرد ذوق تلك الرحمة على أنها ربما كانت بلاء عظيماً لكونها استدراجاً إلى الهلاك {هذا} الأمر العظيم {لي} أي: حقي مختص بي وصل إلي لأني استوجبته بعلمي وعملي ولا يعلم المسكين أن أحداً لا يستحق على الله تعالى شيئاً لأنه إن كان عارياً من الفضائل فكلامه ظاهر الفساد، وإن كان موصوفاً بشيء من الفضائل والصفات الحميدة فهي إنما حصلت بفضل الله وإحسانه.
النوع الثاني: من كلامه الفاسد قوله: {وما أظن الساعة} أي: القيامة {قائمة} أي: ثابتاً قيامها فقطع الرجاء منها سواء عبر عن ذلك بلسان قاله أو بلسان حاله لكونه يفعل أفعال الشاك فيها، النوع الثالث: من كلامه الفاسد قوله {ولئن} اللام لام القسم {رجعت} أي: على سبيل الفرض أي: أن هذا الكافر يقول لست على يقين من البعث وإن كان الأمر على ذلك ورددت {إلى ربي} أي: الذي أحسن إلي بهذا الخير الذي أنا فيه {إن لي عنده للحسنى} أي: الحالة الحسنى من الكرامة وهي الجنة، فكما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة، ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال تعالى شأنه: {فلننبئن} أي: فلنخبرن {الذين كفروا} أي: ستروا ما دلت عليه العقول وصرائح النقول {بما عملوا} لا ندع منه كثيراً ولا قليلاً صغيراً ولا كبيراً فيرون عياناً ضد ما ظنوه من الدنيا من أن لهم الحسنى {وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلنا هباء منثوراً} (الفرقان: 23)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لنوقفهم على مساوي أعمالهم {ولنذيقهم} أي: بعد إقامة الحجة عليهم بموازين القسط الوافية كمثاقيل الذر {من عذاب غليظ} أي: شديد لا يدع جهة من أجسامهم إلا أحاط بها.
ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه(3/524)
في الآفات حكى أفعاله أيضاً فقال:
{وإذا أنعمنا} أي: بما لنا من العظمة {على الإنسان} أي: الواقف مع نفسه نعمة تليق بعظمتنا {أعرض} أي: عن التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله تعالى {ونأى} أي: أبعد بعداً جعل بيننا وبينه حجاباً عظيماً {بجانبه} أي: ثنى عطفه متبختراً {وإذا مسه الشر} أي: هذا النوع قليله وكثيره {فذو دعاء} أي: في كشفه وربما كان نعمة باطنة وهو لا يشعر ولا يدعو إلا عند المس، وقد كان ينبغي له أن يشرع في الدعاء عند التوقع بل قبله تعرفاً إلى الله تعالى في الرخاء ليعرفه في الشدة وهو خلق شريف لا يفعله إلا أفراد خصهم الله بلطفه {عريض} أي: مديد العرض جداً وأما طوله فلا يسئل عنه، وهذا كناية عن النهاية في الكثرة، تقول العرب أطال فلان الدعاء وأعرض أي: أكثر، ثم أمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
{قل} أي: لهؤلاء المعرضين {أرأيتم} أي: أخبروني {إن كان} أي: هذا القرآن {من عند الله} الذي له الإحاطة بجميع صفات الجلال والجمال {ثم كفرتم به} أي: من غير نظر واتباع دليل {من أضل} منكم هكذا كان الأصل ولكنه قال: {ممن هو في شقاق} أي: خلاف لأولياء الله تعالى {بعيد} أي: عن الحق تنبيها على أنهم صاروا كذلك ومن صار كذلك فقد عرض نفسه لسطوات الله عز وجل.
{سنريهم آياتنا في الآفاق} قال ابن عباس: يعني منازل الأمم الخالية {وفي أنفسهم} أي: بالبلايا والأمراض، وقال قتادة: يعني وقائع الله تعالى في الأمم الخالية وفي أنفسهم يوم بدر، وقال مجاهد: في الآفاق ما يفتح الله تعالى من القرى على محمد صلى الله عليه وسلم وفي أنفسهم فتح مكة، وقال عطاء: في الآفاق يعني: أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم في آفاق الليل والنهار والأضواء والظلال والظلمات والنبات والأشجار والأنهار وفي أنفسهم من لطائف الصنعة وبديع الحكمة في كيفية تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة كقوله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات: 21)
تنبيه: قال النووي في تهذيبه: قال أهل اللغة: الآفاق النواحي، الواحد أفق بضم الهمزة والفاء، وأفق بإسكان الفاء.
ولما كان التقدير ولا نزال نكرر عليهم هذه الدلائل عطف عليه {حتى يتبين لهم} غاية البيان بنفسه من غير إعمال فكر {أنه} أي: القرآن {الحق} أي: الكامل في الحقبة الذي يطابق الواقع المنزل من الله تعالى بالبعث والحساب والعقاب فيعاقبون على كفرهم به وبالجائي به، وقيل: الضمير في أنه لدين الإسلام، وقيل: لمحمد صلى الله عليه وسلم {أولم يكف بربك} أي: المحسن إليك بهذا البيان المعجز للأنس والجان شهادة بأن القرآن من عند الرحمن.
تنبيه: الباء زائدة للتأكيد كأنه قيل: أو لم تحصل الكفاية به ولا تكاد تزاد في الفاعل إلا مع كفى وقوله تعالى: {أنه على كل شيء شهيد} بدل من ربك، والمعنى: أولم يكفهم في صدقك أن ربك لا يغيب عنه شيء ما وقد شهد لك فيه بالإعجاز لجميع الخلق بكل ما تضمنته آياته ونطقت به كلماته، ففيه أعظم بشارة بتمام الدين وظهوره على المعتدين.
ولما لم يبق بعد هذا التعنت مقال ولا شبهة أصلاً لضال، قال تعالى منادياً على من جحد واستمر على عناده:(3/525)
{ألا إنهم} أي: هؤلاء الكفرة {في مرية} أي: جحد وجدال وشك وضلال عن البعث {من لقاء ربهم} أي: المحسن إليهم بأن خلقهم ورزقهم لإنكارهم البعث، ثم كرر كونه قادراً على البعث وغيره بقوله تعالى: {ألا إنه} أي: هذا المحسن إليهم {بكل شيء} أي: من الأشياء جملتها وتفصيلها كلياتها وجزئياتها أصولها وفروعها غيبتها وشهادتها ملكها وملكوتها {محيط} قدرة وعلماً بكثير الأشياء وقليلها كلياتها وجزئياتها فيجازيهم بكفرهم، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات» حديث موضوع.
سورة الشورى
مكية وهي ثلاث وخمسون آية وثمانمائة وست وستون كلمةوثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفاً
{بسم الله} الذي أحاط بصفات الكمال {الرحمن} الذي عمت رحمته سائر عباده {الرحيم} الذي خص أولياءه بما ترضاه إلهيته من رحمته وقوله تعالى:
{حم} {عسق} تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح وسئل الحسن بن الفضل: لم قطع حم عسق ولم يقطع كهيعص؟ فقال: لأنها سورة أولها حم فجرت مجرى نظائرها فكان حم مبتدأ وعسق خبره، ولأنهما عدا آيتين وأخواتها مثل كهيعص والمص والمر عدت آية واحدة. وقيل: لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص وأخواتها أنها حروف تهج لا غير. واختلفوا في حم فأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلها فعلاً، وقيل: معناها حم أي: قضى ما هو كائن، روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: ح حلمه م مجده ع علمه س سناؤه ق قدرته أقسم الله تعالى بها. وقال شهر بن حوشب وعطاء بن أبي رباح: ح: حرب قريش يعز فيها الذليل ويذل فيها العزيز في قريش، م: ملك يتحول من قوم إلى قوم، ع: عداوة لقريش يقصدهم سن سنين كسني يوسف تكون فيهم، ق: قدرة الله تعالى النافذة في خلقه. وروي عن ابن عباس أنه قال ليس من نبي صاحب كتاب إلا وأوحيت إليه حم عسق فلذلك قال تعالى:
{كذلك} أي: مثل هذا الإيحاء العظيم الشأن {يوحى إليك} أي: ما دمت حياً لا يقطع ذلك عنك {وإلى} أي: وأوحى إلى {الذين من قبلك} أي: من الرسل الكرام والأنبياء الأعلام ومن جملة ما أوحى إليهم أن أمتك أكثر الأمم وأنك أشرف الأنبياء وأخذ على كل منهم العهد باتباعك وأن يكونوا من أنصارك وأتباعك وقوله تعالى: {الله} أي: الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال فاعل الإيحاء.
ولما كان نفوذ الأمر دائراً على العزة والحكمة قال تعالى: {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} الذي يصنع ما يصنعه في أتقن محاله فلذلك لا يقدر أحد على نقض ما أبرمه ولا نقص ما أحكمه.
تنبيه: ما تقرر من أن الله تعالى فاعل الإيحاء هو على قراءة كسر الحاء من يوحي وهي قراءة غير ابن كثير، وأما على قراءة ابن كثير بفتح الحاء فيجوز أن يرتفع بفعل مضمر كأنه قيل: من يوحيه فقيل الله ك {يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال} (النور: 36 ـ 37)
ويجوز أن يرتفع بالابتداء وما بعده خبر(3/526)
والجملة قائمة مقام الفاعل وأن يكون العزيز الحكيم خبرين أو نعتين والجملة من قوله تعالى:
{له ما في السموات} أي: من الذوات والمعاني {وما في الأرض} كذلك خبر أول أو ثان على حسب ما تقدم في العزيز الحكيم، قال الزمخشري: لم يقل تعالى أوحى إليك ولكن قال: يوحي إليك على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء مثله عادة وكونه عزيزاً يدل على كونه قادراً على ما لا نهاية له، وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجات وقوله تعالى: {ما في السموات وما في الأرض} يدل على كونه متصفاً بالقدرة الكاملة النافذة في جميع أجزاء السموات والأرض على عظمتها وسعتها بالإيجاد والإعدام وأن ما في السموات وما في الأرض خلقه وملكه.
ولما كان العلو مستلزماً للقدرة قال تعالى: {وهو العلي} على كل شيء علو رتبة وعظمة ومكانة لا علو مكان وملابسة {العظيم} بالقدرة والقهر والاستعلاء وقوله تعالى:
{تكاد السموات} قرأه نافع والكسائي بالياء التحتية، والباقون بالفوقية وقوله تعالى {يتفطرن} أي: يشققن قرأه شعبة وأبو عمرو بعد الياء بنون ساكنة وكسر الطاء مخففة، والباقون بعد الياء بتاء فوقية مفتوحة وفتح الطاء مشددة وقوله تعالى: {من فوقهن} في ضميره ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه عائد على السموات أي: كل واحدة منهن تنفطر فوق التي تليها من عظمة الله تعالى أو من قول المشركين: {اتخذ الله ولداً} (الكهف: 4)
كما في سورة مريم أي: يبتدئ انفطارهن من هذه الجهة فمن: لابتداء الغاية متعلقة بما قبلها، الثاني: أنه يعود على الأرضين لتقدم ذكر الأرض، الثالث: أنه يعود على فرق الكفار والجماعات الملحدين قاله الأخفش الصغير، وقال الزمخشري: كلمة الكفر أي: على التفسير الثاني إنما جاءت من الذين تحت السموات فكان القياس أن يقال: ينفطرن من تحتهن أي: من الجهة التي جاءت منها الكلمة ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل: يكدن ينفطرن أي: من الجهة التي فوقهن دون الجهة التي تحتهن، ونظيره في المبالغة قوله عز وجل {يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم} (الحج: 19 ـ 20)
فجعل الحميم مؤثراً في أجزائهم الباطنة ا. هـ.
ولما بين تعالى أن سبب كيدودة انفطارهن جلال العظمة التي منها كثرة الملائكة وشناعة الكفر، بين لها سبباً آخر وهو عظم قول الملائكة فقال تعالى: {والملائكة يسبحون} أي: يوقعون التنزيه لله تعالى متلبسين {بحمد ربهم} أي: بإثبات الكمال للمحسن إليهم تسبيحاً يليق بحالهم فلهم بذلك زجل وأصوات لا تحملها العقول ولا تثبت لها الجبال.
تنبيه: عدل عن التأنيث ولم يقل يسبحن مراعاة للفظ التذكير وضمير الجمع، إشارة إلى قوة التسبيح وكثرة المسبحين، فإن قيل: قوله تعالى: {ويستغفرون لمن في الأرض} عام فيدخل فيه الكفار ولقد لعنهم الله تعالى فقال سبحانه: {أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} (البقرة: 161)
فكيف يكونون لاعنين لهم ومستغفرين لهم؟ أجيب: بوجوه؛ الأول: أنه عام مخصوص بآية غافر {ويستغفرون للذين آمنوا} (غافر: 7) ، الثاني: أن قوله تعالى: {لمن في الأرض} لا يفيد العموم لأنه يصح أن يقال استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ولو كان صريحاً في العموم لما صح ذلك، الثالث: يجوز أن يكون المراد بالاستغفار أن لا يعاجلهم(3/527)
بالعقاب كما في قوله تعالى: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا} إلى أن قال تعالى {إنه كان حليماً غفوراً} (الإسراء: 44)
الرابع: يجوز أن يقال إنهم يستغفرون لكل من في الأرض أما في حق الكفار فبطلب الإيمان لهم، وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم، فإنا نقول اللهم اهد الكفار وزين قلوبهم بنور الإيمان وأزل عن خواطرهم وحشة الكفر، وهذا استغفار في الحقيقة وقوله تعالى: {ألا إن الله} أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال {هو} أي: وحده {الغفور الرحيم} تنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر إلا أن المغفرة المطلقة لله تعالى، وهذا يدل على أنه تعالى يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة.u
{والذين اتخذوا من دونه} أي: غير الله تعالى {أولياء} أي: أنداداً وشركاء يعبدونهم كالأصنام {الله} أي: المحيط بصفات الكمال {حفيظ} أي: رقيب ومراع وشهيد {عليهم} أي: على أعمالهم ولا يغيب عنه شيء من أعمالهم فهو إن شاء أبقاهم على كفرهم وجازاهم عليه بما أعد للكافرين، وإن شاء تاب عليهم ومحا ذلك عيناً وأثراً ولم يعاقبهم، وإن شاء محاه عيناً وأبقى الأثر حتى يعاقبهم {وما أنت} يا أشرف الرسل {عليهم بوكيل} أي: حتى يلزمك أن تراعي جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم فتحفظها وتقسرهم على تركها ونحو ذلك مما يتولاه الوكيل بما يقوم فيه مقام الموكل سواء قالوا لا تسمعوا لهذا القرآن أم قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وغير ذلك إذ ما عليك إلا البلاغ.
{وكذلك} أي: ومثل ذلك الإيحاء {أوحينا} أي: بما لنا من العظمة {إليك قرآناً} أي: جامعاً لكل حكمة مع الفرق لكل ملتبس {عربياً} فهو بين الخطاب واضح الصواب معجز الجناب {لتنذر} أي: به {أم القرى} أي: أهل مكة التي هي أم الأرض وأصلها منها دحيت، أو لشرفها أوقع الفعل عليها عداً لها عداد العقلاء أو غير ذلك إذ ما عليك إلا البلاغ، وقوله تعالى {ومن حولها} معطوف على أهل المقدر قبل أم القرى، والمفعول الثاني محذوف أي: العذاب والمراد بمن حولها: قرى الأرض كلها من أهل البدو والحضر وأهل المدر والوبر، والإنذار: التخويف {وتنذر} أي: الناس.
{يوم الجمع} أي: يوم القيامة يجمع الله تعالى فيه الأولين والآخرين وأهل السموات والأرضين ويجمع الأرواح بالأجساد ويجمع بين العامل وعمله ويجمع بين الظالم والمظلوم {لا ريب} أي: لا شك {فيه} لأنه ركز في فطرة كل أحد وقوله تعالى: {فريق} يجوز فيه وجهان؛ أحدهما: أنه مبتدأ وساغ هذا في النكرة لأنه مقام تفصيل وخبره {في الجنة} أي: تفضلاً منه ورحمة، وهم الذين قبلوا الإنذار وبالغوا في الحذار، ويجوز أن يكون الخبر مقدراً تقديره منهم فريق، وساغ الابتداء بالنكرة حينئذ لشيئين: تقديم خبرها جاراً ومجروراً ووصفها بالجار بعدها، والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هم أي: المجموعون فريق، دل على ذلك قوله تعالى: {يوم الجمع} وقوله تعالى: {وفريق في السعير} أي: عدلاً منه فيه ما مر، وهم الذين خذلهم الله تعالى ووكلهم إلى أنفسهم، فإن قيل: يوم الجمع يقتضي كون القوم مجتمعين والجمع بين الصنفين محال؟ أجيب: بأنهم يجتمعون أولاً ثم يصيرون فريقين قال القشيري: كما أنهم في الدنيا فريقان فريق في راحات الطاعات وحلاوات العبادات،(3/528)
وفريق في ظلمات الشرك وعقوبات الجحد والشك فكذلك غداهم فريقان، فريق هم أهل اللقاء وفريق هم أهل البلاء والشقاء.
ورى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قابضاً على كفيه ومعه كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله فقال: للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس يزاد فيهم ولا ينقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة، ثم قال للذي في يده اليسرى هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون فليس يزاد فيهم ولا ينقص منهم، إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة، فقال عبد الله بن عمرو: ففيم العمل إذن؟ فقال: اعملوا وسددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أيَّ: عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أيَّ: عمل ثم قال {فريق في الجنة وفريق في السعير} عدل من الله تعالى» أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده.
{ولو شاء الله} أي: المحيط بجميع أوصاف الكمال {لجعلهم} أي: المجموعين {أمة واحدة} للثواب أو للعذاب، ولكنه لم يشأ ذلك بل شاء أن يكونوا فريقين مقسطين وظالمين ليظهر فضله وعدله وأنه إله جبار واحد قهار لا يبالي بأحد، وهو معنى قوله تعالى {ولكن يدخل من يشاء} إدخاله {في رحمته} بخلق الهداية في قلبه فتكون أفعالهم في مواضعها وهم المقسطون، ويدخل من يشاء في نقمته بخلق الضلالة في قلوبهم فيكونوا ظالمين فلا تكون أفعالهم في مواضعها، فالمقسطون ما لهم من عدو ولا نكير {والظالمون} أي: العريقون في الظلم الذين ساء ظلمهم وهم الكافرون فيدخلهم في لعنته {ما لهم من ولي} أي: يلي أمورهم فيجتهد في صلاحها فيدفع عنهم العذاب {ولا نصير} ينصرهم من الهوان فيمنعهم من النار، وعلى هذا التقدير: فالآية من الاحتباك وهو ظاهر ذكر الرحمة أولاً دليلاً على اللعنة ثانياً، والظلم وما معه ثانياً دليلاً على أضداده أولاً، وهذا تقدير لقوله تعالى: {الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل} أي: أنت لا تقدر أن تحملهم على الإيمان ولو شاء الله تعالى لفعله لأنه أقدر منك، لكنه تعالى جعل البعض مؤمناً والبعض كافراً.
ولما حكى الله تعالى عنهم أولاً أنهم اتخذوا من دونه أولياء ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {لست عليهم بوكيل} أي: لا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان، فإن الله تعالى لو شاء لفعله أعاد ذلك الكلام على سبيل الإنكار بقوله تعالى:
{أم اتخذوا من دونه أولياء} كالأصنام وهذه أم المنقطعة فتقدر ببل التي للانتقال، وبهمزة الإنكار أو بالهمزة فقط أو ببل فقط أي: ليس المتخذون أولياء {فالله} أي: المختص بصفات الكمال {هو} وحده {الولي} قال ابن عباس: وليك يا محمد وولي من اتبعك، والفاء: جواب الشرط المقدر كأنه قال: إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي لا ولي سواه، وقيل: هي لمجرد العطف وجرى على هذا الجلال المحلي، وعلى الأول الزمخشري {وهو} أي: ومن شأن هذا الولي {يحيي الموتى}(3/529)
أي: يجدد إحياءها في كل وقت يشاؤه {وهو} وحده {على كل شيء قدير} فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء.
ولما منع تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يحمل الكفار على الإيمان، منع المؤمنين أن يشرعوا معهم في المخاصمات والمنازعات بقوله تعالى:
{وما اختلفتم} أي: أنتم والكفار {فيه من شيء} أي: من أمور الدنيا أو الدين {فحكمه إلى الله} أي: مفوض إلى الذي هو الولي لا غيره، يميز المحق من المبطل بالنصر والإثابة والمعاقبة، وقيل: ما اختلفتم فيه من تأويل المتشابه فارجعوا فيه إلى المحكم من كتاب الله {ذلكم الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {ربي} أي: الذي لا مربي لي غيره في ماض ولا حال ولا استقبال {عليه} أي: وحده {توكلت} أسلمت جميع أمري {وإليه} لا إلى غيره {أنيب} أي: أرجع بالتوبة إذا قصرت في شيء من فروع شرعه وأرجع إلى كتابه إذا نابني أمر من الأمور فأعرف منه حكمة فافعلوا أنتم كذلك واجعلوه الحكم تفلحوا ولا تعدلوا عنه في شيء من الأشياء تهلكوا، وقوله تعالى:
{فاطر} أي: مبدع {السموات والأرض} خبر آخر لذلكم أو مبتدأ خبره {جعل لكم} أي: بعد أن خلقكم من الأرض {من أنفسكم أزواجاً} حيث خلق حواء من ضلع آدم فيكون بالسكون إليها بقاء نوعكم {ومن} أي: وجعل لكم أي: لأجلكم من {الأنعام} التي هي أموالكم وجمالكم وبها أعظم أقواتكم {أزواجاً} أي: ذكوراً وإناثاً يكون بها أيضاً بقاء نوعها {يذرؤكم} بالمعجمة أي: يخلقكم ويكثركم من الذرء وهو: البث {فيه} أي: في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجاً ليكون بينهم توالد فإنه كالمنبع للبث والتكثير فالضمير للأناسي والأنعام بالتغليب، واختلف في الكاف في قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} فجرى الجلال المحلي على أنها زائدة لأنه تعالى لا مثل له، وجرى غيره على أنها ليست زائدة لأنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى، وحاصله كما قال التفتازاني: إن قولنا ليس كذاته شيء وقولنا ليس كمثله شيء عبارتان كلاهما من معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته، الأولى صريحاً والثانية كناية مشتملة على مبالغة، وهي أن المماثلة منفية عمن يكون مثله وعلى صفته فكيف عن نفسه وهذا لا يستلزم وجود المثل، ألا ترى أن قولهم مثل الأمير يفعل كذا ليس اعترافاً بوجود المثل له، فالمعنى هنا: أن مثل مثله تعالى منفي فكيف بمثله، وأيضاً مثل المثل مثل فيلزم من نفيه نفيهما، وقال البغوي: المثل صلة أي: ليس كهو شيء فأدخل المثل للتوكيد، كقوله تعالى {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} (البقرة: 137)
وهذا كالتأويل الأول وقيل: إن المراد بالمثل الصفة وذلك أن المثل بمعنى المثل، والمثل الصفة كقوله تعالى: {مثل الجنة} (الرعد: 35)
فيكون المعنى: ليس كصفته تعالى شيء من الصفات التي لغيره، وأما قوله تعالى: {وله المثل الأعلى} (الروم: 27)
فمعناه أن له الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله ولا يشاركه فيه أحد {وهو} أي: والحال أنه هو لا غيره {السميع البصير} أي: الكامل في السمع والبصر بكل ما يسمع ويبصر، فإن قيل: هذا يفيد الحصر مع أن العباد أيضاً موصوفون بكونهم سميعين بصيرين؟ أجيب: بأن السمع والبصر لفظان مشعران بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال كما مر، والكمال في كل الصفات ليس إلا لله تعالى فهذا هو المراد من هذا الحصر.
{له} أي:(3/530)
وحده {مقاليد السموات والأرض} أي: خزائنهما ومفاتيح خزائنهما من الإمطار والإنبات وغيرهما، وقد ثبت أنه ابتدعهما وأن له جميع ما فيهما مما اتخذ من دونه ولياً وغيره، قال القشيري: والمفاتيح الخزائن وخزائنه هي مقدوراته ا. هـ. ولما حصر الأمر فيه دل عليه بقوله تعالى: {يبسط الرزق} أي: يوسعه {لمن يشاء} امتحاناً {ويقدر} أي: يضيقه لمن يشاء ابتلاء كما وسع على فارس والروم وضيق على العرب، وفاوت في الأفراد بين أفراد من وسع عليهم ومن ضيق عليهم، فدل ذلك قطعاً على أنه لا شريك له وأنه هو المتصرف وحده، فقطع بذلك أفكار الموفقين من عباده عن غيره ليقبلوا عليه ويتفرغوا له فإن عبادته هي المقاليد بالحقيقة: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً} (نوح: 10)
الآيات {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار} (الطلاق: 11)
{ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} (الأعراف: 96)
{ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم} (المائدة: 65)
الآية، ثم علل ذلك بقوله تعالى: {إنه بكل شيء عليم} أي: فلا فعل له إلا وهو جار على أتقن ما يكون من قوانين الحكمة فيفعله على ما ينبغي.
ولما عظم وحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم} ذكر تفصيل ذلك بقوله تعالى:
{شرع لكم} أي: طرّق وسنّ طريقاً ظاهراً بيناً واضحاً لكم أيتها الأمة الخاتمة من الطرق الظاهرة المستقيمة {من الدين} وهو ما يعمل فيجازى عليه {ما} الذي {وصى به} توصية عظيمة بعد إعلامه بأنه شرعه {نوحاً} في الزمان الأقدم وهو أول أنبياء الشريعة، قال مجاهد: أوصيناك وإياه يا محمد ديناً واحداً {والذي أوحينا إليك} أي: من القرآن وشرائع الإسلام {وما وصينا} أي: بما لنا من العظمة الباهرة التي ظهرت بها تلك المعجزات {به إبراهيم} الذي نجيناه من كيد نمروذ بالنار وغيرها ووهبنا له على الكبر إسماعيل وإسحاق، وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها، والباقون بكسر الهاء وياء بعدها {وموسى} الذي أنزلنا عليه التوراة موعظة وتفصيلاً لكل شيء {وعيسى} الذي أنزلنا عليه الإنجيل هدى ونوراً وموعظة، وادخرناه في سمائنا لتأييد شريعة الفاتح الخاتم صلى الله عليه وسلم
ثم بين المشروع الموصى به والموحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {أن أقيموا} أي: أيها المشروع لهم من هذه الأمة الخاتمة ومن الأمم الماضية {الدين} وهو الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله تعالى، ومحله النصب على البدل من مفعول شرع أو الرفع على الاستئناف كأنه جواب، وما ذلك المشروع أو الجر على البدل من هاء به.
ولما عظمه بالأمر بالاجتماع أتبعه بالتعظيم بالنهي عن الافتراق بقوله تعالى: {ولا تتفرقوا فيه} أي: ولا تختلفوا في هذا الأصل إما فروع الشرائع المختلفة فقال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} (المائدة: 48)
وقال قتادة: الموصى به تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقال الحكم: تحريم الأمهات والبنات والأخوات، وقال مجاهد: لم يبعث الله تعالى نبياً إلا وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإفراد لله تعالى بالطاعة فذلك دينه الذي شرعه، وقيل: هو التوحيد والبراءة من الشرك، وجرى على هذا الجلال المحلي والكل يرجع إليه {كبر} أي: عظم وشق {على المشركين} حتى(3/531)
ضاقت به صدورهم {ما تدعوهم إليه} أيها النبي الفاتح الخاتم من الاجتماع أبداً على ما اجتمعوا عليه وقت الاضطرار من وحدانية الواحد القهار، فلأجل كبره عليهم هم يسعون في تفرقكم فإن تفرقتم كنتم تابعتم العدو الحسود وخالفتم الولي الودود.
ثم نبه تعالى على أن الأمور كلها بيده بقوله تعالى: {الله} الذي له مجامع العظمة ونفوذ الأمر {يجتبي} أي: يختار {إليه} أي: إلى هذا الدين الذي تدعوهم إليه {من يشاء} اجتباءه {ويهدي إليه} بالتوفيق للطاعة {من ينيب} أي: من يقبل إلى طاعته.
ولما بين تعالى أمر كل الأنبياء عليهم السلام والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه كأن لقائل أن يقول: فلماذا نجدهم متفرقين؟ أجاب بقوله تعالى:
{وما تفرقوا} أي: المشركون من قبلكم من أهل الكتاب وغيرهم {إلا من بعد ما جاءهم العلم} أي: بالتوحيد أو بمبعث الرسول صلى الله عليه وسلم أو بأن التفرق ضلال متوعد عليه {بغياً بينهم} أي: فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية على أن ذهبت كل طائفة إلى مذهب ودعوا الناس إليه وقبحوا ما سواه طلباً للذكر والرياسة، فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف، ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل إلا أنه تعالى أخر عنهم العذاب لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمى، أي: وقتاً معلوماً وهذا معنى قوله تعالى: {ولولا كلمة} أي: لا تبديل لها {سبقت} أي: في الأزل {من ربك} أي: المحسن إليك بجعلك خير الخلائق وإمامهم بتأخيرهم {إلى أجل مسمى} ضربه لآجالهم ثم يجمعهم في الآخرة {لقضي} على أيسر وجه وأسهله {بينهم} حين الافتراق بإهلاك الظالم وإنجاء المحق، قال ابن عباس: والذين أريدوا بهذه الصفة هم اليهود والنصارى لقوله تعالى في آل عمران: {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} (آل عمران: 19)
وقوله تعالى في سورة لم يكن: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة} (البينة: 4)
وكذلك في قوله تعالى: {وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم} (الشورى: 14)
أي: المتفرقين هم اليهود والنصارى الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: هم هذه الأمة الذين أورثوا القرآن. ولما نسخ كتابهم ما تقدمه كان غيرهم كأنه مات فورثوه كما قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} (فاطر: 32)
فكان حالهم في تمكنهم من التصرف في الكتاب بالحفظ والفهم وعدم المنازعة في ادعائه حال الوارث والموروث منه {لفي شك منه} أي: من كتاب لا يعلمونه كما هو لا يؤمنون به حق الإيمان، أو من القرآن فيقولون إنه سحر وشعر وكهانة ونحو ذلك، وقيل: في شك من محمد صلى الله عليه وسلم وجرى على ذلك الجلال المحلي {مريب} أي: موقع في التهمة.
{فلذلك} أي: التوحيد {فادع} يا أشرف الخلق والناس {واستقم} أي: على الدعوة {كما أمرت} أي: أمرك الله تعالى {ولا تتبع} أي: بعمل {أهواءهم} في شيء ما، فإن الهوى لا يدعو إلى خير، والمقصود من كل أحد أن يفعل ما أمر به {وقل} لجميع أهل الفرق وكل من يمكن له القول فإنك أرسلت إلى جميع الخلق {آمنت بما أنزل الله} أي: الذي له العظمة الكاملة {من كتاب} أي: جميع الكتب المنزلة لا كالكفار الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، روي أن رجلاً أتى علياً فقال: يا أمير المؤمنين ما الإيمان(3/532)
أو كيف الإيمان قال: الإيمان على أربع دعائم على الصبر واليقين والعدل والجهاد والصبر على أربع شعب: على الشوق والشفق والزهادة والترقب فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات ومن زهد في الدنيا تهاون بالمصائب ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات، واليقين على أربع شعب: تبصرة الفطنة وتأويل الحكمة وموعظة العبرة وسنة الأولين، فمن تبصر الفطنة تأول الحكمة ومن تأول الحكمة عرف العبرة ومن عرف العبرة عرف السنة ومن عرف السنة فكأنما كان في الأولين، والعدل على أربع شعب: على غامض الفهم وزهرة الحلم وروضة العلم وعلم الحكم فمن فهم جمع العلم ومن علم لم يضل في الحكم ومن علم عرف شرائع الحلم ومن حلم لم يفرط أمره وعاش في الناس، والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين فمن أمر بالمعروف شد ظهره، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافقين، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه ومن
شنئ
الفاسقين غضب لله تعالى وغضب الله تعالى له، فقام الرجل وقبل رأسه.
{وأمرت} أي: ممن له الأمر كله {لاعدل} أي: لأجل أن أعدل {بينكم} أيها المفترقون في الأديان من العرب والعجم من الأنس والجن، ثم علل ذلك بقوله {الله} أي: الذي له الملك كله {ربنا وربكم} أي: موجدنا ومتولي جميع أمورنا فلهذا أمرنا بالعدل على سبيل العموم لأن الكل عباده.
{لنا أعمالنا} خاصة بنا لا تعدونا إلى غيرنا {ولكم أعمالكم} خاصة بكم لا تعدوكم إلى غيركم فكل مجازى بعمله {لا حجة} أي: لا خصومة {بيننا وبينكم} وهذا قبل أن يؤمر بالجهاد كما قاله الجلال المحلي، وقال ابن الخازن: هذه الآية منسوخة بآية القتال وكذا قال البغوي، ولكن قال البيضاوي: وليس في الآية من يدل على متاركته رأساً حتى تكون منسوخة بآية القتال {الله} أي: الذي هو أحكم الحاكمين {يجمع بيننا} أي: في الميعاد لفصل القضاء {وإليه} أي: لا إلى غيره {المصير} أي: المرجع حساً ومعنىً، لتمام عزته وشمول عظمته.
{والذين يحاجون في الله} أي: يوردون تشكيكاً في دين الملك الأعظم ليعيدوا الناس بعدما دخلوا في نور الهدى إلى ظلام الضلال {من بعد ما استجيب له} أي: استجاب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم فأظهر دينه على الدين كله قال قتادة: هم اليهود قالوا: كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فنحن خير منكم فهذه خصومتهم وتشكيكهم، أو من بعد ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم الناس فأسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزته.
{حجتهم} أي: التي زعموها حجة {داحضة} أي: زائلة باطلة {عند ربهم} أي: المحسن إليهم بإضافة العقل الذي جعلهم به في أحسن تقويم وقال الرازي: تلك المخاصمة هي أن اليهود قالوا: ألستم تقولون أن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه؟ فنبوة موسى عليه السلام وحقية التوراة معلومة بالاتفاق، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ليست متفقاً عليها فوجب الأخذ باليهودية، فبين تعالى فساد هذه الحجة، وذلك أن اليهود أجمعوا على أنه إنما وجب الإيمان بموسى عليه السلام لأجل ظهور المعجزات على قوله وها هنا ظهرت المعجزات على وفق قول محمد صلى الله عليه وسلم واليهود قد شاهدوا تلك المعجزات فإن(3/533)
كان ظهور المعجزة يدل على الصدق فهنا يجب الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان لا يدل على الصدق وجب في حق موسى أن لا يقروا بنبوته بظهور المعجزات لأنه يكون تناقضاً.v
تنبيه: والذين يحاجون مبتدأ وحجتهم مبتدأ ثان وداحضة خبر المبتدأ الثاني والثاني وخبره خبر الأول، وأعرب مكي حجتهم بدلاً من الموصول بدل اشتمال.
ولما قرر تعالى هذه الدلائل خوف المنكرين بعذاب القيامة فقال: {وعليهم} أي: زيادة على قطع الإحسان {غضب} أي: عقوبة تليق بحالهم المذموم ووصفهم المذموم ومنه الطرد فهم مطرودون عن بابه مبعدون عن جنابه مهانون بحجابه {ولهم} مع ذلك {عذاب شديد} في الآخرة لا تصلون إلى حقيقة وصفه.
{الله} أي: الذي له جميع الملك {الذي أنزل الكتاب} أي: جنس الكتاب {بالحق} أي: متلبساً على أكمل الوجوه بالأمر الثابت الذي لا يبدل {والميزان} أي: الشرع الذي توزن به الحقوق ويسوي بين الناس أو العدل، قال مجاهد: سمي العدل ميزاناً لأن الميزان آلة للإنصاف والتسوية، وقال ابن عباس: أمر الله تعالى بالوفاء ونهى عن البخس فيجب على العاقل أن يجتهد في النظر والاستدلال ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد.
ولما كان صلى الله عليه وسلم يهددهم بيوم القيامة ولم يروا لذلك أثراً قالوا على سبيل السخرية: متى تقوم الساعة وليتها قامت حتى يظهر لنا الحق أهو الذي نحن عليه أم الذي عليه محمد وأصحابه؟ قال تعالى: {وما يدريك} أي: يا أكمل الخلق {لعل الساعة} أي: التي يستعجلون بها {قريب} وذكر قريب وإن كان صفة لمؤنث لأن الساعة في معنى الوقت أو البعث، أو على معنى النسب أي: ذات قرب، أو على حذف مضاف أي: مجيء الساعة، قال مكي: ولأن تأنيثها مجازي وهذا ممنوع إذ لا يجوز الشمس طالع ولا القدر فائر.
تنبيه: لعل معلق للفعل عن العمل أي: ما بعده سد مسد المفعولين، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الساعة وعنده قوم من المشركين، وقالوا مستهزئين: متى الساعة تقوم؟ نزل قوله تعالى:
{يستعجل بها} أي: يطلب أن تكون قبل الوقت المضروب لها {الذين لا يؤمنون بها} أي: لا يتجدد لهم ذلك أصلاً وهم غير مشفقين ويظنون كذب القائل بها {والذين آمنوا} وإن كانوا في أول درجات الإيمان {مشفقون} أي: خائفون خوفاً عظيماً {منها} لأن الله تعالى هداهم بإيمانهم فصارت صدورهم معادن المعارف وقلوبهم منابع الأنوار، فأيقنوا بما فيها من الأهوال الكبار فخافوا للطافتهم أن يكونوا مع صلاحهم من أهل النار {ويعلمون أنها الحق} إعلاماً بأنهم على بصيرة من أمرها لا يستعجلون بها، فالآية من الاحتباك، ذكر الاستعجال أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً والإشفاق ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً.
فائدة: روي: «أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري في بعض أسفاره فناداه: يا محمد، فقال له صلى الله عليه وسلم نحواً من صوته: هاؤم فقال: متى الساعة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم ويحك إنها كائنة فما أعددت لها، فقال: حب الله تعالى وحب رسوله، فقال: أنت مع من أحببت» . والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة بل أمره بالاستعداد لها ومن أحب الله تعالى ورسوله فعل ما أَمرا به واجتنب ما نهيا عنه، فهي المحبة الكاملة نسأل الله الكريم من فضله أن يوفقنا وأحبابنا لطاعته(3/534)
واجتناب معاصيه {إلا إن الذين يمارون} أي: يخاصمون ويجادلون {في الساعة} أي: القيامة وما تحتوي عليه {لفي ضلال} أي: ذهاب حائد عن الحق {بعيد} جداً عن الصواب فإن لها من الأدلة الظاهرة ما ألحقها بالمحسوسات، كما قال القائل لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً.
ولما أنزل الله عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة، كان ذلك من لطف الله تعالى بعباده كما قال عز من قائل:
{الله} أي: الذي له الأمر كله {لطيف} أي: بالغ في اللطف والعلم وإيقاع الإحسان {بعباده} وقال ابن عباس: حق بهم، وقال عكرمة: بارّ بهم وقال السدي: رفيق بهم، وقال القشيري: اللطيف: العالم بدقائق الأمور وغوامضها، وقال الرازي: هو اسم مركب من علم ورحمة ورفق خفي أما لطفه بالمؤمنين فواضح، وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى، وقال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم بدليل قوله تعالى: {يرزق من يشاء} أي: مهما شاء على سبيل من السعة والضيق أو التوسعة لا مانع له من شيء من ذلك، فكل من رزقه الله تعالى من مؤمن وكافر وذي روح فهو ممن يشاء الله تعالى أن يرزقه، قال جعفر الصادق: اللطف في الرزق من وجهين؛ أحدهما: أنه جعل رزقك من الطيبات والثاني: أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة {وهو القوي} أي: القادر على ما يشاء {العزيز} فلا يقدر أحد أن يمنعه عن شيء يريده.
ولما بين بهذا أن الرزق ليس إلا في يده أتبعه ما يزهد في طلب رزق البدن ويرغب في رزق الروح فقال تعالى على سبيل الاستئناف:
{من كان} أي: من شريف أو دني {يريد} أي: بعمله {حرث الآخرة} أي: أعمالها والحرث في اللغة الكسب {نزد له} أي: بعظمتنا التي لا يقدر أحد على تحويلها {في حرثه} قال مقاتل: بأن يعينه على الأعمال الصالحة ويضاعف بالواحدة عشرة إلى ما شاء الله تعالى من الزيادة، وقال الزمخشري: إنه تعالى سمى ما يعمله العامل مما يطلب به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز {ومن كان} أي: من قوي أو ضعيف {يريد} أي: بعمله {حرث الدنيا} أي: أرزاقها التي تطلب بالكد والسعي وتستنمي به مكتفياً به مؤثراً له على الآخرة {نؤته منها} أي: ما قسمناه له ولو تهاون به ولم يطلبه لآتاه، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة بسكون الهاء، واختلس قالون كسرة الهاء، وعن هشام اختلاس الكسرة في الهاء والإشباع، والباقون بإشباع الكسرة {وما} أي: والحال أن طالب الدنيا بعمله ما {له في الآخرة من نصيب} لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، وروى أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصرة والتمكن في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» . أي: لأن هذا تهاون بالآخرة فلم يبنوها وهي أشرف من أن تقبل على من أعرض عنها فإنها ضرة الدنيا وضدها، فالدنيا بخساستها تقبل على من أعرض عنها وتبعد عمن أقبل عليها حتى تهلكه في مهاويها، والآخرة تقبل على من أقبل عليها أضعاف إقباله وتنادي من أدبر عنها لينتهي عن غيه وضلاله، فلما سمى الله تعالى كلا القسمين حرثاً علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب وصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في الزائد الباقي أولى من صرفها لما يكون(3/535)
في التناقص والانقضاء.
قال الرازي في اللوامع: أهل الإرادة على أصناف مريد الدنيا ومريد الآخرة ومريد الحق جل وعلا، وعلامة إرادة الدنيا أن يرضى في زيادة دنياه بنقص دينه والإعراض عن فقراء المسلمين وأن تكون حاجاته في الدنيا مقصورة على الدنيا، وعلامة إرادة الآخرة بعكس ذلك، وأما علامة إرادة الله تعالى كما قال تعالى: {يريدون وجهه} (الكهف: 28)
فطرح الكونين والعزلة عن الخلق والخلاص من يد النفس انتهى. وحاصله: أن يستغرق أوقاته في التوفية بحقوق الحق وحقوق الخلق وتزكية النفس لا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار بل امتثالاً لأجل الملك الأعلى لأنه أهل لذلك، مع اعترافه بأنه لن يقدر الله تعالى حق قدره.
ولما بين تعالى أعمال الآخرة والدنيا أتبعه بيان ما هو الأصل في باب الضلالة والشقاوة فقال تعالى:
{أم} أي: بل {لهم} أي: كفار مكة {شركاء} أي: على زعمهم وهم شياطينهم {شرعوا} أي: سنوا بالتزيين {لهم} أي: الكفار {من الدين} أي: الفاسد في العبادات والعادات {ما لم يأذن به الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا، وقيل: شركاؤهم أوثانهم، وإنما أضيفت إليهم لأنهم هم الذين اتخذوها شركاء لله، ولما كانت سبباً لضلالهم جعلت شارعة لدين ضلالتهم، كما قال إبراهيم عليه السلام {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} (إبراهيم: 36)
وقال ابن عباس: شرعوا لهم ديناً غير دين الإسلام {ولولا كلمة الفصل} أي: القضاء السابق بتأخير الجزاء أو لولا الوعد بأن الفصل يكون بينهم يوم القيامة {لقضي بينهم} أي: بين الذين امتثلوا أمره والتزموا شرعه وبين الذين اتبعوا ما شرعوه لمن سموهم شركاء في أقرب وقت، ولكنه قد سبق القضاء في الأزل بمقادير الأشياء وتحديدها على وجوه الحكمة فهي تجري على ما حد لها لا يتقدم شيء منها ولا يتاخر ولا يتبدل ولا يتغير وستنكشف لهم الأمور وتظهر مخبآت المقدور فلا يقع الفصل إلا في الآخرة كما سبق القضاء {وإن الظالمين} بشرع ما لم يأذن به الله من الشرك وغيره {لهم عذاب أليم} أي: مؤلم بليغ إيلامه، ثم إنه تعالى ذكر أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب مبتدئاً بالأول منهما بقوله تعالى:
{ترى} أي: في ذلك اليوم {الظالمين} أي: الواضعين الأشياء في غير مواضعها {مشفقين} أي: خائفين أشد الخوف كما هو الحال من يحاسبه من هو أعلى منه وهو مقصر {مما كسبوا} أي: عملوا معتقدين أنه غاية ما ينفعهم {وهو} أي: جزاؤه ووباله الذي من جنسه حتى كأنه هو {واقع بهم} لا محالة سواء أشفقوا أم لم يشفقوا، ثم ذكر الثاني بقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} وهي التي أذن الله تعالى فيها غير خائفين مما كسبوا لأنهم مأذون لهم في فعله وهو مغفور لهم ما فرطوا فيه {في روضات الجنات} أي: في الدنيا بما يلذذهم به الله تعالى من لذائذ الأقوال والأفعال والمعارف والأحوال، وفي الآخرة حقيقة بلا زوال، وروضة الجنة أطيب بقعة فيها، وفيه تنبيه على أن عصاة المؤمنين من أهل الجنة لأنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنهم في روضات الجنات وهي: البقاع الشريفة من الجنة فالبقاع التي دون تلك الروضات لا بد وأن تكون مخصوصة بمن كان دون الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقوله تعالى: {لهم ما يشاؤون عند ربهم} يدل على أن تلك الأشياء حاضرة عنده(3/536)
مهيأة والعندية مجاز.
تنبيه: عند ربهم يجوز أن يكون ظرفاً ليشاؤون قاله الحوفي، أو للاستقررار العامل في لهم قاله: الزمخشري: وقوله تعالى: {ذلك} أي: الخير العظيم الرتبة الجليل القدر {هو الفضل الكبير} أي: الذي يصغر ما لغيرهم في الدنيا يدل على أن الجزاء المرتب على العمل إنما حصل بطريق الفضل من الله تعالى لا بطريق الوجوب والاستحقاق وقوله تعالى:
{ذلك} أي: الجزاء العظيم من الجنة ونعيمها مبتدأ خبره {الذي يبشر الله} أي: الملك الأعظم والعائد وهو به محذوف تفخيماً للمبشر به لأن السياق لتعظيمه بالإشارة ويجعلها بأداة البعد وبالوصف بالذي وذكر الاسم الأعظم والتعبير بلفظ العباد في قوله تعالى {عباده} مع الإضافة إلى ضميره سبحانه.
ولما أشعر بصلاحهم بالإضافة نص عليه بقوله تعالى: {الذين آمنوا} أي: صدقوا بالغيب {وعملوا} تحقيقاً لإيمانهم {الصالحات} قرأ نافع وابن عامر وعاصم بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشددة، والباقون بفتح الياء وسكون الباء الموحدة وضم الشين مخففة من بشره.
ولما كان كأنه قيل: فما نطلب في هذه البشارة لأن الغالب أن المبشر وإن لم يسأل يعطى بشارته، كما وقع لكعب لما أذن الله تعالى بتوبته ركض راكض على فرس وسعى ساع على رجليه فأوفى على جبل سلع ونادى: يا كعب بن مالك أبشر فقد تاب الله عليك فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءه الذي سمع صوته خلع عليه ثوبيه وهو لا يملك يومئذ غيرهما واستعار له ثوبين قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي: لمن توهم فيك ما جرت به عادة المبشرين {لا أسألكم} أي: الآن ولا في مستقبل الزمان {عليه} أي: البلاغ بشارة أو نذارة {أجراً} أي: وإن قل {إلا} أي: لكن أسألكم {المودة} أي: المحبة العظيمة الواسعة {في القربى} أي: مظروفة فيها بحيث تكون القربى موضعاً للمودة وظرفاً لها لا يخرج شيء من محبتكم عنها.
تنبيه: في الآية ثلاثة أقوال؛ أولها: قال الشعبي: أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فكتب ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وسط النسب من قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده، وكان له فيهم قرابة فقال الله عز وجل {قل لا أسألكم عليه أجراً} على ما أدعوكم إليه إلا أن تودوا القربى، أي: تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة والمعنى: أنكم قربى وأحق من أجابني وأطاعني فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى وصلوا رحمي ولا تؤذوني، وإلى هذا ذهب مجاهد وقتادة وغيرهما.
ثانيها: روى الكلبي عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كانت تنوبه نوائب وحقوق وليس في يده سعة» فقالت الأنصار: «إن هذا الرجل هداكم وهو ابن أخيكم وجاركم في بلدكم فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا ثم أتوه بها فردها عليهم» ونزل قوله تعالى {قل لا أسألكم عليه} أي: على الإيمان أجراً إلا المودة في القربى أي: لا تؤذوا قرابتي وعترتي واحفظوني فيهم قاله سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب، ثالثها: قال الحسن: معناه إلا أن توادوا الله تعالى وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح، فالقربى على القول الأول: القرابة التي بمعنى الرحم وعلى الثاني: بمعنى الأقارب وعلى الثالث: فعلى بمعنى القرب والتقرب والزلفى، فإن قيل: طلب الأجر على تبليغ الوحي لا يجوز(3/537)
لوجوه؛ أحدها: أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء التصريح بنفي طلب الأجر فقال تعالى في قصة نوح: {وما أسألكم عليه من أجر} (الفرقان: 57)
الآية، وكذا في قصة هود وصالح ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام، ورسولنا أفضل الأنبياء فأن لا يطلب الأجر على النبوة والرسالة أولى، ثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم صرح بنفي طلب الأجر فقال: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} و {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم} (سبأ: 47)
ثالثها: أن التبليغ كان واجباً عليه قال تعالى: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} (المائدة: 67)
الآية وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بأقل الناس فضلاً عن أعلم العلماء.
رابعها: أن النبوة أفضل من الحكمة وقال تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} (البقرة: 269)
ووصف الدنيا بأنها متاع قليل قال تعالى {قل متاع الدنيا قليل} (النساء: 77)
فكيف يحسن بالعقل مقابلة أشرف الأنبياء بأخس الأشياء، خامسها: أن طلب الأجر يوجب التهمة وذلك ينافي القطع بصحة النبوة، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب أجراً البتة على التبليغ والرسالة وههنا قد ذكر ما يجري مجرى طلب الأجر وهو المودة في القربى؟ أجيب: بأنه لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على التبليغ وأما قوله تعالى: {إلا المودة في القربى} فالجواب عنه من وجهين؛ الأول: أن هذا من باب قوله:
*ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب*
يعني: أني لا أطلب منكم إلا هذا وهذا في الحقيقة ليس أجراً لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب قال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} (التوبة: 71)
وقال صلى الله عليه وسلم «المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضاً» . والآيات والأخبار في هذا كثيرة، وإذا كان حصول المودة بين المسلمين واجباً فحصولها في حق أشرف المرسلين أولى فقوله: {إلا المودة في القربى} تقديره: والمودة في القربى ليست أجراً، فرجع الحاصل إلى أنه لا أجر البتة. الثاني: أن هذا استثناء منقطع كما مر تقديره في الآية وتم الكلام عند قوله {قل لا أسألكم عليه أجراً} ثم قال: {إلا المودة في القربى} أي: أذكركم قرابتي فيكم فكأنه في اللفظ أجر وليس بأجر واختلفوا في قرابته صلى الله عليه وسلم فقيل: هم فاطمة وعلي وأبناؤهما، وفيهم نزل {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} (الأحزاب: 33) ، وروى زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني تارك فيكم كتاب الله وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي» . قيل لزيد بن أرقم فمن أهل بيتي؟ فقال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس. وروى ابن عمر عن أبي بكر رضي الله عنه قال: ارقبوا محمداً في أهل بيته وقيل: هم الذين تحرم عليهم الصدقة من أقاربه ويقسم فيهم الخمس وهم بنو هاشم وبنو المطلب الذين لم يفترقوا جاهلية ولا إسلاماً، وقيل: هذه الآية منسوخة وإليه ذهب الضحاك بن مزاحم والحسين بن الفضل، قال البغوي: وهذا قول غير مرضي لأن مودة النبي صلى الله عليه وسلم وكف الأذى عنه ومودة أقاربه والتقرب إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح من فرائض الدين.
ولما كان التقدير فمن يقترف سيئة فعليه وزرها ولكنه طوى لأن المقام للبشارة كما يدل عليه ختم الآية عطف عليه قوله تعالى {ومن يقترف} أي: يكتسب(3/538)
ويخالط ويعمل بجد واجتهاد وتعمد وعلاج {حسنة} أي: ولو صغرت {نزد} بما لنا من العظمة {له فيها} أي: في الحسنة {حسناً} أي: بمضاعفة الثواب من الزيادة أن يكون له مثل أجر من اقتدى به فيها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيء، قيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقيل: المراد بها العموم في أي: حسنة كانت إلا أنها لما ذكرت عقب ذكر المودة في القربى دل ذلك على أن المقصود التأكيد في تلك المودة {إن الله} أي: الذي لا يتعاظمه شيء {غفور} لكل ذنب تاب منه صاحبه وكان غير الشرك وإن لم يتب منه إن شاء فلا يصدن أحداً سيئة عملها عن الإقبال على الحبيب {شكور} أي: فهو يجزي بالحسنة أضعافها وإن قلت والشكور في حق الله تعالى مجاز والمعنى: أنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم وفي أن يزيد عليه أنواعاً كثيراً من التفضيل.
ثم ذكر الله تعالى الجواب عن طعن الكفرة في النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
{أم} أي: بل {يقولون افترى} أي: محمد صلى الله عليه وسلم {على الله} الذي أحاط بصفات الكمال فله العلم الشامل لمن يتقول عليه والقدرة التامة على عقابه {كذباً} حين زعم أن هذا القرآن من عنده وأنه أرسله بهذا الدين {فإن يشأ الله} أي: الذي له الإحاطة بالكمال {يختم} أي: يربط {على قلبك} بالصبر على أذاهم بهذا القول وغيره وقد فعل، وقال قتادة: يعني يطبع على قلبك فينسيك القرآن وما آتاك فأخبرهم أنه لو افترى على الله كذباً لفعل به ما أخبر عنه في هذه الآية، أي: أنه لا يجترئ على افتراء الكذب إلا من كان في هذه الحالة، والمقصود من هذا الكلام: المبالغة في تقرير الاستبعاد ومثاله: أن ينسب رجل بعض الأمناء إلى الخيانة فيقول الأمين: ذلك لعل الله خذلني أعمى قلبي وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب لنفسه وإنما يريد استبعاد صدور الخيانة منه وقوله تعالى {ويمح الله} أي: الذي له الأمر كله {الباطل} وهو قولهم افترى مستأنف غير داخل في جزاء الشرط لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً وسقطت الواو منه لفظاً لالتقاء الساكنين في الدرج وخطا حملاً للخط على اللفظ كما كتبوا سندع الزبانية عليه وأما الحق فإنه ثابت شديد مضاعف فلذا قال: {ويحق} أي: يثبت على وجه لا يمكن زواله {الحق} أي: كل ما من شأنه الثبات لأنه أذن فيه وأقره {بكلماته} أي: التي لو كان البحر مداداً لها لنفذ وقد فعل الله تعالى ذلك فمحا باطلهم وأعلى كلمة الإسلام عليهم {إنه عليم} أي: بالغ العلم {بذات الصدور} أي: ما هو فيها مما يعلمه صاحبها ومما لا يعلمه فيبطل باطله ويثبت حقه وإن كره الخلائق ذلك ولتعلمن نبأه بعد حين، ولقد صدق الله تعالى فأثبت ببركة هذا القرآن كل ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم وأبطل بسيف هذا البرهان كل ما كانوا يخالفونه فيه ومن أصدق من الله قيلاً، قال ابن عباس: لما نزل {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} وقع في قلوب قوم منها شيء وقالوا: يريد
أن يخلطنا على أقاربه من بعده فنزل جبريل عليه السلام فأخبره أنهم اتهموه فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال القوم: يا رسول الله فإنا نشهد أنك صادق فنزل:
{وهو} أي: لا غيره {الذي يقبل التوبة عن عباده} بالتجاوز عما تابوا عنه سئل أبو الحسن البوشنجي عن التوبة فقال: إذا ذكرت الذنب فلا تجد له حلاوة في قلبك.d
وروى جابر: أن أعرابياً دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(3/539)
«اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر» فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله تعالى عنه: يا هذا إن سرعة الاستغفار باللسان توبة الكذابين فقال يا أمير المؤمنين ما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية وإذابتها في الطاعة كما ربيتها في المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته. وقال سهل بن عبد الله: التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وقال بعضهم: هي الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل. وعن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» . وعن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» . وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله جعل في الغرب باباً عرضه مسيرة سبعين عاماً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها» . وروى: «أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» .
ولما كان القبول قد يكون في المستقبل مع الأخذ بما مضى قال الله تعالى تفضلاً منه ورحمة: {ويعفو عن السيئات} أي: التي كانت التوبة منها صغيرة كانت أو كبيرة وعن غيرها فلا يؤاخذ بها إن شاء لأن التوبة تجب ما قبلها كما أن الإسلام الذي هو توبة خاصة يجب ما يكون قبله وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان هو وراحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فآيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: «اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح» {ويعلم} أي: والحال أنه يعلم كل وقت {ما تفعلون} فيجازي ويتجاوز عن إتقان وحكمة، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتاء الخطاب إقبالاً على الناس عامة وهذا خطاب للمشركين، وقرأ الباقون بالغيبة نظراً إلى قوله تعالى عن عباده وقال تعالى بعد {ويزيدهم من فضله} .
ولما رغب بالعفو زاد بالإكرام فقال تعالى:
{ويستجيب} أي: يوجد بغاية العناية والطلب إجابة {الذين آمنوا} أي: دعاء الذين أقروا بالإيمان في كل ما دعوا به أو شفعوا عنده فيه لأنه لولا إرادته لهم الإكرام بالإيمان ما آمنوا، وعدي الفعل بنفسه ولم يقل: {ويستجيب للذين آمنوا} تنبيهاً على زيادة بره لهم ووصلهم به {وعملوا} تصديقاً لدعواهم الإيمان {الصالحات} فيثيبهم النعيم المقيم {ويزيدهم} أي: مع ما دعوا به لما لم يدعوا به ولم يخطر على قلوبهم {من فضله} أي: تفضلاً منه عليهم ويجوز أن يكون الموصول فاعلاً أي: يجيبون ربهم إذا دعاهم كقوله تعالى: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} (الأنفال: 24)
واستجاب كأجاب ومنه:
*وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ... فلم يستجبه عند ذلك مجيب*
وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: معناه ويثيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات(3/540)
ويزيدهم من فضله سوى ثواب أعمالهم تفضلاً منه، وروى أبو صالح عنه: «يشفعهم ويزيدهم من فضله» قال في إخوان: إخوانهم ثم أتبع المؤمنين بذكر ضدهم فقال تعالى {والكافرون} أي: العريقون في هذا الوصف القاطع الذين منعتهم عراقتهم من التوبة والإيمان {لهم عذاب شديد} بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضيل ولا يجيب دعاءهم وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، فالآية من الاحتباك ذكر الاستجابة أولاً دليلاً على ضدها ثانياً والعذاب ثانياً دليلاً على ضده أولاً.
ولما قال تعالى أنه يجيب دعاء المؤمنين ورد سؤال وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبلية وفقر ثم يدعو فلا يظهر أثر الإجابة فكيف الجمع بينه وبين قوله تعالى {ويستجيب الذين آمنوا} فأجاب تعالى عنه بقوله تعالى:
{ولو} أي: وهو يقبل ويستجيب والحال أنه لو {بسط الرزق} لهم هكذا كان الأصل لكن قال: {لعباده} لئلا يظن خصوصية ذلك بالتائبين إذ لا فرق بين التائب وغيره {لبغوا} أي: طغوا {في الأرض} أي: لصاروا يريدون كل ما يشتهون فيكثر القتل والسلب والنهب ونحو ذلك من أنواع الفساد، قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية وذلك إنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع وتمنيناها فنزلت، وذكر في كون بسط الرزق موجباً للطغيان وجوه: الأول: أن الله تعالى لو سوى في الرزق بين الكل امتنع كون البعض محتاجاً إلى البعض وذلك موجب خراب العالم وتعطيل المصالح، ثانيها: أن هذه الآية مختصة بالعرب فإنه كلما اتسع رزقهم ووجدوا من ماء المطر ما يرويهم ومن الكلأ ومن العشب ما يشبعهم قدموا على النهب والغارة، ثالثها: أن الإنسان متكبر بالطبع فإن وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبلية ومكروه انكسر وعاد إلى التواضع والطاعة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ومركباً بعد مركب وملبساً بعد ملبس» {ولكن ينزل} أي: لعباده من الرزق، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بسكون النون وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي {بقدر} أي: بتقدير لهم {ما يشاء} أي: ما اقتضته مشيأته {أنه} وقال تعالى: {بعباده} ولم يقل بهم لئلا يظن أن الأمر خاص بمن وسع عليهم أو ضيق عليهم {خبير بصير} يعلم جميع ظواهر أمورهم وبواطنها فيقيم كل أحد فيما يصلح له من صلاح وفساد وعدل وبغي.
روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام عن الله عز وجل في حديث طويل وفيه يقول الله عز وجل: «ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» ، و «أن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، وذلك أني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير» . وقرأ ما يشاء أنه نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية كالياء ولهم أيضاً إبدالها واو أو الباقون بتحقيقهما وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المد والقصر والروم والإشمام.
{وهو}(3/541)
أي: لا غيره {الذي ينزل الغيث} أي: المطر الذي يغاث به الناس وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وتشديد الزاي والباقون بسكون النون وتخفيف الزاي {من بعد ما قنطوا} أي: يئسوا من نزوله وعلموا أنه لا يقدر على إنزاله غيره ولا يقصد فيه سواء ليكون ذلك أدعى لهم إلى الشكر وقال تعالى: {وينشر رحمته} أي: يبسط مطره كما قال تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته} (الأعراف: 57)
وإن كان الأصل بنشره لأنه بين أنه غيث فقال رحمته بياناً وتعميماً، فينزل من السحاب المحمول بالريح من الماء ما لو اجتمع عليه الخلائق ما أطاقوا عمله، فتصبح الأرض ما بين غدران وأنهار ونبات نجم وأشجار وزهر وحب وثمار وغير ذلك من المنافع الصغار والكبار فلله ما أعلى هذه القدرة الباهرة والآية الظاهرة، فيخرج من الأرض التي هي من صلابتها تعجز عنها المعاول نجماً هو في لينه ألين من الحرير وفي لطافته ألطف من النسيم ومن سوق الأشجار التي تنثني فيها المناقير أغصاناً ألطف من ألسنة العصافير، فما أجلف من ينكر إخراجه الموتى من القبور أو يحيد عن ذلك بنوع من الغرور {وهو} أي: لا غيره {الولي} الذي لا أحد أقرب منه إلى عباده في شيء من الأشياء {الحميد} الذي يستحق مجامع الحمد مع أنه يحمد من يطيعه فيزيده من فضله ويصل حبله دائماً بحبله.
{ومن آياته} أي: العظيمة على استحقاقه لجميع صفات الكمال {خلق السموات} التي تعلمون أنها متعددة لما ترون من أمور الكواكب {والأرض} أي: جنسها على ما هما عليه من الهيآت وما اشتملا عليه من المنافع والخيرات وقوله تعالى: {وما بث} أي: فرق ونشر يجوز أن يكون مجرور المحل عطفاً على السموات أو مرفوعه عطفاً على خلق على حذف مضاف، أي: وخلق ما بث، قال أبو حيان: وفيه نظر لأنه يؤول إلى جره بالإضافة لخلق المقدر فلا يعدل عنه {فيهما} أي: في السموات والأرض {من دابة} أي: شيء فيه أهلية الدبيب بالحياة والحركة من الأنس والجن والملائكة وسائر الحيوانات على اختلاف ألوانهم وأصنافهم وأشكالهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم وأقطارهم ونواحيهم، فإن قيل: كيف يجوز إطلاق الدابة على الملائكة؟ أجيب: بوجوه أولها: ما مر من أن الدابة عبارة عما فيه الروح والحركة والملائكة لهم الروح والحركة، ثانيها: أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة وإن كان فاعله واحداً منهم، ومنه قوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} (الرحمن: 22)
ثالثها: قال ابن عادل: لا يبعد أن يقال: إنه تعالى خلق في السموات أنواعاً من الحيوانات يمشون مشي الأناسي على الأرض.
وروى العباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك العرش» الحديث. {وهو} أي: لا غيره {على جمعهم} أي: هذه الدواب من ذوي العقول وغيرهم للمحشر بعد تفريقهم بالقلوب والأبدان بالموت وغيره {إذا} في وقت {يشاء قدير} أي: بالغ القدرة كما كان بالغ القدرة عند الإيجاد من العدم يجمعهم في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينقذهم البصر ثم خاطب المؤمنين بقوله تعالى:
{وما أصابكم من مصيبة} أي: بلية وشدة {فبما كسبت أيديكم} أي: من الذنوب، وقرأ نافع وابن عامر بغير فاء والباقون بالفاء لأن ما شرطية(3/542)
أو مضمنة معناه وأما من أسقطها فقد استغنى بما في الباء من معنى السببية، فإن قيل: الكسب لا يكون باليد بل بالقدرة القائمة بها؟ أجيب: بأن المراد من لفظ اليد هنا القدرة وإذا كان هذا المجاز مشهوراً مستعملاً كان لفظ اليد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيهاً لله تبارك وتعالى عن الأعضاء، واختلفوا فيما يحصل في الدنيا من الآلام والأسقام والقحط والغرق والمصائب هل هي عقوبات على ذنوب سلفت أولاً، فمنهم من أنكر ذلك لوجوه أولها قوله تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} (غافر: 17)
بين تعالى أن ذلك إنما يحصل يوم القيامة وقال تعالى: {مالك يوم الدين} (الفاتحة: 4)
أي: يوم الجزاء وأجمعوا أن المراد منه يوم القيامة ثانيها: مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق والصديق فيمتنع أن تكون عقوبة على الذنوب بل حصول المصائب للصالحين والمتقين أكثر منه للمذنبين ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» . ثالثها: أن الدنيا دار تكليف فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار تكليف ودار جزاء معاً وهو محال، وقال آخرون: هذه المصائب قد تكون أجزية على ذنوب متقدمة لهذه الآية، ولما روى الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله أكثر» . وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: «ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أصابكم من مصيبة الآية، قال صلى الله عليه وسلم وسأفسرها لك يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله سبحانه وتعالى اكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فإنه أحلم من أن يعود بعد عفوه» وتمسكوا أيضاً بقوله تعالى: بعد هذه الآية {أو يوبقهن بما كسبوا} وذلك تصريح بأن ذلك الإهلاك بسبب كسبهم.
قيل لأبي سليمان الداراني: ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم؟ قال: إنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم وقرأ هذه الآية. وأجاب الأولون بأن حصول هذه المصائب يكون من باب الامتحان في التكليف لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء بل ذلك لزيادة درجات وفضائل وخصوصيات لا يصلون إليها إلا بها لأن أعمالهم لم تبلغها فهي خير من الله تعالى لهم، ويحمل قوله تعالى: {فبما كسبت أيديكم} على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم {ويعفو عن كثير} أي: من الذنوب بفضله ورحمته فلا يعاقب عليها ولولا عفوه وتجاوزه ما ترك على ظهرها من دابة قال الواحدي بعد أن روى حديث علي: وهذه أرجى آية في كتاب الله تعالى لأن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين؛ صنف: كفر عنهم بالمصائب، وصنف: عفا عنهم في الدنيا وهو كريم لا يرجع في عفوه، فهذه سنة الله تعالى مع المؤمنين وأما الكافر: فإنه لا تعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافى به يوم القيامة.
{وما أنتم بمعجزين} أي: فائتين ما قضى عليكم من المصائب {في الأرض وما لكم من دون الله} ولا في شيء أراده سبحانه منكم كائناً ما كان {من ولي} أي: يكون متولياً لشيء من أموركم بالاستقلال {ولا نصير} يدفع عنكم شيئاً يريده سبحانه بكم.
{ومن آياته} أي: الدالة على تمام قدرته واختياره ووحدانيته {الجواري} أي:(3/543)
السفن الجارية {في البحر كالأعلام} أي: كالجبال قالت الخنساء في مرثية أخيها صخر:
*وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار*
أي: جبل في رأسه نار شبهت به أخاها. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم «استنشد قصيدتها هذه فلما وصل الراوي هذا البيت قال: قاتلها الله تعالى ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت في رأسه ناراً» . وقال مجاهد: الأعلام القصور وأحدها علم، وقال الخليل بن أحمد: كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم.
فإن قيل: الصفة متى لم تكن خاصة بموصوفها امتنع حذف الموصوف فلا تقول: مررت بماش لأن المشي عام وتقول: مررت بمهندس وكاتب والجري ليس من الصفات الخاصة فما وجه ذلك؟ أجيب: بأن قوله تعالى: {في البحر} قرينة دالة على الموصوف، فذلك حذف ويجوز أن تكون هذه صفة غالبة كالأبطح والأبرق فوليت العوامل من دون موصوفها، وقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء وصلاً لا وقفاً، وابن كثير وهشام بإثباتها وقفاً بخلاف عن هشام الباقون بحذفها وقفاً ووصلاً وأمال الجواري محضة الدوري عن الكسائي وفتح الباقون.
{أن يشأ} أي: الله الذي حملكم فيها على ظهر الماء آية بينة سقط اعتبارها عندكم لشدة ألفكم لها {يسكن الريح} الذي يسيرها وأنتم مقرون بأن أمرها ليس إلا بيده، وقرأ نافع بألف بعد الياء جمعاً والباقون بغير ألف إفراداً {فيظللن} أي: فيتسبب عن ذلك أنهن يظللن أي: يقمن ليلاً كان أو نهاراً {رواكد} أي: ثوابت لا تجري {على ظهره} أي: البحر {إن في ذلك} أي: ما ذكر في حال السفن في سيرها وركوبها بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى بدليل ما للناس كافة من الإجماع على التوجه في ذلك إليه خاصة والانخلاع مما سواه {لآيات} أي: على إحاطته سبحانه بجميع صفات الكمال {لكل صبارٍ} أي: على البلاء والشدة {شكور} أي: على نعمائه وهو المؤمن الكامل يصبر في الشدة ويشكر في الرخاء فإن الإيمان نصفان؛ نصف: صبر، ونصف: شكر.
{أو} أي: أو يشأ في كل وقت أراده {يوبقهن} أي: يهلكهن بعصف الريح بأهلهن {بما كسبوا} أي: أهلهن من الذنوب {ويعفو} أي: إن يشأ {عن كثير} من ذنوبهم فلا يعاقب فينجيهم بعوم أو حمل على خشبة أو غير ذلك، وإن يشأ يرسل الريح طيبة فينجيها ويبلغها أقصى المراد إلى غير ذلك من التقادير الداخلة تحت المشيئة وقوله تعالى:
{ويعلم} قرأه نافع وابن عامر برفع الميم مستأنفاً والباقون بالنصب معطوف على تعليل مقدر أي: ليغرقهم لينتقم منهم وليعلم {الذين يجادلون} أي: عند النجاة بالعفو {في آياتنا} أي: يكذبون القرآن، أي: علم ظهور للناس {ما لهم من محيص} أي: مهرب من العذاب وجملة النفي سدت مسد مفعولي يعلم أو النفي معلق عن العمل، وقوله تعالى:
{فما أوتيتم} خطاب للمؤمنين وغيرهم {من شيء} أي: من أثاث الدنيا {فمتاع الحياة الدنيا} أي: القريبة الدنية لا نفع فيه لأحد إلا مدة حياته وذلك جدير بالإعراض عنه وعما يسببه من الأعمال إلا ما يقرب إلى الله تعالى {وما} أي: والذي {عند الله} أي: الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من نعم الدارين {خير} أي: في نفسه وأشد خيرية من النعم الدنيوية المحضة لانقطاع نفعه فسماه متاعاً تنبيها على قلته وحقارته، وجعله من متاع الدنيا تنبيهاً على انقراضه وأما(3/544)
الآخرة فهي خير {وأبقى} والباقي خير من الخسيس الفاني.
ثم بين تعالى أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفاً بصفات الصفة الأولى قوله سبحانه وتعالى {للذين آمنوا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة {وعلى} أي: والحال إنهم على {ربهم} أي: الذي لم يروا إحساناً قط إلا منه وحده بما رباهم من الإخلاص {يتوكلون} أي: يحملون جميع أمورهم عليه كما يحمل غيرهم متاعه على من يتوسم منه قوة على الحمل ولا يلتفتون في ذلك إلى شيء غيره أصلاً لينتفي عنهم بذلك الشرك الخفي كما انتفى بالإيمان الشرك الجلي وهذا يرد على من زعم أن الطاعة توجب الثواب لأنه يتوكل على عمل نفسه لا على الله تعالى فلا يدخل تحت الآية الصفة الثانية قوله عز وجل:
{والذين يجتنبون} أي: يكلفون أنفسهم أن يجانبوا {كبائر الإثم} أي: جنس الفعال الكبائر التي لا توجد إلا في ضمن أفرادها ويحصل بها دنس النفس فيوجب عقابها مع الجسم وعطف على كبائر قوله تعالى: {والفواحش} وهي ما أنكره الشرع والعقل والطبع، والكبائر كل ذنب تعظم عقوبته كالقتل والزنا والسرقة والفواحش ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال، وقال مقاتل: ما يوجب الحد وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة النساء، وقرأ حمزة والكسائي: بكسر الباء الموحدة قبل الياء الساكنة وهي للجنس فهي بمعنى قراءة الجمع، كما قرأ الباقون بفتح الموحدة وألف بعدها وبعد الألف همزة مكسورة والأولى أبلغ لشمولها المفردة، الصفة الثالثة: قوله تبارك وتعالى: {وإذا ما غضبوا} أي: غضباً هو على حقيقته من أمر مغضب في العادة وبين بضمير الفصل أن بواطنهم في غفرهم كظواهرهم فقال تعالى: {هم يغفرون} أي: هم الأخصاء والأحقاء بأنهم كلما تجدد لهم غضب جددوا غفراً أي: محواً للذنوب عيناً وأثراً مع القدرة على الانتقام فسجاياهم تقتضي الصفح دون الانتقام ما لم يكن من الظالم بغي لأنه لا يؤاخذ على مجرد الغضب إلا متكبر والتكبر لا يصلح لغير الإله، وفي الصحيح: «أنه صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله تعالى» . وروى ابن حاتم عن إبراهيم النخعي قال: «كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا إذا قدروا غفروا» ، الصفة الرابعة: قوله تعالى:
{والذين استجابوا} أي: أوجدوا الإجابة لما لهم من العلم الهادي إلى سبيل الرشاد {لربهم} أي: الداعي لهم إلى إجابة إحسانه إليهم، قال الرازي: المراد من هذا تمام الانقياد، فإن قيل: أليس أنه لما جعل الإيمان فيه شرطاً قد دخل في الإيمان إجابة الله تعالى؟ أجيب: بأنه يحمل هذا على الرضا بقضاء الله تعالى من صميم القلب وأن لا يكون في قلبه منازعة، الصفة الخامسة: قوله سبحانه وتعالى: {وأقاموا} أي: أداموا {الصلاة} الواجبة {وأمرهم} أي: كل ما ينوبهم مما يحوجهم إلى تدبير {شورى بينهم} أي: يتشاورون فيه مشاورة عظيمة مبالغين بما لهم من قوة الباطن ولا يعجلون في أمورهم والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور، الصفة السادسة، قوله تعالى: {ومما رزقناهم} أي: أعطيناهم بعظمتنا من غير حول منهم ولا قوة {ينفقون} أي: يديمون الإنفاق في سبيل الله تعالى كرماً منهم، وإن قل ما بأيديهم اعتماداً على فضل الله تعالى لا يقبضون أيديهم كالمنافقين.
{والذين إذا أصابهم البغي} أي: وقع بهم وأثر فيهم وهو التمادي على الرمي بالشر {هم ينتصرون}(3/545)
أي: ينتقمون ممن ظلمهم بمثل ظلمه، كما قال تعالى:
{وجزاء سيئة سيئة مثلها} سميت الثانية سيئة لمشابهتها للأولى في الصورة قال مقاتل: يعني القصاص وهي الجراحات والدماء، وقال مجاهد والسدي: هو جواب القبيح إذا قال: أخزاك الله يقول: أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي، قال سفيان بن عيينة: سألت سفيان الثوري عن ذلك فقال: إن شتمك رجل فتشتمه أو يفعل كذا فتفعل به فلم أجد عنده شيئاً، فسأل هشام بن حجر عن ذلك فقال: الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك وتشتمه وقد تكفلت هذه الجمل بأمهات الفضائل الثلاث، العلم والعفة والشجاعة على أحسن الوجوه، فالمدح بالاستجابة والصلاة دعاء إلى العلم وبالنفقة إلى العفة وبالانتصار إلى الشجاعة حتى لا يظن أن إذعانهم لما مضى مجرد ذل، والقصر على المماثلة دعاء إلى فضيلة التقسيط بين الكل وهي العدل، وهذه الأخيرة كافلة بالفضائل الثلاث فإن من علم المماثلة كان عالماً، ومن قصد الوقوف عندها كان عفيفاً ومن قسر نفسه على ذلك كان شجاعاً وقد ظهر من المدح بالانتصار بعد المدح بالغفران أن الأول: للعاجز، والثاني: للمتغلب المتكبر بدليل البغي، فإن قيل: هذه الآية مشكلة لوجهين؛ الأول: أنه لما ذكر قبله {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} ، كيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهو {الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} ، الثاني: أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن، قال تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} (البقرة: 237)
وقال تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} (الفرقان: 72)
وقال تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} (الأعراف: 199)
أجيب: بأن العفو على قسمين؛ أحدهما: أن يصير العفو سبباً لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عن جنايته، والثاني: أن يصير العفو سبباً لمزيد جراءة الجاني وقوة غيظه وغضبه، فآيات العفو محمولة على القسم الأول وهذه الآية محمولة على القسم الثاني، وحينئذ يزول التناقض روي: «أن زينب أقبلت على عائشة تشتمها فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عنها فلم تنته، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم سبيها» . وأيضاً فإنه تعالى لم يرغِّب ففي الانتصار بل بين أنه مشروع فقط، ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة بقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} ثم بين أن العفو أولى بقوله تعالى: {فمن عفا} أي: بإسقاط حقه كله أو بالنقص منه لتحقق البراءة مما حرم من المجاوزة {وأصلح} أي: أوقع الإصلاح بين الناس بالعفو والإصلاح لنفسه ليصلح الله ما بينه وبين الناس فيكون بذلك منتصراً من نفسه لنفسه {فأجره على الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال فهو يعطيه على حسب ما يقتضيه مفهوم هذا الاسم الأعظم، وهذا سر لفت الكلام إليه عن مظهر العظمة وقوله صلى الله عليه وسلم «ما زاد الله بعفو إلا عزاً» {إنه لا يحب الظالمين} أي: لا يكرم الواضعين للشيء في غير محله فيترتب عليهم عقابه.
{ولمن انتصر} أي: سعى في نصر نفسه بجهده {بعد ظلمه} أي: بعد ظلم الغير له وليس قاصداً التعدي عن حقه ولو استغرق انتصاره جميع زمان التعدي {فأولئك} أي: المنتصرون لأجل دفع الظالم عنهم {ما عليهم} وأكد بإثبات الجار فقال تعالى: {من سبيل} أي: عتاب ولا عقاب لأنهم فعلوا ما أبيح لهم من الانتصار روى النسائي عن عائشة قالت: «ما علمت حتى دخلت على زينب وهي غضبى، فأقبلت علي فأعرضت(3/546)
عنها حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم دونك فانتصري، فأقبلت عليها حين رأيتها قد يبس ريقها في فمها ما ترد علي شيئاً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه» . واحتجوا بهذه الآية على أن سراية القود مهدرة لأنه فعل مأذون فيه فيدخل تحت هذه الآية.
{إنما السبيل} أي: الطريق السالك الذي لا منع منه أصلاً {على الذين يظلمون الناس} أي: يوقعون بهم ظلمهم تعمداً عدواناً {ويبغون} أي: يتجاوزون الحدود {في الأرض} بما يفسدها بعد إصلاحها بتهيئتها للصلاح طبعاً وعلماً وعملاً {بغير الحق} أي: الكامل لأن الفعل قد يكون بغياً وإن كانت مصحوباً بحق كالانتصار المقرون بالتعدي فيه {أولئك} أي: البعداء من الله تعالى {لهم عذاب أليم} أي: مؤلم يعم إيلامه أبدانهم وأرواحهم بما آلموا من ظلموه.
{ولمن صبر} أي: عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى {وغفر} أي: صرح بإسقاط العقاب والعتاب بمحي عين الذنب وأثره {فإن ذلك} أي: الفعل الواقع منه البالغ في العلو حداً لا يوصف {لمن عزم الأمور} أي: معزوماتها بمعنى المطلوبات شرعاً. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد ظلم مظلمة فعفا لله إلا أعزه الله تعالى بها نصراً» .
{ومن يضلل الله} أي: الذي له صفات الكمال بأن لم يوفقه {فما له من ولي} أي: يتولى أمره في الهداية بالبيان لما أخفاه الله تعالى عنه {من بعده} أي: بعد إضلال الله تعالى له، وهذا صريح في جواز أن الإضلال من الله تعالى وأن الهداية ليست في مقدر أحد سوى الله تعالى وقال تعالى: {وترى الظالمين} موضع وتراهم لبيان أن الضال لا يضع شيئاً في موضعه.
ولما كان عذابهم حتماً عبر عنه بالماضي فقال: {لما رأوا العذاب} أي: يوم القيامة المعلوم مصير الظالم إليه {يقولون} أي: مكررين لما اعتراهم من الدهش وغلب على قلوبهم من الوجل {هل إلى مرد} أي: إلى دار العمل {من سبيل} أي: طريق فيتمنون حينئذ الرجوع إلى الدنيا لتدارك ما فات من الطاعات الموجبة للنجاة.
{وتراهم} أي: في ذلك اليوم والضمير في قوله تعالى: {يعرضون عليها} يعود على النار لدلالة العذاب عليها. ثم ذكر حالهم عند عرضهم على النار بقوله تعالى: {خاشعين} أي: خاضعين حقيرين بسبب ما لحقهم {من الذل} لأنهم عرفوا إذ ذاك ذنوبهم وانكشفت لهم عظمة من عصوه {ينظرون} أي: يبتدئ نظرهم المكرر {من طرف} أي: تحريك الأجفان {خفي} أي: ضعيف النظر يسارقون النظر إلى النار خوفاً منها وذلة في أنفسهم كما ينظر المقتول إلى السيف فلا يقدر (أن) يملأ عينه منه ولا يفتح عينه إنما ينظر ببعضها، ويصح أن تكون من بمعنى الباء أي: بطرف خفي ضعيف من الذل، فإن قيل: قد قال الله تعالى في صفة الكفار أنهم يحشرون عمياً فكيف قال تعالى هنا: {إنهم ينظرون من طرف خفي} ؟ أجيب: بأنهم يكونون في الابتداء هكذا ثم يصيرون عمياً أو أن هذا في قوم وذاك في قوم آخرين، وقيل: ينظرون إلى النار بقلوبهم والنظر بالقلب خفي.
ولما وصف تعالى حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال تعالى: {وقال} أي: في ذلك الموقف الأعظم على سبيل التعيير لهم والتبكيت والتوبيخ والتقريع {الذين آمنوا} أي: أوقعوا هذه الحقيقة سواء كان إيقاعهم لها في أدنى الرتب أو أعلاها {إن الخاسرين} أي:(3/547)
الذين كملت خسارتهم {الذين خسروا أنفسهم} بما استغرقها من العذاب {وأهليهم} بمفارقتهم لهم، أما في إطباق العذاب إن كانوا مثلهم في الخسران أو في دار الثواب إن كانوا من أهل الإيمان {يوم القيامة} أي: هو يوم فوت التدارك لأنه للجزاء لا للعمل لفوات شرطه بفوات الإيمان بالغيب لانكشاف الغطاء، وهذا القول يحتمل أن يكون واقعاً في الدنيا أو يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة وقوله تعالى: {ألا إن الظالمين} أي: الراسخين في هذا الوصف {في عذاب مقيم} أي: دائم يحتمل أن يكون من تمام كلام المؤمنين وأن يكون تصديقاً من الله تعالى لهم.
{وما كان} أي: ما صح ووجد {لهم} وأغرق في النفي فقال تعالى: {من أولياء} أي: فما لهم من ولي لأن النصرة إذا انتفت من الجمع انتفت من الواحد من باب أولى {ينصرونهم} أي: يوجدون نصرهم في وقت من الأوقات {من دون الله} أي: الملك الأعظم، أي: لا في الدنيا بأن يقدروا على إنقاذهم من وصف الظلم ولا في الآخرة بإنقاذهم من العذاب {ومن يضلل الله} أي: يوجد إضلاله إيجاداً بليغاً بما أفاده الفك على سبيل الاستمرار بعدم البيان أو بعدم التوفيق بعد البيان {فما له} بسبب إضلال من له جميع صفات الكمال وأغرق تعالى في النفي بقوله سبحانه: {من سبيل} أي: طريق إلى الحق في الدنيا وإلى الجنة في الآخرة.
ولما ذكر تعالى الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود فقال تعالى:
{استجيبوا لربكم} أي: أجيبوه بالتوحيد والعبادة فإنه الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه {من قبل أن يأتي يوم} هو يوم القيامة {لا مرد له من الله} أي: الذي له جميع العظمة فإنه إذا أتى به لا يرده وإذا لم يكن له مرد منه لم يكن له مرد من غيره ومتى عدم ذلك أنتج قوله تعالى: {ما لكم} وأغرق في النفي بقوله تعالى: {من ملجأ} أي: تلجؤون إليه {يومئذ} أي: في ذلك اليوم وزاد في التأكيد بإعادة النافي وما في حيزه إبلاغاً في التحذير فقال تعالى: {وما لكم من نكير} أي: إنكار لما اقترفتموه لأنه مدون في صحائفكم تشهد عليه ألسنتكم وجوارحكم.
{فإن أعرضوا} أي: عن الإجابة فيما دعوتهم إليه {فما أرسلناك} أي: بما لنا من العظمة {عليهم حفيظاً} أي: تقهرهم على امتثال ما أرسلناك به {إن عليك إلا البلاغ} لما أرسلناك به، وأما الهداية والإضلال فإلينا، وهذا كما قال الجلال المحلي: قبل الأمر بالجهاد {وإنا إذا أذقنا} أي: بالعظمة التي لا يمكن مخالفتها {الإنسان} أي: بما جبلناه عليه من النقص وعدم التمالك {منا رحمة} قال ابن عباس رضي الله عنهما: نوعاً من أنواع الإكرام من صحة أو غنى أو نحو ذلك {فرح بها} أي: بتلك الرحمة وأفرد ضمير فرح نظراً للفظ الإنسان إشارة إلى أنه مطبوع على أنه ليس عليه إلا من نفسه، ولو كان أهل الأرض كلهم على غير ذلك ونعمة الله تعالى عليهم، وإن كانت في الدنيا عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة القطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سميت ذوقاً، فبين تعالى أن الإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به وعظم غروره ووقع في العجب والكبر وظن أنه فاز بكل المنى ووصل إلى أقصى السعادات، وهذه طريقة من ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة وجمع ضمير الإنسان في قوله تعالى: {وإن تصبهم} باعتبار معناه {سيئة} أي: شيء يسوءهم في الحال كالمرض والفقر والقحط {بما قدمت أيديهم} أي: قدموه وعبر بالأيدي(3/548)
لأن أكثر الأفعال بها {فإن الإنسان} أي: الآنس بنفسه المعرض عن غيره بما هو طبع له بسبب سيئة تضره {كفور} أي: بليغ الكفران ينسى النعمة رأساً ويذكر البلية ويعظمها ولم يتأمل سببها وتصدير الشرطية الأولى: بإذا، والثانية: بإن لأن إذاقته النعمة محققة من حيث إنها عادة مقضيّة بالذات بخلاف إصابة البلية وإقامة علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضعه الضمير في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة، فإن كان في نعمة أشر وبطر، وإن كان في نقمة أيس وقنط، فهذا حال الجنس من حيث هو ومن وفقه الله تعالى جنبه ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم «المؤمن إن أصابه سراء
شكر فكان خيراً، وإن أصابه ضراء صبر فكان خيراً» .
ولما ذكر تعالى إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بعدها السيئة أتبع ذلك بقوله تعالى:
{لله} أي: الملك الأعظم وحده {ملك السموات} كلها على علوها وتطابقها وكبرها وعظمها وتباعد أقطارها {والأرض} جميعها على تباينها وتكاثفها واختلاف أقطارها وسكانها واتساعها {يخلق} أي: على سبيل التجدد والاختيار والاستمرار {ما يشاء} وإن كان على غير اختيار العباد لئلا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه، بل إذا علم أن الكل ملك لله وملكه وإنما حصل له ذلك القدر إنعاماً من الله تعالى عليه فيصير ذلك حاملاً له على مزيد الطاعة.
ثم ذكر من أقسام تصرفه تعالى في العالم أنه يخص بعض الناس بالأولاد الإناث والبعض بالذكور والبعض بهما والبعض محروم من الكل كما قال تعالى: {يهب} أي: يخلق {لمن يشاء} أولاداً {إناثاً} فقط ليس معهن ذكر {ويهب لمن يشاء الذكور} فقط ليس معهم أنثى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: بتسهيل الهمزة الثانية كالياء وتبدل أيضاً واواً خالصة، والباقون بتحقيقهما وفي الابتداء الجميع بالتحقيق، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المد والتوسط والقصر ولهما أيضاً تسهيلها مع المد والقصر والروم والإشمام.
{أو يزوجهم} أي: الأولاد فيجعلهم أزواجاً أي: صنفين حال كونهم {ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً} أي: لا يولد له.
قال الرازي: وفي الآية سؤالات؛ الأول: أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور أولاً ثم قدم الذكور على الإناث ثانياً فما السبب أي: فما الحكمة في هذا التقديم والتأخير؟ الثاني: أنه نكر الإناث وعرف الذكور، وقال في الصنفين معاً: أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً؟ الثالث: أنه لما كان حصول الولد هبة من الله تعالى فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأي: حاجة في عدم حصوله إلى قوله تعالى: {ويجعل من يشاء عقيماً} الرابع: هل المراد بهذا الحكم جمع معينون أو الحكم على الإنسان المطلق ثم قال: والجواب عن الأول: أن الكريم يسعى في أن يقع الختم على الخير والراحة فإذا وهب الأنثى أولاً ثم أعطى الذكر بعدها فكأنه نقله من الغم إلى الفرح وهذا غاية الكرم، أما إذا أعطى الذكر أولاً ثم أعطى الأنثى ثانياً فكأنه نقله من الفرح إلى الغم، فذكر الله تعالى هبة الأنثى أولاً ثم ثنى بهبة الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون أليق بالكرم، قيل: من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر لأن الله تعالى بدأ بالإناث، وأما تقديم ذكر الذكور على ذكر الإناث ثانياً فلأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى والأفضل مقدم على المفضول، وأما الجواب عن تنكير الإناث وتعريف(3/549)
الذكور فهو أن المقصود منه التنبيه على أن الذكر أفضل من الأنثى.
وأما قوله تعالى: {أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً} فهو أن كل شيئين يقترن أحدهما بالآخر فهما زوجان وكل واحد منهما يقال له: زوج والكناية في يزوجهم عائدة على الإناث والذكور، والمعنى: يجعل الذكور والإناث أزواجاً أي: يجمع له بينهما فيولد له الذكور والإناث وأما الجواب عن قوله تعالى: {عقيماً} فالعقيم: هو الذي لا يلد ولا يولد له يقال: رجل عقيم وامرأة عقيم، وأصل العقم: القطع، ومنه قيل الملك عقيم لأنه تقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق، وأما الجواب عن الرابع: فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يهب لمن يشاء إناثاً يريد لوطاً وشعيباً عليهما السلام لم يكن لهما إلا البنات ويهب لمن يشاء الذكور يريد إبراهيم عليه السلام لم يكن له إلا الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً يريد محمداً صلى الله عليه وسلم كان له من البنين ثلاثة على الصحيح القاسم وعبد الله وإبراهيم ومن البنات أربع زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، ويجعل من يشاء عقيماً يريد يحيى وعيسى عليهما السلام، وقال أكثر المفسرين: هذا على وجه التمثيل وإنما الحكم عام في كل الناس لأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله تعالى في تكوين الأشياء كيف شاء فلا معنى للتخصيص ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله تعالى: {إنه عليم} أي: بالغ العلم بمصالح العباد وغيرها {قدير} أي: شامل القدرة على تكوين ما يشاء.
ولما بين تعالى حال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه فقال تعالى:
{وما كان} أي: وما صح {لبشر} من الأقسام المذكورة وحل المصدر الذي هو اسم كان ليقع التصريح بالفاعل والمفعول على أتم الوجوه فقال تعالى: {أن يكلمه} وأظهر موضع الإضمار إعظاماً للوحي وتشريفاً لمقداره فقال تعالى: {الله} أي: يوجد الملك الأعظم الجامع بصفات الكمال في قلبه كلاماً {إلا} أن يوحي إليه {وحياً} أي: كلاماً خفياً يوجده فيه بغير واسطة بوجه خفي لا يطلع عليه أحد إما بمشافهة كما ورد في حديث المعراج، وإما بإلهام أو رؤية منام كما رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أن يذبح ولده، أو بغير ذلك سواء خلق الله تعالى في المتكلم قوة السماع له وهو أشرف هذه الأقسام أم لا ومن الثاني قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى} (القصص: 7)
{وأوحى ربك إلى النحل} (النحل: 68)
{وأوحى في كل سماء أمرها} (فصلت: 12)
{أو} إلا {من وراء حجاب} أي: من وجه لا يرى فيه المتكلم مع السماع للكلام على وجه الجهر كما وقع لموسى عليه السلام {أو يرسل رسولاً} من الملائكة إما جبريل عليه السلام أو غيره.
تنبيه: ذكر المفسرون: أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تكلم الله تعالى وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال: «لم ينظر موسى إلى الله عز وجل فأنزل الله تعالى {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً} ، {فيوحي} أي: الرسول إلى المرسل إليه أن يكلمه {بإذنه} أي: الله تعالى {ما يشاء} أي: الله عز وجل، وقرأ نافع برفع اللام من يرسل وسكون الياء من يوحي والباقون بنصب اللام والياء أما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه رفع على إضمار مبتدأ، أي: هو يرسل، ثانيها: أنه عطف على وحياً على أنه حال لأن وحياً في تقدير الحال أيضاً فكأنه قال: إلا موحياً إليه أو مرسلاً، ثالثها: أن يعطف على ما يتعلق به(3/550)
من وراء إذ تقديره أو يسمع من وراء حجاب ووحياً في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه أو يرسل، والتقدير: إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً.
وأما القراءة الثانية: ففيها ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن يعطف على المضمر الذي يتعلق به من وراء حجاب إذ تقديره أو يكلمه من وراء حجاب وهذا الفعل المقدر معطوف على وحياً، والمعنى: إلا بوحي أو سماع من وراء حجاب أو إرسال رسول، ولا يجوز أن يعطف على أن يكلمه لفساد المعنى إذ يصير التقدير: وما كان لبشر أن يرسل الله رسولاً بل يفسد لفظاً ومعنى، وقال مكي: لأنه يلزم منه نفي الرسل ونفي المرسل إليهم، ثانيها: أن ينصب بأن مضمرة وتكون هي وما نصبته معطوفين على وحياً ووحياً حال فيكون هذا أيضاً حالاً والتقدير: إلا موحياً أو مرسلاً، ثالثها: أنه معطوف على معنى وحياً فإنه مصدر مقدر بأن والفعل والتقدير: إلا بأن يوحي إليه أو بأن يرسل ذكره مكي وأبو البقاء {إنه} أي: هذا الذي له هذا التصرف العظيم في هذا الوحي الكريم {علي} أي: بالغ العلو جداً عن صفات المخلوقين {حكيم} يفعل ما تقتضيه حكمته فيكلم تارة بواسطة وتارة بغير واسطة إما عياناً وإما من وراء حجاب.
{وكذلك} أي: ومثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل {أوحينا} بما لنا من العظمة {إليك} يا أفضل الرسل {روحاً} قال ابن عباس: نبوة وقال الحسن: رحمة وقال السدي: وحياً وقال الكلبي: كتاباً وقال الربيع: جبريل وقال مالك بن دينار: القرآن، وسمي الوحي روحاً؛ لأنه مدبر الروح كما أن الروح مدبر للبدن وزاد عظمته بقوله تعالى: {من أمرنا} أي: الذي نوحيه إليك.
ثم بين تعالى حال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قبل الوحي بقوله سبحانه: {ما كنت} أي: فيما قبل الأربعين التي مضت لك وأنت بين ظهراني قومك {تدري} أي: تعرف قبل الوحي إليك {ما الكتاب} أي: القرآن {ولا الإيمان} أي: تفصيل الشرايع على ما جددناه لك بما أوحيناه إليك وهو صلى الله عليه وسلم وإن كان قبل النبوة قد كان مقراً بوحدانية الله تعالى وعظمته، فإنه كان يصلي ويحج ويعتمر ويبغض اللات والعزى ولا يأكل ما ذبح على النصب لكنه لم يكن يعلم الرسل على ما هم عليه، ولا شك أن الشهادة له صلى الله عليه وسلم نفسه بالرسالة ركن الإيمان ولم يكن له علم بذلك وكذلك الملائكة، فصح نفي المنفي لفواته بفوات جزئه وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: الإيمان هنا الصلاة لقوله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (البقرة: 143)
أي: صلاتكم، وقيل: هذا على حذف ومعناه: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان حين كنت طفلاً في المهد، وقيل: الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به، وقال بعضهم: صفات الله تعالى على قسمين: منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقول ومنها: ما لا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوة.
تنبيه: ما؛ الأولى نافية والثانية استفهامية والجملة الاستفهامية معلقة للدراية فهي في محل نصب لسدها مسد مفعولين والجملة المنفية بأسرها في محل نصب على الحال من الكاف في إليك، وفي الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبداً قبل النبوة بشرع وفي المسألة خلاف للعلماء فقيل: كان يتعبد على دين إبراهيم عليه السلام وقيل: غيره والضمير في قوله تعالى {ولكن جعلناه نوراً} يعود إما لروحاً وإما للكتاب وإما لهما وهو أولى لأنهما(3/551)
مقصود واحد فهو كقوله تعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة: 62)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني الإيمان وقال السدي: يعني القرآن {نهدي} على عظمتنا {به من نشاء} خاصة لا يقدر أحد على هدايته بغير مشيئتنا {من عبادنا} بخلق الهداية في قلبه بالتوفيق فهذه لا يقدر عليها أحد غير الله تعالى، وأما الهداية بالتبيين والإرشاد فهي قوله تعالى: {وإنك} يا أفضل الخلق {لتهدي} أي: تبين وترشد وأكده لإنكارهم ذلك {إلى صراط} أي: طريق واضح جداً {مستقيم} أي: شديد التقوم وهو دين الإسلام وقوله تعالى:
{صراط الله} أي: الملك الأعظم الجامع لصفات الكمال وقرأ سراط في الموضعين قنبل بالسين وخلف: بالإشمام أي: بين الصاد والزاي والباقون بالصاد الخالصة. ثم وصف سبحانه وتعالى نفسه بأنه مالك لما في السموات والأرض بقوله تعالى: {الذي له ما في السموات وما في الأرض} خلقاً وملكاً وعبيداً {ألا إلى الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال الذي تعالى عن مثل وند وهو الكبير المتعال لا إلى غيره {تصير} أي: على الدوام وإن كانت في الظاهر في ملك غيره بحيث يظن الجاهل أن ملكها مستقر له.
قال أبو حيان: أخبر بالمضارع والمراد به الديمومة كقوله: زيد يعطي ويمنع أي: من شاء ذلك ولا يراد به حينئذ حقيقة المستقبل {الأمور} كلها من الخلق والأمر معنى وحساً كما كانت الأمور كلها مبتدأة منه وحده وفي ذلك وعد للمطيعين ووعيد للمجرمين فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب، وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة حم عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون ويسترحمون له» حديث موضوع.
سورة الزخرف
مكية وهي تسع وتسعون آية وثمانمائةوثلاثة وثلاثون كلمة وثلاثة آلاف وأربعمائة حرف
{بسم الله} أي: الذي له مقاليد الأمور كلها فهو يعطي من يشاء وإن طال سؤله {الرحمن} الذي نال بره جميع خلقه على حسب منازلهم عنده {الرحيم} الذي يقرب إليه من يشاء زلفى وإن وصل في البعد إلى الحد الأقصى وقد تقدم الكلام على قوله تعالى:
{حم} والواو في قوله تعالى:
{والكتاب} أي: القرآن {المبين} أي: مظهر طريق الهدى وما يحتاج إليه من الشريعة عاطفة إن جعلت حم قسماً وإلا كانت للقسم وقوله تعالى:
{إنا جعلناه} أي: أوجدنا هذا الكتاب {قرآناً عربيا} أي: بلغة العرب جواب القسم وهذا عندهم من البلاغة وهو كون القسم والمقسم عليه من وادٍ واحد كقول أبي تمام:
وثناياك إنها إغريض أي: طلع وبرد، وقيل: كل أبيض طري ولآل توم وبرق وميض والتوم جمع تومة وهي حبة تعمل من الفضة كالدرة، والوميض مصدر ومض أي: لمع لمعاً خفيفاً.
تنبيه: احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه؛ الأول: أنها تدل على أن القرآن مجعول والمجعول هو المصنوع المخلوق، الثاني: أنه وصفه بكونه قرآناً وهو إنما سمي قرآناً لأنه جعل بعضه مقروناً بالبعض وما كان كذلك كان مصنوعاً، الثالث:(3/552)
وصفه بكونه عربياً وإنما يكون عربياً لأن العرب اختصت بوضع ألفاظه في اصطلاحهم وذلك يدل على أنه مجعول والتقدير حم ورب الكتاب المبين، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم يا رب طه ويس ويا رب القرآن العظيم. وأجاب الرازي عن ذلك: بأن هذا الذي ذكرتموه حق لأنكم استدللتم بهذه الوجوه على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبة محدثة وذلك معلوم بالضرورة ومن الذي ينازعكم فيه {لعلكم} أي: يا أهل مكة {تعقلون} أي: لتكونوا على رجاء عند من يصح منه الرجاء من أن تفهموا معانيه وأحكامه وبديع وصفه ومعجز وضعه ونظامه فترجعوا عن كل ما أنتم عليه من المغالبة ولا بد أن يقع هذا التعقل فإن القادر إذا عبر بأداة الترجي حقق ما يقع ترجيه ليكون بين كلامه وكلام العاجز فرق وقوله تعالى:
{وإنه} أي: القرآن عطف على إنا أي: مثبت {في أم الكتاب} أي: أصل الكتب وهو اللوح المحفوظ، وقال قتادة: أم الكتاب أصل الكتاب وأم كل شيء أصله، وقال ابن عباس: أول ما خلق الله تعالى القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق فالكتاب مثبت عنده في اللوح المحفوظ كما قال تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} (البروج: 22) ، فإن قيل: ما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علام الغيوب يستحيل عليه السهو والنسيان؟.
أجيب: بأنه تعالى لما أثبت في ذلك أحكام حوادث المخلوقات ثم إن الملائكة إذا شاهدوا أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافقة ذلك المكتوب استدلوا بذلك على كمال حكمته وعلمه، وقيل: المراد بأم الكتاب الآيات المحكمة لقوله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب} (آل عمران: 7)
والمعنى: أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بكسر الهمزة والباقون بضمها واتفقوا في الابتداء بالهمزة على الضم وقوله تعالى: {لدينا} أي: عندنا بدل من الجار قبله {لعلي} أي: رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزاً من بينها {حكيم} أي: ذو حكمة بالغة أو محكم في أبواب البلاغة والفصاحة.
{أفنضرب} أي: أنهملكم فنضرب أي: ننجي مجاوزين {عنكم الذكر} أي: القرآن وفي نصب قوله تعالى: {صفحاً} أوجه؛ أحدها: أنه مصدر من معنى نضرب لأنه يقال ضرب عن كذا وأضرب عنه بمعنى أعرض عنه وصرف وجهه عنه قال طرفة:
*اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس*
واضرب بفتح الباء أصله اضربن بنون التوكيد الخفيفة فحذفت النون وحركت الباء بالفتح، والطارق ما يطرق بالليل والقونس: منبت شعر الناصية وهو عظمٌ نابت بين أذني الفرس، ثانيها: أنه منصوب على الحال أي: صافحين ثالثها أن يكون مفعولاً من أجله وقيل غير ذلك {أن} أي: أنفعل ذلك لأن {كنتم قوماً مسرفين} أي: مشركين لا نفعل ذلك وهو في الحقيقة علة مقتضية لترك الإعراض، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الهمزة على أن الجملة شرطية مخرجة للمحقق ومخرج المشكوك استجهالاً لهم وما قبلها دليل الجزاء، وقرأ الباقون بفتحها وذكر تعالى تأنيساً للنبي صلى الله عليه وسلم وتأسية وتعزية وتسلية قوله سبحانه وتعالى:(3/553)
{وكم أرسلنا} أي: على ما لنا من العظمة {من نبي في الأولين} أي: في الأمم الماضية ثم حكى حالهم الماضية بقوله تعالى:
{وما} أي: والحال أنه ما {يأتيهم} وأغرق في النفي بقوله تعالى: {من نبي} أي: في أمة بعد أمة أو زمان بعد زمان {إلا كانوا} أي: خلقاً وطبعاً {به يستهزؤون} كما استهزأ قومك بك فلا ينبغي أن تتأذى من قومك بسبب تكذيبهم واستهزائهم لأن المصيبة إذا عمت خفت.
تنبيه: كم خبرية مفعول مقدم ومن نبي تمييز وفي الأولين متعلق بالإرسال أو بمحذوف على أنه صفة لنبي.
{فأهلكنا} أي: فتسبب عن الاستهزاء بالرسل أنا أهلكنا {أشد منهم} أي: من قريش الذين يستهزؤون بك {بطشاً} أي: قوة وكان الأصل الإضمار ولكنه أظهر الضمير صارفاً أسلوب الخطاب إلى الغيبة إقبالاً على نبيه صلى الله عليه وسلم تسلية له وإبلاغاً في وعيدهم {ومضى} أي: سبق في آيات الله {مثل} أي: صفة {الأولين} في الإهلاك وفي لك وعد للرسول صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم مثل ما جرى على الأولين واللام في قوله تعالى:
{ولئن} لام قسم {سألتهم} أي: سألت قومك {من خلق السموات} على علوها وسعتها {والأرض} على كثرة عجائبها وعظمها وقوله تعالى: {ليقولن} حذف منه نون الرفع لتوالي النونات وواو الضمير لالتقاء الساكنين {خلقهن} الذي هو موصوف بأنه {العزيز} أي: الذي لا يغالب {العليم} بما كان وما يكون.
تنبيه: هذا الجواب مطابق للسؤال من حيث المعنى إذ لو جاء على اللفظ لجيء فيه بجملة ابتدائية كالسؤال فكان الجواب هنا الله كما غيره من الآيات، لكنه عدل عنه إلى المطابقة المعنوية مكرراً للفعل تأكيداً لإغراقهم زيادة في توبيخهم وتنبيهاً على عظم غلطهم.
ولما تم الإخبار عنهم ابتدأ الأدلة على نفسه بذكر مصنوعاته فقال تعالى:
{الذي جعل لكم} ولو كان ذلك قولهم لقالوا لنا: {الأرض مهاداً} أي: فراشاً قارة ثابتة كالمهد للصبي ولو شاء لجعلها مزلة لا ينبت فيها شيء كما ترون من بعض الجبال، فالانتفاع بها إنما حصل لكونها واقفة ساكنة فإنها لو كانت متحركة ما أمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية وستر عيوب الأحياء والأموات، ولأن المهد موضع راحة الصبي فكانت الأرض مهاداً لكثرة ما فيها من الراحات، وقرأ الكوفيون بفتح الميم وسكون الهاء والباقون بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعد الهاء {وجعل لكم فيها سبلاً} أي: طرقاً تسلكونها وذلك أن انتفاع الناس إنما يكمل إذا سعوا في أقطار الأرض فهيأ تعالى تلك السبل ووضع عليها علامات ليحصل الانتفاع ولو شاء لجعلها بحيث لا يسكن في مكان منها كما جعل بعض الجبال كذلك ثم ذكر الغاية في ذلك فقال تعالى: {لعلكم تهتدون} أي: لكي تهتدوا إلى مقاصدكم في الأسفار وغيرها فتتوصلون بها إلى الأقطار الشاسعة والأقاليم الواسعة أو لتهتدوا إلى الحق في الدين.
{والذي نزل} أي: بحسب التدريج ولولا قدرته تعالى الباهرة لكان دفعة واحدة أو قريباً منها {من السماء} أي: المحل العالي {ماء} أي: لزرعكم وثماركم وشرابكم بأنفسكم وأنعامكم {بقدر} أي: بقدر حاجتكم إليه من غير زيادة ولا نقصان لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم {فأنشرنا} أي: أحيينا {به} أي: الماء {بلدة} أي: مكاناً يجتمع فيه للإقامة يعتنون بإحيائه(3/554)
يتعاونون على دوام إبقائه {ميتاً} أي: كان قد يبس نباته وعجز أهله عن إيصال الماء إليه ليحيا به، قال البقاعي: ولعله أنث البلد وذكر الميت إشارة إلى أن بلوغها في الضعف والموت بلغ الغاية بضعف أرضه في نفسها وضعف أهله عن إحيائه.
{كذلك} أي: مثل هذا الإخراج العظيم الذي شاهدتموه في النبات {تخرجون} من قبوركم أحياء، والمعنى: أن هذا الدليل كما دل على قدرة الله تعالى وحكمته فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة، ووجه التشبيه: أنه جعلهم أحياء بعد الإماتة كهذه الأرض التي انتشرت بعدما كانت ميتة، وقيل: بل وجه التشبيه أن يعيدهم ويخرجهم من الأرض بماء كالمني كما تنبت الأرض بماء المطر قال ابن عادل: وهذا ضعيف لأن ظاهر لفظ الإشارة الإعادة فقط دون هذه الزيادة. ثم شرع تعالى في إكمال ما تقتضيه الحال من الأوصاف فقال عز من قائل:
{والذي خلق الأزواج} أي: الأصناف المتشاكلة التي لا يكمل شيء منها غاية الكمال إلا بالآخر على ما دبره سبحانه في نظم هذا الوجود {كلها} من النبات والحيوان وغير ذلك من سائر الأكوان لم يشاركه في شيء منها أحد وقال ابن عباس رضي الله عنه: الأزواج الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى، وقال بعض المحققين: كل ما سوى الله تعالى فهو زوج كالفوق والتحت واليمين واليسار والقدام والخلف والماضي والمستقبل والذوات والصفات والصيف والشتاء والربيع والخريف، وكونها أزواجاً يدل على أنها ممكنة الوجود في ذواتها محدثة مسبوقة بالعدم، فأما الحق تعالى: فهو الفرد المنزه عن الضد والند والمقابل والمعاضد، فلهذا قال تعالى: {والذي خلق الأزواج كلها} فهو مخلوق فدل هذا على أن خالقها فرد مطلق منزه عن الزوجية، قال الرازي: وأيضاً علماء الحساب يثبتون أن الفرد أفضل من الزوج من وجود الأول أن الاثنين لا توجد إلا عند حصول وحدتين، فالزوج محتاج إلى الفرد والفرد هو الوحدة وهي غنية عن الزوج والغني أفضل من المحتاج، الثاني: أن الزوج يقبل القسمة بقسمين متساويين والفرد لا يقبل القسمة وقبول القسمة انفعال وتأثر وعدم قبولها قوة وشدة فكان الفرد أفضل من الزوج، ثم ذكر وجوهاً أخر تدل على أن الفرد أفضل من الزوج وإذا كان كذلك ثبت أن الأزواج ممكنات ومخلوقات وأن الفرد هو القائم بذاته المستقل بنفسه الغني عما سواه {وجعل لكم من الفلك} أي: السفن العظام في البحر {والأنعام} كالإبل في البر {ما تركبون} وحذف العائد لفهم المعنى تغليباً للمتعدي بنفسه في الأنعام على المتعدي بواسطة في الفلك، والعائد مجرور في الأول أي: فيه منصوب في الثاني وذكر الضمير وجمع الظهور في قوله تعالى:
{لتستووا على ظهوره} نظراً للفظ ما ومعناها: ولما أتم النعمة بخلق ما تدعو إليه الحاجة وجعله على وجه دال على ما له من الصفات، ذكر ما ينبغي أن تكون من غايتها على ما هو المتعارف بينهم من شكر المنعم، فقال دالاً على عظم قدر النعمة وبعد غايتها وعلو أمر الذكر بحرف التراخي {ثم تذوكرا} أي: بقلوبكم وصرف القول إلى وجه التربية حثاً على تذكر إحسانه للانتهاء عن كفرانه والإقبال على شكرانه فقال تعالى: {نعمة ربكم} أي: الذي أحسن إليكم بنعمة تسخيرها(3/555)
لكم وما تعرفونه من غيرها {إذا استويتم عليه} أي: على ما تركبونه وذلك الذكر هو أن يعرف أن الله تعالى خلق البحر وخلق الرياح وخلق جرم السفينة على وجه يمكن الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي: جانب شاء، فإذا تذكر أن خلق البحر وخلق الرياح وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصرف الإنسان ولتحريكاته إنما هو من تدبير الحكيم العليم القدير عرف أن ذلك نعمة من الله تعالى، فيحمله ذلك على الإنقياد لطاعة الله تعالى وعلى الإشتغال بالشكر لنعم الله تعالى التي لا نهاية لها.
ولما كان تذكر النعمة يبعث الجنان واللسان والأركان على الشكر لمن أسداها قال عز من قائل: {وتقولوا} أي: بألسنتكم جمعاً بين القلب واللسان {سبحان الذي سخر} أي: بعلمه الكامل وقدرته التامة {لنا هذا} أي: الذي ركبناه سفينة كانت أو دابة {وما} أي: والحال أنا ما {كنا له مقرنين} أي: مطيقين والمقرن المطيق للشيء الضابط له من أقرنه أي: أطاقه قال الواحدي: كان اشتقاقه من قولك صرت له قرناً ومعنى قرن فلان أي: مثله في الشدة، وقيل: ضابطين وقال أبو عبيدة: قرن لفلان أي: ضابط له والقرن الحبل، ومعنى الآية: ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك وأن نطيقهما فسبحان من سخر لنا هذا بقدرته وحكمته.
روى الزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: «بسم الله، فإذا استوى على الدابة قال: الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون» . وروى أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح عن علي رضي الله عنه: أنه وضع رجله في الركاب وقال: «فقال بسم الله فلما استوى على الدابة، قال: الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذه الآية، ثم حمد ثلاثاً وكبر ثلاثاً ثم قال: لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل: مم تضحك يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ما فعلت فقلنا: ما يضحكك يا رسول الله قال: إن ربك يعجب من عبده إذا قال العبد لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري» .
وروى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابة فلما استقر عليها كبر ثلاثاً وحمد الله تعالى ثلاثاً وسبح الله ثلاثاً وهلل الله تعالى واحدة وضحك، ثم أقبل عليه فقال: ما من امرئ مسلم ركب دابة فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله عليه يضحك إليه كما ضحكت إليك» .
ولما كان راكب الفلك في خطر الهلاك وراكب الدابة كذلك أيضاً لأن الدابة قد يحصل لها ما يوجب هلاك الراكب وكذا السفينة قد تنكسر فوجب على الراكب أن يذكر أمر الموت ويقول:
{وإنا إلى ربنا} المحسن إلينا بالأقدار على هذه التنقلات على هذه المراكب لا إلى غيره {لمنقلبون} أي: لصائرون بالموت وما بعده إلى الدار الآخرة انقلاباً لا إياب معه إلى هذه الدار، فالآية منبهة بالسير الدنيوي على السير الأخروي وأكد لأجل إنكارهم البعث.
ولما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} بين أنهم مع إقرارهم بذلك جعلوا له من عباده جزءا كما قال تعالى:
{وجعلوا له من عباده} الذين أبدعهم كما أبدع غيرهم(3/556)
{جزأ} أي: ولداً هو لحصرهم في الأنثى أحد قسمي الأولاد، وكل ولد فهو جزء من والده قال صلى الله عليه وسلم «فاطمة بضعة مني» ، ومن كان له جزء كان محتاجاً فلم يكن إلهاً وذلك لقولهم: الملائكة بنات الله فثبت بذلك طيش عقولهم وسخافة آرائهم، وقرأ شعبة: بضم الزاي والباقون بسكونها وهما لغتان وإذا وقف حمزة نقل حركة الهمزة إلى الزاي.
ولما كان هذا في غاية الغلط من الكفر قال مؤكداً لإنكارهم أن يكون كفراً {إن الإنسان} أي: هذا النوع الذي هو بعضه {لكفور مبين} أي: بين الكفر في نفسه مناد عليها بالكفر وقوله تعالى:
{أم اتخذ} أي: أعالج هو نفسه فأخذ هو بعد المعالجة وهو خالق الخلق كلهم {مما يخلق} أي: يجدد إبداعه في كل وقت {بنات} استفهام توبيخ وإنكار أي: فلم يقدر بعد التكلف والتعب على غير البنات التي هي أبغض الجزأين إليكم ثم عطف على قوله تعالى اتخذ ليكون منفياً على أبلغ وجه لكونه في حيز الإنكار {وأصفاكم} وهو السيد الكامل وأنتم عبيده أي: خصكم {بالبنين} اللازم من قولكم السابق ثم بين كون البنات أبغض إليهم بقوله تعالى:
{وإذا} أي: جعلوا ذلك والحال أنه إذا {بشر} أي: من أي: مبشر كان {أحدهم} أي: أحد هؤلاء البعداء البغضاء {بما ضرب} أي: جعل {للرحمن} الذي لا نعمة على شيء من الخالق ألا وهي منه {مثلاً} أي: شبهاً بنسبة البنات إليه لأن الولد يشبه الوالد، والمعنى إذا أخبر أحدهم بالبنت تولد له {ظل} أي: صار {وجهه مسوداً} أي: شديد السواد لما يعتريه من الكآبة {وهو كظيم} أي: ممتلئ غماً فكيف تنسب البنات إليه تعالى، هذا ما لا يرضى عاقل أن يمر بفكره فضلاً عن أن يتفوه به وقوله تعالى:
{أومن ينشأ} أي: على ما جرت به عوائدكم {في الحلية} يجوز في مَنْ وجهان؛ أحدهما: أن تكون في محل نصب مفعولاً بفعل مقدر أي: أو تجعلون من ينشأ في الحلية، والثاني: أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره أو من ينشأ جزء أولد أو جعلوه له جزأ، والمعنى: أن التي تتزين في الحلية تكون ناقصة الذات لأنه لولا نقصانها في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين أي: يربي، والباقون بفتح الياء وسكون النون وتخفيف الشين، وإذا وقف همزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً ولهما أيضاً تسهيلها والروم والإشمام، ثم بين نقصان حالها بطريق آخر بقوله تعالى: {وهو} أي: والحال أنه وقدم في إفادة الاهتمام قوله تعالى: {في الخصام} أي: المجادلة إذا احتج إليها فيها {غير مبين} أي: مظهر حجته لضعفه عنها بالأنوثة، قال قتادة: في هذه الآية قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها، ثم بين تعالى جرأتهم على ما لا ينبغي لعاقل أن يتفوه بقوله تعالى:
{وجعلوا الملائكة الذين هم} متصفون بأشرف الأوصاف وهو أنهم {عباد الرحمن} أي: العام النعمة الذين ما عصوه طرفة عين {إناثاً} وذلك أدنى الأوصاف خلقاً وخلقاً ذاتاً وصفة فهذا كفر ثالث كالكافرين قبله، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر: بكسر العين وبعدها نون ساكنة ونصب الدال، والباقون بعد العين بباء موحدة مفتوحة وبعدها ألف ورفع الدال ثم قال تعالى تهكماً بهؤلاء القائلين ذلك وتوبيخاً لهم(3/557)
وإنكاراً عليهم {أشهدوا} أي: أحضروا {خلقهم} أي: خلقي إياهم فشاهدوهم إناثاً فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة، وقرأ نافع بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مضمومة مسهلة كالواو وسكون الشين، وأدخل قالون بينهما ألفاً ولم يدخل ورش والباقون بهمزة واحدة مفتوحة وفتح الشين.
{ستكتب} بكتابة من وكلناهم بهم من الحفظة الذين لا يعصوننا فنحن نقدرهم على جميع ما نأمرهم به {شهادتهم} أي: قولهم فيهم أنهم إناث الذي لا ينبغي أن يكون إلا بعد تمام المشاهدة فهو قول ركيك سخيف ضعيف كما أشار إليه التأنيث {ويسألون} عنها عند الرجوع إلينا، قال الكلبي ومقاتل: «لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما يدريكم أنهم إناث؟ قالوا: سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا فقال تعالى {ستكتب شهادتهم ويسألون} عنها في الآخرة هذا يدل على أن القول بغير دليل منكر وأن التقليد حرام يوجب الذم العظيم قال المحققون: هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه؛ أولها: إثبات الولد ثانيها: أن ذلك الولد بنت ثالثها: الحكم على الملائكة بالأنوثة.
تنبيه: قال البقاعي: يجوز أن يكون في السين استعطاف التوبة قبل كتابة ما قالوا ولا علم لهم به فإنه قد روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح الله أو يستغفر» . ثم نبه سبحانه على أنهم عبدوهم مع ادعاء الأنوثة فيهم فقال تعالى معجباً منهم في ذلك وفي جعل قولهم حجة دالة على صحة مذهبهم وهو من أوهى الشبه:
{وقالوا} أي: بعد عبادتهم لهم ونهيهم عن عبادة غير الله تعالى {لو شاء الرحمن} أي: الذي له عموم الرحمة {ما عبدناهم} أي: الملائكة فعبادتنا إياهم بمشيئته فهو راض بها ولولا أنه راض بها لعجل لنا العقوبة، فاستدلوا بنفي مشيئة عدم العبادة على الرضا بها وذلك باطل لأن المشيئة ترجيح بعض الممكنات على بعض، مأموراً كان أو منهياً حسناً كان أو غيره ولذلك جهلهم فقال تعالى: {ما لهم بذلك} أي: المقول من الرضا بعبادتها {من علم إن} أي: {هم إلا يخرصون} أي: يكذبون في هذه النتيجة التي زعموا أنها دلتهم على رضا الله تعالى بكفرهم فيترتب عليهم العقاب.
ولما بين تعالى بطلان قولهم بالعقل أتبعه بطلان قولهم بالنقل فقال تعالى:
{أم آتيناهم} أي: على ما لنا من العظمة {كتاباً} أي: جامعاً لما يريدون اعتقاده من أقوالهم هذه {من قبله} أي: القرآن أخبرناهم فيه أنا جعلنا الملائكة إناثاً وأنا لا نشاء إلا ما هو حق نرضاه ونأمر به {فهم به} أي: فتسبب عن هذا الإتيان أنهم به وحده {مستمسكون} أي: موجدون الاستمساك به فيأخذون بما فيه، لم يقع ذلك.
ولما بين تعالى أنه لا دليل على صحة قولهم البتة لا من العقل ولا من النقل، بين أنه لا حامل لهم يحملهم عليه إلا التقليد بقوله تعالى:
{بل قالوا إنا وجدنا آباءنا} أي: وهم أرجح منا عقولاً وأصح منا إفهاماً {على أمة} أي: طريقة عظيمة يحق لها أن تقصد وتؤم ثم أكدوا قطعاً الرجاء المخالف عن لفتهم عن ذلك فقالوا {وإنا على آثارهم} أي: خاصة لا غيرها {مهتدون} أي: متبعون فلم نأت بشيء من عند أنفسنا ولا غلطنا في الاتباع(3/558)
واقتفاء الآثار فلا اعتراض علينا بوجه هذا قولهم في الدين بل في أصوله التي من ضل في شيء منها هلك ولو ظهر لأحد منهم خلل في سعي أبيه الدنيوي الذي به يحصل الدينار والدرهم ما اقتدى به أصلاً وخالفه أيَّ مخالفة ما هذا إلا قصور نظر ومحض عناد ثم أخبر تعالى أن غيرهم قال هذه المقالة بقوله سبحانه:
{وكذلك} أي: ومثل هذه المقالة المتناهية في البشاعة فعلت الأمم الماضية مع إخوانك الأنبياء عليهم السلام ثم فسر ذلك بقوله تعالى: {ما أرسلنا} أي: مع ما لنا من العظمة {من قبلك} أي: في الأزمنة السالفة {في قرية} وأغرق في النفي بقوله تعالى: {من نذير} وبين به أن موضع الكراهة والخلاف الإنذار على مخالفة الأهواء {إلا قال مترفوها} أي: أهل الترفه بالضم وهي النعمة والطعام الطيب والشيء الظريف يكون خاصاً بالمترف وذلك موجب لقلة الهم وللراحة والبطالة {إنا وجدنا آباءنا} أي: وهم أعرف منا بالأمور {على أمة} أي: أمر جامع يستحق أن يقصد ويؤم ثم أكدوا كما أكد هؤلاء فقالوا: {وإنا على آثارهم} أي: لا على غيرها {مقتدون} أي: راكبون سنن طريقتهم لازمون لها ففي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
{قل} أي: يا أفضل الخلق لهؤلاء البعداء البغضاء {أولو} أي: أتبغون ذلك ولو {جئتم بأهدى} أي: بأمر أعظم في الهداية وأوضح في الدلالة {مما وجدتم} أي: أيها المقتدون بالآباء {عليه آباءكم} أي: كما تضمن قولكم أنكم تقتفون في اتباعكم بالآثار في أعظم الأشياء وهو الدين الذي الخسارة فيه خسارة للنفس وأنتم تخالفونهم في أمر نفس الدنيا إذا وجدتم طريقاً أهدى في التصرف فيها من طريقتهم ولو أمراً يسيراً، ويفتخر أحدكم بأنه أدرك من ذلك ما لم يدرك أبوه فحصل من المال أكثر مما حصل فيا له من نظر ما أقصره ومتجر ما أخسره، وقرأ ابن عامر وحفص: قال بصيغة الماضي أي: قال المنذر أو الرسول وهو النبي صلى الله عليه وسلم والباقون: قل بصيغة الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ثم أجابوه بأن {قالوا} مؤكدين رداً لما قطع به كل عاقل سمع هذا الكلام من أنهم يبادرون النظر في الدليل والرجوع إلى سواء السبيل {إنا بما أرسلتم به} أي: أنت ومن قبلك {كافرون} أي: ساترون لما ظهر من ذلك جهدنا حتى لا يظهر لأحد ولا يتبعكم فيه مخلوق وإن كان أهدى مما كان عليه آباؤنا فعند هذا لم يبق لهم عذر فلهذا قال تعالى:
{فانتقمنا} أي: بما لنا من العظمة التي استحقوا بها {منهم} فأهلكناهم بعذاب الاستئصال ثم عظم أمر النقمة بالأمر بالنظر فيها في قوله: {فانظر} يا أفضل الرسل {كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {المكذبين} لرسلنا فإنهم أهلكوا أجمعون ونجا المؤمنون أجمعون فليحذر من رد رسالتك من مثل ذلك، وهذا تهديد عظيم لكفار قريش. ثم بين تعالى وجهاً آخر يدل على فساد التقليد بقوله تعالى:
{وإذ} أي: واذكر يا أفضل الخلق إذ {قال إبراهيم} أي: الذي هو أعظم آبائهم ومحط فخرهم والمجمع على محبته وحقية دينه منهم ومن أهل الكتاب وغيرهم {لأبيه} من غير أن يقلده كما قلدتم أنتم آباءكم {وقومه} الذين كانوا هم القوم في الحقيقة لاحتوائهم على ملك جميع الأرض {إنني براء} أي: بريء {مما تعبدون} أي: في الحال والاستقبال.
{إلا الذي فطرني}(3/559)
أي: خلقني {فإنه سيهدين} أي: يرشدني لدينه ويوفقني لطاعته.
تنبيه: في هذا الاستثناء أوجه؛ أحدها: أنه استثناء منقطع لأنهم كانوا عبدة أصنام فقط، ثانيها: أنه متصل لأنه روي أنهم كانوا يشركون مع الباري غيره، ثالثها: أن تكون إلا صفة بمعنى غير على أن تكون ما نكرة موصوفة قاله الزمخشري. قال أبو حيان: وإنما أخرجها في هذا الوجه عن كونها موصولة لأنه يرى أن إلا بمعنى غير لا يوصف بها إلا النكرة وفيها خلاف، وعلى هذا يجوز أن تكون ما موصولة وإلا بمعنى غير صفة لها.
{وجعلها} أي: إبراهيم {كملة} أي: التوحيد المفهومة من قوله إنني إلى سيهدين {باقية في عقبه} أي: ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى لأنه عليه السلام مجاب الدعوة وقال: {ومن ذريتي} (إبراهيم: 40)
{ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} (البقرة: 129)
{لعلهم} أي: أهل مكة {يرجعون} عما هم عليه إلى دين أبيهم فإنهم إذا ذكروا أن أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم الفخر قال ذلك تابعوه قال الله تعالى:
{بل متعت هؤلاء} أي: الذين بحضرتك من المشكرين وأعداء الدين {وآياتهم} أي: مددت لهم في الأعمار مع إسباغ النعم وسلامة الأبدان من البلايا والنقم ولم أعاجلهم بالعقوبة فأبطرتهم نعمتي، وتمادى بهم ركوب ذلك الباطل {حتى جاءهم الحق} أي: القرآن {ورسول مبين} أي: مظهر لهم الأحكام الشرعية وهو محمد صلى الله عليه وسلم
{ولما جاءهم الحق} أي: الكامل في حقيقته بمطابقة الواقع إياها من غير إلباس ولا اشتباه وهو القرآن العظيم {قالوا} مكابرة وعناداً وحسداً من غير وقفة ولا تأمل {هذا} مشيرين إلى الحق الذي يطابقه الواقع فلا شيء أثبت منه وهو القرآن الكريم {سحر} أي: خيال لا حقيقة له {وإنا به كافرون} أي: عريقون في ستره بخصوصه حتى لا يعرفه أحد ولا يكون له تابع. ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من كفرهم بقوله تعالى:
{وقالوا لولا} أي: هلا {نزل} يعني من المنزل الذي ذكره محمد صلى الله عليه وسلم وعينوا مرادهم ونفوا اللبس فقالوا: {هذا القرآن} أي: الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وادعى أنه جامع لكل خير {على رجل من القريتين} أي: مكة والطائف {عظيم} لأنهم قالوا: منصب الرسالة منصب شريف لا يليق إلا برجل شريف وصدقوا في ذلك إلا أنهم ضموا إليه مقدمة فاسدة، وهي: أن الرجل الشريف عندهم هو الذي يكون كثير المال والجاه، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس كذلك فلا تليق رسالة الله تعالى به، وإنما يليق هذا المنصب برجل عظيم الجاه كثير المال يعنون الوليد بن المغيرة بمكة، وعروة بن مسعود بالطائف، قال قتادة، وقال مجاهد: عتبة بن ربيعة من مكة وعبد يا ليل الثقفي من الطائف، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو الوليد بن المغيرة من مكة ومن الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي.
تنبيه: قوله تعالى: {من القريتين} فيه حذف مضاف قدره بعضهم من رجلي القريتين، وقيل: من إحدى القريتين، وقيل: المراد عروة بن مسعود الثقفي كان بالطائف وكان يتردد بين القريتين فنسب إلى كليهما، ثم رد الله تعالى عليهم إعراضهم منكراً عليهم موبخاً لهم بما معناه أنه ليس الأمر مردوداً ولا موقوفاً عليهم بل إلى الله تعالى وحده والله أعلم حيث يجعل رسالاته بقوله تعالى:
{أهم} أي: أهؤلاء الجهلة(3/560)
العجزة {يقسمون} أي: على التجدد والاستمرار {رحمت ربك} أي: إكرام المحسن إليك وإنعامه وتشريفه أنواع اللطف والبر وإعظامه بما رباك له من تخصيصك بالإرسال إليهم لإنقاذهم من الضلال وجعلك وأنت أفضل العالمين الرسول إليهم، ففضلوا بفضيلتك مع أنك أشرفهم نسباً وأفضلهم حسباً وأعظمهم عقلاً وأصفاهم لباً وأرحمهم قلباً، ليتصرفوا في تلك الرحمة التي هي روح الوجود وسر الأمر لا يحب شهواتهم ولا يقدرون على التصرف في المتاع الزائل بمثل ذلك كما قال تعالى: {نحن قسمنا} بما لنا من العظمة {بينهم} أي: في الأمر الزائل الذي يعمهم ويجب تخصيص كل منهم لما لديه {معيشتهم} أي: التي يعدونها رحمة ويقصرون عليهم النعمة {في الحياة الدنيا} التي هي أدنى الأشياء عندنا وأشار بتأنيثها إلى أنها حياة ناقصة لا يرضاها عاقل، وأما الآخرة فعبر بالحيوان لأنا لو تركنا قسمها إليهم لتفانوا على ذلك فلم يبق منهم أحد، فكيف يدخل في الوهم أن نجعل إليهم شيئاً من الكلام في أمر النبوة التي هي روح الوجود وبها سعادة الدارين {ورفعنا} أي: بما لنا من نفوذ الأمر {بعضهم} وإن كان ضعيف البدن قليل العقل {فوق بعض} وإن كان قوياً غزير العقل {درجات} في الجاه والمال ونفوذ الأمر وعظم القدر لينتظم حال الوجود، فإنه لابد في انتظامه من تشارك الموجودين وتعاونهم ففاوتنا بينهم في الجثث والقوى والهمم، ليقتسموا الصنائع والمعارف ويكون كل ميسراً لما خلق له وجانحاً لما هُيىء لتعاطيه فلم يقدر أحد من دني أو غني أن يعدو قدره ويرتقي فوق منزلته.
ثم علل ذلك بما ثمرته عمارة الأرض بقوله تعالى: {ليتخذ} أي: بغاية جهده {بعضهم بعضاً سخرياً} أي: ليستخدم بعضهم بعضاً فيسخر الأغنياء بأموالهم الأجراء الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم سبباً لمعاش بعض هذا بماله وهذا بأعماله فيلتئم قوام العالم؛ لأن المقادير لو تساوت لتعطلت المعايش فلم يقدر أحد منهم أن ينفك عما جعلناه إليه من هذا الأمر الدنيء، فكيف يطمعون في الاعتراض في أمر النبوة أيتصور عاقل أن نتولى قسم الناقص ونكل العالي إلى غيرنا، قال ابن الجوزي: فإذا كانت الأرزاق بقدر الله تعالى لا بحول المحتال وهي دون النبوة فكيف تكون النبوة وهذا هو المراد بقوله تعالى: صارفاً القول عن مظهر العظمة إلى الوصف بالإحسان إظهار الشرف النبي صلى الله عليه وسلم
{ورحمت ربك} أي: المربي لك والمدبر لأمرك بإرسالك وإنارة الوجود برسالتك التي هي لعظمتها جديرة بأن تضاف إليه ولا يسمي غيرها رحمة {خير مما يجمعون} من حطام الدنيا الفاني فإنه وإن تأتَّى فيه خير في استعماله في وجوه البر بشرطه فهو بالنسبة إلى النبوة وما قاربها مما دعا إلى الإعراض عن الدنيا متلاش، وقيل: المراد بالرحمة: الجنة، وجرى عليه البغوي وتبعه الجلال المحلي وابن عادل، وجرى على الأول البيضاوي وتبعه البقاعي وهو الظاهر من الآية الكريمة.
فائدة: اتفق القراء هنا على قراءة سخريا بضم السين ثم بين تعالى حقارة الدنيا وخستها التي يفتخرون بها بقوله تعالى:
{ولولا أن يكون الناس} أي: أهل التمتع بالأموال بما فيهم من الاضطراب والأنس بأنفسهم {أمة واحدة} أي: في الضلال بالكفر لاعتقادهم أن إعطاءنا(3/561)
المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه لحبهم الدنيا وجعلها محط أنظارهم وهممهم إلا من عصمه الله تعالى {لجعلنا} أي: في كل زمان وكل مكان بما لنا من العظمة التي لا يقدر أحد على معارضتها لحقارة الدنيا عندنا وبغضاً لها {لمن يكفر} وقوله تعالى: {بالرحمن} أي: العام الرحمة دليل على حقارة الدنيا من جهة إعطائها إلا بعد الممقوت، وعلى أن صفة الرحمة مقتضية لتناهي بسط النعم على الكافر لولا العلة التي ذكرها الله تعالى من الرفق بالمؤمنين وقوله تعالى: {لبيوتهم} بدل من لمن بدل اشتمال بإعادة العامل واللامان للاختصاص {سقفاً من فضة} قال البقاعي: كأنه خصها أي: الفضة لإفادتها النور، وقرأ أبو عمرو وورش وحفص بضم الباء الموحدة والباقون بكسرها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسقفاً بفتح السين وسكون القاف على إرادة الجنس، والباقون بضمها جمعاً وقوله تعالى: {ومعارج} جمع معرج وهو السلم أي: من فضة أيضاً وسميت المصاعد من الدرج معارج لأن المشي عليها مثل مشي الأعرج {عليها} خاصة لتيسر أمرها لهم {يظهرون} أي: يعلون ويرتقون على ظهرها إلى المعالي.
{ولبيوتهم أبواباً} أي: من فضة أيضاً وقوله تعالى {وسرراً} أي: من فضة جمع سرير ودل على هدوء بالهم وصفاء أوقاتهم وأحوالهم بقوله تعالى: {عليها يتكئون} ودل على ما هو أعظم من الفضة بقوله تعالى:
{وزخرفاً} أي: ذهباً وزينة كاملة عامة.
تنبيه: زخرفاً يجوز أن يكون منصوباً بجعل أي: وجعلنا لهم زخرفاً، وجوز الزمخشري: أن ينتصب عطفاً على محل من فضة، كأنه قيل: سقفاً من فضة وذهب، فلما حذف الخافض انتصب أي: بعضها كذا وبعضها كذا، وقيل: الزخرف هو الذهب لقوله تعالى: {أو يكون لك بيت من زخرف} (الإسراء: 93)
فيكون المعنى ويجعل لهم مع ذلك ذهباً كثيراً، وقيل: الزخرف الزينة لقوله تعالى: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت} (يونس: 24)
فيكون المعنى نعطيهم زينة عظيمة في كل باب {وإن كل ذلك} أي: البعيد من الخير لكونه في الأغلب مبعداً مما يرضينا {لما متاع الحياة الدنيا} أي: التي اسمها دال على دناءتها يتمتع به فيها ثم يزول، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: بتشديد الميم بعد اللام بمعنى إلا حكى سيبويه: (أنشدتك الله لما فعلت) بمعنى إلا، وتكون أن نافية أي: وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، وقرأ الباقون: بالتخفيف فتكون إن هي المخففة من الثقيلة أي: وإنه كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا.
{والآخرة} أي: الجنة التي لا دار تعدلها بل لا دار في الحقيقة إلا هي {عند ربك} أي: المحسن إليك بأن جعلك أفضل الخلق {للمتقين} أي: الذين هم دائماً واقفون عن أدنى تصرف إلا بدليل لا يشاركهم فيها غيرهم من الكفار، ولهذا لما ذكر عمر رضي الله عنه كسرى وقيصر وما كانا فيه من النعم قال النبي صلى الله عليه وسلم «ألا ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» وقال صلى الله عليه وسلم «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها الكافر قطرة ماء» .
وروى المستورد بن شداد قال: «كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أترى هذه هانت على أهلها حتى ألقوها قالوا: من هوانها ألقوها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها» أخرجه(3/562)
الترمذي وقال حديث حسن. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» . وعن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله عبده حماه من الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء» .
قال البقاعي: ولا يبعد أن يكون ما صار إليه الفسقة والجبابرة من زخرفة الأبنية وتذهيب السقوف وغيرها من مبادي الفتنة بأن يكون الناس أمة واحدة في الكفر قرب الساعة حتى لا تقوم الساعة على من يقول: الله، أوفي زمن الدجال لأن من يبقى إذ ذاك على الحق في غاية القلة بحيث أنه لا عداد لهم في جانب الكفرة لأن كلام الملوك لا يخلو عن حقيقة وإن خرج مخرج الشرط فكيف بملك الملوك سبحانه.
فإن قيل: لم بين تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم لصار ذلك سبباً لاجتماع الناس على الكفر فلِمَ لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير سبباً لاجتماع الناس على الإسلام؟ أجيب: بأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا وهذا الإيمان إيمان المنافقين فاقتضت الحكمة أن لا يجعل ذلك للمسلمين حتى أن كل من دخل في الإسلام يدخل لمتابعة الدليل ولطلب رضوان الله تعالى.
{ومن يعش} أي: يعرض {عن ذكر الرحمن} أي: الذي عمت رحمته فلا رحمة على أحد إلا وهي منه تعالى كما فعل هؤلاء حين متعناهم وأباءهم حتى أبطرهم ذلك وهو شيء يسير جداً، فأعرضوا عن الآيات والدلائل فلم ينظروا فيها إلا نظراً ضعيفاً كنظر من عشا بصره وهو من ساء بصره بالليل والنهار {نقيض} أي: نسبب {له} عقاباً على إعراضه عن ذكر الله تعالى {شيطاناً} أي: شخصاً نارياً بعيداً من الرحمة يكون غالباً عليه محيطاً به مثل قيض البيضة وهو القشر الداخل {فهو له قرين} أي: مشدود به لا يفارقه فلا يمكنه التخلص منه ما دام متعامياً عن ذكر الله تعالى، فهو يزين له العمى ويخيل إليه أنه على عين الهدى كما أن من يستبصر بذكر الرحمن يسخر له ملك فهو له ولي يثيره إلى كل خير، فذكر الله تعالى حصن حصين من الشيطان الرجيم متى خرج العبد منه أسره العدو كما ورد في الحديث» .
{وأنهم} أي: القرناء {ليصدونهم} أي: العاشين {عن السبيل} أي: الطريق الذي من حاد عنه هلك لأنه لا طريق له في الحقيقة سواه {ويحسبون} أي: العاشون مع سيرهم في المهالك لتزيين القرناء بإحضار الحظوظ والشهوات وإبعاد المواعظ {أنهم مهتدون} أي: غريقون في هذا الوصف لما يستدرجون به من التوسعة عليهم والتضييق على الذاكرين.
تنبيه: ذكر الإنسان والشيطان بلفظ الجمع لأن قوله تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً} فهو له قرين يفيد: الجمع وإن كان اللفظ على الواحد، قال أبو حيان: الظاهر أن ضميري النصب في وأنهم ليصدونهم: عائدان على مَنْ من حيث معناها وأما لفظها أولاً فأفراد في له وله ثم راعى معناها فجمع في قوله تعالى: {وإنهم ليصدونهم} والضمير المرفوع على الشيطان لأن المراد به: الجنس ولأن كل كافر معه قرينه، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: بفتح السين والباقون بكسرها وقرأ:
{حتى إذا جاءنا} نافع وابن عامر وأبو بكر: بمد الهمزة بعد الجيم على التثنية أي: جاء العاشي والشيطان،(3/563)
والباقون بغير مد إفراد أي: جاء العاشي {قال} أي: العاشي تندماً وتحسراً لا انتفاع له به لفوات محله وهو دار العمل {يا ليت بيني وبينك} أي: أيها القرين {بعد المشرقين} أي: ما بين المشرق والمغرب على التغليب قاله ابن جرير وغيره، أو مشرق الشتاء والصيف أي بعد أحدهما عن الآخر ثم سبب عن هذا التمني قوله جامعاً له أنواع المذام {فبئس القرين} والمخصوص بالذم محذوف أي: أنت لأنك الذي قد أضللتني وأوصلتني إلى هذا العيش الضنك والمحل الدحض قال أبو سعيد الخدري: «إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصيرا إلى النار» وفي فاعل قوله تعالى:
d
{ولن ينفعكم اليوم} قولان أحدهما: أنه ملفوظ به وهو أنكم وما في حيزها والتقدير: ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب بالتأسي كما ينفعكم الاشتراك في مصائب الدنيا فيتأسى المصاب بمثله ومنه قول الخنساء:
*ولولا كثرة الباكين حولي ... على موتاهم لقتلت نفسي*
*وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي*
والثاني: أنه مضمر فقدره بعضهم ضمير التمني المدلول عليه بقوله: {يا ليت بيني} أي: لن ينفعكم تمنيكم البعد وبعضهم اجتماعكم وبعضهم ظلمكم وجحدكم، وعبارة من عبر بأن الفاعل محذوف مقصوده الإضمار المذكور لا الحذف إذ الفاعل لا يحذف إلا في مواضع ليس هذا منها والمعنى: ولن ينفعكم اليوم في الآخرة {إذ ظلمتم} أي: أشركتم في الدنيا {أنكم في العذاب مشتركون} أي: لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب كما كنتم تشتركون في الدنيا.
تنبيه: استشكل المعربون هذه الآية ووجهه أن قوله تعالى: {اليوم} ظرف حالي وإذ ظرف ماضي وينفعكم مستقبل لاقترانه بلن التي لنفي المستقبل، والظاهر أنه عامل في الظرفين وكيف يعمل الحدث المستقبل الذي لم يقع إلا بعد في ظرف حالي وماض هذا مما لا يجوز؟ أجيب: عن أعماله في الظرف الحالي على سبيل قربه منه لأن الحال قريب من الاستقبال فيجوز في ذلك قال تعالى: {فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً} (الجن: 9)
وقال الشاعر:
*سأسعى الآن إذ بلغت أباها ... وهو إقناعي وإلا فالمستقبل*
يستحيل وقوعه في الحال عقلاً وأما قوله تعالى: {إذ} ففيها للناس أوجه كثيرة قال ابن جني: راجعت أبا علي فيها مراراً كثيرة فآخر ما حصلت منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه، فإذ بدل من اليوم حتى كأنها مستقبلة أو كان اليوم ماض وإلى هذا نحا الزمخشري قال: وإذ بدل من اليوم، وحمل الزمخشري على معنى إذ تبين وصح ظلمكم ولم يبق لأحد ولا لكم شبهة في أنكم كنتم ظالمين ونظيره:
*إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة*
أي: تبين أني ولد كريمة.
ولما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم بالصمم والعمى بقوله تعالى:
{أفأنت} أي: وحدك من غير إرادة الله تعالى {تسمع الصم} وقد أصممناهم بما صببنا في مسامع أفهامهم من رصاص الشقاء(3/564)
{أوتهدي العمي} الذين أعميناهم بما غشينا به أبصار بصائرهم من أغشية الخسارة روي أنه صلى الله عليه وسلم «كان يجتهد في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا تصميماً على الكفر وعناداً في الغي فنزلت» . أي: هم في النفرة عنك وعن دينك بحيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالصم وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالعمي وقوله تعالى {ومن كان} أي: جبلة وطبعاً {في ضلال مبين} عطف على العمي باعتبار تغاير الوصفين، وفيه إشعار بأن الموجب لذلك تمكنهم في ضلال لا يخفى بين في نفسه أنه ضلال وأنه محيط بالضال، يظهر لكل أحد ذلك فهو بحيث لا يخفى على أحد فالمعنى: ليس شيء من ذلك إليك بل هو إلى الله تعالى القادر على كل شيء وأما أنت فليس عليك إلا البلاغ فلا تتعب نفسك.
{فإما نذهبن بك} أي: من بين أظهرهم بموت أو غيره وما مزيدة مؤكدة بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة {فإنا منهم} أي: من الذين تقدم التعريض بأنهم صم عمي ضلال لم تنفعهم مشاعرهم {منتقمون} أي: بعد فراقك لأن وجودك بين أظهرهم هو سبب تأخير العذاب عنهم.
{أو نرينك} وأنت بينهم {الذي وعدناهم} أي: من العذاب وعبر فيه بالوعد ليدل على الخير بلفظه وعلى الشر بأسلوبه {فإنا} أي: بما لنا من العظمة التي أنت أعلم الخلق بها {عليهم} أي: على عقابهم {مقتدرون} على كلا التقديرين، وأكد بأن لأن أفعالهم أفعال من ينكر قدرته وكذا بالإتيان بنون العظمة وصيغة الافتعال.
{فاستمسك} أي: اطلب وأوجد بجد عظيم على كل حال من أحوال الإمساك {بالذي أوحى إليك} من حين نبوتك إلى الآن في الانتقام منهم وفي غيره {إنك على صراط} أي: طريق واسع واضح جداً {مستقيم} أي: موصل إلى المقصود لا يصح أصلاً أن يلحقه شيء من عوج.
{وإنه} أي: الذي أوحى إليك في الدين والدنيا {لذكر} أي: لشرف عظيم جداً وموعظة وبيان {لك ولقومك} قريش خصوصاً لنزوله بلغتهم والعرب عموماً وسائر من اتبعك ولو كان من غيرهم روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك لم يخبر بشيء حتى نزلت هذه الآية فكان بعد ذلك إذا سئل لمن هذا الأمر بعدك قال: لقريش» . وروى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان» . وروى معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين» . وقال مجاهد: القوم هم العرب فالقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب حتى يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم، وقيل: ذكر لك بما أعطاك من الحكمة ولقومك من المؤمنين بما هداهم الله تعالى به {وسوف تسألون} أي: عن القرآن يوم القيامة وعن قيامكم بحقه وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له، وقال الكلبي: تسألون هل أديتم شكر إنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل، وقال مقاتل: يقال لمن كذب به لم كذبت؟ فيسأل سؤال توبيخ وقيل: يسألون هل عملتم بما دل عليه القرآن من التكاليف. وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى إلى السموات العلى بعث له آدم وولده من(3/565)
المرسلين عليهم السلام فأذن جبريل عليه السلام ثم أقام وقال: يا محمد تقدم فصل بهم، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل عليه السلام:
{واسأل من أرسلنا} أي: على ما لنا من العظمة {من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن} أي: غيره {آلهة يعبدون} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أسأل قد اكتفيت ولست شاكاً فيه. وهذا قول الزهري وسعيد بن جبير وأبي زيد: قالوا جمع له الرسل ليلة أسري به وأمر أن يسألهم فلم يسأل ولم يشك. وقال أكثر المفسرين: سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء عليهم السلام هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد وهو قول مجاهد وقتادة والسدي، ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم على واحد من القولين لأن المراد من الأمر بالسؤال التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول من الله تعالى ولا كتاب بعبادة غير الله تعالى.
ولما طعن كفار قريش في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبكونه فقيراً معدماً عديم الجاه والمال بين الله تعالى أن موسى عليه السلام بعد أن أورد المعجزات القاهرة التي لا يشك في صحتها عاقل أورد عليه فرعون هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال تعالى:
{ولقد أرسلنا} أي: بما ظهر من عظمتنا {موسى} أي: الذي كان يرى فرعون أنه أحق الناس بعظمته لأنه رباه وكفله {بآياتنا} التي قهر بها عظماء الخلق وبجابرتهم فدل ذلك على صحة دعواه {إلى فرعون} الذي ادعى أنه الرب الأعلى {وملائه} أي: القبط {فقال} أي: بسبب إرسالنا {إني رسول رب العالمين} أي: مالكهم ومدبرهم ومربيهم فقالوا له: ائت بآية فأتى بها.
{فلما جاءهم بآياتنا} أي: بآيتي اليد والعصا اللتين شاهدوا فيهما عظمتنا ودلهم ذلك على قدرتنا على جميع الآيات {إذا هم} أي: بأجمعهم {منها يضحكون} أي: فاجؤا المجيء بها من غير توقف ولا تأمل بالضحك سخرية واستهزاء، قيل: إنه لما ألقى عصاه صارت ثعباناً فلما أخذه وصار عصا كما كانت ضحكوا.
ولما أعرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت ضحكوا:
{وما} أي: والحال إنا ما {نريهم} على ما لنا من الجلال والعلو وأغرق في النفي بإثبات الجار فقال تعالى: {من آية} أي: من آيات العذاب كالطوفان وهو ماء دخل بيوتهم ووصل إلى حلوق الجالسين سبعة أيام والجراد وغير ذلك {الا هي أكبر} أي: في الرتبة {من أختها} أي: التي تقدمت عليها بالنسبة إلى علم الناظرين لها {وأخذناهم} أي: أخذ قهر وغلبة {بالعذاب} أي: أنواع العذاب كالدم والقمل والضفادع والبرد الكبار الذي لم يعهد مثله ملتهباً بالنار وموت الإبكار فكانت آيات على صدق موسى عليه السلام بما لها من الإعجاز، وعذاباً لهم في الدنيا موصولاً بعذاب الآخرة فيا لها من قدرة باهرة وحكمة ظاهرة {لعلهم يرجعون} أي: ليكون حالهم عندنا إذا نظرهم الجاهل بالعواقب حال من يرجى رجوعه.
{و} لما عاينوا العذاب {قالوا} لموسى أي: قال فرعون بالمباشرة وأتباعه بالموافقة له: {يا أيها الساحر} فنادوه بذلك في تلك الحالة لشدة شكيمتهم وفرط حماقتهم، أو لأنهم كانوا يسمون العالم الماهر ساحراً {ادع لنا ربك} أي: المحسن إليك بما يفعل معك من هذه الأفعال التي نهيتنا بها إكراماً لك {بما} أي: بسبب ما {عهد عندك} أي: من كشف العذاب عنا إن آمنا {إننا لمهتدون} أي: مؤمنون.
{فلما كشفنا} أي: على ما لنا من العظمة التي ترهب الجبال(3/566)
{عنهم العذاب} أي: الذي أنزلناه بهم {إذا هم ينكثون} أي: فاجؤا الكشف بتجدد النكث بإخلاف بعد إخلاف.
{ونادى فرعون} أي: زيادة على نكثه {في قومه} أي: الذين هم في غاية القيام معه وأمر كلاً منهم أن يشيع قوله إشاعة تعم البعيد والقريب فتكون كأنها مناداة إعلاماً بأنه مستمر على الكفر لئلا يظن بعضهم أنه رجع فيرجعون.
ولما كان كأنه قيل: بم نادى أجاب بقوله: {قال} أي: خوفاً من إيمان القبط لما رأى من أن ما شاهدوه من باهر الآيات مثله يزلزل ويأخذ القلوب {يا قوم} مستعطفاً بإعلامهم أنهم لحمة واحدة ومستنهضاً بوصفهم بأنهم ذو قوة على ما يحاولنه مقرراً لهم على عذره في نكثه بقوله: {أليس لي} أي: وحدي {ملك مصر} أي: كله فلا اعتراض علي من بني إسرائيل ولا غيرهم {وهذه} أي: والحال أن هذه {الأنهار} أي: أنهار النيل قال البيضاوي: ومعظمها أربعة: نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس، وقال البقاعي: كأنه كان قد أكثر من تشقيق الخلجان إلى بساتينه وقصوره ونحو ذلك من أموره فقال: {تجري من تحتي} أي: تحت قصري أو أمري أو بين يدي في جناني وزاد في التقرير بقوله: {أفلا تبصرون} أي: هذا الذي ذكرته لكم فتعلموا ببصائر قلوبكم أنه لا ينبغي لأحد أن ينازعني، وهذا لعمري قول من ضعفت قواه وانحلت عراه.
{أم أنا خير} أي: مع ما وصفت لكم من ضخامتي وما لي من القدرة على إجراء المياه التي بها حياة كل شيء {من هذا} وكنى بإشارة القريب عن تحقيره ثم وصفه بما يبين مراده بقوله: {الذي هو معين} أي: ضعيف حقير ذليل لأنه يتعاطى أموره بنفسه وليس له ملك ولا قوى يجري بها نهراً ولا ينفذ بها أمراً {ولا يكاد يبين} أي: لا يقرب من أن يعرب عن معنى من المعاني لما في لسانه من الحبسة، فلا هو قادر في نفسه ولا له قوة بلسانه على تصريف المعاني وتنويع البيان ليستجلب القلوب وينعش الألباب فتكثر أتباعه ويضخم أمره، وقد كذب في جميع قوله فقد كان موسى عليه السلام أبلغ أهل زمانه قولاً وفعلاً بتقدير الله تعالى الذي أرسله له وأمره إياه ولكن اللعين أسند هذا إلى ما بقي في لسانه من الحبسة تخييلاً لاتباعه لأن موسى عليه السلام ما دعا بإزالة جميع حبسته بل بعقدة منها فإنه قال {واحلل عقدة من لسان يفقهوا قولي} (طه: 27 ـ 28)
تنبيه: في أم من قوله أم أنا خير أقوال؛ أحدها: أنها منقطعة فتقدر ببل التي لإضراب الانتقال وبالهمزة التي للإنكار، والثاني: أنها بمعنى بل فقط كقوله:
*بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت في العين أملح*
أي: بل أنت، الثالث: أنها منقطعة لفظاً متصلة معنى قال أبو البقاء: أم هنا منقطعة في اللفظ لوقوع الجملة بعدها في اللفظ وهي في المعنى متصلة معادلة إذ المعنى: أنا خير منه أم لا وأينا خير، قال ابن عادل: وهذه عبارة غريبة أن تكون منقطعة لفظاً متصلة معنى وذلك أنهما معنيان مختلفان فإن الانقطاع يقتضي إضراباً إما إبطالاً وإما انتقالاً ثم إن فرعون اللعين ظن أن القرب من الملوك والغلبة على الأمور لا تكون إلا بكثرة الإعراض الدنيوية والتحلي بحلي الملوك ولذا قال:
{فلولا}(3/567)
أي: فهلا {ألقي عليه} عند مرسله الذي يدعي أنه الملك بالحقيقة {أساورة} وقرأ حفص بسكون السين ولا ألف بعدها كالأحمرة، والباقون بفتح السين وألف بعدها فأسورة جمع سوار كحمار وأحمرة وهو جمع قلة وأساور جمع أسوار بمعنى سوار يقال: سوار المرأة وإسوارها والأصل: أساوير بالياء فعوض من حرف المد تاء التأنيث كزنديق وزنادقة وبطريق وبطارقة، وقيل: بل هي جمع أسورة فهي جمع الجمع قاله الزجاج، والسوار ما يوضع في المعصم من الحلية {من ذهب} ليكون ذلك إمارة له على صحة دعواه كما نفعل نحن عند إنعامنا على أحد من عبيدنا بالإرسال إلى ناحية من النواحي لمهم من المهمات، إذ كان من عادتهم أنهم إذا جعلوا واحداً منهم رئيساً لهم سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب فطلب فرعون من موسى عليه السلام مثل عادتهم {أو جاء معه} أي: صحبته عندما جاء إلينا بهذا النبأ الجسيم والملم العظيم {الملائكة} أي: هذا النوع وأشار إلى كثرتهم بما بين من الحال بقوله: {مقترنين} أي: يقارن بعضهم بعضاً بحيث يملؤون الفضاء ويكونون في غاية القرب منه بحيث يكون مقارناً لهم ليجاب إلى هذا الأمر الذي جاء يطلبه كما نفعل نحن إذا أرسلنا رسولاً إلى أمر يحتاج إلى دفاع وخصام ونزاع، فكان حاصل أمره كما ترى أنه تعزز بإجراء المياه فأهلكه الله تعالى بها، إيماء إلى أن من تعزز بشيء دون الله تعالى أهلكه الله به واستصغر موسى عليه السلام وعابه بالفقر والعي فسلطه الله تعالى عليه إشارة إلى أنه ما استصغر أحد شيئاً إلا غلبه، أفاده القشيري.
{فاستخف} أي: بسبب هذه الخدع التي سحرهم بها في هذا الكلام الذي هو في الحقيقة محقر له موهن لأمره قاصم لملكه عند من له لب {قومه} الذين لهم قوة عظيمة فحملهم بغروره على ما كانوا مهينين له من خفة الحلم {فأطاعوه} أي: بأن أقروا بملكه واعترفوا بربوبيته وردوا أمر موسى عليه السلام {أنهم كانوا} أي: بما في جبلاتهم من الشر {قوماً فاسقين} أي: غريقين في الخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق.
{فلما آسفونا} أي: أغضبونا في الإفراط في العناد والعصيان منقول من أسف إذا اشتد غضبه، حكي أن ابن جريج غضب في شيء فقيل له: أتغضب يا أبا خالد فقال: قد غضب الذي خلق الأحلام إن الله تعالى يقول: {فلما آسفونا} أي: أغضبونا {انتقمنا منهم} أي: أوقعنا بهم على وجه المكافأة بما فعلوا برسولنا عليه السلام عقوبة عظيمة منكرة مكروهة كأنها بعلاج {فأغرقناهم أجمعين} أي: إهلاك نفس واحدة لم يلفت منهم أحد على كثرتهم وقوتهم وشدتهم.
تنبيه: ذكر لفظ الأسف في حق الله تعالى وذكر لفظ الانتقام كل واحد منهما من المتشابهات التي يجب تأويلها فمعنى الغضب في حق الله تعالى: إرادة العذاب ومعنى الانتقام: إرادة العقاب بجرم سابق وقال بعض المفسرين: معنى آسفونا: احزنوا أولياءنا.
{فجعلناهم} أي: بأخذنا لهم على هذه الصورة من الإغراق وغيره مما تقدمه {سلفاً} أي: متقدماً لكل من يهلك بعدهم إهلاك غضب في الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة أو قدوة لمن يريد العلو في الأرض فتكون عاقبته في الهلاك في الدارين أو إحداهما عاقبتهم كما قال تعالى: {وجعلناهم أئمة يدعون(3/568)
إلى النار} (القصص: 41)
{ومثلاً} أي: حديثاً عجيب الشأن سائراً سير المثل {للآخرين} أي: الذين خلفوا بعدهم من زمنهم إلى آخر الدهر فيكون حالهم عظة لناس وإضلالاً لآخرين فمن أريد به الخير وفق لمثل خير يرده عن غيه، ومن أريد به الشر اقتدى به في الشر، وقرأ حمزة والكسائي: بضم السين واللام والباقون بفتحهما، فأما الأولى: فتحتمل ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه جمع سليف كرغيف ورغف وسمع القاسم بن معن من العرب: سليف من الناس كالفريق منهم، والثاني: أنه جمع سالف كصابر وصبير، والثالث: أنها جمع سلف كاسد وأسد، وأما الثانية: فتحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يكون جمعاً لسالف كحارس وحرس وخادم وخدم وهذا في الحقيقة اسم جمع لا جمع تكسير إذ ليس في أبنية التكسير صيغة فعل، والثاني: أنه مصدر يطلق على الجماعة تقول سلف الرجل يسلف سلفاً أي: تقدم والسلف كل شيء قدمته من عمل صالح أو قرض وسلف الرجل آباؤه المتقدمون والجمع أسلاف وسلاف، وقال طفيل: سلفوا سلفاً فصد السبيل عليهم صروف المنايا والرجال تغلب واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
{ولما ضرب ابن مريم مثلاً} فقال ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين: نزلت في مجادلة عبد الله بن الزبعرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى عليه السلام لما نزل قوله تعالى {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} كما تقدم في سورة الأنبياء والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلاً وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه {إذا قومك} أي: من قريش {منه} أي: من هذا المثل {يصدون} أي: يرفع لهم ضجيج فرحاً بسبب ما رأوا من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم فإن العادات قد جرت بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج، وقال قتادة: يقولون ما يريد محمد منا إلا أن نعبده ونتخذه إلهاً كما عبدت النصارى عيسى.
{وقالوا آلهتنا} أي: التي نعبدها من الأصنام {خير أم هو} قال قتادة: يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم فنعبده ونطيعه ونترك آلهتنا، وقال السدي وابن زيد: يعنون عيسى عليه السلام قالوا: توهم محمد أن كل ما نعبد من دون الله فهو في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة في النار قال الله تعالى: {ما ضربوه} أي: المثل {لك إلا جدلا} أي: خصومة بالباطل لعلمهم أن لفظ ما لغير العاقل فلا يتناول من ذكروه {بل هم قوم} أي: أصحاب قوة على القيام فيما يحاولونه {خصمون} أي: شديدُ الخصام.
روى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال» . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم يصدون بكسر الصاد، والباقون بضمها وهما بمعنى واحد يقال صد يصد ويصد كعكف يعكف ويعكف وعرش يعرش ويعرش، وقيل: الضم من الصدود وهو الإعراض، وقرأ الكوفيون: آلهتنا بتحقيق الهمزتين، والباقون بتسهيل الثانية واتفقوا على إبدال الثانية ألفاً، ثم إنه تعالى بين أن عيسى عبد من عبيده الذين أنعم عليهم بقوله تعالى:
{إن} أي: ما {هو} أي: عيسى عليه السلام {إلا عبد} أي: وليس هو بإله {أنعمنا} أي: بما لنا من العظمة {عليه} أي: بالنبوة والإقدار على(3/569)
الخوارق {وجعلناه} أي: بما خرقنا به العادة في ميلاده وغير ذلك من آياته {مثلاً} أي: أمراً عجيباً كالمثل لغرابته من أنثى فقط بلا واسطة ذكر كما خلقنا آدم من غير ذكر وأنثى وشرفناه بالنبوة {لبني إسرائيل} الذين هم أعرف الناس به، بعضهم بالمشاهدة، وبعضهم بالنقل القريب المتواتر فيعرفون به قدرة الله تعالى على ما يشاء حيث خلقه من غير أبٍ.
{ولو نشاء} أي: على ما لنا من العظمة {لجعلنا} ما هو أغرب مما صنعناه من أمر عيسى عليه السلام {منكم} أي: جعلا مبتدأ منكم إما بالتوليد كما جعلنا عيسى عليه السلام من أنثى من غير ذكر، وجعلنا آدم عليه السلام من تراب من غير أنثى ولا ذكر، وإما بالبدلية {ملائكة في الأرض يخلفون} أي: يخلفونكم في الأرض والمعنى: أن حال عيسى عليه السلام وإن كانت عجيبة فالله تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك، وأن الملائكة مثلكم من حيث إنها ذوات ممكنة يحتمل خلقها توليداً كما جاز خلقها إبداعاً فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إلى الله تعالى.
{وإنه} أي: عيسى عليه السلام {لعلم للساعة} أي: نزوله سبب للعلم بقرب الساعة التي هي تعم الخلائق كلها بالموت فنزوله من أشراط الساعة يعلم به قربها قال صلى الله عليه وسلم «يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عادلاً يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية وتهلك في زمنه الملل كلها إلا الإسلام» .
وروي: «أنه ينزل على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها: أنيق وبيده حربة وعليه مخصرتان وشعر رأسه دهين يقتل الدجال ويأتي بيت المقدس والناس في صلاة العصر، وروي في صلاة الصبح فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنزير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به» . وقال النبي صلى الله عليه وسلم «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» . وقال الحسن وجماعة. وإنه أي: القرآن لعلم للساعة يعلمكم قيامها ويخبركم أحوالها وأهوالها {فلا تمترن بها} حذف منه نون الرفع للجزم وواو الضمير لالتقاء الساكنين من المرية وهي الشك أي: لا تشكن فيها وقال ابن عباس: لا تكذبوا بها {واتبعوني} أي: أوجدوا تبعكم لي {هذا} أي: كل ما أمرتكم به من هذا أو غيره {صراط} أي: طريق واضح {مستقيم} أي: لا عوج له، وقرأ أبو عمرو بإثبات الياء في الوصل دون الوقف والباقون بغير ياء وصلاً وقفاً.
{ولا يصدنكم الشيطان} أي: عن هذا الطريق الواضح الواسع المستقيم الموصل إلى المقصود بأيسر سعي {إنه لكم} أي: عامة وأكد الخبر لأن أفعال التابعين له أفعال من ينكر عداوته {عدو مبين} أي: واضح العداوة في نفسه مناد بها وذلك بإبلاغه في عداوة أبيكم آدم عليه السلام حتى أنزلكم بإنزاله عن محل الراحة إلى موضع النصب عداوة ناشئة عن الحسد فهي لا تنفك أبداً.
{ولما جاء عيسى} أي: إلى بني إسرائيل {بالبينات} أي: المعجزات أي: بآيات الإنجيل وبالشرائع الواضحات {قال} منبهاً لهم {قد جئتكم} بما يدلكم قطعاً على أني آية من عند الله وكلمة منه {بالحكمة} أي: الأمر المحكم الذي لا يستطاع نقضه، ولا يدفع بالمعاندة لأخلصكم بذلك مما وقعتم فيه من الضلال {ولأبين لكم} أي: بياناً واضحاً(3/570)
{بعض الذي تختلفون} أي: الآن {فيه} ولا تزالون تجددون الخلاف بسببه، فإن قيل: لِمَ لم يبين لهم كل الذي يختلفون فيه؟.
أجيب: بأنه بين لهم كل ما يكون من أمر الدين لا ما يتعلق بأمر الدنيا فإن الأنبياء لم تبعث لبيانه، ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم «أنتم أعلم بأمر دنياكم» . ويحتمل أن يكون المراد أنه يبين لهم بعض المتشابه وهو ما يكون بيانه كافياً في رد بقية المتشابه إلى المحكم بالقياس عليه، فإن الشأن في كل كتاب أن يجمع المحكم والمتشابه، فالمحكم: ما ليس فيه التباس، والمتشابه: ما يكون ملتبساً وفيه ما يرده إلى المحكم لكن على طريق الرمز والإشارة التي لا يذوقها إلا أهل البصائر ليتبين بذلك الصادق من الكاذب، فالصادق الذي رسخ علماً وإيماناً يرد المتشابه منه إلى المحكم أو يعجز فيقول: الله أعلم بمراده {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} (آل عمران: 8)
ولا يتزلزل، والكاذب يتبع المتشابه فيجريه على ظاهره كأهل الإلحاد الجوامد المفتونين أو يؤوله بحسب هواه بما لا يتمشى على قواعد العلم ولا يوافق المحكم فيفتتن.
ولما بين لهم الأصول والفروع قال: {فاتقوا الله} أي: خافوا من له الملك الأعظم من الكفر والإعراض عن دينه لأن له كل شيء منكم ومن غيركم، ومن المعلوم لكل ذي عقل أنه لا يتصرف في ملك الغير بوجه من الوجه إلا بإذنه {وأطيعون} أي: فيما أبلغه عنه إليكم من التكاليف فطاعتي لأمره بما يرضيه هو ثمرة التقوى وكلما زاد المتقي في أعمال الطاعة زادت تقواه.
{إن الله} أي: الذي اختص بالجلال والجمال فكان أهلاً لأن يُتقى {هو} أي: وحده {ربي وربكم} أي: المحسن إلي وإليكم {فاعبدوه} أي: بما أمركم به لأنه صدقني في أمركم باتباعي بما أظهره على يدي فصار هو الآمر لكم لا أنا {هذا} أي: الأمر العظيم الذي دعوتكم إليه {صراط} أي: طريق واسع جداً واضح {مستقيم} لا عوج فيه.
ولما كان الطريق الواضح القويم موجباً للاجتماع عليه والوفاق عند سلوكه بين تعالى أنهم اختلفوا فيه بقوله تعالى:
{فاختلف الأحزاب} أي: الفرق المتحزبة {من بينهم} أي: اختلافاً ناشئاً ابتداء من بني إسرائيل في عيسى أهو الله؟ أو ابن الله؟ أو ثالث ثلاثة؟ وقوله تعالى: {فويل} كلمة عذاب {للذين ظلموا} أي: وضعوا الشيء في غير موضعه بما قالوه في عيسى عليه السلام {من عذاب يوم أليم} أي: مؤلم وإذا كان اليوم مؤلماً فما الظن بعذابه.
{هل ينظرون} أي: هل ينظر كفار مكة أو الذين ظلموا {إلا الساعة} أي: ساعة الموت العام والبعث والقيامة فإن ذلك لتحقق أمره كأنه موجود منظور إليه وقوله تعالى: {أن تأتيهم} بدل من الساعة، فإن قيل: قوله تعالى: {بغتة} أي: فجأة يفيد قوله تعالى: {وهم لا يشعرون} أي: بوقت مجيئها قبله؟ أجيب: بأنه يجوز أن تأتيهم بغتة وهم يعرفونه بسبب أنهم يشاهدونه.
{الأخلاء} أي: الأحباء في الدنيا على المعصية وقوله تعالى: {يومئذ} أي: يوم القيامة، متعلق بقوله تعالى: {بعضهم لبعض عدو} أي: يتعادون في ذلك اليوم لانقطاع العلق لظهور ما كانوا يتحابون له سبباً للعذاب {إلا المتقين} أي: المتحابين في الله على طاعة الله تعالى وهم الموحدون الذين يخالل بعضهم بعضاً على الإيمان والتقوى فإن خلتهم لا تصير عداوة.
روى أبو ثور عن مَعْمَر عن قَتَادة عن أبي إسحاق أن علياً قال في الآية: خليلان مؤمنان وخليلان كافران فمات أحد المؤمنين فقال: يا رب إن فلاناً(3/571)
كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك يأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع الله بينهما فيقول: لِيثنين أحدكم على صاحبه فيقول: نِعم الأخ ونِعم الخليل ونِعم الصاحب، قال: ويموت أحد الكافرينِ فيقول: يا رب إن فلاناً كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك فبئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب. ثم بين تعالى ما يتلقى به المؤمنين الذين قد توادوا فيه سبحانه تشريفاً لهم وتسكيناً لما يقتضيه ذلك المقام من الأهوال بقوله تعالى:
{يا عباد} فأضافهم إلى نفسه إضافة تشريفٍ لأن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المطيعين المتقين، وفيه أنواع كثيرة توجب المدح أولها: أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطة وهذا تشريف عظيم بدليل أنه تعالى لما أراد تشريف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده} والثاني قوله: {لا خوف} أي: بوجه من الوجوه {عليكم اليوم} أي: في يوم الآخرة مما يحويه من الأهوال والأمور الشداد والزلزال، وثالثها: قوله تعالى: {ولا أنتم تحزنون} أي: لا يتجدد لكم حزن على شيء فات في وقت من الأوقات الآتية لأنكم لا يفوتكم شيء تسرون به، وقرأ شعبة بفتح الياء في الوصل وسكنها نافع وأبو عمرو وابن عامر وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً وقوله تعالى:
{الذين آمنوا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة يجوز أن يكون نعتاً لعبادي أو بدلاً منه أو عطف بيان له أو مقطوعاً منصوباً بفعلٍ أي: أعني الذين آمنوا أو مرفوعاً وخبره مضمر تقديره يقال لهم: ادخلوا الجنة، قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى مناد: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم فيقول الذين آمنوا {بآياتنا} الظاهرة عظمتها في نفسها أولاً وبنسبتها إلينا ثانياً {وكانوا} أي: دائماً بما هو لهم كالجبلة والخلق {مسملين} أي: منقادين للأوامر والنواهي أتم انقياد فبذلك يعدلون إلى حقيقة التقوى فينكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم فيمر حسابهم على أحسن الوجوه ثم يقال لهم:
{ادخلوا الجنة} ولما كان السرور لا يكمل إلا بالرفيق السار قال تعالى: {أنتم وأزواجكم} أي: نساؤكم اللاتي كن مشاكلات لكم في الصفات، وأما قرناؤهم من الرجال فدخلوا في قوله تعالى وكانوا مسلمين {تحبرون} أي: تسرون وتنعمون والحبرة: المبالغة في الإكرام على أحسن الوجوه وقوله تعالى:
{يطاف} قبله محذوف أي: يدخلون يطاف {عليهم} أي: المتقين الذي جعلناهم بهذا النداء ملوكاً {بصحاف من ذهب} فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم، والصحاف جمع صَحْفَة كجفنة وجفان، قال الجوهري: الصحفة كالقصعة والجمع صحاف، قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة تليها تشبع العشرة ثم الصحفة تشبع الخمسة ثم المِئكلة تشبع الرجلين والثلاثة ثم الصحيفة تشبع الرجل والصحيفة الكتاب والجمع صحف وصحائف.
ولما كانت آلة الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل جرى على ذلك المعهود فعبر بجمع القلة في قوله تعالى: {وأكواب} جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له إيذاناً بأنه لا حاجة أصلاً إلى تعليق شيء لتبريد أو صيانة(3/572)
عن أذى أو نحو ذلك: وقيل: هو كالإبريق إلا أنه لا عروة له، وقيل: إنه لا خرطوم له، وقيل: إنه لا عروة له ولا خرطوم معاً قال الجواليقي: ليتمكن الشارب من أين شاء فإن العروة تمنع من ذلك وقال عدي:
*متكئاً تصفق أبوابه ... يطوف عليه العبد بالكوب*
ثم إنه تعالى لما ذكر التفصيل ذكر بياناً كلياً فقال {وفيها} أي: الجنة {ما تشتهي الأنفس} من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة جزاء لهم بما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا {وتلذ الأعين} أي: من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق.
روي أن رجلاً قال: «يا رسول الله أفي الجنة خيل فإني أحب الخيل فقال: إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً من ياقوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت، فقال أعرابي: يا رسول الله أفي الجنة إبل فإني أحب الإبل فقال: يا أعرابي إن أدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك» وقرأ نافع وابن عامر وحفص بهاء بعد الياء بإثبات العائد على الموصول كقوله تعالى: {الذي يتخبطه الشيطان من المس} والباقون بغيرها بعد الياء كقوله تعالى: {أهذا الذي بعث الله رسولاً} وهذه القراءة مشبهة بقوله تعالى: {وما عملته أيديهم} وهذه الهاء في هذه السورة رسمت في مصاحف المدينة والشام وحذفت من غيرها، وقد وقع لأبي عبد الله الفاسي شارح القصيدة وهم فسبق قلمه فكتب الهاء منه محذوفة في مصاحف المدينة والشام مثبوتة في غيرها فعكس.
ولما كان ذلك لا يكمل إلا بالدوام قال تعالى عائداً إلى الخطاب لأنه أشرف وأكد {وأنتم فيها خالدون} لبقائها وبقاء كل ما فيها فلا كلفة عليهم أصلاً من خوف من زوال ولا خوف من فوات. ثم أشار إلى فخامتها بأداة البعد فقال تعالى:
{وتلك الجنة} أي: العالية المقام {التي أورثتموها} شبه جزاء العمل بالميراث لأنه يخلفه عليه العامل، وقرأ أبو عمرو وهشام وحمزة والكسائي بإدغام الثاء المثلثة في المثناة وأظهرها الباقون {بما} أي: بسبب ما {كنتم تعملون} أي: مواظبين على ذلك لا تفترون لأن العمل كان لهم كالجبلة التي جبلوا عليها فالمنة لربهم في الحقيقة بما زكى لهم أنفسهم.
ولما ذكر سبحانه الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال:
{لكم فيها فاكهة} أي: ما يؤكل تفكهاً وإن كان لحماً وخبزاً {كثيرة} ودل على الكثرة وعلى دوام النعمة بقصد التفكه لكل شيء فيها بقوله تعالى: {منها} أي: لا من غيرها مما يلحظ فيه القوت {تأكلون} فلا تنفد أبداً ولا تتأثر بأكل الآكلين لأنها على صفة الماء النابع لا يؤخذ منها شيء إلا خلف مكانه مثله في الحال، ورد في الحديث: «أنه لا ينزع رجل ثمرة إلا نبت مكانها مثلاها» .
تنبيه:
لما بعث الله تعالى نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام إلى العرب وكانت في ضيق شديد بسبب المأكول والمشروب والفاكهة ذكر الله تعالى هذه المعاني مرة بعد أخرى تكميلاً لرغباتهم وتقوية لدواعيهم ومِنْ في قوله تعالى {منها تأكلون} تبعيضية أو ابتدائية وقدم الجار لأجل الفاصلة.
ولما ذكر سبحانه الوعد أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن فقال تعالى:
{إن المجرمين} أي: الراسخين في قطع ما أمر الله به أن يوصل {في عذاب جهنم}(3/573)
أي: النار التي من شأنها إلقاء داخلها بالتجهم والكراهة والعبوسة كما كان يعمل عند قطعه لأولياء الله تعالى {خالدون} لأن اجتراءهم كان طبعاً لهم لا ينفكون عنه أصلاً ما بقوا.
{لا يفتر عنهم} أي: لا يقصد إضعافه بنوع من الضعف فنفي التفتر نفي للفتور من غير عكس، قال البيضاوي: وهو من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلاً والتركيب للضعف {وهم فيه} أي: العذاب {مبلسون} أي: ساكتون سكوت يأس من النجاة والفرج، وعن الضحاك: يجعل المجرم في تابوت من نار ثم يقفل عليه فيبقى خالداً لا يرى ولا يرى.
{وما ظلمناهم} نوعاً من الظلم {ولكن كانوا} جبلة وطبعاً وعملاً وصنعاً {هم الظالمين} لأنهم بارزوا المنعم عليهم بالعظائم ونووا أنهم لا ينفكون عن ذلك ما بقوا والأعمال بالنيات.
ولما كان مفهوم الإبلاس السكوت بين تعالى أنهم ليسوا ساكتين دائماً بقوله تعالى:
{ونادوا} ثم بين أن المنادي خازن النار بقوله تعالى: مؤكداً البعد بأداته {يا مالك ليقض علينا} أي: سل سؤالاً حتماً أن يقضي القضاء الذي لا قضاء مثله وهو الموت على كل واحد منا وجروا على عادتهم في الغباوة والجلافة فقالوا: {ربك} أي: المحسن إليك فلم يروا للَّه تعالى عليهم إحساناً وهم في تلك الحالة ولا شك أن إحسانه ما انقطع عن موجود أصلاً، وأقل ذلك أنه لا يعذب أحداً منهم فوق استحقاقه، ولذلك جعل النار دركات كما جعل الجنة درجات فأجاب مالك عليه السلام بأن {قال} مؤكداً قطعاً لأطماعهم لأن كلامهم هذا هو بحيث يفهم الرجاء وإعلاماً بأن رحمة الله التي موضع الرجاء خاصة بغيرهم {إنّكم ماكثون} أي: دائماً أبداً لا خلاص لكم بموت ولا غيره وليس في القرآن متى أجابهم هل أجابهم في الحال أو بعد مدة لكن.
روى ابن عباس: أن أهل النار يدعون مالكاً خازن النار يقولون: ليقض علينا ربك أي: ليمتنا ربك فنستريح، فيجيبهم مالك بعد ألف سنة إنكم ماكثون أي: مقيمون في العذاب. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: يجيبهم بعد أربعين، وعن غيره مائة سنة واختلفوا في أن قولهم: {يا مالك ليقض علينا ربك} على أي وجه طلبوه فقال بعضهم: على التمني وقال آخرون: على وجه الاستغاثة وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم من ذلك العذاب. ثم إنه تعالى ذكر ما هو كالعلة لذلك الجواب بقوله تعالى:
{لقد جئناكم} أي: في هذه السورة خصوصاً وفي جميع القرآن عموماً {بالحق} على لسان الرسل وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال عند الجيم، والباقون بالإدغام {ولكن أكثركم للحق كارهون} لما فيه من المنع من الشهوات فلذلك أنتم تقولون إنه ليس بحق لأجل كراهتكم فقط لا لأجل أن في حقيّته نوعاً من الخفاء، فإن قيل: كيف قال: ونادوا يا مالك بعد أن وصفهم بالإبلاس؟ أجيب: بأنها أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم، روى أنه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون: ادعوا مالكاً فيدعون {يا مالك ليقض علينا ربك} .
ولما ذكر تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ذكر بعده كيفية مكرهم وفساد باطنهم في الدنيا فقال تعالى:
{أم أبرموا} أي: أحكم كفار مكة {أمراً} أي: في المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رد أمرنا ومعاداة أوليائنا مع علمهم بأنا مطلعون عليهم {فإنا مبرمون}(3/574)
أي: محكمون أمراً في مجازاتهم أي: مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى: {أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون} (الطور: 42)
قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم المكر في دار الندوة.
تنبيه: أم منقطعة والإبرام: الإتقان وأصله في الفتل يقال أبرم الحبل، أي: أتقن فتله وهو الفتل الثاني والأول يقال له سحيل قال زهير:
*لعمري لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم*
{أم يحسبون أنا} أي: على ما لنا من العظمة المقتضية لجميع صفات الكمال {لا نسمع سرهم} أي: كلامهم الخفي ولو كان في الضمائر فيما يغضبنا، والسر ما حدث به الشخص نفسه أو غيره في مكان خال.
ولما كان ربما وقع في الأوهام أن المراد بالسمع إنما هو العلم لأن السر ما يخفى وهو يعلم ما في الضمائر وهي مما يعلم حقق أن المراد به حقيقته بقوله تعالى: {ونجواهم} أي: تناجيهم في كلامهم المرتفع فيما بينهم حتى كأنه على نجوة أي: مكان عال، فعلم أن المراد حقيقة السمع وأنه تعالى يسمع كل ما يمكن أن يسمع {بلى} نسمع الصنفين كليهما على حد سواء {ورسلنا} وهم الحفظة من الملائكة على الجميع السلام على ما لهم من العظمة بنسبتهم إلينا {لديهم} أي: عندهم، وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها {يكتبون} أي: يجددون الكتابة كل ما تجدد ما يقتضيها لأن الكتابة أوقع في التهديد لأن من علم أن أعماله محصاة مكتوبة يجتنب ما يخاف عاقبته، وعن يحيى بن معاذ الرازي: من ستر عن الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السموات فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من علامات النفاق.
ولما تقدم أول السورة تبكيتهم والتعجيب منهم في ادعائهم لله ولداً من الملائكة وهددهم بقوله تعالى: {ستكتب شهادتهم ويسألون} أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم:
{قل} أي: لهؤلاء البعداء البغضاء {إن كان للرحمن} أي: العام الرحمة {ولد} أي: على زعمكم والمراد به الجنس لادعائهم في الملائكة وغيرهم {فأنا} أي: في الرتبة، وقرأ نافع بمد الألف بعد النون والباقون بغير مد {أول العابدين} للرحمن العبادة التي هي العبادة ولا يستحق غيرها أن يسمى عبادة وهي الخالصة أي: فأنا لا أعبد غيره لا ولداً ولا غيره، ولم يشأ لي الرحمن أن أعبد الولد ولا غيره، أو يكون المعنى: أنا أول العابدين للرحمن على وجه الإخلاص لم أشرك به شيئاً أصلاً في وقت من الأوقات بما سميتموه ولداً أو شريكاً أو غيرهما، ولو شاء ما عبدته على وجه الإخلاص ولا شك عندكم وعند غيركم أن من أخلص لأحد كان أولى من غيره برحمته فلو أن الإخلاص له ممنوع ما شاءه لي ولولا أن عبادة غيره ممنوعة لشاءها لي ولو أن له ولداً لشاء لي عبادته، فإن عموم رحمته لكافة خلقه لكونهم خلقه وخصوصها بي لكوني عبده خالصاً يمنع على زعمكم من أن يشقيني وأنا أخلص له فبطلت شبهتكم بمثلها بل بأقوى منها، وهذا مما علق بشيء هو بنقيضه أولى.
وقال الزمخشري: إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه وأن لا يترك(3/575)
الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق بها محالاً مثلها فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها، ثم قال: وقد تمحل الناس بما أخرجوه من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه فقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه، وقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد.
وقال ابن عباس: إن أن نافية أي: ما كان له ولد فإني أول من عبده رتبة وما علمت له ولداً ولو كان له ولد إله لعبدته تقرباً إليه بعبادة ولده، وروي أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال: إن الملائكة بنات الله تعالى فنزلت فقال النضر: ألا ترون أنه قد صدقني فقال له الوليد بن المغيرة: ما صدقك ولكن قال ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له ثم إنه تعالى نزه نفسه فقال:
{سبحان رب} أي: مبدع ومالك {السموات والأرض} أي: اللتين كل ما فيهما ومن فيهما مقهور مربوب محتاج لا يصح أن يكون له منه سبحانه نسبة بغير العبودية بالإيجاد والتربية.
ولما كانت خاصة الملك أن يكون له ما لا يصل إليه غيره بوجه أصلاً قال محققاً لملكه لجميع ما سواه ومن سواه وملكه له، ولم يعد العطف لأن العرش من السموات {رب العرش} أي: المختص به لكونه خاصة الملك الذي وسع كرسيه السموات والأرض {عما يصفون} أي: يقولون من الكذب من أن له ولداً أو شريكاً وذلك أن إله العالم يجب أن يكون واجب الوجود لذاته، وكل ما كان كذلك فهو لا يقبل التجزي بوجه من الوجوه، والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء فيتولد عن ذلك الجزء شخص مثله وهذا إنما يعقل فيمن تكون ذاته قابلة للتجزي والتبعيض، وإذا كان ذلك محالاً في حق إله العالم امتنع إثبات الولد.
ولما ذكر تعالى هذا البرهان القاطع قال تعالى مسبباً عن ذلك:
{فذرهم} أي: اتركهم على أسوأ أحوالهم {يخوضوا} أي: يفعلوا في باطلهم فعل الخائض في الماء {ويلعبوا} أي: يفعلوا فعل اللاعب في دنياهم {حتى يلاقوا} أي: يفعلوا بتصرم أعمارهم في فعل ما لا ينفعهم فعل المجتهدين في أن يلقوا {يومهم الذي يوعدون} أي: بوعد لا خلف فيه وهو يوم القيامة فيظهر فيه وعيدهم والمقصود منه التهديد لأنه تعالى ذكر الحجة القاطعة على فساد ما ذكروا فلم يلتفتوا إليها لأجل استغراقهم في طلب المال والجاه والرياسة، فاتركهم في ذلك الباطل واللعب حتى يصلوا إلى ذلك اليوم الموعود به ثم زاد في التنزيه فقال تعالى:
{وهو الذي في السماء إله} أي: معبود لا شريك له {وفي الأرض إله} تتوجه الرغبات إليه في جميع الأحوال وتخلص إليه في جميع أوقات الاضطرار، فقد وقع الإجماع من جميع من في السماء والأرض على إلهيته فثبت استحقاقه لهذه الرتبة وثبت اختصاصه باستحقاقها في الشدائد فباقي الأوقات كذلك من غير فرق لأنه لا مشارك له في هذا الاستحقاق فعبادة غيره باطلة، وقرأ قالون والبزي بتسهيلها مع المد والقصر، وقرأ أبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل(3/576)
الثانية وإبدالها أيضاً ألفاً وقرأ الباقون بتحقيقهما.
تنبيه: كل من الظرفين متعلق بما بعده لأن إله بمعنى معبود أي: معبود في السماء ومعبود في الأرض وحينئذ يقال: الصلة لا تكون إلا جملة أو ما في تقديرها وهو الظرف وعديله ولا شيء منهما هنا؟ أجيب: بأن المبتدأ حذف لدلالة المعنى عليه وذلك المحذوف هو العائد تقديره وهو الذي هو في السماء إله وهو في الأرض إله، وإنما حذف لطول الصلة بالمعمول فإن الجار متعلق بإله ومثله ما أنا بالذي قائل لك سوأ {وهو الحكيم} أي: البليغ الحكمة في تدبير خلقه {العليم} أي: البالغ في علمه بمصالحهم.
{وتبارك} أي: وثبت ثباتاً لا يشبهه ثبات لأنه لا زوال له مع اليمن والبركة وكل كمال فلا شبيه له حتى يدعى أنه ولد له أو شريك. ثم وصفه تعالى بما يبين تباركيته واختصاصه بالألوهية فقال عز من قائل: {الذي له ملك السموات} أي: كلها {والأرض} كذلك {وما بينهما} أي: وما بين كل اثنين منهما، والدليل على هذا الإجماع القائم على توحيده عند الاضطرار {وعنده} أي: وحده {علم الساعة} أي: العلم بالساعة التي تقوم القيامة فيها {وإليه} أي: وحده لا إلى غيره {ترجعون} بأيسر أمر تحقيقاً لملكه وقطعاً للنزاع في وحدانيته، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء التحتية على الغيبة، والباقون بالفوقية على الالتفات للتهديد.
{ولا يملك} أي: بوجه من الوجوه في وقت ما {الذين يدعون} أي: يعبدون أي: الكفار {من دونه} أي: الله تعالى {الشفاعة} كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله وقوله تعالى {إلا من شهد بالحق} أي: قال: لا إله إلا الله، فيه قولان؛ أحدهما: أنه متصل إن أريد بالموصول كل ما عبد من دون الله والمعنى: لا يقدر هؤلاء أن يشفعوا لأحد إلا من شهد بالحق {وهم يعلمون} أي: بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم وهم عيسى ومريم وعزير والملائكة فإنهم يملكون أن يشفعوا للمؤمنين بتمليك الله تعالى إياهم لها، والثاني: هو منقطع إن خص بالأصنام.
{ولئن سألتهم} أي: الكفار مع ادعائهم الشريك {من خلقهم} أي: العابدين والمعبودين معاً {ليقولون الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال لتعذر المكابرة من فرط ظهوره {فأنى} أي: فكيف وأي جهة بعد أن أثبتوا له الخلق والأمر {يؤفكون} أي: يصرفون عن اتباع رسولنا الآمر لهم بتوحيدنا في العبادة كما أنا توحدنا في الخلق. وقرأ:
{وقيله} أي: قول محمد صلى الله عليه وسلم عاصم وحمزة بخفض اللام والهاء على معنى وعنده علم الساعة وعلم قبله، والباقون بنصب اللام ورفع الهاء على المصدر بفعله المقدر أي: وقال {يا رب إن هؤلاء قوم} أي: أقوياء على الباطل ولم يضفهم إلى نفسه بأن يقول قومي ونحو ذلك من العبارات ولا سماهم باسم قبيلتهم لما شأنه من حالهم {لا يؤمنون} أي: لا يتجدد منهم هذا الفعل أصلاً.
{فاصفح} أي: اعف عفو من أعرض {عنهم} صفحاً فلا تلتفت إليهم بغير التبليغ {وقل} أي: لهم {سلام} أي: شأني الآن متاركتكم بسلامتكم مني وسلامتي منكم، قال ابن عباس: وهذا منسوخ بآية السيف، وقال الرازي: وعندي التزام النسخ في مثل هذه المواضع مشكل لأن الأمر لا يقيد بالفعل إلا مرة واحدة فسقطت دلالة اللفظ فأي حاجة إلى التزام النسخ، وأيضاً فاللفظ المطلق قد يتقيد بحسب العرف فإذا كان كذلك فلا حاجة إلى التزام النسخ(3/577)
وجرى على النسخ الجلال المحلي فقال: وهذا قبل أن يؤمر بقتالهم وقوله تعالى: {فسوف يعلمون} فيه تهديد لهم وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وقرأ نافع وابن عامر بتاء الخطاب التفاتاً، والباقون بياء الغيبة نظراً لما تقدم وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة: يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون» حديث موضوع.
سورة الدخان
مكية وقيل: إلا قوله تعالى: {إنا كاشفوا العذاب قليلاً} الآيةوهي ست أو سبع أو تسع وخمسون آية وثلاثمئةوست وأربعون كلمة وألف وأربعمائة وواحد وثلاثون حرفاً
{بسم الله} الملك الجبار الواحد القهار.
{الرحمن} الذي عم بنعمته سائر مخلوقاته {الرحيم} بأهل وداده وقوله تعالى:
{حم} قرأه ابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بإمالة الحاء محضة، وقرأه ورش وأبو عمرو بالإمالة بين بين والباقون بالفتح وتقدمت الإشارة إلى شيء من أسرار أخواتها وقوله تعالى:
{والكتاب المبين} فيه احتمالان؛ الأول: أن يكون التقدير هذه حم والكتاب المبين كقولك: هذا زيد والله، الثاني: أن يكون التقدير حم والكتاب المبين.
{إنا أنزلناه} فيكون في ذلك تقدير قسمين على شيء واحد ويجوز أن يكون {إنا أنزلناه} جواب القسم وأن يكون اعتراضاً والجواب قوله تعالى: {إنا كنا منذرين} واختاره ابن عطية، وقيل: {إنا كنا} مستأنف و {فيها يفرق} يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون صفة ليلة وما بينهما اعتراض.
تنبيه: يجوز أن يكون المراد بالكتاب هنا الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب} (الحديد: 25)
ويجوز أن يكون المراد به اللوح المحفوظ قال الله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} (الرعد: 39)
وقال تعالى: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} (الزخرف: 4)
ويجوز أن يكون المراد به القرآن واقتصر على ذلك البيضاوي وتبعه الجلال المحلي، وعلى هذا فقد أقسم بالقرآن أنه أنزل القرآن في ليلة مباركة، وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم الرجل له إليه حاجة: أتشفع بك إليك وأقسم بحقك عليك وجاء في الحديث: «أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك» . والمبين: هو المشتمل على بيان ما بالناس من حاجة إليه في دينهم ودنياهم فوصفه بكونه مبيناً وإن كانت حقيقة الإبانة لله تعالى لأن الإبانة حصلت به كقوله تعالى: {أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون} (الروم: 35)
فوصفه بالتكلم إذ كان غاية في الإبانة فكأنه ذو لسان ينطق مبالغة في وصفه.
واختلف في قوله سبحانه وتعالى: {في ليلة مباركة} فقال قتادة وابن زيد وأكثر المفسرين: هي ليلة القدر: وقال عكرمة وطائفة: إنها ليلة البراءة وهي ليلة النصف من شعبان، واحتج الأولون بوجوه؛ الأول: قوله تعالى {إنا أنزلنا في ليلة القدر} (القدر: 4)
فقوله تعالى {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} يجب أن تكون هي تلك الليلة(3/578)
المسماة بليلة القدر لئلا يلزم التناقض، ثانيها: قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} (البقرة: 185)
فقوله تعالى ههنا {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} يجب أن تكون هذه الليلة المباركة في رمضان فثبت أنها ليلة القدر، ثالثها: قوله تعالى في صفة ليلة القدر: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} (القدر: 4)
وقال تعالى ههنا.
{فيها يفرق كل أمر حكيم} وقال ههنا {رحمة من ربك} وقال تعالى في ليلة القدر {سلام هي} (القدر: 5)
وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى، رابعها: نقل محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لست ليال منه، والزبور لثنتي عشرة ليلة مضت منه، والقرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان، والليلة المباركة هي: ليلة القدر، خامسها: أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم، ومعلوم أن قدرها وشرفها ليس بسبب نفس الزمان لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمور شريفة لها قدر عظيم، ومن المعلوم أن منصب الدين أعظم من مناصب الدنيا، وأعظم الأشياء وأشرفها شعباً في الدين هو القرآن لأنه ثبت به نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل كما قال تعالى في صفته: {ومهيمناً عليه} (المائدة: 48)
وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ودركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدراً وأعلى ذكراً وأعظم منصباً، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر هي التي وقعت في رمضان علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة وهذه أدلة ظاهرة واضحة، واحتج الآخرون على أنها ليلة النصف من شعبان بوجوه؛ أولها: أن لها أربعة أسماء الليلة المباركة وليلة البراءة وليلة الصك وليلة الرحمة، وقيل: بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة.
وقيل في تسميتها: ليلة البراءة والصك أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة وكذلك الله تعالى يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة، ثانيها: أنها مختصة بخمس خصال الأولى: قال تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم} والثانية: فضيلة العبادة فيها، روى الزمخشري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله تعالى إليه مائة ملك: ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان» . ثالثها: نزول الرحمة قال صلى الله عليه وسلم «إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب» . رابعها: حصول المغفرة فيها قال صلى الله عليه وسلم «إن الله يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا الكاهن والساحر ومدمن الخمر وعاق والديه والمصر على الزنا» . خامسها: أنه تعالى أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة تمام الشفاعة في أمته، قال الزمخشري: وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطي الثلث منها ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطي الثلثين ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطي الجميع إلا من شرد عن الله شرود البعير.
وروي أن عطية الحروري سأل ابن عباس عن قوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} (القدر: 1)
كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الشهور فقال ابن عباس: يا ابن الأسود لو هلكت أنا ووقع في نفسك هذا ولم(3/579)
تحرجوا به لهلكت، نزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالاً فحالاً، وقال قتادة وابن زيد: أنزل الله تعالى القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا ثم نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم نجوماً في عشرين سنة وقوله تعالى {إنا} أي: على ما لنا من العظمة {كنا} أي: دائماً لعبادنا {منذرين} أي: مخوفين استئناف بين به المقتضى للإنزال وكذلك قوله تعالى:
{فيها} أي: الليلة المباركة سواء قلنا إنها ليلة القدر أو ليلة النصف {يفرق} أي: ينشر ويبين ويفصل ويوضح مرة بعد مرة {كل أمر حكيم} أي: محكم الأمر لا يستطاع أن يطعن فيه بوجه من جميع ما يوحي به من الكتب وغيرها والأرزاق والآجال والنصر والهزيمة والخصب والقحط وغيرها من جميع أقسام الحوادث وجزئياتها في أوقاتها وأماكنها، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء فيزدادون بذلك إيماناً، قال ابن عباس: يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج يقال: يحج فلان ويحج فلان، وقال الحسن ومجاهد وقتادة: يبرم في ليلة القدر في شهر رمضان كل عمل وأجل وخلق ورزق وما يكون في تلك السنة، وقال عكرمة: ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وتنسخ الأحياء من الأموات فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أحد قال صلى الله عليه وسلم «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح النساء ويولد له وقد خرج اسمه في ديوان الموتى» .
وعن ابن عباس: أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدور، وروي: أن الله تعالى أنزل القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ووقع الفراغ في ليلة القدر فدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبريل وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ونسخة الأعمال، قال ابن عادل: إلى إسرافيل وقال الزمخشري: إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت، قال الزمخشري: وعن بعضهم يعطى كل عامل بركات أعماله فيلقى على ألسنة الخلق مدحه وعلى قلوبهم هيبته وقوله تعالى:
{أمراً} أي: فرقاً حال من فاعل أنزلناه ومن مفعوله أي: أنزلناه آمرين أو مأموراً به كائناً {من عندنا} على مقتضى حكمتنا وقوله تعالى: {إنا كنا} أي: أزلاً وأبداً {مرسلين} جواب ثالث أو مستأنف أو بدل من قوله تعالى: {إنا كنا منذرين} أي: لنا صفة الإرسال بالقدرة عليها في كل حين والإرسال لمصالح العباد لا بد فيه من الفرقان بالبشارة والنذارة وغيرهما حتى لا يكون لبس فلا يكون لأحد على الله تعالى حجة، قال البقاعي: وهذا الكلام المنتظم والقول الملتئم بعضه ببعض المتراصف أجمل رصف في وصف ليلة الإنزال دال على أنه لم ينزل صحيفة ولا كتاباً إلا في هذه الليلة، فيدل على أنها ليلة القدر للأحاديث الواردة في أن الكتب كلها نزلت فيها، وكذلك قوله تعالى في سورة القدر: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} (القدر: 4)
فإن الوحي الذي هو مجمع ذلك هو روح الأمر الحكيم ثم بين تعالى حال الرسالات بقوله تعالى:
{رحمة} وعدل لأجل(3/580)
ما اقتضاه التعبير بالرحمة عما كان من أسلوب التكلم بالعظمة من قوله: {منا} إلى قوله تعالى {من ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك وإرسال كل نبي مضى من قبلك فإن رسالاتهم كانت لب الأنوار في العبادات وتمهيد الشرائع في البلاد حتى استنارت القلوب واطمأنت النفوس بما صارت تعهد من شرع الشرائع وتوطئة الأديان فتسهلت طرق الرب لتعميم رسالتك حتى ملأت أنوارك الآفاق فكنت نتيجة كل من تقدمك من الرفاق وقال ابن عباس: معنى رحمة من ربك أي: رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل، وقال الزجاج: أنزلناه في ليلة مباركة للرحمة {إنه هو} أي: وحده {السميع العليم} أي: أن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة لأن المحتاجين إما أن يذكروا حاجاتهم بألسنتهم أو لم يذكروها فإن ذكروها فإنه سميع وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بها.
{رب} أي: مالك ومنشئ ومدبر {السموات} أي: جميع الأجرام العالية {والأرض وما بينهما} مما تشاهدون من هذا الفضاء وما فيه من الهواء وغيره مما تعلمون من أكساب العباد وغيرها مما لا تعلمون، ومن المعلوم أنه ذو العرش والكرسي فعلم بهذا أنه مالك الملك كله، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بخفض الباء الموحدة على البدل أو البيان أو النعت، والباقون برفعها على إضمار مبتدأ أو على أنه مبتدأ خبره لا إله إلا هو، والمقصود من هذه الآية أن المنزِّل إذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء كان المنزَّل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة، فإن قيل: ما معنى الشرط الذي هو قوله تعالى {إن كنتم موقنين} ؟ أجيب: بأنهم كانوا يقرون بأن للسموات والأرض رباً وخالقاً فقيل لهم: إن كنتم يا أهل مكة موقنين بأنه تعالى رب السموات والأرض فأيقنوا بأن محمداً عبده ورسوله.
ولما ثبت بهذا النظر الصافي ربوبيته وبعدم اختلال التدبير على طول الزمان وحدانيته أنتج ذلك قوله تعالى:
{لا إله إلا هو} أي: وإلا لنازعه في أمرهما منازع، أو أمكن أن ينازع فيكون محتاجاً لا محالة وإلا لدفع عنه من يمكن نزاعه وخلافه إياه فلا يكون صالحاً للتدبير والقهر لكل من يخالف رسله والإنجاء لكل من يوافقهم على ممر الزمان وتطاول الدهر ومر الحدثان على نظام مستمر وحال ثابت مستقر.
ولما ثبت أنه لا مدبر للوجود غيره ثبت قوله تعالى: {يحيي ويميت} لأن ذلك من أجل ما فيهما من التدبير وهو تنبيه على تمام دلائل التوحيد لأنه لا شيء ممن فيهما يبقى ليسند التدبير إليه ويحال شيء من الأمر عليه فهما جملتان الأولى: نافية لما أثبتوه من الشركة، والثانية، مثبتة لما نفوه من البعث {ربكم} أي: الذي أفاض عليكم ما تشاهدونه من النعم في الأرواح وغيرها {ورب آبائكم الأولين} أي: الذي أفاض عليهم ما أفاض عليكم ثم سلبهم ذلك كما تعلمون فلم يقدر أحد منهم على ممانعة، ولا طمع في منازعة بنوع مدافعة.
{بل هم} أي: بضمائرهم {في شك} أي: من البعث {يلعبون} أي: يفعلون دائماً فعل التارك لما هو فيه من أخذ الجد الذي لا مرية فيه إلى اللعب الذي لا فائدة فيه ولا ثمرة له بوجه استهزاء بك يا أشرف الرسل فقال صلى الله عليه وسلم «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» قال تعالى:
{فارتقب} أي: انتظر بكل جهد عالياً عليهم ناظراً لأحوالهم نظر من هو حارس(3/581)
لها {يوم تأتي السماء بدخان مبين} أي: ظاهر.
{يغشى الناس} أي: المهددين بهذا فقالوا عند إتيانه {هذا عذاب اليم} أي: يخلص وجعه إلى القلب فيبلغ في ألمه كما كنتم تؤلمون من يدعوكم إلى الله تعالى، واختلف في هذا الدخان فروى أبو الصفاء عن مسروق قال: بينما رجل يحدث في كندة قال: يجيء دخان يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن كهيئة الزكام ففزعنا، فأتينا ابن مسعود وكان متكئاً فغضب فجلس فقال: من علم فليقل به ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: لا أعلم، فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} فإن قريشاً أبطأوا عن الإسلام فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام ويرى الرجل ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وإن قومك قد هلكوا فادع الله تعالى لهم فقرأ {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} إلى قوله تعالى {عائدون} وهذا قول ابن عباس ومقاتل ومجاهد واختيار الفراء والزجاج وهو قول ابن مسعود وكان ينكر أن يكون الدخان إلا هذا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظلمة في أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دخاناً.
وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان في هذه الحالة وجهين الأول: أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض فبسبب انقطاع المطر يرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء وذلك يشبه الدخان ويقولون: كان بيننا أمر ارتفع له دخان، ولهذا يقال للسنة المجدبة الغبراء، الثاني: أن العرب يسمون الشيء الغالب بالدخان والسبب فيه: أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه ويرى الدنيا كالمملوءة من الدخان.
ونقل عن علي بن أبي طالب: أنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة، ويروى أيضاً عن ابن عباس في المشهور عنه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا قال حذيفة: يا رسول الله وما الدخان فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية وقال: يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوماً وليلة، أما المؤمن فيصيبه كالزكمة وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه النار» . وقال صلى الله عليه وسلم «باكروا بالأعمال ستاً وذكر منها طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة» رواه الحسن. واحتج الأولون بأنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون:
{ربنا اكشف عنا العذاب} ثم عللوا بما علموا أنه الموجب للكشف فقالوا مؤكدين {إنا مؤمنون} أي: عريقون في وصف الإيمان فإذا حمل على القحط الذي وقع بمكة استقام، فإنه نقل أن الأمر لما اشتد على أهل مكة مشى إليه أبو سفيان فناشده الله والرحم وواعده إن دعا لهم وأزال عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزالها الله عنهم رجعوا إلى شركهم، أما إذا حمل على أن المراد منه: ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا: {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} ولم يصح أيضاً أن يقال: {إنا كاشفو العذاب قليلاً إنكم عائدون} قال البقاعي: ويصح أن يراد به(3/582)
طلوع الشمس من مغربها، روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها» ثم قرأ الآية.
{أنى} أي: كيف ومن أين {لهم الذكرى} أي: هذا التذكر العظيم الذي وصفوا به أنفسهم، وقرأ حمزة والكسائي أنى بالإمالة محضة، وقرأ أبو عمرو بالإمالة بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح وأمال الذكرى محضة أبو عمرو وحمزة والكسائي، وأمال ورش بين بين، والباقون بالفتح وكذلك الكبري {وقد} أي: والحال أنه قد {جاءهم} ما هو أعظم من ذلك وأدخل في وجوب الطاعة {رسول مبين} أي: ظاهر غاية الظهور، وموضح غاية الإيضاح، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وأظهر دال قد نافع وابن ذكوان وعاصم وأدغمها الباقون.
{ثم تولوا عنه} أي: أطاعوا ما دعاهم إلى الإدبار عنه من دواعي الهوى ونوازع الشهوات والحظوظ {وقالوا} أي: زيادة على إساءتهم بالتولي {معلم} أي: علمه غيره القرآن من البشر، قال بعضهم: علمه غلام أعجمي لبعض ثقيف، وقال آخرون: إنه {مجنون} أي: يلقي الجن إليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي.
{إنا} أي: على ما لنا من العظمة {كاشفو العذاب} أي: بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم فإنه دعا فرفع عنهم القحط {قليلاً} أي: زمناً يسيراً، قيل: إلى يوم بدر، وقيل: ما بقي من أعمارهم {إنكم عائدون} أي: ثابت عودكم عقب كشفنا عنكم إلى الكفران لما في جبلاتكم من العوج وطبائعكم من المبادرة إلى الزلل، فإيمانكم هذا الذي أخبرتم برسوخه عرض زائل وخيال باطل وقوله تعالى:
{يوم نبطش} أي: بما لنا من العظمة {البطشة الكبرى} أي: يوم بدر منصوب باذكر أو بدل من يوم تأتي، والبطش: الأخذ بقوة {إنا منتقمون} أي: منهم في ذلك اليوم وهو قول ابن عباس وأكثر العلماء وفي رواية عن ابن عباس: أنه يوم القيامة.
{ولقد فتنا} أي: اختبرنا بما لنا من العظمة فعل الفاتن وهو المختبر الذي يريد أن يعلم حقيقة الحال بالإبلاء والتمكين ثم الإرسال {قبلهم} أي: هؤلاء العرب ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم {قوم فرعون} أي: مع فرعون لأن ما كان فتنة لقومه كان فتنة له لأن الكبير أرسخ في الفتنة بما أحاط به من الدنيا وسيأتي التصريح به في آخر القصة {وجاءهم} أي: فرعون وقومه زيادة في فتنتهم {رسول كريم} هو موسى عليه السلام قال الكلبي: كريم على ربه بمعنى أنه تعالى أعطاه أنواعاً كثيرة من الإكرام، وقال مقاتل: حسن الخلق، وقال الفراء: يقال فلان كريم قومه، قيل: ما بعث نبي إلا من أشراف قومه وأكرمهم ثم فسر ما بلغهم من الرسالة بقوله:
{أن أدوا إلي} ما أدعوكم إليه من الإيمان أي: أظهروا طاعتكم بالإيمان لي يا {عباد الله} أو أطلقوا بني إسرائيل ولا تعذبوهم وأرسلوهم معي كقوله {فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم} (طه: 47)
{إني لكم} أي: خاصة بسبب ذلك {رسول} أي: من عند الله الذي لا تكون الرسالة الكاملة إلا منه {أمين} أي: بالغ الأمانة لأن الملك الديان لا يرسل إلا من كان كذلك وقوله عليه السلام:
{وأن لا تعلوا} معطوف على أنّ الأولى وأَنْ هذه مقطوعة في الرسم، والمعنى لا تتكبروا {على الله} تعالى بإهانة وحيه ورسوله {إني آتيكم بسلطان} أي: برهان {مبين} أي: بين على رسالتي فتوعدوه حين قال لهم ذلك بالرجم فقال:(3/583)
{وإني عذت} أي: اعتصمت وامتنعت {بربي} الذي رباني على ما اقتضاه لطفه وإحسانه إلي {وربكم} الذي أعاذني من تكبركم وقوة مكَّنتكم {أن ترجمون} أي: أن يتجدد في وقت من الأوقات قتل منكم لي فإني قلت: إني أخاف أن يقتلون فقال تعالى {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا} (القصص: 35)
فمن أعظم آياتي أن لا تصلوا مع قوتكم وكثرتكم إلى قتلي مع أنه لا قوة لي بغير الله الذي أرسلني، وقال ابن عباس: أن ترجمون بالقول وهو الشتم وتقولوا: هو ساحر، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي عذت بإدغام الذال في التاء، والباقون بالإظهار، وقرأ ورش بإثبات الياء بعد النون في ترجمون في الوصل دون الوقف، والباقون بغير ياء وقفاً وصلاً وكذلك فاعتزلون الآتي.
ولما كان التقدير فإن آمنتم بذلك وسلمتم لي أفلحتم عطف عليه قوله تعالى:
{وإن لم تؤمنوا لي} أي: تصدقوا لأجل ما أخبرتكم به {فاعتزلون} أي: كونوا بمعزل مني لا عليّ ولا ليّ فلا تتعرضوا إلي بسوء فإنه ليس جزاء دعائكم إلى ما فيه فَلا حُكم، والفاء في قوله تعالى:
{فدعا} تدل على أنه متصل بمحذوف قبله وتأويله أنهم كفروا ولم يرضوا فدعا موسى عليه السلام {ربه} الذي أحسن إليه سياسته وسياسة قومه ثم فسر ما دعا بقوله: {أن هؤلاء} أي: الحقيرين الأذلين الأرذلين {قوم} لهم قوة على القيام فيما يحاولونه {مجرمون} أي: موصوفون بالعراقة في قطع ما أمرت به أن يوصل، فإن قيل: الكفر أعظم حالاً من الجرم فما السبب في أنه جعل الكفار مجرمين حين أراد المبالغة في ذمهم؟ أجيب: بأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه والفاسق في دينه، أخس الناس. ثم تسبب عن دعائه لأنه ممن يستجاب دعاؤه قوله تعالى:
{فأسر بعبادي} أي: بني إسرائيل الذين أرسلناك لإسعادهم باستنقاذهم ممن يظلمهم وتفريغهم لعبادتي وقوله تعالى: {ليلاً} نصب على الظرفية، والإسراء: سير الليل، فذكر الليل تأكيد بغير اللفظ وإنما أمره بالسير بالليل لأنه أوقع بالقبط موت الإبكار ليلاً فأمر موسى أن يخرج بقومه في ذلك الوقت خوفاً من أن يموتوا مع القبط.
ولما علم الله تعالى أنهم إن تأخروا إلى أن يطلع الفجر ويرتفع عنهم الموت منعوهم الخروج وإن تأخروا إلى آخر الليل أدركوهم قبل الوصول إلى البحر فقتلوهم، علل هذا الأمر بقوله مؤكداً له لأن حال القبط عندما أمرهم بالخروج كان حال من لا يتهيأ له الخروج في قوله: {إنكم متبعون} أي: مطلوبون بغاية الجهد من عدوكم فلا يغرنكم ما هم فيه عند أمركم بالخروج من الجزع من إقامتكم بين أظهرهم وسؤالهم لكم في الخروج عنهم بسبب وقوع الموت الناشئ فيهم، فإن القلوب بيد الله تعالى فهو ينسي قلب فرعون بعد رؤية هذه الآيات حين يرتفع عنهم الموت ويفرغون من دفن موتاهم فيطلبكم لما دبرته في القدم من سياستكم بإغراقهم أجمعين ليظهر مجدي بذلك وأدفع عنكم روع مدافعتهم، فإني أعلم أنه لا قوة لكم ولا طاقة بكم فلم أكلفكم بمباشرة شيء من أمرهم، وقرأ نافع وابن كثير فاسر بوصل الهمزة بعد الفاء، والباقون بقطعها، قال الزمخشري: وفيه وجهان إضمار القول بعد الفاء أي: فقال اسر بعبادي، وجواب شرط مقدر كأنه قال: إن كان الأمر كما تقول: فأسر بعبادي، قال أبو حيان: وكثيراً(3/584)
ما يدعى حذف الشرط ولا يجوز إلا لدليل واضح كأن يتقدمه الأمر أو ما أشبهه يقال: سرى وأسرى لغتان.
ولما أمر بالإسراء أمر بما يفعل فيه فقال تعالى:
{واترك البحر} أي: إذا سريت بهم وتبعك العدو ووصلت بعد إليه وأمرناك بضربه لينفتح لتدخلوا فيه فدخلتم ونجيتم {رهواً} بعد خروجكم منه بأجمعكم وفي الرهو وجهان أحدهما: أنه الساكن أي: اتركه ساكناً قال الأعشى:
*يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل*
أي: مشياً ساكناً على هينه قاراً على حاله بحيث يبقى المرتفع من مائه مرتفعاً، والمنخفض منخفضاً كالجدار، وطريقه الذي سرتم به يابساً ذا سير سهل على الحالة التي دخلتم فيها لأن موسى لما جاوز البحر أراد أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق، فأمر أن يتركه ساكناً على هيئته قاراً على حاله ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله تعالى عليهم، والثاني: أن الرهو الفجوة الواسعة وعن بعض العرب أنه رأى جملاً فالجاً فقال: سبحان الله رهو بين سنامين أي: اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً {إنهم جند مغرقون} أي: متمكنون في هذا الوصف وإن كان لهم وصف القوة والتجمع الذي محطه النجدة الموجبة للعلو في الأمور.
ولما أخبر تعالى عن غرقهم أخبر عن متخلفهم بقوله تعالى:
{كم تركوا} أي: كثيراً ترك الذين سبق الحكم بإغراقهم فغرقوا {من جنات} أي: بساتين هي في غاية ما يكون من طيب الأرض وكثرة الأشجار وزكاء الثمار والنبات وحسنها الذي يستر الهموم ودل على كرم الأرض بقوله تعالى: {وعيون} {وزروع} أي: ما هو دون الأشجار، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بكسر العين والباقون بضمها ثم أخبر عن منازلهم بقوله تعالى: {ومقام كريم} أي: مجلس شريف هو أهل لأن يقوم الإنسان فيه لأنه في النهاية فيما يرضيه.
{ونعمة} وهي اسم للتنعم بمعنى الترفيه والعيش اللين الرغد {كانوا فيها} أي: دائماً {فاكهين} أي: فعلهم في عيشهم فعل المتفكه المترفه لا فعل من يضطر إلى إقامة نفسه وقوله تعالى:
{كذلك} خبر لمبتدأ مضمر أي: الأمر كما أخبرنا به من تنعيمهم وإخراجهم وإغراقهم وأنهم تركوا جميع ما كانوا فيه لم يغن عنهم شيء منه فلا يغتر أحد بما ابتليناه من النعم لئلا نصنع به من الإهلاك ما صنعنا بهم وقوله تعالى: {وأورثناها} أي: تلك الأمور العظيمة عطف على تركوا {قوماً} أي: ناساً ذوي قوة في القيام على ما يحاولونه وحقق أنهم غيرهم تحقيقاً لإغراقهم بقوله تعالى: {آخرين} ليسوا منهم في شيء وهم بنو إسرائيل وقيل: غيرهم لأنهم لم يعودوا إلى مصر بل سكنوا الأرض المقدسة.
ولما سكن القوم الآخرون بمصر ورثوا كنوزها وأموالها ونعمها ومقامها الكريم وقوله تعالى:
{فما بكت عليهم السماء والأرض} مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم لهوانهم، وإذا لم تبك المساكن فما ظنك بالساكن الذي هو فيها تقول العرب: إذا مات رجل خطير في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح وأظلمت له الشمس قال الفرزدق:
*فالشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمر*
وقالت الخارجية:(3/585)
*أيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تجزع على ابن طريف*
وقال جرير:
*لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع*
وذلك على سبيل التخييل والتمثيل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء، عليه قال الزمخشري: وكذلك ما يروى عن ابن عباس من بكاء مصلى المؤمن وآثاره في الأرض ومصاعد عمله ومهابط رزقه في السماء تمثيل، ونفى ذلك عنهم في قوله تعالى: {فما بكت عليهم السماء والأرض} تهكماً بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض.
وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مسلم إلا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله فإذا مات وفقداه بكيا عليه وتلا هذه الآية» . وقال علي رضي الله عنه: إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء. وعن الحسن: فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين يعني فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض. وقال عطاء: بكاء السماء حمرة أطرافها، وقال السدي: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما: بكت عليه السماء وبكاؤها حمرتها، وقرأ أبو عمرو عليهم في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضمهما، والباقون: بكسر الهاء وضم الميم وأما الوقف فحمزة بضم الهاء والباقون بالكسر {وما كانوا منظرين} أي: لما جاء وقت هلاكهم لم يمهلوا إلى وقت آخر لتوبة وتدارك تقصير.
ولما كان إنقاذ بني إسرائيل من القبط أمراً باهراً لا يكاد يصدق فضلاً عن أن يكون بإهلاك أعدائهم، أكد سبحانه الأخبار بذلك إشارة إلى ما يحق له من العظمة تنبيها على أنه قادر أن يفعل بهذا النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه كذلك وإن كانت قريش يرون ذلك محالاً وأنهم في قبضتهم فقال تعالى:
{ولقد نجينا} أي: بما لنا من العظمة تنجية عظيمة {بني إسرائيل} بعبدنا المخلص لنا {من العذاب المهين} أي: من استعباد فرعون وقتله أبناءهم وقوله تعالى:
{من فرعون} بدل من العذاب على حذف المضاف، أو جعله عذاباً لإفراطه في التعذيب، أو حال من المهين أي: واقعاً من جهته {إنه كان عالياً} أي: في جبلته العراقة في العلو {من المسرفين} أي: العريقين في مجاوزة الحدود.
{ولقد اخترناهم} أي: بني إسرائيل بما لنا من العظمة {على علم} أي: عالمين بأنهم أحقاء بأن يختاروا ويجوز أن يكون المعنى مع علم منا بأنهم يزيغون ويفرط منهم الفرطات في بعض الأحوال. ثم بين المفضل عليه بعد أن بين المفضل بقوله تعالى: {على العالمين} أي: الموجودين في زمانهم بما أنزلنا عليهم من الكتب وأرسلنا إليهم من الرسل، وقيل: على الناس جميعاً لكثرة الأنبياء منهم، وقيل: عام دخله التخصص ثم بين آثار الاختيار بقوله تعالى:
{وآتيناهم} أي: على ما لنا من العظمة {من الآيات} أي: العلامات الدالة على عظمتنا واختيارنا لهم من حين أتى موسى عبدنا عليه السلام فرعون إلى أن فارقهم بالوفاة وبعد وفاته على أيدي الأنبياء المقررين للشريعة عليهم السلام {ما فيه بلاء} أي: اختبار مثله يميل من ينظره أو يسمعه إلى غير ما كان عليه، وذلك بفرق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن(3/586)
والسلوى وغير ذلك مما رأوه من الآيات التسع {مبين} أي: بين في نفسه موضح لغيره.
{إن هؤلاء} إشارة إلى كفار قريش لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة والإنذار على مثل ما حل بهم {ليقولون} أي: بعد قيام الحجة البالغة عليهم مبالغين في الإنكار.
{أن} أي: ما {هي} وقولهم {إلا موتتنا} على حذف مضاف أي: ما الحياة إلا حياة موتتنا {الأولى} التي كانت قبل نفخ الروح كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الجاثية {إن هي إلا حياتنا الدنيا} (الأنعام: 29)
وقال الجلال المحلي: إن هي ما الموتة التي بعدها الحياة إلا موتتنا الأولى أي: وهم نطف، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة وأبو عمرو بين بين، وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح {وما نحن بمنشرين} أي: بمبعوثين بحيث نصير ذوي حركة اختيارية ننتشر بها بعد الموت، يقال: نشره وأنشره أحياه ثم احتجوا على نفي الحشر والنشر بقولهم:
{فأتوا} أي: أيها الزاعمون أنا نبعث بعد الموت {بآبائنا} أي: لكوننا نعرفهم ونعرف وفور عقولهم {إن كنتم صادقين} أي: ثابتاً صدقكم في أنا نبعث يوم القيامة أحياء بعد الموت ثم خوفهم الله تعالى بمثل عذاب الأمم الخالية فقال تعالى:
{أهم خير} أي: في الدين والدنيا {أم قوم تُبّع} أي: ليسوا خيراً منهم فهو استفهام على سبيل الإنكار، قال أبو عبيدة: ملوك اليمن كل واحد منهم يسمى تبعاً لأن أهل الدنيا كانوا يتبعونه، وموضع تبع في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وهم الأعاظم في ملوك الحرب، وقال قتادة: هو تبع الحميري وكان من ملوك اليمن سمي بذلك: لكثرة أتباعه وكان هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه وهم حمير إلى الإسلام فكذبوه، ولذلك ذم الله تعالى قومه ولم يذمه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم» . وعنه صلى الله عليه وسلم «ما أدري أكان تبع نبياً أو غير نبي» . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لا تسبوا تبعاً فإنه كان رجلاً صالحاً» . وذكر عكرمة عن ابن عباس: أنه كان تبع الآخر وهو أبو كرب أسعد بن مليك وكان سار بالجيوش نحو المشرق وحبر الحبر وبنى قصر سمرقند، وملك بقومه الأرض طولها والعرض وكان أقرب المملكين إلى قريش زماناً ومكاناً، وكان له بمكة المشرفة ما ليس لغيره من الآثار، قال الرازي في اللوامع: هو أول من كسا البيت ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق.
قال البغوي بعد أن ذكر قصته مع الأنصار: لما قتل ابنه غيلة في المدينة الشريفة وما وعظ به اليهود في الكف عن خراب المدينة لأنها مهاجر نبي من قريش إنه صدقهم واتبع دينهم وذلك قبل نسخه. وعن الرياشي آمن تبع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة عام، فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: {أهم خير أم قوم تبع} مع أنه لا خير في الفريقين؟ أجيب: بأن معناه أهم خير في القوة والشوكة كقوله تعالى: {أكفاركم خير من أولئكم} (القمر: 43)
بعد ذكر آل فرعون ويجوز في قوله تعالى: {والذين من قبلهم} أي: مشاهير الأمم كمدين وأصحاب الأيكة والرس وثمود وعاد، ثلاثةُ أوجه؛ أحدها: أن يكون معطوفاً على قوم تبع، ثانيها: أن يكون مبتدأ وخبره {أهلكناهم} أي: بعظمتنا وإن كانوا أصحاب مكنة وقوة، وأما على الأول {فأهلكناهم} إما مستأنف، وإما حال من الضمير المستكن في الصلة، ثالثها: أن يكون منصوباً بفعل مقدر يفسره أهلكناهم ولا محل لأهلكناهم حينئذ {إنهم(3/587)
كانوا} أي: جبلة وطبعاً {مجرمين} أي: عريقين في الإجرام فليحذر هؤلاء إن ارتكبوا مثل أفعالهم من مثل حالهم.
ولما أنكر تعالى على كفار مكة قولهم، ووصفهم بأنهم أضعف ممن كان قبلهم، ذكر الدليل القاطع على صحة القول بالبعث والقيامة فقال تعالى:
{وما خلقنا السموات} أي: على عظمها واتساع كل واحدة منها واحتوائها لما تحتها وجمعها لأن العمل كلما زاد كان أبعد عن العبث.
ولما كان الدليل على تطابق الأرض دليلاً دقيقاً وحدها بقوله تعالى: {والأرض} أي: على ما فيها من المنافع {وما بينهما} أي: النوعين وبين كل واحدة منهما وما يليها {لاعبين} أي: على ما لنا من العظمة التي يدرك من له أدنى عقل تعاليها عن اللعب لأنه لا يفعله إلا ناقص، ولو تركنا الناس يبغي بعضهم على بعض كما تشاهدون ثم لا نأخذ لضعيفهم بحقه من قويهم لكان خلقنا لهم لعباً بل اللعب أخف منه، ولم نكن على ذلك التقدير مستحقين للصفة القدسية وقد تقدم تقرير هذا الدليل في أول سورة يونس وفي آخر سورة المؤمنين عند قوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} (المؤمنون: 115)
وفي ص عند قوله تعالى {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً} (ص: 28) .
{ما خلقناهما} أي: السموات والأرض مع ما بينهما وقوله تعالى: {إلا بالحق} حال إما من الفاعل وهو الظاهر، وإما من المفعول أي: إلا محقين في ذلك يستدل به على وحدانيتنا وقدرتنا وغير ذلك، أو متلبسين بالحق {ولكن أكثرهم} أي: هؤلاء الذين أنت بين أظهرهم وهم يقولون: {إن هي إلا موتتنا الأولى} وكذا من نحا نحوهم {لا يعلمون} أي: إنا خلقنا الخلق بسبب إقامته الحق عليهم فهم لأجل ذلك يجترؤون على المعاصي ويفسدون في الأرض لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً، ولو تذكروا ما ذكرناه في جبلاتهم لعلموا علماً ظاهراً أنه الحق الذي لا معدل عنه، كما يتولى حكامهم المناصب لأجل إظهار الحكم بين رعاياهم ويشترطون الحكم بالحق ويؤكدون على أنفسهم أنهم لا يتجاوزونه.
ولما ذكر الدليل على إثبات البعث والقيامة ذكر عقبه يوم الفصل فقال تعالى:
{إن يوم الفصل} أي: يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين العباد، قال الحسن: سمي بذلك؛ لأن الله تعالى يفصل فيه بين أهل الجنة والنار، وقيل: يفصل فيه بين المؤمن وما يكرهه وبين الكافر وما يريده {ميقاتهم} أي: وقت موعدهم الذي ضرب لهم في الأزل وأنزلت فيه الكتب على ألسنة الرسل {أجمعين} لا يتخلف عنه أحد ممن مات من الجن والأنس والملائكة وجميع الحيوانات وقوله تعالى:
{يوم لا يغني} أي: بوجه من الوجوه بدل من يوم الفصل، أو منصوب بإضمار أعني، أو صفة لميقاتهم، ولا يجوز أن ينتصب بالفصل نفسه لما يلزم من الفصل بينهما بأجنبي وهو ميقاتهم {مولى} أي: من قرابة أو غيرها {عن مولى} بقرابة أو غيرها أي: لا يدفع عنه {شيئاً} من الأشياء كثر أو قل {ولا هم} أي: القسمان {ينصرون} أي: ليس لهم ناصر يمنعهم من عذاب الله تعالى.
تنبيه: المولى إما في الدين، أو في النسب، أو العتق، وكل هؤلاء لا يسمون بالمولى فلما لم تحصل النصرة منهم فأن لا تحصل ممن سواهم أولى، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً} إلى قوله تعالى {ولا هم ينصرون} (البقرة: 48)
وقال الواحدي: المراد بقوله تعالى: {مولى عن مولى} الكفار(3/588)
لأنه ذكر بعده المؤمن فقال تعالى:
{إلا من رحم الله} أي: أراد إكرامه الملك الأعظم وهم المؤمنون يشفع بعضهم لبعض بإذن الله تعالى في الشفاعة لأحدهم فيكرم الشافع فيه وقال ابن عباس: يريد المؤمن فإنه يشفع له الأنبياء والملائكة.
تنبيه: يجوز في {إلا من رحم الله} أوجه؛ أحدها: وهو قول الكسائي أنه منقطع، ثانيها: أنه متصل تقديره لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين فإنهم يؤذن لهم في الشفاعة فيشفعون في بعضهم كما مر، ثالثها: أن يكون مرفوعاً على البدلية من مولى الأول ويكون يغني بمعنى ينفع قاله الحوفي، رابعها: أنه مرفوع المحل أيضاً على البدل من واو ينصرون أي: لا يمنع من العذاب إلا من رحم الله {إنه} أي: وحده {هو العزيز} أي: المنيع الذي لا يقدح في عزته عفو ولا عقاب بل ذلك دليل على عزته فإنه يفعل ما يشاء فيمن يشاء من غير مبالاة بأحد {الرحيم} أي: الذي لا يمنع عزته أن يكرم من شاء.
ولما وصف تعالى اليوم ذكر بعده وعيد الكفار فقال سبحانه:
{إن شجرت الزقوم} هي من أخبث الشجر المر بتهامة ينبتها الله تعالى في الجحيم وقد مر الكلام عليها في الصافات، ورسمت بالتاء المجرورة فوقف عليها بالهاء أبو عمرو وابن كثير والكسائي، ووقف الباقون بالتاء على الرسم.
{طعام الأثيم} أي: المبالغ في اكتساب الآثام حتى صارت به إلى الكفر قال أكثر المفسرين: هو أبو جهل.
{كالمهل} أي: وهو ما يمهل في النار حتى يذوب من ذهب أو فضة وكل ما في معناهما من المنطبعات سواء كان من صفر أو حديد أو رصاص، وقيل: هو عكر القطران، وقيل: عكر الزيت وقرأ {يغلي في البطون} أي: من شدة الحر ابن كثير وحفص بالياء التحتية على أن الفاعل ضمير يعود على طعام، وجوز أبو البقاء أن يعود على الزقوم، وقيل: يعود على المهل نفسه والباقون بالتاء الفوقية على أن الفاعل ضمير الشجر.
{كغلي} أي: مثل غلي {الحميم} أي: الماء الذي تناهى حره بما يوقد تحته، وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه» ويقال للزبانية:
{خذوه} أي: هذا الأثيم أخذ قهر فلا تدعوه يملك من أمره شيئاً {فاعتلوه} أي: جروه بقهر بغلظة وعنف وسرعة إلى العذاب والإهانة بحيث يكون كأنه محمول، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بضم التاء والباقون بكسرها وهما لغتان في مضارع عتل، قال البقاعي: وقراءة الضم أدل على تناهي الغلظة والشدة من قراءة الكسر {إلى سواء} أي: وسط {الجحيم} أي: النار التي هي غاية في الاضطرام والتوقد وهو موضع خروج الشجرة التي هي طعامه.
{ثم صبوا فوق رأسه} أي: ليكون المصبوب محيطاً بجميع جسده {من عذاب الحميم} أي: من الحميم الذي لا يفارقه العذاب فهو أبلغ مما في آية {يصب من فوق رؤوسهم الحميم} (الحج: 19)
ويقال له توبيخاً وتقريعاً:
{ذق} أي: العذاب {إنك} وأكد بقوله: {أنت} أي: وحدك دون هؤلاء الذين يخبرون بحقارتك {العزيز الكريم} بزعمك وقولك: ما بين جبليها أعز وأكرم مني، وقرأ الكسائي بفتح الهزة بعد القاف على معنى العلة أي: لأنك، وقيل: تقديره ذق عذاب الحميم إنك أنت العزيز، والباقون بالكسر على الاستئناف المفيد للعلة فتتحد القراءتان معنى، وهذا(3/589)
الكلام الذي على سبيل التهكم أغيظ للمستهزأ به ومثله قول جرير لشاعر سمى نفسه زهرة اليمن:
*ألم يكن في رسوم قد رسمت بها ... من كان موعظة يا زهرة اليمن*
وكان هذا الشاعر قد قال:
*أبلغ كليباً وأبلغ عنك شاعرها ... أني الأعز وأني زهرة اليمن*
ويقال لهم:
{إن هذا} أي: الذي ترون من العذاب {ما كنتم به} أي: جبلة وطبعاً {تمترون} أي: تعالجون أنفسكم وتحملونها على الشك فيه وتردونها عما لها من الفطرة الأولى من التصديق بالممكن لاسيما من جرب صدقه وظهرت خوارق العادات على يده بحيث كنتم لشدة ردكم له كأنكم تخصونه بالشك.
ولما ذكر سبحانه وتعالى وعيد الكفار أردفه بآيات الوعد فقال:
{إن المتقين} أي: العريقين في هذا الوصف {في مقام} أي: موضع إقامة لا يريد الحال فيه تحولاً عنه {أمين} أي: يأمن صاحبه فيه من كل ما لا يعجبه، وقرأ نافع وابن عامر بفتح الميم أي: في مجلس أمين، والباقون بضمها على المصدر أي: في إقامة وقوله تعالى:
{في جنات} أي: بساتين تقصر العقول عن إدراك كل وصفها، بدل من قوله تعالى في مقام أمين أو خبر ثان وقرأ {وعيون} ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بكسر العين، والباقون بضمها.
ولما كان لا يتم العيش إلا بكسوة البدن أشار إلى ذلك بقوله تعالى:
{يلبسون} ودل على الكثرة جداً بقوله تعالى: {من سندس} وهو ما رق من الحرير يعمل وجوهاً {وإستبرق} هو ما غلظ منه يعمل بطائن، وسمي بذلك: لشدة بريقه وقوله تعالى: {متقابلين} أي: في مجلسهم ليستأنس بعضهم ببعض حال وقوله: {يلبسون} حال من الضمير المستكن في الجار أو خبر ثان فيتعلق الجار به أو مستأنف، فإن قيل: الجلوس على هذه الهيئة موحش لأن كل واحد منهم يصير مطلعاً على ما يفعل الآخر وأيضاً فقليل الثواب إذا طلع على كثيره ينغص عليه؟ أجيب: بأن أحوال الآخرة ليست كأحوال الدنيا وقد قال تعالى {ونزعنا ما في صدورهم من غل} (الأعراف: 43)
وقوله تعالى:
{كذلك} يجوز فيه وجهان؛ أحدهما: النصب نعتاً لمصدر أي: نفعل بالمتقين فعلاً كذلك أي: مثل ذلك الفعل، ثانيهما: الرفع على خبر مبتدأ مضمر أي: الأمر كذلك.
ولما كان ذلك لا يتم السرور به إلا بالأزواج قال تعالى: {وزوجناهم} أي: قرناهم كما تقرن الأزواج وليس المراد به العقد لأن فائدة العقد الحل والجنة ليست بدار تكليف من تحليل أو تحريم {بحور} أي: جوار بيض حسان نقيات الثياب {عين} أي: واسعات الأعين قال البيضاوي: واختلف في أنهن نساء الدنيا أو غيرهن.
ولما كان الشخص في الدنيا يخشى كلف النفقات وصف ما هنالك من سعة الخيرات فقال تعالى:
{يدعون} أي: يطلبون طلباً هو غاية المسرة {فيها} أي: الجنة أي: يؤتون {بكل فاكهة} أي: لا يمتنع عليهم صنف من الأصناف لبعد مكان ولا فقدان ولا غير ذلك من الشأن، وفي ذلك إيذان بأنه مع سعته ليس فيه شيء لإقامة البنية وإنما هو للتفكه والتلذذ حال كونهم مع ذلك {آمنين} في غاية الأمن من كل مخوف.
{لا يذوقون فيها} أي: الجنة {الموت} لأنها دار خلود لا دار فناء وقوله تعالى {إلا الموتة الأولى} فيه أوجه؛ أحدها: أنه استثناء منقطع أي: لكن(3/590)
الموتة الأولى قد ذاقوها، ثانيها: أنه متصل وتأولوه بأن المؤمن عند موته في الدنيا يصير بلطف الله كأنه في الجنة لاتصاله بأسبابها ومشاهدته إياها وما يعطاه من نعيمها فكأنه مات فيها، ثالثها: أن إلا بمعنى سوى أي: سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا كما في قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} (النساء: 22)
أي: سوى ما قد سلف، رابعها: أن إلا بمعنى بعد، أي: لا يذوقون فيها الموت بعد الموتة الأولى في الدنيا واختاره الطبري لكن نوزع بأن إلا بمعنى بعد لم يثبت وقد يجاب: بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، خامسها: قال الزمخشري: أريد أن يقال لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله: {إلا الموتة الأولى} موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها، سادسها: المراد بالمتقين أعم من الراسخين وغيرهم وإن ضمير فيها يرجع للآخرة، فالعاصي إذا أراد الله تعالى تعذيبه بالنار يذيقه فيها موتة أخرى كما جاء في الأحاديث الصحيحة فيكون على المجموع، سابعها: أن الموتة الأولى في الجنة المجازية فلا يكون ذلك بالمحال وذلك أن المتقي لم يزل فيها في الدنيا.
قال بعض العلماء: الدنيا إذا تحققت في حق المؤمن التقي فإنها جنة صغرى لتوليه سبحانه إياه فيها وقربه منه ونظره إليه وذكره له وعبادته إياه وشغله به وهو معه أينما كان، فإن قيل: أهل النار لا يذوقون الموت أبداً فلم بشر أهل الجنة بهذا مع أن أهل النار يشاركونهم فيه؟ أجيب: بأن البشارة ما وقعت بدوام الحياة فقط بل مع حصول تلك الخيرات والسعادات فافترفا {ووقاهم} أي: المتقين {عذاب الجحيم} أي: التي تقدم أنها لكل كفار أثيم وأما غير المتقين من العصاة فيدخل الله تعالى من أراد منهم النار فيعذب كلاً منهم على قدر ذنوبه ثم يميتهم فيها ويستمرون إلى أن يأذن الله تعالى في الشفاعة فيهم، فيخرجهم ثم يحييهم بما يرش عليهم من ماء الحياة، ثم يدخلهم الله تعالى الجنة.
روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل ناس في النار حتى إذا صاروا فحماً أدخلوا الجنة فيقول أهل الجنة: من هؤلاء فيقال: هؤلاء الجهنميون» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا فيها حمماً ثم تدركهم الرحمة فيخرجون ويطرحون على أبواب الجنة» ، فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة. وقوله تعالى:
{فضلاً} مفعول لأجله أي: فعل ذلك بهم لأجل الفضل، وجعله أبو البقاء: منصوباً بمقدر أي: تفضلنا بذلك فضلاً أي: تفضلاً.
تنبيه: احتج أهل السنة بهذه الآية على أن الثواب يحصل من الله تعالى فضلاً وإحساناً وأن كل ما وصل إليه العبد من الخلاص من النار والفوز بالجنة فإنما يحصل بفضل الله تعالى {من ربك} أي: المحسن إليك بكمال إحسانه إلى أتباعك إحساناً يليق بك، قال الرازي في اللوامع: أصل الإيمان رؤية الفضل في جميع الأحوال.
ولما عظمه الله تعالى بإظهار هذه الصفة مضافة إليه صلى الله عليه وسلم زاد تعظيمه بالإشارة بأداة البعد فقال تعالى: {ذلك} أي: الفضل العظيم الواسع {هو} أي: خاصة {الفوز} أي: الظفر بجميع المطالب {العظيم} لأنه خلاص عن المكاره ولم يدع جهة من الشرف إلا ملأها، وهذا يدل على أن(3/591)
الفضل أعلى من درجات الثواب المستحق لأنه تعالى وصفه بكونه فوزاً عظيماً، وأيضاً فإن الملك العظيم إذا أعطى الأجير أجرته ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى من إعطاء تلك الأجرة.
ولما بيّن تعالى الدليل وشرح الوعد والوعيد قال تعالى:
{فإنما يسرناه} أي: سهلنا القرآن سهولة كبيرة {بلسانك} أي: هذا العربي المبين وهم عرب سجيتهم الفصاحة {لعلهم يتذكرون} أي: يفهمونه فيتعظون به وإن لم يتعظوا ولم يؤمنوا به.
{فارتقب} أي: فانتظر ما يحل بهم {إنهم مرتقبون} أي: منتظرون ما يحل بك فمفعولا الارتقاب محذوفان أي: فارتقب النصر من ربك إنهم مرتقبون بك ما يتمنونه من الدوائر والغوائل ولن يضرك ذلك، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ حم الدخان ليلة جمعة أصبح مغفوراً له» . رواه الترمذي وزاد الزمخشري: «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» ورواه البغوي عن أبي هريرة. قال ابن عادل: قال أبو أمامة رضي الله تعالى عنه: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتاً في الجنة» والله تعالى أعلم بالصواب.
سورة الجاثية
مكية إلا {قل للذين آمنوا يغفروا} الآية هي سبع وثلاثون آية وأربعمائة وثمان وثمانون كلمة، وألفان ومائة وواحد وتسعون حرفاً
{بسم الله} الذي تفرد بتمام العز والكبرياء {الرحمن} الذي أحكم رحمته بالبيان العام للسعداء والأشقياء {الرحيم} الذي خص بملابسة طاعته الأولياء وتقدم الكلام على قوله تعالى:
{حم} ثم إن جعلتها اسماً مبتدأ مخبراً عنه بقوله تعالى:
{تنزيل الكتاب} أي: الجامع لكل خير لم يكن بد من حذف مضاف تقديره، تنزيل حم تنزيل الكتاب. وقوله تعالى: {من الله} أي: المحيط بصفات الكمال صلة للتنزيل، وإن جعلتها تعديداً للحروف كان تنزيل الكتاب مبتدأ والظرف خبراً {العزيز} في ملكه {الحكيم} في صنعه.
ولما كانت الحواميم كما روى أبو عبيدة في كتاب الفضائل عن ابن عباس لبيان القرآن حذف ما ذكر في البقرة من قوله تعالى {خلق} ليكون ما هنا أشمل فقال تعالى:
{إن في السموات} أي: ذواتها بما لها من الدلالة على صانعها وخلقها على ما فيها من العبر بما فيها من المنافع وعظيم الصنعة وما لها من الشفوف الدال على تعددها بما فيها من الكواكب {والأرض} كذلك وبما حوت من المعادن والمعاش {لآيات} أي: دلالات على وجود الإله القادر الفاعل المختار فإن من المعلوم أنه لا بد لكل ذلك من صانع متصف بذلك وقال تعالى {للمؤمنين} لأنهم برسوخهم في هذا الوصف الشريف أهل للنظر لأن ربهم يهديهم بإيمانهم، فشواهد الربوبية لهم منهما لائحة وأدلة الإلهية فيهما واضحة.
ولما ذكر سبحانه وتعالى النظر في آيات الآفاق أتبعها آيات الأنفس بقوله تعالى:
{وفي خلقكم} أي: خلق كل منكم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلى أن صار إنساناً المخالف لخلق الأرض التي أنتم منها بالاختيار والعقل والانتشار والقدرة على السار والضار {وما} أي: وخلق ما {يبث} أي: ينشر ويفرق بالحركة الاختيارية على سبيل(3/592)
التجدد والاستمرار {من دابة} مما تعلمون ومما لا تعلمون بما في ذلك من مشاركتكم بالاختيار والهداية للمنافع بإدراك الجزيئات ومخالفتكم في الصورة والعقل وإدراك الكليات وغير ذلك من مخالفة الأشكال والطبائع والمنافع وغير ذلك {آيات} دالة على قدرة الله تعالى ووحدانيته.
وقرأ حمزة والكسائي آيات بكسر التاء حملاً على اسم إن، والباقون بالرفع حملاً على محل إن واسمها، ولما كانت آيات الأنفس أدق وأدل على القدرة والاختيار بما لها من التجدد والاختلاف قال تعالى {لقوم} أي: فيهم أهلية القيام بما يحاولونه {يوقنون} أي: يتجدد لهم العروج في درجات الإيمان إلى أن يصلوا إلى شرف الإيقان فلا يخالجهم شك في وحدانيته.
{واختلاف الليل والنهار} بذهاب أحدهما ووجود الآخر بعد ذهابه على التعاقب آية متكررة للدلالة على القدرة على الإيجاد بعد الإعدام بالبعث وغيره {وما أنزل الله} أي: الذي تمت عظمته فنفذت كلمته {من السماء من رزق} أي: مطر وغيره من الأسباب المهيئة لإخراج الرزق {فأحيا به} أي: بسببه {الأرض} أي: الصالحة للحياة ولذلك قال تعالى {بعد موتها} أي: يبسها وتهشيم ما كان فيها من النبات {وتصريف} أي: تحويل {الرياح} باختلاف جهاتها وأحوالها.
وقرأ حمزة والكسائي بالتوحيد، والباقون بالجمع وقوله تعالى {آيات} فيه القراءتان المتقدمتان، أما الرفع فظاهر وأما الكسر ففيه وجهان؛ أحدهما: أنها معطوفة على اسم إن والخبر قوله {وفي خلقكم} كأنه قيل: وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات، والثاني: أن تكون كررت تأكيداً لآيات الأولى ويكون {في خلقكم} معطوفاً على {في السموات} كرر معه حرف الجر توكيداً، ونظيره أن تقول: إن في بيتك زيداً وفي السوق زيداً فزيداً الثاني تأكيد للأول كأنك قلت: إن زيداً زيداً في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطف على معمولي عاملين ألبتة.
ولما كانت هذه الآية أوضح دلالة من بقيتها على البعث قال تعالى فيها {لقوم يعقلون} الدليل فيؤمنون وأبدى بعض المفسرين معنى لطيفاً فقال: إن المنصفين إذا نظروا في السموات والأرض وأنه لا بد لهما من صانع آمنوا وإذا نظروا في خلق أنفسهم ونحوها ازدادوا إيماناً فأيقنوا، فإذا نظروا في سائر الحوادث عقلوا واستحكم علمهم.
ولما ذكر هذه الآيات العظيمات قال تعالى مشيراً إلى علو رتبتها بأداة البعد:
{تلك} أي: الآيات المذكورة {آيات الله} أي: حجج المحيط بصفات الكمال التي لا شيء أجل منها الدالة على وحدانيته {نتلوها} أي: نقصها {عليك} سواء أكانت مرئية أو مسموعة ملتبسة {بالحق} أي: الأمر الثابت الذي لا يستطاع تحويله ليس بسحر ولا كذب {فبأي حديث} أي: خبر عظيم صادق يتجدد علمه به يستحق أن يتحدث به واستغرق كل حديث فقال تعالى {بعد الله} أي: حديث الملك الأعظم وهو القرآن {وآياته} أي: حججه {يؤمنون} أي: كفار مكة أي: لا يؤمنون، وقرأ ابن عامر وشعبة والكسائي بتاء الخطاب رأوا أن ذلك الخطاب صرف إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {نتلوها عليك بالحق} ، والباقون بياء الغيبة ردوه على قوله تعالى {وفي خلقكم} وهو أقوى تبكيتاً.
ولما بين الآيات للكفار وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بها بعد ظهورها فبأي حديث بعدها يؤمنون؟ أتبعه(3/593)
بوعيد عظيم لهم فقال تعالى:
{ويل لكل أفاك} أي: مبالغ في صرف الحق عن وجهه {أثيم} أي: مبالغ في اكتساب الإثم وهو أن يبقى مصراً على الإنكار والاستكبار، قال المفسرون: يعني النضر ابن الحارث والآية عامة فيمن كان موصوفاً بهذه الصفة وفسر هذا بقوله تعالى:
{يسمع آيات الله} أي: دلالات الملك الأعظم الظاهرة حال كونها {تتلى عليه} بجميع ما فيها وهي القرآن من سهولة فهمها وعذوبة ألفاظها وظهور معانيها وجلالة مقاصدها مع الإعجاز وهي القرآن العظيم، فكيف إذا كان التالي أشرف الخلق، وقرأ حمزة والكسائي بإمالة محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح {ثم يصر} أي: يدوم دواماً عظيماً على قبح ما هو فيه حال كونه {مستكبراً} أي: طالباً للكبر عن الإذعان وموجداً له {كأن} أي: كأنه {لم يسمعها} أي: حاله عند السماع وقبله وبعده على حد سواء {فبشره} أي: على هذا الفعل الخبيث {بعذاب أليم} أي: مؤلم، والبشارة على الأصل أو التهكم، وقرأ ابن كثير وحفص {أليم} بالرفع والباقون بالجر.
{وإذا علم} أي: بلغه {من آياتنا} أي: القرآن {شيئاً} وعلم أنه من آياتنا {اتخذها هزواً} أي: مهزواً بها.
تنبيه: في الضمير المؤنث وجهان؛ أحدهما: أنه عائد على {آياتنا} يعني القرآن، والثاني: أنه يعود على {شيئاً} وإن كان مذكراً لأنه بمعنى الآية كقول أبي العالية:
*نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله والقائم المهدي يكفيها*
لأنه أراد بشيء جاريةً يقال لها: عنبة، والمعنى: اتخذ ذلك الشيء هزواً إلا أنه تعالى قال: {اتخذها} للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد وقوله تعالى {أولئك لهم عذاب مهين} أي: ذو إهانة إشارة إلى معنى {كل أفاك أثيم} (الشعراء: 222)
ليدخل فيه جميع الأفاكين، فحمل أولاً على لفظها فأفراد ثم على معناها فجمع كقوله تعالى {كل حزب بما لديهم فرحون} (الروم: 32)
ثم وصف تعالى كيفية ذلك العذاب فقال:
{من ورائهم} أي: أمامهم لأنهم في الدنيا {جهنم} قال الزمخشري: والوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام قال:
*أليس ورائي إن تراخت منيتي ... أدبّ مع الولدان أزحف كالنسر*
ومنه قوله تعالى {من ورائهم} أي: من قدامهم ا. هـ ثم بين تعالى أن ما سلكوه في الدنيا لا ينفعهم بقوله تعالى: {ولا يغني} أي: ولا يدفع {عنهم ما كسبوا} من الأموال في رحلهم ومتاجرهم والأولاد {شيئاً} من الإغناء. وقوله تعالى: {ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء} أي: من الأوثان عطف على {ما كسبوا} و {ما} فيهما إما مصدرية، أو بمعنى الذي أي: لا يغني عنهم كسبهم ولا اتخاذهم أو الذي كسبوه ولا الذي اتخذوه {ولهم عذاب عظيم} أي: لا يدع جهة من جهاتهم ولا زماناً من أزمانهم ولاعضواً من أعضائهم إلا ملأه، فإن قيل: قال تعالى في الأول {مهين} وفي الثاني {عظيم} فما الفرق بينهما؟ أجيب: بأن كون العذاب مهيناً يدل على حصول العذاب مع الإهانة، وكونه عظيماً يدل على كونه بالغاً إلى أقصى الغايات في الضرر وقوله تعالى:
{هذا هدى} إشارة إلى القرآن يدل عليه قوله تعالى {والذين كفروا بآيات ربهم} هي القرآن أي: هذا القرآن كامل في الهداية(3/594)
كما تقول: زيد رجل أي: كامل في الرجولية وأيما رجل {لهم عذاب} كائن {من رجز} أي: شديد العذاب {أليم} أي: بليغ الإيلام.
ولما ذكر تعالى ذكر الربوبية ذكر بعض آثارها وما فيها من آياته فقال مستأنفاً دالاً على عظمتها بالاسم الأعظم:
{الله} أي: الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال {الذي سخر} أي: وحده من غير حول منكم ولا قوة في ذلك بوجه من الوجوه {لكم البحر} أيها الناس بركم وفاجركم بما جعل فيه مما لا يقدر عليه إلا واحد لا شريك له فاعل بالاختيار من القابلية للسير فيه من الرقة والليونة {لتجري الفلك} أي: السفن {فيه بأمره} أي: بإذنه ولو كانت موقرة بأثقال الحديد الذي يغوص فيه أخف شيء منه كالإبرة وما دونها، ففي ذلك دلالة ظاهرة على وحدانيته لأن جريان الفلك على وجه الماء لا يحصل إلا بثلاثة أشياء؛ أحدها: الرياح التي توافق المراد، وثانيها: خلق وجه الماء على الملامسة التي تجري عليها الفلك، وثالثها: خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تغرق فيه، وهذه الأحوال لا يقدر عليها أحد من البشر {ولتبتغوا} أي: تطلبوا بشهوة نفس واجتهاد بما تحملون فيه من البضائع وتتوصلون إليه من الأماكن والمقاصد بالصيد والغوص على اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك {من فضله} لم يصنع شيئاً منه سواه {ولعلكم تشكرون} نعمه على ذلك.
{وسخر لكم ما في السموات} من شمس وقمر ونجم بها وغير ذلك بحيث لا يمكنكم الوصول إليه بوجه {وما في الأرض} من دابة وشجر ونبات وأنهار وغيره ولو شاء لجعله كما في السماء لا وصول لكم إليه وقوله تعالى {جميعاً} توكيد لما دل عليه معنى ما من العموم وقيل: حال من {ما في السموات وما في الأرض} وقوله تعالى {منه} حال أي: سخرها كائنة منه تعالى لا صنع لأحد غيره في شيء من ذلك، قال ابن عباس: كل ذلك رحمة منه، وقال الزجاج: كل ذلك تفضل منه وإحسان، وقال بعض العارفين: سخر لك الكل لئلا يسخرك لشيء منها فتكون مسخراً لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى فإنه يقبح بالمخدوم أن يخدم خادمه {إن في ذلك} أي: الأمر العظيم من تسخيره لنا كل شيء في الكون {لآيات} أي: دلالات واضحات على أنهم في الالتفات إلى غيره في ضلال مبين بعد تسخيره لنا ما لنا من الأعضاء والقوى على هذا الوجه البديع مع أن من هذا المسخر لنا ما هو أقوى منا {لقوم} أي: ناس فيهم أهلية القيام بما يجعل إليهم {يتفكرون} فيعلمون أنه المتوحد باستحقاق الإلهية فلا يشركون به شيئاً واختلف في سبب نزل قوله تعالى:
{قل} أي: يا أفضل الخلق {للذين آمنوا} ادعوا التصديق بكل ما جاءهم عن الله تعالى {يغفروا} أي: يستروا ستراً بالغاً {للذين لا يرجون أيام الله} أي: مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفة الكمال، فقال ابن عباس: «نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها: المريسيع، فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له ما حبسك؟ قال غلام عمر: قعد على طرف البئر فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر رضي الله عنه، فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك، فبلغ ذلك عمر فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية» .
وقال مقاتل: إن رجلاً من بني غفار شتم عمر(3/595)
بمكة فهم عمر أن يبطش به، فنزلت بالغفر والتجاوز، وروى ميمون بن مهران: «أن فتحاص اليهودي لما نزل قوله تعالى {من ذا الذي يقرض الله قرضااًحسناً} (البقرة: 245)
قال: احتاج رب محمد فسمع ذلك عمر فاشتمل على سيفه وخرج في طلبه فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه فرده» .
وقال القرطبي والسدي: «نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذى كثير من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت» . ثم نسختها آية القتال، قال الرازي: وإنما قالوا بالنسخ لأنه يدخل تحت الغفران أن لا يقتلوا ولا يقاتلوا، فلما أمر الله تعالى بالمقاتلة كان نسخاً والأقرب أن يقال إنه محمول على ترك المنازعة وعلى التجاوز فيما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية، وقال ابن عباس: لا يرجون أيام الله أي: ثوابه ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عذاب الأمم الماضية وتقدم تفسير أيام الله عند قوله تعالى {وذكرهم بأيام الله} (إبراهيم: 5)
وقوله تعالى {ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون} علة للأمر، والقوم: هم المؤمنون أو الكافرون أو كلاهما فيكون التنكير للتعظيم أو التحقير أو التنويع أو لكسب المغفرة أو الإساءة أو ما يعمهما، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون لنجزي نحن بما لنا من العظمة، والباقون بالياء التحتية أي: ليجزي الله سبحانه وتعالى.
ولما رغب سبحانه وتعالى ورهب وقرر أنه لا بد من الجزاء زاد في الترغيب والترهيب بأن النفع والضر لا يعدوهم فقال تعالى شارحاً للجزاء:
{من عمل صالحاً} قل أو جل {فلنفسه} أي: خاصة عمله يرى جزاءه في الدنيا والآخرة وهو مَثَل ضربه الله تعالى للذين يغفرون {ومن أساء} كذلك {فعليها} خاصة إساءته كذلك، وهذا مثل ضربه الله تعالى للكفار الذين كانوا يؤذون الرسول والمؤمنين، وذلك في غاية الظهور لأنه لا يسوغ في عقل عاقل أن ملكاً يدع عبيده من غير جزاء ولا سيما إذا كان حكيماً، وإن كانت نقائص النفوس غطت على كثير من العقول ذلك {ثم} أي: بعد الابتلاء بالإملاء في الدنيا والحبس في البرزخ {إلى ربكم} أي: الملك المالك لكم لا إلى غيره {ترجعون} أي: تصيرون فيجازي المصلح والمسيء.
{ولقد آتينا} أي: على ما لنا من العظمة {بني إسرائيل الكتاب} أي: الجامع للخيرات وهو يعم التوراة والإنجيل والزبور وغيرها مما أنزل على أنبيائهم عليهم السلام {والحكم} أي: العلم والعمل الثابتين ثبات الأحكام بحيث لا يتطرق إليهما فساد بما للعلم من الزينة بالعمل وللعمل من الإتقان بالعلم {والنبوة} التي تدرك بها الخيرات العظيمة التي لا يمكن إبلاغ الخلق إليها بلوغ اكتساب منهم فأكثرنا فيهم من الأنبياء عليهم السلام.
{ورزقناهم} بما لنا من العظمة لإقامة أبدانهم {من الطيبات} أي: الحلالات من المن والسلوى وغيرهما {وفضلناهم} أي: بما لنا من العزة {على العالمين} قال أكثر المفسرين: علامي زمانهم، وقال ابن عباس: لم يكن أحد من العالمين أكرم على الله ولا أحب إليه منهم، أي: لما آتاهم من الآيات المرئية والمسموعة وأكثر فيهم من الأنبياء مما لم يفعله بغيرهم ممن سبق وكل ذلك فضيلة ظاهرة.
{وآتيناهم} مع ذلك {بينات من الأمر} أي: الموحى به إلى أنبيائهم من الأدلة القطعية والأحكام والمواعظ المؤيدة بالمعجزات ومن صفات الأنبياء الآتين بعدهم وغير ذلك مما هو(3/596)
في غاية الوضوح لمن قضينا بسعادته، وذلك أمر يقتضي الألفة والاجتماع وقد كانوا متفقين وهم في زمن الضلال لا يختلفون إلا اختلافاً يسيراً لا يضر مثله ولا يعد اختلافاً، فلما جاءهم العلم اختلفوا كما قال تعالى {فما اختلفوا} أي: أوقعوا الاختلاف والافتراق بغاية جهدهم {إلا من بعد ما جاءهم العلم} أي: الذي من شأنه الجمع على المعلوم فكان ما هو سبب الاجتماع سبباً لهم في الافتراق {بغياً} أي: للمجاوزة في الحدود التي اقتضاها لهم طلب الرياسة والحسد وغيرهما من نقائص النفوس {بينهم} أي: واقعاً فيهم لم يعدهم إلى غيرهم وقد كانوا قبل ذلك وهم تحت أيدي القبط في غاية الاتفاق واجتماع الكلمة على الرضا بالذل، ولذلك استأنف قوله تعالى الذي اقتضاه الحال على ما يشاهده العباد من أفعال الملوك فيمن خالف أمرهم مؤكداً لأجل إنكارهم {إن ربك} أي: المحسن إليك {يقضي بينهم} أي: بإحصاء الأعمال والجزاء عليها {يوم القيامة} أي: الذي ينكره قومك الذين شرفناهم برسالتك {فيما كانوا} أي: لما هو لهم كالجبلة {فيه يختلفون} بغاية الجهد، والمعنى: أنه لا ينبغي للمبطل أن يفرح بنعم الدنيا فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها فإنه سيرى في الآخرة ما يسوءه وذلك كالزجر لهم.
ولما بين تعالى أنهم أعرضوا عن الحق بغياً وحسداً أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعدل عن تلك الطريقة وأن يتمسك بالحق وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق فقال تعالى:
{ثم} أي: بعد فترة من رسلهم ومجاوزة رتب كثيرة عالية على رتبة شريعتهم {جعلناك} أي: بما لنا من العزة والقدرة {على شريعة} أي: طريقة واسعة عظيمة ظاهرة مستقيمة سهلة موصلة إلى المقصود هي جديرة بأن يشرع الناس فيها ويخالطوها مبتدأة {من الأمر} أي: أمر الدين الذي هو حياة الأرواح كما أن الأرواح حياة الأشباح {فاتبعها} أي: اتبع بغاية جهدك شريعتك الثابتة بالحجج {ولا تتبع أهواء} أي: آراء {الذين لا يعلمون} أي: لا علم لهم أو لهم علم لكنهم يعملون عمل من ليس لهم علم أصلاً من كفار العرب وغيرهم، قال الكلبي: «إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة: ارجع إلى دين آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن فأنزل الله تعالى هذه الآية» . ثم علل هذا النهي مهدداً بقوله تعالى مؤكداً:
{إنهم} وأكد النفي فقال عز من قائل {لن يغنوا عنك} أي: لا يتجدد لهم نوع إغناء مبتدأ {من الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {شيئاً} أي: من إغناء أي: إن اتبعتهم، كما أنهم لن يقدروا لك على شيء من أذى إن خالفتهم وناصبتهم {وإن الظالمين} أي: الغريقين في هذا الوصف وهم الكفرة، وكان الأصل: وإنهم ولكنه تعالى أظهر للإعلام بوصفهم {بعضهم أولياء بعض} إذ الجنسية علة الانضمام فلا توالوهم باتباع أهوائهم {والله} أي: الذي له صفات الكمال {وليّ المتقين} أي: الذين همهم الأعظم الاتصاف باتخاذ الوقايات المنجية لهم من سخط الله تعالى، والمعنى: أن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وأما في الآخرة فلا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب، وأما المتقون المهتدون فالله سبحانه وليهم وناصرهم.
{هذا} أي: الوحي المنزل وهو القرآن {بصائر} أي: معالم {للناس} أي: في الحدود والأحكام فيبصروا بها ما ينفعهم وما يضرهم {وهدى} أي: قائد إلى كل خير مانع من كل زيغ {ورحمة} أي: كرامة وفوز ونعمة(3/597)
{لقوم يوقنون} أي: ناس فيهم قوة القيام بالوصول إلى العلم الثابت وتجديد الترقي في درجاته إلى ما لا نهاية له وقوله تعالى:
{أم حسب} منقطعة فتقدر ببل والهمزة أو ببل وحدها أو بالهمزة وحدها ومعنى الهمزة فيها: إنكار الحسبان {الذين اجترحوا} أي: اكتسبوا ومنه الجوارح وفلان جارحة أهله أي: كاسبهم وقال تعالى {ويعلم ما جرحتم بالنهار} (الأنعام: 60)
{السيئات} أي: الكفر والمعاصي {أن نجعلهم} أي: بما لنا من العظمة المانعة من الظلم المقتضية للحكمة {كالذين آمنوا وعملوا} تصديقاً لإقرارهم {الصالحات} أي: بأن نتركهم بغير حساب للفصل بين المحسن والمسيء.
ولما كانت المماثلة مجملة بينها استئنافاً بقوله تعالى: {سواء} أي: مستو استواء عظيماً {محياهم ومماتهم} أي: حياتهم وموتهم وزمان ذلك ومكانه في الارتفاع والسفول واللذة والكدر وغير ذلك من الأعيان والمعاني، وقرأ حمزة والكسائي وحفص سواء بالنصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهما كالذين آمنوا، ويكون المفعول الثاني للجعل كالذين آمنوا أي: أحسبوا أن نجعلهم مثلهم في حال استواء محياهم ومماتهم ليس الأمر كذلك، وقرأه الباقون بالرفع على أنه خبر ومحياهم ومماتهم مبتدأ ومعطوف والجملة بدل من الكاف والضميران للكفار، والمعنى: أحسبوا أن نجعلهم في الآخرة في خير كالمؤمنين أي: في رغد من العيش مساوٍ لعيشهم في الدنيا حيث قالوا للمؤمنين: لئن بعثنا لنعطي من الخير مثل ما تعطون، قال تعالى على وفق إنكاره بالهمزة {ساء ما يحكمون} أي: ليس الأمر كذلك فهم في الآخرة في العذاب على خلاف عيشهم في الدنيا والمؤمنون في الآخرة في الثواب بأعمالهم الصالحات في الدنيا من الصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك، وما مصدرية أي: بئس حكماً حكمهم هذا.
ولما بين تعالى أن المؤمن لا يساويه الكافر في درجات السعادة أتبعه بالدلائل الظاهرة على صحة ذلك فقال تعالى:
{وخلق الله} أي: الذي له جميع أوصاف الكمال {السموات والأرض} وقوله تعالى {بالحق} متعلق بخلق وقوله تعالى {ولتجزى} أي: بأيسر أمر {كل نفس} أي: منكم ومن غيركم معطوف على بالحق في المعنى لأن كلاً منهما سبب فعطف العلة على مثلها أو أنه معطوف على معلل محذوف والتقدير: خلق هذا العالم إظهاراً للعدل والرحمة، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة وحصل التفاوت بين الدرجات والدركات من المحقين والمبطلين {بما} أي: بسبب ما {كسبت} من خير أو شر {وهم} أي: والحال أنهم {لا يظلمون} أي: لا يوجد من موجد ما في وقت من الأوقات جزاء لهم في غير موضعه هذا على ما جرت به عوائدكم في العدل والفضل، ولو وجد منه سبحانه وتعالى غير ذلك لم يكن ظلماً منه لأنه المالك المطلق والملك الأعظم، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه كلهم لكان غير ظالم في نفس الأمر، فهذا الخطاب إنما هو على ما يتعارفونه من إقامة الحجة بمخالفة الأمر ثم عاد سبحانه وتعالى إلى شرح أحوال الكفار وقبائح طرائقهم فقال:
{أفرأيت} أي: أعلمت علماً هو في تيقنه كالمحسوس بحاسة البصر التي هي أثبت الحواس {من اتخذ} أي: بغاية جهده {إلهه هواه} أي: ما يهواه من حجر بعد حجر يراه أحسن، روي عن أبي رجاء العطاردي وهو ثقة أدرك الجاهلية ومات سنة(3/598)
خمس ومائة عن مائة وعشرين سنة قال: كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثوة من تراب فحلبنا عليها ثم طفنا بها. قال الأصفهاني: سئل ابن المقفع عن الهوى فقال: هوان سرقت نونه فنظمه من قال:
*نون الهوان من الهوى مسروقة ... فأسير كل هوى أسير هوان*
وقال آخر أيضاً:
*إن الهوى لهو الهوان بعينه ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا*
{وأضله الله} أي: بما له من الإحاطة {على علم} منه تعالى أي: عالماً بأنه من أهل الضلالة قبل خلقه {وختم} زيادة على الإضلال الخاص {على سمعه} فلا فهم له في الآيات المسموعة {وقلبه} أي: فهو لا يعي ما فى حقه وعيه {وجعل على بصره غشاوة} أي: ظلمة فلا يبصر الهوى ويقدر هنا المفعول الثاني لرأيت أي: أيهتدي، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الغين وسكون الشين، والباقون بكسر الغين وفتح الشين وألف بعد الشين وإذا صار بهذه المثابة {فمن يهديه} وأشار تعالى إلى قدرته عليه بقوله سبحانه وتعالى {من بعد الله} أي: إن أراد الله إضلاله الذي له الإحاطة بكل شيء أي: لا يهتدي {أفلا تذكرون} أي: ألم يكن لكم نوع تذكر فتتعظوا وفيه إدغام إحدى التاءين في الذال.
{وقالوا} أي: في إنكارهم البعث مع اعترافهم بأنه تعالى قادر على كل شيء {ما هي} أي: الحياة {إلا حياتنا} أي: أيها الناس {الدنيا} أي: هذه التي نحن فيها {نموت ونحيا} ، فإن قيل: الحياة متقدمة على الموت في الدنيا فمنكروا القيامة كان يجب أن يقولوا: نحيا ونموت فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة؟ أجيب: من وجوه أولها: أن المراد بقولهم نموت أي: حال كونهم نطفاً في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات وبقولهم ونحيا ما حصل بعد ذلك في الدنيا، ثانيها: نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا، ثالثها: قال الزجاج: الواو للاجتماع والمعنى: يموت بعض ونحيا بعض، رابعها: قال الرازي: إنه تعالى قدم ذكر الحياة فقال {إن هي إلا حياتنا الدنيا} ثم قال بعده {نموت ونحيا} يعني أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا ومنها ما لا يطرأ عليه الموت بعد ذلك وهو في حق الأحياء الذين لم يموتوا بعد، وقال البيضاوي: يحتمل أنهم أرادوا به التناسخ أي: وهو أن روح الشخص إذا خرجت تنتقل إلى شخص آخر فيحيا بعد أن لم يكن فإنه عقيدة أكثر عبدة الأصنام {وما يهلكنا} أي: بعد الحياة {إلا الدهر} أي: مر الزمان الطويل بغلبته علينا وطول العمر واختلاف الليل والنهار من دهره إذا غلبه {وما} أي: قالوه والحال أنه ما {لهم بذلك} أي: المقول البعيد من الصواب وهو أنه لا حياة بعد هذه وأن الإهلاك منسوب إلى الدهر على أنه مؤثر بنفسه وأغرق في النفي فقال تعالى {من علم} أي: كثير ولا قليل {إن} أي: ما {هم إلا يظنون} أي: بقرينة أن الإنسان كلما تقدم في السن ضعف وأنه لم يرجع أحد من الموتى هذا ظنهم الفاسد.
روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: لا يقل ابن آدم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما» . وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يسب أحدكم(3/599)
الدهر فإن الدهر هو الله تعالى ولا يقولن للعنب الكرم فإن الكرم هو الرجل المسلم» . ومعنى الحديث أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبُّه عند النوازل لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر كما أخبر الله تعالى عنهم فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها، فكان يرجع سبهم إلى الله تعالى إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر فنهوا عن سبه.u
{وإذا تتلى} أي: تتابع بالقراءة من أي تال كان {عليهم آياتنا} أي: على ما لها من العظمة في نفسها وبالإضافة إلينا حال كونها {بينات} أي: في غاية المكنة في الدلالة على البعث فلا عذر لهم في ردها {ما كان} أي: بوجه من وجوه الكون {حجتهم} أي: قولهم الذي ساقوه مساق الحجة {إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا} أي: أحياء {إن كنتم صادقين} أي: في أنا نبعث فهو لا يستحق أن يسمى شبهة فسمي حجة بزعمهم أو لأن من كانت حجته هذه فليست له ألبتة حجة كقوله:
*تحية بينهم ضرب وجيع*
ثم إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بقوله تعالى:
{قل الله} أي: المحيط علماً وقدرة {يحييكم} أي: حين كنتم نطفاً {ثم يميتكم} أي: بأن يخرج أرواحكم من أجسادكم فتكونون كما كنتم قبل الإحياء كما تشاهدون {ثم يجمعكم} أي: بعد التمزق فيعيد فيكم أرواحكم كما كانت بعد طول مدة الرقاد منتهين {إلى يوم القيامة} أي: القيام الأعظم لكونه عاماً لجميع الخلائق {لا ريب} أي: لا شك بوجه من الوجوه {فيه} بل هو معلوم علماً قطعياً ضرورياً {ولكن أكثر الناس} أي: وهم القائلون ما ذكر {لا يعلمون} أي: لا يتجدد لهم علم لما لهم من النفوس والتردد والسفول عن أوج العقل إلى حضيض الجهل فهم واقفون مع المحسوسات لا يلوح لهم ذلك مع ما له من الظهور وقوله تعالى:
{ولله} أي: الملك الأعظم وحده {ملك السموات} أي: كلها {والأرض} أي: التي ابتدأكم منها تعميم للقدرة بعد تخصيصها {ويوم تقوم الساعة} أي: توجد وتتحقق تحقق القائم الذي هو على كمال تمكنه وتمام أمره الناهض بأعباء ما يريد ثم كرر للتأكيد والتهويل قوله تعالى {يومئذ} أي: يوم تقوم يخسرون هكذا كان الأصل ولكنه قال تعالى للتعميم والتعليق بالوصف {يخسر المبطلون} أي: الداخلون في الباطل الغريقون في الاتّصاف به الذين كانوا لا يرضون بقضائي.
تنبيه: الحياة والعقل والصحة كأنها رأس مال والتصرف فيها بطلب السعادة الأخروية يجري مَجرى تصرف التاجر في ماله لطلب الربح، والكفار قد أتعبوا أنفسهم في تصرفاتهم بالكفر والأباطيل فلم يجدوا في ذلك اليوم إلا الحرمان والخذلان ودخول النار وذلك في الحقيقة نهاية الخسران.
{وترى} أي: في ذلك اليوم {كل أمة} أي: أهل دين {جاثية} أي: مجتمعة لا يخالطها غيرها وهي مع ذلك باركة على الركب رعباً واستيفازاً لما لعلها تؤمر به جلسة المخاصم بين يدي الحاكم تنتظر القضاء الحاتم والأمر الجازم اللازم لشدة ما يظهر لها من هول ذلك اليوم {كل أمة} من الجاثين {تدعى إلى كتابها} أي: الذي أنزل عليها وتعبدها الله تعالى به والذي نسخته الحفظة عليهم السلام من أعمالها ليطبق أحدهما بالآخر فمن وافق كتابه ما أمر به من كتاب ربه نجا ومن خالفه هلك ويقال لهم حالة الدعاء {اليوم تجزون} أي: على وفق الحكمة بأيسر أمر {ما} أي: عين الذي(3/600)
{كنتم} بما هو لكم كالجبلات {تعملون} أي: مصرين عليه غير راجعين عنه من خير أو شر، فإن قيل: الجثو على الركب إنما يليق بالخائف، والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة؟ أجيب: بأن الجاثي الآمن يشارك المبطل في مثل هذه الحالة إلى أن يظهر كونه محقاً.
{هذا كتابنا} أي: الذي أنزلناه على ألسنة رسلنا عليهم الصلاة والسلام {ينطق} أي: يشهد شهادة هي في بيانها كالنطق {عليكم بالحق} أي: الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع من أعمالكم وذلك بأن يقول: من عمل كذا فهو عاص، ومن عمل كذا فهو مطيع فينطبق ذلك على ما عملتموه سواء بسواء من غير زيادة ولا نقصان، وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ.
ولما كانت العادة جارية في الدنيا بإقامة الحقوق بكتابة الوثائق وكانوا كأنهم يقولون ومن يحفظ أعمالنا على كثرتها مع طول المدة وبعد الزمان؟ قال تعالى مجيباً بما يقرب إلى عقل من يسأل عن ذلك {إنا} أي: على ما لنا من العظمة المغنية عن الكتابة {كنا} على الدوام {نستنسخ ما كنتم} طبعاً لكم وخلقاً {تعملون} قولاً وفعلاً ونية أي: نأمر الملائكة عليهم السلام بكتبها وإثباتها عليكم، وقيل: نستنسخ أي: نأخذ نسخه وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله تعالى منه ما كان له من ثواب أو عقاب ويطرح منه اللغو نحو قولهم هلم واذهب، والاستنساخ من اللوح المحفوظ، تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم والاستنساخ لا يكون إلا من أصل كما ينسخ من كتاب كتاب، وقال الضحاك: نستنسخ أي: نثبت، وقال السدي: نكتب، وقال الحسن: نحفظ.
ثم بين تعالى أحوال المطيعين بقوله تعالى:
{فأما الذين آمنوا} أي: من الأمم الجاثية {وعملوا} أي: تصديقاً لدعواهم الإيمان {الصالحات} أي: الطاعات فوصفهم بالعمل الصالح بعد وصفهم بالإيمان يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان زائد عليه {فيدخلهم} أي: في ذلك اليوم {ربهم} أي: المحسن إليهم بالتوفيق بالإيمان {في رحمته} التي من جملتها الجنة والنظر إلى وجهه الكريم الذي هو الغاية القصوى وتقول لهم الملائكة تشريفاً: سلام أيها المؤمنون ودل على عظمة الرحمة بقوله تعالى: {ذلك} أي: الإحسان العالي المنزلة {هو} أي: لا غيره {الفوز المبين} أي: الظاهر الذي لا يخفى على أحد شيء من أمره لأنّه لا يشوبه كدر أصلاً ولا نقص بخلاف ما كان من أسبابه في الدنيا فإنها مع كونها كانت فوزاً كانت خفية جداً على غير الموقنين. ثم بين تعالى أحوال الفريق الآخر بقوله تعالى:
{وأما الذين كفروا} أي: ستروا ما أمر الله تعالى به {أفلم} أي: فيقال لهم ألم {تكن} تأتيكم رسلي فلم تكن {آياتي} على ما لها من عظمة إضافتها إلي وأعظمها القرآن {تتلى} أي: تواصل قراءتها من أي تال كان فكيف إذا كانت بواسطة الرسل تلاوة مستعلية {عليكم} لا تقدرون على دفع شيء منها.
تنبيه: حذف المقول المعطوف عليه كما تقرر اكتفاء بالمقصود واستغناء بالقرينة {فاستكبرتم} أي: فتسبب عن تلاوتها التي من شأنها إيراث الخشوع والإخبات والخضوع إن طلبتم الكبر لأنفسكم أوجدتموه على رسلي وآياتي {وكنتم قوماً} أي: ذوي قيام وقدرة على ما تحاولونه {مجرمين} أي: غريقين في قطع ما يستحق الوصل وذلك هو الخسران المبين.
{وإذا} أي: وكنتم إذا {قيل} أي: من أي قائل كان ولو على سبيل(3/601)
التأكيد {إن وعد الله} أي: الذي كل أحد يعلم أنه محيط بصفات الكمال {حق} أي: ثابت لا محيد عنه مطابق للواقع من البعث وغيره لأن أقل الملوك لا يرضى بأن يخلف وعده فكيف به سبحانه وتعالى فكيف إذا كان الإخلاف فيه متناقضاً للحكم وقرأ {والساعة} حمزة بالنصب عطفاً على وعد الله، والباقون برفعها وفيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: الابتداء وما بعدها من الجملة المنفية وهو قوله تعالى {لا ريب} أي: لا شك {فيها} خبرها، ثانيها: العطف على محل اسم إن لأنه قبل دخولها مرفوع بالابتداء، ثالثها: أنه عطف على محل إن واسمها معاً لأن بعضهم كالفارسي والزمخشري يرون أن لأن واسمها موضعاً وهو الرفع بالابتداء {قلتم} أي: راضين لأنفسكم بحضيض الجهل {ما ندري} أي: الآن دراية علم ولو بذلنا جهدنا في محاولة الوصول إليه {ما الساعة} أي: لا نعرف حقيقتها فضلاً عما تخبروننا به من أحوالها.
تنبيه: الساعة هنا مرفوعة باتفاق {إن} أي: ما {نظن} أي: نعتقد ما تخبروننا به عنها {إلا ظناً} وأما وصوله إلى درجة العمل فلا {وما نحن} وأكدوا النفي فقالوا {بمستيقنين} أي: بموجود عندنا اليقين في أمرها، قال الرازي: القوم كانوا في هذه المسألة على قولين: منهم من كان قاطعاً بنفي البعث والقيامة وهم المذكورون في قوله تعالى {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا} ومنهم من كان شاكاً متحيراً فيه لأنهم لكثرة ما سمعوه من الرسل عليهم السلام ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحته صاروا شاكين فيه وهم المذكورون في هذه الآية، ويدل على ذلك أنه حكى تعالى مذهب أولئك القاطعين ثم أتبعه بحكاية قول هؤلاء فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول.
ولما وصلوا إلى حد عظيم من العناد التفت إلى أسلوب الغيبة إعراضاً عنهم إيذاناً بشدة الغضب عليهم فقال تعالى:
{وبدا} أي: ولم يزالوا يقولون ذلك إلى أن بدت لهم الساعة بما فيها من الأوجال والزلازل والأهوال وظهر {لهم} غاية الظهور {سيئات ما عملوا} في الدنيا فتمثلت لهم وعرفوا مقدار جزائها واطلعوا على جميع ما يلزم على ذلك {وحاق} أي: أحاط {بهم} على حال القهر والغلبة قال أبو حيان: ولا يستعمل إلا في المكروه {ما كانوا} جبلة وطبعاً {به يستهزئون} أي: يوجدون الهزء به على غاية الشهوة واللذة إيجاد من هو طالب لذلك، وهذا كالدليل على أن هذه الفرقة لما قالوا إن نظن إلا ظناً إنما ذكروه استهزاء وسخرية فصار هذا الفريق أشر من الفريق الأول، لأن الأولين كانوا منكرين وما كانوا مستهزئين وهؤلاء ضموا إلى الإصرار على الإنكار الاستهزاء، وقرأ حمزة في الوقف بتسهيل الهمزة بعد الزاي كالواو وله أيضاً إبدالها ياء ونقل عنه أيضاً غير ذلك.
{وقيل} أي: لهم على أفظع الأحوال وأشدها قولاً لا معقب له فكأنه بلسان كل قائل {اليوم ننساكم} أي: نترككم في العذاب {كما نسيتم لقاء يومكم هذا} أي: كما تركتم الإيمان والعمل للقائه، وقيل: نجعلكم منزلة الشيء المنسي غير المبالى به كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم هذا ولم تلتفتوا إليه {ومأواكم النار} ليس لكم براح عنها {وما لكم من ناصرين} ينقذونكم من ذلك بشفاعة ولا مقاهرة فجمع الله تعالى عليهم من وجوه العذاب ثلاثة أشياء: قطع الرحمة عنهم، وتصيير مأواهم النار، وعدم الأنصار؛ لأنهم أتوا(3/602)
بثلاثة أنواع من الأعمال القبيحة وهي: الإصرار على إنكار الدين الحق، والاستهزاء به والسخرية، والاستغراق في حب الدنيا. وهو المراد بقوله تعالى:
{ذلكم} أي: العذاب العظيم {بأنكم اتخذتم} أي: بتكليف منكم لأنفسكم {آيات الله} أي: الملك الأعظم {هزواً} أي: استهزاء بها ولم تتفكروا فيها، وقرأ {اتخذتم} ابن كثير وحفص بإظهار الذال عند التاء والباقون بالإدغام {وغرتكم الحياة الدنيا} الدنيئة لضعف عقولكم فآثرتموها لكونها حاضرة وأنتم كلابها فقلتم: لا حياة غيرها ولا بعث ولا حساب ولو تعقلتم وصفكم لها لأداكم إلى الإقرار بالآخرة {فاليوم} أي: بعد إيوائهم فيها {لا يخرجون منها} أي: النار لأن الله تعالى لا يخرجهم ولا يقدر غيره على ذلك، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء التحتية وضم الراء، والباقون بضم الياء وفتح الراء {ولا هم يستعتبون} أي: لا يطلب من طالب ما منهم الإعتاب وهو الاعتذار لأنه لا يقبل ذلك اليوم عذر ولا توبة.
ولما تم الكلام في المباحث الروحانية ختم السورة بتحميد الله تعالى فقال عز من قائل:
{فلله} أي: الذي له الأمر كله {الحمد} أي: الإحاطة بجميع صفات الكمال {رب السموات} أي: ذوات العلو والاتساع والبركات {ورب الأرض} أي: ذات القبول للواردات {رب العالمين} أي: خالق ما ذكر إذ الكلُّ نعمة منه دال على كمال قدرته فاحمدوا الله الذي هو خالق السموات والأرضين وخالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات، فإن هذه توجب الحمد والثناء على كل من المخلوقين والمربوبين.
ولما أفاد ذلك غناه الغنى المطلق وسيادته وأنه لا كفء له عطف عليه بعض اللوازم لذلك تنبيهاً على مزيد الاعتناء به لدفع ما يتوهمونه من ادعاء الشركة التي لا يرضونها لأنفسهم فقال تعالى:
{وله} أي: وحده {الكبرياء} أي: الكبر الأعظم الذي لا نهاية له {في السموات} كلها {والأرض} جميعاً اللتين فيهما آيات الموقنين روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار» . وفي رواية عذبته وفي رواية قصمته {وهو} وحده {العزيز} الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} الذي يضع الأشياء في مواضعها ولا يضع شيئاً إلا كذلك كما أحكم أمره ونهيه وجميع شرعه، وأحكم نظم هذا القرآن جملاً وآيات وفواصل وغايات بعد أن حرر معانيه وتنزيله فصار معجزاً في نظمه ومعناه وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة حم الجاثية ستر الله عورته وسكن روعته يوم الحساب» حديث موضوع.(3/603)
سورة الأحقاف
مكية
إلا قوله تعالى: {قل أرأيتم إن كان من عند الله} الآية وإلا {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} الآية وإلا {ووصينا الإنسان بوالديه} الثلاث آيات، وهي خمس وثلاثون آية وستمائة وأربع وأربعون كلمة، وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفاً.
{بسم الله} الذي لا يذل من والى ولا يعز من عادى. {الرحمن} الذي سبقت رحمته غضبه {الرحيم} الذي خص حزبه بعمل الأبرار للفوز في دار القرار، وتقدّم الكلام على قوله تعالى:
{حم} مراراً، وقرأ ابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بإمالة الحاء محضة، وقرأ ورش وأبو عمرو بإمالتها بين بين وفتحها الباقون. وقيل: المراد بحم حكمة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي النهاية في الصواب والسداد أحكمها الذي أحاطت قدرته فهو لا يخلف الميعاد.
وقوله تعالى:
{تنزيل الكتاب} أي الجامع لجميع الخيرات بالتدريج على حسب المصالح {من الله} أي الجبار المتكبر المختص بصفات الكمال {العزيز} في ملكه {الحكيم} في صنعه لأنه لم يفعل شيئاً إلا في أوفق محاله وأنه الخالق للخير والشرّ وأنه يعز أولياءه ويذل أعداءه.
{ما خلقنا} أي؛ على مالنا من العظمة الموجبة للتفرّد بالكبرياء {السموات والأرض} على ما فيهما من الآيات {وما بينهما إلا} خلقاً ملتبساً {بالحق} أي: الأمر الثابت من القدرة التامة والتصرّف المطلق ليدل على قدرتنا ووحدانيتنا {وأجل} أي وبتقدير أجل {مسمى} ينتهي إليه وهو يوم القيامة.
{والذين كفروا عما أنذروا} أي: خوفوا به من القرآن من هول ذلك اليوم الذي لا بدّ لكل خلق من انتهائه إليه {معرضون} أي لا يؤمنون به ولا يهتمون للاستعداد له.
ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
{قل} أي: لهؤلاء المعرّضين أنفسهم لغاية الخطوب منكراً عليهم تبكيتاً وتوبيخاً(4/2)
{أرأيتم} أي: أخبروني عن حال آلهتكم بعد تأمّل وروية باطنة. {ما تدعون} أي: تعبدون ثم نبه على سفولهم بقوله تعالى:
{من دون الله} أي: المالك الأعظم الذي كل شيء دونه فلا كفء له مفعول أوّل وقوله تعالى: {أروني} أي: أخبروني تأكيد وقوله: {ماذا خلقوا} مفعول ثان وقوله تعالى: {من الأرض} بيان لما أي: ليصح ادّعاء أنهم شركاء فيها باختراع ذلك الجزء.
{أم لهم} أي: الذين تدعونهم {شرك} أي مشاركة {في} خلق. {السموات} أي: بنوع من أنواع الشركة مع الله تعالى و {أم} بمعنى همزة الإنكار ولما كان الدليل أحد شيئين سمع وعقل قال تعالى: {ائتوني بكتاب} أي: منزل على دعواكم في هذه الأصنام: أنها خلقت شيئاً أو أنها تستحق أن تعبد.
تنبيه أبدل ورش والسوسيّ الهمزة من {ائتوني} في الوصل {ياء} وحققها الباقون. وأما الابتداء بها، فجميع القرّاء أبدلوها ياء بعد الابتداء بهمزة الوصل مكسورة.
{من قبل هذا} أي: القرآن الذي أنزل علي كالتوراة والإنجيل والزبور، وهذا من أعلام النبوّة، فإنها كلها شاهدة بالوحدانية لو أتى بها آت لشهدت عليه. ولما ذكر تعالى الأعلى الذي لا يجب التكليف إلا به وهو: النقل القاطع، سهل عليهم فنزل إلى ما دونه فقال: {أو أثارة} أي: بقية {من علم} يؤثر عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام: أنها تقرّبكم إلى الله تعالى: وقال المبرد: {أثارة} ما يؤثر من علم كقولك هذا الحديث يؤثر عن فلان. ومن هذا المعنى سميت الأخبار بالآثار. يقال: جاء في الأثر كذا وكذا. وقال الواحدي: وكلام أهل اللغة في هذا الحرف يدور على ثلاثة أقوال؛ الأوّل: الأثارة واشتقاقها من: أثرت الشيء أثيره إثارة كأنها بقية تستخرج فتثار. والثاني: من الأثر الذي هو الرواية. والثالث: من الأثر بمعنى العلامة. وقال الكلبي في تفسير الأثارة: أي بقية من علم يؤثر عن الأوّلين أي: يسند إليهم وقال مجاهد وعكرمة ومقاتل: رواية عن الأنبياء قال الرازي: وههنا قول آخر: أو أثارة من علم هو علم الخط الذي يخط في الرمل، والعرب كانوا يخطونه وهو علم مشهور روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كان نبيّ من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه علم علمه» فعلى هذا الوجه معنى الآية {أئتوني بعلم من قبل هذا} الخط الذي تخطونه في الرمل يدل على صحة مذهبكم في عبادة الأصنام فإن صح تفسير الآية بهذا الوجه كان ذلك من باب التهكم بهم وأقوالهم ودلائلهم. ثم أشار إلى تقريعهم بالكذب إذ لم يقيموا دليلاً على دعواهم بقوله: {إن كنتم صادقين} أي: عريقين في الصدق على ما تدّعون لأنفسكم. ولما أبطل سبحانه قولهم في الأصنام بعدم قدرتها أتبعه إبطاله بعدم علمها بقوله تعالى:
{ومن أضلّ} وهو استفهام بمعنى النفي أي: لا أحد أضل {ممن يدعو} أي: يعبد ما لا قدرة له ولا علم. ومن انتفت قدرته وعلمه لم تصح عبادته ببديهة العقل. وأرشد إلى سفولها بقوله عز وجل. {من دون الله} أي: من أدنى رتبة من رتب الذي له صفات الكمال فهو يعلم كل شيء. ويقدر على كل شيء فهو بحيث يجيب الدعاء، ويكشف البلاء ويحقق الرجاء إذا شاء، ويدبر عبده لما يعلم من سرّه وعلنه بما لا يقدر هو على تدبير نفسه به، ويريد العبد في كثير من الأشياء ما لو وكل فيه إلى نفسه، وأجيب إلى طلبته، كان فيه حتفه فيدبره سبحانه بما تشتدّ كراهته له، فيكشف الحال على أنه لم يكن له فرج إلا فيه. {من لا يستجيب له} أي: لا توجد الإجابة، ولا يطلب إيجادها من الأصنام وغيرها، لأنه لا أهلية له لذلك.(4/3)
والمعنى: أنه لا أحد أبعد عن الحق وأقرب إلى الجدل، ممن يدعو من دون الله الأصنام، فيتخذها آلهة ويعبدها وهي إذا دعيت لا تسمع ولا تجيب لا في الحال، ولا في المآل {إلى يوم القيامة} وإنما جعل ذلك غاية؛ لأنّ يوم القيامة قد قيل: إن الله تعالى يحييها ويخاطب من يعبدها. فلذلك جعله الله تعالى حدّاً وقيل المراد عبدة الملائكة وعيسى وأنهم يوم القيامة يظهرون عبادة هؤلاء العابدين. {وهم عن دعائهم} أي: دعاء المشركين إياهم. {غافلون} أي: لهم هذا الوصف لا ينفكون عنه لا يعلمون من يدعوهم ومن لا يدعوهم وعبر بالغفلة التي هي من أوصاف العقلاء للجماد تغليباً إن كان المراد أعمّ من الأصنام وغيرها مما عبدوه من عقلاء الإنس وغيرهم ولما غيّا سبحانه بيوم القيامة فأفهم أنهم يستجيبون لهم فيه، بيّن ما يحاورونهم به إذ ذاك. فقال تعالى:
{وإذا حشر} أي: جمع بكره على أيسر وجه وأسهل أمر. {الناس} أي: يوم القيامة {كانوا} أي: المدعوّون {لهم} أي: الداعين {أعداء} ويعطيهم الله تعالى قوّة الكلام فيخاطبونهم بكل ما يخاطب به العدوّ عدوّه {وكانوا} أي: المعبودون {بعبادتهم} أي: الداعين وهم المشركون إياهم.
{كافرين} أي: جاحدين لأنهم كانوا عنها غافلين، كما قال تعالى في سورة يونس عليه السلام {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون} (يونس: 28) ثم بين تعالى أنهم في نهاية الغباوة بإنكار ما لا شيء أبين منه. بقوله سبحانه:
{وإذا تتلى} أي: تقرأ من أي قارئ كان على وجه المتابعة {عليهم} أي: هؤلاء البعداء البغضاء {آياتنا} التي لا أعظم منها في أنفسها بإضافتها إلينا وهي القرآن وقوله تعالى: {بينات} أي: ظاهرات حال قالوا هكذا كان الأصل. ولكنه تعالى بين الوصف الحامل لهم على القول فقال عز وجل: {قال الذين كفروا} أي: ستروا تلك الأنوار التي أبرزتها تلك التلاوة لها هكذا كان الأصل ولكن قال تعالى {للحق} أي: لأجله {لما} أي: حين {جاءهم} أي: من غير نظر وتأمّل {هذا} أي: الذي يتلى {سحر} أي: خيال لا حقيقة له {مبين} أي: ظاهر في أنه خيال باطل.
وقوله تعالى: {أم يقولون افتراه} إضراب عن ذكر تسميتهم إياه سحراً إلى ذكر ما هو أشنع وإنكار له وتعجب، ثم بين تعالى بطلان شبهتهم بقوله تعالى: {قل} أي: يا أشرف الخلق {إن افتريته} أي: تعمدت كذبه على زعمكم وأنا إنما أريد به نصيحتكم فالذي أفتريه عليه وأنسبه إليه يعاقبني على ذلك ولا يتركني أصلاً وذلك هو معنى قوله: {فلا تملكون} أي: أيها المنصوحون بوجه من الوجوه ولا في وقت من الأوقات. {لي من الله} أي: المتكبر الحليم {شيئاً} من الأشياء لما يردّ عني انتقامه لأنّ الملك لا يترك من كذب عليه مطلق كذب فكيف من يتعمد الكذب عليه في الرسالة بأمور عظيمة وملازمته مساءً وصباحاً فأيّ حامل لي حينئذ على افترائه؟ ثم علل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام بقوله: {هو} أي: الله سبحانه {أعلم} أي: منكم ومن كل أحد {بما تفيضون فيه} أي: بما تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه بأنه سحر. {كفى به شهيداً} أي: شاهداً بليغ الشهادة لأنه أعلم بجميع أحوالنا.
{بيني وبينكم} أي أن القرآن جاء من عنده فيشهد لي بالصدق ولكم بالكذب، وقد شهد بصدقي بعجزكم عن معارضة شيء من هذا الكتاب الذي أتيت به فثبت بذلك أنه كلامه لأني لا أقدر على ما تقدرون عليه فرادى ولا مجتمعين، وأنتم عرب مثلي، بل وأنا أمّي وفيكم أنتم الكتبة، والذين خالطوا العلماء، وسمعوا أحاديث الأمم، وضربوا بعد بلاد العرب في بلاد(4/4)
العجم، فظهر بذلك ظهور الشمس أنكم كاذبون {وهو} أي: وحده {الغفور} أي: الذي من شأنه أن يمحو الذنوب أعيانها وآثارها فلا يعاقب عليها ولا يعاتب {الرحيم} أي الذي يكرم بعد المغفرة ويتفضل بالتوفيق لما يرضيه قال الزجاج: هذا دعاء إلى التوبة ومعناه غفور لمن تاب منكم رحيم به ولما حكى تعالى طعنهم في كون القرآن معجزاً بقولهم: إنه يختلقه من عند نفسه ثم ينسبه إلى أنه كلام الله تعالى على سبيل الفرية حكى عنهم شبهة أخرى وهو أنهم كانوا يقترحون عليه معجزات عجيبة، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات، فأجاب الله تعالى عن ذلك. بقوله عز وجل:
{قل} أي: لهؤلاء الذين نسبوك إلى الافتراء {ما كنت} أي: كونا مّا {بدعاً} أي: منشأ مبتدعاً محدثاً مخترعاً، بحيث أكون أجنبياً منقطعاً {من الرسل} أي: لم يتقدّم لي منهم مثال في أصل ما جئت به وهو التوحيد ومحاسن الأخلاق بل قد تقدّمني رسل كثيرون أتوا بمثل ما أتيت به، ودعوا إليه كما دعوت إليه، وصدّقهم الله تعالى بمثل ما صدّقني به. فثبت بذلك رسالتهم وسعد بهم من صدّقهم من قومهم وشقي من كذبهم فانظروا إلى آثارهم واسألوا عن سيرهم من أتباعهم وأنصارهم وأشياعهم.
{تنبيه} البدع والبديع من كل شيء: المبدأ والبدعة؛ ما اخترع مما لم يكن موجوداً قبله. وفي الحديث «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» قال البقاعي معناه والله أعلم: أنه يبتدع ما يخالف السنة إذا كانت البدعة ضدّ السنة فإذا أحدث ما يخالفها كان بإحداثه ضالاً مشركاً وكان وما أحدث في النار. ولم يدخل تحت هذا ما يخترعه الإنسان من أفعال البّر يسمى بدعة لعدم فعله قبل ذلك فيخرج عما ذكر. ا. هـ. وقال ابن عبد السلام: البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرّمة ومندوبة ومكروهة ومباحة: قال والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة؛ فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، كالاشتغال بعلم النحو، أو في قواعد التحريم فمحّرمة، كمذهب القدرية والمجسمة والرافضة، قال: والردّ على هؤلاء من البدع الواجبة، أوفى قواعد المندوب، فمندوبة كبناء الربط والمدارس، وكل إحسان لم يحدث في العصر الأوّل كصلاة التراويح، أو في قواعد المكروه فمكروهة كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف أو في قواعد المباح فمباحة، كالمصافحة عقب الصبح والعصر والتوسع في المآكل والملابس. وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعيّ رضى الله تعالى عنه أنه قال: المحدثات ضربان؛ أحدهما: ما خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً فهو بدعة وضلالة، والثاني: ما أحدث من الخير فهو غير مذموم.
واختلف في تفسير قوله تعالى عن قوله عليه الصلاة والسلام: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} على وجهين؛ أحدهما: أن يحمل ذلك على أحوال الدنيا والثاني: أن يحمل على أحوال الآخرة. أما الأوّل؛ ففيه وجوه. أحدها: أنّ معناه لا أدري ما يصير إليه أمري وأمركم، ومن الغالب منا ومن المغلوب. ثانيها: قال ابن عباس في رواية الكلبي: لما اشتد البلاء بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة: رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء فقصها على أصحابه فاستبشرّوا بذلك ورأوا أن ذلك فرج ما بهم من أذى المشركين. ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا يا رسول الله ما رأينا الذي قلت متى تهاجر إلى الأرض التي رأيتها في المنام؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى:
{قل ما كنت بدعاً من الرسل(4/5)
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} هو شيء رأيته في المنام. {إن} أي: ما {أتبع} أي: بغاية جهدي وجدّي {إلاما} أي: الذي {يوحى} أي: يجدّد لقاؤه ممن لا يوحى بحق سواه {إلي} على سبيل التدريج لا يطلع عليه حق اطلاعه غيري. ثالثها: قال الضحاك: لا أدري ما تؤمرون به ولا ما أومر به من التكاليف والشرائع، ولا من الابتلاء والامتحان.
{وما أنا} أي: بإخباري لكم عما يوحى إليّ {إلا نذير مبين} أي: بيّن الإنذار رابعها: كأنه يقول: ما أدري ما يفعل بي في الدنيا؛ أموت، أو أقتل كما قتل الأنبياء قبلي؟ ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون؛ أترمون بالحجارة من السماء، أو يخسف بكم، أو يفعل بكم ما يفعل بسائر الأمم؟ قال السدّي: ثم أخبره الله تعالى أنه يظهر دينه على الأديان بقوله تعالى: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} (التوبة: 23)
وقال في أمّته {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} (الأنفال: 33)
فأخبره الله تعالى بما يصنع به وبأمّته.
وأما من حمل الآية على أحوال الآخرة، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما نزلت هذه الآية، فرح المشركون والمنافقون واليهود. وقالوا: كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بنا؟ فأنزل الله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر} إلى قوله تعالى: {وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً} (الفتح: 5)
فقالت الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فما يفعل بنا؟ فأنزل الله عز وجل: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار} (سورة الفتح، آية: 5)
الآية وأنزل: {وبشر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً} (الأحزاب: 47)
فبين لهم ما يفعل به وبهم وبهذا قال أنس والحسن وعكرمة. وقالوا إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه، لأنه إنما أخبر به عام الحديبية فنسخ ذلك.
قال الرازي: وأكثر المحققين استبعدوا هذا القول من وجهين؛ أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا بدّ وأن يعلم من نفسه ومتى علم كونه نبياً علم أنه لا تصدر عنه الكبائر، وأنه مغفور له وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكاً في أنه هل هو مغفور له أو لا ثانيهما: أن الأنبياء أرفع حالاً من الأولياء وقد قال تعالى في حقهم {إنّ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (الأحقاف: 13)
فكيف يعقل أن يبقى الرسول الذي هو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكاً في أنه هل هو من المغفور لهم؟ فثبت ضعف هذا القول.
{قل} يا أفضل الخلق لهؤلاء المصرّين على التكذيب {أرأيتم} أي: أخبروني {إن كان} أي: هذا الذي أتيتكم به وهو القرآن {من عند الله} أي: الملك الأعظم. {وكفرتم به} أي: أيها المشركون {وشهد شاهد} واحد أو أكثر {من بني إسرائيل} أي: الذي جرت عادتكم أن تستفتوهم وتثقوا بهم {على مثله} أي: مثل ما في القرآن من أنّ من وحد فقد آمن ومن أشرك فقد كفر وأن الله تعالى أنزل ذلك في التوراة والإنجيل وجميع أسفارهم فتطابقت عليه كتبهم وتضافرت به رسلهم، وتواترت على الدعاء إليه والأمر به أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام {فآمن} أي: هذا الذي شهد هذه الشهادة {واستكبرتم} أي: أوجدتم الكبر بالإعراض عنه طالبين بذلك الرياسة والفخر، فكنتم بعد شهادة هذا الشاهد معاندين من غير شبهة فضللتم، فوضعتم الشيء في غير موضعه، فانسدّ عليكم باب الهداية.
واختلف في هذا الشاهد فقال قتادة والضحاك وأكثر المفسرين: هو عبد الله بن سلام شهد بنبوّة المصطفى صلى الله عليه وسلم وآمن به، واستكبرت اليهود فلم يؤمنوا به. كما روى أنس(4/6)
قال: سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فنظر إلى وجهه، فعلم أنه ليس وجه كذاب، وتأمّله فتحقق أنه النبيّ المنتظر، فقال له: إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلا نبي: «ما أوّل أشراط الساعة؟ وما أوّل طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمّه؟ فقال صلى الله عليه وسلم أخبرني بهنّ جبريل آنفاً قال: جبريل؟ قال: نعم قال: ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ {من كان عدوّاً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} (سورة البقرة، آية: 97)
ثم قال: أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه، وإذا سبق ماء المرأة نزعته. فقال: أشهد أنك لرسول الله حقاً. ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود، فقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أيّ رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال أفرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: شرّنا وابن شرّنا، وانتقصوه فقال: هذا ما كنت أخاف منه يا رسول الله. قال سعد بن أبي وقاص: «ما سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام؟ وفيه نزلت هذه الآية {وشهد شاهد من بني إسرائيل} (الأحقاف: 10)
وقيل: الشاهد هو موسى بن عمران قال الشعبي: قال مسروق في هذه الآية: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأنّ ال {حم} نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعامين فكيف يمكن حمل هذه الآية المكية على واقعة حدثت في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة؟ وإنما نزلت الآية في محاجة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت بالمدينة وأجاب الكلبي: بأنّ السورة مكية إلا هذه الآية فإنها مدنية، وأن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يضعها في هذه السورة المكية في هذا الموضع المعين. وقيل المراد بالشاهد موسى، ومثل القرآن هو التوراة. فشهد موسى على التوراة، ومحمد على الفرقان فكل واحد يصدّق الآخر: لأن التوراة مشتملة على البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن مصدّق للتوراة. وجواب الشرط: ألستم ظالمين دل عليه قوله تعالى:
{إن الله} أي: الملك الأعظم ذا العزة والحكمة {لا يهدي القوم} أي: الذين لهم قوّة على القيام بما يريدون {الظالمين} أي: الذين من شأنهم وضع الأمور في غير مواضعها فلأجل ذلك لا يهديكم، إذ لا أحد أرسخ منكم في الظلم الذي تسبب عنه هلاككم.
{س46ش11/ش14 وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا? لِلَّذِينَءَامَنُوا? لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ? وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا? بِهِ? فَسَيَقُولُونَ هَاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِن قَبْلِهِ? كِتَابُ مُوسَى? إِمَامًا وَرَحْمَةً? وَهَاذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا? وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا? رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا? فَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَحْزَنُونَ * أُو?لَا??ـ?ِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءَ? بِمَا كَانُوا? يَعْمَلُونَ}
{وقال الذين كفروا} أي: تعمدوا تغطية الحق {للذين} أي: لأجل إيمان الذين {آمنوا} أي سبقوهم إلى الإيمان {لو كان} أي: إيمانهم بالقرآن {خيراً} أي: من جملة الخيور {ما سبقونا إليه} ونحن أشرف منهم، وأكثر أموالاً وأولاداً، وأعلم بتحصيل العز والسؤدد الذي هو مناط الخير. كما لم يسبقونا إلى شيء من هذه الخيرات التي نحن فائزون بها وهم صفر منها لكن ليس بخير، فلهذا سبقونا إليه {وإذ} أي: فحين {لم يهتدوا به} أي: بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان {فسيقولون هذا} أي: القرآن الذي سبقتم إليه {إفك} أي: شيء مصروف عن وجهه إلى قفاه {قديم} أي: أفك غيره وعثر هو عليه فأتى به ونسبه إلى الله تعالى كما(4/7)
قالوا أساطير الأولين {ومن} أي: قالوا ذلك، والحال أنه كان في بعض الزمن الذي من {قبله} أي: القرآن {كتاب موسى} كليم الله تعالى، حال كون كتابه وهو التوراة {إماما} أي: يستحق أن يؤمّه كل من سمع به {ورحمة} لما فيه من نعم الدلائل على الله تعالى، والبيان الشافي، وفي الكلام محذوف، تقديره: وتقدّمه كتاب موسى إماماً ورحمة ولم يهتدوا به كما قال تعالى في الآية الأولى {وإذ لم يهتدوا به} .k
{وهذا} أي: القرآن {كتاب} أي: جامع لجميع الخيرات {مصدّق} أي: لكتاب موسى عليه السلام، وغيره من الكتب التي تصح نسبتها إلى الله تعالى في أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله تعالى وقوله تعالى: {لساناً} حال من الضمير في مصدّق. وقوله:
{عربياً} صفة ل {لساناً} وهو المسوّغ لوقوع هذا الجامد حالاً أي: في أعلى طبقات اللسان العربي، مع كونه أسهل الكتب تناولاً، وأبعدها عن التكلف، ليس هو بحيث يمنعه علوّه بفخامة الألفاظ، وجلالة المعاني، ودقة الإشارة عن سهولة الفهم، وقرب التناول. وقوله تعالى: {لينذر} أي: الكتاب بحسن بيانه، وعظم شأنه {الذي ظلموا} أي: سواء كانوا عريقين في الظلم، أم لا وقرأ نافع وابن عامر: بالتاء خطاباً أي: أيها الرسول. والباقون: بالياء غيبة بخلاف عن البزي. {وبشرى} أي: كاملة {للمحسنين} أي: المؤمنين، بأنّ لهم الجنة ولما قرّر دلائل التوحيد والنبوّة، وذكر شبهات المتكبرين وأجاب عنها ذكر بعد ذلك طريقة المحقين. فقال تعالى:
{إن الذين قالوا ربنا} أي: خالقنا ومولانا والمحسن إلينا {الله} وحده {ثم استقاموا} أي: جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الأمور التي هي منتهى العلم، و {ثم} للدلالة على تأخر رتبة العمل وتوقف اعتباره على التوحيد {فلا خوف عليهم} أي: من لحوق مكروه {ولاهم يحزنون} أي: على فوات محبوب، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط. {أولئك} أي: العالون الدرجات {أصحاب الجنة خالدين فيها} خلوداً لا آخر له جوزوا بذلك {جزاءً بما} أي: بسبب ما {كانوا} طبعاً وخلقاً {يعملون} أي: على سبيل التجديد المستمر.
ولما كان رضا الله تعالى في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما كما ورد به الحديث حث عليه بقوله تعالى:
{ووصينا} أي: بما لنا من العظمة {الإنسان} أي: هذا النوع الذي أنس بنفسه {بوالديه} وقرأ: {حسناً} نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم الحاء وسكون السين. وقرأ الكوفيون بسكون الحاء وقبلها همزة مكسورة وفتح السين وبعدها ألف، فهو منصوب على المصدر بفعل مقدّر، أي: وصيناه أن يحسن إليهما إحساناً، ومثله حسناً. وقرأ:
{حملته أمّه كرهاً} أي: على مشقة {ووضعته كرهاً} أي: بمشقة الكوفيون وابن ذكوان بضم الكاف فيهما، والباقون بالفتح، وهما لغتان بمعنى واحد. مثل الضعف والضعف، وقيل: المضموم اسم، والمفتوح مصدر. وليس المراد ابتداء الحمل. فإنّ ذلك لا يكون بمشقة لقوله تعالى: {فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمّرت به فلما أثقلت} (سورة الأعراف، آية: 189)
فحينئذ حملته كرهاً ووضعته كرهاً.
تنبيه: دلت الآية على أنّ حق الأم أعظم لأنه تعالى قال: {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً} فذكرهما معاً ثم خص الأم بالذكر فقال: {حملته أمّه كرهاً ووضعته كرهاً} وذلك يدل على أن حقها أعظم، وأنّ وصول المشاق إليها بسبب الولد كثيرة والأخبار كثيرة. في هذا الباب. {وحمله وفصاله} أي: من الرضاع {ثلاثون شهراً} كل ذلك بيان لما تكابده الأم في تربية الولد، ومبالغة في الوصية(4/8)
بها. وفي ذلك دلالة على أنّ أقل مدّة الحمل ستة أشهر، لأنه لما كان مجموع مدة الحمل والرضاع ثلاثين شهراً، وقال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين} (البقرة: 233)
فإذا أسقطنا الحولين الكاملين، وهي أربعة وعشرون شهراً من ثلاثين بقي مدة الحمل ستة أشهر.
روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا حملت المرأة تسعة أشهر، أرضعت أحد وعشرين شهراً. وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهراً وروي عن أبي بكر أنّ امرأة دفعت إليه وقد ولدت لستة أشهر فأمر برجمها، فقال عمر: لا رجم عليها، وذكر الطريق المتقدمة وعن عثمان نحوه، وأنه همّ بذلك، فقرأ ابن عباس رضي الله عنهما عليه الآية. وأما مدة أكثر الحمل فليس في القرآن ما يدل عليه، واختلف الأئمة في ذلك: فعند الشافعي أربع سنين. وقوله تعالى:
{حتى إذا بلغ أشده} لا بد فيه من جملة محذوفة. تكون حتى غاية لها، أي: عاش واستمّرت حياته حتى إذا بلغ أشده قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء: الأشد ثماني عشرة سنة، وقيل: نهاية قوّته وغاية شبابه واستوائه، وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة فذلك قوله تعالى: {وبلغ أربعين سنة} وقال السدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقيل: نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه: وأبيه أبي قحافة عثمان بن عمرو وأمّه أم الخير بنت صخر بن عمرو وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه الآية في أبي بكر الصدّيق أسلم أبواه جميعاً ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره، أوصاه الله تعالى بهما ولزم ذلك من بعده، وكان أبو بكر يصحب النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبيّ صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة في تجارته إلى الشام، فلما بلغ أربعين سنة، وتنبأ النبيّ صلى الله عليه وسلم آمن به ثم آمن أبواه، ثم ابنه عبد الرحمن، وابن عبد الرحمن أبو عتيق ثم إنّ أبا بكر دعا ربه بأن {قال رب أوزعني} أي: ألهمني، وقرأ ورش والبزي: بفتح الياء في الوصل، والباقون بسكونها {أن أشكر نعمتك التي أنعمت} أي: بها {علي} أي: وعلى أولادي {وعلى والديّ} وهي: التوحيد.
وأكثر المفسرين: على أنّ الأشد ثلاث وثلاثون. قال الرازي: مراتب الحيوان ثلاثة؛ لأنّ بدن الحيوان لا يكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية والرطوبة الغريزية زائدة في أوّل العمر ناقصة في آخره. والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلا إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدّتين، فثبت أنّ مدّة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام فأوّلها: أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية. وحينئذ تكون الأعضاء عظيمة التمدد في ذواتها وزيادتها في الطول والعرض والعمق وهذا هو سن النشء والثانية وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافية بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نقصان. وهذا هو سن الوقوف، وهو حين الشباب.
والمرتبة الثالثة: أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزية ثم هذا النقصان على قسمين فالأول: هو النقصان الخفي، وهو سن الكهولة. والثاني: هو النقصان الظاهر، وهو سن الشيخوخة.
قال المفسرون: لم يبعث نبيّ قط إلا بعد الأربعين سنة. قال الرازي: وهذا يشكل بعيسى عليه السلام فإنه تعالى جعله نبياً من أوّل عمره، إلا أنه يجب أن يقال: الأغلب أنه ما جاء الوحي(4/9)
إلا بعد الأربعين، وهكذا كان الأمر في حق نبينا صلى الله عليه وسلم ثم إنّ أبا بكر دعا أيضاً فقال: {وأن أعمل صالحاً ترضاه} قال ابن عباس: أجاب الله تعالى دعاء أبي بكر، فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله تعالى، منهم بلال ولم يرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه ودعا أيضاً فقال: {وأصلح لي في ذرّيتي} فأجاب الله تعالى دعاءه، فلم يكن له ولد إلا آمن فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعاً وأدرك أبواه وابنه عبد الرحمن وابن ابنه أبو عتيق النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم مؤمنون. ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة.
تنبيه أصلح يتعدى بنفسه لقوله تعالى: {وأصلحنا له زوجه} (الأنبياء: 90)
وإنما تعدى بفي لتضمنه معنى ألطف بي في ذرّيتي، أو لأنه جعل الذرّية ظرفاً للإصلاح والمعنى: هب لي الصلاح في ذرّيتي وأوقعه فيهم.
{إني تبت} أي: رجعت {إليك} عن كل ما يقدح في الإقبال عليك. وأكده إعلاماً بأنّ حاله في الإقبال على الشهوات حال من يبعد منه الإقلاع: فينكر إخباره به وكذا قوله: {وإني من المسلمين} أي: الذين أسلموا بظواهرهم وبواطنهم فانقادوا أتمّ انقياد. {أولئك} أي: العالون الرتبة، القائلون هذا القول أبو بكر، وغيره.
{الذين يتقبل} بأسهل وجه {عنهم} وأشار بصيغة التفعل إلى أنه يعمل في قبوله عمل المعتني، والتقبل من الله هو إيجاب الثواب له على عمله وقوله تعالى: {أحسن ما عملوا} أي: أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا.
فإن قيل: كيف قال الله تعالى {أحسن} والله تعالى يتقبل الأحسن وما دونه؟.
أجيب بوجهين أحدهما: أنّ المراد بالأحسن الحسن، كقوله تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} (الزمر: 55)
وكقوله: الناقص والأشج أعدلا بني مروان. أي: عادلا بني مروان.
ثانيهما: أنّ الحسن من الأعمال هو المباح الذي لا يتعلق به ثواب ولا عقاب. والأحسن ما يغاير ذلك، وهو المندوب، أو الواجب.
ولما كان الإنسان محل النقصان وإن كان محسناً، نبه على ذلك بقوله تعالى:
{ويتجاوز} أي بوعد لا خلف فيه {عن سيئاتهم} أي: فلا يعاقبهم عليها. وقرأ حفص وحمزة والكسائي: بنون مفتوحة قبل الفوقية من {يتقبل} ونصب {أحسن} ، ونون مفتوحة قبل الفوقية من {يتجاوز} والباقون بياء مضمومة قبل الفوقية من {يتقبل} ، و {يتجاوز} ورفع {أحسن} وقوله تعالى:
{في أصحاب الجنة} في محل الحال أي: كائنين في جملة أصحاب الجنة. كقولك أكرمني الأمير في أصحابه أي: في جملتهم. وقيل: خبر مبتدأ مضمر أي: هم في أصحاب الجنة وقوله تعالى: {وعد الصدق} مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأنّ قوله تعالى: {أولئك الذين يتقبل عنهم} في معنى الوعد. فيكون قوله تعالى: {يتقبل} ، و {يتجاوز} وعداً من الله تعالى لهم بالتقبل والتجاوز. والمعنى يعامل من صفته ما قدّمنا بهذا الجزاء. وذلك وعد من الله تعالى صدق، لكونه مطابقاً للواقع {الذي كانوا يوعدون} أي: يقع لهم الوعد به في الدنيا ممن لا أصدق منهم، وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام حين أخبروا بقوله تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات} (التوبة: 72)
ولما وصف تعالى الولد البار بوالديه وصف الولد العاق لهما. بقوله تعالى:
والمراد به الجنس. وقال ابن عباس والسدي: نزلت في عبد الله بن أبيّ. وقيل: في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه؛ كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام، وهو يأبى، وهو {قوله أف لكما} وقال الحسن وقتادة:(4/10)
إنها نزلت في كل كافر عاق لوالديه وعلى ثبوت أنها نزلت فيمن تقدم، لا ينافي أن المراد الجنس، فإنّ خصوص السبب لا يوجب التخصيص وفي {أف} قراءات ذكرت في سورة بني إسرائيل {أتعدانني} أي: على سبيل الاستمرار والتجديد في كل وقت وقرأ هشام بإدغام النون الأولى في الثانية وفتح الياء نافع وابن كثير وسكنها الباقون. {أن أخرج} أي: من مخرج يخرجني من الأرض بعد أن غبت فيها وصرت تراباً يحييني كما كنت أوّل مرّة {وقد} أي: والحال أنه قد {خلت} أي: مضت على سنن الموتى {القرون} أي: الأمم الكثيرة مع صلابتهم {من قبلي} أي: قرناً بعد قرن، وتطاولت الأزمان، ولم يخرج منهم أحد من القبور {وهما} أي: والحال أنهما كلما قال لهما ذلك {يستغيثان الله} أي: يطلبان بدعائهما من له جميع صفات الكمال أن يغيثهما بإلهامه قبول كلامهما ويقولان إن لم ترجع {ويلك} أي: هلاكك بمعنى: هلكت {آمن} أي: أوقع الإيمان الذي لا إيمان غيره، وهو الذي ينقذ من كل هلكة، ويوجب كل فوز، بالتصديق بالبعث وبكل ما جاء عن الله تعالى. ثم علّلا أمرهما على هذا الوجه مؤكدين في مقابلة إنكاره بقولهما: {إنّ وعد الله} أي: الملك المحيط بجميع صفات الكمال حق أي: ثابت أعظم ثبات؛ لأنه لو لم يكن حقاً لكان نقصاً من جهة الأخلاق الذي لا يرضاه لنفسه أقل الملوك. فكيف بملك الملوك؟ {فيقول} مسبباً عن قولهما ومعقباً له {ما هذا} أي: الذي تذكرانه من البعث {إلا أساطير} أي: أكاذيب {الأوّلين} التي كتبوها.
{أولئك} أي البعداء من العقل والمروءة وكل خير.
{الذين حق} أي: ثبت ووجب {عليهم القول} أي: الكامل في بابه، بأنهم أسفل السافلين. وهذا كما قال البيضاوي يردّ على من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر؛ لأنه يدل على أنه من أهلها لذلك وقد جبّ عنه إن كان لإسلامه وقال البقاعي: وهذا يكذب من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فإنه أسلم وصار من أكابر الصحابة فحقت له الجنة، ولما أثبت لهم هذه الشنعة بين كثرة من شاركهم فيها بقوله تعالى: {في} أي: كائنين في {أمم} أي: خلائق كانوا بحيث يقصدهم الناس، ويتبع بعضهم بعضاً {قد خلت} أي: تلك الأمم {من قبلهم} وكانوا قدوتهم وأدخل الجار؛ لأنّ المحكوم عليه بعض السالفين {من الجنّ} لأنّ العرب كانت تستعظمهم، وتستجير بهم وذلك لأنهم يتظاهرون لهم، ويؤذونهم ولم يقطع أذاهم لهم، وتسلطهم عليهم ظاهراً وباطناً إلا القرآن: فإنه أحرقهم بأنواره، وجلاهم عن تلك البلاد بتجلي آثاره {وإلانس} ولا نفعتهم كثرتهم ولا أغنت عنهم قوتهم وقوله تعالى {إنهم} أي: كلهم {كانوا} أي: جبلة وطبعاً وخلقاً لا يقدرون على الانفكاك عنه {خاسرين} أي عريقين في هذا الوصف تعليل للحكم على الاستئناف. {ولكل درجات مما عملوا} قال ابن عباس: يريد من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو ساعة وقال مقاتل: ولكل واحد من الفريقين يعنى البارّ بوالديه والعاق لهما درجات في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية.
فإن قيل كيف يجوز إطلاق لفظ الدرجات على أهل النار وقد روي «الجنة درجات والنار دركات» أجيب من وجوه أحدها: أنّ ذلك على جهة التغليب وثانيها: قال ابن زيد: درج أهل الجنة تذهب علواً، ودرج أهل النار تذهب هبوطاً وثالثها: المراد بالدرجات المراتب المتزايدة،(4/11)
فدرجات أهل الجنة في الخيرات والطاعات، ودرجات أهل النار في المعاصي والسيئات.
وقوله تعالى: {وليوفيهم أعمالهم} أي: جزاءها معلله محذوف، تقديره: جازاهم بذلك. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو وهشام، وعاصم: بالياء التحتية أي: الله والباقون بالنون أي نحن وقوله تعالى: {وهم لا يظلمون} أي: شيئاً بنقص للمؤمنين ولا بزيادة للكافرين (والواو) إمّا استئناف وإمّا حال مؤكدة.
{ويوم} أي: واذكر يا أفضل الخلق لهؤلاء يوم يعرضون هكذا كان الأصل. ولكنه تعالى أظهر الوصف الذي أوجب لهم الخزي بقوله تعالى: {يعرض الذين كفروا على النار} أي: يصلون لهيبها ويقلبون فيها، كما يعرض اللحم الذي يشوى وقيل: تعرض عليهم النار ليروا أهوالها، مقولاً لهم على سبيل التنديم والتقريع والتوبيخ والتشنيع؛ لأنهم لم يذكروه تعالى حق ذكره عند شهواتهم بل نالوها عند مخالفة أمره سبحانه وتعالى. {أذهبتم طيباتكم} أي: لذاتكم باتباعكم الشهوات. وقرأ ابن كثير وابن عامر قبل الدال: بهمزتين مفتوحتين الأولى: محققة بلا خلاف. والثانية: مسهلة بخلاف عن هشام وأدخل هشام بينهما ألفاً ولم يدخل ابن كثير وابن ذكوان والباقون بهمزة واحدة محققة. {في حياتكم الدنيا} أي: القريبة الدنية المؤذن وصفها لمن يعقل بحياة أخرى بعدها، فكان سعيكم في حركاتكم وسكناتكم لأجلها حتى نلتموها {واستمتعتم} أي: طلبتم وأوجدتم انتفاعكم {بها} وجعلتموها غاية حظكم في رفعتكم ونعمتكم. والمعنى: أن ما قدّر لكم من الطيبات والدرجات فقد استوفيتموه في الدنيا فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها وعن عمر رضي الله عنه «لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً ولكني أستبقي طيباتي» قال الواحدي: إنّ الصالحين يؤثرون التقشف والزهد في الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل لأنّ هذه الآية لا تدل على المنع من التمتع لأنها وردت في حق الكافر وإنما وبخ الله تعالى الكافر لأنه تمتع بالدنيا ولم يؤدّ شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه ويدل على ذلك قوله تعالى: {قل من حرّم زينة الله التي أخرج
لعباده والطيبات من الرزق} (الأعراف: 32)
نعم لا ينكر أنّ الاحتراز عن التنعم أولى لأنّ النفس إذا اعتادت التنعم صعب عليها الاحتراز والانقياد وحينئذ ربما حمل الميل إلى تلك الطيبات على فعل ما لا ينبغي.
روى عمر قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو على رمال حصير، قد أثر الرمال بجنبه فقلت: يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يوسع على أمتك، فإنّ فارس والروم قد وسع عليهم وهم يعبدون غير الله تعالى. فقال صلى الله عليه وسلم أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنها أنها قالت: «كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً وما هو إلا الماء والتمر» «وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم الشعير» والأحاديث في هذا كثيرة ولما كانت الاستهانة بالأوامر والنواهي استهانة بيوم الجزاء سبب عنه قوله تعالى:
{فاليوم تجزون} أي: على إعراضكم عنا {عذاب الهون} أي: الهوان العظيم المجتمع الشديد الذي فيه ذلّ وخزي {بما كنتم} أي: جبلة وطبعاً {تستكبرون}(4/12)
أي: تطلبون الترفع وتوجدونه على الاستمرار {في الأرض} التي هي لكونها تراباً وموضوعة على الزوال والخراب أحق شيء بالتواضع والذل والهوان {بغير الحق} أي: الأمر الذي يطابقه الواقع، وهو أوامرنا ونواهينا {وبما كنتم} أي: على الاستمرار {تفسقون} أي: بسبب الاستكبار الباطل، والفسوق عن طاعة الله تعالى.
تنبيه: دلت الآية على أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأنّ الله تعالى علل عذابهم بأمرين؛ أولهما: الكفر. وثانيهما: الفسق وهذا الفسق لا بدّ وأن يكون مغايراً لذلك الكفر، لأنّ العطف يوجب المغايرة فثبت أنّ فسق الكفار يوجب العقاب في حقهم ولا معنى للفسق إلا ترك المأمورات وفعل المنهيات.
ولما كان قوم عاد أكثر أموالاً وقوة وجاهاً من أهل مكة، ذكر تعالى قصتهم ليعتبروا، فيتركوا الاغترار بما وجدوه في الدنيا. فقال عز من قائل:
{واذكر} يا أشرف الرسل، لهؤلاء الذين لا يتعظون {أخا عاد} وهو أخوك هود عليه السلام، الذي كان بين قوم أشدّ من قومك، ولم يخف عاقبتهم وأمرهم ونهاهم ونجيناه منهم فهو لك قدوة، وفيه أسوة، ولقومك في قصدهم إياك بالأذى من أمره موعظة. وقوله تعالى: {إذ أنذر} بدل اشتمال من {أخا} {قومه} أي: الذين لهم قوة على القيام فيما يحاولونه. {بالأحقاف} قال ابن عباس: واديين عمان ومهرة، وقال مقاتل: كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له: مهرة إليها تنسب الإبل المهرية. وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم. وكانوا من قبيلة إرم قال قتادة: ذكر لنا: أن عاداً كانوا حياً من اليمن، كانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر.
{وقد} أي: والحال أنّه قد {خلت النذر} أي: مرّت ومضت الرسل الكثيرون {من بين يديه} أي: قبل هود، كنوح وشيث وآدم عليهم السلام {ومن خلفه} أي: بعده والمعنى؛ أنّ الرسل الذين بعثوا قبله، والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره، والجملة حال، أو اعتراض. ولما أشار إلى كثرة الرسل، ذكر وحدتهم في أصل الدعاء، فقال مفسراً للإنذار معبراً بالنهي {أن لا تعبدوا} أي: أيها العباد المنذرون، بوجه من الوجوه شيئاً من الأشياء {إلا الله} أي: الملك الذي لا ملك غيره، ولا خالق سواه، ولا منعم إلا هو فإني أراكم تشركون به من لم يشركه في شيء من تدبيركم والملك لا يقرّ على مثل هذا {إني أخاف عليكم} لكونكم قومي، وأعز الناس عليّ {عذاب يوم عظيم} أي لا يدع جهة إلا ملأها عذابه إن أصررتم على ما أنتم فيه من الشرك.
{قالوا} له في جوابه منكرين عليه {أجئتنا} أي: يا هود، {لتأفكنا} أي: لتصرفنا عن وجه أمرنا إلى قفاه {عن آلهتنا} فلا نعبدها، ولا نعتد بها {فأتنا بما تعدنا} من العذاب؛ سموا الوعيد وعداً {إن كنت} أي: يقال عنك كوناً ثابتاً {من الصادقين} في أنك رسول من الله، وأنه يأتينا بما تخافه علينا من العذاب إن أصررنا.I
{قال} أي هود مكذباً لهم في نسبتهم إليه ادعاء شيء من ذلك: {إنما العلم} أي: المحيط بكل شيء، عذابكم وغيره. {عند الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال، فهو ينزل علم ما توعدون به على من يشاء إن شاء. ولا علم لي إلى الآن، ولا لكم بشيء من ذلك ولا قدرة، {وأبلغكم} أي: في الحال والاستقبال وقرأ أبو عمرو بسكون الباء الموحدة وتخفيف اللام والباقون: بفتح الموحدة وتشديد اللام.(4/13)
{ما أرسلت به} ممن لا مرسل في الحقيقة غيره، سواء أكان وعداً أم وعيداً أم غير ذلك. ولم يذكر الغاية؛ لأنّ ما أرسل به صالح لهم ولغيرهم {ولكني أراكم} أي: أعلمكم علماً كالرؤية. وقرأ نافع والبزي وأبو عمرو: بفتح الياء والباقون: بسكونها. وأمال الألف بعد الراء ورش بين بين وأمالها أبو عمرو، وحمزة، والكسائي محضة. والباقون بالفتح. {قوماً تجهلون} أي: باستعجال العذاب. فإنّ الرسل بعثوا مبلغين منذرين لا مقترحين.
{فلما رأوه} أي: العذاب الذي توعدهم به {عارضا} أي: سحاباً أسود بارزاً في الأفق، ظاهر الأمر عند من له أهلية النظر، حال كونه قاصداً إليهم. {مستقبل أوديتهم} أي: طالباً لأن يكون مقابلاً لها وموجداً لذلك. {قالوا} على عادة جهلهم، مشيرين إليه بأداة القرب الدالة على أنهم في غاية الجهل، لأنّ جهلهم به استمّر حتى كاد أن يواقعهم. {هذا عارض} أي: سحاب معترض في عرض السماء. أي: ناحيتها. {ممطرنا} قال المفسرون: كان حبس عنهم المطر أياماً فساق الله تعالى إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا فقال الله تعالى {بل هو} أي: هذا العارض الذي ترونه {ما استعجلتم به} أي: طلبتم العجلة في إتيانه وقوله تعالى: {ريح} بدل من {ما} {فيها عذاب أليم} أي: شديد الإيلام وروي أنها كانت تحمل الفسطاط فترفعه في الجوّ، وتحمل الظعينة في الجوّ، فترفعها وهودجها حتى ترى كأنها جرادة وكانوا يرون ما كان خارجاً عن منازلهم من الناس والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض، ثم تقذف بهم. ثم وصف تلك الريح. بقوله تعالى:
{تدمر} أي: تهلك إهلاكاً عظيماً شديداً. {كل شيء} أي: أتت عليه من الحيوان والناس وغيرهما، هذا شأنها فمن سلم منها كهود عليه السلام ومن آمن به، فسلامته أمر خارق للعادة. كما أنّ أمرها في إهلاك كل ما مرّت عليه أمر خارق للعادة. {بأمر ربها} أي: المبدع لها والمربي والمحسن بالانتقام من أعدائه.
فإن قيل: ما فائدة إضافة الرب إلى الريح أجيب: بأنّ فائدة ذلك: الدلالة على أنّ الريح وتصريف أعنتها، مما يشهد بعظيم قدرته لأنها من أعاجيب خلقه، وأكابر جنوده.
وذكر الأمر وكونها مأمورة من جهته عز وعلا يعضد ذلك ويقويه فليس من تأثير الكواكب والقرانات.
قيل: إنّ أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم، قالت: رأيت ريحاً فيها كشهب النار. وروي: أنّ أوّل ما عرفوا به أنه عذاب أليم: أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم، وغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمال الله عليهم الأحقاف فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام، لهم أنين ثم أمر الله تعالى الريح، فكشفت عنهم الرمال، وحملتهم، فرمت بهم في البحر.
وروي: أن هوداً عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطاً إلى جنب عين تنبع وكانت الريح التي تصيبهم ريحاً طيبة هادئة، والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء وتضربهم على الأرض.
وعن ابن عباس اعتزل هود ومن معه في حظيرة، ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين على الجلود وتلذه الأنفس. وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وأثر المعجزة إنما ظهر في تلك الريح(4/14)
من هذا الوجه «قال صلى الله عليه وسلم ما أمر الله تعالى خازن الريح أن يرسل على عاد إلا مقدار الخاتم وذلك القدر أهلكهم بكليتهم» كما قال تعالى:
{فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم} أي: فجاءتهم الريح فدمّرتهم، فأصبحوا بحيث لو خضت بلادهم لا ترى إلا مساكنهم. وقرأ عاصم وحمزة: بالياء التحتية المضمومة ورفع النون من مساكنهم، لقيامه مقام الفاعل. والباقون: بالتاء الفوقية مفتوحة مبنياً للفاعل، ونصب مساكنهم مفعولاً به. وأمال الألف بعد الراء ورش بين بين، وأبو عمرو وحمزة والكسائي محضة. وكذلك من {القرى} {كذلك} أي: مثل هذا الجزاء الهائل؛ في أصله، أو جنسه، أو نوعه، أو شخصه من الإهلاك. {نجزي} بعظمتنا دائماً إذا شئنا {القوم المجرمين} أي: العريقين في الإجرام الذين يقطعون ما حقه الوصل وذلك الجزاء هو الإهلاك على هذا الوجه الشنيع «وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الريح فزع وقال: «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما أرسلت به، وإذا رأى مخيلة أي: سحابة. قام وقعد، وجاء وذهب، وتغير لونه، فنقول له: يا رسول الله ما تخاف؟ فيقول: إني أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا: هذا عارض ممطرنا فاحذروا أيها العرب مثل ذلك إن لم ترجعوا» فإن قيل قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال: 33)
فكيف يحصل التخويف أجيب بأنّ ذلك كان قبل نزول الآية ثم أخبر الله تعالى عن مكنة عاد بقوله سبحانه:
{ولقد مكناهم} أي: تمكيناً تظهر به عظمتنا {فيما} أي: في الذي {إن} نافية أي: ما {مكناكم} يا أهل مكة {فيه} من قوّة الأبدان، وطول الأعمار، وكثرة الأموال، وغيرها. ثم إنّهم مع ذلك ما نجوا من عذاب الله تعالى. فكيف يكون حالكم؟.
تنبيه: قال البقاعي: وجعل النافي إن؛ لأنها أبلغ من {ما} لأن ما تنفى تمام الفوت، لتركبها من الميم والألف التي حقيقة إدراكها فوت تمام الإدراك. وإن تنفي أدنى مظاهر مدخولها، فكيف بما وراء من تمامه؟ لأنّ الهمزة أوّل مظهر لفوت الألف، والنون لمطلق الإظهار. هذا إلى ما في ذلك من عذوبة اللفظ، وصونه عن ثقل التكرار، إلى غير ذلك من بديع الأسرار ا. هـ.
وقال الزمخشريّ: إن نافية أي: فيما ما مكناكم فيه إلا أن إن أحسن في اللفظ، لما في مجامعة ما بمثلها من التكرار المستبشع، ومثله مجتنب. ألا ترى أنّ الأصل في مهما ما ما فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء ولقد أغث أبو الطيب في قوله:
*لعمرك ما ما بان منك لضارب
وما ضرّه لو اقتدى بعذوبة لفظ التنزيل فقال:
لعمرك ما إن بان منك لضارب. وقد جعلت إن صلة مثلها فيما أنشده الأخفش رحمه الله تعالى:
*يرجى المرء ما إن لا يراه
... وتعرض دون أدناه الخطوب
وتؤوّل بأنا مكناهم في مثل ما مكناكم فيه والوجه هو الأوّل {وجعلنا لهم} أي على ما اقتضته عظمتنا {سمعاً} وأفرده لقلة التفاوت فيه {وأبصاراً} وجمعه لكثرة التفاوت في أنوار الأبصار، وكذا في قوله تعالى: {وأفئدة} أي: فتحنا عليهم أبواب النعم، وأعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل. وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في دلائل ملكوت السموات والأرض وأعطيناهم أفئدة، أي: قلوباً فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب(4/15)
الدنيا ولذاتها. فلا جرم قال تعالى: {فما أغنى عنهم} في حال إرسالنا إليهم الرحمة على لسان هود عليه السلام ثم النقمة بيد الريح {سمعهم} وأكد النفي بتكرير النافي بقوله تعالى: {ولا أبصارهم} وكذا في قوله تعالى: {ولا أفئدتهم} أردنا إهلاكهم، وأكد بإثبات الجار بقوله تعالى: {من شيء} أي: من الأشياء وإن قل وقال الجلال المحلي إنّ {من} زائدة وقوله تعالى: {إذ} معمولة لأغنى وأشربت معنى التعليل. أي: لأنهم {كانوا} أي: طبعاً وخلقاً {يجحدون} أي: يكرّرون على ممر الزمان الجحد {بآيات الله} أي: الإنكار لما يعرب عن دلائل الملك الأعظم {وحاق} أي: نزل {بهم ما كانوا به يستهزئون} لأنهم؛ كانوا يطلبون نزول العذاب على سبيل الاستهزاء ولما تم المراد من الإخبار بهلاكهم على ما لهم من المكنة العظيمة ليتعظ بهم من سمع أمرهم أتبعهم من كان مشاركاً لهم في التكذيب فشاركهم في الهلاك فقال تعالى:
{ولقد أهلكنا} أي: بما لنا من العظمة {ما حولكم} يا أهل مكة {من القرى} كحجر ثمود وعاد وأرض سدوم وسبأ ومدين والأيكة وقوم لوط وفرعون وأصحاب الرس، وغيرهم ممن فيهم معتبر {وصرّفنا} أي: بينا {الآيات} أي: الحجج البينات {لعلهم} أي: الكفار {يرجعون} أي: ليكونوا عند من يعرف حالهم في رؤية الآيات، حال من يرجع عن الغيّ الذي كان يرتكبه، لتقليد أو شبهة كشفتها الآيات وفضحتها الدلالات؛ فلم يرجعوا فكان عدم رجوعهم سبب إهلاكهم. {فلولا} أي: فهلا ولم لا {نصرهم الذين} أي: نصر هؤلاء المهلكين الذين {اتخذوا} أي: اجتهدوا في صرف أنفسهم عن دواعي العقل حتى أخذوا. {من دون الله} أي: الملك الذي هو أعظم من كل عظيم {قرباناً} أي: متقرباً بهم إلى الله تعالى: {آلهة} معه وهم الأصنام ومفعول اتخذوا الأوّل ضمير محذوف يعود على الموصول أي: هم، وقرباناً المفعول الثاني، وآلهة بدل منه {بل ضلوا} أي: غابوا {عنهم} وقت نزول النقمة. وقرأ الكسائي بإدغام اللام في الضاد، والباقون بالإظهار {وذلك} أي: اتخاذهم الأصنام آلهة قرباناً {إفكهم} أي: كذبهم {وما كانوا} أي: على وجه الدوام لكونه في طباعهم {يفترون} أي: يتعمدون كذبه، لأنّ إصرارهم عليه بعد مجيء الآيات لا يكون إلا كذلك، لأنّ من نظر فيها مجرداً نفسه عن الهوى اهتدى. {وإذ} أي: واذكر إذ {صرفنا} أي: أملنا {إليك نفراً} وهو اسم يطلق على ما دون العشرة وسيأتي في ذلك خلاف {من الجنّ} أي جنّ نصيبين اليمن، أو جنّ نينوى {يستمعون القرآن} أي: يطلبون سماع الذكر الجامع لكل خير الفارق بين كل ملبس، وأنت في صلاة الفجر في نخلة، تصلي بأصحابك {فلما حضروه} أي: صاروا بحيث يستمعونه {قالوا} أي: قال بعضهم لبعض، ورضي الآخرون {أنصتوا} أي: اسكتوا، وميلوا بكلياتكم، واستمعوا. حفظاً للأدب على بساط الخدمة وفيه تأدب مع العلم في تعلمه. قال القشيري: فأهّل الحضور صفتهم الذبول والسكون والهيبة والوقار.
تنبيه: ذكروا في كيفية هذه الواقعة قولين: أحدهما «قال سعيد بن جبير: كان الجنّ تستمع فلما رجموا قالوا هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب، وكان قد اتفق أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أيس من أهل مكة أن يجيبوه، خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام(4/16)
فلما انصرف إلى مكة وكان ببطن نخلة قام يقرأ القرآن، فمرّ به نفر من أشرار جنّ نصيبين، كان إبليس بعثهم ليعرف السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم، فسمعوا القرآن فعرفوا أن ذلك هو السبب» . والقول الثاني أنّ الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجنّ ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن فصرف الله تعالى إليه نفراً من الجنّ يستمعون منه القرآن وينذرون قومهم روي أن الجنّ كانوا يهوداً لأنّ في الجنّ مللاً كما في الإنس من اليهود والنصارى، وعبدة الأوثان، والمجوس وأطبق المحققون على أنّ الجن مكلفون سئل ابن عباس هل للجنّ ثواب قال نعم لهم ثواب وعليهم عقاب يلبثون في أبواب الجنة ويزدحمون على أبوابها. «وروى الطبراني عن ابن عباس أن أولئك الجنّ كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم» «وعن زرّ ابن حبيش كانوا تسعة، أحدهم زوبعة» «وعن قتادة ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى» وروي في الحديث: «أنّ الجنّ ثلاثة أصناف صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حيات وكلاب وصنف يحلون ويظعنون» واختلفت الروايات هل كان عبد الله بن مسعود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ أو لا؟ وروى عن أنس قال كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بظاهر المدينة، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عكازة فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها لمشية جني، ثم أتى فسلم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم إنها لنغمة جنيّ فقال الشّيخ: أجل يا رسول الله. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم من أيّ الجنّ أنت؟ فقال
يا رسول الله، أنا هام بن هيم بن لاقيس بن إبليس فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم لا أرى بينك وبين إبليس إلا أبوين. قال: أجل يا رسول الله، قال: كم أتى عليك من العمر؟ قال: أكلت عمر الدنيا إلا القليل، كنت حين قُتل هابيل غلاماً ابن أعوام، فكنت أتشرف على الآكام، وأصطاد الهام، وأورّش بين الأنام. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم بئس العمل. فقال: يا رسول الله، دعني من العتب فإني ممن آمن مع نوح عليه السلام وعاتبته في دعوته فبكى وأبكاني، وقال: والله إني لمن النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقيت هوداً فعاتبته في دعوته فبكى وأبكاني، وقال والله إني لمن النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقيت إبراهيم، وآمنت به، وكنت بينه وبين الأرض إذ رمي به في المنجنيق، وكنت معه في النار إذ ألقي فيها وكنت مع يوسف إذ ألقي في الجب، فسبقته إلى قعره. ولقيت موسى بن عمران بالمكان الأثير. وكنت مع عيسى بن مريم عليهما السلام. فقال لي: إن لقيت محمداً فاقرأ عليه السلام. قال أنس: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليه السلام وعليك يا هام ما حاجتك؟ قال: إنّ موسى علمني التوراة، وإنّ عيسى علمني الإنجيل، فعلّمني القرآن قال أنس: فعلمه النبيّ صلى الله عليه وسلم سورة الواقعة عم يتساءلون وإذا الشمس كوّرت وقل يا أيها الكافرون وسورة الإخلاص والمعّوذتين. {فلما قضي} أي: فرغ من قراءته {ولوا} أي: رجعوا {إلى قومهم} الذين فيهم قوة القيام بما يحاولونه {منذرين} أي مخوفين لهم ومحذرين عواقب الضلال بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس جعلهم رسول الله صلى الله(4/17)
عليه وسلم رسلاً إلى قومهم.
ولما كان كأنه قيل ما قالوا لهم في إنذارهم؟ قيل:
{قالوا يا قومنا} مترققين لهم، ومترفقين بهم بذكر ما يدل على أنهم منهم، يهمهم ما يهمهم {إنا سمعنا} أي: ما بيننا وبين القارىء واسطة. وأشاروا إلى أنه لم ينزل بعد التوراة شيء جامع لجميع ما يراد منه، مغن عن جميع الكتب غير هذا. وبذلك عرفوا أنه ناسخ لجميع الشرائع بقولهم: {كتاباً} أي: ذكراً جامعاً، لا كما نزل بعد التوراة على بني إسرائيل {أنزل} أي: ممن لا منزل غيره، وهو ملك الملوك لأنّ عليه من رونق الكتب الإلهية ما يوجب القطع لسامعه بأنه منها، فكيف إذا انضم إلى ذلك الإعجاز؟ وعلموا قطعاً بعربيته أنه عربي، وبأنهم كانوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ويسمعون قراءة الناس لما يحدثونه من الحكم والخطب والكهانة والرسائل والأشعار، وأنه مباين لجميع ذلك {من بعد موسى} فلم يقتدوا بما أنزل بين هذا الكتاب وبين التوراة، من الإنجيل وما قبله، لأنه لا يساوي التوراة في الجمع، وروي عن عطاء والحسن: إنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يهوداً. «وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ الجنّ ما سمعوا أمر عيسى، فلذلك قالوا من بعد موسى» ولما أخبروا بأنه منزل، أتبعوه ما يشهد له بالصحة بقولهم:
{مصدقاً لما بين يديه} أي: من جميع كتب بني إسرائيل الإنجيل وما قبله، ثم بينوا تصديقه بقولهم: {يهدي إلى الحق} الأمر الثابت الذي يطابق الواقع، فلا يقدر أحد على إزالة شيء مما يخبر به الكامل في جميع ذلك {وإلى طريق} موصل إلى المقصود {مستقيم} لا عوج فيه {يا قومنا} الذين لهم قوة العلم والعمل {أجيبوا داعي الله} أي: الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال. فإن دعوة هذا الداعي عامة لجميع الخلق، فالإجابة واجبة على كل من بلغه أمره وفي هذه الآية دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الجن، كما كان مبعوثاً إلى الإنس {وآمنوا به} أي: أوقعوا التصديق بسبب الداعي، وهو النبي صلى الله عليه وسلم لا بسبب آخر فإن المفعول معه مفعول مع الله تعالى.
فإن قيل قوله تعالى: {أجيبوا داعي الله} أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فكيف قال وآمنوا به؟ أجيب بأنه إنما ذكر الإيمان على التعيين، لأنه أهمّ الأقسام وأشرفها وقد جرت العادة في القرآن العظيم بأن يذكر اللفظ العام، ثم يعطف عليه أشرف أنواعه، كقوله تعالى {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة: 98)
وقوله تعالى {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} (الأحزاب: 7)
ولما أمر تعالى بالإيمان ذكر فائدته بقوله تعالى: {يغفر لكم} أي: الله تعالى {من ذنوبكم} أي: بعضها من الشرك وما شابهه مما هو حق لله تعالى وكذا ما يجازى به صاحبه في الدنيا بالعقوبات والنكبات والهموم ونحوها، مما أشار إليه قوله تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (الشورى: 30)
وأما المظالم فلا تغفر إلا برضا أربابها، وقيل: {من} زائدة والتقدير: يغفر لكم ذنوبكم، وقيل: بل فائدته أن كلمة {من} هنا لابتداء الغاية، والمعنى: أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب، ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل {ويجركم} أي: يمنعكم منع الجار لجاره لكونكم بالتحيز إلى داعيه صرتم من حزبه.
{من عذاب أليم} «قال ابن عباس: فاستجاب لله تعالى لهم من قومهم نحو سبعين رجلاً من الجنّ فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافوه في البطحاء، فقرأ عليهم القرآن(4/18)
وأمرهم ونهاهم» .
تنبيه: اختلفوا في أن الجنّ هل لهم ثواب أو لا فقيل: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، ويقال لهم: كونوا تراباً، مثل البهائم واحتجوا على ذلك بقوله تعالى {ويجركم من عذاب أليم} وهو قول أبي حنيفة.
والصحيح أنّ حكمهم حكم بني آدم يستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك وتقدّم عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً نحو ذلك قال الضحّاك: يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، لأنّ كل دليل دلّ على أنّ البشر يستحقون الثواب فهو بعينه قائم في حق الجن، والفرق بينهما بعيد جداً وذكر النقاش في تفسيره حديثاً أنهم يدخلون الجنة، فقيل: هل يصيبون من نعيمها قال يلهمهم الله تعالى تسبيحه وذكره فيصيبهم من لذته ما يصيب بني آدم من نعيم الجنة وقال أرطأة بن المنذر سألت ضمرة بن حبيب هل للجنّ ثواب؟ قال: نعم وقرأ {لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ} (الرحمن: 56)
وقال عمر بن عبد العزيز إن مؤمني الجنّ حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها» ولما أفهم كلامهم أنهم إن لم يجيبوا ينتقم منهم بالعذاب الأليم، أتبعوه ما هو أغلظ إنذاراً منه.
فقالوا {ومن لا يجب} أي: لا يتجدد منه أن يجيب {داعي الله} أي: الملك الذي لا كفء له {فليس بمعجز} أي: لا يعجز الله عز وجلّ بالهرب منه {في الأرض} فيفوته فإنه أيّ مكان سلك فيها فهو في ملكه وملكه وقدرته محيطة به {وليس له من دونه} أي: الله تعالى الذي لا مجير عليه {أولياء} يفعلون لأجله ما يفعل القريب مع قريبه من الذب عنه والاستشفاع له والافتداء {أولئك} البعيدون من كل خير {في ضلال مبين} ظاهر في نفسه أنه ضلال مظهر لكل أحد قبح إحاطته بهم.
تنبيه: ههنّا همزتان مضمومتان من كلمتين ولا نظير لهما في القرآن العظيم قرأ قالون والبزي بتسهيل الأولى كالواو مع المدّ والقصر وسهل الثانية ورش وقنبل بعد تحقيق الأولى ولهما أيضاً إبدال الثانية ألفاً وأسقط الأولى أبو عمرو مع المدّ والقصر والباقون بتحقيقهما وهم على مراتبهم في المدّ.
{أولم يروا} أي: يعلموا علماً هو في الوضوح كالرؤية {أن الله} ودل على ما دلّ عليه هذا الاسم الأعظم بقوله تعالى: {الذي خلق السموات} على ما احتوت عليه بما يعجز الوصف من العبر {والأرض} على ما اشتملت عليه من الآيات المدركة بالعيان والخبر {ولم يعي} أي: ولم يتعب ولم يعجز {بخلقهنّ} أي: بسبب من الأسباب. فإنه لو حصل له شيء من ذلك أدّى إلى نقصان فيهما، أو في إحداهما. وأكد الإنكار المتضمن للنفي بزيادة الجارّ في خبر إن فقال: {بقادر} أي: قدرة عظيمة {على أن يحيي} أي: على سبيل التجديد مستمرّاً {الموتى} والأمر فيهم لكونه إعادة وكونه جزءاً يسيراً مما ذكر، اختراعه أصغر شأناً وأسهل صنعاً وأجاب بقوله تعالى {بلى} لأنّ هذا الاستفهام الإنكاري في معنى النفي.
أي: قد علموا أنه قادر على ذلك علماً هو في إيقانه كالبصر لأنهم يعلمون أنه المخترع لذلك، وأن الإعادة أهون من الابتداء في مجاري عاداتهم، ولكنهم عن ذلك غافلون لأنهم عنه معرضون. وقوله تعالى: {إنه على كل شيء قدير} تقرير للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود. كأنه لما صدر السورة بتحقيق المبدأ أراد ختمها بإثبات المعاد. ولما أثبت البعث بما أقام من الدلائل، ذكر بعض ما يحصل في يومه من الأهوال. بقوله تعالى:
{ويوم} أي: واذكر يوم {يعرض} أي: بأيسر أمر(4/19)
من أوامرنا {الذين كفروا} أي: ستروا بغفلتهم وتماديهم الأدلة الظاهرة {على النار} عرض الجند على الملك، فيسمعون من تغيظها وزفيرها ما لو قدّر أن أحداً يموت في ذلك اليوم لماتوا من معاينته، وهائل رؤيته ثم يقال لهم {أليس هذا} أي: الأمر الذي كنتم به توعدون، ولرسلنا في إخبارهم به تكذبون {بالحق} أي: الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، أم هو خيال وسحر {قالوا} أي: مصدّقين حيث لا ينفعهم التصديق {بلى} وما كفاهم البدار إلى تكذيب أنفسهم حتى أقسموا عليه بقولهم: {وربنا} أي إنه لحق هو أثبت الأشياء، وليس فيه شيء مما يقارب السحر.
تنبيه: المقصود من هذا الاستفهام التحكم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده. {قال فذوقوا العذاب} أي: باشروه مباشرة الذائق باللسان. ومعنى الأمر؛ الإهانة بهم والتوبيخ لهم ثم صرّح بالسبب فقال تعالى: {بما كنتم} أي: خلقاً مستمرّاً {تكفرون} في دار العمل.
ولما قرّر تعالى المطالب الثلاثة؛ وهي التوحيد، والنبوّة، والمعاد. وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنّ الكفار كانوا يؤذونه ويوحشون صدره. فقال تعالى:
{فاصبر} أي: على مشاق ما ترى في تبليغ الرسالة، وعلى أذى قومك قال القشيري: الصبر، هو الوثوق بحكم الله تعالى والثبات من غير بث ولا استكراه {كما صبر أولو العزم} أي: الثبات والجدّ في الأمور. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أولو الحزم وقوله تعالى: {من الرسل} يجوز فيه أن تكون {من} تبعيضية وعلى هذا فالرسل: أولو عزم وغير أولي عزم ويجوز أن تكون للبيان، وعليه جرى الجلال المحلي فكلهم على هذا أولو عزم.
قال ابن زيد كل الرسل كانوا أولي عزم وحزم ورأي وكمال عقل، وإنما أدخلت من للتجنيس لا للتبعيض كما يقال: اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز. وقال بعضهم: الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعلة كانت فيه. ألا ترى أنه قيل لنبينا صلى الله عليه وسلم {ولا تكن كصحاب الحوت} (القلم: 48)
وقال قوم: هم نجباء الرسل، وهم المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر لقوله تعالى بعد ذكرهم {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} (الأنعام: 90)
وقال الكلبيّ هم الذين أمروا بالجهاد، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الله تعالى وقيل: هم ستة؛ نوح وهود وصالح ولوط. وشعيب وموسى. وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء وقال مقاتل: هم ستة، نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد ولده، وذهاب بصره ويوسف صبر في الجب والسجن، وأيوب صبر على الضرّ. وقال ابن عباس وقتادة هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، أصحاب الشرائع فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم خمسة ونظمهم بعضهم في بيت فقال:
*محمد إبراهيم موسى كليمه ... فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم*
قال البغوي: ذكرهم الله تعالى على التخصيص في قوله تعالى {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم} (الأحزاب: 7)
وفي قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً} (الشورى: 13)
الآية.
وعن مسروق قال «قالت عائشة رضي الله عنها: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم(4/20)
إلا الصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها. ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم قال تعالى {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} وإني والله لا بدّ لي من طاعته والله لأصبرنّ كما صبروا ولأجهدنّ، ولا قوّة إلا بالله، ولما أمره الله تعالى بالصبر الذي هو من أعلى الفضائل، نهاه عن العجلة التي هي من أمهات الرذائل. فقال عز من قائل:
{ولا تستعجل لهم} أي: لا تطلب العجلة وتوجدها بأن تفعل شيئاً مما يسوءهم في غير حينه الأليق به. فإنه نازل بهم في وقته لا محالة.
قيل: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ضجر من قومه، وأحب أن ينزل الله تعالى العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر وترك الاستعجال ثم أخبر أنّ ذلك العذاب إذا نزل بهم يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا، حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال تعالى: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون} أي: من العذاب بهم في الآخرة {لم يلبثوا} أي: في الدنيا {إلا ساعة من نهار} استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار، أو كأنه لم يكن لهول ما عاينوا، ولأنّ ما مضى وإن كان طويلاً صار كأنه لم يكن قال الشاعر:
*كأنّ شيئاً لم يكن إذا مضى ... كأنّ شيئاً لم يكن إذا أتى*
تنبيه: تم الكلام ههنا وقوله تعالى {بلاغ} خبر مبتدأ محذوف قدره بعضهم: تلك الساعة بلاغ لدلالة قوله تعالى {إلا ساعة من نهار} وبعضهم: هذا أي القرآن بلاغ أي تبليغ من الله تعالى إليكم وجرى عليه الجلال المحلي. {فهل} أي: لا {يهلك} أي: بالعذاب إذا نزل {إلا القوم} أي: الذين هم أهل القيام بما يحاولونه من اللدد، {الفاسقون} أي: العريقون في إدامة الخروج عن الانقياد والطاعة، وهم الكافرون. قال الزجاج: تأويله لا يهلك مع فضل الله ورحمته إلا القوم الفاسقون ولهذا قال قوم: ما في الرجاء لرحمة الله أقوى من هذه الآية. وما قاله البيضاويّ تبعاً للزمخشري: من أنه صلى الله عليه وسلم قال من قرأ سورة الأحقاف كتب الله له عشر حسنات بعدد كل رملة في الدنيا. حديث موضوع.
سورة محمد
صلى الله عليه وسلم.
مكية وتسمى القتال والذين كفروا وهي: ثمان وثلاثون آية، وخمسمائةوتسع وثلاثون كلمة، وألفان وثلثمائة وتسعة وأربعون حرفاً
{بسم الله} الملك الأعظم الذي أقام جنده للذب عن حماه {الرحمن} الذي عمت رحمته تارة بالبرهان، وتارة بالسيف واللسان {الرحيم} الذي خص حزبه بالحفظ في طريق الجنان. واختلف في قوله تعالى:
{الذين كفروا} من هم؟ فقيل: هم الذين كانوا يطعمون الجيش يوم بدر منهم أبو جهل والحارث ابنا هشام، وعقبة، وشيبة ابنا ربيعة، وغيرهم، وقيل: كفار قريش وقيل: أهل الكتاب وقيل: كل كافر لأنهم ستروا أنوار الأدلة وضلوا على علم {وصدّوا} أي: امتنعوا بأنفسهم، ومنعوا غيرهم لعراقتهم في الكفر، {عن سبيل الله} أي: الطريق الرحب المستقيم الذي شرعه الملك الأعظم، {أضلّ} أي: أبطل إبطالاً عظيماً يزيل العين والأثر، {أعمالهم} كإطعام الطعام، وصلة(4/21)
الأرحام، وفك الأسارى، وحفظ الجوار، وغير ذلك. فلا يرون لها في الآخرة ثواباً ويجزي عليها في الدنيا من فضله تعالى.
تنبيه: أوّل هذه السورة مناسب لآخر السورة المتقدمة.
ولما ذكر تعالى أهل الكفر معبراً عنهم بأدنى طبقاتهم ليشمل من فوقهم، ذكر أضدادهم كذلك؛ ليعمّ من كان منهم من جميع الفرق. بقوله تعالى: {والذي آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان باللسان {وعملوا} تصديقاً لدعواهم {الصالحات} أي: الأعمال الكاملة في الصلاح، بتأسيسها على الإيمان. ولما كان هذا الوصف لا يخص أتباع محمد صلى الله عليه وسلم خصهم بقوله تعالى: {وآمنوا} أي: مع ذلك {بما نزل} أي: ممن لا منزل إلا هو، منجماً مفرقاً ليجدّدوا بعد الإيمان به إجمالاً الإيمان بكل نجم منه {على محمد} النبيّ الأميّ العربيّ القرشيّ المكيّ المدنيّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {وهو} أي: هذا الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم موصوف بأنه {الحق} أي: الكامل في الحقيقة ينسخ ولا ينسخ كائناً {من ربهم} أي: المحسن إليهم بإرساله أما إحسانه إلى أمّته فواضح وأمّا سائر الأمم فبكونه هو الشافع فيهم الشفاعة العظمى يوم القيامة، وأمّته هي الشاهدة لهم جملة معترضة وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائيّ {وهو} بسكون الهاء والباقون بضمّها {كفر عنهم سيئاتهم} أي: ستر أعمالهم السيئة بالإيمان، وعملهم الصالح {وأصلح بالهم} أي: حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد.
{ذلك} أي: الأمر العظيم الذي ذكر هنا من جزاء الطائفتين.
{بأن} أي: بسبب أن {الذين كفروا} أي: ستروا مرائي عقولهم {اتبعوا} أي: بغاية جهدهم ومعالجتهم {الباطل} من العمل الذي لا حقيقة له في الخارج تطابقه وذلك هو الابتداع والميل مع الهوى فضلوا {وأن الذين آمنوا} أي: ولو كانوا في أقل درجات الإيمان {اتبعوا} أي بغاية جهدهم {الحق} أي الذي له واقع يطابقه وذلك هو الحكمة وهو العلم بموافقة العمل وهو معرفة المعلوم على ما هو عليه {من ربهم} أي: الذي أحسن إليهم بإيجادهم وما سببه من حسن اعتقادهم فاهتدوا {كذلك} أي: مثل هذا الضرب العظيم الشأن {يضرب الله} أي: الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {للناس} أي: كل من فيه قوّة الاضطراب والحركة {أمثالهم} أي: أمثال أنفسهم، أو أمثال الفريقين المتقدّمين، أو أمثال جميع الأشياء التي يحتاجون إلى بيان أمثالها، مبيناً لها مثل هذا البيان، ليأخذ كل أحد من ذلك جزاء حاله، فقد علم من هذا المثل أنّ من اتبع الباطل أضلّ الله تعالى عمله، ووفر سيئاته، وأفسد باله ومن اتبع الحق عمل به ضد ذلك كائناً من كان. وهو غاية الحث على طلب العلم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل بها.
ولما بين تعالى أنّ الذين كفروا أضلّ أعمالهم، وأن اعتبار الإنسان بالعمل، ومن لا عمل له فهو همج إعدامه خير من وجوده سبب عنه. قوله تعالى:
{فإذا لقيتم الذين كفروا} أيها المؤمنون في المحاربة، وقوله تعالى: {فضرب الرقاب} أصله: فاضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل وقدم المصدر فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول، ضماً إلى التأكيد الاختصار والحكمة في اختيار ضرب الرقبة دون غيرها من الأعضاء، لأنّ المؤمن هنا ليس بدافع إنما هو رافع، وذلك لأن من يدفع الصائل لا ينبغي أولاً أن يقصد(4/22)
مقتله بل يتدرج ويضرب غير المقتل، فإن اندفع فذاك، ولا يرقى إلى درجة الإهلاك فأخبر تعالى أنه ليس المقصود دفعهم عنكم بل المقصود رفعهم من وجه الأرض؛ فإذاً ينبغي أن يكون قصدكم أولاً إلى قتلهم، بخلاف دفع الصائل. فالرقبة أظهر المقاتل وقطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت لكن في الحرب لا يتهيأ ذلك والرقبة ظاهرة في الحرب، ففي ضربها حز العنق، وهو مستلزم للموت، بخلاف سائر المواضع، ولا سيما في الحرب وفي قوله تعالى: {لقيتم} ما ينبىء عن مخالفتهم الصائل؛ لأن قوله تعالى {لقيتم} يدل على أنّ القصد من جانبهم، بخلاف قولنا: لقيكم ولذلك؛ قال تعالى في غير هذا الموضع {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} (البقرة: 191)
{حتى إذا أثخنتموهم} أي: أكثرتم فيهم القتل، وهذه غاية الأمر بضرب الرقاب، لا لبيان غاية القتل.
{فشدّوا} أي: فأمسكوا عن القتل وأسروهم {الوثاق} أي: ما يوثق به الأسرى وقوله تعالى: {فإما مناً بعد} أي: في جميع أزمان ما بعد الأسر {وإما فداء} فيه وجهان أشهرهما: أنهما منصوبان على المصدر بفعل لا يجوز إظهاره، لأنّ المصدر متى سيق تفصيلاً لعاقبة جملة، وجب نصبه بإضمار فعل لا يجوز إظهاره، والتقدير: فإما أن تمنوا مناً أي: بإطلاقهم من غير شيء، وإما أن تفدوا فداء أي: تفادوهم بمال أو أسرى مسلمين ومثل هذا قول القائل:
*لأحمدنّ فإما درء واقعة ... تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل*
والثاني: قاله أبو البقاء أنهما مفعولان بهما لعامل مقدّر تقديره: أولوهم مَنَّاً، واقبلوا منهم فداء قال أبو حيان: وليس بإعراب نحوي وقوله تعالى: {حتى تضع الحرب أوزارها} أي: أثقالها من السلاح وغيره بأن يسلم الكافر، أو يدخل في العهد، مجاز وقيل: هو من مجاز الحذف أي: أهل الحرب وهو غاية للقتل والأسر. والمعنى أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى تدخل الملل كلها في الإسلام، ويكون الدين كله لله، فلا يكون بعده جهاد ولا قتال وذلك عند نزول عيسى عليه السلام وجاء في الحديث: «الجهاد حاضر منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال» وقال الفراء حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم.
تنبيه: اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هي منسوخة بقوله تعالى {فإمّا تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم} (الأنفال: 57)
وبقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة: 5)
وإليه ذهب قتادة والضحاك والسدّي وابن جريج وهو قول الأوزاعي، وأصحاب الرأي وقالوا: لا يجوز المّن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء وذهب آخرون إلى أنّ الآية محكمة والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم، أو يسترقهم أو يمنّ عليهم فيطلقهم بغير عوض. أو يفاديهم بالمال أو بأسارى المسلمين وإليه ذهب ابن عمر، وبه قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق قال ابن عباس رضى الله عنهما لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى في الأسارى {فإما مناً بعدوا ما فداء} وهذا هو الأصح والاختيار لأنه عمل به صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، روى البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه في سارية من(4/23)
سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال عندي خير يا محمد إن تقتلني تقتل ذا ذم وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت، حتى كان الغد فقال له صلى الله عليه وسلم ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر فتركه حتى إذا كان بعد الغد، قال: ما عندك يا ثمامة قال: عندي ما قلت لك؟. قال: أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحبّ الدين إليّ. والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد أصبح بلدك أحبّ البلاد إليّ. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر. فلمّا قدم مكة، قال له قائل: صبوت قال: لا، ولكن أسلمت مع
محمد صلى الله عليه وسلم
وعن عمران بن حصين قال: أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من عقيل فأوثقوه وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف.
قوله تعالى: {ذلك} يجوز أن يكون خبر مبتدإ مضمر، أي: الأمر ذلك وأن ينتصب بإضمار افعلوا قال الرازي: ويحتمل أن يقال: ذلك واجب. أو مقدّم كما يقول القائل إن فعلت فذاك. أي: فذاك مقصود ومطلوب، قال المفسرون: ومعناه ذلك الذي ذكرت وبينت من حكم الكفار. {ولو يشاء الله} أي: الملك الأعظم الذي له جميع الكمال {لاتنصر منهم} أي: بنفسه من غير أحد انتصاراً عظيماً، فيهلكهم بأن لا يبقي منهم أحداً وكفاكم أمرهم بغير قتال.
{ولكن} أمركم بذلك {ليبلو} أي يختبر {بعضكم ببعض} أي يفعل في ذلك فعل المختبر، ليرتب عليه الجزاء فيصير من قتل من المؤمنين إلى الجنة ومن قتل من الكافرين إلى النار.
فإن قيل: فما فائدة الابتلاء مع حصول العلم عند المبتلي، فإذا كان الله تعالى عالماً بجميع الأشياء فأي فائدة فيه؟ أجيب: بأن هذا السؤال كقول القائل: لم عاقب الكافر وهو مستغن؟ ولم خلق النار محرقة وهو قادر على أن يخلقها بحيث تنفع ولا تضرّ؟ وجوابه: {لا يسئل عما يفعل} (الأنبياء: 23)
. ونزل يوم أحد لما فشا في المسلمين القتل والجراحات {والذين قتلوا في سبيل الله} أي: لأجل تسهيل طريق الملك الأعظم المتصف بجميع صفات الكمال {فلن يضلّ} أي: لا يضيع ولا يبطل {أعمالهم} وقرأ أبو عمرو وحفص: بضم القاف وكسر التاء مبنياً للمفعول على معنى أنه أصاب القتل بعضهم كقوله تعالى {قاتل معه ربيون} (آل عمران: 146)
والباقون بفتح القاف والتاء وألف بينهما أي جاهدوا.
{سيهديهم} أي أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور، وفي الآخرة إلى الدرجات بوعد لا خلف فيه {ويصلح بالهم} أي يرضي خصماءهم، ويقبل أعمالهم {ويدخلهم الجنة} أي: الكاملة في النعيم {عرفها} أي: أعلمها، وبينها {لهم} أي: بما يعلم به كل أحد منزلته ودرجته من الجنة قال مجاهد: يهتدي أهل الجنة إلى مساكنهم منها لا يخطئون كأنهم كانوا سكانها منذ خلقوا، يستدلون عليها وعن مقاتل: أنّ الملك الذي وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى وعن ابن(4/24)
عباس رضي الله عنهما: عرفها لهم: طيبها مشتق من العرف وهو الريح الطيبة يقال طعام معرف أي: مطيب. {يأيها الذين آمنوا} أي: أقرّوا بذلك {إن تنصروا الله} أي: دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم {ينصركم} أي: على عدوّكم فإنه الناصر لا غيره، من عدد أو عدد. ويثبت أقدامكم أي في القيام بحقوق الإسلام والمجاهده مع الكفار ولما بين تعالى ما لأهل الإيمان بين ما لأهل الكفران بقوله تعالى:
{والذين كفروا} وهو مبتدأ أي: ستروا ما دل عليه العقل، وقادت إليه الفطرة الأولى، وخبره تعسوا يدل عليه قوله تعالى: {فتعساً لهم} أي: هلاكاً لهم وخيبة من الله تعالى، وقال ابن عباس: أي بعداً لهم وقيل التعس الجرّ على الوجه، والنكس: الجرّ على الرأس وقوله تعالى: {وأضل أعمالهم} عطف على تعسوا أي: أبطلها وإن كانت ظاهرة الإتقان؛ لأجل تضييع الأساس وهو الإيمان. وقوله تعالى:
{ذلك} يجوز أن يكون مبتدأ والخبر الجار بعده، أو خبر مبتدأ مضمر. أي: الأمر ذلك {بأنهم} أي: بسبب أنهم {كرهوا ما أنزل الله} أي: الملك الأعظم الذي لا نعمة إلا منه من القرآن وما أنزل الله تعالى فيه من التكاليف والأحكام لأنهم قد ألفوا الإهمال وإطلاق العنان في الشهوات والملاذّ فشق عليهم ذلك، وتعاظمهم والذي أنزله من القرآن وغيره هو روح الوجود الذي لا بقاء بدونه فلما كرهوا الروح الأعظم بطلت أرواحهم فتبعتها أشباحهم وهو معنى قوله تعالى مسبباً بياناً لمعنى إضلال أعمالهم {فأحبط} أي: أبطل إبطالاً لاصلاح معه {أعمالهم} بسبب: أنهم أفسدوها بنياتهم فصارت وإن كانت صورها صالحة ليس لها أرواح لكونها واقعة على غير ما أمر به الله الذي لا أمر إلا له، ولا يقبل من العمل إلا ما حدّه ورسمه ثم خوّف الكفار بقوله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض} أي: التي فيها آثار الوقائع {فينظروا كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {الذين من قبلهم دمّر الله} أي: أوقع الملك الأعظم الهلاك {عليهم} بما عم أهاليهم وأموالهم، وكل من رضي أفعالهم أو مقالهم. وعدل عن أن يقول {ولهؤلاء} إلى قوله تعالى {وللكافرين} تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف وهو العراقة في الكفر {أمثالها} أي: أمثال عاقبة من قبلهم.
{ذلك} أي: الأمر العظيم وهو نصر المؤمنين وقهر الكافرين، {بأن الله} أي: بسبب أنّ الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال {مولى} أي: ولي وناصر {الذين آمنوا} فهو يفعل معهم بما له من الجلال والجمال ما يفعل القريب بقريبه الحبيب له قال القشيري: ويصح أن يقال: أرجى آية في القرآن هذه الآية؛ لأن الله تعالى لم يقل إنه هادي العباد وأصحاب الأوراد والاجتهاد بل علق ذلك بالإيمان {وأنّ الكافرين} أي: العريقين في هذا الوصف.l
{لا مولى لهم} فيدفع العذاب عنهم وهذا لا يخالف قوله تعالى {وردّوا إلى الله مولاهم الحق} (سورة يونس، آية: 30)
فإنّ المولى فيه بمعنى المالك ثم ذكر سبحانه وتعالى ما للفريقين بقوله تعالى:
{إنّ الله} أي الذي له جميع الصفّات {يدخل الذين آمنوا} أي: أوقعوا التصديق {وعملوا} تصديقاً لما ادعوا أنهم أوقعوه {الصالحات} أي: الطاعات {جنات} أي: بساتين عظيمة الشأن موصوفة بأنها {تجري من تحتها} أي: من تحت قصورها {الأنهار} فهي دائمة النموّ والبهجة والنضارة والثمرة {والذين كفروا يتمتعون} أي: في الدنيا بالملاذ، كما تتمتع الأنعام(4/25)
ناسين ما أمر الله تعالى به معرضين عن كتابه.
{ويأكلون} على سبيل الاستمرار {كما تأكل الأنعام} أي: أكل التذاذ ومرح من أيّ موضع كان وكيف الأكل من غير تمييز الحرام من غيره، إذ ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، لا يلتفتون إلى الآخرة؛ لأنّ الله تعالى أعطاهم الدنيا، ووسع عليهم فيها، وفرغهم لها حتى شغلتهم عنه هواناً بهم وبغضاً لهم فيدخلهم ناراً وقودها الناس والحجارة كما قال تعالى: {والنار مثوى لهم} أي: منزل ومقام ومصير ولما ضرب الله تعالى لهم مثلاً بقوله تعالى {أفلم يسيروا في الأرض} ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل ضرب للنبيّ صلى الله عليه وسلم مثلاً تسلية له. فقال تعالى:
{وكأين} أي: وكم {من قرية} أريد أهلها أي: كذبت رسولها {هي أشد قوة} وأكثر عدداً {من قريتك} مكة أي: أهلها وقوله تعالى: {التي أخرجتك} روعي فيه لفظ قرية وقوله تعالى: {أهلكناهم} أي: بأنواع العذاب روعي فيه معنى قرية الأول {فلا ناصر لهم} يدفع عنهم الهلاك. كذلك نفعل بهم فاصبر كما صبر رسلهم قال ابن عباس: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال أنت أحب أرض الله إلى الله وأحب بلاد الله إليّ ولو أنّ المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك» فأنزل الله تعالى هذه.
{أفمن كان} أي: في جميع أحواله {على بينة} أي: حجة ظاهرة البيان في أنها حق {من ربه} أي: المربي والمدبر له المحسن إليه وهم النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون {كمن زين له} بتزيين الشيطان بتسليطنا له عليه {سوء عمله} فرآه حسناً وهم: أبو جهل والكفار {واتبعوا أهواءهم} في ذلك ولا شبهة لهم في شيء من أعمالهم السيئة فضلاً عن دليل ولما تكرّر ذكر الجنة في هذه السورة بين صفتها. بقوله تعالى:
{مثل} أي: صفة {الجنة} أي: البساتين العظيمة التي تستر داخلها من كثرة أشجارها {التي وعد المتقون} أي: الذين حملتهم تقواهم بعد الوقوف عن فعل لم يدلّ عليه دليل على أن استمعوا منك فانتفعوا بما دللتهم عليه من أمور الدين.
تنبيه: اختلف في إعراب هذه الآية على أوجه:
أحدها: أن {مثل} مبتدأ وخبره مقدّر. قدره النضر بن شميل: مثل الجنة ما تسمعون. فما تسمعون خبره و {فيها أنهار} مفسر له. وقدّره سيبويه: فيما يتلى عليكم مثل الجنة. والجملة بعدها أيضاً مفسرة للمثل.
ثانيها: أن {مثل} زائدة تقديره: الجنة التي وعد المتقون {فيها أنهار} ونظير زيادة {مثل} هنا زيادة اسم في قول القائل:
*إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ثالثها: أنّ مثل الجنة مبتدأ، والخبر: قوله تعالى {كمن هو خالد في النار} فقدّره ابن عطية: أمثل أهل الجنة كمن هو خالد فقدر حرف الإنكار ومضافاً ليصح وقدّره الزمخشريّ: أمثّل الجنة كمثل جزاء من هو خالد. والجملة من قوله تعالى {فيها أنهار} حال من الجنة أي: مستقرّة فيها أنهار {من ماء} ولما كان ماء الدنيا مختلف الطعوم، مع اتحاد الأرض ببساطها، وشدّة اتصالها، للدلالة على أنّ فاعل ذلك قادر مختار وقد يكون آسناً أي: متغيراً عن الماء الذي يشرب بريح منتنة من أصل خلقته، أو من عارض عرض له من منبعه، أو مجراه قال تعالى: {غير آسن} أي: ثابت له في وقت ما شيء من الطعم، أو اللون، أو الريح بوجه من الوجوه وإن طالت إقامته وإن أضيف إليه غيره فإنه لا يقبل التغير بوجه بخلاف ماء الدنيا فيتغير(4/26)
لعارض وقرأ ابن كثير: بقصر الهمزة والباقون: بمدّها وهما لغتان {وأنهار من لبن} ولما كان التغير غير محمود قال تعالى: {لم يتغير طعمه} أي: بنفسه عن أصل خلقته وإن أقام مدى الدهر بخلاف لبن الدنيا، لخروجه من الضرع وهذا يفهم: أنهم لو أرادوا تغييره لشهوة اشتهوها تغير. وأنه مع طيبه على أنواع كثيرة، كما كان في الدنيا متنوعاً {وأنهار من خمر} ولما كان الخمر يكره طعمها وإنما يشربها شاربوها لأثرها. وإنه متى تغير طعمها زال اسمها عرّف أنّ كل ما في خمر الجنة في غاية الحسن، غير متعرّض لطعم فقال تعالى: {لذة} أي: لذيذة {للشاربين} في طيب الطعم، وحسن العاقبة بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب {وأنهار من عسل} ولما كان عسل الدنيا لا يوجد إلا مخلوطاً، لخروجه من بطون النحل بالشمع، وغيره من القذى قال تعالى:
{مصفى} أي: هو صاف صفاء ما اجتهد في تصفيته من ذلك وهذا الوصف ثابت له دائماً لا انفكاك له في وقت ما.
تنبيه: قال أبو حيان في حكمة ترتيب هذه الأنهار: إنه بدأ بالماء الذي لا تستغني عنه المشروبات، ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعومات في كثير من أوقات العرب، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الريّ والمطعم، تشوّقت النفس إلى ما تلتذ به، ثم بالعسل لأنّ فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المطعوم والمشروب، ا. هـ. فإن قيل ما الحكمة في قوله تعالى في الخمر: {لذة للشاربين} ولم يقل في اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين، ولا قال في العسل مصفى للناظرين. أجاب الرازي: بأنّ اللذة تختلف باختلاف الأشخاص فرب طعام يلتذ به شخص، ويعافه الآخر. فقال: لذة للشاربين بأسرهم، ولأنّ الخمر كريهة الطعم في الدنيا فقال: لذة أي: لا يكون في خمر الآخرة كراهة الطعم. وأمّا الطعم واللون فلا يختلف باختلاف الناس، فإنّ الحلو والحامض وغيرهما يدركه كل أحد لكن قد يعافه بعض الناس، ويلتذ به البعض مع اتفاقهم على أنّ له طعماً واحداً. وكذلك اللبن فلم يكن للتصريح بالتعميم حاجة.
فائدة: روي عن كعب الأحبار أنه قال: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ونهر الفرات نهر لبنهم ونهر مصر نهر خمرهم ونهر سيحان وجيجان نهر عسلهم وهذه الأنهار الأربعة، تخرج من نهر الكوثر وقال ابن عبد الحكم في فتوح مصر: إن كعب الأحبار سئل هل تجد لهذا النيل في كتاب الله عز وجلّ خبراً فقال أي: والذي فلق البحر لموسى إني أجده في كتاب الله تعالى أنّ الله عز وجلّ يوحي إليه في كل عام مرتين يوحى إليه عند جريه أنّ الله يأمرك أن تجري فيجري ما كتب الله تعالى له ثم يوحى إليه بعد ذلك يا نيل غر حميداً وعن كعب أيضاً أنه قال: أربعة أنهر من الجنة، وضعها الله تعالى في الدنيا فالنيل: نهر العسل في الجنة، والفرات: نهر الخمر في الجنة، وسيحان: نهر الماء في الجنة، وجيجان: نهر اللبن في الجنة» وعنه أيضاً أنه قال: النيل في الآخرة لبناً، أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل، والفرات خمر أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجلّ، وجيجان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل وأصل هذا كله ما في الصحيح في وصف الجنة عن أبي هريرة «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال سيحان وجيجان والنيل والفرات من أنهار الجنة» ولما كانت الثمار(4/27)
ألذ مستطاب بعد منافع الشراب قال تعالى:
{ولهم فيها} وقوله تعالى: {من كل الثمرات} فيه وجهان أحدهما: أنّ هذا الجار صفه لمقدر، ذلك المقدر مبتدأ، وخبره الجار قبله، وهو لهم وفيها متعلق بما تعلق به والتقدير ولهم فيها زوجان من كل الثمرات كأنه انتزعه من قوله تعالى {فيهما من كل فاكهة زوجان} وقدّره بعضهم صنف والأوّل كما قال ابن عادل أليق ثانيهما أن {من} مزيدة في المبتدأ.
{ومغفرة من ربهم} فهو راض عنهم مع إحسانه إليهم بما ذكر، بخلاف سيد العبيد في الدنيا فإنه قد يكون مع إحسانه إليهم ساخطاً عليهم وقوله تعالى: {كمن هو خالد في النار} خبر مبتدأ مقدّر أي: أمن هو في هذا النعيم، كمن هو مقيم إقامة لا انقطاع معها في النار التي لا ينطفئ لهيبها، ولا ينفك أسيرها، ووحده لأنّ الخلود يعم من فيها على حدّ سواء، {وسقوا} أي: عوض ما ذكر من شراب أهل الجنة {ماء حميماً} هو في غاية الحرارة {فقطع أمعاءهم} أي: مصارينهم، فخرجت من أدبارهم وهو جمع مع بالقصر وألفه عن ياء لقولهم معيان.
{ومنهم من يستمع إليك} أي: في خطب الجمعة، وهم المنافقون والضمير في قوله تعالى {ومنهم} يحتمل أن يعود إلى الناس كما قال تعالى في سورة البقرة {ومن الناس من يقول آمنا بالله} (البقرة: 81)
بعد ذكر الكفار ويحتمل أن يعود إلى أهل مكة؛ لأنّ ذكرهم سبق في قوله تعالى {هي أشدّ قوة من قريتك التي أخرجتك} ويحتمل أن يرجع إلى معنى قوله تعالى {هو خالد في النار وسقوا ماء حميما} أي: ومن الخالدين في النار قوم يستمعون إليك {حتى إذا} أي: واستمر جهلهم لأنفسهم في الإصغاء حتى إذا {خرجوا} أي: المستمعون والسامعون {من عندك قالوا} أي: الفريقان تعامياً واستهزاءً.
{للذين أوتوا العلم} بسبب تهيئة الله تعالى لهم من صفاء الأفهام بتجردهم عن النفوس والحظوظ، وانقيادهم لما تدعو إليه الفطرة الأولى. منهم ابن مسعود وابن عباس {ماذا قال} أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم {آنفا} أي: قبل افتراقنا وخروجنا عنه روى مقاتل: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود استهزاء ماذا قال محمد آنفاً» أي الساعة، أي: لا ترجع إليه وقرأ البزي بقصر الهمزة بخلاف عنه والباقون بالمدّ وهما لغتان بمعنى واحد وهما اسما فاعل كحاذر وحذر، {أولئك} أي: البعداء من كل خير {الذين طبع الله} أي: الملك الأعظم {على قلوبهم} أي: بالكفر فلم يفهموا فهم انتفاع؛ لأنّ مثل هذا الجمود لا يكون إلا بذلك {واتبعوا} أي: بغاية جهدهم
{أهواءهم} أي: في الكفر والنفاق، فلذلك هم يتهاونون بأعظم الكلام، ويقبلون على جمع الحطام، فهم أهل النار المشار إليهم قبل آية {مثل الجنة} بأنهم {زين لهم سوء عملهم} ثم ذكر تعالى أضداد هؤلاء.
بقوله سبحانه:
{والذين اهتدوا} أي: اجتهدوا باستماعهم منك في الإيمان، والتسليم والإذعان بأنواع المجاهدات وهم المؤمنون {زادهم} أي: الله الذي طبع على قلوب الكفرة، {هدى} بأن شرح صدورهم، ونورها بأنوار المشاهدات، فصارت أوعية للحكمة {وآتاهم تقواهم} أي: ألهمهم ما يتقون به النار، قال ابن برحان: التقوى عمل الإيمان كما أن أعمال الجوارح عمل الإسلام.
{فهل} أي: ما {ينظرون} أي: ينتظرون وجودها إشارة إلى شدة(4/28)
قربها.
{إلا الساعة} وقوله تعالى: {أن تأتيهم} أي: الكافرين بدل اشتمال من الساعة أي: ليس الأمر إلا أن تأتيهم {بغتة} أي: فجأة من غير شعور بها، ولا استعداد لها. وقوله تعالى: {فقد جاء أشراطها} جمع شرط بسكون الراء وفتحها قال أبو الأسود:
*فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا ... فقد جعلت أشراطاً وله تبدو*
والأشراط: العلامات ومنه أشراط الساعة وأشرط الرجل نفسه أي ألزمها أموراً قال أوس:
*فأشرط فيها نفسه وهو يقسم ... فألقى بأسباب له وتوكلا*
والشرط: القطع أيضاً، مصدر شرط الجلد يشرطه شرطاً قال السهيلي عن ابن سعد عن أنس قال «رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا بالوسطى والتي تلي الإبهام بعثت والساعة كهاتين» وعن أنس قال: «لأحدّثنكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الربا، ويشرب الخمر، وتقل الرجال، وتكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد» وعن أبي هريرة قال: «بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال وقال بعضهم: لم يسمع حتى إذا قضى حديثه، قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله قال: إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة فقيل: كيف إضاعتها قال: إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظروا الساعة» .
ومن أشراطها انشقاق القمر المؤذن بآية الشمس في طلوعها من مغربها، وغير ذلك وما بعد مقدّمات الشيء إلا حضوره.
{فأنى} أي: فكيف وأين {لهم} أي التذكر والاتعاظ والتوبة {إذا جاءتهم ذكراهم} أي: الساعة لا تنفعهم.
نظيره قوله تعالى {يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى} ولما علم بذلك أنّ الذكرى غير نافعة إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل، أو جاءت الأشراط المحققة الكاشفة لها، سبب عنه أمر أعظم الخلق تكويناً ليكون لغيره تكليفاً فقال:
{فاعلم أنه} أي: الشأن العظيم {لا إله} أي: لا معبود بحق {إلا الله} أي: إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية، فإنه النافع يوم القيامة وقيل: الخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره وقال الحسن بن الفضل: فازدد علماً إلى علمك وقال أبو العالية وابن عيينة معناه إذا جاءتهم الساعة، فاعلم أنه لا ملجأ ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله، {واستغفر لذنبك} أي: لأجله، أمر بذلك مع عصمته لتستن به أمته وقد فعله قال صلى الله عليه وسلم «إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» وقيل: معنى قوله {لذنبك} أي: لذنب أهل بيتك وللمؤمنين والمؤمنات الذين ليسوا من أمتك بأهل بيت وقيل: المراد النبيّ، والذنب هو ترك الأفضل الذي هو بالنسبة إليه ذنب وحسناتنا دون ذلك قال صلى الله عليه وسلم «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة» وقيل: هو كل مقام عال ارتفع منه إلى أعلى منه. وقوله تعالى: {وللمؤمنين والمؤمنات} فيه إكرام من الله تعالى لهذه الأمّة؛ حيث أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنوبهم {والله} المحيط بجميع صفات الكمال {يعلم متقلبكم} أي: تصرّفكم لأشغالكم بالنهار، ومكانه وزمانه(4/29)
{ومثواكم} أي: مأواكم إلى مضاجعكم بالليل أي: هو عالم بجميع أحوالكم، لا يخفى عليه شيء منها فاحذروه، والخطاب للمؤمنين وغيرهم، وقيل: يعلم متقلبكم في أعمالكم، ومثواكم في الجنة والنار، ومثله حقيق بأن يخشى ويتقى وأن يستغفر ويسترحم، وعن سفيان ابن عيينة أنه سئل عن فضل العلم فقال: ألم تسمع قوله تعالى حين بدأ به {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} فأمر بالعمل بعد العلم وقال: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو} (الحديد: 20)
الآية.
{ويقول الذين آمنوا} طلباً للجهاد.
{لولا} أي: هلا، ولا التفات إلى قول بعضهم أن لا زائدة والأصل لو {نزلت سورة} أي سورة كانت، نسرّ بسماعها، ونتعبد بتلاوتها، ونعمل بما فيها {فإذا أنزلت سورة} أي: قطعة من القرآن، تكامل نزولها كلها تدريجاً، أو جملة وزادت على مطلوبهم في الحسن بأنها {محكمة} أي: مبينة، لا يلتبس شيء منها بنوع إجمال، ولا ينسخ لكونه جامعاً للمحاسن في كل زمان ومكان وقال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة. وهي أشدّ القرآن على المنافقين {وذكر فيها القتال} أي: الأمر به {رأيت الذين في قلوبهم مرض} أي: شك وهم المنافقون. {ينظرون إليك} شرراً بتحديق شديد، كراهية منهم للجهاد، وجبنا منهم عن لقاء العدوّ {نظر المغشيّ} والأصل نظراً مثل نظر المغشي {عليه من الموت} الذي هو: نهاية الغشي فهو لا يطرف بعينه، بل شاخص لا يطرف كراهية القتال؛ من الجبن والخوف. والمعنى: أنّ المؤمن كان ينتظر نزول الأحكام والتكاليف ويطلب تنزيلها، وإذا تأخر عنه التكليف كان يقول هلا أمرت بشيء من العبادة خوفاً من أن لا يؤهل لها وأمّا المنافق، فإذا أنزلت السورة أو الآية وفيها تكليف شق عليه ذلك فحصل التباين بين الفريقين في العلم والعمل وقوله تعالى {فأولى لهم} وعيد بمعنى فويل لهم وهو أفعل من الولي وهو القرب ومعناه الدعاء عليه بأن يليهم المكروه.
وقوله تعالى:
{طاعة وقول معروف} مستأنف، أي: طاعة ومعروف خير لهم وأمثل، أي: لو أطاعوا وقالوا قولاً معروفاً لكان أمثل وأحسن، وساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بدليل قوله تعالى: {وقول معروف} فإنه موصوف فكأنه تعالى قال: طاعة مخلصة وقول معروف خير، وقيل: يقول المنافقون قبل نزول السورة المحكمة طاعة رفع على الحكاية، أي: أمرنا طاعة أو منا طاعة وقول معروف حسن، وقيل: متصل بما قبله واللام في قوله تعالى {لهم} بمعنى الباء أي فأولى بهم طاعة الله ورسوله، وقوله: معروف بالإجابة أولى بهم، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء. ثم سبب عنهما قوله تعالى مسنداً إلى الأمر ما هو لأهله تأكيداً لمضمون الكلام: {فإذا عزم الأمر} ، أي: فإذا أمر بالقتال الذي ذكر في أوّل السورة وغيره من الأوامر أمراً مجزوماً به مقروحاً عليه {فلو صدقوا الله} أي: الملك الأعظم في قولهم الذي قالوه في طلب التنزيل {لكان} أي: صدقهم له {خيراً لهم} أي: من تعللهم، وجملة لو جواب إذا، نحو: إذا جاءني طعام فلو جئتني لأطعمتك، وقيل: محذوف، وتقديره: فاصدق كذا قدّره أبو البقاء وعزم الأمر على سبيل المجاز، كقوله: قد جدّت الحرب فجدوا، أو يكون على حذف مضاف أي عزم أهل الأمر.
وقوله تعالى: {فهل عسيتم} فيه التفات عن الغيبة، أي: لعلكم {إن توليتم} أي: أعرضتم عن الإيمان والجهاد {أن تفسدوا} أي:(4/30)
توقعوا الإفساد العظيم الذي يستمر تجدّده {في الأرض} بالمعصية والبغي وسفك الدماء الذي يسخط الله تعالى، ويغضبه أشدّ غضب على فاعله، وتكونوا في غاية الجراءة عليه وترجعوا إلى الفرقة بعدما جمعكم الله بالإسلام. وقرأ نافع بكسر السين والباقون بفتحها {وتقطعوا} أي: تقطيعاً كثيراً {أرحامكم} أي: تعودوا إلى أمر الجاهلية في الإغارة من بعض على بعض وغير ذلك، قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى ألم يسفكوا الدم الحرام وقطعوا الأرحام وعصوا الرحمن، وقال بعضهم: هو من الولاية. قال الفراء: يقول فهل عسيتم إن توليتم أمر الناس أن تفسدوا في الأرض بالظلم نزلت في بني أمية وبني هاشم.
{أولئك} أي: المفسدون {الذين لعنهم الله} أي: طردهم أشدّ الطرد الملك الأعظم لما ذكر من إفسادهم وتقطيعهم، ثم سبب عن لعنهم قوله تعالى {فأصمهم} أي: عن الانتفاع بما سمعوه {وأعمى أبصارهم} أي عن الانتفاع بما يبصرون فليس سماعهم سماع إدراك، ولا إبصارهم إبصار اعتبار، فلا سماع ولا إبصار.
{أفلا يتدبرون} بقلوب منفتحة منشرحة ليهتدوا إلى كل خير {القرآن} أي: يجهدوا أنفسهم في أن يتفكروا في الكتاب الجامع لكل خير، الفارق بين الحق والباطل، حتى لا يجسروا على المعاصي
فإن قيل قال تعالى: {فأصمهم وأعمى أبصارهم} فكيف يمكنهم التدبر في القرآن؟ وهو كقول القائل للأعمى: أبصر وللأصم اسمع، أجيب بثلاثة أوجه مترتبة بعضها أحسن من بعض؛ الأول: تكليف ما لا يطاق جائز. والله تعالى أمر من علم منه بأنه لا يؤمن أن يؤمن فلذلك جاز أن يصمهم، ويعميهم، ويذمهم على ترك التدبر.
الثاني: أن قوله {أفلا يتدبرون القرآن} المراد منه الناس.
الثالث: أن يقال أنّ هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المتقدّمة، كأنه تعالى قال {أولئك الذين لعنهم الله} أي: أبعدهم عنه، أو عن الصدق، أو الخير، أو غير ذلك من الأمور الحسنة فأصمهم لا يسمعون حقيقة الكلام، وأعماهم لا يبصرون طريقة الإسلام فإذا هم بين أمرين: إمّا لا يتدبرون القرآن، فيبعدون عنه لأنّ الله تعالى لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق، والقرآن منها هو الصنف الأعلى بل النوع الأشرف.
وإمّا يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة تقديره أفلا يتدبرون القرآن لكونهم ملعونين مبعدين {أم} أي: بل {على قلوب} أي: من قلوب الفاعلين لذلك {أقفالها} فلا تعي شيئاً ولا تفهم أمراً، ولا تزداد إلا غباوة وعناداً لأنها لا تقدر على التدبير قال القشيري: فلا يدخلها زواجر التنبيه، ولا ينبسط عليها شعاع العلم، فلا يحصل لهم فهم الخطاب. والباب إذا كان مغلقاً فكما لا يدخل فيه شيء لا يخرج ما فيه فلا كفرهم يخرج، ولا الإيمان الذي يدعون إليه يدخل. ا. هـ فإن قيل ما الفائدة في تنكير القلوب.
أجاب الزمخشري بقوله: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون للتنبيه على كونه موصوفاً، لأنّ النكرة بالوصف أولى من المعرفة كأنه قال أم على قلوب قاسية أو مظلمة
الثاني: أن تكون للتبعيض كأنه قال أم على بعض القلوب لأنّ النكرة لا تعم تقول: جاءني رجال فيفهم البعض، وجاءني الرجال فيفهم الكل. والتنكير في القلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب، وذلك لأنّ القلب إذا كان عارفاً كان معروفاً، لأنّ القلب خلق للمعرفة فإذا لم تكن فيه المعرفة، فكأنه لا يعرف قلباً(4/31)
فلا يكون قلباً يعرف، كما يقال للإنسان المؤذي: هذا ليس بإنسان فكذلك يقال: هذا ليس بقلب، هذا حجر، وإذا علم هذا، فالتعريف إمّا بالألف واللام، وإما بالإضافة بأن يقال على قلوبهم أقفالها، وهي لعدم عود فائدة إليهم كأنها ليست لهم.
فإن قيل قد قال تعالى {ختم الله على قلوبهم} (البقرة: 7)
وقال تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم} (الزمر: 22)
أجيب بأنّ الأقفال أبلغ من الختم، فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأساً.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: {أقفالها} بالإضافة؟ ولم يقل أقفال كما قال: {قلوب} .
أجيب بأنّ الأقفال كأنها ليست إلا لها ولم يضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم، وأضاف الأقفال إليها لكونها مناسبة لها، أو يقال: أراد به أقفالاً مخصوصة هي أقفال الكفر والعناد ولما أخبر تعالى بأقفال قلوبهم بين منشأ ذلك.
فقال تعالى:
{إنّ الذين ارتدوا} أي: من أهل الكتاب وغيرهم {على أدبارهم} أي: رجعوا كفارا {من بعدما تبين} أي: غاية البيان {لهم الهدى} أي: بالدلائل التي هي من شدة ظهورها غنية عن بيان مبين {الشيطان سوّل لهم} أي: زين وسهل لهم اقتراف الكبائر {وأملى} أي: ومدّ الشيطان {لهم} في الآمال والأماني بإرادته تعالى فهو المضل لهم وقرأ أبو عمرو: بضم الهمزة وكسر اللام وفتح الياء والباقون: بفتح الهمزة واللام وسكون الألف المنقلبة وأمالها حمزة والكسائي محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح قال في الكشاف: فإن قلت: من هؤلاء؟ قلت: اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من بعدما تبين لهم الهدى وهو نعته في التوراة وقيل: هم المنافقون.
{ذلك} أي: إضلالهم {بأنهم} أي: بسبب أنهم {قالوا} أي: المنافقون {للذين كرهوا} أي: وهم المشركون {ما} أي: جميع ما {نزل الله} أي: الملك الأعظم على التدريج بحسب الوقائع، تنزيلاً في إعجاز الخلق في بلاغة التركيب مع فصاحة المفردات وجزالتها، مع السهولة في النطق، والعذوبة في السمع، والملاءمة للطبع {سنطيعكم في بعض الأمر} أي: أمر المعاونة على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيط الناس عن الجهاد معه قالوا ذلك سراً، فأظهره الله تعالى، {والله} أي: قالوا ذلك والحال أن الملك الأعظم المحيط بكل شيء علما وقدرة {يعلم} أي: على ممر الأوقات {أسرارهم} أي: كلها؛ هذا الذي أفشاه عليهم، وغيره مما في ضمائرهم مما لم يبرز على ألسنتهم ولعلهم لم يعلموه فضلاً عن أقوالهم التي تحدثت بها أنفسهم فبان بذلك أنه لا أديان لهم ولا عقول ولا مروءات. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر الهمزة مصدراً والباقون بفتحها جمع سر.
{فكيف} أي: حالهم {إذا توفتهم الملائكة} أي: قبضت رسلنا، وهم ملك الموت وأعوانه أرواحهم كاملة وقوله تعالى: {يضربون وجوههم وأدبارهم} تصوير لتوفيهم بما يخافون منه ويجبنون عن القتال له وعن ابن عباس: لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره. وقوله تعالى:
{ذلك} إشارة إلى التوفي الموصوف {بأنهم} أي: بسبب أنهم {اتبعوا} أي: عالجوا فطرتهم الأولى في أن اتبعوا {ما أسخط الله} أي: الملك الأعظم، وهو الكفر وكتمان نعت الرسول صلى الله عليه وسلم وعصيان الأمر {وكرهوا} بالإشراك {رضوانه} بكراهتهم أعظم أسباب رضاه وهو الإيمان، فهم لما دونه بالقعود عن الطاعات أكره؛ لأنّ ذلك ظاهر غاية الظهور في أنّ فاعله غير معذور في ترك(4/32)
النظر فيه.
{فأحبط} أي: فلذلك تسبب عنه أنه أفسد.
{أعمالهم} أي: الصالحة فأسقطها بحيث لم يبق لها وزن أصلاً لتضييع الأساس من مكارم الأخلاق؛ من القرى والأخذ بيد الضعيف والتصدّق والإعتاق وغير ذلك من وجوه الإرفاق.
{أم حسب الذين} وكان الأصل أم حسبوا لضعف عقولهم كما أفهمه التعبير بالحسبان ولكنه عبر تعالى بما دلّ على الآفة التي أدّتهم إلى ذلك بقوله تعالى: {في قلوبهم} أي: التي إذا أفسدت فسد جميع أجسادهم {مرض} أي: آفة لا طب لها حسباناً هو في غاية الثبات كما دل عليه التأكيد في قوله تعالى: {أن لن يخرج الله} أي يبرز من هو محيط بصفات الكمال للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التجديد والاستمرار وقوله تعالى: {أضغانهم} جمع ضغن، وهي الأحقاد أي أحقادهم على المؤمنين فيبديها حتى تعرفوا نفاقهم وكانت صدورهم تغلي حنقاً عليهم.
{ولو نشاء لأريناكهم} من رؤية البصر وجاء على الأفصح من اتصال الضميرين ولو جاء على أريناك إياهم جاز وقال الرازي الإراءة هنا بمعنى التعريف وقوله تعالى {فلعرفتهم} عطف على جواب لو {بسيماهم} أي: بسبب علاماتهم التي نجعلها غالبة عليهم عالية لهم في إظهار ضمائرهم غلبة لا يقدرون على مدافعتها بوجه ولم يذكرهم سبحانه بأسمائهم إبقاء على قراباتهم المخلصين من الفتن وقوله تعالى {ولتعرفنهم} جواب قسم محذوف {في لحن القول} أي: الصادر منهم، ولحنه فحواه أي معناه وما يدل عليه ويلوح عليه من ميله عن حقائقه إلى عواقبه، وما يؤول إليه أمره مما يخفى على غيرك قال أنس: ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم. وعن ابن عباس: لحن القول هو قولهم ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا وقيل اللحن أن تلحن بكلامك أي تميله إلى نحو من الانحاء ليفطن له صاحبك كالتعريض والتورية قال:
*ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا ... واللحن يعرفه ذوو الألباب*
وقيل للمخطىء: لاحن، لأنه يعدل بالكلام عن الصواب. وقال أبو حيان: كانوا اصطلحوا على ألفاظ يخاطبون بها الرسول صلى الله عليه وسلم مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح {والله} أي: بما له من الكمال {يعلم أعمالكم} كلها الفعلية والقولية جليها وخفيها علماً ثابتاً غيبياً وعلماً راسخاً شهودياً يتجدّد بحسب تجدّدها مستمرّاً باستمرار ذلك.
{ولنبلونكم} أي: نعاملكم معاملة المبتلى، بأن نخالطكم بما لنا من العظمة بالأوامر الشديدة على النفوس والنواهي الكريهة إليها. {حتى نعلم} أي: بالابتلاء علماً شهودياً يشهده غيرنا مطابقاً لما كنا نعلمه علماً غيبياً، فنستخرج من سرائركم ما جبلناكم عليه مما لا يعلمه أحد منكم بل ولا تعلمونه حق علمه {المجاهدين منكم} في القتال وفي سائر الأعمال والشدائد والأهوال امتثالاً للأمر بذلك {والصابرين} أي: على شدائد الجهاد وغيره من الأنكاد قال القشيري: فبالابتلاء والامتحان تتبين جواهر الرجال فيظهر المخلص ويفتضح المماذق وينكشف المنافق ا. هـ.
وعن الفضيل: أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا {ونبلو أخباركم} أي: نخالطها(4/33)
بأن: نسلط عليها من يحرفها فيجعل حسنها قبيحاً وقبيحها حسنا ليظهر للناس العامل لله والعامل للشيطان، فإنّ العامل لله إذا سمى قبيحه باسم الحسن علم أنّ ذلك إحسان من الله تعالى إليه فيستحي منه ويرجع، وإذا سمى حسنه باسم القبيح وأشهر به علم أنّ ذلك لطف من الله تعالى به لكي لا يدركه العجب أو يهاجمه الرياء فيزيد في إحسانه، والعامل للشيطان يزداد في القبائح، لأنّ شهرته عند الناس محط نظره ويرجع عن الحسن لأنه لم يوصله إلى ما أراد به من ثناء الناس عليه بالخير.
{إنّ الذين كفروا} أي: غطوا ما دلتهم عليه عقولهم من ظاهر آيات الله لا سيما بعد إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم المؤيد بواضح المعجزات {وصدّوا} أي امتنعوا ومنعوا غيرهم زيادة في كفرهم {عن سبيل الله} أي الطريق الواضح الذي نهجه الملك الأعظم {وشاقوا الرسول} أي: الكامل في الرسالة المعروف غاية المعرفة. {من بعد ما تبين} أي: غاية البيان بالمعجز {لهم الهدى} بحيث صار ظاهراً بنفسه غير محتاج ما أظهره الرسول من الآيات الظاهرة وهم قريظة والنضير والمطعمون يوم بدر {لن يضروا الله} أي ملك الملوك {شيئاً} بما هم عليه من الكفر والصدّ أو لن يضرّوا رسوله صلى الله عليه وسلم بمشاقته وحذف المضاف لتعظيمه وتفظيع مشاقته {وسيحبط} أي: يفسد فيبطل بوعد لا خلف فيه {أعمالهم} من المحاسن لبنائها على غير أساس.
{يا أيها الذين آمنوا} أي: أقرّوا بألسنتهم {أطيعوا الله} أي: الملك الأعظم تصديقاً لدعواكم طاعة لشدّة الاجتهاد فيها أنها خالصة، وعظم الرسول صلى الله عليه وسلم بإفراده فقال تعالى: {وأطيعوا الرسول} لأنّ طاعته من طاعة الذي أرسله، فإذا فعلتم ذلك حصنتم أنفسكم وأعمالكم، فتكون صحيحة ببنائها على الطاعة بتصحيح النيات وتصفيتها مع الإحسان للصورة في الظاهر، ليستكمل العمل صورة وروحاً {ولا تبطلوا أعمالكم} قال عطاء بالشك والنفاق. وقال الكلبي: بالرياء والسمعة. وقال الحسن: بالمعاصي والكبائر. وقال أبو العالية: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضرّ مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنزلت هذه الآية» فخافوا الكبائر أن تحبط الأعمال. وقال مقاتل: لا تمنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبطلوا أعمالكم نزلت في بني أسد. قال تعالى {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} (البقرة: 264)
وعن حذيفة فخافوا أن تحبط الكبائر أعمالهم. وعن ابن عمر: كنا نرى أنه ليس شيء من حسناتنا إلا مقبولاً حتى {نزل ولا تبطلوا أعمالكم} فقلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقلنا الكبائر الموجبات والفواحش، حتى نزل {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48)
فكففنا عن القول في ذلك، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر ونرجو لمن لم يصبها. وعن قتادة: رحم الله عبداً لم يحبط عمله الصالح بعمله السيء. وعن ابن عباس: لا تبطلوا بالرياء والسمعة أعمالكم. وعنه أيضاً: بالشك والنفاق. وقيل بالعجب، فإنّ العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
{إن الذين كفروا} أي: أوقعوا الكفر بفعلهم فعل الساتر لما دل عليه العقل من آيات الله المرئية والمسموعة {وصدّوا عن سبيل الله} أي: الملك الأعلى عن الواضح المستقيم الموصل إلى كل ما ينبغي أن يقصد كل من أراد بتماديهم على باطلهم وأذاهم لمن خالفهم {ثم ماتوا} بعد المدّ لهم في مضمارهم بالتطويل في أعمارهم {وهم} أي:(4/34)
والحال أنهم {كفار فلن يغفر الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال الذي يمنع من تسوية المسيء بالمحسن {لهم} فلا يمحو ذنوبهم ولا يستر عيوبهم، بل يفضح سرائرهم ويردّهم على أعقابهم في كل ما يتقلبون فيه، لأنهم قد أبطلوا أعمالهم بالخروج عن دائرة الطاعة فلم يبق لهم ما يغفر لهم تسببه، وقد دلت هذه الآية على ما دلت عليه آية البقرة من أنّ إحباط العمل في المرتدّ مشروط بالموت على الكفر قيل: نزلت في أصحاب القليب قال الزمخشريّ: والظاهر العموم ثم رغب تعالى في لزوم الجهاد محذراً من تركه بقوله تعالى:
{فلا تهنوا} أي: تضعفوا ضعفاً يؤدّي بكم إلى الهوان والذلّ {وتدعوا} أعداءكم {إلى السلم} أي: المسالمة وهي الصلح {وأنتم} أي: والحال أنكم {الأعلون} أي: الظاهرون الغالبون قال الكلبي: آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات. وأصل الأعلون الأعليون فأعلّ وقرأ حمزة وشعبة بكسر السين والباقون بفتحها ثم عطف على الحال قوله تعالى {والله} أي: الملك الأعظم الذي لا يعجزه شيء ولا كفء له {معكم} أي: بنصره ومعونته وجميع ما يفعله الكريم إذا كان مع عبده ومن علم أنه سيده وعلم أنه قادر على ما يريد لم يبال بشيء أصلاً {ولن يتركم} أي: ينقصكم {أعمالكم} أي: ثوابها كما يفعل مع أعدائكم في إحباط أعمالهم، لأنكم لم تبطلوا أعمالكم بجعل الدنيا محط أمركم.
{إنما الحياة} وأشار إلى دناءتها تنفيراً عنها بقوله: {الدنيا} أي: الاشتغال بها {لعب} أي: أعمال ضائعة سافلة تزيد في السرور ما يسرع اضمحلاله فيبطل من غير ثمرة {ولهو} أي: مشغلة يطلب بها إثارة اللذة كالغناء {وإن تؤمنوا وتتقوا} أي: تخافوا فتجعلوا بينكم وبين غضبه سبحانه وتعالى وقاية من جهاد أعدائه، وذلك من أعمال الآخرة {يؤتكم} أي: الله سبحانه الذي فعلتم ذلك من أجله في الدار الآخرة {أجوركم} أي: ثواب كل أعمالكم ببنائها على الأساس، ولأنه غنيّ لا ينقصه الإعطاء {ولا يسألكم} أي: الله في الدنيا {أموالكم} أي: لنفسه ولا كلها لغيره، بل يقتصر على جزء يسير مما تفضل به عليكم كربع العشر وعشره.
{إن يسألكموها} أي: كلها {فيحفكم} أي: يبالغ في سؤالكم ويبلغ فيه الغاية حتى يستأصلها فيجهدكم بذلك، فالإحفاء المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء يقال: أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح، وأحفى شاربه استأصله {تبخلوا} فلا تعطوا شيئاً {ويخرج أضغانكم} أي: ما تضغنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والضمير في يخرج لله تعالى أو الرسول أو السؤال، أو البخل، واقتصر عليه الجلال المحلي، قال قتادة: علم الله تعالى أنّ في مسألة الأموال خروج الأضغان يعني ما طلبها ولو طلبها وألح عليكم في الطلب لبخلتم كيف وأنتم تبخلون باليسير فكيف لا تبخلون بالكثير.
{هاأنتم} وحقر أمرهم بقوله تعالى: {هؤلاء} أي: أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، وقوله تعالى {تدعون لتنفقوا في سبيل الله} أي: الملك الأعظم الذي يرجى خيره ولا يخشى غيره استئناف مقرّر لذلك أو صلة لهؤلاء على أنه بمعنى الذين وهو يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرها {فمنكم من يبخل} أي: ناس يبخلون، وحذف القسم الآخر وهو ومنكم من يجود، لأنّ المراد الاستدلال على ما قبله من البخل ولما كان بخله عمن أعطاه المال بجزء يسير منه إنما طلبه لينفع المطلوب منه فقط زاد العجب بقوله تعالى: {ومن} أي:(4/35)
والحال أنه من {يبحل} بذلك {فإنما يبخل} بماله بخلا ضارّاً {عن نفسه} فإن نفع الإنفاق وضر البخل عائدان إليه والبخل يعدى بعن وعلى لتضمنه معنى الإمساك والتعدّي فإنه إمساك عمن يستحق {والله} أي: الملك الأعظم الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {الغني} وحده عن نفقتكم {وأنتم} أيها المكلفون خاصة {الفقراء} لاحتياجكم في جميع أحوالكم إليه {وإن تتولوا} عطف على {وإن تؤمنوا وتتقوا} {يستبدل قوماً غيركم} أي: يخلق قوماً سواكم على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى {ثم لا يكونوا أمثالكم} في التولي عنه والزهد في الإيمان كقوله تعالى {ويأت بخلق جديد} قيل: هم الملائكة. وقيل الأنصار وعن ابن عباس: كندة والنخع وعن الحسن: العجم وعن عكرمة: فارس والروم «وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القوم وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال: هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس» رواه الترمذي والحاكم وصححاه وما رواه البيضاويّ تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة محمد كان حقاً على الله تعالى أن يسقيه من أنهار الجنة» حديث موضوع.
سورة الفتح
مكية وهي تسع وعشرون آية وخمسمائة وستون كلمةوألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا
{بسم الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلما {الرحمن} الذي عم خلقه بنعمه {الرحيم} الذي خص أهل وداده بمزيد فضله روى زيد بن أسلم عن أبيه أنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه، كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسأله عمر عن شيء فلم يجبه. ثم سأله فلم يجبه قال عمر فحركت بعيري حتى تقدّمت أمام الناس وخشيت أن يكون نزل فيّ قرآن فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال: «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ» .
{إنا فتحنا لك} أي: بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال {فتحناً مبينا} أي: لا لبس فيه على أحد. واختلفوا في هذا الفتح فروى عن أنس أنه فتح مكة. وقال مجاهد: فتح خيبر. والأكثرون على أنه صلح الحديبية. قال أنس: نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم إنا فتحنا لك إلى آخر الآية عند مرجعه من الحديبية وأصحابه مخالطوا الحزن والكآبة فقال: «نزلت علي آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعها» فلما تلاها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال رجل من القوم هنيأً مريئاً قد بين الله لك ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل الله تعالى: {ليدخل المؤمنين والمؤمنان جنّات تجري من تحتها الأنهار} حتى ختم الآية. وقيل: فتح الروم. وقيل: فتح الإسلام بالحجة والبرهان والسيف واللسان. وقيل: الفتح الحكم لقوله تعالى {فافتح بيننا وبين قومنا بالحق} (سورة الأعراف، آية: 89)
وقوله تعالى {ثم يفتح بيننا بالحق} (سورة سبأ، آية: 26)
فمن قال هو فتح مكة قال لأنه مناسب لآخر السورة التي قبلها من وجوه أحدها أنه تعالى لما قال {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله} إلى أن قال {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه} بين تعالى أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل(4/36)
لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم.
ثانيها: لما قال تعالى: {والله معكم} (محمد: 35)
وقال تعالى {وأنتم الأعلون} (محمد: 35)
بين برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون. ثالثها لما قال تعالى {فلا تنهوا وتدعوا إلى السلم} (محمد: 35)
وكان معناه لا تسألوا الصلح بل اصبروا فإنكم تسألوا الصلح كما كان يوم الحديبية فكان المراد فتح مكة حيث أتى صناديد قريش مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ومستسلمين فإن قيل: إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن فتحت. فكيف قال تعالى: {فتحنا} بلفظ الماضي أجيب من وجهين: أحدهما فتحنا في حكمنا وتقديرنا.
ثانيهما: ما قدّره الله تعالى فهو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمر واقع لا دافع له. وأمّا حجة قول الأكثرين على أنه صلح الحديبية فلما روى البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها فدعا بإناء فتوضأ ثم تمضمض ودعا وصبه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه» وقيل: جاش حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد وقال الشعبي في قوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} قال فتح الحديبية غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر واطعموا نخل خيبر وبلغ الهدي محله وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. قال الزهري: ولم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية. وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر سواد الإسلام.
وقال البغوى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} أي: قضينا لك قضاءً مبيناً. وقال الضحاك: أي بغير مال وكان الصلح من الفتح. واختلف قول المفسرين في معنى اللام في قوله تعالى:
{ليغفر لك الله} أي: الملك الأعظم. فقال البيضاوي: علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار والسعي في إعلاء الدين وإزاحة الشرك وتكميل النفوس الناقصة وقال البغوي: قيل: اللام لام كي معناه {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح. وقال الجلال المحلي: اللام للعلة الغائية فمدخولها مسبب لا سبب. وقال بعضهم: إنها لام القسم. والأصل ليغفرن فكسرت اللام تشبيهاً بلام كي وحذفت النون وردّ هذا: بأنّ اللام لا تكسر وبأنها لا تنصب المضارع، قال ابن عادل: وقد يقال إنّ هذا ليس بنصب، وإنما هو بقاء الفتح الذي كان قبل نون التوكيد بقي ليدل عليها ولكنه قول مردود. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قال يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوّك لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض الآجل والعاجل ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سبباً للمغفرة والثواب ا. هـ قال ابن عادل: وهذا الذي قاله مخالف لظاهر الآية، فإنّ اللام داخلة على المغفرة فتكون المغفرة علة للفتح والفتح معلل بها فكان ينبغي أن يقول: كيف جعل فتح مكة معللاً بالمغفرة ثم يقول لم يجعل معللاً ا. هـ وقيل غير ذلك والأسلم ما اقتصر عليه الجلال المحلي واختلف أيضاً(4/37)
في الذنب في قوله تعالى: {ما تقدّم من ذنبك} فقال البقاعي: أيّ الذي تقدّم في القتال أمرك بالاستغفار له وهو ما تنتقل عنه من مقام كامل إلى مقام فوقه أكمل منه فتراه بالنسبة إلى أكملية المقام الثاني ذنباً. وكذا قوله تعالى: {وما تأخر} وقال الرازي: المغفرة المعتبرة لها درجات كما أن الذنوب لها درجات حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، وقال عطاء الخراساني: {ما تقدّم من ذنبك} يعني ذنب أبويك آدم وحوّاء ببركتك وما تأخر ذنوب أمّتك بدعوتك.
وقال سفيان الثوري: {ما تقدّم} ما عملت في الجاهلية {وما تأخر} كل شيء لم تعمله. قال البغوي: ويذكر مثل ذلك على سبيل التأكيد، كما يقال أعطى من رآه ومن لم يره. وقيل: ما تقدّم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد.
وقيل: المراد به ترك الأفضل. وقيل: الصغائر على طريق من جوّز الصغائر على الأنبياء وقيل المراد بالمغفرة: العصمة ومعنى قوله تعالى: {وما تأخر} قيل: إنه وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يذنب بعد النبوّة. وقيل: ما تقدم على الفتح وما تأخر عنه وقيل: المراد ذنب المؤمنين. وقيل: غير ذلك. والأولى في ذلك: هو الأوّل واختلف أيضاً في النعمة في قوله تعالى {ويتم نعمته عليك} فقال البقاعي: بنقلتك من عالم الشهادة إلى عالم الغيب ومن عالم الكون والفساد إلى عالم الثبات والصلاح الذي هو أخص بحضرته وأولى برحمته وإظهار أصحابك من بعدك على جميع أهل الملل.
وقال البيضاوي: بإعلاء الدين وضم الملك إلى النبوّة. وقال الجلال المحلي: بالفتح المذكور. وقيل: إن التكاليف عند الفتح تمت حيث وجب الحج وهو آخر التكاليف والتكليف نعمة. وقيل: بإجلاء الأرض لك عن معانديك فإنّ من يوم الفتح لم يبق للنبيّ صلى الله عليه وسلم عدو فإنّ بعضهم قتل يوم بدر والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح. وقيل ويتمّ نعمته عليك في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فباستجابة دعائك في طلب الفتح.
وفي الآخرة بقبول شفاعتك. وقيل غير ذلك والأوّل أولى واختلف أيضاً في معنى الهداية في قوله تعالى: {ويهديك صراطاً} أي: طريقاً {مستقيماً} أي: واضحاً جلياً. فقال البقاعي: أي بهداية جميع قومك.
ولما كانت هدايتهم من هدايته أضافها سبحانه إليه إعلاماً له أنها هداية تليق بجنابه الشريف سروراً له وقال البيضاوي: في تبليغ الرسالة وإقامة مراسم الرياسة. وقيل: يهدي بك. وقيل: يديمك على الصراط المستقيم. وقيل: جعل الفتح سبب الهداية إلى الصراط المستقيم لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بفوائده العاجلة والآجلة. وقيل: المراد التعريف، أي لتعرف أنك على صراط مستقيم.
{وينصرك الله} أي: على ملوك الأمم نصراً يليق إسناده إلى اسمه المحيط بسائر العظم {نصراً عزيزاً} أي: يغلب المنصور به كل من ناوأه ولا يغلبه شيء مع دوامه فلا ذّل بعده لأنّ الأمّة التي تتصف به لا يظهر عليها أحد والدين الذي قضاه لأجله لا ينسخه شيء، فإن قيل: إنّ الله تعالى وصف النصر بكونه عزيزاً والعزيز من له النصر أجيب من وجهين:
أحدهما: قال الزمخشري: إنه يحتمل وجوهاً ثلاثة:
الأوّل: معناه نصراً ذا عزة كقولك في عيشة راضية أي ذات رضا ثانيها: وصف النصر بما يوصف به المنصور إسناداً مجازياً يقال له: كلام صادق. كما يقال له متكلم صادق. ثالثها: المراد نصراً عزيزاً صاحبه.
الوجه الثاني: أن يقال إنما يلزم ما ذكره الزمخشري إذا(4/38)
قلنا العزة في الغلبة والعزيز الغالب، وأما إذا قلنا العزيز هو النفيس القليل النظير أو المحتاج إليه القليل الوجود يقال عز الشيء في سوق كذا أي قل وجوده مع أنه محتاج إليه فالنصر كان محتاجاً إليه ومثله لم يوجد وهو أخذ بيت الله تعالى من الكفار المقيمين فيه من غير عدد ولا عدد.
{هو} أي: وحده {الذي أنزل} أي: في يوم الحديبية وغيره {السكينة} أي: الثبات على الدين والطمأنينة {في قلوب المؤمنين} أي: الراسخين في الإيمان وهم أهل الحديبية بعد أن دهمهم فيها ما من شأنه أن يزعج النفوس ويزيغ القلوب من صدّ الكفار ورجوع الصحابة دون بلوغ مقصودهم فلم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن هاج الناس وزلزلوا حتى عمر مع أنه فاروق ومع وصفه في الكتب السالفة بأنه قرن من حديد فما الظنّ بغيره، وكان عند الصديق من القدم الثابت والأصل الراسخ ما علم به أنه لم يسابق ثم ثبتهم الله تعالى أجمعين. وقال الرازي: السكينة الثقة بوعد الله والصبر على حكم الله. وقيل: السكينة ههنا معنى يجمع فوزاً وقوة وروحاً يسكن إليه الخائف ويتسلى به الحزين.
وأثر هذه السكينة غير السكينة المذكورة في قوله تعالى: {يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم} (البقرة: 248)
ويحتمل أن تكون هي تلك لأنّ المقصود منها على جميع الوجوه اليقين وثبات القلب {ليزدادوا} أي بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال لهم: إنه لا بدّ أن تدخلوا مكة وتطوفوا بالبيت {إيماناً} عند التصديق بالغيب {مع إيمانهم} الثابت من قبل هذه الواقعة أو بشرائع الدين مع إيمانهم بالله واليوم الآخر وقال القشيري: بطلوع أقمار عين اليقين على نجوم علم اليقين ثم بطلوع شمس حق اليقين على بدر عين اليقين. وقال ابن عباس: بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدّقوا زادهم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، ثم الجهاد، حتى أكمل لهم دينهم فكلما أمروا بشيء فصدقوه ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم. وقال الضحاك: يقيناً مع يقينهم وقيل: ازدادوا إيماناً استدلالاً مع إيمانهم الفطري. فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى في حق الكفار {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} (آل عمران: 178)
ولم يقل مع كفرهم، وقال في حق المؤمنين {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} ؟ أجيب بأنّ كفر الكافر عنادي وليس في الوجود كفر فطري ولا في الإمكان كفر غير عنادي لينضم إلى الكفر العنادي بل الكفر ليس إلا عناداً وكذلك الكفر بالفروع، لا يقال انضم إلى الكفر بالأصول، لأنّ من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع وليس من ضرورة الإيمان بالأصول الإيمان بالفروع بمعنى الطاعة والانقياد. ولهذا قال تعالى {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} .
{ولله} أي: الملك الأعظم الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين {جنود السموات والأرض} فهو قادر على إهلاك عدوّه بجنوده بل بصيحة ولم يفعل بل أنزل السكينة على المؤمنين ليكون إهلاك أعدائه بأيديهم فيكون لهم الثواب وجنود السموات والأرض الملائكة. وقيل: جنود السموات الملائكة وجنود الأرض الجنّ والحيوانات. وقيل: الأسباب السماوية والأرضية {وكان الله} أي: الملك الأعظم أزلاً وأبداً {عليماً} أي: بالذوات والمعاني {حكيماً} في إتقان ما يصنع. وقوله تعالى:
{ليدخل} متعلق(4/39)
بمحذوف أي: أمر بالجهاد ليدخل {المؤمنين والمؤمنات} الذين جبلتهم جبلة خير بجهاد بعضهم ودخول بعضهم في الدين بجهاد المجاهدين، ولو سلط على الكفار جنوده من أوّل الأمر فأهلكوهم أو دمّر عليهم بغير واسطة لفات دخول أكثرهم الجنة، وهم من آمن منهم بعد صلح الحديبية {جنات} أي بساتين لا يصل إلى عقولكم من وصفها إلا ما تعرفونه بعقولكم وإن كان الأمر أعظم من ذلك {تجري من تحتها الأنهار} فأي موضع أردت أن تجري منه نهراً قدرت على ذلك؛ لأنّ الماء قريب من وجه الأرض مع صلابتها وحسنها {خالدين فيها} أي لا إلى آخر، فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى ذكر في بعض المواضع المؤمنين والمؤمنات وفي بعضها اكتفى بذكر المؤمنين ودخلت المؤمنات فيهم كقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} (المؤمنون: 1)
وقوله تعالى: {وبشر المؤمنين} (البقرة: 223)
أجيب بأنه في المواضع التي فيها ما يوهم اختصاص المؤمنين بالخير الموعود به مع مشاركة المؤمنات لهم ذكرهنّ الله تعالى صريحاً وفي المواضع التي فيها ما لا يوهم ذلك اكتفى بدخولهم في المؤمنين كقوله تعالى: {وبشر المؤمنين} ولما كان ههنا قوله تعالى: {ليدخل المؤمنين} متعلقاً بالأمر بالقتال والمرأة لا تقاتل فلا تدخل الجنة الموعود بها فصرح الله تعالى بذكرهنّ {ويكفر} أي يستر ستراً بليغاً {عنهم سيئاتهم} فلا يظهرها، فإن قيل: تكفير السيئات قبل الإدخال فكيف ذكره بعده أجيب بأنّ الواو لا تقتضي الترتيب بأنّ تكفير السيئات والمغفرة من توابع كون المكلف من أهل الجنة فقدم الادخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة {وكان ذلك} أي: الإدخال والتكفير {عند الله} أي: الملك الأعظم ذي الجلال والإكرام {فوزاً عظيماً} لأنه منتهى ما يطلب من جلب نفع ودفع ضر.
تنبيه: {عند} متعلق بمحذوف على أنه حال من {فوزاً} ولما كان من أعظم الفوز إقرار العين بالانتقام من العدوّ وكان العدوّ الكاتم أشدّ من المجاهر المراغم. قال تعالى:
{ويعذب المنافقين} المخفين للكفر المظهرين الإيمان أي: فيزيل كل ما لهم من العذوبة {والمنافقات} لما غاظهم من ازدياد الإيمان {والمشركين والمشركات} أي: المظهرين الكفر للمؤمنين وقدّم المنافقين على المشركين في كثير من المواضع؛ لأنهم كانوا أشدّ على المؤمنين من الكفار المجاهرين؛ لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر ويخالط المنافق لظنه إيمانه وكان يفشي أسراره وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك» ولهذا قال الشاعر:
*احذر عدوّك مرّة ... واحذر صديقك ألف مرّة*
*فلربما انقلب الصدي ... ق فكان أخبر بالمضرّة*
وقوله تعالى: {الظانين بالله} أي: المحيط بصفات الكمال صفة للفريقين وأما قوله تعالى {ظنّ السوء} فقال أكثر المفسرين: هو أن لا ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين {عليهم دائرة السوء} أي: دائرة ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم لا يتخطاهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بضم السين والباقون بالفتح. وهما لغتان كالكره والكره والضعف والضعف من ساء إلا أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه من كل شيء،(4/40)
وأمّا السوء فجار مجرى الشرّ الذي هو نقيض الخير {وغضب الله} أي: الملك الأعظم بما له من صفات الجلال والجمال فاستعلى غضبه {عليهم} وهو أنه تعالى يعاملهم معاملة الغضبان بما لا طاقة لهم به {ولعنهم} أي: طردهم طرداً أنزلوا به أسفل السافلين فبعدوا به عن كل خير {وأعد} أي: هيأ {لهم} الآن {جهنم} تلقاهم بالعبوسة والتغيظ والزفير والتجهم كما كانوا يتجهمون عباد الله مع ما فيها من العذاب والحرّ والبرد والإحراق وغير ذلك من أنواع المشاق {وساءت} أي: جهنم {مصيراً} أي: مرجعاً. وقوله تعالى:
{ولله} أي: الملك الأعظم {جنود السموات والأرض} تقدم تفسيره.
وفائدة الإعادة التأكيد وجنود السموات والأرض منهم من هو للرحمة، ومنهم من هو للعذاب وقدّم ذكر جنود السموات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة ليكون مع المؤمنين ملائكة الرحمة فتبشرهم على الصراط وعند الميزان، فإذا دخلوا الجنة أفضوا إلى جوار الله تعالى ورحمته والقرب منه فلا حاجة لهم بعد ذلك إلى شيء وأخرّ ذكر جنود السموات والأرض بعد ذكر تعذيب الكفار والمنافقين ليكون معهم جنود السخط فلا يفارقونهم أبداً كما قال تعالى {عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم} (التحريم: 6)
فإن قيل: قال الله تعالى {وكان الله عليماً حكيماً} (النساء: 17)
وقال هنا {وكان الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه أزلاً وأبداً {عزيزاً} أي: يغلب ولا يغلب {حكيماً} أي: يضع الشيء في أحكم مواضعه فلا يستطاع نقض شيء مما ينسب إليه أجيب: بأنه لما كان في جنود السموات والأرض من هو للرحمة ومن هو للعذاب وعلم الله تعالى ضعف المؤمنين ناسب أن تكون خاتمة الآية الثانية {وكان الله عزيزاً حكيماً} .
{إنا} أي: بما لنا من العز والحكمة {أرسلناك} أي: بما لنا من العظمة إلى الخلق كافة {شاهداً} على أفعالهم من كفر وإيمان وطاعة وعصيان من كان بحضرتك فبنفسك ومن كان بعد موتك أو غائباً عنك فبكتابك مع ما أيدناك به من الحفظة من الملائكة الكرام {ومبشراً} أي: لمن أطاع بأنواع البشائر {ونذيراً} أي مخوّفاً لمن خالفك وعصى أمرك بالنار. ثم بين تعالى فائدة الإرسال.
بقوله سبحانه: {ليؤمنوا بالله} أي: لا يسوغ لأحد من خلقه. والكل خلقه التوجه إلى غيره {ورسوله} أي: الذي أرسله من له كل شيء ملكاً وخلقاً إلى جميع خلقه {ويعزروه} أي يعينوه وينصرونه والتعزير نصر مع تعظيم {ويوقروه} أي: يعظموه والتوقير التعظيم والتبجيل {ويسبحوه} من التسبيح الذي هو التنزيه عن جميع النقائص أو من السبحة وهي الصلاة. قال الزمخشري: والضمائر لله عز وجلّ: والمراد بتعزير الله تعزير دينه ورسوله ومن فرّق الضمائر فقد أبعد. وقال غيره: الكنايات في قوله {ويعزروه ويوقروه} راجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها تم الكلام فالوقف على {ويوقروه} وقف تامّ ثم يبتدئ بقوله تعالى: {ويسبحوه} {بكرةً وأصيلاً} أي غدوةً وعشياً أي دائماً وعن ابن عباس صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر على أنّ الكناية في {ويسبحوه} راجعة إلى الله عز وجلّ وقال البقاعي: الأفعال الثلاثة يحتمل أن يراد بها الله تعالى لأنّ من سعى في قمع الكفار فقد فعل فعل المعزر الموقر، فيكون إما عائداً على المذكور وإمّا أن يكون جعل الأسمين واحداً إشارة إلى اتحاد المسميين(4/41)
في الأمر فلما اتحد أمرهما وحد الضمير إشارة إلى ذلك ا. هـ فعنده أنه يصح رجوع الثلاثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه فسر {ويسبحوه} بقوله ينزهوه عن كل وخيمة باختلاف الوعد بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام ونحو ذلك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالياء في الأربعة على الغيبة رجوعاً إلى قوله تعالى {ليدخل المؤمنين والمؤمنات} والباقون بالتاء على الخطاب ولما بين تعالى أنه مرسل ذكر أنّ من بايع رسوله فقد بايعه. فقال تعالى:
{إنّ الذين يبايعونك} يا أشرف الرسل بالحديبية على أن لا يفروا {إنما يبايعون الله} أي: الملك الأعظم لأنّ عملك كله من قول أو فعل له تعالى وما ينطق عن الهوى وسميت مبايعة لأنهم باعوا أنفسهم فيها من الله تعالى بالجنة قال الله تعالى: {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة} (التوبة: 111)
الآية «وروى يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع على أيّ شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قال: على الموت» وعن معقل بن يسار قال: «لقد رأيتني يوم الشجرة والنبيّ صلى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه ونحن أربعة عشر مائة قال: لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفرّ» قال أبو عيسى: معنى الحديثين صحيح بايعه جماعة على الموت. أي لا نزال نقاتل بين يديك ما لم نقتل وبايعه آخرون وقالوا: لا نفر. وقوله تعالى: {يد الله} أي: المتردّي بالكبرياء {فوق أيديهم} أي: في المبايعة يحتمل وجوهاً وذلك أنّ اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنى واحد وإمّا أن تكون بمعنيين فإن كانت بمعنى واحد ففيه وجهان: أحدهما قال الكلبي: نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة كما قال تعالى: {بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان} (الحجرات: 17)
ثانيهما: قال ابن عباس ومجاهد: يد الله بالوفاء بما وعدهم من النصر والخير أقوى وأعلى من نصرتهم إياه. يقال: اليد لفلان أي الغلبة والقوة. وإن كانت بمعنيين ففي حق الله تعالى بمعنى الحفظ. وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة. قال السدّي: كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبايعونه ويد الله تعالى فوق أيديهم في المبايعة وذلك أنّ المتبايعين إذا مدّ أحدهما يده إلى الآخر في البيع وبينهما ثالث يضع يده على أيديهما ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ولا يترك أحدهما يترك يد الآخر لكي يلزم العقد ولا يتفاسخان فصار وضع اليد فوق الأيدي سبباً لحفظ البيعة فقال تعالى: {يد الله فوق أيديهم} يحفظهم على البيعة كما يحفظ المتوسط أيدي المتبايعين. قال البقاعي: فلعنة الله على من حمله على الظاهر من أهل العناد ببدعة الاتحاد وعلى من تبعهم على ذلك من الذين شاقوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وسائر الأئمة الأعلام ورضوا لأنفسهم بأن يكونوا أتباع فرعون اللعين وناهيك به من ضلال مبين ا. هـ وقد مرّ أنّ التأويل في الآيات المتشابهات مذهب الخلف، ومذهب السلف السكوت عن التأويل وإمرار الصفات على ما جاءت وتفسيرها قراءتها والإيمان بها من غير تشبيه ولا تكييف ولا تعطيل. {فمن نكث} أي: نقض البيعة في وقت من الأوقات فجعلها كالكساء والحبل البالي الذي ينقض {فإنما ينكث} أي: يرجع وبال نقضه {على نفسه} أي: فلا يضرّ إلا هي {ومن أوفى} أي: فعل الإتمام والإكثار والإطالة {بما عاهد} وقدم الظرف في قوله(4/42)
{عليه الله} أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من هذه المبايعات وغيرها اهتماماً به. وقرأ حفص بضم الهاء قبل الاسم الجليل والباقون بكسر الهاء والترقيق {فسيؤتيه} بوعد مؤكد لا خلف فيه {أجراً عظيماً} لا تسع عقولكم شرح وصفه. قال ابن عادل: والمراد به الجنة وقرأ أبو عمرو والكوفيون بالياء التحتية والباقون بالنون.
ولما ذكر تعالى أهل بيعة الرضوان وأضافهم إلى حضرة الرحمن ذكر من غاب عن ذلك الجناب وأبطأ عن حضرة تلك العمرة. بقوله تعالى:
{سيقول} أي: بوعد لا خلف فيه {لك} أي: لأنهم يعلمون شدّة رحمتك ورفقك وشفقتك على عباد الله فهم يطمعون في قبولك من فاسد عذرهم ما لا يطمعون فيه من غيرك من خلص المؤمنين {المخلفون} أي: الذين خلفهم الله تعالى عنك فلم يرضهم لصحبتك في هذه العمرة فجعلهم كالشيء التافه الذي يخلفه الإنسان لأنه لا فائدة فيه فلا يعبأ به. وقال تعالى: {من الأعراب} ليخرج من تخلف بالجسد من خلص الأنصار وغيرهم ممن كان حاضراً معه صلى الله عليه وسلم بالقلب. قال ابن عادل وابن عباس ومجاهد: يعني بالأعراب أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم. «وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً استنفر من حول المدينة من الأعراب والبوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت فأحرم بالعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنه لا يريد حرباً فتثاقل كثير من الأعراب وتخلفوا واعتلوا بالشغل فأنزل الله تعالى فيهم {سيقول لك المخلفون} » أي: الذي خلفهم الله تعالى من الأعراب عن صحبتك إذا رجعت إليهم من عمرتك وعاتبتهم على التخلف {شغلتنا} أي: عن إجابتك في هذه العمرة {أموالنا وأهلونا} أي: النساء والذراري فأنا لو تركناهم لضاعوا لأنه لم يكن لنا من يقوم بهم وأنت قد نهيت عن ضياع المال والتفريط في العيال ثم سببوا عن هذا القول المراد به السوء قولهم {فاستغفر} أي اطلب المغفرة {لنا} من الله تعالى إن كنا أخطأنا وقصرنا فكذبهم الله تعالى في اعتذارهم بقوله سبحانه وتعالى {ويقولون بألسنتهم} أي: في الشغل والاستغفار وأكد ما أفهمه ذكر اللسان من أنه قول ظاهري نفياً للكلام الحقيقي الذي هو النفسي بكل اعتبار بقوله تعالى: {ما ليس في قلوبهم} لأنهم لم يكن لهم شغل ولا كانت لهم نية في سؤال
الاستغفار فإنهم لا يبالون استغفر لهم الرسول أم لا {قل} يا أشرف الرسل لهؤلاء الأغبياء واعظاً لهم مسبباً عن مخادعتهم لمن لا تخفى عليه خافية إشارة إلى أنّ العاقل يقبح عليه أن يقدم على ما هو بحيث تخشى عواقبه {فمن يملك لكم} أي: أيها المخادعون {من الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه لأنه لا كفء له {شيأ} يمنعكم {إن أراد بكم ضرّاً} أي: نوعاً من أنواع الضرّ عظيماً أو حقيراً فأهلك الأموال والأهلين وأنتم محتاطون في حفظها فلم ينفعها حضوركم وأهلككم أنتم.
وقرأ حمزة والكسائي: بضم الضاد والباقون بفتحها {أو أراد بكم نفعاً} يحفظهما به في غيبتكم فلا يضرّهم بعدكم عنهم ويحفظكم في أنفسكم {بل كان الله} أي: المحيط أزلاً وأبداً بكل شيء قدرةً وعلماً {بما تعملون} أي أيها الجهلة {خبيراً} يعلم بواطن أموركم هذه وغيرها كما يعلم ظواهرها.
{س48ش12/ش15 بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى? أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَالِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمَ?ابُورًا * وَمَن لَّمْ يُؤْمِن? بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ? فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَا?رْضِ? يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ? وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ? يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا? كَلَامَ اللَّهِ? قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ? فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا? بَلْ كَانُوا? يَفْقَهُونَ إِs قَلِي?}
{بل ظننتم} أي: فأنتم واقفون مع الظنون الظاهرة ليس(4/43)
لكم نفوذ إلى البواطن. وقرأ الكسائي: بإدغام اللام في الظاء والباقون بالإظهار وأشار إلى تأكد ظنهم على زعمهم بقوله تعالى {أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً} أي: ظننتم أنّ العدوّ يستأصلهم ولا يرجعون لما في قلوبكم من عظمة المشركين وحقارة المؤمنين فحملكم ذلك على أن قلتم ما هم في قريش إلا أكلة رأس، فإن قيل: ما الفرق بين حرفي الإضراب أجيب: بأنّ الإضراب الأول إضراب معناه ردّ أن يكون حكم الله أن لا يتبعوه وإثبات الحسد والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين أي وصفهم بما هو أعمّ منه وهو الجهل وقلة الفقه {وزين ذلك} أي: الأمر القبيح الذي هو خراب الدنيا {في قلوبكم} حتى قلتموه {وظننتم} أي: بذلك وغيره مما يترتب عليه من إظهار الكفر وما يتفرّع عنه {ظنّ السوء} أي: الذي لم يدع شيئاً مما يكره غاية الكراهة إلا أحاط به وقوله تعالى: {وكنتم قوماً بوراً} جمع بائر أي هالكين عند الله تعالى بهذا الظنّ وهذا بالنظر إلى الجمع من حيث هو جمع لا بالنسبة إلى كل فرد فإنه قد أخلص منهم بعد ذلك كثير وثبتوا ولم يرتدّوا.
{ومن لم يؤمن} أي: منكم ومن غيركم {بالله} أي: الذي لا موجود على الحقيقة سواه {ورسوله} أي: الذي أرسله لإظهار دينه {فإنا} على مالنا من العظمة {اعتدنا} أي: له هكذا كان الأصل ولكنه قال تعالى معلللاً للحكم بالوصف {للكافرين} إيذاناً بأنه لم يجمع الإيمان بهما فهو كافر وأعدّ له {سعيراً} أي: ناراً شديدة.
{ولله} أي: الملك الأعظم وحده {ملك السموات والأرض} أي: من الجنود وغيرها يدبر ذلك كله كيف يشاء {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} أي: لا اعتراض لأحد عليه لأنه لا يجب عليه شيء ولا يكافئه أحد وليس هو كالملوك الذين لا يتمكنون من مثل ذلك لكثرة الأكفاء المعارضين لهم في الجملة وعلم من هذا أنّ منهم من يرتدّ فيعذبه ومنهم من يثبت على الإسلام فيغفر له لأنه لا يعذب بغير ذنب وإن كان له أن يفعل ذلك لأنه لا يسئل عما يفعل وملكه تامّ فتصرفه فيه عدل كيف كان {وكان الله} أي: المحيط بصفات الكمال أزلاً وأبداً لم يتجدّد له شيء لم يكن {غفوراً} أي: لذنوب المسيئين {رحيماً} أي: مكرماً ما بعد الستر بما لا تسعه العقول وقدرته على الإنعام كقدرته على الانتقام.
{سيقول} أي: بوعد لا خلف فيه {المخلفون} أي: الذين تخلفوا عن الحديبية {إذا انطلقتم} أي: سرتم أيها المؤمنون {إلى مغانم لتأخذوها} أي: مغانم خيبر. وذلك أنّ المؤمنين لما انصرفوا من الحديبية على صلح من غير قتال ولم يصيبوا من المغانم شيئاً وعدهم الله تعالى فتح خيبر وجعل غنائمها لم شهد الحديبية خاصة عوضاً عن غنائم أهل مكة حيث انصرفوا عنهم ولم يصيبوا منهم شيئاً {ذرونا} أي: على أيّ حالة شئتم من الأحوال الدنيئة {نتبعكم} أي: إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها وفي هذا بيان كذب المخلفين عن الحديبية حيث قالوا شغلتنا أموالنا وأهلونا إذ لم يكن لهم هناك طمع في الغنيمة وهنا قالوا ذرونا نتبعكم حيث كان لهم طمع في الغنيمة {يريدون} أن بذهابهم معكم {أن يبدّلوا كلام الله} أي: يريدون أن يغيروا مواعيد الملك الأعظم لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة وهذا قول جمهور المفسرين.
وقال مقاتل: يعني أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حيث أمره أن لا يسير معه منهم أحد(4/44)
إلى خيبر. وقال ابن زيد: هو أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما تخلف القوم أطلعه الله تعالى على ظنهم وأظهر له نفاقهم وقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم {فإذا استأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً} (التوبة: 83)
وقرأ حمزة والكسائي: بكسر اللام بعد الكاف ولا ألف بعد اللام والباقون بفتح اللام وألف بعدها {قل} يا أشرف الخلق لهؤلاء المبعدين إذا بلغك كلامهم أنت بنفسك فإنّ غيرك لا يقوم مقامك في هذا الأمر المهمّ قولاً مؤكداً {لن تتبعونا} أي: وإن اجتهدتم في ذلك وساقه مساقه النفي وإن كان المراد به النهي مع كونه آكد ليكون علماً من أعلام النبوّة وهو أزجر وأدل على استهانتهم {كذلكم} أي مثل هذا القول البديع الشأن العالي الرتبة {قال الله} أي: الذي لا يكون إلا ما يريد وليس هو كالملوك الذين لا قدرة لهم على الغفران لمن شاؤوا والعقاب لمن شاؤوا {من قبل} أي: من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب ولما كانوا منافقين لا يعتقدون شيئاً من هذه الأقوال بل يظنون أنها حيل على التوصل إلى المرادات الدنيوية سبب عن قوله لهم ذلك قوله تعالى تنبيهاً على جلافتهم وفساد ظنونهم {فسيقولون} ليس الأمر كما ذكر مما ادعى أنه قول الله تعالى {بل} إنما قلتم ذلك لأنكم {تحسدوننا} فلا تريدون أن يصل إلينا من مال الغنائم شيء وقرأ هشام وحمزة والكسائي بإدغام اللام في التاء والباقون بالإظهار. {بل كانوا} أي: جبلة وطبعاً {لا يفقهون} أي: لا يفهمون فهم الحاذق الماهر {إلا قليلاً} أي: في أمر دنياهم ومن ذلك اقرارهم باللسان لأجلها، وأمّا أمور الآخرة فلا يفهمون منها شيئاً.
{قل} أي: يا أشرف الرسل {للمخلفين} وزاد في ذمّهم بنسبتهم إلى الجلافة بقوله تعالى {من الأعراب} أي: أهل غلظ الأكباد {ستدعون} بوعد لا خلف فيه {إلى قوم أولي} أي: أصحاب {بأس شديد} أي: شدّة في الحرب وشجاعة قال ابن عباس ومجاهد: هم أهل فارس. وقال كعب: الروم. وقال الحسن: فارس والروم. وقال: سعيد بن جبير: هوازن وثقيف. وقال قتادة: هوازن وغطفان قوم حنين. وقال الزهري ومقاتل وجماعة: هم بنو حنيفة أصحاب اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج: كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة: لم يأت تأويل هذه الآية بعد قال ابن الخازن: وأقوى هذه الأقوال قول من قال أنهم هوازن وثقيف، لأنّ الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده قول من قال أنهم بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب وقوله تعالى {تقاتلونهم أو يسلمون} فيه إشارة إلى وقوع أحد الأمرين إما المقاتلة منكم وإمّا الإسلام منهم فإن لم يسلموا كان القتال لا غير وإن أسلموا لم يكن قتال لأنّ الغرض ليس إلا إعلاء كلمة الله تعالى {فإن تطيعوا} أي: توقعوا الطاعة للداعي إلى ذلك {يؤتكم الله} أي: الذي له الإحاطة {أجراً حسناً} دنيا وهو الغنيمة وأخرى وهي الجنة {وإن تتولوا} أي تعرضوا عن الجهاد {كما توليتم من قبل} أي عام الحديبية {يعذبكم} أي يخالطكم بعقوبة تزيل العذوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما {عذاباً أليماً} لأجل تكرّر ذلك منكم فلما أنزلت هذه الآية، قال أهل الزمانة كيف بنا يا رسول الله فأنزل الله عز وجلّ.(4/45)
{ليس على الأعمى} أي: في تخلفه عن الدعاء إلى الخروج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم أو مع غيره من أئمة الهدى {حرج} أي: ميل بثقل الإثم لأنه لا يمكنه الإقدام على العدوّ والطلب ولا يمكنه الاحتراز منه ولا الهرب {ولا على الأعرج} وإن كان نقصه أدنى من نقص الأعمى {حرج} وفي معنى الأعرج الزمن المقعد والأقطع {ولا على المريض} أي: بأي مرض كان يمنعه {حرج} وفي معناه صاحب السعال الشديد والطحال الكبير والذين لا يقدرون على الكرّ والفرّ فهذه أعذار مانعة من الجهاد ظاهرة، ومن وراء ذلك أعذار أخر دون ما ذكر كتمريض المريض الذي ليس له من يقوم مقامه عليه.
تنبيه: جعل تعالى كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الحكم وقدم الأعمى على الأعرج لأنّ عذر الأعمى مستمر لا يمكن الانتفاع به في حرس ولا غيره بخلاف الأعرج وقدم الأعرج على المريض لأنّ عذره أشد من عذر المريض لإمكان زوال المرض عن قرب.
{ومن يطع الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال المفيض من آثار صفاته على من يشاء ولو كان ضعيفاً. المانع منها من يشاء وإن كان قوياً {ورسوله} من المعذورين وغيرهم فيما ندبا إليه بأيّ طاعة كانت {يدخله} أي: الله الملك الأعظم جزاء له {جنات تجري من تحتها الأنهار} أي: من أيّ موضع أردت أجريت نهراً {ومن يتولّ} أي يعرض عن الطاعة ويستمّر على الكفر والنفاق {يعذبه} أي على توليه في الدارين أو إحداهما {عذاباً أليماً} أي مؤلماً وقرأ نافع وابن عامر ندخله ونعذبه بالنون فيهما والباقون بالياء التحتية ولما بين تعالى حال المخلفين بعد قوله تعالى {إنّ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} عاد إلى حال بيان المبايعين. بقوله تعالى:
{لقد رضي الله} أي: الذي له الجلال والكمال {عن المؤمنين} أي: الراسخين في الإيمان أي فعل بهم فعل الراضي بما جعل لهم من الفتح وما قدّر لهم من الثواب وأفهم ذلك أنه لم يرض عن الكافرين فخذلهم في الدنيا مع ما أعدّ لهم في الآخرة فالآية تقرير لما ذكر من جزاء الفريقين بأمور مشاهدة وقوله تعالى {إذ} أي: حين {يبايعونك} منصوب برضى واللام في قوله تعالى {تحت الشجرة} للعهد الذهني وكانت شجرة في الموضع الذي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم نازلاً به في الحديبية ولأجل هذا الرضا سميت بيعة الرضوان وقصتها «أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام حين نزل الحديبية بعث جواس بن أمية الخزاعي رسولاً إلى أهل مكة فهموا به فمنعه الأحابيش واحدها حبوش وهو الفوج من قبائل شتى فلما رجع دعا عمر ليبعثه فقال: إني أخافهم على نفسي لما أعرف من عدواتي إياهم وما بمكة عدوي يمنعني ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني وأحب إليهم عثمان بن عفان فبعثه فخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحرمته فوقروه وقالوا: إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل فقال ما أفعل قبل أن يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتبس عندهم فأرجف أنهم قتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نبرح حتى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه تحت الشجرة» روى البغوي من طريق الثعلبي «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» وقال سعيد بن المسيب: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت(4/46)
الشجرة قال فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها. وروي أنّ عمر مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال: أين كانت فجعل بعضهم يقول ههنا وبعضهم يقول ههنا فلما كثر اختلافهم قال سيروا قد ذهبت الشجرة. وروى جابر بن عبد الله قال: «قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أنتم خير أهل الأرض وكنا ألفاً وأربعمائة
ولو كنت اليوم مبصراً لأريتكم مكان الشجرة» .
وقيل: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في أصل الشجرة وعلى ظهره غصن من أغصانها قال عبد الله بن المغفل: وكنت قائماً على رأسه وبيدي غصن من الشجرة أذب عنه فرفعت الغصن عن ظهره وبايعوه على الموت دونه على أن يفرّوا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم اليوم خير أهل الأرض» وكان عدد المبايعين ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين. وروى سالم عن جابر قال: كنا خمس عشرة مائة. وقال عبد الله بن أبي أوفى: كنا أصحاب الشجرة ألفاً وثلاثمائة. ولما دل على إخلاصهم بما وصفهم سبب عنه قوله تعالى {فعلم} أي: بما له من الإحاطة {ما في قلوبهم} أي: من الصدق والوفاء فيما بايعوا عليه {فأنزل السكينة} أي الطمأنينة والأمن بسبب الصلح {عليهم} أو بالتشجيع وسكون النفس في كل حالة ترضي الله ورسوله فلم يخافوا عاقبة القتال لما ندبوا إليه وإن كانوا في كثرة الكفار كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود {وأثابهم} أي: أعطاهم جزاء لهم على ما وهبوه من الطاعة {فتحاً قريباً} هو فتح خيبر عقب انصرافهم. وعن الحسن: فتح هجر، ونبه تعالى بصيغة منتهى الجموع في قوله تعالى.
{ومغانم} على أنها عظيمة ثم صرّح بذلك بقوله تعالى {كثيرة تأخذونها} وهي مغانم خيبر وكانت أرضاً ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم {وكان الله} أي: الذي لا كفء له {عزيزاً} يغلب ولا يغلب {حكيماً} أي: يقضي ما يريد فلا ينقض فحكم لكم بالغنائم ولإعدائكم بالهلاك على أيديكم ليثيبكم عليه.
{وعدكم الله} أي: الملك الأعظم {مغانم} وحقق معناها بقوله تعالى: {كثيرة تأخذونها} أي: فيما يأتي من بلدان شتى لا تدخل تحت حصر. وليس المغانم كل الثواب بل الجنة والنظر إلى وجهه الكريم قدّامهم. وإنما هي كعاجلة عجل بها ولهذا قال تعالى: {فعجل لكم} أي: من الغنائم {هذه} أي: مغانم خيبر {وكف أيدي الناس عنكم} «وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قصد خيبر وحاصر أهلها همت قبائل من أسد وغطفان أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم بالمدينة فكف الله تعالى أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم فنكصوا» وقيل: أيدي أهل مكة بالصلح. وقوله تعالى: {ولتكون} أي: هذه المعجلة عطف على مقدّر أي لتشكروه ولتكون {آية} أي: علامة في غاية الوضوح {للمؤمنين} أي: أنهم من الله تعالى بمكان أو صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في وعدهم فتح خيبر في حين رجوعه من الحديبية أو وعدهم الغنم أو عنواناً لفتح مكة.
{ويهديكم صراطاً} أي: طريقاً {مستقيماً} أي: يثبتكم على الإسلام ويزيدكم بصيرة ويقيناً بصلح الحديبية وفتح خيبر. «وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المحرّم ثم خرج في سنة سبع إلى خيبر» روى أنس بن مالك «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن(4/47)
يغزو بنا حتى يصبح ينظر فإن سمع أذاناً كف عنهم وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم قال فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلاً فلما أصبح ولم يسمع أذاناً ركب وركبنا وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومساحيهم فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله محمد والخميس أي الجيش فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» وروى إياس بن سلمة قال: حدّثني أبي قال: «خرجنا إلى خبير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجعل عمي عامر يرنجز بالقوم ثم قال:
*تالله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدّينا ولا صلينا*
*ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبت الأقدام إن لاقينا*
* ... وأنزلن سكينة علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا، قال: أنا عامر فقال: غفر لك ربك وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد إلا استشهد قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له يا نبيّ الله لولا متعتنا بعامر قال فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول:
*قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب*
* ... إذا الحروب أقبلت تلتهب
قال: فبرز له عامر بن عثمان فقال:
*قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مقامر*
فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر فرجع سيف عامر على نفسه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه قال: فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلت: يا رسول الله بطل عمل عامر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال ذلك قلت ناس من أصحابك قال: من قال ذلك بل له أجره مرتين ثم أرسلني إلى عليّ وهو أرمد فقال: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فأتيت علياً فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق في عينيه فبرئ وأعطاه الراية وخرج مرحب وقال:
*أنا الذي سمتني أمي مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرّب*
فقال علي كرّم الله تعالى وجهه:
*أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظرة*
* ... أكيلكم بالسيف كيل السندرة*
قال: فضرب رأس مرحب فقتله. ثم كان الفتح على يديه» ومعنى أكيلكم بالسيف كيل السندره أي: أقتلكم قتلاً واسعاً ذريعاً. والسندرة مكيال واسع. قيل: يحتمل أن يكون اتخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النبل والقسي. والسندرة أيضاً العجلة والنون زائدة قال ابن الأثير وذكرها الجوهري في هذا الباب ولم ينبه على زيادتها. وروي فتح خيبر من طرق أخر في بعضها(4/48)
زيادات وفي بعضها نقصان عن بعض. وقوله تعالى:
{وأخرى} صفة مغانم مقدّراً مبتدأ وقيل: هي مبتدأ والخبر {لم تقدروا عليها} وهي كما قال ابن عباس: فارس والروم وما كانت العرب تقدر تقاتل فارس والروم بل كانوا خولاً لهم حتى قدروا عليهما بالإسلام. وقال الضحاك: هي خيبر وعدها الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصيبها ولم يكونوا يرجونها. وقال قتادة: هي مكة. وقال عكرمة: حنين. وقال البقاعي: هي والله أعلم غنائم هوازن التي لم يحصل قبلها ما يقاربها. {قد أحاط الله} أي: المحيط بكل شيء قدرةً وعلماً {بها} أي: علم أنها ستكون لكم {وكان الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال أزلاً وأبداً {على كل شيء} منها ومن غيرها {قديراً} أي: بالغ القدرة لأنه بكل شيء عليم.
{ولو قاتلكم الذين كفروا} وهم أهل مكة ومن وافقهم وكانوا قد اجتمعوا وجمعوا الأحابيش ومن أطاعهم وقدّموا خالد بن الوليد طليعة لهم إلى كراع الغميم ولم يكن أسلم بعد {لولوا} أي: بغاية جهدهم {الأدبار} منهزمين {ثم} أي: بعد طول الزمان وكثرة الأعوان {لا يجدون} أي: في وقت من الأوقات {ولياً} أي: من يفعل معهم فعل القريب من الشفقة {ولا نصيراً} ينصرهم ولما كانت هذه عادة جارية قديمة مع أولياء الله تعالى حيثما كانوا من الرسل وأتباعهم {وإنّ جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 173)
قال تعالى: {سنة الله} أي: سنّ المحيط بكل شيء علماً غلبة أنبيائه وأتباعهم {التي قد خلت من قبل} أي: فيمن مضى من الأمم. كما قال تعالى: {لأغلبنّ أنا ورسلي} (المجادلة: 21)
{ولن تجد} أيها السامع {لسنة الله} أي: الذي لا يخلف قوله، لأنه محيط بجميع صفات الكمال {تبديلاً} أي: تغييراً من مغيّر ما يغيرها بما يكون بدلها ثم عطف على ما تقديره هو الذي سنّ هذه السنة العامة.
قوله تعالى: {وهو الذي كف} أي: وحده {أيديهم} أي: الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم. فإنّ الكف مشروع لكل أحد {عنكم وأيديكم} أيها المؤمنون {عنهم ببطن مكة} أي: بالحديبية وقيل التنعيم. وقيل وادي مكة. وقيل: داخل مكة {من بعد أن أظفركم} أي: أظهركم {عليهم} وهذا تبيين لما تقدّم من قوله تعالى: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار} (الفتح: 22)
بتقدير أنه كما كف أيديهم عنكم بالفرار وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم روى ثابت عن أنس بن مالك «أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخذهم سلماً فاستحياهم فنزلت هذه الآية» . وقال عبد الله بن مغفل المزني: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن وعلى ظهره غصن من أغصان تلك الشجرة فرفعته عن ظهره وعلي بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله أبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جئتم في عهد أو هل جعل لكم أحد أماناً قالوا: اللهم لا فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى هذه الآية وعن ابن عباس أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت وقيل: إن ذلك كان يوم فتح مكة وبه استشهد أبو حنيفة على أنّ مكة فتحت عنوة لا صلحاً {وكان الله} أي: المحيط بالجلال والإكرام أزلاً وأبداً وقرأ {بما يعملون} أبو عمرو: بالياء(4/49)
التحتية أي الكفار.
والباقون بالتاء الفوقية، أي: أنتم {بصيرا} أي: محيط العلم ببواطن ذلك كما هو محيط بظواهره ولما كان ما مضى من وصف الكفار يشمل كفار مكة وغيرهم عينهم بسبب كفهم النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن البيت الحرام.
بقوله تعالى: {هم} أي: أهل مكة ومن لاقهم {الذين كفروا} أي: أوغلوا في هذا الوصف ببواطنهم وظواهرهم {وصدّوكم} زيادة على كفرهم في عمرة الحديبية {عن المسجد الحرام} أي: منعوكم الوصول إلى مكة ونفس المسجد والكعبة للإحلال مما أنتم فيه من شعائر الإحرام بالعمرة.
روى الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم كل منهما يصدق حديث صاحبه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه يريد زيارة البيت لا يريد قتالاً وساق معه سبعين بدنة والناس سبعمائة رجل وكانت كل بدنة عن عشرة نفر فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الإشطاط قريباً من عسفان أتاه عتبة الخزاعي.
وقال: إنّ قريشاً قد جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت الحرام.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أشيروا عليّ أيها الناس أترون أني أميل على ذراري هؤلاء الذين عاونوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين وإن لجوا تكن عنقاً قطعها الله أو ترون نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه فقال أبو بكر يا رسول الله إنما جئت عامداً لهذا البيت لا نريد قتال أحد ولا حرباً فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه قال امضوا على اسم الله فنفروا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ خالداً بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بغبرة الجيش فانطلق يركض نذيراً لقريش وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته. فقال الناس: حل حل فألحت فقالوا: خلأت أي حرنت القصواء.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمات الله وفيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت. قال: فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل من الماء يتبرضه الناس تبرضاً فلم تلبث الناس أن نزحوه وشكا الناس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم العطش فنزع سهماً من كنانته وأعطاه رجلاً من أصحابه يقال له ناجية بن عمير وهو سائق بدن النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزل في البئر فغرزه في جوفه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب ابن لؤي وعامر بن لؤي نزلا مع جمع أعداد مياه الحديبية ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت الحرام فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين وإنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم مدّة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن أبوا(4/50)
فو الذي نفسي بيده لاقاتلنهم على أمري. هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره فقال بديل: سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشاً فقال: إنا قد جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا. فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود الثقفي فقال: أي قوم ألستم بالوالد. قالوا: بلى قال: أولست بالولد. قالوا بلى. فقال فهل تتهموني قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني. قالوا: بلى. قال:
فإنّ هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته قالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت أحداً من العرب اجتاح أصله قبلك وإن تكن الأخرى فو الله إني أرى وجوهاً وأشواباً من الناس خليقاً أن يفرّوا ويدعوك. فقال له أبو بكر الصدّيق: امصص بظر اللات والعزى أنحن نفر عنه وندعه. فقال: من ذا. قالوا: أبو بكر فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة قائم على رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه وقال: من هذا قالوا: المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك. وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم أمّا الإسلام فهدم ما قبله وأمّا المال فلست منه في شيء ثم إنّ عروة جعل يرمق أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بعينيه قال: فو الله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن أي ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً والله إن أي ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم وما يجدون النظر إليه تعظيماً له وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل من بني كنانة دعوني آته فقالوا: ائته فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا فلان من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثوها له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدّوا عن البيت.
ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان يومئذ سيد الأحابيش. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنّ هذا من قوم يتألهون فابعثوا بالهدي في وجهه حتى يراه(4/51)
فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوتاده من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما لا يحل صدّه. الهدي في قلائده قد أكل أوتاده من طول الحبس عن محله.
قالوا له: اجلس فإنما أنت رجل أعرابيّ لا علم لك فغضب الحليس عند ذلك، وقال: يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أن تصدّوا عن بيت الله من جاءه معظماً له والذي نفس الحليس بيده لتخلنّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد.
فقالوا: مه كف عنايا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به فقام رجل يقال له مكرز بن حفص. فقال: دعوني آته فقالوا له ائته فلما أشرف عليهم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاءه سهيل بن عمر. وقال عكرمة: لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: قد سهل لكم من أمركم قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات نكتب بيننا وبينك كتاباً فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: أمّا الرحمن فلا أدري من هو ولكن اكتب باسمك اللهمّ كما كنت تكتب فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعلي: اكتب باسمك اللهمّ. ثم قال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله.
قال الزهري: وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» . فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو واصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن الناس فيه ويكف بعضهم عن بعض فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل: والله لا تتحدّث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذاك من العام المقبل. فكتب فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا فقال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً. وروى ابن إسحاق عن البراء قصة الصلح وفيها قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد الله قال: أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله ثم قال لعلي: امح رسول الله فقال: والله لا أمحوك أبداً فقال فأرينه فأراه إياه فمحاه النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده.
وفي رواية فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد الله قال البراء: صالح على ثلاثة أشياء على أنّ من أتى من المشركين يردّه إليهم ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه على أن يدخلها من قابل ويقيم بها ثلاثة أيام ولا يدخلها بجلبان السلاح السيف والقوس ونحوه. وروى في صلح الحديبية طرق أخر في بعضها زيادات وفي بعضها نقصان عن بعض. وقوله تعالى {والهدي} معطوف على كم من صدوكم أي وصدوا الهدي وهو البدن التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت سبعين.
وقوله تعالى: {معكوفاً} أي: محبوساً حال وقوله تعالى:(4/52)
{أن يبلغ محله} أي: مكانه الذي ينحر فيه عادة وهو الحرم بدل اشتمال {ولولا رجال} أي: مقيمون بين أظهر الكفار بمكة {مؤمنون} أي: غريقون في الإيمان فكانوا لذلك أهلاً للوصف بالرجولية {ونساء مؤمنات} أي: كذلك حبس الكل عن الهجرة العذر لأنّ الكفار لكثرتهم استضعفوهم فمنعوهم الهجرة، على أنّ ذلك شامل لمن جبله الله تعالى على الخير وعلم منه الإيمان وإن كان في ذلك الوقت كافراً {لم تعلموهم} أي: لم يحط علمكم بهم من جميع الوجوه لتميزوهم بأعيانهم عن المشركين لأنهم ليس لهم قوّة التمييز منهم وأنتم لا تعرفون أماكنهم لتعاملوهم بما هم له أهل ولا سيما في حال الحرب والطعن والضرب ثم أبدل من الرجال والنساء قوله تعالى: {أن تطؤهم} أي تؤذوهم بالقتل أو ما يقاربه من الجراح والضرب والنهب ونحو ذلك.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهمّ أشدد وطأتك على مضر» {فتصيبكم} أي: فيتسبب عن هذا الوطء أن تصيبكم {منهم} أي: من جهتهم وبسببهم {معرّة} أي: مكروه كوجوب الدية والكفارة بقتلهم والتأسف عليهم وتغيير الكفار بذلك والإثم بالتقصير في البحث مفعلة من عرّه إذا عراه ما يكرهه وقوله تعالى: {بغير علم} متعلق بأن تطؤوهم أي: غير عالمين بهم وجواب لولا محذوف لدلالة الكلام عليه.
والمعنى ولولا كراهة أن تهلكوا أناساً مؤمنين بين أظهر الكافرين جاهلين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم.
فإن قيل: أي: معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون، أجيب: بأنهم يصيبهم وجوب الدية والكفارة وسوء قالة المشركين إنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير.
وقوله تعالى: {ليدخل الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال متعلق بمقدّر أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة وانتفاء العذاب ليدخل الله. قال البغوي: اللام في {ليدخل} متعلق بمحذوف دل عليه معنى الكلام يعني ليدخل الله {في رحمته} أي: في إكرامه وإنعامه {من يشاء} بعد الصلح قبل أن يدخولها من المشركين بأن يعطفهم إلى الإسلام، ومن المؤمنين بأن يستنقذهم منهم على أرفق وجه. وقوله تعالى: {لو تزيلوا} يجوز أن يعود على المؤمنين فقط أو على الكافرين أو على الفريقين والمعنى لو تميز هؤلاء من هؤلاء {لعذبنا} أي: بأيديكم بتسليطنا لكم عليهم بالقتل والسبي {الذين كفروا} أي: أوقعوا ستر الإيمان {منهم} أي: أهل مكة {عذاباً أليماً} أي شديد الإيجاع. قال قتادة: في الآية أنّ الله تعالى يدفع بالمؤمنين عن الكافرين كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة ولما بين شرط استحقاقهم للعذاب بين وقته وفيه بيان العلة.
فقال تعالى: {إذ} أي: حين {جعل الذين كفروا} أي: ستروا ما تراءى من الحق في مرائي عقولهم وقوله تعالى: {في قلوبهم} أي: في قلوب أنفسهم يجوز أن يتعلق بجعل على أنها بمعنى ألقى فتتعدّى لواحد أي إذ ألقى الكافرون في قلوبهم الحمية وأن يتعلق بمحذوف على أنه مفعول ثان قدّم على أنها بمعنى صير {الحمية} أي: المنع الشديد والإباء الذي هو في شدّة حرّه ونفوذه في أشدّ الأجسام كالسمّ والنار وأنشدوا:
*إلا إنني منهم وعرضي عرضهم ... كذا الرأس يحمي أنفه أن يهشما*
وقرأ أبو عمر وفي الوصل بكسر الهاء والميم وحمزة والكسائي: بضم الهاء والميم والباقون: بكسر(4/53)
الهاء وضم الميم وأظهر الذال عند الجيم نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم وأدغمها الباقون وقوله تعالى: {حمية الجاهلية} بدل من الحمية قبلها ووزنها فعلية وهي مصدر يقال حميت من كذا حمية وحمية الجاهلية: هي التي مدارها مطلق المنع سواء كان بحق أم باطل فتمنع من الإذعان للحق ومبتاها على التشفي على مقتضى الغضب لغير الله فتوجب تخطي حدود الشرع ولذلك أنفوا من دخول المسلمين مكة المشرّفة لزيارة البيت العتيق الذي الناس فيه سواء. قال مقاتل: قال أهل مكة قتلوا أبناءنا وإخواننا ثم يدخول علينا فتتحدّث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا واللات والعزى لا يدخلونها علينا فهذه حمية الجاهلية التي دخلت قلوبهم.
{فأنزل الله} أي: الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء بسبب حميتهم {سكينته} أي: الشيء اللائق إضافته إليه سبحانه من الفهم عن الله والروح الموجب لسكون القلب المؤثر للإقدام على العدوّ والنصر عليه انزالاً كافياً {على رسوله} الذي عظمته من عظمته ففهم عن الله مراده في هذه القضية فجرى على أتم ما يرضيه {وعلى المؤمنين} أي: الغريقين في الإيمان لأنهم أتباع رسوله وأنصار دينه فألزمهم قبول أمره وحماهم من همزات الشياطين ولم يدخلهم ما دخل الكفار من الحمية فيقاتلوا غضباً لأنفسهم فيتعدوا حدود الشرع {وألزمهم} أي: المؤمنين إلزام إكرام وتشريف لا إلزام إهانة وتعنيف {كلمة التقوى} فإنها السبب الأقوى وهي كل قول أو فعل ناشىء عن التقوى وأعلاه كلمة الإخلاص المتقدّمة في القتال وهي لا إله إلا الله التي هي أحق الحق ولا بدّ من قول محمد رسول الله وإلا لم يتم إسلامه وعن الحسن: كلمة التقوى هي الوفاء بالعهد. ومعنى إضافتها إلى التقوى إنها سبب التقوى وأساسها، وقيل: كلمة أهل التقوى وقيل هي بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله {وكانوا} أي: جبلة وطبعاً {أحق بها} أي: كلمة التقوى من الكفار {وأهلها} أي: وكانوا أهلها في علم الله تعالى لأنّ الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الخير {وكان الله} أي: المحيط علماً وقدرةً {بكل شيء} من ذلك وغيره {عليماً} أي: محيط العلم وروي «أنه صلى الله عليه وسلم رأى في المنام في المدينة عام الحديبية قبل خروجه أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين ويحلقون ويقصرون فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا فلما خرجوا معه وصدّهم الكفار بالحديبية رجعوا وشق عليهم ذلك وراب بعض المنافقين فأنزل الله» .
قوله تعالى: {لقد صدق الله} أي: الذي لا كفؤ له المحيط بجميع صفات الكمال {رسوله} الذي هو أعز الخلائق عنده وهو غني عن الأخبار عما لا يكون أنه يكون فيكف إذا كان المخبر رسوله {الرؤيا} التي هي من الوحي أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب وعن كل قبيح علوّاً كبيراً. فحذف الجار وأوصل الفعل. كقوله تعالى: {صدقوا ما عاهدوا الله عليه} (الأحزاب: 23)
وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري «قال شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر فقال بعضهم: ما بال الناس قالوا: أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فخرجنا نرجف فوجدنا النبيّ صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته على كراع الغميم فلما اجتمع عليه الناس قرأ {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} فقال عمر: أو فتح هو يا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده» ففيه دليل على أن(4/54)
المراد بالفتح صلح الحديبية وتحقيق الرؤيا كان في العام المقبل فقال جل ذكره {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} أخبر أن الرؤيا التي أراه إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام صدق وحق وقوله تعالى {بالحق} فيه أربعة أوجه.
أحدها: أنه يتعلق بصدق. ثانيها: أن يكون صفة مصدر محذوف أي صدقاً ملتبساً بالحق أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن المخلص وبين من في قلبه مرض. ثالثها: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الرؤيا أي ملتبسة بالحق. رابعها: له قسم وجوابه {لتدخلن} أي بعد هذا دخولاً قد تحتم أمره {المسجد} أي: الذي يطاف فيه بالكعبة ولا يكون دخوله إلا بدخول الحرم {الحرام} أي: الذي أجاره من امتهان الجبابرة ومنعه من كل ظالم. قال الزمخشري: وعلى تقديره قسماً إمّا أن يكون قسماً بالله تعالى فإنّ الحق من أسمائه تعالى وأمّا أن يكون قسماً بالحق الذي هو نقيض الباطل.
فإن قيل: ما وجه دخول {إن شاء الله} أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال أجيب بأوجه
أحدها: أنه تعالى ذكره تعليماً لعباده الأدب لأن يقولوا في غداتهم مثل ذلك متأدبين بآداب الله ومقتدين بسنته لقوله تعالى {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23 ـ 24)
ثانيها: أن يريد لتدخلنّ جميعاً إن شاء الله. ولم يمت منكم أحد.
ثالثها: أن ذلك كان على لسان ملك فأدخل الملك إن شاء الله.
رابعها: إنها حكاية ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقص عليهم. وقال أبو عبيدة: أن بمعنى إذ مجازه إذ شاء الله. كقوله تعالى {إن كنتم تعلمون} (الجمعة: 9)
خامسها: إنها للتبرّك وقيل هي متعلقة بآمنين فالاستثناء مواقع على الأمن لا على الدخول لأن الدخول لم يكن فيه شك كقوله صلى الله عليه وسلم عند دخول المقبرة وإنا إن شاء الله بكم لاحقون فالاستثناء راجع إلى اللحوق لا إلى الموت. وقوله تعالى: {آمنين} حال من فاعل لتدخلن وكذا {محلقين رؤوسكم} أي: كلها {ومقصرين} أي: بعضها أي منقسمين بحسب التحليق والتقصير إلى قسمين لا تخشون إلا الله تعالى وفيه إشارة إلى أنهم يتمون الحج من أوّله إلى آخره فقوله {لتدخلن} فيه إشارة إلى الأوّل وقوله {محلقّين} {ومقصرين} إشارة إلى الآخر فإن قيل محلقين حال الداخلين والداخل لا يكون إلا محرماً والمحرم لا يكون محلقاً أجيب بأنّ قوله آمنين معناه متمكنين من أن تتموا الحج محلقين ومقصرين وأشار بصيغة التفعيل إلى الكثرة فيهما غير أن التقديم يفهم أنّ الأول أكثر.
وقوله تعالى: {لا تخافون} أي: لا يتجدّد لكم خوف بعد ذلك يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً ثالثة أمّا من فاعل لتدخلنّ أو من ضمير آمنين أو محلقين أو مقصرين فإن كانت حالاً من آمنين أو حالاً من فاعل لتدخلنّ فهي حال للتوكيد وآمنين حال مقارنة وما بعدها حال مقدّرة إلا قوله {لا تخافون} إذا جعل حالاً فإنها مقدّرة أيضاً فإن قيل: قوله تعالى: {لا تخافون} معناه غير خائفين وذلك يحصل بقوله تعالى: {آمنين} أجيب: بأنّ فيه كمال الأمن لأنّ بعد الحلق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال وكان عند أهل مكة يحرم قتال من أحرم ومن دخل الحرم. فقال تدخلون آمنين وتحلقون ويبقى أمنكم بعد خروجكم من الإحرام {فعلم} أي: الله في الصلح من المصلحة {ما لم تعلموا} من المصالح فإنّ الصلاح(4/55)
كان في الصلح وإنّ دخولكم في سنتكم سبب لوطء المؤمنين والمؤمنات وهو قوله تعالى: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات} (الفتح: 25)
الآية.
فإن قيل: الفاء في قوله تعالى: {فعلم} فاء التعقيب فقوله تعالى: {فعلم} وقع عقب ماذا أجيب: بأنه إن كان المراد من {فعلم} وقت الدخول فهو عقب صدق وإن كان المراد فعلم المصلحة فالمراد علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب والتقدير لما حصلت المصلحة في العام القابل فعلم ما لم تعلموا من المصلحة المتجدّدة {فجعل} أي: بسبب إحاطة علمه {من دون} أي: أدنى رتبة من {ذلك} أي: الدخول العظيم في هذا العام {فتحاً قريباً} يقويكم به من فتح خيبر ووضع الحرب بين العرب بهذا الصلح واختلاط بعض الناس بسبب ذلك ببعض الموجب لإسلام ناس كثيرة تتقوون بهم فتكون تلك الكثرة والقوّة بسبب هيبة الكفار المانعة لهم من القتال فقتل القتلى ترفقاً بأهل حرم الله إكراماً لهذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم
u
وقوله تعالى:
{هو الذي أرسل رسوله} أي: الذي لا رسول أحق منه بإضافته إليه {بالهدى} أي: الكامل الذي يقتضي أن يهتدي به أكثر الناس تأكيداً لبيان صدق الله تعالى للرّؤيا لأنه لما كان مرسلاً لرسوله ليهدي لا يريه ما لا يكون فيحدث الناس فيظهر خلافه فيكون ذلك سبباً للضلال.
فإن قيل: الرؤيا للواقع قد تقع لغير المرسل أجيب: بأنّ ذلك قليل لا يقع لكل أحد تنبيه الهدي يحتمل أن يكون هو القرآن كقوله تعالى: {أنزل فيه القرآن هدى للناس} (البقرة: 185)
وعلى هذا قوله تعالى: {ودين الحق} هو ما فيه من الأصول والفروع ويحتمل أن يكون الهدي هو المعجزة أي أرسله بالمعجزة فيكون قوله تعالى {ودين الحق} إشارة إلى ما شرع والألف واللام في الهدى يحتمل أن تكون للعهد وهو قوله تعالى: {ذلك هدى الله يهدي به من يشاء} وأن تكون للتعريف أي كل ما هو هدى تنبيه دين الحق يحتمل أن يكون المراد دين الله لأنّ الحق من أسماء الله تعالى ويحتمل أن يكون الحق نقيض الباطل فكأنه قال ودين الأمر الحق {ليظهره} أي: دينه {على الدين كله} أي: جميع باقي الأديان {وكفى بالله} أي: الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {شهيداً} أي: على أنك مرسل بما ذكر كما قال تعالى.
{محمد رسول الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له فهو الرسول الذي لا رسول يساويه فإنه رسول إلى جميع الخلق من أدرك زمانه بالفعل في الدنيا ومن تقدّمه بالقوّة فيها وبالفعل في الآخرة يوم يكون الكل تحت لوائه وقد أخذ على الأنبياء كلهم الميثاق بأن يؤمنوا به إن أدركوه وأخذ ذلك الأنبياء على أممهم وأشار بذكر هذا الاسم بخصوصه في سورة الفتح إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو الخاتم بما أشارت إليه الميم التي مخرجها ختام المخارج واستنبط بعض العلماء من محمد ثلاثمائة وأربعة عشر رسولاً فقال فيه ثلاث ميمات وإذا بسطت كل منهما قلت فيه م ي م وعدّتها بحساب الجمل الكبير تسعون فيحصل منها مائتان وسبعون وإذا بسطت الحاء والدال قلت دال بخمسة وثلاثين، وحاء بتسعة فالجملة ما ذكر والاسم واحد فتم عدد الرسل كما قيل أنهم ثلاثمائة وخمسة عشر وقد تقدّم الكلام على أولي العزم منهم في سورة الأحقاف.
تنبيه: يجوز أن يكون محمد خبر مبتدأ مضمر لأنه لما تقدّم هو الذي أرسل رسوله دل على ذلك المقدّر أي هو أي الرسول بالهدى(4/56)
محمد. ورسول الله بدل أو بيان أو نعت وأن يكون محمد مبتدأ وخبره رسول الله وقيل غير ذلك.
ولما ذكر الرسول ذكر المرسل إليهم فقال تعالى {والذين معه} أي: بمعية الصحبة من الصحابة وحسن التبعية من التابعين لهم بإحسان {أشدّاء} أي: غلاظ {على الكفار} منهم لا تأخذهم بهم رأفة بل هم معهم كالأسد على فريسته لأنّ الله تعالى أمرهم بالغلظة عليهم لا يرحمونهم {رحماء بينهم} أي: متعاطفون متوادّون كالوالد مع الولد.
كما قال تعالى {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (المائدة: 54)
وعن الحسن بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وبلغ من تراحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه، ومن حق المسلمين في كل زمان أن يراعوا هذا التذلل وهذا التعطف فيشددوا على من ليس من دينهم ويتحاموه ويعاشروا إخوانهم المؤمنين في الإسلام متعطفين بالبر والصلة والمعونة وكف الأذى والاحتمال منهم.
تنبيه: والذين معه مبتدأ خبره أشدّاء على الكفار ورحماء بينهم خبر ثان وقيل غير ذلك. ثم بين تعالى الحامل لهم على ذلك بقوله سبحانه وتعالى {تراهم} أي: أيها الناظر لهم {ركعاً سجداً} أي: دائمين الخشوع فأكثر أوقاتهم صلاة قد غلبت صفة الملكية على صفاتهم الحيوانية فكانت الصلاة آمرة بالخير مصينة عن كل نقص وضير.
ثم أشار إلى إخلاصهم بقوله تعالى {يبتغون} أي: يطلبون بذلك وغيره من جميع أحوالهم بغاية جهدهم تغليباً لعقولهم على شهواتهم وحظوظهم {فضلاً} أي: زيادة من الخير {من الله} أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال من الجلال والجمال الذي أعطاهم ملكة العظمة على الكفار بما وهبهم من جلاله والرأفة على أوليائه {ورضواناً} أي: رضاً منه عظيماً بما نالهم من رحمته التي هيأهم بها للإحسان إلى عياله فنزعوا الهوى من صدورهم فصاروا يرونه وحده سيدهم المحسن إليهم لا يرون سيداً غيره ولا محسن سواه.
ثم بين كثرة صلاتهم. بقوله تعالى: {سيماهم} أي: علامتهم التي لا تفارقهم {في وجوههم} ثم بين تعالى العلامة بقوله {من أثر السجود} وهو نور وبياض في وجوههم يوم القيامة كما قال تعالى {يوم تبيض وجوه وتسودّ وجوه} (آل عمران: 106)
رواه عطية العوفيّ عن ابن عباس. وعن أنس هو استنارة وجوههم من كثرة صلاتهم. وقال شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال مجاهد هو السمت الحسن والخشوع والتواضع والمعنى أنّ السجود أورثهم الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به. وقال الضحاك: هو صفرة الوجه. وقال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال عكرمة: هو أثر التراب على الجباه. قال أبو العالية: لأنهم يسجدون على التراب لا على الثياب. وقال عطاء: استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل لأنّ من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار.
قال بعضهم: دخل في هذه الآية كل من حافظ على الصلوات الخمس. قال البقاعي: ولا يظن أنّ من السيما ما يصنعه بعض المرائين من أثر هيئة السجود في جبهته فإنّ ذلك من سيما الخوارج. وفي نهاية ابن الأثير في تفسير الثقات ومنه حديث أبي الدرداء أنه رأى رجلاً بين عينيه مثل ثغنة البعير فقال: لو لم يكن هذا كان خيراً يعني كان على جبهته أثر السجود(4/57)
وإنما كرهها خوفاً من الرياء عليه. وعن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأبغض الرجل وأكرهه إذا رأيت بين عينيه أثر السجود» وعن بعض المتقدّمين: كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ونرى أحدنا الآن يصلي فيرى بين عينيه ركبة البعير فلا ندري أثقلت الرؤوس أم خشنت الأرض. وإنما أراد بذلك من تعمد ذلك للنفاق ثم أشار تعالى إلى علو مرتبة ذلك الوصف بقوله سبحانه:
{ذلك} أي: هذا الوصف العالي جداً البديع المثال البعيد المنال {مثلهم} أي: صفتهم {في التوراة} وههنا تم الكلام فإن مثلهم: مبتدأ وخبره في التوراة وقوله تعالى: {ومثلهم في الإنجيل} أي: الذي نسخ الله تعالى به بعض أحكام التوراة مبتدأ وخبره {كزرع} أي: مثل زرع {أخرج شطأه} أي: فراخه يقال أشطأ الزرع إذا فرخ وهل يختص ذلك بالحنطة فقط أو بها وبالشعير أو لا يختص خلاف مشهور قال الشاعر:
*أخرج الشطأ على وجه الثرى
... ومن الأشجار أفنان الثمر
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان: بفتح الطاء والباقون بإسكانها. وهما لغتان كالنهر والنهر وأدغم أبو عمرو الجيم في الشين بخلاف عنه ثم سبب عن هذا الإخراج قوله تعالى: {فآزره} أي: قواه وأعانه. وقرأ ابن ذكوان: بقصر الهمزة بعد الفاء والباقون بالمدّ. {فاستغلظ} أي: فطلب المذكور من الزرع والشطء الغلظ وأوجده فتسبب عن ذلك اعتداله {فاستوى} أي: قوى واستقام وقوله تعالى: {على سوقه} متعلق باستوى ويجوز أن يكون حالاً أي كائناً على سوقه أي قائماً عليها، هذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل أنهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون.
قال قتادة: مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وقيل: الزرع محمد صلى الله عليه وسلم والشطء: أصحابه والمؤمنون. وروى مبارك بن فضالة عن الحسن قال محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه أبو بكر الصدّيق. أشدّاء على الكفار: عمر بن الخطاب. رحماء بينهم: عثمان بن عفان. تراهم ركعاً سجداً: علي بن أبي طالب يبتغون فضلاً من الله العشرة المبشرون بالجنة كمثل زرع محمد صلى الله عليه وسلم أخرج شطأه أبو بكر فآزره عمر، فاستغلظ عثمان يعني استغلظ عثمان بالإسلام، فاستوى على سوقه علي بن أبي طالب رضى الله عنه استقام الإسلام بسيفه.
{يعجب الزرّاع} قال: المؤمنون {ليغيظ بهم الكفار} قول عمر لأهل مكة بعدما أسلم: لا يعبد الله سراً بعد اليوم روى أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أرحم أمّتي أبو بكر، وأشدّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم أبيّ، وأعلمهم بالحرام والحلال معاذ بن جبل، ولكل أمّة أمين وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح» وفي رواية أخرى وأقضاهم علي وروى بريدة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من مات من أصحابي بأرض كان نورهم وقائدهم يوم القيامة» .
تنبيه: يعجب حال أي معجباً وهنا تم الكلام.
وقوله تعالى {ليغيظ بهم الكفار} فيه أوجه: أحدها: أنه متعلق بمحذوف دل عليه تشبيههم بالزرع في نمائهم وقوّتهم. قال الزمخشري: أي شبههم الله تعالى بذلك ليغيظ. ثانيها: أنه متعلق بما دل(4/58)
عليه قوله تعالى {أشدّاء} متعلق على الكفار الخ أي: جعلهم بهذه الصفات ليغيظ. ثالثها: أنه متعلق بقوله تعالى: {وعد الله} أي: الملك الأعظم {الذين آمنوا} لأنّ الكفار إذا سمعوا بعزة المؤمنين في الدنيا وما أعدّ الله لهم في الآخرة غاظهم ذلك. وقوله تعالى: {وعملوا الصالحات} فيه إشارة إلى تصديق دعواهم ومن في قوله تعالى: {منهم} للبيان لا للتبعيض لأنهم كلهم كذلك فهي كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (الحج: 30)
ولما كان الإنسان وإن اجتهد مقصراً عما يجب لله تعالى من العبادة. أشار إلى ذلك بقوله تعالى: {مغفرة} أي: لما يقع منهم من الذنوب والهفوات {وأجراً عظيماً} بعد ذلك الستر وهو الجنة. وهما أيضاً لمن بعدهم ممن يأتي.
فائدة قد جمعت هذه الآية الخاتمة لهذه السورة جميع حروف المعجم وفي ذلك بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر التصريحية باجتماع أمرهم وعلوّ نصرهم رضى الله عنهم وحشرنا معهم نحن ووالدينا ومحبينا وجميع المسلمين بمنه وكرمه.
قال: وهذا آخر القسم الأوّل من القرآن، وهو المطوّل وقد ختم كما ترى بسورتين هما في الحقيقة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وحاصلهما: الفتح بالسيف والنصر على من قاتله ظاهراً. كما ختم القسم الثاني المفصل بسورتين هما: نصره له صلى الله عليه وسلم بالحال على من قصده بالضر باطناً وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة» حديث موضوع. وقال ابن عادل: روى أنّ من قرأ في أوّل ليلة من رمضان {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} في التطوّع حفظ في ذلك العام ولم أره لغيره ا. هـ.
سورة الحجرات
مدنية وهي: ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمةوألف وأربعمائة وستة وسبعون حرفاً
{بسم الله} الجبار المتكبر الذي أعز رسوله صلى الله عليه وسلم {الرحمن} الذي من عموم رحمته الآداب للتوصل إلى حسن المآب {الرحيم} الذي خص أولي الألباب بالإقبال على ما يوجب لهم دار الثواب.
ولما نوّه سبحانه في القتال بذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم وصرّح في ابتدائها باسمه الشريف وسمى السورة به وملأ سورة الفتح بتعظيمه وختمها باسمه ومدح أتباعه لأجله افتتح هذه السورة باشتراط الأدب معه في القول والفعل فقال تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {لا تقدّموا} من قدم بمعنى تقدّم أي لا تتقدّموا وحذف المفعول ليعم كل ما يصح تقديمه، فيذهب الوهم كل مذهب ويجوز أن يكون حذفه من غير قصد إليه أصلاً بل يكون النهي موجهاً إلى نفس التقدمة أي لا تتلبسوا بهذا الفعل {بين يدي الله} أي: الملك الأعظم الذي لا يطاق انتقامه {ورسوله} أي: الذي عظمته ظاهرة جدّاً لا نهاية له، لأنّ عظمته من عظمته، ولذلك قرن اسمه باسمه واختلف في سبب نزول ذلك. فقال الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة. أي لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك «أن أناساً ذبحوا قبله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح» وقال: «من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من(4/59)
النسك في شيء» .
وعن مسروق عن عائشة رضى الله عنها: أنه في النهي عن صوم يوم الشك. أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. وعن ابن الزبير: «أنه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد بن زرارة وقال عمر بل أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي. فقال عمر: ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت هذه الآية» . قال ابن الزبير: فكان عمر لا يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. وعن ابن أبي مليكة: نزل {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} وهذا أنسب. وقال الضحاك: يعني في القتال وشرائع الدين أي لا تقطعوا أمراً دون الله ورسوله. قال الرازي: والأصح أنه إرشاد عام يشمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل افتيات وتقدّم واستبداد بالأمر وإقدام على فعل غير ضروري من غير مشاورة.
تنبيه: معنى بين يدي الله ورسوله أي: بحضرتهما لأنّ ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه ناظر إليه. وحقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً. كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره وداناه في غير موضع، وقد جرت هذه العبارة هنا على ضرب من المجاز، وهو الذي يسميه أهل البيان تمثيلاً.
وقيل: المراد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الله تعالى تعظيم له وإشعار بأنه من الله تعالى بمكان يوجب إجلاله {واتقوا الله} اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية، فإنّ التقوى مانعة من أن تضيعوا حقه وتخالفوا أمره أو تقدموا على شيء لم تعلموا رضاه فيه {إن الله} أي: الذي له الإحاطة بصفات الكمال {سميع} لأقوالكم {عليم} بأعمالكم.
ونزل فيمن رفع صوته عند النبيّ عليه الصلاة والسلام.
{يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} أي: في شيء من الأشياء عند النطق إذا نطقتم {فوق صوت النبيّ} إذا نطق.
تنبيه: في إعادة النداء فوائد: منها أنّ في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كقول لقمان لابنه: {يا بنيّ لا تشرك بالله} (لقمان: 13) ، {يا بنيّ إنها إن تك} (لقمان: 16) ، {يا بنيّ أقم الصلاة} (لقمان: 17) ، لأنّ النداء تنبيه للمنادي ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه، فإعادته تفيد تجدد ذلك ومنها أن لا يتوهم أن المخاطب ثانياً غير المخاطب أولاً فإن من الجائز أن يقول القائل: يا زيد افعل كذا وكذا يا عمرو. فإذا أعاد مرة أخرى وقال: يا زيد قل يا زيد قل كذا وقل كذا يعلم أن المخاطب أولاً هو المخاطب ثانياً. ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود ليس الثاني تأكيداً للأوّل كقولك: يا زيد لا تنطق ولا تتكلم إلا بالحق وأنه لا يحسن أن يقول يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم، كما يحسن عند اختلاف المطلوبين {ولا تجهروا له بالقول} أي: إذا كلمتموه سواء كان ذلك مثل صوته أو أخفض من صوته، فإنّ ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء {كجهر بعضكم لبعض} أي: ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من ذلك فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين غيره.
فإن قيل: ما الفائدة في ولا تجهروا بعد لا ترفعوا؟.
أجيب: بأن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وصوته والنهي عن الجهر منع من المساواة.(4/60)
أي لا تجهروا له بالقول كما تجهرون لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا ثم حذرهم بقوله تعالى: {أن} أي: كراهة أن {تحبط} أي: تفسد فتسقط {أعمالكم} التي هي الأعمال بالحقيقة، وهي الحسنات كلها {وأنتم لا تشعرون} أي: بأنها حبطت فإنّ ذلك إذا أجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف واظب عليه، وإذا واظب عليه أو شك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر، روى أنس بن مالك قال: «لما نزل قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار واحتبس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى فقال سعد: إنه لجاري وما علمت له شكوى قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت: نزلت هذه الآية وقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار. فذكر ذلك سعد لنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال بل هو من أهل الجنة» .
وروي لما نزلت هذه الآية «قعد ثابت في الطريق يبكي فمّر به عاصم بن عدي فقال: وما يبكيك يا ثابت. قال: هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتاً البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقال لها: إذا دخلت بيت فرشي فسدّي عليّ الضبة بمسمار فضربت عليه بمسمار وقال لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال: اذهب فادعه لي فجاءه عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش.
فقال له: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك. فقال: اكسر الضبة فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا ثابت فقال: أنا ميت فأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة. فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله لا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل.
{إنّ الذين يغضون} أي: يخفضون ويلينون لما وقع عليهم من السكينة من هيبة حضرته قال الطبريّ وأصل الغض الكف في لين {أصواتهم} تخشعاً وتخضعاً ورعايةً للأدب وتوقيراً {عند رسول الله} أي الذي من شأنه أن يعلو كلامه على كل كلام، لأنه مبلغ عن الملك الأعظم وعبر بعند الذي للظاهر إشارة إلى أنّ أهل حضرة الخصوصية لا يقع منهم إلا أكمل الأدب {أولئك} أي عالو الرتبة {الذين امتحن الله} أي: فعل المحيط بجميع صفات الكمال فعل المختبر {قلوبهم للتقوى} أي: اختبرها وأخلصها لتظهر منهم من امتحن الذهب إذا أذابه وميز إبريزه من خبثه. فإنّ الامتحان اختبار بليغ يؤدّي إلى خبر فالمعنى أنه طهر قلوبهم ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب والفضة بالإذابة والتنقية والتخليص من كل غش لأجل إظهار ما بطن فيها من التقوى ليصير معلوماً للخلق في عالم الشهادة، كما كان له سبحانه في عالم الغيب. {لهم مغفرة} أي: لهفواتهم وزلاتهم {وأجر عظيم} لغضهم وسائر(4/61)
طاعاتهم. والتنكير للتعظيم.
قال أنس: فكنا أي بعد نزول هذه الآية في حق ثابت ننظر إلى رجل من أهل الجنة يمشي بين أيدينا فلما كان في يوم حرب مسيلمة رأى ثابت من المسلمين بعض الإنكسار فانهزمت طائفة منهم فقال: أفّ لهؤلاء، ثم قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا ثم ثبتا وقاتلا حتى قتلا واستشهد ثابت وعليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام فقال له: اعلم أن فلاناً رجل من المسلمين نزع درعي فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عند فرس يستنّ في طوله، وقد وضع على درعي ثوبه فائت أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له: إن عليّ ديناً حتى يقضيه عني وفلان من رقيقي عتيق، فأخبر الرجل خالداً فوجد درعه والفرس على ما وصفه فاسترد الدرع وأخبر خالد أبا بكر بتلك الرؤية فأجاز أبو بكر وصيته قال مالك بن أنس: لا أعلم وصية أجيزت بعد موت صاحبها إلا هذه.
واختلف في سبب نزول قوله عز وجل:
{إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} فقال ابن عباس رضى الله عنهما: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى بني النضير وأمر عليهم عتبة بن حصن الغزاوي فلما علموا هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عتبة وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً في أهله، فلما رأتهم الذراري اجهشوا إلى آبائهم يبكون وكان لكل امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادون يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم.l
فقالوا: يا محمد فادنا عيالنا. فنزل جبريل عليه السلام فقال إنّ الله تبارك وتعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلاً. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو وهو على دينكم فقالوا: نعم. فقال شبرمة: أنا لا أحكم بينهم وعمي شاهد وهو الأعور بن بسامة فرضوا به فقال الأعور: أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضيت ففادى نصفهم وأعتق نصفهم» فأنزل الله تعالى {إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات} جمع حجرة وهي ما تحجره من الأرض بحائط ونحوه. كان كل واحد منهم نادى خلف حجرة لأنهم لم يعلموه في أيها مناداة الأعراب بغلظة وجفاء {أكثرهم} أي: المنادي والراضى دون الساكت لعذر {لا يعقلون} أي: محلك الرفيع وما يناسبه من التعظيم، فلم يصبروا بل فعلوا معه صلى الله عليه وسلم كما يفعل بعضهم ببعض.
{ولو أنهم} أي: المنادي والراضي {صبروا} أي: حبسوا أنفسهم ومنعوها من مناداتهم والصبر: حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها، وهو حبس فيه شدّة وصبر. {حتى تخرج إليهم} من تلقاء نفسك عند فراغ ما أنت فيه مما يهمك من واردات الحق ومصالح الخلق {لكان} أي: الصبر {خيراً لهم} أي: من استعجالهم إيقاظك في الهاجرة.
ومما لو قرعوا الباب بالأظافر كما كان يفعل غيرهم من الصحابة. قال أبو عثمان: الأدب عند الأكابر يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلا والخير في الأولى والعقبى ا. هـ فإنهم لو تأدّبوا لربهم لزادهم صلى الله عليه وسلم في الفضل فأعتق جميع سبيهم(4/62)
وأطلقهم بلا فداء. {والله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {غفور} أي: ستور ذنب من تاب من جهله {رحيم} أي: يعاملهم معاملة الراحم، فيسبغ عليهم نعمه. وقال قتادة: «نزلت في ناس من أعراب تميم جاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمّنا شين فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين.
فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بالشعر بعثت ولا بالفخار أمرت ولكن هاتوا. فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس وكان خطيب النبيّ صلى الله عليه وسلم قم فأجبه فأجابه. وقام شاعر فذكر أبياتاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: أجبه فأجابه. فقام الأقرع بن حابس فقال: إنّ محمداً المولى تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولاً وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يضرّك ما كان من قبل هذا ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم، وكان قد تخلف في ركابهم عمرو بن الأهيم لحداثة سنه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم فأزرى به بعضهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل فيهم {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ} الآيات الأربع إلى قوله تعالى: {غفور رحيم} وقال زيد بن أرقم جاء ناس من العرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبياً فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملكاً نعش في جناحه. فجاؤوا فجعلوا ينادون من وراء الحجرات يا محمد. فأنزل الله تعالى {إنّ الذين ينادونك} الآية وقيل: المراد بأكثرهم كلهم. لأنّ العرب تذكر الأكثر وتريد الكل احتراز عن الكذب واحتياطاً في الكلام. لأنّ الكل ما لا يحيط به علم الإنسان في بعض الأشياء فيقول الأكثر وفي اعتقاده الكل.
ثم إنّ الله تعالى مع إحاطة علمه بالأمور أتى بما يناسب كلامهم وفيه إشارة إلى لطيفة، وهي أنّ الله تعالى يقول مع إحاطة علمي بكل شيء جريت على عادتكم استحساناً لتلك العادة، وهي الاحتراز عن الكذب فلا تتركوها واجعلوا اختياري ذلك في كلامي دليلاً قاطعاً على رضاي بذلك منكم.
تنبيه: جعل الزمخشري أنهم من ولو أنهم فاعلاً بفعل مقدر أي ولو ثبت صبرهم وجعل اسم كان ضميراً عائداً على هذا الفاعل. ولكن مذهب سيبويه أنها في محل رفع بالابتداء وحينئذ يكون اسم كان ضميراً عائداً على صبرهم المفهوم وجرى على الأوّل البيضاوي، وعلى الثاني الجلال المحلى واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم} أي: في وقت من الأوقات {فاسق} أي: خارج من ربقة الديانة {بنبأ} أي: خبر يعظم خطبه فيثير شرّاً {فتبينوا} صدقه من كذبه. فقال أكثر المفسرين: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أخو عثمان لأمه. «وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني المصطلق بعد الوقعة والياً ومصدقاً أي يأخذ منهم الصدقة وكان بينه(4/63)
وبينهم عداوة في الجاهلية، فلما سمع به القوم تلقوه تعظيماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنهم منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلى. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يغزوهم فبلغ القوم رجوعه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله فبدا له في الرجوع، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكره وأمره أن يخفي عليهم قدومه وقال: انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم، وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار. ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم آذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم ير منهم إلا الطاعة والخير وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر» فنزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} {أن تصيبوا} أي: بأذى {قوماً} أي: هم مع قوّتهم النافعة لأهل الإسلام برآء مما نسب إليهم {بجهالة} أي: مع الجهل بحال استحقاقهم لذلك {فتصبحوا} أي: فتصيروا ولكنه عبر بذلك لأن أشنع الندم ما استقبل الإنسان صباحاً وقت انتباهه وفراغه وإقباله على لذاته {على ما فعلتم} أي: من إصابتهم {نادمين} أي: غريقين في الأسف على ما
فات مما يوقع الله تعالى في نفوسكم من أمور ترجف القلوب. وقال الرازي: هذا ضعيف لأنّ الله تعالى لم يقل إني أنزلتها لكذا والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه قال وردت الآية لبيان ذلك حسب غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل تاريخ نزول الآية مما يصدق ذلك ويؤيده أنّ إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ والمخطئ لا يسمى فاسقاً فكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن رتبة الإيمان كقوله تعالى: {إنّ الله لا يهدي القوم الفاسقين} (المنافقون: 6)
وقوله تعالى: {ففسق عن أمر ربه} (الكهف: 50)
وقوله تعالى: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} الآية إلى غير ذلك ا. هـ وقال ابن الخازن في تفسيره: وقيل هو عام نزلت لبيان التثبيت وترك الاعتماد على قول الفاسق وهذا أولى من حكم الآية على رجل بعينه.
تنبيه: قوله تعالى: {أن تصيبوا} مفعول له كقوله تعالى: {أن تحبط} (الحجرات: 2)
قال الرازي: معناه على مذهب الكوفيين لئلا تصيبوا وعلى مذهب البصريين كراهة أن تصيبوا وقرأ حمزة والكسائي: بعد التاء المثناة بثاء مثلثة وبعد الباء الموحدة بتاء مثناة فوق من التثبت أي: فتوقفوا إلى أن يتبين لكم الحال. والباقون بعد التاء المثناة بباء موحدة وبعدها ياء تحتية وبعدها نون من البيان.
{واعلموا} أي: أيتها الأمة {أن فيكم} أي: على وجه الاختصاص بكم ويا له من شرف {رسول الله} أي: الملك الأعظم المتصف بالجلال والإكرام فلا تقولوا الباطل فإنّ الله يخبره بالحال {لو يطيعكم} وهو لا يحب عنتكم ولا شيئاً يشق عليكم {في كثير من الأمر} أي: الذي تريدونه على فعله من أنه يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم، وتستصوبونه ليكون فعله معكم فعل المطواع لغيره التابع له فينقلب حينئذ الحال ويصير المتبوع تابعاً، والمطاع طائعاً، {لعنتم} أي:(4/64)
لأثمتم دونه وهلكتم. لأنّ من أراد أن يكون أمر الرسول صلى الله عليه وسلم تابعاً لأمره فقد زين له الشيطان الكفران وقوله تعالى: {ولكن الله} أي: الملك الأعظم الذي يفعل ما يريد {حبب إليكم الإيمان وزينه} أي: حسنه {في قلوبكم} فلزمتم طاعته وعشقتم متابعته استدراك من جهة المعنى لا من جهة اللفظ لبيان عذرهم، وهو أنه من فرط حبهم للإيمان وكرهتهم للكفر كما قال تعالى: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} حملهم على ذلك ما سمعوا قول الوليد أو بصفة من لم يفعل ذلك منهم إخماداً لفعلهم وتعريضاً بذم من فعل. قال الرازي: هذه الأمور الثلاثة في مقابلة الإيمان الكامل المزين وهو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان فقوله تعالى {كرّه إليكم الكفر} وهو التكذيب وهو في مقابلة التصديق بالجنان وأمّا الفسوق فقيل هو الكذب كما قاله ابن عباس قال تعالى {إن جاءكم فاسق بنبأ} فسمى الكاذب فاسقاً وقال البيضاوي: الكفر تغطية نعم الله بالجحود والفسوق الخروج عن القصد والعصيان الامتناع عن الانقياد. وقال بعضهم: الكفر ظاهر والفسوق هو الكبيرة والعصيان هو الصغيرة {أولئك} أي: الذين أعلى الله تعالى مقاديرهم {هم الراشدون} أي: الكاملون في الرشد الثابتون الاستقامة وعلى دينهم وفي تفسير الأصفهاني الرشد هو الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه.
وقوله تعالى: {فضلاً} مصدر منصوب بفعله المقدّر أي فضل وقيل: تعليل لكرّه أو حبب، وما بينهما اعتراض فهو امتنان عظيم ودرجة عالية {من الله} أي: الملك الأعظم الذي بيده كل شيء {ونعمة} أي: وعيشاً حسناً ناعماً وكرامة {والله} أي: المحيط بصفات الكمال {عليم} أي: محيط العلم يعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل. {حكيم} أي: بالغ الحكمة، فهو يضع الأشياء في أوفق محالها وأتقنها فكذلك وضع نعمته من الرسالة والإيمان على حسب علمه وحكمته ونزل في قضية.
{وإن طائفتان من المؤمنين} الآية وهي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ركب حماراً ومرّ علي ابن أبيّ فبال الحمار فسدّ ابن أبيّ أنفه فقال ابن رواحة لبول حماره: أطيب ريحاً من مسكك فكان بين قومهما ضرب بالأيدي والنعال والسعف. وعن أنس قال: «قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبيّ فانطلق إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم وركب حماراً وانطلق المسلمون يمشون معه وهو بأرض سبخة فلما أتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إليك عني فوالله لقد أذاني نتن حمارك فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك فغضب لعبد الله رجل من قومه فتشاتما فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها نزلت فيهم» .
ويروى أنهما لما نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض. وعن قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة في حق فقال أحدهما للآخر: لآخذنّ حقي منك عنوة لكثرة عشيرته، وإنّ الآخر دعاه ليحاكمه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال ولم يكن قتال بالسيوف.
وعن سفيان عن السدي قال: كانت امرأة(4/65)
من الأنصار يقال لها أمّ زيد تحت رجل وكان بينهما وبين زوجها شيء فرقى بها إلى علية وحبسها فبلغ ذلك قومها فجاؤوا وجاء قومه واقتتلوا بالأيدي والنعال فنزلت.
وجمع تعالى قوله سبحانه: {اقتتلوا} نظراً للمعنى لأنّ كل طائفة جماعة وثنى الضمير في قوله تعالى: {فأصلحوا} أي: أوقعوا الإصلاح ليحصل الصلح {بينهما} نظراً للفظ أي: أصلحوا بينهما بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى {فإن بغت} أي: أوقعت الإرادات السيئة الكائنة من النفوس التي لا تأمر بخير {إحداهما} أي: الطائفتين {على الأخرى} فلم ترجع إلى حكم الله الذي خرجت عنه ولم تقبل الحق {فقاتلوا} أي: اطلبوا وأوجدوا مقاتلة {التي تبغي} أي توقع الإرادة السيئة وتصرّ عليها وأديموا القتال لها {حتى تفيء} أي: ترجع عما صارت إليه من حرّ القطيعة الذي كأنه حرّ الشمس حتى نسخه الظل إلى ما كانت فيه من البرد والخير الذي هو كالظل الذي نسخته الشمس.
وهو معنى قوله تعالى: {إلى أمر الله} أي: التزام ما أمر به الملك الذي لا يهمل الظالم بل لا بدّ من أن يقاصصه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية كالياء والباقون بتحقيقهما {فإن فاءت} أي: رجعت إلى ما كانت عليه من التمسك بأمر الله الذي هو العدل {فأصلحوا} أي: أوقعوا الإصلاح {بينهما بالعدل} أي: بالإنصاف ولا يحملنكم القتال على الحقد على المقاتلين فتحيفوا {وأقسطوا} أي: وأزيلوا القسط بالفتح وهو الجور، بأن تفعلوا القسط بالكسر وهو العدل الذي لا جور فيه في ذلك، وفي جميع أموركم ثم علله ترغيباً فيه بقوله تعالى مؤكداً تنبيهاً على أنه من أعظم ما يتمادح به ورداً على من لعله يقول أنه لا يلزم نفسه الوقوف عنده الأضعف {إن الله} أي: الذي بيده النصر والخذلان {يحب المقسطين} أي: يفعل مع أهل العدل من الإكرام فعل المحب.
{إنما المؤمنون} أي: كلهم وإن تباعدت أنسابهم وبلادهم {إخوة} أي: في الدين لانتسابهم إلى أصل واحد هو الإيمان ولما كانت الأخوة داعية ولا بدّ إلى الإصلاح تسبب عنها قوله تعالى: {فأصلحوابين أخويكم} كما تصلحون بين أخويكم من النسب ووضع الظاهر موضع الضمير مضافاً إلى المأمور مبالغة في التقرير والتحضيض وخص الاثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهما الشقاق. وعن أبي عثمان الحيري: أنّ أخوة الدين أثبت من أخوة النسب فإنّ أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب {واتقوا الله} أي: الملك الأعظم في مخالفة حكمه والإهمال فيه {لعلكم ترحمون} أي: لتكونوا إذا فعلتم ذلك على رجاء عند أنفسكم أن يكرمكم الذي لا قادر على الإكرام في الحقيقة غيره بأنواع الكرامات كما رحمتم إخوانكم بإكرامكم عن إفساد ذات البين.
وعن الزهري عن سالم عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يشتمه فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» .
تنبيه: في هاتين الآيتين دليل على أنّ البغي لا يزيل اسم الإيمان لأنّ الله تعالى سماهم أخوة مؤمنين مع كونهم باغين يدل عليه ما روى عن عليّ بن أبي طالب سئل وهو القدوة في قتال أهل(4/66)
البغي عن أهل الجمل وصفين أمشركون. فقال: لا من الشرك فرّوا فقيل: أمنافقون هم فقال: لا إنّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما حالهم قال: إخواننا بغوا علينا.
والباغي في الشرع هو الخارج عن الإمام العدل بتأويل محتمل وشوكة لهم ومطاع تحصل به قوّة الشوكة، وإن لم يكن لهم إمام والحكم فيهم أن يبعث إليهم الإمام أميناً فطناً ناصحاً ينصحهم ما ينقمون فإن ذكروا مظلمة أو شبهة أزالها وإن أصروا نصحهم ثم أعلمهم بالقتال، فإن استمهلوا اجتهد وفعل ما رآه صواباً.
والحكم في قتالهم أن لا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ويرد سلاحهم وخيلهم إليهم إذا انقضت الحرب وأمنت عائلتهم ولا يستعمل في قتال إلا لضرورة ولا يقاتلون بعظيم كنار ومنجنيق إلا لضرورة، ولو أقاموا حدّ أو أخذوا زكاة وجزية وخراجاً وفرّقوا أسهم المرتزقة على جندهم صح ما فعلوه، وما أتلفه باغ على عادل وعكسه إن كان بسبب قتال فلا ضمان على واحد منهما، وإلا فعلى المتلف الضمان. قال ابن سهل: كانت في تلك الفتنة دماء يغرق في بعضها القاتل والمقتول وأتلف فيها أموال ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم وجرى الحكم عليهم فما رأيته اقتص من أحد ولا أغرم مالاً أتلفه ولو أظهر قوم رأي الخوارج كترك الجماعات وتكفير ذي كبيرة ولم يقاتلوا فلا نتعرّض لهم.
روي أنّ علياً سمع رجلاً يقول في ناحية المسجد. لا حكم إلا لله تعالى. فقال عليّ رضي الله عنه: كلمة حق أريد بها باطل لكم علينا ثلاثة لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم الفيء ما دام أيديكم مع أيدينا ولا نبدئكم بقتال فإن قاتلوا فحكمهم حكم قطاع الطريق، وتفريعات أحكام البغاة مذكورة في الفقه. وفي هذا القدر كفاية.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا} أي: أوقعوا الإقرار بالتصديق {لا يسخر} أي: لا يهزأ والسخرية: هي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته {قوم} أي: ناس فيهم قوة المحاولة وهم الرجال وفي التعبير بذلك تنبيه على قيام الإنسان على نفسه وكفها عما تريده من النقائص منكراً لما أعطاه الله تعالى من القوّة {من قوم} أي: من رجال، فإنّ ذلك يوجب الشرّ لأنّ أضعف الناس إذا استهزئ به قوي لما يثور عنده من حظ النفس.
فقال ابن عباس: «نزلت في ثابت بن قيس كان في أذنه وقر أي ثقل فكان إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول فأقبل ذات يوم وقد فاتته ركعة من صلاة الفجر فلما انصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم فضنّ أي بخل كل رجل منهم بمجلسه فلا يكاد يوسع أحد لأحد فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلساً قام قائماً فلما فرغ ثابت من صلاته أقبل نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخطى رقاب الناس ويقول تفسحوا تفسحوا فجعلوا يتفسحون حتى انتهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه وبينه رجل فقال له: تفسح فقال الرجل: قد أصبت مجلساً فاجلس. فجلس ثابت خلفه مغضباً فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل فقال: من هذا. فقال له: أنا فلان فقال له ثابت: ابن فلانة ذكر أمّاً له كان يعير بها في الجاهلية فنكس الرجل رأسه فاستحيا فأنزل الله تعالى هذه الآية» .
وقال الضحاك نزلت في وفد تميم كانوا يستهزئون(4/67)
بفقراء أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل عمار وخبيب وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة لما رأوا من رثاثة حالهم. ومعنى الآية: لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم ثم علل النهي بقوله تعالى: {عسى} أي: لأنه جدير وخليق لهم {أن يكونوا} أي: المستهزأ بهم {خيراً منهم} فينقلب الأمر عليهم وتكون لهم سوء العاقبة. قال ابن مسعود: البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب خشيت أن أحوّل كلباً وقال القشيري: ما استصغر أحد أحداً إلا سلط عليه ولا ينبغي أن يغتر بظاهر أحوال الناس، فإنّ في الزوايا خبايا. والحق سبحانه يستر أولياءه في حجاب الظنة وكذا في الخبر كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره.
{ولا} يسخر {نساء من نساء} ثم علل النهي بقوله تعالى: {عسى} أي: ينبغي أن يخفن من {أن يكن} أي: المسخور بهنّ {خيراً منهنّ} أي الساخرات. روي أنها نزلت في نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم عيرن أمّ سلمة بالقصر. وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في صفية بنت حيي بن أخطب قال لها النساء يهودية بنت يهوديين.
تنبيهان: أحدهما: قال الرازي: القوم اسم يقع على جمع من الرجال ولا يقع على النساء ولا على الأطفال لأنه جمع قائم. والقائم بالأمور هم الرجال وعلى هذا ففي أفراد الرجال والنساء.
فائدة: وهي أنّ عدم الالتفات والاستحقار أن يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسبة إلى الرجال لأنّ المرأة في نفسها ضعيفة، قال صلى الله عليه وسلم «النساء لحم على وضم» فالمرأة لا يوجد منها استحقار لرجل لأنها مضطرّة إليه في رفع حوائجها، وأمّا الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء فإنه يوجد فيهنّ ذلك.
الثاني: في حكمه قوله تعالى: {عسى أن يكونوا خيراً منهم} هي أنهم إذا وجدوا منهم التكبر المقتضى إلى إحباط العمل جعل نفسه خيراً منهم كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم، وقال: أنا خير منه فصار هو خيراً منه. ويحتمل أن يكون المراد بقوله تعالى {يكونوا} أي يصيروا فإنّ من استحقر إنساناً لفقره أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير ويقوى الضعيف {ولاتلمزوا} أي تعيبوا على وجه الظهور الخفية {أنفسكم} بأن يعيب بعضكم بعضاً بإشارة أو نحوها فكيف إذا كان على وجه فإنّكم في التواصل والتراحم كنفس واحدة أو يعمل الإنسان ما يعاب به فيكون الإنسان قد لمز نفسه أو يلمز غيره فيكون لمزه له سبباً لأن يبحث عن عيوبه فيلمزه فيكون هو الذي لمز نفسه {ولا تنابزوا بالألقاب} أي: ولا يدع بعضكم بعضاً بلقب السوء فإنّ النبز يختص بلقب السوء.k
واختلف في هذا اللقب فقال عكرمة هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق يا كافر. وقال الحسن: كان اليهوديّ والنصرانيّ يسلم فيقال له بعد إسلامه يا يهودي يا نصراني فنهوا عن ذلك. وقال عطاء: هو أن يقول الرجل لأخيه يا حمار يا خنزير
وعن ابن عباس: التنابز بالألقاب: هو أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب عنها فنهي أن يعير بما سلف من عمله والحاصل أنه يحرم تلقيب الشخص بما يكره وإن كان فيه كالأعور والأعمش ويجوز ذكره بنية التعريف لمن لا يعرفه إلا به وأمّا ألقاب المدح فنعما هي فقد لقب الصديق بعتيق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، وخالد بن الوليد بسيف الله، ومازالت الألقاب(4/68)
الحسنة في الجاهلية والإسلام.
قال الزمخشري: إلا ما أحدثه الناس في زماننا من التوسع حتى لقبوا السفلة بالألقاب العلية وهب أنّ العذر مبسوط فما أقول لمن ليس من الدين في قبيل ولا دبير بفلان الدين لعمري والله إنها الغصة التي لا تساغ. ومعنى اللقب: اسم زائد على الاسم يشعر بضعة المسمى أو رفعته والمقصود به الشهرة فما كان مكروهاً نهى عنه، ويسنّ أن يكنى أهل الفضل الرجال والنساء وإن لم يكن لهم ولد وأمّا التكني بأبي القاسم فهو حرام.
وقيل: إنما يحرم في زمانه صلى الله عليه وسلم فقط وقيل: إنما يحرم على من اسمه محمد ولا يكنى كافر ولا فاسق ولا مبتدع لأنّ الكنية للتكرمة وليسوا من أهلها بل أمرنا بالإغلاظ عليهم إلا لخوف فتنة من ذكره باسمه أو تعريفه كما قيل به في قوله تعالى: {تبت يد أبي لهب} (المسد: 1)
واسمه عبد العزى ولا بأس بكنية الصغير. ويسنّ أن يكنى من له أولاد بأكبر أولاده ويسنّ لولد الشخص وتلميذه وغلامه أن لا يسميه باسمه والأدب أن لا يكني الشخص نفسه في كتاب أو غيره إلا إن كان لا يعرف بغيرها أو كانت أشهر من الاسم.
تنبيه: ذكر في الآية ثلاثة أمور مرتبة بعضها دون بعض كما علم من تقريرها {بئس الاسم} أي المذكور من السخرية واللمز والتنابز. وقوله تعالى: {الفسوق} أي: الخروج من ربقة الدين {بعد الإيمان} بدل من الاسم لإفادة أنه فسق لتكرّره عادة. وروي أنّ الآية «نزلت في صفية بنت حيي أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنّ النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال: هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم {ومن لم يتب} أي: يرجع عما نهى الله عنه فخفف على نفسه ما كان شدّد عليها {فأولئك} أي: البعداء من الله تعالى {هم الظالمون} أي الغريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها. وأدغم أبو عمرو والكسائي الباء في الفاء. واختلف عن خلاد والباقون بالإظهار.
{يا أيها الذين آمنوا} أي: اعترفوا بالإيمان وإن كانوا في أوّل مراتبه {اجتنبوا} أي: كلفوا أنفسكم أن تتركوا وتبعدوا وتجعلوا في جانب بعيد عنكم {كثيراً من الظنّ} أي: في الناس وغيرهم واحتاطوا في كل ظنّ ولا تتمادوا معه حتى تجزموا بسببه.
تنبيه: أفهم ذلك أنّ من الظنّ ما لا يجتنب كما في الاجتهاد حيث لا قاطع وكما في ظنّ الخير في الله تعالى: ففي الحديث «أنا عند ظنّ عبدي بي فلا يظنّ بي إلا خيراً» بل قد يجب كما في قوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً} (النور: 12)
وقيل: نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما. «وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدّم لهما إلى المنزل فيهيء لهما طعامهما وشرابهما فضمّ سلمان الفارسيّ إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدّم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فلم يهيء لهما فلما قدما قالا له: ما صنعت شيئاً، قال: لا غلبتني عينايّ، قالا له: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعاماً فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له: إن كان عندك فضل من طعام فليعطك وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رحله فأتاه فقال: ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما(4/69)
فأخبرهما فقالا: كان عند أسامة ولكن بخل فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئاً فلما رجع قالا له: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما قالا والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحماً. قال ظلتم تأكلون لحم أسامة وسلمان فأنزل الله عز وجلّ {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن} .
وقوله تعالى: {إن بعض الظنّ إثم} تعليل مستأنف للأمر قال صلى الله عليه وسلم «إياكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث» والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه وجعل الزمخشري همزه بدلاً من واو قال: لأنه يتم الأعمال أي يكسرها قال ابن عادل: وهذا غيره مسلم بل تلك مادّة أخرى.
قال سفيان الثوري: الظنّ ظنان: أحدهما: إثم وهو أن يظنّ ويتكلم به والآخر ليس بإثم وهو أن يظنّ ولا يتكلم به. وقوله تعالى {ولا تجسسوا} حذف منه إحدى التاءين أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعائبهم بالبحث عنها قال صلى الله عليه وسلم «لا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً» وقال عليه الصلاة والسلام: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم عند الله حرمة منك. وقيل لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً فقال: إنا نهينا عن التجسس وإن يظهر لنا شيئاً نأخذه به.
تنبيه: قرأ ولا تنابزوا ولا تجسسوا ولتعارفوا البزي في الوصل بتشديد التاء والباقون بغير تشديد
ولما كانت الغيبة أعمّ من التجسس قال: {ولا يغتب} أي: ولا يتعمد أن يذكر {بعضكم بعضاً} أي: في غيبته بما يكره. قال القشيري: وليس تحصل الغيبة للخلق إلا من الغيبة عن الحق وقال أبو حيان: قال ابن عباس: الغيبة إدام كلاب الناس.
وعن أبي هريرة «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقوله قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا لا نأكل حتى يطعم ولا نرحل حتى يرحل فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «اغتبتموه فقالوا: إنما حدّثنا بما فيه قال: حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه» وفي هذا إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن فإنّ تمزيق عرض الإنسان كتمزيق أديمه ولحمه كما قال تعالى: {أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه} وقرأ {ميتاً} نافع بتشديد الياء والباقون بالسكون.
ولما كان الجواب قطعاً لا يحب أحد ذلك أشار إليه بما سببه من قوله تعالى: {فكرهتموه} أي: بسبب ما ذكر طبعاً فأولى أن تكرهوا الغيبة المحرّمة عقلاً لأنّ داعي العقل بصير عالم وداعي الطبع أعمى جاهل.
تنبيه: في هذا التشبيه إشارة إلى أنّ عرض الإنسان كدمه ولحمه لأنّ الإنسان يتألم قلبه من قرض العرض كما يتألم جسمه من قطع اللحم وهذا(4/70)
من باب القياس الظاهر لأنّ عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى، لأنّ ذلك أشدّ ألماً وقوله تعالى لحم أخيه آكد في المنع لأنّ العدوّ يحمله الغضب على مضغ لحم العدوّ وفي قوله تعالى: {ميتاً} إشارة إلى دفع وهم وهو أن يقال: إنّ الشتم في الوجه يؤلم فيحرم وأمّا الاغتياب فلا اطلاع عليه فلا يؤلم، فيقال لحم الأخ وهو ميت أيضاً لا يؤلم ومع هذا هو في غاية القبح كما أنه لو اطلع عليه لتألم فإنّ الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه وفيه معنى لطيف وهو أنّ الاغتياب أكل لحم الآدمي ميتاً ولا يحل أكله إلا للمضطرّ بقدر الحاجة والمضطرّ إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي فلا يأكل لحم الآدمي فكذلك المغتاب إذا وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب. قال مجاهد: لما قيل لهم أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً قالوا: لا قيل فكرهتموه أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً. قال الزجاج: تأويله أنّ ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحس بذلك.
قال الرازي: وفي ضمير فكرهتموه وجوه: أظهرها: أن يعود إلى الأكل. وثانيها: أن يعود إلى اللحم أي: فكرهتم اللحم. وثالثها: أن يعود إلى الميت في قوله تعالى ميتاً تقديره أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه فكأنه صفة لقوله ميتاً ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير يعني الميتة إن أكلت في الندرة تستطاب نادراً ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً. فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة وذلك يحقق الكراهة ويوجب النفرة إلى حدّ لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربه بحيث يأكله ففيه إذاً كراهية شديدة. وكذلك حال الغيبة.
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافير من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» وقال ميمون بن سنان: بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول لي كل هذا قلت يا عبد الله ولم آكل هذا قال إنك اغتبت عبد فلان قلت والله ما ذكرت فيه خيراً ولا شرّاً قال ولكن سمعت ورضيت فكان ميمون لا يغتاب أحد ولا يدع أحداً يغتاب عنده.
وقوله تعالى: {واتقوا الله} أي: اجعلوا بينكم وبين الملك الأعظم وقاية بطاعته معطوف على ما تقدّم من الأوامر والنواهي أي اجتنبوا واتقوا الله {إن الله} أي: الملك الأعظم {توّاب} أي: مكرّر للتوبة وهي الرجوع عن المعصية إلى ما كان قبلها من معاملة التائب وإن كرّر الذنب فلا ييأس أحد وإن كثرت ذنوبه وعظمت {رحيم} يزيده على ذلك بأن يكرمه غاية الإكرام.
تنبيه: ختم سبحانه وتعالى الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولى: {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} وقال ههنا {إنّ الله تواب رحيم} لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله تعالى: {لا يسخر قوم من قوم} ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء بالأمر في قوله تعالى: {اجتنبوا كثيراً} فذكر الإثبات الذي هو قريب من الأمر. وقوله تعالى:
{يا أيها الناس} أي: كافة المؤمن وغيره {إنا} أي: على مالنا من العظمة {خلقناكم} أي: أوجدناكم من العدم على ما أنتم عليه من المقادير(4/71)
{من ذكر وأنثى} الآية مبين ومقرّر لما تقدّم، لأنّ السخرية من الغير وغيبته إن كان ذلك بسبب غير الدين والإيمان فلا يجوز لأنّ الناس بعمومهم كافرهم ومؤمنهم يشتركون فيما يفتخر به المفتخر، لأنّ التكبر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنياً والمؤمن فقيراً وبالعكس.
وإن كان بسبب النسب فالكافر قد يكون نسيباً والمؤمن مولى وعبداً أسود وبالعكس، فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون ومتقاربون ولا يؤثر شيء من ذلك مع عدم التقوى. كما قال تعالى: {إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم} فقوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} أي آدم وحوّاء فأنتم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بعض لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة.
قال ابن عباس: «نزلت في ثابت بن قيس. وقوله للرجل الذي لم يفسح له ابن فلانة فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم من الذاكر فلانة. قال ثابت: أنا يا رسول الله فقال: انظر في وجوه القوم فنظر فقال: ما رأيت يا ثابت قال: رأيت أبيض وأحمر وأسود. قال: فإنك لا تفضلهم إلا في الدين والتقوى» فنزلت هذه الآية ونزل في الذي لم يفسح له {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس} (المجادلة: 11)
الآية وقال قتادة: «لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى علا على ظهر الكعبة فأذن فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد أغبر من هذا الغراب الأسود مؤذناً. وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئاً يغيره وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبره به رب العالمين رب السموات فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قالوه فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله تعالى في هذه الآية» وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء.
تنبيه: الحكمة في اختيار النسب مع أنّ غيره من جملة أسباب التفاخر ولم يذكر الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة لأنّ النسب أعلاها لأنّ المال قد يحصل للفقير فيبطل افختار الغني المفتخر به عليه والسمن والحسن وغير ذلك لا يدوم. والنسب ثابت مستمر غير مقدوراً التحصيل لمن ليس له ذلك فاختاره الله تعالى للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بطريق الأولى فإن قيل: إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فما فائدة قوله تعالى: {إنا خلقناكم} أجيب: بأنّ فائدته أنّ كل شيء يترجح على غيره فأمّا أن يترجح بأمر فيه يلحقه ويرتب عليه بعد وجوده.
وأمّا أن يترجح عليه بأمر قبله فالذي بعده كالحسن والقوّة وغيرهما من الأوصاف المطلوبة من ذلك الشيء.
وأمّا الذي قبله فأما راجع إلى أصله الذي وجد فيه أو إلى الفاعل الذي أوجده فالأول كقولك هذا من نحاس وهذا من فضة، والثاني كقولك هذا عمل فلان وهذا عمل فلان. فقال تعالى: لا ترجيح بالنسبة إلى فاعلكم لأنكم كلكم خلق الله تعالى فإن كان عناكم تفاوت فهو بأمور تحصل لكم بعد وجودكم وأشرفها التقوى. ولما كان تفصيلهم إلى فرق كل منها يعرف به أمراً باهراً عبر فيه بنون العظمة فقال تعالى: {وجعلناكم} أي بعظمتنا {شعوباً} جمع شعب بفتح الشين وهو أعلى طبقات الإنسان مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج {وقبائل} أي: تحت(4/72)
الشعوب وذلك أنّ طبقات النسل التي عليها العرب سبعة الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة والعشيرة وكل واحد يدخل فيما قبله فالقبائل تحت الشعوب والعمائر تحت القبائل والبطون تحت العمائر، والأفخاذ تحت البطون، والفصائل تحت الأفخاذ، والعشائر تحت الفصائل خزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصيّ بطن وعبد مناف فخذ وهاشم فصيلة والعباس عشيرة. قال البغوي: وليس بعد العشيرة حي يوصف ا. هـ. وسمى الشعب شعباً لتشعب القبائل منه واجتماعهم به كتشعب أغصان الشجرة والشعب من الأضداد يقال شعب أي: جمع ومنه شعب القدح وشعب أي: فرّق والقبائل واحدها قبيلة سميت بذلك لتقابلها شبهت بقبائل الرأس وهي قطع متقابلة. وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني اسرائيل وقيل: الشعب النسب الأبعد والقبيلة الأقرب والنسبة إلى الشعب شعوبية بفتح الشين وهم جيل يبغضون العرب والعمائر واحدتها: عمارة بفتح العين والبطون واحدتها: بطن. والفصائل: واحدتها فصيلة. والعشائر: واحدتها: عشيرة. وقال أبو روق الشعوب الذين لا يعتزون إلى أحد بل ينتسبون إلى المدائن والقرى والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم.
ثم ذكر تعالى علة الشعب بقوله تعالى: {لتعارفوا} أي: ليعرف الإنسان من يقاربه في النسب ليصل من رحمه ما يحق له لا لتفاخروا {إن أكرمكم} أي المتفاخرون {عند الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه ولا كريم إلا من أخبركم بكرمه ولا كمال لأحد سواه {أتقاكم} أي: أرفعكم منزلة عند الله أتقاكم. قال قتادة: في هذه الآية أكرم الكرم التقوى وألام الؤم الفجر وقال عليه الصلاة والسلام «الحسب المال والكرم التقوى» وقال ابن عباس «كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى» وعن ابن عمر «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه وهو عصا محنية الرأس فلما خرج لم يجد مناخاً فنزل على أيدي الرجال ثم قام فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه فقال الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية يعني كبرها وفخرها الناس رجل تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ثم تلا {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} ثم قال أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» وعن أبي هريرة قال «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ الناس أكرم. قال: أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فأكرم الناس يوسف نبيّ الله بن نبيّ الله بن نبيّ الله بن خليل الله قالوا ليس عن هذا نسألك قال فعن معادن العرب تسألوني قالوا: نعم. قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» بضم القاف على المشهور وحكى كسره ومعناه إذا تعلموا أحكام الشرع.
وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم» قال الرازي في المراد بالآية: وجهان: الأول أنّ التقوى تفيد الإكرام. الثاني: أنّ الإكرام يورث التقوى كما يقال المخلصون على خطر والأول أشهر، والثاني أظهر فإن قيل: التقوى من الأعمال والعلم أشرف لقوله صلى الله عليه وسلم «لفقيه واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد» أجيب: بأنّ التقوى ثمرة العلم لقوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28)
فلا تقوى(4/73)
إلا للعالم فالتقي العالم أثمر علمه، والعالم الذي لا يتقي كشجرة لا ثمر لها، لكن الشجرة المثمرة أشرف من التي لا تثمر، بل هي حطب. قال الحسن البصري: إنما الفقيه العامل بعلمه أي وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» ومن قوله عز من قائل {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر: 9)
فإن قيل: خطاب الناس بقوله تعالى {أكرمكم} يقتضي اشتراك الكل في الإكرام ولا كرامة لكافر فإنه أضلّ من الأنعام أجيب بأنّ ذلك غير لازم مع أنه حاصل لدليل قوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} (الإسراء: 70)
لأنّ كل من خلق فقد اعترف بربه ثم من استمرّ عليه وزاد زيد في كرامته ومن رجع عنه أزيل عنه أكثر الكرامة {إن الله} أي: المحيط بكل شيء علماً وقدرة {عليم} أي: بالغ العلم بظواهركم يعلم أنسابكم {خبير} أي: محيط العلم ببواطنكم لا تخفى عليه أسراركم فجعلوا التقوى رداءكم
ولما قال تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} والتقى لا يكون إلا بعد حصول التقوى وأصله الإيمان والإتقاء من الشرك.
{قالت الأعراب} أي: أهل البادية من بني أسد وغيرهم الذين هم معدن الغلظة والجفاء {آمنا} أي: بجميع ما جئت به فامتثلنا ما أمرنا به في هذه السورة ولنا النسب الخالص فنحن أشرف من غيرنا من أهل المدر {قل} يا أشرف الخلق تكذيباً لهم مع مراعاة الأدب في عدم التصريح بالتكذيب {لم تؤمنوا} أي: لم تصدّق قلوبكم لأنكم لو آمنتم لم تمنوا لأنّ الإيمان التصديق بجميع ما لله من الكمال الذي منه أنه لولا منه بالهداية لم يحصل الإيمان فله ولرسوله الذي كان ذلك على يديه المنّ والفضل {ولكن قولوا أسلمنا} أي: أظهرنا الانقياد في الظاهر للأحكام الظاهرة وأمنا من أن نكون حرباً للمؤمنين وعوناً للمشركين، فأخبر الله تعالى أنّ حقيقة الإيمان هو التصديق بالقلب وإن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالأبدان لا يكون إيماناً دون التصديق بالقلب والإخلاص فالإسلام هو الدخول في السلم كما يقال أشتى إذا دخل في الشتاء وأصاف إذا دخل في الصيف وأربع إذا دخل في الربيع فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان كقوله عز وجل لإبراهيم {أسلم قال أسلمت لرب العالمين} (البقرة: 131)
ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب وذلك قوله تعالى: {ولكن قولوا أسلمنا} {ولما يدخل الإيمان} أي: المعرفة التامّة لم تدخل إلى هذا الوقت {في قلوبكم} فلا يعدّ إقرار اللسان إيماناً إلا لمواطأة القلب قال ابن برجان: فعموم الناس وأكثر أهل الغفلة مسلمون غير مؤمنين.
وعن سعد بن أبي وقاص «قال أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس فيهم فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً منهم لم يعطه وهو أعجبهم إليّ فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته.
فقلت: مالك عن فلان والله إني لأراه مؤمناً. فقال صلى الله عليه وسلم أو مسلماً ذكر ذلك سعد ثلاثاً وأجابه بمثل ذلك ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه خشية أن يكب في النار على وجهه» .
وقال الرازي: المسلم والمؤمن واحد عند أهل السنة. فنقول الفرق بين العام والخاص: أنّ الإيمان لا يحصل إلا بالقلب والانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان فالإسلام أعمّ لكن العامّ في صورة الخاص متحد مع الخاص، ولا يكون أمراً آخر غيره. مثاله الحيوان في صورة الإنسان أمر لا ينفك عن(4/74)
الإنسان فلا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيواناً ولا يكون إنساناً فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود، وكذلك المؤمن والمسلم، وسيأتي زيادة على ذلك في الذاريات إن شاء الله تعالى.
وقال الرازي: في الآية إشارة إلى بيان حال المؤلفة إذا أسلموا ويكون إيمانهم ضعيفاً فيقال لهم: لم تؤمنوا لأنّ الإيمان إيقان وذلك بعد لم يدخل في قلوبهم وسيدخل بإطلاعهم على محاسن الإسلام انتهى. بل الإيمان دخل في قلوبهم ولكن لم يتألفوا بأهل الإسلام؟.
تنبيه: التعبير بلما يفهم أنهم آمنوا بعد ذلك ويجوز أن يكون المراد بهذا النفي نفي التمكن في القلب لا نفي مطلق الدخول بدليل إنما المؤمنون دون إنما الذين آمنوا {وإن تطيعوا الله} أي: الملك الذي من خالفه لم يأمن عقوبته {ورسوله} أي: الذي طاعته من طاعته على ما أنتم عليه من الأمر الظاهر فتؤمن قلوبكم {لا يلتكم} أي: لا ينقصكم {من أعمالكم شيئاً} بل يعطيكم ما يليق به من الجزاء لأنّ من حمل إلى ملك فاكهة طيبة قدر ثمنها في السوق ردهم فأعطاه الملك درهماً انتسب الملك إلى البخل فهو يعطي ما تتوقعون بأعمالكم وزيادة من غير نقص فلا حاجة إلى إخباركم عن إيمانكم بغير ما يدلّ عليه من الأقوال والأفعال.
وقرأ الدوري: عن أبي عمرو بعد الياء التحتية بهمزة ساكنة وأبدلها السوسي ألفاً والباقون بغير همز ولا ألف. ولما كان الإنسان مبنياً على النقص وإن اجتهد غاية اجتهاده قال الله تعالى: {إن الله} أي: الذي له صفات الكمال {غفور} أي: ستور للهفوات والزلات لمن تاب وصحت نيته ولغيره إن شاء فلا عتاب ولا عقاب {رحيم} أي: يزيد على الستر عظيم الإكرام ثم بين تعالى لهم حقيقة الإيمان بقوله تعالى:
{إنما المؤمنون} أي العريقون في الإيمان الذي هو حياة القلوب. قال القشيري: والقلوب لا تحيا إلا بعد ذبح النفوس والنفوس لا تموت ولكنها تعيش {الذين آمنوا} أي: صدّقوا معترفين {بالله} معتقدين بجميع ماله من صفات الكمال {ورسوله} شاهدين برسالته وهذا الإثبات هنا يدل على أن المنفي فيما قبل الكمال المطلق وإلا لقال تعالى إنما الذين آمنوا {ثم لم يرتابوا} أي: لم يشكوا في دينهم وأيقنوا بأنّ الإيمان إيقان.
تنبيه: ثم للتراخي في الحكاية كأنه يقول آمنوا ثم أقول شيئاً آخر لم يرتابوا ويحتمل أن تكون للتراخي في الفعل أي آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا فيما نقل النبيّ صلى الله عليه وسلم من الحشر والنشر {وجاهدوا} أي: أوقعوا الجهاد بكل ما ينبغي أن تجهد النفوس فيه تصديقاً لما ادعوه بألسنتهم من الإيمان {بأموالهم} وذلك هو النية وقوله تعالى: {وأنفسهم} أعمّ من النية وغيرها وذلك هو الشجاعة قدم الأموال لقلتها عند العرب {في سبيل الله} أي: طريق الملك الأعظم بقتال الكفار وغيره من سائر العبادات المحتاجة إلى المال والنفس لا الذين يتخلفون ويقولون شغلتنا أموالنا وأهلونا. قال القشيري: جعل الله تعالى الإيمان مشروطاً بخصال ذكرها وذكر بلفظ إنما وهي للتحقيق يقتضي الطرد والعكس فمن أفرد الإيمان عن شرائطه التي جعلها له فمردود عليه قوله: {أولئك} أي: العالو الرتبة {هم الصادقون} أي: في قولهم وفعلهم أنهم مؤمنون. ولما نزل هاتان الآيتان أتت الأعراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون بالله أنهم مؤمنون صادقون(4/75)
وعلم الله منهم غير ذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
{قل} أي: لهؤلاء الأعراب مجهلاً لهم ومبكتاً {أتعلمون الله} أي: أتخبرون أخباراً عظيماً الملك الأعظم المحيط قدرة وعلماً {بدينكم} أي بقولكم آمنا {والله} أي: والحال أن الملك المحيط بكل شيء {يعلم ما في السموات} كلها على عظمتها وكثرة ما فيها {وما في الأرض} كذلك {والله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {بكل شيء} أي مما ذكر ومما لم يذكر {عليم} أي: لا تخفي عليه خافية وهو تجهيل لهم وتوبيخ
{يمنون عليك} أي: يذكرون ذكر من اصطنع صنيعة وأسدى إليك نعمة {أن أسلموا} أي: من غير قتال بخلاف غيرهم ممن أسلم بعد قتال منهم ولما كان المنّ هو القطع من العطاء الذي لا يراد عليه جزاء قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} أي: في جواب قولهم هذا {لا تمنوا عليّ إسلامكم} لو فرض أنكم كنتم متدينين بدين الإسلام الذي هو انقياد الظاهر مع اذعان الباطن أي لا تذكروا الامتنان أصلاً لأنّ الإسلام لا يطلب جزاؤه إلا من الله تعالى فلا ينبغي عدّه صنيعة على أحد فإنّ ذلك يفسده {بل الله} أي: الملك الأعظم الذي له المنة على كل موجود ولا منة عليه بوجه {يمن عليكم} أي: بذكر أنه أسدى إليكم نعمة {أن} أي: بأن {هداكم للإيمان} أي: فهو المانّ عليكم لا أنتم عليه وعلي.
فإن قيل: كيف منّ عليهم بالهداية إلى الإيمان مع أنه تبين أنهم لم يؤمنوا. أجيب بأوجه: أحدها: أنه تعالى لم يقل بل الله يمنّ عليكم أن رزقكم الإيمان بل قال أن هداكم للإيمان ثانيها: أنه تعالى منّ عليهم بما زعموا فكأنه تعالى قال أنتم قلتم آمنا فذلك نعمة في حقكم حيث تخلصتم من النار. فقال تعالى {هداكم} في زعمكم
ولهذا قال تعالى: {إن كنتم صادقين} أي: في قولكم آمنا فإنه على تقدير الصدق إنما هو بتوفيق الله تعالى وهو الذي خلق لكم قدرة الطاعة فهو الفاعل في الحقيقة فله المنة عليكم. قال القشيري: من لاحظ شيئاً من أحواله فإن رآها من نفسه كان مشركاً وإن رآها لنفسه كان مكراً فكيف يمنّ العبد بما هو شرك أو مكر والذي يجب عليه قبول المنة كيف يرى لنفسه على غيره منة هذا لعمري فضيحة والمنة تكدّر الصنيعة إذا كانت من المخلوقين وبالمنة تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله تعالى.
{إن الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يعلم غيب السموات} أي: ما غاب فيها كلها {والأرض} كذلك ولما أريد التعميم من غير تقييد بالخافقين أظهر ولم يضمر قوله تعالى: {والله} أي الذي له الإحاطة بذلك وبغيره مما لا تعلمون {بصير} أي: عالم أتم العلم {بما تعملون} أي: من ظاهر إسلامكم في الماضي والحاضر والآتي سواء أكان ظاهراً أم باطناً سواء أكان قد حدث فصار بحيث تعلمونه أنتم أو كان مفروزاً في جبلاتكم وهو خفيّ عنكم. وقرأ ابن كثير: بالياء التحتية على الغيبة نظراً لقوله تعالى: {يمنون} وما بعده والباقون بالفوقية على الخطاب نظراً إلى قوله تعالى: {لا تمنوا عليّ إسلامكم} إلى آخره وفي هذه الآية إشارة إلى أنه يبصر أعمال جوارحكم الظاهرة والباطنة لا يخفى عليه شيء وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحجرات أعطي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه» حديث موضوع.(4/76)
سورة ق
مكية إلا قوله تعالى {ولقد خلقنا السموات والأرض} الآيةمدنية، وهي خمس وأربعون آية وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمةوألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفاً
{بسم الله} أي: الذي أحاط علمه بجيمع خلقه العاكف منهم والبادي {الرحمن} أي الذي عمّ خلقه برحمته حين أرسل إليهم بشرائعه أصدق العباد {الرحيم} أي: الذي خص بالفوز في دار القرار أهل الرشاد واختلف في تفسير قوله عز من قائل:
{ق} فقال ابن عباس: هو قسم. وقيل: هو اسم للسورة. وقيل: اسم من أسماء القرآن. وقال القرطبي: هو مفتاح اسمه قدير وقادر وقاهر وقريب وقابض. وقال عكرمة والضحاك: هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء ومنه خضرة السماء والسماء مغيبة عليه وعليه كنفاها ويقال هو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة قيل: متصلة عروقه بالصخرة التي عليها الأرض والسماء كهيئة القبة وعليه كنفاها. قال الرازي: وهذا القول ضعيف لوجوه: أحدها: أنّ أكثر القرّاء يقف عليها ولو كان اسم جبل لما جاز الوقف في الإدراج لأنّ من قال ذلك قال: إنّ الله تعالى أقسم به. ثانيها: أنه لو كان كما ذكر لكان يكتب قاف مع الألف والفاء كما يكتب عين جارية ويكتب {أليس الله بكاف عبده} (الزمر: 36)
وفي جميع المصاحف تكتب حرف ق. ثالثها: أنّ الظاهر كون الأمر فيه كالأمر في ص ون وحم وهي حروف لا كلمات فكذلك في ق فإن قيل: هو منقول عن ابن عباس نقول: المنقول عنه أنّ القاف اسم جبل، وأمّا أنّ المراد ههنا ذلك فلا ا. هـ.
وقيل: معناه قضى الأمر وقضى ما هو كائن كما قالوا في {حم} وفي {ص} صدق الله. قال الرازي: وقد ذكرنا أنّ الحروف تنبيهات قدّمت على القرآن ليكون السامع بسببها يقبل على استماع ما يرد على الإسماع فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق وذكرنا أيضاً أنّ العبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جارحية ظاهرة ووجد في الجارحية ما عقل معناه ووجد فيها ما لم يعقل معناه كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما ووجد في القلبية ما عقل بالدليل وعلم كالتوحيد وإمكان الحشر وصفات الله تعالى وصدق الرسل ووجد فيها ما لم يعقل ولا يمكن التصديق به لولا السمع كالصراط الممدود الأحد من السيف الأرق من الشعر. والميزان الذي توزن به الأعمال.
فكذلك ينبغي أن تكون الأذكار التي هي العبادة اللسانية فيها ما يعقل معناه كجميع القرآن إلا قليلاً منه وفيها ما لا يعقل ولا يفهم كل حروف التهجي ليكون التلفظ به لمحض الانقياد للأمر لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض كقولك: ربنا اغفر لنا وارحمنا بل يكون النطق به تعبداً محضاً.
ويؤيد هذا وجه آخر: وهو أنّ هذه الحروف مقسم بها لأنّ الله تعالى لما أقسم بالتين والزيتون كان تشريفاً لهما فإذا أقسم بالحروف التي هل أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة وآلة التعريف كان أولى، وإذا عرفت هذا فنقول القسم من الله تعالى وقع بأمر واحد كما في قوله تعالى: {والعصر} (العصر: 1)
وقوله تعالى: {والنجم} (النجم: 1)
بحرف واحد كما في قوله تعالى: {ص} و {ن} ووقع بأمرين كما في قوله تعالى: {والضحى} (الضحى: 1)
{والليل} (الليل: 1)
وفي قوله تعالى: {والسماء والطارق} (الطارق: 1)
بحرفين كما قال في قوله تعالى:(4/77)
{طه} (طه: 1)
و {طس} (النمل: 1)
و {حم} (غافر: 1)
ووقع بثلاثة أمور كما في قوله تعالى: {والصافات، فالزاجرات، فالتاليات} (الصافات: 1 ـ 3)
وقوله تعالى: {والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود} (البروج: 1 ـ 3)
بثلاثة أحرف كما في قوله تعالى: {ألم} (البقرة: 1)
و {طسم} (الشعراء: 1)
{الر} (يونس: 1)
ووقع بأربعة أمور كما في قوله تعالى: {والذاريات فالحاملات فالجاريات فالمقسمات} (الذاريات: 4)
وفي قوله تعالى: {والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين} (التين: 1 ـ 3)
وبأربعة أحرف كما في قوله تعالى: {المص} (الأعراف: 1)
و {المر} (الرعد: 1)
ووقع بخمسة أمور كما في قوله تعالى: {والطور وكتاب مسطور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور} (الطور: 1 ـ 6)
وفي قوله تعالى: {والمرسلات فالعاصفات والناشرات فالفارقات فالملقيات} (المرسلات: 1 ـ 5)
وفي النازعات وفي الفجر وبخمسة أحرف كما في قوله تعالى: {كهيعص} (مريم: 1)
و {حم عسق} (الشورى: 1 ـ 2)
ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي {والشمس وضحاها} (الشمس: 1)
ولما أقسم بالأشياء المعهودة ذكر حرف القسم وهو الواو فقال: {والطور والنجم والشمس} وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم فلم يقل وحم وق لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسماً به فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحرف وغيره ولم يدخل القسم بالحروف في أثناء السورة لأنه يخل بالنظم.
وقوله تعالى:
{والقرآن} أي: الكتاب الجامع الفارق {المجيد} أي: الذي له العلوّ والشرف والكرم والعظمة على كل كلام قسم وفي جوابه أوجه.
أحدها: قوله تعالى {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} ثانيها {ما يبدل القول لديّ} ثالثها: {ما يلفظ من قول} رابعها {إنّ في ذلك لذكرى} خامسها {بل عجبوا} وهو قول كوفيّ قالوا لأنّ معناه قد عجبوا. سادسها: أنه محذوف قدّره الزجاج والمبرد والأخفش لتبعثنّ وغيرهم لقد جاءكم منذر وقدره الجلال المحلي بقوله ما آمن كفار مكة بمحمد صلى الله عليه وسلم
تنبيه: جوابات القسم سبعة أنّ المشدّدة كقوله تعالى: {والعصر إنّ الإنسان لفي خسر} (العصر: 1 ـ 2)
وما النافية كقوله تعالى: {والضحى والليل إذا سجى ما ودّعك ربك} (الضحى: 1 ـ 3)
واللام المفتوحة كقوله تعالى: {فو ربك لنسألنهم أجمعين} (الحجر: 92)
وإن الخفيفة كقوله تعالى {تالله إن كنا لفي ضلال مبين} (الشعراء: 97)
ولا النافية كقوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} (النحل: 38)
وقد كقوله تعالى {والشمس وضحاها} (الشمس: 1)
{قد أفلح من زكاها} (الشمس: 9)
وبل كقوله تعالى {والقرآن المجيد} بل أي أنّ تكذيبهم ليس لإنكار شيء من مجدك ولا إنكار صدقك.
{بل} لأنهم {عجبوا} أي: الكفار وأضمرهم قبل الذكر إشارة إلى أنه إذا ذكر شيء خارج عن سنن الاستقامة انصرف إليهم العجب تغير النفس لأمر خارج عن العادة {إن جاءهم منذر منهم} أي: رسول من أنفسهم يخوّفهم بالنار بعد البعث واقتصر على الإنذار لأنّ المقام لتخويف من قدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو منّ عليه بإسلام أو غيره ولتخويف من أنكر البعث والعجب منهم هو العجب لأنّ العادة عندهم وعند جميع الناس أنه إذا كان لنذير منهم لم يداخلهم في إنذاره شك بوجه من الوجوه وهؤلاء خالفوا عادة الناس في تعجبهم من كون النذير وهو أحدهم خص بالرسالة دونهم ولم يدركوا وجه الخصوصية لكونه مثلهم فلذلك أنكروا رسالته وفضل كتابه بألسنتهم تعانداً وحسداً لأنهم كانوا معترفين بخصائصه التي رفعه الله تعالى بها عليهم قبل الرسالة فحطهم عجبهم ذلك إلى الحضيض من دركات السفه(4/78)
وخفة الأحلام، لأنهم عجبوا أن كان الرسول بشراً وأوجبوا أن يكون الإله حجراً، وعجبوا أن يعادوا من تراب لم يكن له أصل في الحياة ولذلك سبب عنه قوله تعالى: {فقال} أي: بسبب إنذاره بالبعث {الكافرون} وصرح به في موضع الإضمار إيذاناً بأنهم لم يخف عليهم شيء من أمره ولكنهم ستروا تعدّياً برأي عقولهم الدالة على جميع أمره دلالة ظاهرة وعبر بما دل على النذارة لأنها المقصود الأعظم من هذه السورة وجميع سياق الحجرات ظاهر فيها {هذا} أي كون النذير منا خصص بالرسالة من دوننا وكون ما أنذر به هو البعث بعد الموت {شيء عجيب} أي: بليغ في الخروج عن عادة أشكاله وقد كذبوا في ذلك أما من جهة النذير فإن أكثر الرسل من الطوائف الذين أرسلوا إليهم وقليل منهم من كان غريباً ممن أرسل إليه وأمّا من جهة البعث فإن أكثر ما في الكون مثل ذلك من إعادة كل من الملوين بعد ذهابه وإحياء الأرض بعد موتها وإخراج النبات والأشجار والثمار وغير ذلك مما هو ظاهر جداً. ولما كان المتعجب منه مجملاً أوضحه بقوله تعالى
حكاية عنهم مبالغين في الإنكار بافتتاح إنكارهم باستفهام إنكاري.
{أءذا متنا} ففارقت أرواحنا أبداننا {وكنا تراباً} لا فرق بينه وبين تراب الأرض ولما كان العامل في الظرف ما تقديره نرجع دل عليه بقوله تعالى دالاً بالإشارة بأداة البعد إلى عظيم استبعادهم {ذلك} أي: الأمر الذي في غاية البعد وهو مضمون الخبر برجوعنا {رجع} أي: ردّ إلى ما كنا عليه {بعيد} جدّاً لأنه لا يمكن تمييز ترابنا من بقية التراب وقرأ قالون وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية وهي المكسورة وإدخال ألف بينها وبين الهمزة الأولى المفتوحة وقرأ ورش وابن كثير بتسهيل الثانية من غير إدخال وقرأ الباقون بتحقيقهما وأدخل هشام بينهما ألفاً بخلاف عنه والباقون بغير إدخال وكسر الميم من متنا نافع وحفص وحمزة والكسائي والباقون بالضم وقوله تعالى:
{قد علمنا} أي: بما لنا من العظمة {ما تنقص الأرض منهم} أي: تأكل من أجزائهم المتحللة من أبدانهم بعد الموت. وقبله رد لاستبعادهم لأنّ من لطف علمه حتى تغلغل إلى ما تنقص الأرض من أجزاء الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم كان قادراً على رجعهم أحياءً كما كانوا وعنه عليه الصلاة والسلام «كل ابن آدم يبلي إلا عجب الذنب» وعن السدّي ما تنقص الأرض منهم من يموت منهم ومن يبقى. وهذه الآية تدل على جواز البعث وقدرته تعالى عليه لأنّ الله تعالى عالم بأجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء واحد بجزء الآخر قادر على الجمع والتأليف فليس الرجع منه ببعيد وهذا كقوله تعالى: {وهو الخلاق العليم} (يس: 81)
حيث جعل للعلم مدخلاً في الإعادة وهذا جواب ما كانوا يقولون أئذا ضللنا في الأرض أي أنه تعالى كما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فيرجعهم ويعيدهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون {وعندنا} أي: على مالنا من الغنى من كل شيء {كتاب} أي: جامع لكل شيء {حفيظ} أي بالغ في الحفظ لا يشذ عنه شيء من الأشياء جل أودق وقيل محفوظ من الشياطين ومن أن يندرس أو يغير وعلى الحالين الحفيظ هو اللوح المحفوظ. قال الرازي: والأوّل هو الأصح لأنّ الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن قال الله تعالى: {وما أنا عليكم بحفيظ} (الأنعام: 104)
وقال تعالى {حفيظ عليهم} (الشورى: 6)
ولأن الكتاب للتمثيل(4/79)
ومعناه العلم عندي كما يكون في الكتاب فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ. وقوله تعالى:
{بل كذبوا بالحق} أي: الأمر الثابت الذي لا أثبت منه إضراب ثان قال الزمخشري: إضراب أتبع للإضراب الأوّل للدّلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحقّ {لما} أي: حين {جاءهم} أي: لما ثار عندهم من أجل تعجبهم من إرسال رسولهم من حظوظ النفوس حسداً منهم من غير تأمّل لما قالوه ولا تدبر ولا نظر فيه ولا تذكر فلذلك قالوا ما لا يعقل من أنّ من قدر على إيجاد شيء من العدم وابدائه لا يقدر على إعادته بعد إعدامه له {فهم} أي: لأجل مبادرتهم إلى هذا القول السفساف {في أمر مريج} أي: مضطرب جدّاً مختلط من المرج الذي هو اختلاط النبت بالأنواع المختلفة فهم تارة يقولون سحر وتارة كهانة وتارة شعر وتارة كذب وتارة غير ذلك، لا يثبتون على شيء واحد. والاضطراب موجب للاختلاف وذلك أدل دليل على الإبطال كما أنّ الثبات والخلوص موجب للاتفاق وذلك أدل دليل على الحقية قال الحسن: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم. وكذا قال قتادة وزاد والتبس عليهم دينهم.
ثم ذكر تعالى الدليل الذي يدفع قولهم ذلك رجع بعيد بقوله تعالى:
{أفلم ينظروا} أي: بعين البصر والبصيرة {إلى السماء} أي: المحيطة بهم {فوقهم} فإن غيرها إنما هو فوق ناس منهم لا فوق الكل {كيف بنيناها} أي: أوجدناها على مالنا من المجد والعز مبنية كالخيمة إلا أنها من غير عمد {وزيناها} أي بما فيها من الكواكب الكبار والصغار السيارة والثابتة {وما} أي: والحال أن ما {لها} وأكد النفي بقوله تعالى: {من فروج} أي: فتوق وطاقات وشقوق بل هي ملساء متلاصقة الأجزاء.H
{والأرض} أي: المحيطة بهم التي هم عليها {مددناها} أي: بسطناها بما لنا من العظمة {وألقينا} أي: بعظمتنا {فيها رواسي} أي جبالاً ثوابت كانت سبباً لثباتها وخالفت عادة المراسي في أنها من فوق والمراسي التي تعالجونها أنتم من تحت {وأنبتنا} أي بما لنا من العظمة {فيها} أي الأرض وعظم قدرته بالتبعيض فقال تعالى: {من كل زوج} أي صنف من النبات تزاوجت أشكاله {بهيجٍ} أي هي في غاية الرونق والإعجاب فكان مع كونه رزقاً منتزهاً.
{تبصرةً} أي: جعلنا هذه الأشياء كلها لأجل أن تنظروا بأبصاركم وتتفكروا ببصائركم فتعبروا منها إلى صانعها فتعلموا ما له من العظمة {وذكرى} أي: ولتذكروا بها تذكراً عظيماً بما لكم من القوى والقدر فتعلموا بعجزكم عن كل شيء من ذلك أنّ صانعها لا يعجزه شيء وأنه محيط بجميع صفات الكمال وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: بالإمالة محضة. وقرأ ورش: بالإمالة بين بين والباقون بالفتح.
تنبيه: قال الرازي: يحتمل أن يكون الأمران عائدين إلى السماء والأرض أي خلق السماء تبصرة وخلق الأرض ذكرى ويدل على ذلك أنّ السماء وزينتها غير مستجدّة في كل عام فهي كالشيء المرئي على ممر الزمان. وأمّا الأرض فهي كل سنة تأخذ زينتها وزخرفها فتذكر فالسماء تبصرة والأرض تذكرة ويحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين موجوداً في كل واحد من الأمرين فالسماء تبصرة وتذكرة والأرض كذلك.
والفرق بين التذكرة والتبصرة هو أنّ فيهما آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر وآيات متجدّدة مذكرة عند التناسي {لكل عبدٍ} أي:(4/80)
لتبصر وتذكر كل عبد بماله من النقص وبمادل عليه هذا الصنع من الكمال أنه عبد مربوب لصانعه {منيبٍ} أي: رجاع عما خطه إليه طبعه إلى ما يغلبه عليه عقله فيرجع من شهود هذه الأفعال إلى شهود الصفات إلى علم الذات.
ثم ذكر تعالى دليلاً بقوله تعالى:
{ونزلنا من السماء} أي: المحل العالي الذي لا يمسك فيه الماء عن دوام التقاطر إلا بقاهر {ماء} أي شيئاً فشيئاً في أوقات وعلى سبيل التقاطر ولولا عظمتنا التي لا تضاهي لغلب بما له من الثقل والميوع والنفوذ فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فنزل دفعة واحدة فأهلك ما نزل عليه فزالت المسرّة وعادت المنفعة مضرّة {مباركاً} أي: نافعاً جدّاً كثير لبركة وفيه حياة كل شيء، وهو المطر فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما وهو إنزال الماء من فوق وإخراج النبات من تحت {فأنبتنا} أي: بما لنا من القدرة الباهرة {به جناتٍ} من الشجر والثمر والزرع والريحان وغيره مما تجمعه البساتين فتجن أي تستر الداخل فيها {وحب الحصيد} أي: النجم الذي من شأنه أنه يحصد كالبر والشعير ونحوهما وقوله تعالى:
{والنخل} منصوب عطفاً على مفعول أنبتنا أي وأنبتنا النخل وقوله تعالى {باسقات} أي: طوالاً حال مقدّرة لأنها وقت الإثبات لم تكن طوالاً والبسوق الطول يقال بسق فلان على أصحابه أي طال عليهم في الفضل ومنه قول أبي نوفل في ابن هبيرة:
*يا ابن الذين بمجدهم ... بسقتهم قيس فزاره*
وهو استعارة والأصل استعماله في بسقت النخلة تبسق بسوقاً أي طالت قال الشاعر:
*لنا خمر وليست خمر كرم ... ولكن من نتاج الباسقات*
*كرام في السماء ذهبن طولا ... وفات ثمارها أيدي الجناة*
وبسقت الشاة ولدت، وأبسقت الناقة وقع في ضرعها اللبن قبل النتاج. وقال سعيد بن جبير: باسقات: مستويات وأفردها بالذكر لفرط ارتفاعها {لها طلع} يجوز أن تكون الجملة حالاً من النخل أو من الضمير في باسقات ويجوز أن يكون الحال وحده لها وطلع فاعل به وقوله تعالى: {نضيد} بمعنى منضود بعضها فوق بعض في أكمامها كما في سنبلة الزرع وهو عجيب فإنّ الأشجار الطوال ثمارها بارزة بعضها على بعض لكل واحدة منها أصل يخرج منه كالجوز واللوز والطلع كالسنبلة الواحدة تكون على أصل واحد وقوله تعالى:
{رزقا} يجوز أن يكون حالاً أي مرزوقاً {للعباد} ويجوز أن يكون مفعولاً له وللعباد إمّا صفة وإمّا متعلق بالمصدر، فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى عند ذكر خلق السماء والأرض تبصرة وذكرى وفي الثمار قال رزقاً والثمار أيضاً فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضاً منفعة غير التبصرة والتذكرة.
أجيب: بأنّ الاستدلال وقع لوجود أمرين:
أحدهما: الإعادة. والثاني: البقاء بعد الإعادة فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعده الثواب الدائم والعقاب الدائم وأنكروا ذلك فقال: أما الأوّل فالله القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء وأما الثاني فلأنّ البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النخل والشجر قادر على أن يرزق بعد الحشر فكان الأولّ تبصرة وتذكرة بالخلق. والثاني: تذكرة بالبقاء والرزق ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تعالى(4/81)
{تبصرة وذكرى} حيث ذكر ذلك بين الآيتين ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإثبات النبات
تنبيه: لم يقيد هنا العباد بالإنابة وقيده في قوله تعالى: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} لأنّ التذكرة لا تكون إلا للمنيب والرزق يعمّ كل أحد غير أنّ المنيب يأكل ذاكراً أو شاكراً للأنعام، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام فلم يخصص بقيد ولما كان في ذلك أعظم مذكر للبصراء بالبعث وبجميع صفات الكمال أتبعه ماله من التذكير بالبعث بخصوصية فقال تعالى {وأحيينا به} أي: الماء بعظمتنا {بلدةً} بالتأنيث إشارة إلى أنها في غاية الضعف والحاجة إلى النبات والخلوّ عنه وذكر {ميتاً} للزيادة في تقرير تمكن الحاجة فيها أو حملاً على معنى المكان فإن قيل: ما الفرق بين هذا الموضع وبين قوله تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة} (يس: 33)
حيث أثبت الهاء هناك أجيب: بأنّ الأصل في الأرض الوصف فقال الميتة: لأنّ معنى الفاعلية ظاهر هناك والبلدة الأصل فيها الحياة لأنّ الأرض إذا صارت حية صارت آهلة وأقام بها القوم وعمروها فصارت بلدة فأسقط التاء لأنّ معنى الفاعلية غير ظاهر فتثبت فيه الهاء وإذا كان معنى الفاعل لم يظهر لا تثبت فيه الهاء.
ويحقق هذا القول قوله تعالى {بلدة طيبةً} (سبأ: 15)
حيث أثبت الهاء حيث ظهر معنى الفاعل ولم يثبت حيث لم يظهر {كذلك} أي: مثل الإخراج العظيم {الخروج} من قبورهم على ما كانوا عليه في الدنيا إذ لا فرق بين خروج النبات بعد ما تهشم وتفتت في الأرض وصار تراباً كما كان من بين أصفره وأبيضه وأحمره وأزرقه إلى غير ذلك وبين إخراج ما تفتت من الموتى كما كانوا في الدنيا
تنبيه: قال أبو حيان: ذكر تعالى في السماء ثلاثة البناء والتزيين ونفي الفروج وفي الأرض ثلاثة المدّ وإلقاء الرواسي والإنبات فقابل المدّ بالبناء لأنّ المدّ وضع والبناء رفع وإلقاء الرواسي بالتزيين بالكواكب لارتكاب كل واحد منها أي على سطح ما هو فيه والإنبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج فلا شق فيها ونبه فيما تعلق به الإنبات على ما يقطف كل سنة ويبقى أصله وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة وعلى ما اختلط من جنسين فبعض الثمار فاكهة لا قوت وأكثر الزرع قوت والثمر فاكهة وقوت وقوله تعالى:
{كذبت قبلهم} الآية فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتنبيه بأنّ حاله كحال من تقدّمه من الرسل كذبوا وصبروا فأهلك الله تعالى مكذبيهم ونصرهم. ولما لم يكن لهؤلاء المكذبين شهرة يعرفون بها قال تعالى: {قوم نوح} الذين كان آخر أمرهم أنه التقى عليهم الماءان نزل عليهم ماء السماء وطلع عليهم ماء الأرض فأغرقهم ووسم الفعل بالتاء إشارة إلى هو أنهم في جنب هذا المجد وأسقط الجار من قوله تعالى: {قبلهم} إشارة إلى أنّ هؤلاء الأحزاب لقوتهم وكثرتهم كأنهم أهل الأرض قد استغرقوا مكانها وزمانها ثم أتبع قوم نوح بمشابهيهم بقوله تعالى: {وأصحاب الرس} أي: البئر كانوا مقيمين عليها بمواشيهم يعبدون الأصنام، ونبيهم قيل: حنظلة بن صفوان وقيل غيره فخسفت تلك البئر مع ما حولها فذهبت بهم وبكل مالهم كما ذكرت قصتهم في الفرقان.
ثم أتبع أصحاب الرس بقوم صالح عليه السلام فقال {وثمود} لأنّ الرجفة التي أخذتهم مبدأ الخسف ثم أتبع ثمود بقوم هود عليه السلام فقال تعالى:
{وعادٌ} لأنّ الريح التي أهلكتهم أثرت بها صيحة ثمود وقال تعالى: {وفرعون} ولم يقل قوم فرعون لأنه ليس في قادة هذه(4/82)
الفرق كافر غيره والنص عليه يفهم عظمته وأنه استخف قومه فأطاعوه {وإخوان لوط} أي: أصهاره الذين صار بينه وبينهم مع المصاهرة المناصرة بملوكهم على من قاواهم بنفسه وعمه خليل الله إبراهيم عليهما السلام ومع ذلك عاملوه بالخيانة والتكذيب.
{وأصحاب الأيكة} أي: الغيضة. وهم قوم شعيب، والغضة الشجرة الملتف بعضه على بعض ولما كان تبع الحميري واسمه سعد وكنيته أبو كرب مع كونه في قومه ملكاً قاهراً وخالفوه مع ذلك، وكان لقومه نار في بلادهم يتحاكمون إليها فتأكل الظالم ختم بهم فقال تعالى: {وقوم تبع} مع كونه ملكاً وهو يدعوهم إلى الله تعالى فلا يظنّ أنّ التكذيب مخصوص بمن كان قوياً لمن كان مستضعفاً بل هو واقع بمن شئنا من قوي وضعيف لا يخرج شيء عن مرادنا {كلٌ} أي من هذه الفرق {كذب الرسل} أي كلهم بتكذيب رسولهم فإن الكل متساوون فيما يوجب الإيمان من إظهار المعجز والدعاء إلى الله تعالى {فحق} أي: فتسبب عن تكذيبهم لهم أن ثبت عليهم ووجب {وعيد} أي: الذي كانوا يكذبون به عند إنذارهم لهم إياه فجعلنا لهم منه في الدنيا ما حكمنا به عليهم في الأزل فأهلكناهم إهلاكاً عامّاً كإهلاك نفس واحدة على أنحاء مختلفة كما هو مشهور عند من له بأمثاله عناية وأتبعناه ما هو في البرزخ وأخرنا ما هو في القيامة إلى يوم البعث فثبت بإهلاكنا لهم على تنائي ديارهم وتباعد أعصارهم وكثرة أعدادهم أن لنا الإحاطة البالغة فتسلّ بإخوانك المرسلين وتأس بهم وليحذر قومك ما حل بمن كذبهم أن أصرّوا.
{أفعيينا بالخلق} أي: أحصل لنا مع ما لنا من العظمة الإعياء وهو العجز بسبب الخلق في شيء من إيجاده أو إعدامه {الأوّل} أي: من السموات والأرض وما بينهما حين ابتدأناه اختراعاً من العدم ومن خلق الإنسان وسائر الحيوان مجدّداً في كل أوان في الأطوار المشاهدة على هذه التدريجات المعتادة بعد أن خلقنا أصله على ذلك الوجه مما ليس له أصل في الحياة، ومن إعدامه بعد خلقه جملة كهذه الأمم أو تدريجاً كغيرهم {بل هم في لبسٍ} أي: شك شديد وشبهة موجبة للتكلم بكلام مختلط لا يعقل له معنى بل السكوت عنه أجمل {من} أي: لأجل {خلقٍ جديدٍ} أي: بالإعادة ولما ذكر الخافقين أتبعه خلق ما هو جامع لجميع ما هو فيهما. فقال تعالى:
{ولقد} أي: والحال أنا قد {خلقنا} أي: بما لنا من العظمة {الإنسان} وهو أعجب خلقاً وأجمع من جميع ما مضى ذكره بما فيه من الأنس والطغيان والذكر والنسيان والجهل والعرفان والطاعة والعصيان وغير ذلك من عجيب الشان. ووكلنا به من جنودنا من يحفظ فيضبط حركاته وسكناته وجميع أحواله {ونعلم} والحال أنا نعلم بما لنا من الإحاطة {ماتوسوس} أي: تكلم على وجه الخفاء {به} أي: الآن وفيما بعد ذلك {نفسه} مما لم نقدح بعد من خزائن الغيب إلى سرّ النفس كما علمنا ما تكلم نفسه وهي الخواطر التي تعرض له حتى أنه هو ربما عجز عن ضبطها فنحن نعلم أن قلوبهم عالمة بقدرتنا على أكمل ما نريد وبصحة القرآن وإعجازه وصدق الرسول به صلى الله عليه وسلم وامتيازه وإنما حملهم الحسد والنفاسة والكبر والرياسة على الإنكار باللسان، حتى صار لهم ذلك خلقاً وتمادوا فيه، حتى غطى على عقولهم فصاروا في لبس محيط بهم من جميع الجوانب ونحن أي بما لنا من العظمة {أقرب إليه} أي: قرب علم وشهود من غير(4/83)
مسافة {من حبل الوريد} لأنّ أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضاً ولا يحجب علم الله تعالى شيء والوريدان عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدّمها متصلان من الرأس إلى الوتين وهو عرق متصل بالقلب إذا قطع مات صاحبه. وهذا مثل في فرط القرب وإضافته مثل مسجد الجامع أي حبل العرق الوريد أو لأن الحبل أعمّ فأضيف للبيان نحو بئر ساقية أو يراد حبل العاتق وأضيف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتق لأنهما ما في عضو واحد. وقال البغوي: حبل الوريد: عرق الفرق وهو عرق بين الحلقوم والعلباوين يتفرّق في البدن والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين. قال القشيري: وفي هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم وروح وأنس وسكون قلب لقوم. وقوله تعالى:
{إذ يتلقى} ظرف لأقرب ويجوز أن يكون منصوباً باذكر أي واذكر إذ يتلقى أي بغاية الاجتهاد والمراقبة والمراعاة من كل إنسان خلقناه وأبرزناه إلى هذا الوجود {المتلقيان} أي: الملكان الموكلان بعمل الإنسان ومنطقه يحفظانه ويكتبانه حال كونهما {عن اليمين} لكل إنسان {وعن الشمال} أي: أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فالذي عن اليمين يكتب الحسنات والذي عن الشمال يكتب السيئات وقوله تعالى: {قعيد} أي: قاعدان. مبتدأ وخبره ما قبله لأنّ فعيلاً يطلق على الواحد والمتعدّد كقوله تعالى: {بعد ذلك ظهير} (التحريم: 4)
قال ابن عادل: والأجود أن يدع حذف إما من الأوّل أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد وإما من الثاني فيكون قعيد الملفوظ به للأوّل ومثله قوله:
*رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئاً ومن أجل الطويّ رماني*
وقال مجاهد: القعيد المرصد. ونحن أعلم منهما وأقرب وإنما استحفظناهما لإقامة الحجة بهما على مجاري عاداتكم وغير ذلك من الحكم.
{ما يلفظ} أي: يرمي ويخرج المكلف من فيه وعمم في النفي بقوله تعالى {من قول} جل أو قل {إلا لديه} أي: الإنسان أو القول على هيئة من القدرة والعظمة من أغرب المستغرب {رقيب} من حفظتنا شديد المراعاة في كل من أحواله {عتيد} أي: حاضر مراقب غير غافل بوجه قال الجلال المحلي: وكل منهما بمعنى المثنى أي رقيبان عتيدان. روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشراً وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر» .
تنبيه: اختلف فيما يكتبان فقال مجاهد: يكتبان عليه حتى أنينه في مرضه. وقال عكرمة: لا يكتبان إلا ما يؤجر أو يوزر فيه.
فائدتان: إحداهما: قال الحسن: إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند حالتين عند غائطه وعند جماعه.
الثانية: قال الضحاك: مجلسهما تحت الشعر على الحنك ومثله عن الحسن يعجبه أن ينظف عنفقته
{وجاءت} أي: أتت وحضرت {سكرة الموت} أي: حالته عند النزع وشدّته وغمرته يصير المريض بها السكران لا يعي وتخرج بها أقواله وأفعاله عن قانون الاعتدال مجيئاً ملتبساً بالحق أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع فلا حيلة في الاحتراس منه. وقيل: للميت بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال {ذلك} أي: هذا الأمر العظيم العالي الرتبة الذي يحق لكل أحد الاعتداد له بغاية الجهد {ما} أي: الأمر الذي {كنت} أي: جبلةً(4/84)
وطبعاً {منه تحيد} أي: تميل وتنفر وتروغ وتهرب.
تنبيه: قيل الخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قال الرازي: وهو منكر وقيل مع الكافر قال ابن عادل: والأقوى أن يقال هو خطاب عام مع السامع وهذا أولى وقوله تعالى:
{ونفخ في الصور} عطف على قوله تعالى: {وجاءت سكرة الموت} وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام للموت العامّ والبعث العامّ عند التكامل وانقطاع أوان التعامل وهو بحيث لا يعلم قدر عظمه واتساعه إلا الله تعالى وهو عليه السلام قد التقم الصور من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر فيالها من عظمة ما أغفلنا وعنها أنساناً لها والمراد بهذه نفخة البعث وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى الزمان المفهوم من قوله نفخ لأنّ الفعل كما يدل على المصدر يدل على الزمان فكأنه تعالى قال ذلك الزمان العظيم الأهوال والأوجال {يوم الوعيد} أي: للكفار بالعذاب.
{وجاءت} أي: فيه {كل نفس} أي مكلفة {معها سائق} أي ملك يسوقها إليه {وشهيد} يشهد عليها بعملها. قال الضحاك: السائق من الملائكة والشاهد من أنفسهم وهو الأيدي والأرجل وغيرها وهي رواية العوفي عن ابن عباس رضى الله عنهما وقيل: هما جميعاً من الملائكة، فالسائق كما قيل لا تعلق له بالشهادة لئلا تقول تلك النفس أنه خصم والخصم لا تقبل شهادته وقيل السائق هو الذي يسوقه إلى الموقف ومنه إلى مقعده. والشهيد هو الكاتب والسائق لازم للبرّ والفاجر أما البر فيساق إلى الجنة وأما الفاجر فإلى النار قال تعالى: {وسيق الذين كفروا} (الزمر: 71)
وقال تعالى: {وسيق الذين اتقوا} (الزمر: 73)
والشهيد يشهد عليها بما عملت. تنبيه: يجوز في جملة معها سائق وشهيد أن تكون في موضع جر صفة لنفس، وأن تكون في موضع رفع صفة لكل، وأن تكون في موضع نصب على الحال من كل.
ويقال للكافر.
{لقد كنت} أي: كوناً كأنه جبلة لك {في غفلة} أي: عظيمة محيطة بك ناشئة لك {من هذا} أي: من تصوّر هذا اليوم على ما هو عليه من انقطاع الأسباب والجزاء بالثواب أو العقاب لأنه على شدّة جلائه خفي على من اتبع الشهوات {فكشفنا} بعظمتنا بالموت ثم البعث {عنك غطاءك} الذي كان في الدنيا على قلبك وسمعك وبصرك من الغفلة بالآمال في الحال والمآل وسائر الحظوظ والشهوات {فبصرك اليوم} أي بعد البعث {حديد} أي في غاية الحدّة والنفوذ فلذا تقرّ بما كنت تنكر في الدنيا. وقال مجاهد: يعني نظرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك. والمعنى: أزلنا غفلتك فبصرك اليوم جديد وكان من قبل كليلاً.
واختلف في القرين في قوله تعالى:
{وقال قرينه} فأكثر المفسرين على أنه الملك الموكل به فيقول {هذا ما} أي: الذي {لدي عتيد} أي: حاضر ونقل الكرماني عن ابن عباس رضى الله عنهما: أنه الشيطان الذي سلط على إغوائه واستدراجه إلى ما يريد فزين له الكفر والعصيان. ويدل لهذا قوله تعالى: {وقيضنا لهم قرناء} (فصلت: 25)
وقال تعالى: {نقيض له شيطاناً فهو له قرين} (الزخرف: 36)
وقال تعالى {فبئس القرين} فالإشارة بهذا إلى المسوق المرتكب الفجور والفسوق. والعتيد معناه المعتدّ للنار ومعناه أن الشيطان يقول هذا العاصي هو شيء عندي معتدّ لجهنم أعددته لها بالإغواء والإضلال وقوله تعالى:
{ألقيا في جهنم} أي: النار التي تلقى الملقي فيها بما كان يعامل به عباد الله تعالى من الكبر والعبوسة {كل كفار} خطاب من(4/85)
الله تعالى للسائق والشهيد أو للملكين من خزنة النار أو الواحد وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل وتكريره كأنه قيل ألقي ألقي وقيل: أراد ألقيا بالنون الخفيفة فأبدلها ألفاً إجراءً للوصل مجرى الوقف وقيل العرب: تخاطب الواحد مخاطبة الاثنين تأكيداً كقوله:
*فإن تزجراني يا ابن عفان أزدجر ... وإن تدعاني أحم عرضاً ممنعا*
قال ابن عادل وقيل المأمور مثنى وهذا هو الحق لأنّ المراد ملكان يفعلان ذلك ا. هـ وهو القول المتقدّم {عنيد} وهو المبالغ في ستر الحق والمعاداة لأهله بغير حجة حمية وأنفة نظراً إلى استحسان ما عنده والثبات عليه تجبراً وتكبراً على ما عند غيره ازدراء له كائناً من كان.
{مناعٍ} أي: كثير المنع {للخير} من المال وغيره من كل معروف يعلق بالمال والمقال والفعال.
وقيل المراد الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لما منع بني أخيه عنه {معتدٍ} أي: مجاوز للحدود {مريبٍ} أي: داخل في الريب وهو الشك والتهمة في أهل الدين. وقوله تعالى:
{الذي جعل مع الله} أي: الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال {إلهاً آخر} يجوز أن يكون منصوباً على الذمّ أو على البدل من كل وأن يكون مجروراً بدلاً من كفار أو مرفوعاً بالابتداء والخبر {فألقياه في العذاب} أي: الذي يزيل كل عذوبة {الشديد} ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي هو الذي جعل ويكون فألقياه تأكيداً.
{قال قرينه} منادياً بإسقاط الأداة كدأب أهل القرب إيهاماً أنه منهم {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا أيتها الخلائق كلهم {ما أطغيته} أي: ما أوقعته فيما كان فيه من الطغيان فإني لا سلطان لي عليه وأنت أعلم بذلك {ولكن كان} أي: بجبلته وطبعه {في ضلال بعيد} أي: محيط به من جميع جوانبه لا يمكن رجوعه معه فلذلك كان يبادر إلى كل ما يغضب الله تعالى.
تنبيه: هذا جواب لكلام مقدّر فإن الكافر حينما يلقى في النار يقول ربنا أطغاني شيطاني فيقول ربنا ما أطغيته بدليل قوله تعالى: {لا تختصموا لدي} لأنّ المخاصمة تستدعي كلاماً من الجانبين ونظيره قوله تعالى في سورة ص {قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم} (ص: 60)
إلى قوله تعالى {إنّ ذلك لحق تخاصم أهل النار} (ص: 64)
قال الزمخشري: وهذا يدل على أن المراد بالقرين في الآية المتقدّمة هو الشيطان لا الملك الذي هو شهيد وقعيد.
قال الرازي: وجاءت هذه الآية بلا واو وفي الأولى بواو عاطفة لأن الأولى إشارة وقعت إلى معنيين مجتمعين فإن كل نفس في ذلك الوقت تجيء ومعها سائق وشهيد فيقول الشهيد ذلك القول وفي الثانية لم يجد هنا معنيان مجتمعان حتى تذكر الواو فإن الفاء في قوله تعالى: {فألقياه في العذاب} لا تناسب قوله تعالى: {قال قرينه ربنا ما أطغيته} فليس هناك مناسبة مقتضية للعطف.
فإن قيل: كيف قال ما أطغيته مع أنه قال لأغوينهم أجمعين. أجيب: بأن المراد من قوله لأغوينهم أي لأديمنهم على الغواية كما أن الضال إذا قال له شخص أنت على الجادة فلا تتركها يقال أنه يضله كذا هنا فقوله ما أطغيته أي ما كان ابتداء الغي مني. وقوله تعالى:
{قال} أي: الله تعالى المحيط علماً وقدرة الذي حكم عليهم بذلك في الأزل {لا تختصموا} أي: لا توقعوا الخصومة بهذا الجدّ والاجتهاد استئناف كان قائلاً يقول فماذا قال الله تعالى. فأجيب: يقال لا تختصموا وقوله تعالى: {لدي} أي(4/86)
في دار الجزاء بهذه الحضرة التي هي فوق ما كنتم تدركونه من الأخبار عنها بكثير يفيد مفهومه أن الاختصام كان ينبغي أن يكون قبل الحضور والوقوف بين يديّ. وقوله تعالى: {وقد قدّمت إليكم بالوعيد} أي: التهديد وهو التخويف العظيم على جميع ما ارتكبتموه من الكفر والعدوان جملة حالية ولا بدّ من تأويلها وذلك أن النهي في الآخرة وتقدّمه الوعيد في الدنيا. فاختلف الزمان فكيف يصح جعلها حالية وتأويلها هو أن المعنى وقد صح أني قدّمت وزمان الصحة وزمان النهي واحد وقدّمت يجوز أن يكون بمعنى تقدمت فتكون الواو للحال ولا بدّ من حذف مضاف أي: وقد تقدّم قولي لكم ملتبساً بالوعيد ويجوز أن يكون قدمت على حاله تعدياً والباء مزيدة في المفعول أي قدمت إليكم الوعيد. كقوله تعالى: {تنبت بالدهن} (المؤمنون: 2)
على قول من قال بزيادتها هناك وقيل الباء هنا للمصاحبة كقولك اشتريت الفرس بلجامه أي معه فكأنه قال تعالى قدّمت إليكم ما يجب مع الوعيد على تركه والإنذار.
{ما يبدّل} أي: يغير بوجه من الوجوه {القول لدّي} أي: الواصل إليكم من حضرتي التي لا يحيط بها أحد من خلقي وعبر بما التي هي للحاضر دون لا التي للمستقبل لأن الأوقات كلها عنده حاضرة {وما أنا} وأكد النفي بقوله تعالى: {بظلام للعبيد} فأعذبهم بغير ظلم.
فإن قيل: الظلام مبالغة في الظلم ويلزم من انتفائه إثبات أصل الظلم فإذا قال القائل هو كذاب يلزم أن يكون كثير الكذب، ولا يلزم من نفيه نفي أصل الكذب، لجواز أن يقال ليس بكذاب كثير الكذب لكنه يكذب أحياناً. فقوله تعالى {ما أنا بظلام} لا يفهم منه نفي أصل الظلم وأنّ الله ليس بظالم. أجيب بأربعة أجوبة:
أحدها: أنّ الظلام بمعنى الظالم كالتمار بمعنى التامر فتكون اللام في قوله تعالى {للعبيد} لتحقيق النسبة لأن الفعال حينئذ بمعنى ذي ظلم لقوله تعالى: {لا ظلم اليوم} (غافر: 17)
ثانيها: قال الزمخشري: إن ذلك أمر تقديري كأنه تعالى يقول لو ظلمت عبدي الضعيف الذي هو محل الرحمة لكان ذلك غاية الظلم وما أنا بذلك فيلزم من نفي كونه ظلاماً نفي كونه ظالماً ويحقق هذا الوجه إظهار لفظ العبيد حيث قال الله تعالى: {وما أنا بظلام للعبيد} أي: في ذلك اليوم الذي أملأ فيه جهنم مع سعتها حتى تصيح وتقول لم يبق فيّ طاقة بهم ولم يبق فيّ موضع لهم فهل من مزيد استفهام استنكار.
ثالثها: أنه لمقابلة الجمع بالجمع والمعنى أنّ ذلك اليوم مع أني ألقي في جهنم عدداً لا حصر له لا أكون بسبب كثرة التعذيب كثير الظلم لأنه تعالى قال: {وما أنا بظلام للعبيد} .
{يوم نقول} أي على مالنا من العظمة {لجهنم} ولم يقل ما أنا بظلام في جميع الأزمان وخصص بالعبيد ولم يطلق فلذلك خصص النفي بنوع من أنواع الظلم ولم يطلق ولم يلزم منه أن يكون ظالماً في غير ذلك الوقت لأنّ التخصيص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه لأنه نفي كونه ظلاماً ولم يلزم منه كونه ظالماً ونفي كونه ظلاماً للعبيد ولم يلزم منه كونه ظلاماً لغيرهم.
تنبيه: يحتمل أن يكون المراد بالعبيد الكفار كقوله تعالى: {يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول} (يس: 30)
الآية والمعنى أعذبهم وما أنا بظلام لهم ويحتمل أن يكون المراد منه المؤمنين.
والمعنى أنّ الله تعالى يقول: لو بدّلت قولي ورحمت الكافر لكنت في تكليف العباد ظالماً لعبادي المؤمنين لأني منعتهم من الشهوات لأجل هذا اليوم فلو كان ينال من لم يأت بما أتى به المؤمن ما يناله(4/87)
المؤمن لكان إتيان المؤمن بما أتى به من الإيمان والعبادة غير مفيد وهذا معنى قوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} (الحشر: 20)
ويحتمل أن يكون المراد التعميم وهذا أظهر. وقوله تعالى لجهنم أي التي هي دار العذاب مع الكراهة والعبوسة والتجهم {هل امتلأت} استفهام تحقيق لوعده عليها وهو قوله تعالى {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود: 119)
{وتقول} بصورة الاستفهام كالسؤال {هل من مزيد} أي: قد امتلأت ولم يبق فيّ موضع لم يمتلئ فهو استفهام إنكار. وقيل بمعنى الاستزادة رواه أبو صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما وعلى هذا يكون السؤال وهو قوله تعالى هل امتلأت قبل دخول جميع أهلها فيها.
وروي عن ابن عباس رضى الله عنهما «أنّ الله تعالى سبقت كلمته لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين فلما سيق أعداء الله إليها لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها فتقول ألست قد أقسمت لتملأني فيضع قدمه عليها فيقول هل امتلأت فتقول هل من مزيد قط قط قد امتلأت وليس فيّ مزيد» وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العرش وفي رواية رب العزة فيها قدمه فيزوى بعضها إلى بعض وتقول: قط قط بعد ذلك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله تعالى لها خلقاً فيسكنهم فضول الجنة» ولأبي هريرة رضى الله عنه نحوه ولا يظلم الله تعالى من خلقه أحداً.
تنبيه: هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات وللعلماء فيه وفي أمثاله مذهبان:
أحدهما: وهو مذهب جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها بل نفوّض بأنها حق على ما أراد الله ورسوله ونجريها على ظاهرها أولها معنىً يليق بها وظاهرها غير مراد.
المذهب الثاني: وهو قول جمهور المتكلمين أنها تؤوّل بحسب ما يليق بها فعلى هذا اختلفوا في تأويل الحديث فقيل المراد بالقدم التقدّم وهو شائع في اللغة والمعنى يضع الله تعالى فيها من قدمه لها من أهل العذاب. وقيل: المراد به قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم. وقيل: يحتمل أن في المخلوقات من يسمى بهذه التسمية وخلقوا لها. قال القاضي عياض أظهر التأويلات أنهم استحقوها وخلقوا لها.
قال المتكلمون: ولا بدّ من صرفه عن ظاهره لقيام الدليل العقلي القطعي على استحالة الجارحة على الله تعالى وقولها قط قط أي حسبي حسبي قد اكتفيت وفيها ثلاث لغات إسكان الطاء وكسرها منوّنة وغير منوّنة ولما ذكر النار التي هي دار الفجار وقدّمها لأنّ المقام للإنذار اتبعها دار الأبرار.
فقال تعالى سارّاً لهم بإسقاط مؤنة المسير وطي مشقة البعد.
{وأزلفت الجنة} أي: قربت بأيسر أمر مع الدرجات والحياض الممتلئة {للمتقين} أي: الغريقين في هذا الوصف فإذا رأوها تسابقوا إليها وتركوا ما كانوا فيه في الموقف من منابر النور وكثبان المسك ونحو هذا. وأما غيرهم من أهل الإيمان فقد يكون لهم غير هذا الوصف فيساق إليها الذين اتقوا كما مضى في الزمر. وقوله تعالى: {غير بعيد} يجوز أن يكون حالاً من الجنة ولم يؤنث لأنها بمعنى البستان أو لأنّ فعيلاً لا يؤنث لأنه بزنة المصادر قاله الزمخشري. ومنعه أبو حيان وتقدّم الكلام على ذلك في قوله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} (الأعراف: 56)
ويجوز أن يكون منصوباً على الظرف المكاني أي مكاناً غير بعيد ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف(4/88)
أي إزلافاً غير بعيد وظاهر عبارة الزمخشري فإنه قال أو شيئاً غير بعيد فإن قيل: ما وجه التقريب والجنة مكان والأمكنة يقرب منها وهي لا تقرب. أجيب: من أوجه. أوّلها: أنّ الجنة لا تزال ولا يؤمر المؤمن في ذلك اليوم بالانتقام إليها مع بعدها لكن الله تعالى يطوي المسافة التي بين المؤمن والجنة فهو التقريب.
فإن قيل: فعلى هذا ليس إزلاف الجنة من المؤمن بأولى من إزلاف المؤمن من الجنة فما فائدة قوله تعالى: {أزلفت الجنة} أجيب بأن ذلك إكرام للمؤمن وبيان لشرفه وأنه ممن يمشي إليه ثانيها: قريب من الحصول في الدخول لا بمعنى القرب المكاني. ثالثها: أنّ الله تعالى قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض فيقربها للمؤمن. ويحتمل أنها أزلفت بمعنى جمعت محاسنها لأنها مخلوقة وأما بمعنى قرب الحصول لها لأنها تنال بكلمة طيبة وحسنة وخص المتقين بذلك لأنهم أحق بها.
وقوله تعالى: {هذا} أي: الإزلاف والذي ترونه من كل ما يسركم {ما} أي: الأمر الذي {توعدون} أي: وقع الوعد لكم به في الدنيا يجوز فيه وجهان.
أحدهما: أن يكون معترضاً بين البدل والمبدل منه وذلك أنّ {لكل أوّاب} أي: رجاع إلى طاعة الله تعالى بدل من المتقين بإعادة العامل.
ثانيهما: أن يكون منصوباً بقول مضمر ذلك القول منصوب على الحال أي مقولاً لهم. وقرأ ابن كثير: بالياء على الغيبة. والباقون: بالتاء على الخطاب ونسب أبو حيان قراءة الياء لابن كثير ولأبي عمرو وإنما هي لابن كثير فقط. وقال سعيد بن المسيب: الأوّاب هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. وقال الشعبيّ ومجاهد هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر منها. وقال ابن عباس رضى الله عنهما وعطاء: هو المسبح من قوله تعالى {يا جبال أوّبي معه} (سبأ: 10)
وقال قتادة: هو المصلي. وقوله تعالى {حفيظ} اختلف فيه. فقال ابن عباس رضى الله عنهما: هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أيضاً: الحفيظ لأمر الله. وقال قتادة: الحفيظ لما استودعه الله تعالى من حقه. والأوّاب والحفيظ كلاهما من باب المبالغة أي يكون كثير الأوب شديد الحفظ ثم أبدل من كلٍ تنميماً لبيان المتقين قوله تعالى:
{من خشي} أي: خاف ونبه على كثرة خشيته بقوله تعالى: {الرحمن} لأنه إذا خافه مع استحضار الرحمة العامة للمطيع والعاصي كان خوفه مع استحضار غيرها أولى وقال القشيري: التعبير بذلك للإشارة إلى أنها خشية تكون مقرونة بالأنس يعني الرجاء كما هو المشروع، قال: ولذلك لم يقل الجبار أو القهار. ويقال الخشية ألطف من الخوف فكأنها قريبة من الهيبة وقوله تعالى: {بالغيب} حال أي غائباً عنه فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أو المفعول أو منهما. وقيل الباء للمصاحبة أي مصاحب له من غير أن يطلب آية أو أمراً يصير به إلى حد المكاشفة بل استغنى بالبراهين القطيعة التي منها أنه مربوب وهو أيضاً بيان لبليغ خشيته ويجوز أن يكون صفة لمصدر خشى أي خشيه خشية ملتبسة بالغيب ومعنى الآية من خاف الرحمن فأطاعه بالغيب ولم يره.
وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد. وقال الحسن: إذا أرخى الستور وأغلق الباب. وقوله تعالى {وجاء} أي: بعد الموت {بقلب منيب} أي: راجع إلى الله تعالى صفة مدح لأنّ شأن الخائف أن يهرب فأما المتقي فجاء ربه لعلمه أنه(4/89)
لا ينجي الفرار منه والباء في {بقلب} إما للتعدية وإما للمصاحبة وإما للسببية، والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى: {إذ جاء ربه بقلب سليم} (الصافات: 84)
من الشرك والضمير في قوله تعالى.
{ادخلوها} عائد إلى الجنة وقوله تعالى: {بسلام} حال من فاعل ادخلوها أي سالمين من العذاب والهموم فهي حال مقارنة أو بسلام من الله تعالى وملائكته عليهم فهي حال مقدرة كقوله تعالى {فادخلوها خالدين} (الزمر: 73)
كذا قيل. قال ابن عادل: وفيه نظر إذ لا مانع من مقارنة تسليم الملائكة عليهم حال الدخول بخلاف فادخلوها خالدين فإنه لا يعقل الخلود إلا بعد الدخول {ذلك} أي: اليوم الذي حصل فيه الدخول {يوم الخلود} أي: الدوام في الجنة الذي لا آخر له ولا نفاد لشيء من لذاته أصلاً ولذلك وصل به قوله تعالى جواباً لمن قال على أيّ وجه خلودهم.
{لهم} بظواهرهم وبواطنهم {ما يشاؤون} أي: تتجدد مشيئتهم أو يمكن مشيئتهم له {فيها} أي: الجنة {ولدينا} أي: عندنا من الأمور التي هي في غاية الغرابة عندهم وإن كان كل ما عندهم مستغرباً {مزيد} أي: مما لا يدخل تحت أوهامهم ليشاؤوه فإن شياق الامتنان يدل على أنّ تنوينه للتعظيم والتعبير ب {لدي} يؤكد ذلك فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى قال: {ادخلوها بسلام} على المخاطبة ثم قال لهم ولم يقل لكم أجيب: من وجوه أولها: أن قوله تعالى: {ادخلوها} فيه مقدر أي فيقال لهم ادخلوها فلا يكون التفاتاً.
ثانيها: أنه التفات والحكمة الجمع بين الطرفين كأنه تعالى يقول غير مخلّ بهم في غيبتهم وحضورهم ففي حضورهم الحبور في غيبتهم الحور والقصور.
ثالثها: أنه يجوز أن يكون قوله تعالى لهم كلاماً مع الملائكة يقول للملائكة توكلوا بخدمتهم واعلموا أنّ لهم ما يشاءون فيها فأحضروا بين أيديهم ما يشاؤون وأما أنا فعندي ما لا يخطر ببالهم ولا تقدرون أنتم عليه. والمزيد يحتمل أن يكون معناه الزيادة كقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس: 26)
ويحتمل أن يكون بمعنى المفعول أي عندنا ما نزيده على ما يرجون ويأملون. قال أنس وجابر: وهو النظر إلى وجه الله الكريم. قيل يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل ليلة جمعة في دار كرامته فهذا هو المزيد. ولما ذكر تعالى أوّ ل السورة تكذيب الأمم السابقة ذكر هنا إهلاك قرون ماضية. بقوله تعالى:
{وكم أهلكنا} أي: بما لنا من العظمة {قبلهم من قرن} أي: جيل هم في غاية القوة وزاد في بيان القوّة قوله تعالى: {هم أشدّ منهم} أي: من قريش {بطشاً} أي: قوّة وأخذاً لما يريدونه بالعنف والسطوة والشدّة.
تنبيه: كم منصوب بما بعده وقدم إما لأنه استفهام وإما لأن كم الخبرية تجري مجرى كم الاستفهامية في التصدير ومن قرن تمييز هم أشد صفة إمّا لكم وإما لقرن والفاء في قوله تعالى: {فنقبوا} عاطفة على المعنى كأنه قيل اشتدّ بطشهم فنقبوا: {في البلاد} والضمير في نقبوا ما للقرن المتقدّم وهو الظاهر وإما لقريش والتنقيب التنقير والتفتيش ومعناه التطواف في البلاد قال الحارث بن حلزة:
*نقبوا في البلاد من حذر المو ... ت وجالوا في الأرض كل مجال*
وقال امرؤ القيس:
*وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب*(4/90)
ولما كان التقدير ولم يسلموا مع كثرة تنقيبهم توجه سؤال تنبيه للغافل الذاهل وتقريع وتبكيت للمعاند الجاهل بقوله تعالى {هل من محيص} أي: معدل ومحيد ومهرب وإن دق من قضائنا ليكون لهؤلاء وجه ما في ردّ أمرنا.
{إن في ذلك} أي: فيما ذكر في هذه السورة من الأساليب العجيبة والطرق الغريبة {لذكري} أي: تذكيراً عظيماً جدّاً {لمن كان} أي: كوناً عظيماً {له قلب} أي عقل في غاية العظمة فهو بحيث يفهم ما يراه ويعتبر به ومن لم يكن كذلك فلا قلب له سليم بل له قلب لاه {أو ألقى السمع} أي: استمع الوعظ بغاية إصغائه حتى كأنه يرمي بشيء ثقيل من علو إلى سفل {وهو} أي: والحال أنه في حال إلقائه {شهيد} أي: حاضر بكليته فهو في غاية ما يكون من تصويب الفكر وجمع الخاطر فلا يغيب عنه شيء مما تلي عليه وألقي إليه فيتذكر وعطف على قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان} قوله تعالى:
{ولقد خلقنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر قدرها ولا يطاق حصرها {السموات والأرض} أي: على ما هما عليه من الكبر وكثرة المنافع {وما بينهما} من الأمور التي لا ينتظم الأمر على قاعدة الأسباب والمسببات بدونها {في ستة أيام} الأرض في يومين. ومنافعها في يومين والسموات في يومين ولو شاء لكان ذلك في أقل من لمح البصر ولكنه تعالى سنّ لنا التأنّي بذلك {وما مسنا} لأجل مالنا من العظمة أدنى مس. وعمم في النفي فقال تعالى: {من لغوب} أي: إعياء فإنه لو كان لاقتضى ضعفاً فاقتضى فساداً فكان من ذلك شيء على غير ما أردناه فكأن تصرفنا فيه غير تصرفنا في الباقي وأنتم تشاهدون الأمر في الكل على حد سواء من نفوذ الأمر وتمام التصرّف.
{فاصبر} يا أشرف الخلق {على ما يقولون} أي: اليهود وغيرهم من إنكار البعث والتشبيه وغير ذلك فإنّ من قدر على خلق العالم بلا إعياء قدر على البعث وغيره {وسبح} أي: أوقع التنزيه عن كل شائبة نقص ملتبساً {بحمد ربك} أي: بإثبات الإحاطة بجميع صفات الكمال للسيد المدبر المحسن إليك بجميع هذه البراهين التي خصك بها مفضلاً لك على جميع الخلق وقوله تعالى: {قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} إشارة إلى طرفي النهار.
وقوله تعالى: {ومن الليل فسبحه} إشارة إلى زلفى من الليل وتقريره أنه صلى الله عليه وسلم كان مشتغلاً بأمرين أحدهما عبادة الله تعالى والثاني هداية الخلق فإذا لم يهتدوا قيل له أقبل على شغلك الآخر وهو العبادة قبل الطلوع وقبل الغروب، لأنهما وقتا اجتماعهم ويكون المراد بقوله تعالى: ومن الليل أوّله لأنه أيضاً وقت اجتماعهم وقال أكثر المفسرين قبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل الغروب الظهر والعصر ومن الليل العشاءان والتهجد {وأدبار السجود} التنقل بعد المكتوبات وقيل: الوتر بعد العشاء وقال مجاهد ومن الليل: يعني صلاة الليل أيّ وقت صلى. وقرأ نافع وابن كثير وحمزة بكسر الهمزة على أنه مصدر قام مقام ظرف الزمان كقولهم آتيك خفوق النجم وخلافة الحجاج ومعنى وقت إدبار الصلاة أي انقضائها وتمامها والباقون بالفتح جمع دبر وهو آخر الليل وعقبها ومنه قول أوس:
*على دبر الشهر الحرام بأرضنا ... وما حولها جدب سنون تلمع*(4/91)
ولم يختلفوا في وأدبار النجوم وقوله تعالى: وأدبار معطوف إما على قبل الغروب وإما على من الليل وقال عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما: إدبار السجود الركعتان بعد صلاة المغرب وإدبار النجوم الركعتان قبل صلاة الفجر وهي رواية العوفيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما وروي عنه مرفوعاً. قال البغوي: هذا قول أكثر المفسرين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على الركعتين أمام الصبح» وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» يعني بذلك سنة الفجر وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه «ما أحصي ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب والركعتين قبل الفجر بقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد» وعن مجاهد وأدبار السجود: هو التسبيح باللسان في أدبار الصلوات المكتوبات.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سبح في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وكبر ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين فذاك تسعة وتسعون ثم قال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» وعنه أيضاً «أنّ فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم فقال صلى الله عليه وسلم وما ذاك فقالوا: صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال قال أفلا أخبركم بأمر تدركون به من قبلكم وتسبقون من جاء بعدكم ولا يأتي أحد مثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله تسبحون في دبر كل صلاة عشراً وتحمدون عشراً وتكبرون عشراً» . وقوله تعالى:
{واستمع} أي: لما أخبرك به من أحوال القيامة فيه تهويل وتعظيم للمخبر به والمحدّث عنه. كما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال سبعة أيام لمعاذ بن جبل «يا معاذ اسمع ما أقول ثم حدّثه بعد ذلك» وقوله تعالى {يوم} ظرف لاستمع أي استمع ذلك في يوم {ينادي المنادي} أي: إسرافيل يقف على صخرة ببيت المقدس فينادي بالحشر فيقول: أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إنّ الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
وقيل: المنادي جبريل {من مكان قريب} بحيث يسمع الصوت من بعد كما يسمعه من قرب يكونون في السماع سواء، لا تفاوت بينهم أصلاً. واختلف في ذلك المكان القريب. فأكثر المفسرين: أنه صخرة بيت المقدس فإنها أقرب الأرض إلى السماء باثني عشر ميلاً وهي وسط الأرض. وقيل: من تحت أقدامهم. وقيل: من منابت شعورهم يسمع من كل شعرة أيتها العظام البالية. وقوله تعالى:
{يوم يسمعون الصيحة} بدل من يوم ينادي والصيحة النفخة الثانية وقوله تعالى: {بالحق} حال من الصحية أي متلبسة بالحق أو من الفاعل أي يسمعون ملتبسين بسماع حق {ذلك} أي: اليوم العظيم الذي يظهر به المجد ويعلو بضعفاء المؤمنين الجدّ {يوم الخروج} أي: الذي لا خروج أعظم منه وهو خروجهم من قبورهم من الأرض التي خلقوا منها إلى المحشر وهو من أسماء يوم القيامة.
{إنا} أي: بما لنا من العظمة {نحن} أي: خاصة {نحيي ونميت} أي: نجدد ذلك شيئاً بعد شيء سنة مستقرّة(4/92)
وعادة مستمرّة كما تشاهدونه فقد كان منا بالإحياء الأوّل المبدأ {وإلينا} أي: خاصة بالإماتة ثم الأحياء {المصير} أي: في الآخرة. وقيل تقديره نميت في الدنيا ونحيي في الآخرة للبعث. وإلينا المصير بعد البعث وقوله تعالى:
{يوم} يدل من يوم قبله وما بينهما اعتراض. وقرأ {تشقق الأرض} نافع وابن كثير وابن عامر بتشديد الشين والباقون بالتخفيف {عنهم} أي: مجاوزة لهم بعد أن كانوا في بطنها فيخرجون منها أحياء كما كانوا على ظهرها أحياء حال كونهم {سراعاً} أي: إجابة منادينا وهو جمع سريع وأشار إلى عظمة الأمر بقوله تعالى {ذلك} أي: الإخراج العظيم جدّاً {حشر} أي: جمع بكره وزاد في بيان عظمة هذا الأمر بدلالته على اختصاصه بتقدم الجار فقال تعالى: {علينا} أي: خاصة {يسير} فكيف يتوقف فيه عاقل فضلاً عن أن ينكره وأما غيرنا فلا يمكنه ذلك بوجه. تنبيه: علينا متعلق بيسير ففصل بمعمول الصفة بينها وبين موصوفها ولا يضرّ ذلك. وقال الزمخشريّ: التقديم للاختصاص وهو ما أشرت إليه أي لا يتيسر ذلك إلا على الله تعالى وحده وهو إعادة جواب قولهم ذلك رجع بعيد. وقوله تعالى:
{نحن أعلم} أي: عالمون {بما يقولون} أي: في الحال والاستقبال من التكذيب بالبعث وغيره تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم {وما أنت عليهم بجبار} أي: بمسلط تجبرهم على الإسلام إنما أنت منذر وقد فعلت ما أمرت به ونحن القادرون على ردهم بما لنا من العلم المحيط وهذا قبل الأمر بالقتال {فذكر} أي: بطريق البشارة والنذارة {بالقرآن} أي: الجامع بمجده لكل خير المحيط بكل صلاح {من يخاف وعيد} فإنه لا ينتفع به غيره وهم المؤمنون. وقرأ ورش بإثبات الياء بعد الدال وصلاً لا وقفاً وحذفها الباقون وصلا ووقفاً وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال «من قرأ سورة ق هوّن الله عليه ثأرات الموت وسكراته» حديث موضوع وثأرات الموت بمثلثة وهمزة مفتوحة أهواله.
سورة الذاريات
مكية وهي ستون آية وثلاثمائة وستون كلمةوألف ومائتان وتسعة وثمانون حرفاً
{بسم الله} أي المحيط بصفات الكمال فهو لا يخلف الميعاد {الرحمن} الذي عم الخلائق بنعمة الإيجاد {الرحيم} الذي خص من اختاره بالتوفيق لما يرضاه من المراد ولما ختم الله سبحانه وتعالى ق بالتذكير بالوعيد افتتح هذا بالقسم البالغ على صدقه، فقال عز من قائل مناسباً بين القسم والمقسم عليه.
{والذاريات} أي: الرياح تذرو التراب وغيره، وقيل: النساء الوالدات، فإنهنّ يذرين الأولاد، وقوله تعالى {ذروا} منصوب على المصدر المؤكد والعامل فيه فرعه وهو اسم الفاعل والمفعول محذوف اقتصاراً، يقال: ذرت الريح التراب وأذرته.
{فالحاملات} أي: السحب تحمل الماء وقيل: الرياح الحاملة للسحاب وقيل النساء الحوامل وقوله تعالى: {وقراً} أي: ثقلاً مفعول به بالحاملات كما يقال حمل فلان عدلاً ثقيلاً، قال الرازي: ويحتمل أن يكون اسماً أقيم مقام المصدر كقوله: ضربته سوطاً.
{فالجاريات} أي: السفن، وقيل: الرياح الجارية(4/93)
في مهابها، وقيل الكواكب التي تجري في منازلها، وقوله تعالى: {يسراً} أي: بسهولة، مصدر في موضع الحال أي ميسرة.
{فالمقسّمات} أي الملائكة التي تقسم الأرزاق والأمطار وغيرها بين العباد والبلاد وقوله تعالى: {أمراً} يجوز أن يكون مفعولاً به كقولك: فلان قسم الرزق أو المال، وأن يكون حالاً، أي: مأمورة، وهذه أشياء مختلفة فتكون الفاء على بابها من عطف المتغايرات والفاء للترتيب في القسم لا في المقسم به، قال الزمخشريّ: ويجوز أن يراد الرياح وحدها؛ لأنها تنشىء السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجوّ جرياً سهلاً، وعلى هذا يكون من عطف الصفات والمراد واحد فتكون الفاء على هذا لترتيب الأمور في الوجود وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال وهو على المنبر: سلوني، قبل أن لا تسألوني، ولن تسألوا بعدي مثلي فقام ابن الكواء فقال: ما الذاريات؟ قال: الرياح، قال: فالحاملات وقراً قال: السحاب، قال: فالجاريات يسراً، قال: الفلك قال: فالمقسمات أمراً، قال: الملائكة وكذا عن ابن عباس وعن الحسن المقسمات السحاب يقسم الله تعالى بها أرزاق العباد وقد حملت على الكواكب السبعة، ويجوز أن يراد الرياح لا غير، لأنها تنشىء السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجوّ جرياً سهلاً وتقسم الأمطار بتصريف السحاب.
فإن قيل: إن كان وقراً مفعولاً فلم لم يجمع؟ وقيل: أوقاراً أجيب بأن جماعة من الرياح قد تحمل وقراً واحداً وكذا القول في المقسمات أمراً إذا قيل إنه مفعول به لأنّ جماعة من الملائكة قد تجتمع على أمر واحد.
فائدة: أقسم الله تعالى بجمع السلامة المؤنث في خمس سور ولم يقسم بجمع السلامة المذكر في سورة أصلاً فلم يقل والصالحين من عبادي ولا المقربين إلى غير ذلك مع أنّ المذكر أشرف لأن جموع السلامة بالواو والنون في الغالب لمن يعقل
ولما كانوا يكذبون بالوعيد أكد الجواب بعد التأكيد بنفس القسم فقال تعالى: {إنّ ما توعدون لصادق} أي مطابق الإخبار به للواقع وسترون مطابقته له.
تنبيه: ما يجوز أن تكون إسمية وعائدها محذوف أي توعدونه وأن تكون مصدرية فلا عائد على المشهور وحينئذ يحتمل أن يكون توعدون مبنياً من الوعد وأن يكون مبنياً من الوعيد، لأنه يصلح أن يقال أوعدته فهو يوعد ووعدته فهو يوعد لا يختلف فالتقدير: إن وعدكم أوان وعيدكم {وإن الدين} أي المجازاة لكل أحد بما كسب يوم البعث {لواقع} لا بدّ منه وإن أنكرتم.
{والسماء ذات الحبك} قال ابن عباس وقتادة وعكرمة: ذات الخلق الحسن المستوي، يقال للنساج إذا نسج الثوب فأجاد ما أحسن حبكه، وقال سعيد بن جبير: ذات الزينة، أي: المزينة بزينة الكواكب، قال الحسن: حبكتها النجوم وقال مقاتل والكلبي والضحاك ذات الطريق كحبك الماء إذا ضربته الريح، وحبك الرمل والشعر الجعد وهو آثار تثنيه وتكسره قال زهير:
*مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح خريق لضاحي مائه حبك*
والحبك يحتمل أن يكون مفرده حبيكة كطريقة وطرق أو حباك نحو حمار وحمر قال الشاعر:
*كأنما جللها الحوّاك ... ظننته في وشيها حباك*
وأصل الحبك إحكام الشيء وإتقانه، ومنه يقال للدرع: محبوكة.
وجواب القسم {إنكم} يا معشر(4/94)
قريش {لفي قول} محيط بكم في أمر القرآن والآتي به وجميع أمر دينكم وغيره مما تريدون به إبطال الدين الحق {مختلف} فتقولون في القرآن سحر وكهانة وأساطير الأولين، وفي محمد صلى الله عليه وسلم ساحر وشاعر ومجنون وكاهن وكاذب.
{يؤفك} أي يصرف {عنه} أي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أو القرآن أي عن الإيمان بذلك {من أفك} أي صرف عن الهداية في علم الله تعالى ومعناه حينئذ الذم، وقيل: إنه مدح للمؤمنين ومعناه يصرف عن القول المختلف من يصرف عن ذلك القول ويرشد إلى القول المستوي.
{قتل} أي لعن {الخراصون} أي الكذابون وهم الذين لا يجزمون بأمر بل هم شاكون متحيرون وهم أصحاب القول المختلف.
ثم وصفهم الله تعالى فقال تعالى:
{الذين هم} أي خاصة {في غمرة} أي جهل يغمرهم {ساهون} أي غريقون في السهو وهو النسيان والغفلة والحيرة وذهاب القلب إلى غير ما يهمه، ففاعل ذلك ذو ألوان متخالفة من هول ما هو فيه وشدة كربه.
{يسألون} النبيّ استهزاءً {أيان} أي متى وأي حين {يوم الدين} أي وقوع الجزاء الذي تخبرنا به ولولا أنهم بهذه الحالة لتذكروا من أنفسهم أنه ليس أحد منهم يترك عبيده وإجراءه في عمل من الأعمال إلا وهو يحاسبهم على أعمالهم، وينظر قطعاً في أحوالهم ويحكم بينهم في أقوالهم وأفعالهم فكيف الظن بأحكم الحاكمين أن يترك عبيده الذين خلقهم على هذا النظام المحكم وأبدع لهم هذين الخافقين وهيأ لأجلهم فيهما كل ما يحتاجون إليه فيتركهم سدى ويوجدهم عبثاً؟.
وقوله تعالى: {يوم هم} منصوب بمضمر، أي: الجزاء كائن يوم هم {على النار يفتنون} أي يعذبون فيها جواب لسؤالهم أيان يوم الدين، وقال الرازي يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون جواباً عن قولهم أيان يقع فكما أنهم لم يسألوا سؤال مستفهم طالب للعلم، كذلك لم يجبهم جواب معلم مبين، بل قال {يوم هم على النار يفتنون} فجهلهم بالثاني أقوى من جهلهم بالأوّل، ولا يجوز أن يكون الجواب بالأخفى، فلو قال قائل: متى يقدم زيد فلو أجيب بقوله: يوم يقدم رفيقه، ولا يعلم يوم قدوم الرفيق لم يصح هذا الجواب.
ثانيهما: أن يكون ذلك ابتداء كلام تمامه في قوله تعالى:
{ذوقوا فتنتكم} أي تعذيبكم فإن قيل: هذا يفضي إلى الإضمار أجيب: بأن الإضمار لا بدّ منه لأنّ قوله تعالى: {ذوقوا فتنتكم} لا يتصل بما قبله إلا بإضمار يقال {هذا} أي العذاب الملون {الذي كنتم به تستعجلون} في الدنيا استهزاء.
ولما بين تعالى حال المجرمين بين بعده حال المتقين فقال تعالى:
{إن المتقين} أي الذين كانت التقوى لهم وصفاً ثابتاً {في جنات} أي بساتين عظيمة تجن داخلها أي تستره من كثرة ظلالها لكثرة أشجارها وعظمها {وعيون} جارية في خلال الجنان.
تنبيه: المتقي له مقامات أدناها أن يتقي الشرك وأعلاها أن يتقي الدنيا والآخرة، وأدنى درجات المتقي الجنة فما من مكلف اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة.
وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائيّ بكسر العين والباقون بالضم. وقوله تعالى:
{آخذين} حال من الضمير في خبر إن. وقوله تعالى: {وما آتاهم ربهم} أي المحسن إليهم المدبر لهم بتمام علمه وشامل قدرته إن كان مما في الجنة فتكون حالاً حقيقية وإن كان مما آتاهم من أمره ونهيه في الدنيا فتكون حالاً محكية لاختلاف الزمانين.
تنبيه: اعلم أن الله تعالى وحد الجنة(4/95)
تارة قال تعالى: {مثل الجنة} (الرعد: 35)
وأخرى جمعها كقوله تعالى هنا: {إنّ المتقين في جنات} وتارة ثناها قال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن: 46)
والحكمة فيه أنّ الجنة في توحيدها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة، وأما جمعها فإنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إليها جنات لا يحصرها عدد وأما تثنيتها فسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في سورة الرحمن وهو قوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن: 46)
فقيل: جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه شهوته، وقيل جنة لخائف الإنس وجنة لخائف الجن فيكون من باب التوزيع قال الرازي: غير أنا نقول ههنا إنّ الله تعالى عند الوعد وحد الجنة وكذلك عند الشراء فقال تعالى {إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} (التوبة: 111)
وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة بخلاف ما لو وعد بجنات ثم يقول إنه في جنة لأنه دون الموعود.
ومعنى آخذين: قابضين ما آتاهم شيئاً فشيئاً ولا يستوفونه بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له وقيل: قابلين قبول رضا كقوله تعالى {ويأخذ الصدقات} (التوبة: 104)
أي يقبلها قاله الزمخشريّ وقوله تعالى: {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين} إشارة إلى أنهم أخذوها بثمنها وملكوها بالإحسان في الدنيا، والإشارة بذلك إما لدخول الجنة وإما لإيتاء الله تعالى وإمّا ليوم الدين والإحسان يكون في معاملة الخالق والخلائق وقيل: هو قول لا إله إلا الله ولهذا قيل. في معنى كلمة التقوى: إنها لا إله إلا الله وفي قوله تعالى: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} (فصلت: 33)
وقوله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن: 60)
هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله.
ثم فسر إحسانهم معبراً عنه بما هو في غاية المبالغة بقوله تعالى:
{كانوا} أي لما عندهم من الإجلال له والحب فيه بحيث كأنهم مطبوعين فيه {قليلاً من الليل} الذي هو وقت الراحات وقضاء الشهوات {ما يهجعون} أي يفعلون الهجوع وهو النوع الخفيف القليل بالليل فما ظنك بما فوقه فما مزيدة ويهجعون خبر كان وقليلاً ظرف أي: ينامون في زمن يسير من الليل ويصلون أكثره، وقال ابن عباس رضي الله عنه كانوا قلّ ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئاً إما من أوّلها أو من وسطها، وعن أنس بن مالك كانوا يصلون من المغرب إلى العشاء، وقال محمد بن علي: كانوا لا ينامون حتى يصلون العتمة، وقال مطرف بن عبد الله: قلّ ليلة أتت عليهم هجوعاً كلها وقال مجاهد: كانوا لا ينامون كل الليل.
ووقف بعضهم على قليلاً ليؤاخي بها قوله تعالى {وقليل ما هم} (ص: 24)
و {قليل من عبادي الشكور} (سبأ: 13)
ويبتدئ من الليل ما يهجعون أي ما يهجعون من الليل والمعنى: كانوا من الناس قليلاً ثم ابتدأ فقال: ما يهجعون من الليل وجعله جحداً أي لا ينامون بالليل البتة بل يقومون للصلاة والعبادة وهو قول الضحاك ومقاتل، وقيل: إنّ ما بمعنى الذي وعائدها محذوف تقديره: كانوا قليلاً من الليل الوقت الذي يهجعونه وهذا فيه تكلف ولما كان المحسن لا يرى نفسه إلا مقصراً.
قال تعالى دالاً على ذلك وعلى أن تهجدهم متصل بآخر الليل.
{وبالأسحار} قال ابن زيد: السحر السدس الأخير من الليل {هم} أي: دائماً بظواهرهم وبواطنهم {يستغفرون} أي: يعدون مع هذا الاجتهاد أنفسهم مذنبين ويسألون غفران ذنوبهم لوفور علمهم بالله تعالى، وأنهم لا يقدرون على أن يقدروه حق قدره وإن اجتهدوا لقول سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم «لا أحصي ثناء(4/96)
عليك» وإبراز الضمير دلّ على أنّ غيرهم لو فعل هذا ليلة لا عجب بنفسه ورأى أنه لا أحد أفضل منه، وعلى أنّ استغفارهم في الكثرة يقتضي أنهم يكونون بحيث يظنّ أنهم أحق بالتذلل من المصرّين على المعاصي، فإنّ استغفارهم ذلك على بصيرة لأنهم نظروا ماله سبحانه في الآفاق وفي أنفسهم من الآيات والحكم البالغة فأقبلوا على الاستغفار عالمين بأنه تعالى لا يقدر حق قدره.
تنبيه: بالأسحار متعلق بيستغفرون والباء بمعنى في وقدم متعلق الخبر على المبتدأ لجواز تقديم العامل.
وقال الكلبي ومجاهد: بالأسحار يصلون وذلك أنّ صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله إلى السماء كل ليلة حتى يبقى ثلث الليل فيقول أنا الملك أنا الملك من الذي يدعوني فأستجيب له، من الذي يسألني فأعطيه من الذي يستغفرني فأغفر له» وهذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان معروفان:
أحدهما: وهو مذهب السلف وغيرهم أنه يمّر كما جاء من غير تأويل ولا تعطيل وترك الكلام فيه وفي أمثاله مع الإيمان به وتنزيه الرب سبحانه عن صفات الأجسام.
المذهب الثاني: وهو قول جماعة من المتكلمين وغيرهم أنّ الصعود والنزول من صفات الأجسام فالله تعالى منزه عن ذلك فعلى هذا يكون معناه نزول الرحمة والألطاف الإلهية والإقبال على الداعين بالإجابة واللطف وتخصيصه بالثلث الأخير من الليل، لأنّ ذلك وقت التهجد والدعاء وغفلة أكثر الناس وعن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهمّ لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدّمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت» وزاد في رواية «وما أنت أعلم به مني أنت المقدّم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك» زاد النسائي «ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» .
ولما ذكر تعالى معاملتهم للخالق أتبعه المعاملة للخلائق تكميلاً لحقيقة الإحسان فقال تعالى:
{وفي أموالهم} أي كل أصنافها {حق} أي نصيب ثابت {للسائل} أي الذي ينبه على حاجته بسؤال الناس وهو المتكفف {والمحروم} وهو المتعفف الذي لا يجد ما يغنيه ولا يسأل الناس ولا يُفطن له ليُتصدّق عليه وهذه صفة أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم، فالمحسنون يعرفون صاحب الوصف لما لهم من ناقد البصيرة ولله تعالى بهم العناية، وقدم السائل لأنه يعرف بسؤاله أو يكون إشارة إلى كثرة العطاء فيعطي السؤال، فإذا لم يجدهم يسأل عن المحتاجين فيكون سائلاً ومسؤولاً.
وقيل قدّم السائل لتجانس رؤوس الآي. وقيل: السائل هو الآدمي، والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات المحترمة قال صلى الله عليه وسلم «في كل كبد حراء أجر» وهذا ترتيب حسن لأنّ الآدمي مقدّم على البهائم، وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب: السائل الذي يسأل الناس والمحروم الذي ليس له في الغنائم سهم ولا يجري عليه من الفيء شيء، وقال قتادة والزهري: المحروم(4/97)
المتعفف الذي لا يسأل الناس وقال زيد بن أسلم: المحروم هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته وهو قول محمد بن كعب القرظي قال: المحروم صاحب الجائحة ثم قرأ {إنا لمغرومون بل نحن محرومون} (الواقعة: 66 ـ 67)
{وفي الأرض} أي من الجبال والبحار والأشجار والثمار والنبات وغيرها {آيات} أي دلالات على قدرة الله تعالى ووحدانيته {للموقنين} أي الذين صار الإيقان لهم غريزة ثابتة فهم لذلك يتفطنون لرؤية ما فيها قال القشيري: من الآيات فيها أنها تحمل كل شيء، فكذلك العارف يحمل كل أحد ومن استثقل أحداً أو تبرم برؤية أحد فلغيبته عن الحقيقة ومطالعته الخلق بعين التفرقة، وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة، ومن الآيات فيها أنه يلقي عليها كل قذر وقمامة فتنبت كل زهر ونور فكذلك العارف بتشرّب ما يسقى من الجفاء ولا يترشح إلا بكل خلق حسن عليّ وشيمة زكية.
{وفي أنفسكم} آيات أيضاً من مبدإ خلقكم إلى منتهاه، وما في تركيب خلقكم من العجائب {أفلا تبصرون} أي: بأبصاركم وبصائركم فتتأمّلوا ما في ذلك من الآيات فمن تأمّلها علم أنه عبد، ومتى علم ذلك علم أن له ربّاً غير محتاج إلى أحد.
{وفي السماء} أي: جهة العلو {رزقكم} بما يأتي من المطر والرياح والحرّ والبرد وغير ذلك مما رتبه سبحانه وتعالى لمنافع العباد، وقال ابن عباس يعني بالرزق المطر لأنه سبب الأرزاق، وقيل: في السماء رزقكم مكتوب وقيل تقدير الأرزاق كلها من السماء ولولاه لما حصل في الأرض حبة قوت {وما توعدون} قال عطاء: من الثواب والعقاب وقال مجاهد: من الخير والشرّ وقال الضحاك: من الجنة والنار.
ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه فقال عز من قائل:
{فوربّ} أي: مبدع ومدبر {السماء والأرض} أي: وما أودع فيهما مما علمتموه وما لم تعلموه {إنه} أي: الذي توعدونه من الخير والشرّ والجنة والنار وما ذكر من أمر الرزق وما تقدّم الإقسام عليه {لحق} أي ثبات يطابقه الواقع {مثل ما أنكم تنطقون} أي مثل نطقكم كما أنه لا شك في أنكم تنطقون ينبغي لكم أن لا تشكوا في تحقيق ذلك وقال بعض الحكماء: معناه أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه ولا يمكن أن ينطق بلسان غيره، كذلك كل أحد يأكل رزق نفسه الذي قسم له لا يقدر أن يأكل رزق غيره وأنشدوا في المعنى:
*ما لا يكون فلا يكون بحيلة ... أبداً وما هو كائن سيكون*
*سيكون ما هو كائن في وقته ... وأخو الجهالة مكمد مغبون*
وقيل: معناه إنّ القرآن لحق تكلم به الملك النازل من السماء مثل ما تتكلمون، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة برفع اللام على أنه نعت لحق، وما مزيدة وأنكم مضاف إليه أي لحق مثل نطقكم ولا يضر تقدير إضافتها لمعرفة لأنها لا تتعرف بذلك لإبهامها، والباقون بالنصب على أنه نعت لحق أيضاً كما في القراءة الأولى: وإنما بنى الاسم لإضافته إلى غير ممكن كما بناه القائل في قوله:
*فتداعى منخراه بدم ... مثل ما أثمر حماض الجبل*
يفتح مثل مع أنها نعت لدم وقيل أنها نعت لمصدر محذوف أي لحق حقاً مثل نطقكم. وقوله(4/98)
تعالى:
{هل أتاك} أي يا أكمل الخلق {حديث ضيف إبراهيم المكرمين} تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتبشير له بالفرج وسماهم ضيفاً؛ لأنه حسبهم كذلك ويقع على الواحد والجمع لأنه مصدر، وسماهم مكرمين عند الله تعالى، أو لأنّ إبراهيم عليه السلام أكرمهم بأن عجل قراهم وأجلسهم في أكرم المواضع واختيار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين، وكون النبيّ صلى الله عليه وسلم مأموراً بأن يتبع ملته وكان إبراهيم عليه السلام أكرم الخليقة، وضيف الكرام مكرمون. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: لأنّ إبراهيم عليه السلام خدمهم بنفسه، وعن ابن عباس سماهم مكرمين لأنهم جاؤوا غير مدعوين، وقال صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» .
فإن قيل: إذا كان المراد من الآية التسلية والإنذار، فأي فائدة في حكاية الضيافة؟ أجيب: بأنّ في ذلك إشارة إلى أنّ الفرج في حق الأنبياء والبلاء على الجهلة يأتي من حيث لم يحتسبوا كقوله تعالى: {فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} (الزمر: 25)
فلم يكن عند إبراهيم عليه السلام خبر من إنزال العذاب مع ارتفاع منزلته قال القشيري: وقيل كان عددهم اثني عشر ملكاً وقيل: جبريل عليه السلام وكان معه تسعة وقيل: كانوا ثلاثة، وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها والباقون بكسر الهاء وياء بعدها.
{إذ} أي حديثهم حين {دخلوا عليه} أي دخول استعلاء مخالف لدخول بقية الضيوف، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الذال عند الدال والباقون بالإدغام.
تنبيه: اختلف في العامل في إذ على أربعة أوجه: أحدها: أنه حديث أي هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه. ثانيها: أنه منصوب بما في ضيف من معنى الفعل، لأنه في الأصل مصدر ولذلك استوى فيه الواحد المذكر وغيره، كأنه قيل: الذين أضافهم في وقت دخولهم عليه. ثالثها: أنه منصوب بالمكرمين إن أريد بإكرامهم أن إبراهيم عليه السلام أكرمهم بخدمته لهم كأنه تعالى يقول: أكرموا إذ دخلوا. رابعها: أنه منصوب بإضمار اذكر، ولا يجوز نصبه بأتاك لاختلاف الزمانين.
فإن قيل: إنما أرسلوا إلى قوم لوط فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم عليه السلام؟ أجيب من وجهين: أحدهما: أن إبراهيم عليه السلام شيخ المرسلين ولوط من قومه، وعادة الملك إذا أرسل رسولاً لملك وفي طريقه من هو أكبر منه يقول له: اعبر على فلان الملك وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه. ثانيهما: أن إبراهيم عليه السلام كان شديد الشفقة حليماً فكان يشق عليه إهلاك أمّة عظيمة، وكان ذلك مما يحزن إبراهيم عليه السلام شفقة منه على العباد، فقال لهم: بشروه بغلام يخرج من صلبه أضعاف من هلك ويكون من صلبه فروع الأنبياء عليهم السلام {فقالوا سلاماً} أي هذا اللفظ. {قال سلامٌ} أي: هذا اللفظ، والمشهور أنّ السلام الأوّل المراد به التحية أن نسلم سلاماً، وقيل: إن سلاماً معناه حسناً؛ لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يلغو ويأثم، فكأنهم قالوا قولاً حسناً سليماً من الإثم فيكون مفعولاً به، لأنه في معنى القول، وأمّا رفع الثاني فالمشهور أنه التحية فهو مبتدأ وخبره محذوف أي عليكم، وقيل: إنه السلامة، أي: أمري سلام لأني لا أعرفكم، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين وسكون اللام والباقون بفتح السين واللام وألف بعدها والمعنى واحد.(4/99)
وقوله تعالى: {قوم منكرون} أي غرباء لا أعرفهم قال ذلك في نفسه كما قاله ابن عباس خبر مبتدأ مقدّر أي هؤلاء. وقيل: إنما أنكر أمرهم؛ لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان وقال أبو العالية: أنكر إسلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض.
{فراغ} أي ذهب في خفية من ضيفه، فإنّ من آداب المضيف أن يبادر بالقرى حذراً من أن يكفه الضيف أو يصير منتظراً {إلى أهله} أي الذين عندهم بقرة {فجاء بعجل} أي فتى من أولاد البقر لأنه كان عامة ماله البقر {سمين} قد شواه وأنضجه كما قال تعالى في سورة هود {حنيذ} (هود: 66)
أي: مشوي.
{فقرّبه إليهم} بأن وضعه بين أيديهم ليأكلوا فلم يأكلوا {قال ألا تأكلون} والهمزة إمّا للإنكار عليهم في عدم أكلهم، وإمّا للعرض وإمّا للتحضيض فلم يجيبوا.
{فأوجس} أي أضمر في نفسه {منهم خيفة} لما رأى إعراضهم على طعامه لظنه أنهم جاؤوه لشرّ. وقيل: وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا بعذاب فلما عرفوا منه ذلك {قالوا} مؤنسين له {لا تخف} وأعلموه أنهم رسل الله {وبشروه بغلام} يأتيه على شيخوخته ويأس امرأته بالطعن في السنّ بعد عقمها وهو إسحاق عليه السلام {عليم} أي مجبول جبلة مهيأة للعلم ولا يموت حتى يظهر علمه بالفعل في أوانه، فإنّ جميع الأنبياء بعده من ذريته إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه من ذرية إسماعيل عليه السلام.
تنبيه: ذكر ههنا من آداب الضيافة تسليم المضيف على الضيف ولقاءه بالوجه الحسن والمبالغة في الإكرام بقوله سلام وهو آكد وسلامهم بالمصدر في قوله سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلام عليكم، لأنّ الامتناع من الطعام يدل على العداوة، والغدر لا يليق بالأنبياء فقال: سلام أي امرئ مسالمة ثم فيها من آداب المضيف تعجيل الضيافة فإنّ الفاء في قوله فراغ تدل على التعقيب وإخفائها.
لأن الروغان يقتضي الإخفاء وغيبة المضيف عن الضيف ليستريح ويأتي بما يمنعه الحياء منه ويخدم الضيف بنفسه ويختار الأجود لقوله سمين، ويقدّم الطعام للضيف في مكانه ولا ينقل الضيف للطعام لقوله قربه إليهم، ويعرض الأكل عليه ولا يأمره لقوله تعالى {قال ألا تأكلون} ولم يقل كلوا وسروره بأكله لا كما يوجد في بعض البخلاء الذين يحضرون طعاماً كثيراً، ويجعل نظره ونظر أهل بيته إلى الطعام حتى يمسك الضيف يده عنه لقوله تعالى: {فأوجس منهم خيفة} لعدم أكلهم.
ومن آداب الضيف إذا حضر الطعام ولم يكن يصلح له لكونه مضرّاً به أو يكون ضعيف القوّة عن هضم ذلك الطعام أن لا يقول هذا طعام غليظ لا يصلح لي بل يأتي بعبارة حسنة ويقول: فيّ مانع من أكل الطعام لأنهم أجابوه بقولهم {لا تخف} ولم يذكروا في الطعام شيئاً ولا أنه يضر بهم بل بشروه بالولد إشعاراً بأنهم ملائكة وبشروه بالأشرف وهو الذكر، حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون ثم وصفوه بالعلم دون المال والجمال؛ لأنّ العلم أشرف الصفات
ثم أدب آخر في البشارة وهو أن لا يخبر الإنسان بما يسرّه دفعة واحدة لأنه يورث مرضاً لأنهم جلسوا واستأنس بهم إبراهيم ثم قالوا نبشرك فإن قيل: قال تعالى في سورة هود {فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم} (هود: 70)
فدل على أنّ إنكاره، حصل بعد تقريب العجل إليهم وههنا قال {فقالوا سلاماً قال سلام قوم منكرون} ثم قال {فراغ إلى أهله} بفاء التعقيب وذلك يدل على أنّ تقريب الطعام منهم(4/100)
بعد حصول إنكاره فما وجهه؟ أجيب بأن يقال لعلهم كانوا مخالفين لصفة الناس في الشكل والهيئة ولذلك قال {قوم منكرون} أي عند كل أحد واشترك إبراهيم عليه السلام وغيره فيه ولهذا لم يقل أنكرتم بل قال: أنتم منكرون في أنفسكم عند كل أحد منا، ثم لما امتنعوا من الطعام تأكد الإنكار لأنّ إبراهيم تفرّد بمشاهدة إمساكهم فنكرهم فوق الإنكار الأوّل وحكاية الحال في سورة هود أبسط مما ذكره ههنا، فإنه هنا لم يبين المبشر به وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وههنا لم يقل إنّ القوم قوم من، وهناك قال: قوم لوط.
ولما كانا بعيدين عن قبول الولد تسبب عن ذلك قوله تعالى دالاً على أنّ الولد إسحاق مع الدلالة على أنّ خفاء الأسباب لا يؤثر في وجود المسببات.
{فأقبلت} أي: من سماع هذا الكلام {امرأته} سارة قيل: لم يكن ذلك إقبالاً من مكان إلى مكان بل كانت في البيت، فهو كقول القائل: أقبل يفعل كذا إذا أخذ فيه وقوله تعالى: {في صرّة} أي: صيحة حال، أي: جاءت صائحة لأنها قد امتلأت عجباً {فصكت} قال ابن عباس: لطمت {وجهها} واختلف في صفته فقيل: هو الضرب باليد مبسوطة وقيل: هو ضرب الوجه بأطراف الأصابع فعل المتعجب، وهي عادة النساء إذا أنكرن شيئاً، وأصل الصك ضرب الشيء بالشيء العريض. وقيل: جمعت أصابعها وضربت جبهتها عجباً وذاك من عادة النساء أيضاً إذا أنكرن شيئاً {وقالت} تريد أن تستبين الأمر هل الولد منها أو من غيرها {عجوز} قال القشيري: قيل إنها كانت يومئذ ابنة ثمان وتسعين سنة ومع ذلك {عقيم} فهي حال شبابها لم تكن تقبل الحبل فلم تلد قط.
ولما قالت ذلك قالوا مجيبين لها.
{قالوا كذلك} أي مثل ما قلنا من هذه البشرى العظيمة {قال ربك} أي المحسن إليك بتأهيلك لذلك على ما ذكرت من حالك وبتأهيلك من قبل الاتصال بخليله صلى الله عليه وسلم {إنه هو} أي: وحده {الحكيم} أي: الذي يضع الأشياء في أحق مواضعها {العليم} المحيط العلم، فهو لذلك لا يعجزه شيء.
ثم بين سبحانه وتعالى ما كان من حال إبراهيم وحال الملائكة بعد ذلك بقوله تعالى.
{قال} أي إبراهيم عليه السلام مسبباً عما رأى من حالهم وأنّ اجتماع الملائكة على تلك الحالة لم يكن لهذه البشارة فقط {فما خطبكم} أي: خبركم العظيم {أيها المرسلون} أي لأمر عظيم وهذا أيضاً من آداب المضيف إذا بادر الضيف بالخروج قال له: ما هذه العجلة وما شأنك لأنّ في سكوته ما يوهم اشتغاله، ثم إنهم أتوا بما هو من آداب الصديق الذي لا يسرّ عن الصديق شيئاً وكان ذلك بإذن الله تعالى لهم في إطلاع إبراهيم عليه السلام على إهلاكهم وجبر قلبه بتقديم البشارة بأبي الأنبياء إسحاق عليه السلام.
فإن قيل: فما الذي اقتضى ذكره بالفاء ولم لا قال: ما هذا الاستعجال وما خطبكم المعجل لكم. أجيب: بأنه لما أوجس منهم خيفة لو خرجوا من غير بشارة وإيناس فلما آنسوه قال: فما خطبكم، أي: بعد هذا الأنس العظيم ما هذا الإ يحاش الأليم.
{قالوا} قاطعين بالتأكيد بأنّ مضمون خبرهم حتم لا بدّ منه ولا مدخل للشفاعة فيه {إنا أرسلنا} أي: بإرسال من تعلم {إلى قوم مجرمين} أي: هم في غاية القوّة على ما يحاولونه، وقد صرفوا ما أنعم الله تعالى به عليهم من القوّة في قطع ما يحق وصله، ووصل ما يحق قطعه يعنون قوم لوط.
{لنرسل عليهم} أي: من السماء التي فيها(4/101)
ما وعد العباد به وتوعدوا {حجارةً من طين} أي: مهيأ للإحراق والاحتراق.
{مسوّمة} أي: معلمة بعلامة العذاب المخصوص عليها اسم من يرمي بها وقوله تعالى: {عند ربك} أي: المحسن إليك بهذه البشارة وغيرها ظرف المسوّمة، أي: معلمة عنده {للمسرفين} أي: المتجاوزين الحدود غير قانعين بما أبيح لهم فالمسرف المتمادي ولو في الصغائر، فهم مجرمون أي: مسرفون. والمجرم قال ابن عباس: هو المشرك لأنّ الشرك أعظم الذنوب.
وهنا لطيفة: وهي أنّ الحجارة سوّمت للمصرّ المسرف الذي لا يترك الذنب في المستقبل وذلك إنما يعلمه الله تعالى فلذلك قال {عند ربك للمسرفين} .
ولما كان الإجرام ظاهراً قالوا {إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين} واللام في المسرفين لتعريف العهد أي لهؤلاء المسرفين إذ ليس لكل مسرف حجارة مسوّمة، وإسرافهم بأنهم أتوا بما لم يسبقهم به أحد من العالمين وفي هذا دليل على رجم اللائط، والفائدة في إرسال جماعة من الملائكة لهذا الأمر وإن كان يكفي فيه الواحد منهم إذ الملك العظيم قد يهلك بالأمر الحقير كما أهلك النمروذ بالبعوض، وكما أهلك فرعون بالقمل والجراد بل بالريح التي بها الحياة إظهاراً للقدرة، وقد تكثر الأسباب كما في يوم بدر أمر خمسة آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم إظهاراً لعظيم قدرته.
تنبيه: قوله تعالى: {من طين} أي ليس من البرد والفاعل لذلك هو الله تعالى لا كما تقول الحكماء فإنهم يقولون: إنّ البرد يسمى حجارة فقوله تعالى: {من طين} يدفع ذلك التوهم قال الرازي: إن بعض من يدّعي العقل يقول لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدوّرات على هيئة البرد وهيئة البنادق التي يتخذها الرماة قالوا: وسبب ذلك أنّ الإعصار تصعد الغبار من الفلوات العظيمة التي لا عمارة فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ويتفق ذلك إلى هواء ندي فيصير ذلك طيناً رطباً، والرطب إذا نزل وتفرّق استدار، بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته يقطر كرات مدوّرات كاللآلىء الكبار، ثم في النزول إن اتفق أن تضربه النيران التي في الجوّ جعلته حجارة كالآجر المطبوخ فينزل فيصيب من هيأ الله تعالى هلاكه، وقد ينزل كثيراً في المواضع التي لا عمارة بها فلا يرى ولا يدري به فلهذا قال: {من طين} ، لأنّ ما لا يكون من طين كالحجر الذي يكون في الصواعق لا يكون كثيراً بحيث يمطر وهذا تعسف، لأنّ ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع لحادث آخر لزم التسلسل ولا بدّ من الانتهاء إلى محدث ليس بحادث فذلك المحدث لا بدّ وأن يكون فاعلاً مختاراً، والمختار له أن يفعل ذلك وله أن يخلق الحجارة من طين على وجه آخر من غير نار ولا غبار لكن العقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه، وما لا يصل العقل إليه لا يؤخذ إلا بالنقل والنص ومن المعلوم أنّ نزول حجارة الطين من السماء أغرب وأعجب من غيرها.
ولما أراد الله تعالى أن يهلك المجرمين ميز المؤمنين بقوله تعالى:
{فأخرجنا} أي: بما لنا من العظمة بعد أن ذهبت رسلنا إليهم ووقعت بينهم وبين لوط عليه السلام محاورات معروفة لم يدع الحال هنا إلى ذكرها {من كان فيها} أي: قرى قوم لوط {من المؤمنين} أي: المصدّقين بقلوبهم لأنا لا نسوّيهم بالمجرمين فخلصناهم من العذاب على قلتهم وضعفهم وقوّة المخالفين وكثرتهم.
{فما وجدنا فيها} أي: تلك القرى، أسند الأمر إليه تشريفاً(4/102)
لرسله وإعلاماً بأنّ فعلهم فعله تعالى {غير بيت} أي: واحد وهو بيت ابن أخي إبراهيم عليهما السلام، وقيل: كانت عدّة الناجين منهم ثلاثة عشر {من المسلمين} أي: العريقين في إسلام الظاهر والباطن لله تعالى من غير اعتراض أصلاً، وهم إبراهيم وآله عليهم السلام وإنهم أوّل من وجد منهم الإسلام الأتم وتسموا به كما مرّ في سورة البقرة، وسموا به أتباعهم فكان هذا البيت الواحد صادقاً عليه الإيمان الذي هو التصديق والإسلام الذي هو الإنقياد قال البغوي: وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعاً لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم يعني لما بينهما من التلازم وإن اختلف المفهومان، وقال الأصفهاني: وقيل: كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر وقيل: هم لوط وابنتاه وصفوا بالإيمان والإسلام أي هم مصدّقون بقلوبهم عاملون بجوارحهم الطاعات.
تنبيه: في الآية إشارة إلى أنّ الكفر إذا غلب والفسق إذا فشا لا تنفع معه عبادة المؤمنين، بخلاف ما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويزنون ومثاله: أنّ العالم كالبدن، ووجود الصالحين كالأغذية الباردة والحارة والسموم والواردة عليه الضارة، ثم إنّ البدن إذا خلا عن النافع وفيه الضار هلك وإن خلا عن الضار وفيه النافع طاب ونما، وإن وجدا فيه معاً فالحكم للأغلب، وإطلاق الخاص على العام لا مانع منه لأنّ المسلم أعم من المؤمن، فإذا سمى المؤمن مسلماً لا يدل على اتحاد مفهوميهما فكأنه تعالى قال: أخرجنا المؤمنين فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتاً من المسلمين، ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين.
{وتركنا} أي: بما لنا من العظمة {فيها} أي تلك القرى بما أوقعنا بها من العذاب {آية} أي علامة عبرة على هلاكهم كالحجارة أو الماء المنتن، فإنا قلعنا قراهم كلها وصعدت في الجوّ كالغمام إلى عنان السماء ولم يشعر أحد من أهلها بشيء من ذلك ثم قلبت واتبعت بالحجارة ثم خسف بها وغمرت بالماء الذي لا يشبهه شيء من مياه الأرض، كما أنّ جنايتهم لم تكن تشبه جناية أحد ممن تقدّمهم من أهل الأرض {للذين يخافون العذاب الأليم} أي: أن يحل بهم كما حل بهذه القرى في الدنيا من رفع الملائكة لهم في الهواء الذاري إلى عنان السماء وقلبهم وإتباعهم الحجارة المحرقة، وغمرهم بالماء المناسب لفعلهم بنتنه وعدم نفعه، وما ادّخر لهم في الآخرة أعظم وخص الذين يخافون بالذكر لأنهم المعتبرون بها. وقوله تعالى:
عطف على قوله تعالى: {فيها} بإعادة الجار، لأنّ المعطوف عليه ضمير مجرور فيتعلق بتركنا من حيث المعنى ويكون التقدير وتركنا في قصة موسى آية {إذ أرسلناه} أي: بمالنا من العظمة {إلى فرعون بسلطان مبين} أي بحجة واضحة وهي معجزاته الظاهرة كاليد والعصا ومع ذلك لم ينتفع بها، ولذلك سبب عنها وعقب بها قوله تعالى:
k
{فتولى} أي: كلف نفسه الإعراض عنها بعدما دعاه علمها إلى الإقبال إليها وأشار إلى قواه بقوله تعالى: {بركنه} أي: بسبب ما يركن إليه من القوّة في نفسه وبأعوانه وجنوده، لأنهم له كالركن وقيل: بجميع بدنه كناية عن المبالغة في الإعراض {وقال} معلماً بعجزه عما أتاه به وهو لا يشعر {ساحر} ثم ناقض كمناقضتكم فقال بجهله عما يلزم على قوله {أو مجنون} أي: لاجترائه علىّ مع مالي من عظيم الملك(4/103)
بمثل هذا الذي يدعو إليه
تنبيه: أو هنا على بابها من الإبهام على السامع أو للشك نزل نفسه مع أنه يعرفه نبياً حقاً منزلة الشاك في أمره تمويهاً على قومه، وقال أبو عبيدة: أو بمعنى الواو قال: لأنه قد قالهما قال تعالى: {إنّ هذا لساحر عليم} (الأعراف: 109)
وقال في موضع آخر {إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} (الشعراء: 27)
وردّ الناس عليه هذا وقالوا: لا ضرورة تدعو إلى ذلك وأمّا الآيتان فلا تدلان على أنه قالهما معاً في آن واحد، وإنما يفيدان أنه قالهما أعمّ من أن يكونا معاً، أو هذه في وقت وهذه في آخر.
ولما وقعت التسلية بهذا للأولياء قال تعالى محذراً للأعداء.
{فأخذناه} أي: أخذ غضب وقهر بعظمتنا وقوله تعالى: {وجنوده} يجوز أن يكون معطوفاً على مفعول أخذناه وهو الظاهر وأن يكون مفعولاً معه.
{فنبذناهم} أي: طرحناهم طرح مستهين بهم كما تطرح الحصيات {في اليمّ} أي: البحر الذي هو أهل لأن يقصد بعد أن سلطنا الريح عليه فغرقته لما ضربه موسى عليه السلام بعصاه ونشفت أرضه وأيبست ما أبرزت فيه من الطرق لنجاة أوليائنا وهلاك أعدائنا {وهو} أي والحال أنّ فرعون {مليم} أي آت بما يلام عليه من تكذيب الرسول ودعوى الربوبية وغير ذلك.
ثم ذكر تعالى قصصاً أخر تسلية لنبينا صلى الله عليه وسلم إحداها: قوله تعالى:
{وفي عادٍ} أي: إهلاكهم وهم قوم هود عليه السلام آية عظيمة {إذ} أي حين {أرسلنا} بعظمتنا {عليهم الريح} فأتتهم تحمل سحابة سوداء وهي تدر الرمل وترمي بالحجارة كما مرّت الإشارة إليه على كيفية لا تطاق {العقيم} أي التي لا خير فيها لا تحمل المطر ولا تلقح الشجر وهي الدبور.
ثم بين عقمها وإعقامها بقوله تعالى:
{ما تذر} أي: تترك على حالة رديئة، وأغرق في النفي فقال تعالى: {من شيء أتت عليه} أي: إتياناً أراد مرسلها إهلاكه بها {إلا جعلته كالرميم} أي: الشيء البالي الذي دهكته الأيام والليالي إلى حالة الدمار وهو في كلامهم ما يبس من نبات الأرض وديس، قاله ابن جرير.
فإن قيل: الجبال والصخور وغير ذلك أتت عليهم وما جعلتهم كالرميم أجيب بأنّ المراد أتت عليه قاصدة له وهو عاد وأبنيتهم وعروشهم، لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة لهم فما تركت شيئاً من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم.
ثانيها: قوله تعالى: {وفي ثمود} أي إهلاكهم وهم قوم صالح عليه السلام آية عظيمة {إذ} أي حين {قيل لهم} أي ممن لا يخلف الميعاد، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف والباقون بكسرها {تمتعوا} أي بلبن الناقة وغيره مما مكناهم فيه من الزروع والنخيل والأبنية في الجبال والسهول وغير ذلك من جلائل الأمور على الوجه الذي أمرناكم به، ولا تطغوا {حتى حين} أي وقت ضربناه لآجالكم.
{فعتوا} أي أوقعوا بسبب إحساننا إليهم العتوّ وهو التكبر والإباء {عن أمر ربهم} أي: مولاهم الذي أعظم إحسانه إليهم فعقروا ناقته وأرادوا قتل نبيه صالح عليه السلام {فأخذتهم} أي: بسبب عتوّهم أخذ قهر وعذاب {الصاعقة} أي: الصيحة العظيمة التي حملتها الريح فأوصلتها إلى مسامعهم بغاية العظمة ورجت ديارهم رجة أزالت أرواحهم بالصعق، وقرأ الكسائي بإسكان العين ولا ألف قبلها، والباقون بكسر العين وقبلها ألف وقوله تعالى: {وهم ينظرون} دال على أنها كانت في غمام وكان فيها(4/104)
نار، ويجوز مع كونه من النظر أن يكون أيضاً من الانتظار فإنهم وعدوا نزول العذاب بعد ثلاثة أيام وجعل في كل يوم علامة وقعت بهم فتحققوا وقوعه في اليوم الرابع. وقال بعض المفسرين: المراد منه هو ما أمهلهم الله تعالى بعد عقرهم الناقة وهو ثلاثة أيام بقوله تعالى: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} (هود: 65)
وكان في تلك الأيام تتغير ألوانهم فتحمر وتصفر وتسودّ قال الرازي: وهذا ضعيف، لأنّ قوله تعالى {فعتوا عن أمر ربهم} بحرف الفاء دليل على أنّ العتوّ كان بعد قوله تعالى: {تمتعوا} فإذاً الظاهر أنّ المراد هو ما قدّر الله تعالى للناس من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدّة الأجل انتهى. ولحسن هذا فسرت الآية به.
{فما} أي: فتسبب عن ذلك أنهم ما {استطاعوا} أي: تمكنوا، وأكد النفي بقوله تعالى: {من قيام} أي: فما قاموا بعد نزول العذاب وما قدروا على نهوض، قال قتادة: لم ينهضوا من تلك الصرعة كقوله تعالى: {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} (الأعراف: 78)
وقيل: هو من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه {وما كانوا} أي: كوناً ما {منتصرين} أي: لم يكن فيهم أهلية الانتصار بوجه لا بأنفسهم ولا بناصر ينصرهم فيطاوعونه في النصرة، لأن تهيؤهم لذلك سقط بكل اعتبار.
ثالثها: قوله تعالى: {وقوم نوح} بالجرّ، وهي قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي عطف على ثمود أي وفي إهلاكهم بماء السماء والأرض آية، وبالنصب وهي قراءة الباقين أي وأهلكنا قوم نوح {من قبل} أي: من قبل إهلاك هؤلاء المذكورين ثم علل إهلاكهم بقوله تعالى: {إنهم كانوا} خلقاً وطبعاً لا حيلة لغيرنا من أهل الأسباب في صلاحهم {قوما} أي: أقوياء {فاسقين} أي: غريقين في الخروج عن حظيرة الدين.
ثم ذكر ما يدلّ على تمام القدرة على البعث بقوله تعالى:
{والسماء بنيناها} أي: بمالنا من العظمة {بأيدٍ} أي: بقوّة وشدّة عظيمة لا يقدر قدرها. فائدة: رسمت بأيد بيائين بعد الألف {وإنا} على عظمتنا بعد ذلك {لموسعون} أي: أغنياء وقادرون ذووا سعة لا تتناهى، ولذلك أوسعنا بقدر جرمها وما فيها من الرزق عن أهلها فالأرض كلها على اتساعها كالنقطة في وسط دائرة السماء بما اقتضته صفة الإلهية التي لا تصح معها الشركة أصلاً فلسنا كمن تعرفون من الملوك، لأنهم إذا فعلوا شيئاً لم يقدروا على أعظم منه وإن قدروا كان ذلك منهم بكلفة ومشقة وسترون في اليوم الآخر ما يتلاشى ما ترون في جنبه ومن اتساعنا جعلها بلا عمد مع ما هي عليه من العظمة إلى غير ذلك من الأمور الخارقة للعوائد، وعن الحسن لموسعون الرزق بالمطر وقيل: جعلنا بينها وبين الأرض سعة.
{والأرض فرشناها} أي: بسطناها ومهدناها بما لنا من العظمة، فصارت ممهدة جديرة بأن تستقرّ عليها الأشياء، وهي آية على تمهيد أرض الجنة وسقنا لأنهارها وغرسنا لأشجارها {فنعم} أي: فتسبب عن ذلك أن يقال: في وصفنا نعم {الماهدون} والمخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى، أي: نحن لكمال قدرتنا فما نزل من السماء شيء ولا نبع من الأرض شيء إلا بإرادتنا واختيارنا وتقديرنا من الأزل لأنا إذا صنعنا شيئاً علمنا ما يكون منه من حين إنشائه إلى حين إفنائه ولا يكون شيء منه إلا بتقديرنا، وذلك تذكير بالجنة والنار فما فيها من خير فهو آية على الجنة، وما فيها من شر فهو آية على النار وقوله تعالى:
{ومن كل شيء خلقنا} يجوز أن يتعلق بخلقنا أي خلقنا(4/105)
من كل شيء {زوجين} وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من زوجين، لأنه في الأصل صفة له إذ التقدير خلقنا زوجين كائنين من كل شيء، أي صنفين كل منهما يزاوج الآخر من وجه وإن خالفه من آخر ولا يتم نفع أحدهما إلا بالآخر من الحيوان والنبات وغيرهما، ويدخل فيه الأضداد من الغنى والفقر والحسن والقبح والحياة والموت والظلام والنور والليل والنهار والصحة والسقم والبر والبحر والسهل والجبل والشمس والقمر والحر والبرد اللذين هما من نفس جهنم آية بينة عليها وبناؤها على الاعتدال في بعض الأحوال آية على الجنة مذكرة بها مشوّقة إليها، والإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحق والباطل والحلو والمر قال الحسن: كل اثنين منها زوج والله سبحانه وتعالى فرد لا مثل له {لعلكم تذكرون} أي: فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج إرادة أن تتذكروا فتعلموا أنّ خالق هذه الأشياء واحد لا شريك له لا يعجزه حشر الأجساد وجمع الأرواح، وقرأ حفص والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد
{ففرّوا} أي: أقبلوا والجؤوا {إلى الله} أي: الذي لا سمي له فضلاً عن مكافىء، وله الكمال كله فهو في غاية العلو فلا يفرّ ويسكن أحد إلى غير محتاج مثله فإن المحتاج لا غنى عنده ولا يفرّ إليه سبحانه إلا من تجرّد عن حضيض عوائقه الجسمية إلى أوج صفاته الروحانية وذلك من وعيده إلى وعده اللذين دلّ عليهما بالزوجين فتكمل السياق بالتحذير والاستعطاف بالاستدعاء فهو من باب لا ملجأ منك إلى إليك أعوذ بك منك قال القشيري: ومن صح فراره إلى الله تعالى صح قراره مع الله تعالى قال البقاعي: وهو بكمال المتابعة ليس عيناً ومن فهم منه اتحاداً بذات أو صفة فقد نابذ طريق القوم فعليه لعنة الله.
{إني لكم منه} أي: لا من غيره {نذير} أي: من أن يفرّ أحد إلى غيره فإنه لا يحصل له قصد {مبين} أي: بين الإنذار ففرار العامّة من الجهل إلى العلم عقداً وسعياً، ومن الكسل إلى التشمير حذراً وحزماً ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاء وفرار خاصة الخاصة مما دون الحق إلى الحق استغراقاً في وحدانيته.
{ولا تجعلوا} أي: بأهوائكم {مع الله} وكرر الاسم الأعظم ولم يضمر تعييناً للمراد، لأنه لم يشاركه في التسمية به أحد وتنبيهاً على ماله من صفات الكمال وتعميماً لوجوه المقاصد لئلا يظنّ لو قيل معه إنّ المراد النهي على الجعل من جهة الفرار لا من جهة غيرها {إلهاً آخر} ثم علل النهي مع التأكيد بطعنهم في نذارته فقال {إني لكم منه} أي لا من غيره، فإن غيره لا يقدر على شيء {نذير} أي: محذر من الهلاك الأبدي بالعقوبة التي لاخلاص معها إن فعلتم ذلك {مبين} أي: لا أقول شيئاً من واضح النقل إلا ودليله ظاهر.
{كذلك} أي مثل قول قومك المختلف العظيم الشناعة البعيد من الصواب بما له من الاضطراب وقع لمن قبلهم ودلّ على هذا المقدّر بقوله تعالى مستأنفاً {ما أتى الذين من قبلهم} أي: كفار مكة وعمم النفي فقال تعالى: {من رسول} أي من عند الله تعالى {إلا قالوا ساحر أو مجنون} أي مثل تكذيبهم لك بقولهم ذلك لأنّ الرسول يأتيهم بمخالفة مألوفاتهم التي قادتهم إليها أهواؤهم، والهوى هو الذي أوجب لهم هذا التناقض الظاهر سواء أكانت أو للتفصيل، لأنّ بعضهم قال: واحداً، وبعضهم(4/106)
قال: آخر، أو كانت للشك لأنّ الساحر يكون لبيباً فطناً آتياً بما يعجز عنه كثير من الناس، والمجنون بالضدّ من ذلك.
فإن قيل: قوله تعالى {إلا قالوا} يدل على أنهم كلهم قالوا ذلك والأمر ليس كذلك، لأنّ ما من رسول إلا وآمن به قوم أجيب: بأنّ ذلك ليس بعام فإنه لم يقل إلا قالوا كلهم وإنما قال إلا قالوا ولما كان كثير منهم قائلين قال تعالى إلا {إلا قالوا} .
فإن قيل: فلم لم يذكر المصدّقين كما ذكر المكذبين، وقال: إلا قال بعضهم: صدقت وبعضهم كذبت أجيب: بأنّ المقصود التسلية وهي أعلى التكذيب فكأنه تعالى قال لا تأس على تكذيب قومك فإنّ أقواماً قبلك كذبوا ورسلاً كذبوا.
ثم عجب منهم بقوله تعالى:
{أتواصوا به} فهو استفهام للتعجب والتوبيخ والضمير في به يعود على القول المدلول عليه بقالوا، أي أتواصوا الأوّلون والآخرون بهذا القول المتضمن لساحر أو مجنون والمعنى: كيف اتفقوا على معنى واحد، كأنهم تواطؤا عليه وأوصى أوّلهم آخرهم بالتكذيب وقوله تعالى {بل هم قوم} أي: ذو شماخة وكبر {طاغون} إضراب عن أنّ التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أنّ الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه، ثم إنّ الله تعالى سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
{فتولّ} أي: أعرض {عنهم} أي: كلف نفسك الإعراض عن الإبلاغ في إبلاغهم ولا تأسف على تخلفهم عن الإسلام {فما أنت بملوم} لأنك بلغتهم الرسالة وما قصرت فيما أمرت به.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية «حزن النبيّ صلى الله عليه وسلم واشتدّ ذلك على أصحابه وظنوا أن الوحي قد انقطع وإن العذاب قد حضر إذ أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنهم» فأنزل الله تعالى:
{وذكر} أي: ولا تدع التذكير والموعظة {فإن الذكرى تنفع المؤمنين} فطابت أنفسهم، والمعنى: ليس التولي مطلقاً بل تولّ وأقبل وأعرض وادع فلا التولي يضرّك إذا كان عليهم ولا التذكير يضيع إذا كان مع المؤمنين، وقال مقاتل: معناه عظ بالقرآن كفار مكة فإنّ الذكرى تنفع من علم الله تعالى أنه مؤمن منهم، وقال الكلبي: عظ بالقرآن من آمن من قومك فإنّ الذكرى تنفعهم.
ولما بين حال من قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم في التكذيب بين سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الله تعالى الذي خلقهم للعبادة بقوله تعالى:
{وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون} واختلف في تفسير ذلك فأكثر المفسرين على أن المراد بهم العموم، ولا ينافي ذلك عدم عبادة الكافرين لأنّ الغاية لا يلزم وجودها كما في قولك بريت هذا القلم لأكتب به فإنك قد لا تكتب به هكذا قال الجلال المحلي، وأوضح منه ما قاله ابن عادل: إنّ المعنى إلا معدّين للعبادة ثم منهم من يتأتى منه ذلك ومنهم من لا، كقولك: هذا القلم بريته للكتابة ثم قد لا تكتب به وقد تكتب انتهى أو إنّ المراد إلا لأمرهم بالعبادة وليقروا بها وهذا منقول عن عليّ بن أبي طالب، أو إنّ المراد ليطيعوا وينقادوا لقضائي، فالمؤمن يفعل ذلك طوعاً والكافر يفعل ذلك كرهاً، أو أنّ المراد إلا ليوحدون فأمّا المؤمن فيوحد اختياراً في الشدّة والرخاء، وأمّا الكافر فيوحد اضطراراً في الشدّة والبلاء دون النعمة والرخاء. وقال مجاهد: معناه إلا ليعرفون قال البغوي: وهذا أحسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده بدليل قوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله} (الزخرف: 87)
وقيل: المراد به الخصوص أي:(4/107)
ما خلقت السعداء من الجنّ والأنس إلا لعبادتي، والأشقياء منهم إلا لمعصيتي. قال زيد بن أسلم: قال هو ما جبلوا عليه من السعادة والشقاوة، ويؤيده قوله تعالى {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجنّ والإنس} (الأعراف: 179)
وقيل: وما خلقت الجنّ والإنس المؤمنين وقيل: الطائعين.
تنبيه: استدلّ المعتزلة بهذه الآية على أنّ أفعال الله تعالى معللة بالأغراض وأجيبوا بوجوه منها: أنّ اللام قد ثبتت لغير الغرض كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} (الإسراء: 78)
وقوله تعالى {فطلقوهنّ لعدّتهنّ} (الطلاق: 1)
ومعناه المقارنة فيكون معناه قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم وفرضت عليهم العبادة ومنها قوله تعالى {الله خالق كل شيء} (الرعد: 16)
ومنها ما يدلّ على أنّ الإضلال بفعل الله كقوله تعالى {يضل من يشاء} (الرعد: 27)
وأمثاله، ومنها قوله تعالى {لا يسئل عما يفعل} (الأنبياء: 23)
وقوله تعالى {يفعل ما يشاء} (آل عمران: 40)
{ويحكم ما يريد} (المائدة: 1)
فإن قيل: ما الحكمة في أنه لم يذكر الملائكة مع أنهم من أصناف المكلفين وعبادتهم أكثر من عبادة غيرهم من المكلفين قال تعالى: {بل عباد مكرمون} (الأنبياء: 26)
وقال تعالى {لا يستكبرون عن عبادته} (الأعراف: 206)
أجيب بوجوه.
أحدها: أنّ الآية سيقت لبيان قبح ما يفعله الكفرة من ترك ما خلقوا له وهذا مختص بالجنّ والأنس، لأنّ الكفر موجود فيهما دون الملائكة. ثانيها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الجنّ والإنس فلما قال تعالى: {وذكر} بين ما يذكر به، وهو كون الخلق للعبادة وخصص أمّته بالذكر أي ذكر الجنّ والأنس ثالثها: أن عباد الأصنام كانوا يقولون إنّ الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين فهم يعبدون الله تعالى وخلقهم لعبادته، ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله تعالى فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله تعالى كما قالوا {ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى} (الزمر: 3)
فقال تعالى:
{وما خلقت الجنّ والأنس إلا ليعبدون} ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلماً من القوم فذكر المنازع فيه. رابعها: فعل الجنّ يتناول الملائكة لأنّ أصل الجنّ من الاستتار وهم مستترون عن الخلق فذكر الجنّ لدخول الملائكة فيهم.
ولما خص سبحانه خلقهم في إرادة العبادة صرّح بهذا المفهوم بقوله تعالى:
{ما أريد منهم} أي: في وقت من الأوقات وعمم في النفي بقوله تعالى: {من رزقٍ} أي: شيء من الأشياء على وجه ينفعني من جلب أو دفع، لأني منزه عن لحاق نفع أو ضر كما يفعل غيري من الموالي مع عبيدهم، فإنّ ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصل معايشهم وأرزاقهم، فإمّا مجهز في تجارة ليفيء ربحاً، أو مرتب في فلاحة ليغتل أرضاً، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته، أو محتطب أو محتش أو مستق أو طابخ أو خابز وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرّف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق لأني الغني المطلق وكل شيء مفتقر إليّ.
{وما أريد} أصلاً {أن يطعمون} أي: أن يرزقون رزقاً خاصاً هو الإطعام وفيه تعريض بأصنامهم فإنهم كانوا يعملون معها ما ينفعها ويحضرون لها المأكل فربما أكلتها الكلاب ثم بالت على الأصنام، ثم لا يصدهم ذلك عن عبادتها وقيل: في الآية حذف مضاف أي وما أريد أن يطعموا أحداً من خلقي وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأنّ الخلق كلهم عيال الله ومن أطعم عيال الله فقد أطعمه كما صح في الحديث عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال «إن الله عز وجل يقول(4/108)
يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما تعلم أنك لو عدته لوجدتني عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا ابن دم استسقيتك فلم تسقني قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت أنك لو أسقيته لوجدت ذلك عندي» .
فإن قيل: ما الفائدة في تكرير الإرادتين مع أنّ من لا يريد من أحد رزقاً لا يريد أن يطعمه؟ أجيب: بأنّ السيد قد يطلب من العبد المكتسب له الرزق وقد يكون للسيد مال وافر يستغني به عن التكسب لكنه يطلب من العبد قضاء حوائجه وإحضار الطعام بين يديه فقال: لا أريد ذلك ولا هذا وقدم طلب الرزق على طلب الإطعام من باب الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى.
فإن قيل: ما فائدة تخصيص الإطعام بالذكر مع أنّ المراد عدم طلب فعل منهم غير التعظيم؟ أجيب: بأنه لما عمم النفي في طلب الأوّل بقوله تعالى {من رزق} وذلك إشارة إلى التعميم فذكر الإطعام ونفى الأدنى ليتبعه بنفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قال: ما أريد منهم من غنى ولا عمل.
فإن قيل: المطالب لا تنحصر فيما ذكره فإنّ السيد قد يشتري العبد لا لطلب رزق منه ولا للتعظيم بل يشتريه للتجارة. أجيب: بأن العموم في قوله تعالى: {ما أريد منهم من رزق} يتناول ذلك.
ثم بين تعالى أنه الرزاق لا غيره بقوله عز من قائل.
{إن الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال المنزه عن جميع صفات النقص {هو} أي: لا غيره {الرزاق} أي: على سبيل التكرار لكل حيّ وفي كل وقت {ذو القوّة} أي: التي لا تزول بوجه {المتين} أي: الشديد الدائم.
فإن قيل: لم لم يقل إني رزاق؟ بل قال على الحكاية عن الغائب إنّ الله هو الرزاق فما الحكمة أجيب: بأنّ المعنى قل يا محمد إنّ الله هو الرزاق، أو يكون من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة، أو يكون قل مضمراً عند قوله تعالى: {ما أريد منهم من رزق} ولم يقل القوي بل قال ذو القوّة لأنّ المقصود تقرير ما تقدّم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير، وقيد بالمتين لأنّ ذو القوّة لا يدل إلا على أنّ له قوّة ما فزاد في الوصف المتانة وهو الذي له ثبات لا يتزلزل، والمعنى في وصفه سبحانه بالقوة والمتانة أنه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء.
ولما أقسم سبحانه على الصدق في وعيدهم إلى أن ختم بقوته التي لا حدّ لها سبب عن ذلك إيقاعه بالمتوعدين فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم:
{فإن للذين ظلموا} أي: أوقعوا الأشياء في غير مواقعها {ذنوباً} أي: نصيباً من العذاب طويل الشرّ كأنه من طوله صاحب ذنب {مثل ذنوب أصحابهم} أي: الذين تقدّم ظلمهم بتكذيب الرسل من قوم نوح وعاد وثمود، والذنوب في الأصل الدلو العظيمة المملوءة ماء وفي الحديث «فأتى بذنوب من ماء» فإن لم تكن ملأى فهي دلو ثم عبر به عن النصيب قال عمرو بن شاس:
*وفي كل حيّ قد خطبت بنعمة ... فحق لشاس من نداك ذنوب*
قال الملك: نعم وأذنبه، قال الزمخشري: وهذا تمثيل أصله في السقاة يتقسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا آخر. قال الشاعر:(4/109)
*لكم ذنوب ولنا ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب*
وقال الراغب الذنوب الدلو لذي له ذنب انتهى. فراعى الاشتقاق والذنوب أيضاً: الفرس الطويل الذنب، وهو صفة على فعول والذنوب لحم أسفل المتن ويقال: يوم ذنوب أي طويل الشرّ استعارة من ذلك ويجمع في القلة على أذنبة وفي الكثرة على ذنائب {فلا تستعجلون} أي تطلبوا أن آتيكم به قبل أوانه حق به، فإنّ ذلك لا يفعله إلا ناقص وأنا متعال عن ذلك لا أخاف الفوت ولا يلحقني عجز ولا أوصف به، ولا بدّ أن أوقعه بهم في الوقت الذي قضيت به في الأزل فإنه أحق الأوقات بعقابهم لتكامل ذنوبهم.
{فويل} أي شدّة عذاب {للذين كفروا} أي ستروا ما ظهر من هذه الأدلة التي لا يسع عاقلاً إنكارها {من يومهم الذي يوعدون} أضافه إليهم لأنه خاص بهم دون المؤمنين، وهو يوم القيامة وقيل يوم بدر وحذف العائد لاستكمال شروطه أي يوعدونه، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم، وأبو عمرو بكسر الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم وأما الوقف عليها فالجميع بكسر الهاء وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال من «قرأ سورة الذاريات أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا» حديث موضوع والله أعلم.
سورة الطور
مكية وهي تسع وأربعون آية وثلاثمائةواثنتا عشرة كلمة وألف وخمسمائة حرف
{بسم الله} الملك الأعظم ذي الملك والملكوت {الرحمن} الذي عمّ خلقه بالرحموت {الرحيم} الحيّ الذي لا يموت.
وقوله تعالى: {والطور} وما بعده أقسام جوابها {إنّ عذاب ربك لواقع} والواوات التي بعد الأولى عواطف لا حروف قسم كما قاله الخليل.
والطور: هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وهو بمدين أقسم الله تعالى به وقيل: هو الجبل الذي قال الله تعالى {وطور سنين} وقيل هو اسم جنس.
تنبيه: مناسبة هذه السورة لما قبلها من حيث الافتتاح بالقسم وبيان الحشر فيهما.
والمراد بالكتاب في قوله تعالى {وكتاب مسطور} أي: متفق الكتابة بسطور مصفوفة في حروف مرتبة جامعة لكلمات متفقة هو كتاب موسى عليه السلام وهو التوراة وقيل: القرآن وقيل: اللوح المحفوظ وقيل: صحائف أعمال الخلق قال تعالى {ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً} (الإسراء: 13)
وقوله تعالى: {في رق} متعلق بمسطور أي مكتوب في رق والرق: الجلد الرقيق يكتب فيه وقال الراغب: الرق ما يكتب فيه شبه كاغد ا. هـ. فهو أعمّ من كونه جلداً وغيره {منشور} أي مبسوط مهيأ للقراءة.
وقوله تعالى: {والبيت المعمور} مختلف في مكانه فقيل في السماء العليا تحت العرش وقيل: في السماء الثالثة وقيل في السادسة وعلى كل قول هو بحيال الكعبة يقال له: الضراح حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض يدخله كل يوم سبعون ألف ملك يطوفون به ويصلون فيه ثم لا يعودون إليه أبدا ووصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به من الملائكة وقيل: هو بيت الله الحرام لكونه معموراً بالحجاج والعمار والمجاورين وقيل: اللام(4/110)
في البيت المعمور لتعريف الجنس كأنه تعالى أقسم بالبيوت المعمورة والعمائر المشهورة.
وقوله تعالى: {والسقف المرفوع} مختلف فيه أيضاً فالأكثر على أنه السماء كما قال تعالى: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً} (الأنبياء: 32)
وقيل: المراد به سقف الكعبة وقيل: سقف الجنة وهو العرش ونقل عن ابن عباس.
وقوله تعالى: {والبحر المسجور} من الأضداد يقال بحر مسجور أي مملوء وبحر مسجور أي فارغ وروى ذو الرمّة الشاعر عن ابن عباس أنه قال: خرجت أمة لتستقي فقالت إنّ الحوض مسجور أي فارغ ويؤيد هذا أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة وقيل: المسجور الممسوك ومنه ساجور الكلب لأنه يمسكه ويحبسه. وقال محمد بن كعب القرظي: يعني بالمسجور الموقد المحمي بمنزلة التنور المسجور وهو قول ابن عباس لما روي أنه تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة ناراً فيزاد بها في نار جهنم كما قال تعالى: {وإذا البحار سجرت} (التكوير: 6)
وعن علي أنه سأل يهودياً أين موضع النار في كتابكم قال: في البحر قال علي: ما أراه إلا صادقاً لقوله تعالى {والبحر المسجور} ، وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يركبن البحر رجل إلا غازياً أو معتمراً أو حاجاً فإنّ تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً» وقال الربيع بن أنس المختلط العذب بالملح. وروى الضحاك عن المنزل بن سمرة عن علي أنه قال: البحر المسجور هو بحر تحت العرش غمره كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين فيه ماء غليظ يقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتون في قبورهم وهذا قول مقاتل. فإن قيل: ما الحكمة في القسم بهذه الثلاثة أشياء؟ أجيب: بأنّ هذه الأماكن الثلاثة وهي الطور والبيت المعمور والبحر المسجور كانت لثلاثة أنبياء للخلوة بربهم والخلاص من الخلق وخطابهم مع الله تعالى، أمّا الطور فانتقل إليه موسى عليه السلام وخاطب الله سبحانه وتعالى هناك، وأمّا البيت المعمور فانتقل إليه محمد صلى الله عليه وسلم وقال لربه سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأمّا البحر المسجور فانتقل إليه يونس عليه السلام ونادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فصارت هذه الأماكن شريفة بهذه الأسباب فأقسم الله تعالى بها. وأمّا ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم مع الله تعالى في هذه الأماكن كلام والكلام في الكتاب.
تنبيه: أقسم الله تعالى في بعض السور بمجموع كقوله تعالى: {والذاريات} (الذاريات: 1)
و {المرسلات} (المرسلات: 1)
و {النازعات} (النازعات: 1)
وفي بعضها بإفراد كقوله تعالى {والطور} ولم يقل والأطوار والأبحار قال الرازي: والحكمة فيه أنّ في أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحرّكات والريح الواحدة ليست بثابتة بل هي متبدلة بأفرادها مستمرّة بأنواعها والمقصود منها لا يحصل إلا بالتبدل والتغير فقال {والذاريات} إشارة إلى النوع المستمرّ لا إلى الفرد المعين المستقر، وأمّا الجبل فهو ثابت غير متغير عادة فالواحد من الجبال دائم زماناً ودهراً فأقسم في ذاك بالواحد، وكذلك في قوله تعالى {والنجم} (النجم: 1)
ولو قال والريح لما علم المقسم به وفي الطور علم.
وقوله تعالى: {إنّ عذاب ربك} أي: الذي تولى تربيتك {لواقع} أي: ثابت نازل بمستحقه جواب القسم كما مرّ.
{ما له من دافع} أي: مانع لأنه لا شريك لموقعه لما دلت عليه هذه الأقسام من كمال القدرة وجلال الحكمة قال جبير(4/111)
بن مطعم: قدمت المدينة لأكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ والطور إلى قوله تعالى: {إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع} فكأنما صدع قلبي حين سمعته ولم أكن أسلمت يومئذ فأسلمت خوفاً من العذاب وما كنت أظنّ أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب.
ثم بين تعالى أنه متى يقع بقوله تعالى {يوم تمور السماء} أي: تتحرك وتضطرب وتجيء وتذهب وتدور دوران الرحى ويموج بعضها في بعض وتتكفأ بأهلها تكفؤ السفينة وتختلف أجزاؤها بعضها في بعض. قال البغوي: والمور يجمع هذه المعاني وهو في اللغة الذهاب والمجيء والتردّد والدوران والاضطراب قال الرازي: وقيل تجيء وتذهب كالدخان ثم تضمحل {موراً} أي: اضطراباً شديداً.
{وتسير الجبال} أي: تنتقل من أمكنتها انتقال السحاب وحقق معناه بقوله تعالى {سيراً} فتصير هباء منثوراً وتكون الأرض قاعاً صفصفاً.
ثم بيّن من يقع عليه العذاب بقوله تعالى {فويل} أي: شدة عذاب {يومئذ} أي: يوم إذ يكون ما تقدّم ذكره {للمكذبين} أي: الغريقين في التكذيب للرسل.
{الذين هم} من بين الناس بظواهرهم وبواطنهم {في خوض} أي: أقوالهم وأفعالهم أفعال الخائض في الماء فهو لا يدري أين يضع رجله {يلعبون} فاجتمع عليهم أمران موجبان للباطل الخوض واللعب فهم بحيث لا يكاد يقع لهم قول ولا فعل في موضعه فلا يؤسس على بيان أو حجة.
فإن قيل: أهل الكبائر لا يكذبون فمقتضى ذلك أنهم لا يعذبون. أجيب بأنّ ذلك العذاب لا يقع على أهل الكبائر لقوله تعالى {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا} (الملك: 8 ـ 9)
فالمؤمن لا يلقى فيها إلقاء هوان وإنما يدخل فيها للتطهير إدخالاً مع نوع إكرام فالويل إنما هو للمكذبين.
وقوله تعالى: {يوم يدعون} بدل من يوم تمور السماء أو من يومئذ قبله تقديره: فويل يومئذ يوم يدعون، أي: يدفعون دفعاً عنيفاً بجفوة وغلظة من كل من يقيمه الله تعالى لذلك ذاهبين ومتهيئين {إلى نار جهنم} وهي الطبقة التي تلقاهم بالعبوسة والكراهة وأكد المعنى وحققه بقوله تعالى {دعّاً} .
قال البغوي: وذلك أنّ خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ثم يدفعون دفعاً على وجوههم وزجاً في أقفيتهم مقولاً لهم تبكيتاً وتوبيخاً {هذه النار} أي: الجسم المحرق المفسد لما اتى عليه الشاغل عن اللعب {التي كنتم بها} في الدنيا {تكذبون} على التجدّد والاستمرار.
خبر مقدّم وقوله تعالى {هذا} هو المبتدأ وقدّم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والتوبيخ، وذلك أنهم كانوا ينسبون محمداً صلى الله عليه وسلم إلى السحر وأنه يغطي الأبصار بالسحر وأنّ انشقاق القمر وأمثاله سحر فوبخوا به، وقيل لهم: {أفسحر هذا} أي الذي أنتم فيه من العذاب مع هذا الإحراق الذي تصلون فيه {أم أنتم} في منام أو نحوه {لا تبصرون} بالقلوب كما كنتم تقولون في الدنيا قلوبنا في أكنة، ولا بالأعين كما كنتم تقولون للمنذر {بيننا وبينك حجاب فاعمل أننا عاملون} (فصلت: 5)
{اصلوها} أي: إذا لم يمكنكم إنكارها وتحققتم أنه ليس بسحر ولا خلل في أبصاركم فقاسوا شدّتها {فاصبروا} على هذا الذي لا طاقة لكم به {أو لا تصبروا} فإنه لا محيص لكم عنه {سواء(4/112)
عليكم} أي: الصبر والجزع فإنّ صبركم لا ينفعكم. وقوله تعالى: {إنما تجزون ما كنتم تعملون} تعليل للاستواء فإنه لماكان الجزاء واجباً كان الصبر وعدمه سيين في عدم النفع.
ولما ذكر ما للمكذبين من العذاب أتبعه ما لأضدادهم من الثواب فقال تعالى {إن المتقين} أي: الذين صارت التقوى لهم صفة راسخة {في جنات} أي: بساتين أية بساتين دائماً في الدنيا حكماً وفي الآخرة حقيقة {ونعيم} أيّ: نعيم في العاجل يعني بما لهم فيه من الأنس وفي الآجل بالفعل.
وزاد في تحقيق التنعم بقوله تعالى {فاكهين} أي: متلذذين معجبين ناعمين {بما آتاهم} أي: أعطاهم {ربهم} الذي تولى تربيتهم بعملهم بالطاعات إلى أن أوصلهم إلى هذا النعيم {ووقاهم} أي: قبل ذلك {ربهم} أي: المتفضل بتربيتهم بكفهم عن المعاصي والقاذورات {عذاب الجحيم} أي النار الشديدة التوقد.
ولما كان من باشر النعمة وجانب النقمة في غنى عظيم قال مترجماً لذلك على تقدير القول {كلوا} أي: أكلاً هنيئاً {واشربوا} أي: شرباً {هنيئاً} وهو الذي لا تنغيص فيه فكل ما تتناولونه مأمون العاقبة من التخم والسقم وغيرهما {بما} أي: بسبب ما {كنتم} أي: كوناً راسخاً {تعملون} أي: مجددين العمل على سبيل الاستمرار حتى كأنه طبع لكم.
ثم نبه على أنهم مع هذا النعيم مخدومون بقوله تعالى {متكئين} أي: مستندين استناد راحة لأنهم يخدمون فلا حاجة لهم إلى الحركة {على سرر مصفوفة} أي: منصوبة واحداً إلى جنب واحد مستوية كأنها الستور على أحسن نظام وأبدعه.
ثم نبه على تمام سرورهم بالتمتع بالنساء بقوله تعالى {وزوجناهم} أي: تزويجاً يليق بما لنا من العظمة أي صيرناهم ممتعين {بحور} أي: نساؤهنّ في شدّة بياض العين وسوادها واستدارة حدقتها ورقة جفونها في غاية حسن لا توصف {عين} أي: واسعات الأعين في رونق وحسن.
تنبيه: اعلم أنه تعالى بين أسباب التنعم على الترتيب فأوّل ما يكون المسكن وهو الجنان، ثم الأكل والشرب ثم الفرش والبسط ثم الأزواج فهذه أمور أربعة ذكرها الله تعالى على الترتيب، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله فقوله: {جنات} إشارة إلى المسكن وقال {فاكهين} إشارة إلى عدم التنغيص وعلوّ المرتبة لكونه مما آتاهم الله. وقال: {كلوا واشربوا هنيئاً} أي مأمون العاقبة وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنويعهما وكثرتهما. وقوله تعالى {بما كنتم تعملون} إشارة إلى أنه تعالى يقول: إني مع كوني ربكم وخالقكم وأدخلتكم الجنة بفضلي فلا منة لي عليكم اليوم وإنما منتي عليكم كانت في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال تعالى {بل الله يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان} (الحجرات: 17)
وأمّا اليوم فلا منة عليكم لأنّ هذا إنجاز الوعد.
وقوله تعالى: {والذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان وإن لم يبالغوا في الأعمال الصالحة مبتدأ وقرأ أبو عمرو {وأتبعناهم} أي بما لنا من الفضل الناشىء عن العظمة بقطع الهمزة وسكون التاء الفوقية وسكون العين وبعد العين نون مفتوحة بعدها ألف والباقون بهمزة وصل محذوفة وتشديد التاء الفوقية وفتح العين وبعدها تاء فوقية ساكنة وهو معطوف على آمنوا {ذرياتهم} أي: الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم والصغار بإيمان آبائهم، فإنّ الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعاً لأحد أبويه {بإيمان} أي بسبب إيمان حاصل منهم ولو كان في أدنى درجات الإيمان ولكنهم ثبتوا عليه إلى(4/113)
أن ماتوا وذلك شرط اتباعهم الذريات قال البقاعي: ويجوز أن يراد وهو أقرب بسبب إيمان الذرّية حقيقة إن كانوا كباراً أو حكماً إن كانوا صغاراً، ثم أخبر عن الموصول المبتدأ بقوله تعالى: {ألحقنا بهم} تفضلاً منا عليهم {ذريتهم} وإن لم يكن للذرّية أعمال لأنه:
*لعين تجازى ألف عين وتكرم
والذريات هنا تصدق على الآباء وعلى الأبناء وإنّ المؤمن إذا كان عمله أكثر ألحق به من دونه في العمل ابناً كان أو أباً وهو منقول عن ابن عباس وغيره، ويلحق بالذرّية من النسب الذرّية بالسبب وهو المحبة فإن كان معها أخذ لعلم أو عمل كانت أجدر فتكون ذرية الإفادة كذرّية الولادة وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «المرء مع من أحبّ» في جواب من سأل عمن يحب القوم ولما يلحق بهم، وقرأ {ذرّيتهم بإيمان} و {ألحقنا بهم ذرياتهم} نافع بالقصر في الأولى والجمع في الثانية مع كسر التاء، وقرأ ابن كثير والكوفيون بالقصر فيهما مع ضم التاء، وقرأ أبو عمرو بالجمع فيهما مع كسر التاء، وقرأ ابن عامر بالجمع فيهما إلا أنه يرفع التاء في الأولى ويكسرها في الثانية.
فإن قيل: قوله تعالى {أتبعناهم ذريّاتهم} يفيد فائدة قوله تعالى {ألحقنا بهم ذرياتهم} أجيب بأنّ قوله تعالى {ألحقنا بهم} أي في الدرجات والإتباع إنما هو في حكم الإيمان وإن لم يبلغوه كما مرّ ثم أشار إلى عدم نقصان المتبوع بقوله تعالى {وما ألتناهم} أي: ما نقصنا المتبوعين {من عملهم} وأكد النفي بقوله تعالى {من شيء} أي: بسبب هذا الإلحاق.
ولما بين تعالى اتباع الأدنى للأعلى في الخير، بين أنّ الأدنى لا يتبع الأعلى في الشرّ بقوله تعالى: {كل امرئ} من الذين آمنوا والمتقين وغيرهم {بما كسب} أي: عمل من خير أو شرّ {رهين} أي: مرهون يؤخذ بالشر ويجازى بالخير وقال مقاتل: كل امرئ كافر بما عمل من الشرك رهين في النار، والمؤمن لا يكون مرتهناً لقوله تعالى {كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين} (المدثر: 38 ـ 39)
وقال الواحدي: هذا يعود إلى ذكر أهل النار وهو قول مجاهد أيضاً قال الرازي: وفيه وجه آخر وهو أن يكون الرهين فعيلاً بمعنى الفاعل فيكون المعنى كل امرئ راهن أي دائم إن أحسن ففي الجنة مؤبداً وإن أساء ففي النار مخلداً؛ لأنّ في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان، فإنّ العرض لا يبقى إلا في جوهر ولا يوجد إلا فيه، وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإنّ الله تعالى يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات وما عند الله باق والباقي يبقى مع عمله.
{وأمددناهم} أي: الذين آمنوا والمتقين ومن ألحق بهم من ذرياتهم بما لنا من العظمة {بفاكهة} وقتاً بعد وقت زيادة على ما تقدم، ولما كانت الفاكهة ظاهرة فيما نعرفه في الدنيا وإن كان عيش الجنة بجميع الأشياء تفكهاً ليس فيه شيء يقصد به حفظ البدن قال تعالى: {ولحم مما يشتهون} من أنواع اللحمان والمعنى: زدناهم مأكولاً ومشروباً فالمأكول الفاكهة واللحم، والمشروب الكأس وفي هذا لطيفة: وهي أنه تعالى لما قال {وما ألتناهم من عملهم من شيء} ونفي النقصان يصدق بحصول المساوي فقال ليس عدم النقصان بالاقتصار على المساوي بل بالزيادة والإمداد.
وقوله تعالى: {يتنازعون} في موضع نصب على الحال من مفعول أمددناهم ويجوز أن يكون مستأنفاً وقوله تعالى: {فيها} يجوز أن يعود الضمير لشربها ويجوز أن يعود للجنة(4/114)
ومعنى يتنازعون يتعاطون، ويحتمل أن يقال: التنازع التجاذب ويكون تجاذبهم تجاذب ملاعبة لا تجاذب منازعة وفيه نوع لذة لأنهم يفعلون ذلك هم وجلساؤهم من أقربائهم وإخوانهم {كأساً} أي: خمراً من رقة حاشيتها تكاد أن لا ترى في كأسها {لالغو} أي: لا سقط حديث وهو ما لا ينفع من الكلام ولا يضر {فيها} أي: في تنازعها ولا بسببها لأنها لا تذهب بعقولهم فلا يتكلمون إلا بالحسن الجميل بخلاف المتنادمين في الدنيا على الشراب بسفههم وعربدتهم {ولا تأثيم} أي: لا يكون منهم ما يؤثمهم وقال الزجاج: لا يجري منهم ما يلغي ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشربة الخمر قال الرازي: ويحتمل أن يكون المراد من التأثيم السكر وقيل: لا يأثمون في شربها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بنصب لغو وتأثيم من غير تنوين، والباقون بالرفع فيهما مع التنوين.
ولما كانت المعاطاة لا يكمل بسطها ويعظم أنسها إلا بخدم وسقاة قال تعالى: {ويطوف عليهم} بالكؤوس وغيرها من أنواع التحف {غلمان} أي: أرقاء، ولما كان أحب مال إلى الإنسان ما يختص به قال تعالى: {لهم} ولم يقل تعالى غلمانهم لئلا يظنّ أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحداً في الدنيا بقول أو فعل أن يكون خادماً له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعاً، وأفاد التنكير أنّ كل من دخل الجنة وجد له خدم لم يعرفهم قبل ذلك {كأنهم} في بياضهم وشدّة صفائهم {لؤلؤ مكنون} أي: مخزون مصون لم تمسه الأيدي. قال سعيد بن جبير يعني في الصدف لأنه فيها أحسن منه في غيره أو مصون في الجنة لم تغيره العوارض.Y
قال عبد الله بن عمر: ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه، هذه صفة الخادم وأمّا المخدوم فروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال يا رسول الله: الخادم كاللؤلؤ المكنون فكيف المخدوم، قال «فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامة فيجيبه ألف ببابه لبيك لبيك» وقرأ السوسي وشعبة لولو بالبدل والباقون بالهمز.
{وأقبل بعضهم} لما ازدهاهم من السرور واللذة والحبور {على بعض يتساءلون} أي: يسأل بعضهم بعضاً في الجنة قال ابن عباس: يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف في الدنيا.
{قالوا} أي: قال كل منهم {إنا كنا قبل} أي: في دار العمل {في أهلنا} على ما لهم من العدد والعُدَد والسعة، ولنا بهم من جوانب اللذة والدواعي إلى اللعب {مشفقين} أي: عريقين في الخوف من الله تعالى لا يلهينا عنه شيء مع لزومنا لما نقدر عليه من طاعته لعلمنا بأنا لا نقدره لما له من العظمة والجلال والكبرياء والكمال حق قدره، والمعنى: أنهم يسألون عن سبب ما وصلوا إليه تلذذاً واعترافاً بالنعمة فيقولون ذلك خشية الله تعالى أي كنا نخاف الله تعالى.
{فمنّ الله} الذي له جميع الكمال بسبب إشفاقنا منه {علينا} بالرحمة والتوفيق {ووقانا} أي: وجنبنا بما سترنا به {عذاب السموم} قال الكلبيّ عذاب النار، وقال الحسن: السموم من أسماء جهنم، والسموم في الأصل الريح الحارة التي تتخلل المسام والجمع سمائم. يقال: سمّ يومنا أي اشتدّ حره، وقال ثعلب: السموم شدة الحرّ أو شدة البرد في النهار، وقال أبو عبيدة:(4/115)
السموم بالنهار وقد تكون بالليل، والحرور بالليل وقد تكون بالنهار.
{إنا كنا} أي: بما طبعنا عليه وهيئنا له {من قبل} أي: في الدنيا {ندعوه} أي: نسأله ونعبده بالفعل وأمّا خوفنا بالقوة فقد كان في كل حركة وسكون، ثم عللوا دعاءهم إياه مؤكدين لأنّ أنعامه عليهم مع تقصيرهم مما لا يكاد يفعله غيره فهو مما يتعجب منه غاية التعجب بقولهم: {إنه هو} أي: وحده، وقرأ نافع والكسائي بفتح الهمزة والباقون بكسرها {البرّ} أي: الواسع الجود الذي عطاؤه حكمة ومنعه رحمة لأنه لا ينقصه إعطاء ولا يزيده منع، فهو يبر عبده المؤمن بما يوافق نفسه فربما برّه بالنعمة وربما برّه بالبؤس فهو يختار له من الأحوال ما هو خير له ليوسع له البرّ في العقبى فعلى المؤمن أن لا يتهم ربه في شيء من قضائه {الرحيم} أي: المكرم لمن أراد من عباده بإقامته فيما يرضاه من طاعته ثم بإفضاله عليه وإن قصر في خدمته.
ولما بين تعالى أنّ في الوجود قوماً يخافون الله تعالى ويشفقون في أهليهم والنبيّ صلى الله عليه وسلم مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى لقوله تعالى: {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} (ق: 45)
فوجب التذكير. فلذلك قال تعالى: {فذكر} أي: عظ يا أشرف الخلق بالقرآن ودم على ذلك ولا ترجع عنه لقول المشركين لك كاهن ومجنون {فما أنت بنعمة ربك} أي: بسبب ما أنعم به عليك المحسن إليك من هذا الناموس الأعظم بعد تأهيلك له بما هيأك به من رجاحة العقل وعلوّ الهمة وكرم الفعال وجود الكف وطهارة الأخلاق، وجعلك أشرف الناس عنصراً وأكملهم نفساً وأزكاهم خلقاً وهم معترفون لك بذلك قبل النبوّة. وأكد النفي بقوله تعالى: {بكاهن} أي: تقول كلاماً مع كونه سجعاً متكلفاً أكثره فارغ وتحكم على المغيبات من غير وحي {ولا مجنون} أي: تقول كلاماً لا نظام له مع الإخبار ببعض المغيبات فلا يفترك قولهم هذا عن التذكير فإنه قول باطل لا تلحقك به معرة أصلاً، وعما قليل يكون عيباً لهم لا يغسله عنهم إلا اتباعهم لك فمن اتبعك منهم غسل عاره ومن استمرّ على عناده استمرّ تبابه وخساره.
تنبيه: نزلت هذه الآية في الذين اقتسموا عقاب مكة يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكهانة والسحر والجنون والشعر.
{أم يقولون} أي: هؤلاء المقتسمون {شاعر} أي: هو شاعر قال الثعلبي: قال الخليل: كل ما في سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف، وقال أبو البقاء: أم في هذه الآيات منقطعة وتقدم الخلاف في المنقطعة هل تقدر ببل وحدها أو ببل والهمزة أو بالهمزة وحدها، والصحيح الثاني. وقال مجاهد: في قوله تعالى: {أم تأمرهم} (الطور: 32)
تقديره: بل تأمرهم {نتربص} أي ننتظر {به ريب المنون} أي: حوادث الدهر وتقلبات الزمان لأنها لا تدوم على حال كالريب وهو الشك فإنه لا يبقى بل هو متزلزل قال الشاعر:
*تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوماً أو يموت حليلها*
وقال أبو ذئب:
*أمن المنون وريبها تتوجع
* ... والدهر ليس بمعتب من يجزع*
والمنون في الأصل: الدهر، وقال الراغب: المنون المنية لأنها تنقص العدد وتقطع المدد، والمعنى: بل يقولون يعني هؤلاء المقتسمين الخراصين شاعر نتربص به ريب المنون حوادث الدهر(4/116)
وصروفه، وذلك أنّ العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء فإنّ الشعر كان عندهم يحفظ ويدوّن فقالوا لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره وإنما نصبر ونتربص موته ويهلك كما هلك من قبله من الشعراء وتتفرّق أصحابه فإنّ أباه مات شاباً ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه، والمنون يكون بمعنى الدهر وبمعنى الموت سميا بذلك لأنهما يقطعان الأجل.
ثم إنه تعالى أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: {قل} أي: لهؤلاء البعداء {تربصوا} أي انتظروا بي الموت ولم يعرج على محاججتهم في قولهم هذا تنبيهاً على أنه من السقوط بمنزلة ما لا يحتاج معه إلى ردّ بمجادلة، ثم سبب عن أمره لهم بالتربص قوله: {فإني معكم من المتربصين} أي: العريقين في التربص وإن ظننتم خلاف ذلك وأكده تنبيهاً على أنه يرجو الفرج بمصيبتهم كما يرجون الفرج بمصيبته، وأشار بالمعية إلى أنه مساوٍ لهم في ذلك وإن ظنوا لكثرتهم وقوّتهم ووحدته وضعفه أن الأمر بخلاف ذلك.
قال القشيري: جاء في التفسير أنّ جميعهم أي الذين تربصوا به ماتوا قال ولا ينبغي لأحد أن يؤمل نفاق سوقه بموت أحد لتنتهي النوبة إليه فقلّ من تكون هذه صفاته إلا وسبقته المنية ولا يدرك ما تمناه من الأمنية.
فإن قيل: هذا أمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولفظ الأمر يوجب المأمور به أو يبيحه ويجوّزه وتربصهم كان حراماً. أجيب: بأنّ ذلك ليس بأمر وإنما هو تهديد أي تربصوا ذلك فإني متربص الهلاك بكم كقول الغضبان لعبده افعل ما شئت فإني لست عنك بغافل.
{أم تأمرهم} أي: تزين لهم تزييناً يصير ما لهم إليه من الانبعاث كالأمر {أحلامهم} أي عقولهم التي يزعمون أنهم اختصوا بجودتها دون الناس بحيث إنه كان يقال فيهم أولو الأحلام والنهى، فأزرى الله تعالى بعقولهم حين لم تتم لهم معرفة الحق من الباطل وذلك أنّ الأشياء لا يعبأ بها إلا إن تزينت بعقل أو نقل فقال: هل ورد أمر سمعي أم عقولهم تأمرهم {بهذا} أي: قولهم له ساحر كاهن مجنون وقيل: إلى عبادة الأوثان، وقيل: إلى التربص أي لا تأمرهم بذلك {أم} أي بل {هم} بظواهرهم وبواطنهم {قوم} ذوو قوة على ما يحاولونه فهم لذلك {طاغون} أي: مفترون ويقولون ما لا دليل عليه سمعاً ولا مقتضى له عقلاً، والطغيان مجاوزة الحدّ في العصيان وكذلك كل شيء مكروه ظاهر قال تعالى: {لما طغى الماء} (الحاقة: 11)
تنبيه: اعلم أنّ قوله تعالى: {أم تأمرهم} متصل تقديره: أأنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا، وفي هذه الآية إشارة إلى أنّ كل ما لا يكون على وفق العقل لا ينبغي أن يقال، وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قوله عقلاً والأحلام جمع حلم وهو العقل فهما من باب واحد من حيث المعنى، لأنّ العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المعقول لا يتحرّك من مكانه والحلم من الاحتلام وهو أيضاً سبب وقار المرء وثباته لأنّ الحلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزم الغسل الذي هو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلفاً، فالله تعالى من لطيف حكمته قرن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة يكمل العقل ويكلف صاحبه فأشار تعالى إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحلم ليعلم أنه يريد به كمال العقل.
{أم يقولون} ما هو أفحش عاراً من التناقض {تقوله} أي: تكلف قوله من عند نفسه كذباً وليس بشعر ولا كهانة ولا جنون وهم على كثرتهم وإلمام بعضهم بالعلم وعراقة آخرين(4/117)
في الشعر والخطب والترسل والسجع يعجزون عن مثله بل عن مثل شيء منه.
تنبيه: التقوّل تكلف القول ولا يستعمل إلا في الكذب وهذا أيضاً متصل بقوله تعالى {أم يقولون شاعر} تقديره أم يقولون شاعر أم يقولون تقوّله والمعنى ليس الأمر كما زعموا {بل لا يؤمنون} بالقرآن استكباراً.
ثم ألزمهم الحجة وأبطل جميع الأقسام.
فقال عز من قائل: {فليأتوا} أي: على أيّ تقدير أرادوه {بحديث} أي: كلام مفرق مجدّد إتيانه مع الأزمان {مثله} أي القرآن في البلاغة وصحة المعاني والإخبار بالمغيبات مما كان أو يكون على ما هي عليه لا نكلفهم أن يأتوا به جملة.
فإن قيل: الصفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير، والموصوف هنا حديث وهو منكر ومثله مضاف إلى القرآن والمضاف إلى القرآن معرّف فكيف هذا. أجيب: بأنّ مثلاً وغيراً لا يتعرّفان بالإضافة وذلك أن غيرا ومثلاً وأمثالهما في غاية التنكير لأنك إذا قلت: مثل زيد يتناول كل شيء فإنّ كل شيء مثل زيد في شيء فالحمار مثله في الجسم والحجم والإمكان، والنبات مثله في النموّ والنشء والذبول والفناء، والحيوان مثله في الحركة والإدراك وغيرهما من الأوصاف وأمّا غير فهو عند الإضافة ينكر وعند قطع الإضافة ربما يتعرف فإنك إذا قلت: غير زيد صار في غاية الإبهام فإنه يتناول أموراً لا حصر لها وأما إذا قطعت غير عن الإضافة فربما يكون الغير والمغايرة من باب واحد وكذلك التغير فتجعل الغير كأسماء الأجناس وتجعله مبتدأ أو تريد به معنى معيناً.
تنبيه: قالت المعتزلة: الحديث محدث والقرآن سماه حديثاً فيكون محدثاً، وأجيبوا: بأنّ الحديث اسم مشترك يقال للمحدث والمنقول ولهذا يصح أن يقال هذا حديث قديم أي متقادم العهد لا بمعنى سلب الأولية وذلك لانزاع فيه. قال بعض العلماء: وهذا أمر تعجيز، قال الرازي: والظاهر أنّ الأمر ههنا على حقيقته لأنه لم يقل ائتوا مطلقاً بل قال تعالى: {إن كانوا} أي: كوناً هم راسخون فيه {صادقين} أي: في أنه تقوله من عند نفسه كما يزعمون فهو أمر معلق على شرط إذا وجد ذلك الشرط يجب الإتيان به وأمر التعجيز كقوله تعالى: {فإنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر} (البقرة: 258)
وفي هذا تشنيع عليهم سواء ادعوا أنه مجنون أم شاعر أم كاهن أم غير ذلك، لأنّ العادة تحيل أن يأتي واحد من قوم وهو مساو لهم بما لا يقدرون كلهم على مثله، والعاقل لا يجزم بشيء إلا وهو عالم به ويلزم من علمهم بذلك قدرتهم على مثل ما يأتي به، فإنه صلى الله عليه وسلم مثلهم في الفصاحة والبلد والنسب وبعضهم يزيد عليه بالكتابة وقول الشعر ومخالطة العلماء ومزاولة الخطب والرسائل وغير ذلك فلا يقدر على ما يعجزون عنه إلا بتأييد إلهي وهو المراد من تكذيبهم.
{أم خلقوا} أي: وقع خلقهم على هذه الكيفية المتقنة {من غير شيء} أي: خالق خلقهم فوجدوا بلا خالق وذلك مما لا يجوز أن يكون لأنّ تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق {أم هم الخالقون} لأنفسهم وذلك في البطلان أشدّ، لأنّ ما لا وجود له كيف يخلق فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأنّ لهم خالقاً وهو الله تعالى فلم لا يوحدنه ويؤمنون به وبرسوله وبكتابه وقال الزجاج: معناه أخلقوا باطلاً لا يحاسبون(4/118)
ولا يؤمنون وقال ابن كيسان: أخلقوا عبثاً وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون كقول القائل: فعلت كذا وكذا من غير شيء، أي: لغير شيء أم هم الخالقون لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر. وقيل: معناه أخلقوا من غير أب وأم.
تنبيه: لا خلاف أنّ أم هنا ليست بمعنى بل لكن أكثر المفسرين على أن المراد ما يقع في صدر الكلام من الاستفهام بالهمزة كأنه يقول اخلقوا من غير شيء قال الرازي: ويحتمل أن يقال هو على أصل الوضع للاستفهام الذي يقع في أثناء الكلام وتقديره: أخلقوا من غير شيء أم هم الخالقون.
{أم خلقوا} أي: على وجه الشركة {السموات والأرض} فهم بذلك عالمون بما فيهما على وجه الإحاطة واليقين، حتى علموا أنك تقوّلته ليصير لهم ردّه والتهكم عليه {بل لا يوقنون} أي: ليس لهم نوع يقين وإلا لآمنوا برسوله وكتابه.
{أم عندهم} أي: خاصة دون غيرهم {خزائن ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك فيعلموا أنّ هذا الذي أتيت به ليس من قول الله تعالى فيصح قولهم إنك تقوّلته {أم هم} أي: لا غيرهم {المسيطرون} أي: الرقباء الحافظون المتسلطون الجبارون الرؤساء الحكام الكتبة ليكونوا ضابطين للأشياء كلها، كما هو شأن كتاب السرّ عند الملوك فيعلمون أنك تقوّلت هذا الذكر لأنهم لم يكتبوا به إليك.
{أم لهم سلم} يصعدون به إلى السماء {يستمعون} أي: يتعمدون السماع لكل ما يكون فيها ومنها {فيه} أي: صاعدين في ذلك السلم إلى كلام الملائكة وما يوحي إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن {فليأت مستمعهم} أي: مدعي الاستماع {بسلطان مبين} أي: بحجة بينة واضحة.
ولشبه هذا الزعم زعمهم أنّ الملائكة بنات الله قال تعالى: {أم له البنات} أي: بزعمكم {ولكم البنون} أي: خاصة لتكونوا أقوى منه فتكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم وتردوا قوله من غير حجة فتكونوا آمنين من عذاب يأتيكم منه لضعفه وقوّتكم.
{أم تسألهم} أي: أيها الطاهر الشيم البعيد عن مواقع التهم {أجراً} على إبلاغ ما أتيتهم به {فهم من مغرم} أي: غرم لك ولو قلّ، والمغرم التزام ما لا يجب {مثقلون} فهم لذلك يكذبون من كان سبباً في هذا الثقل بغير مستند ليستريحوا مما جره لهم من الثقل.
{أم عندهم} أي: خاصة بهم {الغيب} أي: علم ما غاب عنهم {فهم يكتبون} أي: يجدّدون للناس كتابة جميع ما غاب عنهم مما ينفعهم ويضرّهم حتى يحسدوك فيما شاركتهم به منه فيردوه لذلك وينسبوك إلى ما نسبوك إليه مما يعلم كل أحد نزاهتك عنه وبعدك منه. وقال ابن عباس معناه أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس به. واللام في الغيب لا للعهد ولا لتعريف الجنس بل المراد نوع الغيب، كما تقول اشتر اللحم تريد بيان الحقيقة لا كل لحم ولا لحماً معيناً.
{أم يريدون} أي: بهذا القول الذي يرمونك به {كيداً} أي: مكراً وضرراً عظيماً ليهلكوك به {فالذين كفروا} وكان الأصل فهم، ولكنه قال تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف {هم} أي خاصة {المكيدون} أي: المغلوبون المهلكون فإنهم مكروا به في دار الندوة فحفظه الله تعالى منهم ثم أهلكهم ببدر عند انتهاء سنين عدتها عدّة ما هنا من أم وهي خمس عشرة مرة، لأنّ بدراً كانت في الثانية من الهجرة وهي الخامسة عشر من النبوّة فقد سبب الله تعالى فيها من الأسباب ما أوجب سعيهم إلى(4/119)
هلاكهم بأمور خارقة للعادة، فلو كانت لهم بصائر لكفتهم في الهداية والردّ عن الضلالة والغواية.
{أم لهم إله} أي: يمنعهم من التصديق بكتابنا أو يستندون إليه للأمان من عذابنا {غير الله} أي: الذي أحاط بجميع صفات الكمال {سبحان الله} الملك الأعظم الذي تعالى عن أن يداني جنابه شائبة نقص {عما يشركون} من الأصنام وغيرها.
تنبيه: الاستفهام بأم في مواضعها للتقبيح والتوبيخ، ولما بين تعالى فساد أقوالهم وسقوطها أشار إلى أنهم لم يبق لهم عذر فإنّ الآيات والحجج قد ظهرت ولم يؤمنوا فبعد ذلك استحقوا الانتقام.
وقوله تعالى: {وإن يروا} أي: معاينة {كسفاً} أي: قطعة وقيل قطعاً واحدتها كسفة مثل سدرة وسدر {من السماء} جهاراً نهاراً {ساقطاً يقولوا} جواب لقولهم فأسقط علينا كسفاً من السماء كأن الله تعالى يقول لو عذبناهم بسقوط قطعة من السماء عليهم لم ينتهوا عن قولهم ويقولون لمعاندتهم: هذا {سحاب} فإن قيل لهم هو مخالف للسحاب بصلابته وغلظته قالوا {مركوم} أي: مركب بعضه على بعض فتلبد وتصلب.
وقوله تعالى: {فذرهم} أي: اتركهم على شر أحوالهم كقوله تعالى: {فأعرض عنهم} (السجدة: 30)
وقوله تعالى: {فتول عنهم} (الصافات: 174)
إلى غير ذلك فقيل: كلها منسوخة بآية القتال قال ابن عادل وهو ضعيف وإنما المراد التهديد كقول السيد لعبده الجاني لمن يصحبه دعه فإنه سينال جنايته {حتى يلاقوا يومهم الذي فيه} أي: لا في غيره لأنّ ما حكمنا به لا يتقدم ولا يتأخر {يصعقون} أي: يموتون من شدة الأهوال وعظم الزلزال كما صعق بنو إسرائيل في الطور، ولكن لا نقيمهم كما أقمنا أولئك إلا عند النفخ في الصور لنحشرهم للحساب الذي يكذبون به.
قال البقاعي: والظاهر أنّ هذا اليوم يوم بدر فإنهم كانوا قاطعين بالنصر فيه فما أغنى أحد منهم عن أحد شيئاً كما قال أبو سفيان بن الحارث: ما هو إلا أنا ألقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا.
وقوله تعالى: {يوم لا يغني} أي: بوجه من الوجوه بدل من يومهم {عنهم كيدهم} أي: الذي يرمونه بهذه الأقوال المتناقضة {شيئاً} من الإغناء في دفع شيء يكرهونه من الموت ولا غيره كما يظنون أنه يغني عنهم في غير ذلك من أحوال هذه الدار {ولا هم ينصرون} أي: يتجدد لهم نصر ما في ساعة ما يمنعهم من العذاب.
وقوله تعالى: {وإنّ للذين ظلموا} يجوز أن يكون من إيقاع الظاهر موضع المضمر وأن لا يكون، والمعنى: وإنّ للذين أوقعوا الأشياء في غير مواقعها كما يقولونه في القرآن ويفعلونه من العصيان ويعتقدونه من الشرك والبهتان {عذاباً دون ذلك} أي: غير عذاب ذلك اليوم قال ابن عباس: يعني القتل يوم بدر وقال الضحاك: هو الجوع والقحط سبع سنين وقال البراء بن عازب: عذاب القبر، والآية تحتمل هذه المعاني كلها {ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} أن العذاب نازل بهم.
{واصبر} أي: أوجد هذه الحقيقة لتصبر على ما أنت عليه من أداء الرسالة {لحكم ربك} أي: المحسن إليك فإنه هو المريد لذلك ولو لم يرده لم يكن شيء منه فهو إحسان منه إليك وتدريب لك وترقية في معارج الحكم، وسبب عن ذلك قوله تعالى مؤكداً لما يغلب على الطبع البشري في بعض أوقات الامتحان من نوع نسيان {فإنك بأعيننا} أي: بمرأى منا نراك ونحفظك، وجمع لما اقتضته نون العظمة التي هذا سياقها وهي(4/120)
ظاهرة في الجمع، وإشارة إلى أنه محفوظ بالجنود الذين رؤيتهم من رؤيته سبحانه وتعالى {وسبح} ملتبساً {بحمد ربك} أي: المحسن إليك فأثبت له كل كمال من تنزيهك له عن كل نقص فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يريد إلا ما هو حكمة بالغة {حين تقوم} قال سعيد بن جبير وعطاء: أي قل حين تقوم من مجلسك: سبحانك اللهم وبحمدك فإن كان المجلس خيراً ازددت إحساناً وإن كان غير ذلك كان كفارة له.
وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من جلس مجلساً وكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا كان كفارة لما بينهما» أي من الذنوب الصغائر. وقال ابن عباس: معناه صل لله حين تقوم من مقامك وقال الضحاك والربيع: إذا قمت إلى الصلاة فقل سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك، وقال الكلبي: هو ذكر الله تعالى باللسان حتى تقوم من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة لما روى عاصم بن حميد قال: سألت عائشة بأيّ شيء كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل فقالت «كان إذا قام كبر عشراً وحمد الله تعالى عشراً وهلل عشراً واستغفر عشراً، وقال: اللهمّ اغفر لي واهدني وارزقني وعافني، ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة» وقيل حين تقوم لأمر ما.
{ومن الليل} أي: الذي هو محل السكون والراحة {فسبحه} أي: صلّ له قال مقاتل: يعني صلاة المغرب والعشاء {وإدبار النجوم} أي: صل الركعتين قبل صلاة الفجر وذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح هذا قول أكثر المفسرين وقال الضحاك: هي فريضة صلاة الصبح وهذه الآية نظير قوله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} (الروم: 17)
وقد تقدم الكلام عليها قال الرازي:
قال تعالى هنا: {وإدبار النجوم} وقال في سورة ق: {وأدبار السجود} (ق: 40)
فيحتمل أن يكون المعنى واحداً والمراد من السجود جمع ساجد والنجوم سجود قال تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} (الرحمن: 6)
وقيل المراد من النجوم نجوم السماء وقيل النجم ما لا ساق له من النبات قال الله تعالى: {ولله يسجد من في السموات والأرض} (الرعد: 15)
الآية أو المراد من النجوم الوظائف وكل وظيفة نجم في اللغة أي إذا فرغت من وظائف الصلاة فقل سبحان الله كما مرّ، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والطور كان حقاً على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته» حديث موضوع.
سورة النجم
مكية ثنتان وستون آية وثلاثمائة وستون كلمةوألف وأربعمائة وخمسة أحرف
{بسم الله} الذي أحاط بصفات الكمال {الرحمن} الذي عمّ الموجودات بصفة الجمال {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بصالح الأعمال.
{والنجم إذا هوى} قال ابن عباس في رواية العوفي: يعني الثريا إذا غابت وسقطت وهوت مغيبة، والعرب تسمي الثريا نجماً، وجاء في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً «ما طلع النجم قط وفي الأرض شيء من العاهات إلا رفع» وأراد بالنجم الثريا، وقال مجاهد: هو نجم السماء كلها حين يغرب، لفظه واحد ومعناه الجمع سمى الكوكب نجماً لطلوعه وكلّ طالع(4/121)
نجم يقال: نجم السن والنبت والقرن إذا طلع.
وروى عكرمة عن ابن عباس أنها ما يرجم به الشياطين عند استراقهم السمع وقال أبو حمزة الثمالي: هي النجوم إذا انتثرت يوم القيامة وقيل: المراد بالنجم القرآن سمي نجماً لأنه نزل نجوماً متفرقة في عشرين سنة ويسمى التفريق تنجيماً والمفرّق منجما هذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وقال الكلبي: والهوى النزول من أعلى إلى أسفل وقال الأخفش: النجم هو النبت الذي لا ساق له ومنه قوله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} (الرحمن: 6)
وهويه سقوطه على الأرض.
وقال جعفر الصادق: يعني محمداً صلى الله عليه وسلم إذا نزل من السماء ليلة المعراج والهوى النزول يقال هوى يهوى هوياً والكلام في قوله تعالى: {والنجم} كالكلام في قوله تعالى {والطور} حيث لم يقل والنجوم والأطوار وقال: {والذاريات} (الذاريات: 1)
{والمرسلات} (المرسلات: 1)
كما مر.
تنبيه: أوّل هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها فإنه تعالى قال في آخر تلك {وأدبار النجوم} وقال تعالى في أوّل هذه: {والنجم إذا هوى} قال الرازي: والفائدة في تقييد القسم به في وقت هويه أنه إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرض لا يهتدي به الساري لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال، فإذا نزل عن وسط السماء تبين بنزوله جانب المغرب عن المشرق والجنوب عن الشمال.
وقوله تعالى: {ما ضل} أي: عن طريق الهداية {صاحبكم} محمد صلى الله عليه وسلم وقتاً من الأوقات، جواب القسم وعبر بالصحبة لأنها مع كونها أدلّ على القصد مرغبة لهم فيه وقتاً من الأوقات جواب القسم وعبر بالصحبة لأنها مع كونها أدلّ على القصد مرغبة لهم فيه ومقبلة بهم إليه ومقبحة عليهم اتهامه في إنذاره وهم يعرفون طهارة شمائله {وما غوى} أي: وما مال أدنى ميل ولا كان مقصده مما يسوء فإنه محروس من أسباب غواية الشياطين وغيرها.
تنبيه: الغي جهل عن اعتقاد فاسد بخلاف الضلال، وذهب أكثر المفسرين إلى أن الغي والضلال بمعنى واحد وفرق بعضهم بينهما فقال: الضلال في مقابلة الهدى، والغي في مقابلة الرشد قال تعالى: {قد تبين الرشد من الغي} (البقرة: 256)
وقال تعالى {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغيّ يتخذوه سبيلاً} (الأعراف: 146)
قال الرازي: وتحقيق القول فيه أنّ الضلال أعم استعمالاً في الوضع تقول: ضل بعيري ورحلي ولا تقول غيّ.
فائدة: قد دافع الله سبحانه عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمّا باقي الأنبياء فدافعوا عن أنفسهم ليس بي ضلالة ليس بي سفاهة ونحو ذلك قاله القشيري فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: {ما ضلّ صاحبكم} وبين قوله تعالى: {ووجدك ضالاً فهدى} (الضحى: 7)
أجيب: بأنّ المراد من الآية الآتية وجدك ضالاً عما أنت عليه الآن من الشريعة فهداك إليها بخلاف هذه الآية.
{وما ينطق} أي: يجاوز نطقه فمه في وقت من الأوقات لا في هذا الحال ولا في الاستقبال نطقاً ناشئاً {عن الهوى} أي: عن أمره كالكهان الذين يغلب كذبهم صدقهم، والشعراء وغيرهم وما يقول هذا القرآن من عند نفسه.
{إن} أي: ما {هو} أي: الذي يتكلم به من القرآن وكلّ أقواله وأفعاله وأحواله {إلا وحي} أي: من الله تعالى وأكده بقوله تعالى: {يوحى} أي: يجدد إليه إيحاؤه منا وقتاً بعد وقت.
تنبيه: استدل بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء، وأجيب: بأنّ الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد كان الاجتهاد وما يستند إليه كله وحياً لا نطقاً عن الهوى.
{علمه} أي: صاحبكم الوحي الذي أتاكم به ملك {شديد القوى}(4/122)
فلا تعجبوا من هذه البحار الزاخرة فإنّ معلمه بهذه الصفة التي هو بها بحيث ينفذ كلّ ما أمره الله تعالى به وهو جبريل عليه السلام، فإنه الواسطة في إبداء الخوارق. روي أنه قلع قرى قوم لوط ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف، ورأى إبليس يكلم عيسى على بعض عقاب الأرض المقدسة فنفحه نفحة بجناحه فألقاه في أقصى بلاد الهند.
{ذو مرّة} قال ابن عباس: ذو منظر حسن وقال أكثر المفسرين: ذو قوة وقدرة عظيمة على الذهاب فيما أمر به، والطاقة لحمله بغاية النشاط والحدة كأنه ذو مزاج غلبت عليه الحدة فهو صعب المراس في مزاولته ماض على طريقة واحدة على غاية من الشدّة لا توصف لا التفات له بوجه إلى غير ما أمر به، فهو مجتمع القوى مستحكم الشأن شديد الشكيمة لا يسأم في شيء يزاوله، ومن جملة ما أعطي من القوّة القدرة على التشكل وإلى ذلك أشار بما تسبب عن هذا من قوله تعالى {فاستوى} أي: فاستقام واعتدل بغاية ما يكون من قوّته على أكمل حالاته في الصورة التي فطر عليها.
{وهو} أي: والحال أنّ جبريل عليه السلام {بالأفق الأعلى} أي: عند مطلع الشمس، وذلك أنّ جبريل عليه السلام كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة الآدميين كما كان يأتي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها، فأراه نفسه مرتين مرّة في الأرض ومرّة في السماء، فأمّا التي في الأرض ففي الأفق الأعلى، والمراد بالأعلى جانب المشرق وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان بحراء وكان جبريل واعده أن يأتيه وهو بحراء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأفق إلى المغرب فخر صلى الله عليه وسلم مغشياً عليه فنزل له جبريل عليه السلام في صورة الآدميين.
{ثم دنا} أي قرب منه {فتدلى} أي زاد في القرب.
{فكان} منه {قاب} أي قدر {قوسين} أي عربيتين {أو أدنى} من ذلك وضمه إلى نفسه حتى أفاق وسكن روعه وجعل يمسح التراب عن وجهه، وأمّا في السماء فعند سدرة المنتهى ولم يره أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم
تنبيه: القاب والقيب والقاد والقيد والقيس المقدار، وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع والخطوة والشبر والفتر والأصبع ومنه «لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين» وفي الحديث «لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها» والقد: السوط، ويقال بينهما خطوات يسيرة وقال الشاعر:
* ... وقد جعلتني من خزيمة أصبعا
فإن قيل: كيف تقدير قوله: {فكان قاب قوسين} أجيب: بأنّ تقديره فكان مسافة قربه مثل قاب قوسين فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله: وقد جعلتني من خزيمة أصبعا أي ذا مقدار مسافة أصبع.
وروى الشيباني قال: سألت زراً عن قوله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى} قال أخبرنا عبد الله يعني ابن مسعود «أنه محمد صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح» وبهذا قال ابن عباس والحسن وقتادة، وقال آخرون: دنا الرب عز وجل من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى فقرب منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، ومعنى دنوه تعالى: قرب منزلة كقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه تبارك وتعالى «من تقرّب إليّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً ومن تقرّب إليّ ذراعاً(4/123)
تقرّبت إليه باعاً ومن مشى إليّ أتيته هرولة» وهذا إشارة إلى المعنى المجازي قال البغوي: وروينا في قصة المعراج من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس: فدنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى وهذه رواية أبي سلمة عن ابن عباس وقال مجاهد: دنا جبريل من ربه وقد قدّمت الكلام على المعراج وعلى جواز رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه في أوّل الإسراء. وقال الضحاك: دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه عز وجلّ فتدلى فأهوى للسجود فكان منه قاب قوسين أو أدنى وتقدّم الكلام على القاب، والقوس: ما يرمى به في قول مجاهد وعكرمة وعطاء عن ابن عباس، فأخبر أنه كان بين جبريل عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم مقدار قوسين. وقال مجاهد: معناه حيث الوتر من القوس وهذا إشارة إلى تأكيد القرب والأصل في ذلك أنّ الحليفين من العرب كانا إذا أراد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فالصقا بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما عن صاحبه، وقال عبد الله بن مسعود: قاب قوسين قدر ذراعين وهو قول سعيد بن جبير، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء أو أدنى بل أقرب وإنما ضرب المثل بالقوس لأنها لا تختلف بالقاب.
{فأوحى} أي: الله تعالى وإن لم يجر له ذكر لعدم اللبس {إلى عبده} أي: جبريل عليه السلام {ما أوحى} أي: جبريل عليه السلام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يذكر الموحي تفخيماً لشأنه وهذا التفسير ما جرى عليه الجلال المحلي وهو ظاهر، وقيل: فأوحى إلى جبريل بسبب هذا القرب وعقبه إلى عبده أي عبد الله ما أوحى أي جبريل وقيل: الضمائر كلها لله تعالى وهو المعني بشديد القوى كما في قوله تعالى: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} (الذاريات: 58)
ودنوه منه برفع مكانته وتدليه جذبه بكليته إلى جانب القدس، واختلف في الموحى على أقوال الأول قال سعيد ابن جبير: أوحى إليه {ألم يجدك يتيماً} (الضحى: 6)
إلى قوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} (الشرح: 4)
الثاني: أوحى إليه الصلاة. الثالث: أن أحداً من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأنّ أمة من الأمم لا تدخلها قبل أمتك. الرابع: أنه مبهم لا يطلع عليه أحد وتعبدنا به على الجملة. الخامس: أنّ ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل.
{ما كذب الفؤاد} أي: فؤاد النبيّ صلى الله عليه وسلم {ما رأى} أي: ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، وهذا أيضاً ما جرى عليه الجلال المحلي. وقال البقاعي: ما رأى البصر أي حين رؤية البصر كأنه حاضر القلب لا أنها رؤية بصر فقط يمكن فيها الخلو عن حضور القلب وقال القشيري ما معناه: ما كذب فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره على الوصف الذي علمه قبل أن رآه، فكان علمه حق اليقين وقرأ هشام بتشديد الذال والباقون بالتخفيف.
وقوله تعالى: {أفتمارونه} أي: تجادلونه وتغلبونه {على ما يرى} خطاب للمشركين المكذبين رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم لجبريل، وهذا ما قاله ابن مسعود وعائشة. ومن قال: إنّ المرئي هو الله تعالى اختلفوا في معنى الرؤية فقال بعضهم: جعل بصره في فؤاده فرآه بفؤاده وهو قول ابن عباس قال: رآه بفؤاده مرّتين ما كذب الفؤاد ما رأى، وقال أنس والحسن وعكرمة: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل بعينه، وروى عكرمة عن ابن عباس قال: إنّ الله تعالى اصطفى إبراهيم عليه السلام بالخلة واصطفى في موسى عليه السلام بالكلام واصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم بالرؤية(4/124)
وكانت عائشة تقول لم ير محمد صلى الله عليه وسلم ربه وتحمل الرؤية على رؤية جبريل قال مسروق قلت لعائشة: يا أمّتاه هل رأى محمد ربه فقالت لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدّثكهنّ فقد كذب؟ من حدّثك أنّ محمداً رأى ربه فقد كذب ثم قرأت {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} (الأنعام: 103)
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب} (الشورى: 51)
ومن حدّثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت} (لقمان: 34)
. ومن حدّثك أنه كتم شيئاً مما أنزل الله تعالى فقد كذب، ثم قرأت {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (المائدة: 67)
الآية ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين» ، وروى أبو ذر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك «قال نور أنّى أراه» وحاصل المسألة: أنّ الصحيح ثبوت الرؤية وهو ما جرى عليه ابن عباس حبر الأمّة، وهو الذي يرجع إليه في المعضلات، وقد راجعه أبو عمرو فأخبره أنه رآه ولا يقدح في ذلك حديث عائشة، لأنها لم تخبر أنها سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لم أر وإنما اعتمدت على الاستنباط مما تقدم وجوابه ظاهر، فإنّ الإدراك هو الإحاطة والله تعالى لا يحاط به وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة، وأجيب عن احتجاجها بقوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله} (الشورى: 51)
الآية بأنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، وبأنه عام مخصوص بما تقدّم من الأدلة.
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم «نور أنّى أراه» فقال الماوردي: الضمير في أراه عائد إلى الله تعالى ومعناه: إنه خالق النور المانع من رؤيته أي رؤية إحاطة كما مرّ إذ من المستحيل أن تكون ذات الله نوراً إذ النور من جملة الأجسام والله تعالى منزه عن ذلك فإن قيل: هلا قيل أفتمارونه على ما رأى بصيغة الماضي لأنهم إنما جادلوه حين أسري به فقالوا: صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به وما الحكمة في إبرازه بصيغة المضارع أجيب: بأنّ التقدير أفتمارونه على ما يرى فكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقولون فيه.
والواو في قوله تعالى: {ولقد رآه} يحتمل أن تكون عاطفة ويحتمل أن تكون للحال أي: كيف تجادلونه فيما رآه وهو قد رآه {نزلة أخرى} على وجه لا شك فيه.
تنبيه: قوله تعالى: {نزلة} فعلة من النزول كجلسة من الجلوس فلا بدّ من نزول، واختلفوا في ذلك النزول. وفيه وجوه:
الأوّل: أنّ الضمير في رآه عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلة أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلاً من السماء مرّة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرّة في السماء {عند سدرة المنتهى} قال الرازي: ويحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى الله عليه وسلم
الثاني: أن الضمير عائد إلى الله تعالى أي رأى الله نزلة أخرى، وهذا قول من قال في قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى} هو الله تعالى وقد قيل: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين وعلى هذا ففي النزول وجهان: أحدهما: قول من يجوز على الله الحركة من غير تشبيه. وثانيهما: أنّ نزوله بمعنى القرب بالرحمة والفضل، الثالث: أن محمداً رأى الله تعالى نزلة أخرى والمراد من النزلة: ضدّها وهي العرجة كأنه قال: رآه عرجة أخرى قال ابن عباس: نزلة أخرى هو أنه كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم عرجات في تلك الليلة لمسألة التخفيف(4/125)
في الصلوات فيكون لكلّ عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها.
وروي عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين وعنه أنه رأى ربه بعينه وعلى أنّ المرئي هو الله تعالى فيكون قوله تعالى: {عند سدرة المنتهى} ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل رأيت الهلال فيقال له: أين رأيته فيقول: على السطح، وقد يقول: عند الشجرة الفلانية، وأمّا قول من قال: بأنّ الله تعالى في مكان فذلك باطل، وإن قيل: بأنّ المرئي جبريل عليه السلام فظاهر.
الآية بأنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، وبأنه عام مخصوص بما تقدّم من الأدلة.
وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم «نور أنّى أراه» فقال الماوردي: الضمير في أراه عائد إلى الله تعالى ومعناه: إنه خالق النور المانع من رؤيته أي رؤية إحاطة كما مرّ إذ من المستحيل أن تكون ذات الله نوراً إذ النور من جملة الأجسام والله تعالى منزه عن ذلك فإن قيل: هلا قيل أفتمارونه على ما رأى بصيغة الماضي لأنهم إنما جادلوه حين أسري به فقالوا: صف لنا بيت المقدس وأخبرنا عن عيرنا في الطريق وغير ذلك مما جادلوه به وما الحكمة في إبرازه بصيغة المضارع أجيب: بأنّ التقدير أفتمارونه على ما يرى فكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقولون فيه.
والواو في قوله تعالى: {ولقد رآه} يحتمل أن تكون عاطفة ويحتمل أن تكون للحال أي: كيف تجادلونه فيما رآه وهو قد رآه {نزلة أخرى} على وجه لا شك فيه.
تنبيه: قوله تعالى: {نزلة} فعلة من النزول كجلسة من الجلوس فلا بدّ من نزول، واختلفوا في ذلك النزول. وفيه وجوه:
الأوّل: أنّ الضمير في رآه عائد إلى جبريل أي رأى جبريل نزلة أخرى أي رأى جبريل في صورته التي خلق عليها نازلاً من السماء مرّة أخرى وذلك أنه رآه في صورته مرتين مرة في الأرض ومرّة في السماء {عند سدرة المنتهى} قال الرازي: ويحتمل أن تكون النزلة لمحمد صلى الله عليه وسلم
الثاني: أن الضمير عائد إلى الله تعالى أي رأى الله نزلة أخرى، وهذا قول من قال في قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى} هو الله تعالى وقد قيل: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين وعلى هذا ففي النزول وجهان: أحدهما: قول من يجوز على الله الحركة من غير تشبيه. وثانيهما: أنّ نزوله بمعنى القرب بالرحمة والفضل، الثالث: أن محمداً رأى الله تعالى نزلة أخرى والمراد من النزلة: ضدّها وهي العرجة كأنه قال: رآه عرجة أخرى قال ابن عباس: نزلة أخرى هو أنه كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم عرجات في تلك الليلة لمسألة التخفيف في الصلوات فيكون لكلّ عرجة نزلة فرأى ربه في بعضها.
وروي عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده مرتين وعنه أنه رأى ربه بعينه وعلى أنّ المرئي هو الله تعالى فيكون قوله تعالى: {عند سدرة المنتهى} ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل رأيت الهلال فيقال له: أين رأيته فيقول: على السطح، وقد يقول: عند الشجرة الفلانية، وأمّا قول من قال: بأنّ الله تعالى في مكان فذلك باطل، وإن قيل: بأنّ المرئي جبريل عليه السلام فظاهر.
تنبيه: إضافة السدرة إلى المنتهى تحتمل وجوهاً:
أحدها: إضافة الشيء إلى مكانه كقولك أشجار بلدة كذا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعدّاه ملك، قال هلال بن كيسان: سأل ابن عباس كعباً عن سدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب: إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش وإليها ينتهي علم الخلائق، وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، وقيل: ينتهي إليها ما هبط من فوقها ويصعد من تحتها، وقال كعب: تنتهي إليها الملائكة والأنبياء، وقال الربيع: تنتهي إليها أرواح المؤمنين.
وثانيها: إضافة الملك إلى مالكه كقولك: دار زيد وشجر زيد وحينئذ المنتهى فيه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه قال الله تعالى: {إلى ربك المنتهى} (النجم: 42)
فالمنتهى إليه هو الله تعالى وإضافة السدرة إليه حينئذ كإضافة البيت إليه للتشريف والعظيم، كما يقال في التسبيح يا غاية رغبتاه ويا منتهى أملاه.
وثالثها: إضافة المحل إلى الحال فيه كقولك كتاب الفقه وعلى هذا فالتقدير سدرة عندها منتهى العلوم فتتلقى هناك.
قال البقاعي: وذلك والله أعلم ليلة الإسراء في السنة الثالثة عشرة من النبوّة قبل الهجرة بقليل بعد أن ترقى في معارج الكمالات من السنين على عدد السموات وما بينها من المسافات فانتهى إلى منتهى سمع فيه صرير الأقلام.
وعظمها بقوله تعالى: {عندها} أي: السدرة {جنة المأوى} أي: التي لا مأوى في الحقيقة غيرها وهي الجنة التي وعدها المتقون كقوله تعالى: {دار المقامة} (فاطر: 35)
وقيل هي جنة أخرى عندها تكون أرواح الشهداء تأوي إليها وقيل هي جنة الملائكة.
وقوله تعالى: {إذ} معمول لرأى أي: رأى من آيات ربه الكبرى حين {يغشى السدرة} وهي شجرة النبق وقوله تعالى: {ما يغشى} تعظيم وتكثير لما يغشاها واختلفوا فيما يغشاها فقيل: فراش أو جراد من ذهب وهو قول ابن عباس وابن مسعود والضحاك قال الرازي: وهذا ضعيف لأنّ ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي، فإن صح فيه خبر وإلا فلا وجه له ا. هـ. قال القرطبي ورواه ابن مسعود وابن عباس مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنه قال «رأيت السدرة يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كلّ ورقة ملكاً قائماً يسبح الله تعالى وذلك قوله عز من قائل: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} » وقيل: ملائكة تغشاها كأنهم طيور يرتقون إليها متشوقين متبركين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة وروي في حديث المعراج عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كقلال هجر قال: فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى يقدر أن ينعتها من حسنها، فأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة» .
وقيل: يغشاها أنوار الله تعالى، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما وصل إليها تجلى ربه لها كما تجلى للجبل(4/126)
فظهرت الأنوار، ولكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل دكا ولم تتحرّك الشجرة وخر موسى عليه السلام صعقاً ولم يتزلزل محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: أبهمه تعظيماً له والغشيان يكون بمعنى التغطية قال الماوردي في معاني القرآن: فإن قيل: لم اختيرت السدرة لهذا الأمر دون غيرها من الشجر قلنا: لأنّ السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظلّ مديد وطعم لذيذ ورائحة ذكية، فشابهت الإيمان الذي يجمع قولاً وعملاً ونية فظلها من الإيمان بمنزلة العمل لتجاوره، وطعمها بمنزلة النية لكمونه، وريحها بمنزلة القول لظهوره، وروى أبو داود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قطع سدرة صوب الله تعالى رأسه في النار» وسئل أبو داود عن معنى هذا الحديث فقال: هو مختصر يعني: من قطع سدرة في فلاة يستظلّ بها ابن السبيل والبهائم، عبثاً وظلماً بغير حق يكون له فيها، صوب الله تعالى رأسه في النار.
ثم أكد سبحانه الرؤية وقرّرها بقوله تعالى {ما زاغ} أي: ما مال أدنى ميل {البصر} أي الذي لا بصر لمخلوق أكمل منه فما قصر عن النظر إلى ما أذن له فيه وما زاد {وما طغى} أي: تجاوز الحد إلى ما لم يؤذن له فيه، مع أنّ ذاك العالم غريب عن بني آدم وفيه من العجائب ما يحير الناظر، بل كانت له الصفة الصادقة المتوسطة بين الشره والزهادة على أتم قوانين العدل فأثبت ما رآه على حقيقته، وكما هو قال السهروردي في أول الباب الثاني والثلاثين من عوارفه: وأخبر تعالى بحسن أدبه في الحضرة بهذه الآية وهذه غامضة من غوامض الأدب اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
تنبيه: اللام في البصر تحتمل وجهين:
أحدهما: المعروف أي ما زاغ بصر محمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا إن قيل بأنّ الغاشي للسدرة هو الجراد والفراش فمعناه لم يلتفت إليه ولم يشتغل به ولم يقطع نظره عن مقصوده فيكون غشيان الجراد والفراش ابتلاء وامتحاناً لمحمد صلى الله عليه وسلم وإن قيل إنّ الغاشي أنوار الله تعالى ففيه وجهان: أحدهما: لم يلتفت يمنة ولا يسرة بل اشتغل بمطالعتها. الثاني: ما زاغ البصر بصعقه بخلاف موسى عليه السلام فإنه قطع النظر وغشي عليه، ففي الأوّل بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلم وفي الثاني بيان قوّته.
الوجه الثاني: أنّ اللام لتعريف الجنس أي ما زاغ بصره أصلاً في ذلك الموضع لعظم هيبته فإن قيل: لو كان كذلك لقال ما زاغ بصره فإنه أدلّ على العموم فإنّ النكرة في معرض النفي تعم، أجيب: بأنّ هذا مثل كقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} (الأنعام: 103)
ولم يقل ولا يدركه بصر.
ولما كانوا قد أنكروا الإسراء إنكاراً لم يقع لهم في غيره مثله زاد في تأكيده على وجه يعمّ غيره فقال تعالى: {لقد رأى} أي: أبصر ما أهلناه له من الرسالة تلك الليلة إبصاراً سارياً إلى البواطن غير مقتصر على الظواهر {من آيات ربه} أي: المحسن إليه بما لم يصل إليه أحد قبله ولا يصل إليه أحد بعده {الكبرى} أي: العظام أي بعضها، واختلف في ذلك البعض فقيل جبريل عليه السلام رآه في صورته له ستمائة جناح. وقال الرازي: والظاهر أن هذه الآيات غير تلك لأنّ جبريل عليه السلام وإن كان عظيماً لكنه ورد في الأخبار أنّ لله تعالى ملائكة أعظم منه، والكبرى تأنيث الأكبر فكأنه تعالى قال رأى من آيات ربه آيات هنّ أكبر الآيات وقيل رأى: رفرفاً أخضر سد الأفق وقيل: أراد ما رأى في تلك الليلة في مسيره وعوده ومن اجتماعه تلك الليلة بالأنبياء عليهم الصلاة(4/127)
والسلام في السموات.
ولما قرّر تعالى الرسالة ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد ومنع الخلق عن الإشراك بقوله تعالى:
إشارة إلى إبطال قولهم كما إذا ادّعى ضعيف الملك ثم رآه العقلاء في غاية البعد عما يدعيه يقولون: انظروا إلى هذا الذي يدعي الملك منكرين عليه غير مستدلين بدليل لظهور أمره، فلذلك قال تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى} أي كما هما فكيف تشركونهما بالله سبحانه وتعالى، واللات صنم ثقيف والعزى شجرة لغسان وهما أعظم أصنامهم، اشتقوا لهما اسمين من أسماء الله تعالى فقالوا من الله اللات ومن العزيز العزى وقيل: العزى تأنيث الأعز وعن ابن عباس كان اللات رجلاً يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره.
وعن مجاهد أن العزى شجرة لغطفان كانوا يعبدونه فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها فجعل خالد يضربها بالفأس ويقول:
*يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك*
فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية بويلها واضعة يدها على رأسها ويقال إنّ خالداً رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد قلعتها فقال ما رأيت قال ما رأيت شيئاً فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ما فعلت فعاودها ومعه المعول فقلعها واجتث أصلها فخرجت منها امرأة عريانة فقتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال تلك العزى ولن تعبد أبداً.
وقال الضحاك: هي صنم لغطفان وضعها لهم سعيد بن ظالم الغطفاني، وذلك أنه لما قدم مكة فرأى الصفا والمروة ورأى أهل مكة يطوفون بهما فعاد إلى نخلة وقال لقومه: إن لأهل مكة الصفا والمروة وليستا لكم ولهم إله يعبدونه وليس لكم قالوا: فما تأمرنا به، قال: أنا أصنع لكم كذلك وأخذ حجراً من الصفا وحجراً من المروة ونقلهما إلى نخلة فوضع الذي أخذه من الصفا وقال: هذا الصفا ووضع الذي أخذه من المروة، وقال هذه المروة: ثم أخذ ثلاثة أحجار فاسندها إلى شجرة فقال: هذا ربكم، فجعلوا يطوفون بين الحجرين ويعبدون الحجارة حتى افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فأمر برفع الحجارة وبعث خالد بن الوليد إلى العزى فقطعها وقال ابن زيد: هي بيت بالطائف كان تعبده ثقيف.
وأما قوله تعالى {ومناة} فقال قتادة: هي صخرة كانت لخزاعة بقديد، وقالت عائشة في الأنصار كانوا يصلون لمناة فكانت حذو قديد. وقال ابن زيد بيت بالمشلل تعبده بنو كعب وقال الضحاك: مناة صنم لهذيل وخزاعة يعبده أهل مكة وقيل اللات والعزى ومناة أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها.
وقوله تعالى: {الثالثة الأخرى} نعت لمناة إذ هي الثالثة للصنمين في الذكر، وأما الأخرى فقال أبو البقاء: توكيد لأنّ الثالثة لا تكون إلا أخرى، وقال الزمخشري: الأخرى ذم وهي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله تعالى: {وقالت أخراهم} أي: وضعاؤهم {لأولاهم} أي: لأشرافهم، ويجوز أن تكون الأولية والتقدّم عندهم للات والعزى ا. هـ. قال ابن عادل: وفيه نظر لأنّ الأخرى إنما تدل على الغيرية وليس فيها تعرّض لمدح ولا ذم فإن جاء شيء فلقرينة خارجية ا. هـ. ووجه الترتيب أنّ اللات كان وثناً على صورة آدمي، والعزى شجرة نبات، ومناة صخرة فهي جماد فهي في أخريات المراتب.
فإن قيل: ما فائدة الفاء في(4/128)
قوله تعالى: {أفرأيتم} وقد وردت في مواضع بغير فاء كقوله تعالى: {أرأيتم ما تدعون من دون الله} (الأحقاف: 4)
{أرأيتم شركاءكم} (فاطر: 40)
أجيب: بأنه تعالى لما قدم عظمته في ملكوته وأنّ رسوله إلى الرسل يسد الآفاق ببعض أجنحته ويهلك المدائن بشدّته وقوّته ولا يمكنه مع هذا أن يتعدّى السدرة في مقام جلال الله وعزته قال: أفرايتم هذه الأصنام مع ذلتها وحقارتها شركاء الله تعالى مع ما تقدّم، فقال بالفاء أي عقب ما سمعتم من عظمة آيات الله الكبرى ونفاذ علمه في الملأ الأعلى وما تحت الثرى انظروا إلى اللات والعزى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه.
تنبيه: مفعول أرأيت الأول اللات وما عطف عليه والثاني: محذوف والمعنى أخبروني ألهذه الأصنام قدرة على شيء ما فتعبدونها دون الله القادر على ما تقدّم ذكره.
وقرأ ابن كثير {مناة} بهمزة مفتوحة بعد الألف والباقون بغير همز.
ولما زعموا أيضاً أنّ الملائكة بنات الله مع كراهتهم للبنات نزل {ألكم} أي: خاصة {الذكر} أي: النوع الأعلى {وله} أي: وحده {الأنثى} أي: النوع الأسفل.
{تلك} أي: هذه القسمة البعيدة عن الصواب {إذاً} أي: إذ جعلتم البنات له والبنين لكم {قسمة ضيزى} أي: جائرة ظالمة ناقصة فيها بخس للحق إلى الغاية عوجاء غير معتدلة، حيث خصصتم به ما أوصلتكم الكراهة له إلى دفنه حياً بل كان ينبغي أن تجعلوا الأعظم للعظيم والأنقص للحقير فخالفتم العقل والنقل والعادة.
{إن} أي: ما {هي} أي: هذه الأصنام {إلا أسماء} أي: لا حقائق لها فيما ادعيتم لها من الإلهية ليس لها من ذلك غير الأسماء وأكد ذلك بقوله تعالى: {سميتموها} أي: ابتدعتم تسميتها.
فإن قيل: الأسماء لا تسمى وإنما يسمى بها أجيب: بأن التسمية وضع الاسم فكأنه قال أسماء وضعتموها فاستعمل سميتموها استعمال وضعتموها {أنتم وآباؤكم} أي: لا غير {ماأنزل الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {بها} أي باستحقاقها للأسماء أو لما سميتموها به من الإلهية، وأغرق في النفي فقال: {من سلطان} أي: حجة تصلح مسلطاً على ما يدعى فيها بل لمجرد الهوى لم تروا منها آية ولا كلمتكم قط بكلمة تعتمدونها وعلى تقدير أن تتكلم الشياطين على ألسنتها فأيّ طريقة قويمة شرعت لكم، وأيّ كلام صالح أو بليغ برز إليكم منها وأيّ آية كبرى أرَتْكموها.
{إن} أي: ما {يتبعون} أي: في وقت من الأوقات في أمر هذه الأوثان بغاية جهدهم من أنها آلهة وأنها تشفع لهم أو تقربهم إلى الله تعالى {إلا الظن} أي: وهو غاية أمرهم لمن يحسن الظن بهم والظن ترجيح أحد الجائزين على زعم الظان. ولما كان الظن قد يكون موافقاً للحق مخالفاً للهوى قال تعالى: {وما تهوى الأنفس} أي: تشتهي وهي لما لها من النقص لا تشتهي أبداً إلا ما يهوى بها عن غاية أوجها إلى أسفل حضيضها، وأما المعالي وحسن العواقب فإنما يسوق إليها العقل.
قال القشيري: فأما الظن الجميل بالله تعالى فليس من هذا الباب، والتباس عواقب الشخص عليه ليس من هذه الجملة بسبيل إنما الظن المعلول في الله تعالى وأحكامه وصفاته ا. هـ. ولهذا كان كثير من الفقه ظنياً وقال صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه «أنا عند ظن عبدي بي» .
{ولقد جاءهم} أي: العجب أنهم يقولون ذلك والحال أنهم قد جاءهم {من ربهم} المحسن إليهم {الهدى} على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبرهان القاطع أنها ليست بآلهة، وأنّ العبادة(4/129)
لا تصلح إلا لله الواحد القهار فلم يرجعوا عما هم عليه، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم وقرأ أبو عمرو بكسرهما والباقون بكسر الهاء وضم الميم.
{أم للإنسان} أي: كل إنسان منهم {ما تمنى} أي: من اتباع ما يشتهي من جاه ومال وطول عمر ورفاهة عيش، ومن أن الأصنام تشفع له ليس الأمر كذلك.
{فلله} أي: الملك الأعظم وحده {الآخرة} فهو لا يعطي ما فيها إلا لمن تبع هداه وترك هواه {والأولى} أي: الدنيا فهو لا يعطي جميع الأماني فيها لأحد أصلاً كما هو مشاهد ولكنه يعطي منها ما يشاء لمن يريد وليس لأحد أن يتحكم عليه سبحانه في شيء منها.
{وكم من ملك} أي: كثير من الملائكة أي ممن يعبدهم هؤلاء الكفار، ودلّ على زيادة قوّتهم بشرف مسكنهم، وهو قوله تعالى: {في السموات} أي: وهم في الكرامة والزلفى {لا تغني شفاعتهم} أي: عن أحد من الناس {شيئاً} ثم قصر الأمر عليه ورده بحذافيره إليه بقوله تعالى: {إلا من بعد أن يأذن} أي: يمكن ويريد {الله} أي الملك الذي لا أمر أصلاً لأحد معه {لمن يشاء} من عباده من الملائكة أو من الناس أن يشفع {ويرضى} أي: ويراه أهلاً لذلك فكيف تعبد الأصنام مع حقارتها لتشفع لهم.
{إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي: لا يصدقون ولا يقرّون بالبعث وغيره من أحوال يوم القيامة {ليسمون الملائكة} أي: كل واحد منهم {تسمية الأنثى} بأن سموه بنتاً، وذلك أنهم كانوا يقولون: الملائكة وجدوا من الله تعالى فهم أولاده بمعنى الإيجاد، ثم إنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث وصح عندهم أن يقال: سجدت الملائكة فقالوا بنات الله فسموهم تسمية الإناث.
فإن قيل: كيف يقال إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وكان من عادتهم أن يربطوا مركوباً على قبر من يموت ويعتقدون أنه يحشر عليه أجيب: بأنهم ما كانوا يجزمون به بل كانوا يقولون لا حشر فإن كان فلنا شفعاء بدليل ما حكى الله تعالى عنهم: {وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إنّ لي عنده للحسنى} (فصلت: 50)
وبأنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه الذي وردت به الرسل فإن قيل: كيف قال: تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث أجيب بأن المراد بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لمؤاخاة رؤوس الآي.
{وما} أي: والحال أنهم ما {لهم به} أي: بما يقولون، وقيل: الضمير يعود إلى ما تقدّم من عدم قبول الشفاعة وقيل: يعود إلى الله تعالى أي ما لهم بالله تعالى {من علم} ثم بين تعالى الحامل لهم على ذلك بقوله تعالى: {إن} أي: ما {يتبعون} أي بغاية ما يكون من شهوة النفس في ذلك وغيره {إلا الظن} أي الذي يتخيلونه {وإن} أي: والحال أن {الظن} أي: مطلقاً في هذا وفي غيره، ولذلك أظهر في موضع الإضمار {لا يغني} أي إغناء مبتدأ {من الحق} أي: الأمر الثابت في نفس الأمر الذي هو حقيقة الشيء وذاته بحيث يكون الظن بدله والظن إنما يعتبر في العمليات لا في العلميات ولا سيما الأصولية {شيئاً} أي: من الإغناء عن أحد من الخلق فإنه لا يؤدّي أبداً إلى الجزم بالعلم بالشيء على ما هو عليه في نفس الأمر فهو ممنوع في أصول الدين، فإنّ المقصود فيها تحقيق الأمر على ما هو عليه في الواقع، وأما الفروع فإنّ المكلف به فيها هو الظن لكن بشرطه المأذون فيه وهو ردّه إلى الأصول المستنبط منها، لعجز الإنسان عن القطع في جميع الفروع(4/130)
تنبيهاً على عجزه وافتقاره إلى الله تعالى ليقبل عليه ويتبرأ من حوله وقوّته ليكشف له عن الحقائق.
ولما أن أصروا على الهوى بعد مجيء الهدى سبب عن ذلك قوله تعالى: {فأعرض} أي: يا أشرف الرسل {عمن تولى} أي: كلف نفسه خلاف ما يدعو إليه العقل والفطرة الأولى {عن ذكرنا} أي: القرآن الذي أنزلناه فلم يتله ولم يتدبر معانيه {ولم يرد} أي: في وقت من الأوقات {إلا الحياة الدنيا} أي الحاضرة لتقيده بالمحسوسات كالبهائم مع العمى عن دناءتها وحقارتها. قال الجلال المحلي: وهذا قبل الأمر بالجهاد.
قال الرازي: وأكثر المفسرين يقولون: بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى: {فأعرض} منسوخ بآية القتال وهو باطل، لأنّ الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ بها وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأول كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بإزالة شبههم والجواب عن أباطيلهم. وقيل له: وجادلهم بالتي أحسن ثم لما لم ينفع قال له ربه: أعرض عنهم ولا تقل لهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به ولا يتبعون الحق، وقاتلهم والإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخاً بها.
{ذلك} أي: الأمر المتناهي في الجهل والقباحة {مبلغهم} أي: نهاية بلوغهم وموضع بلوغهم والحاصل لهم وتهكم بهم بقوله تعالى: {من العلم} أي غايتهم من العلم أنهم آثروا الدنيا على الآخرة، والجملة اعتراض مقرر لقصور همتهم على الدنيا وقوله تعالى: {إنّ ربك} أي: المحسن إليك بالرسالة {هو أعلم} أي: عالم {بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى} أي: ظاهراً وباطناً، تعليل للأمر بالإعراض أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب فلا تتعب نفسك في دعوتهم إذ ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت، لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان كالطبيب للقلوب فأتى على ترتيب الأطباء في أنّ المرض إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء، وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القويّ، ثم إذا عجزوا عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحديد والكي كما قيل: آخر الدواء الكي فالنبيّ صلى الله عليه وسلم أولاً أمر القلوب بذكر الله تعالى فقط، فإن بذكر الله تطمئن القلوب، كما أنّ بالغذاء تطمئن النفوس والذكر غذاء القلوب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم أولاً: «قولوا لا إله إلا الله أمر بالذكر فانتفع مثل أبي بكر، ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليل وقال {أو لم يتفكروا} (الأعراف: 184)
{قل انظروا} (يونس: 101)
{أفلا ينظرون} (الغاشية: 17)
إلى غير ذلك، فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينفعهم قال أعرض عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصالح.
فإن قيل: إنّ الله تعالى بين أنّ غايتهم ذلك في العلم ولا يكلف الله تعالى نفساً إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له أو الصبيّ الذي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله تعالى؟ أجيب: بأنه ذكر قبل ذلك أنهم تولوا عن ذكر الله فكان عدم علمهم لعدم قبولهم العلم، وإنما قدر الله تعالى توليهم ليضاف الجهل إلى ذلك فيتحقق العقاب.
{ولله} أي: الملك الأعظم وحده {ما في السموات وما في الأرض} أي: من الذوات والمعاني فيشمل ذلك السموات والأرض معترض بين الآية الأولى وبين قوله تعالى {ليجزي الذين أساؤوا} أي: بالضلال {بما عملوا} أي: بسببه أو بجنسه إما بواسطتك بسيوفك وبسيوف أتباعك إذ أذنت لكم(4/131)
في القتال، وإما بغير ذلك بالموت حتف الأنف تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ثم بعذاب الآخرة على جميع ذنوبهم من غير أن يكون عجل لهم في الدنيا شيء ينقص بسببه عذاب الآخرة.
تنبيه: اللام في ليجزي يجوز أن تتعلق بقوله تعالى: {بمن ضل} و {بمن اهتدى} ، واللام للصيرورة أي عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا قال معناه الزمخشري، وأن تتعلق بما دلّ عليه قوله تعالى: {أعلم بمن ضلّ} أي: حفظ ذلك ليجزي قاله أبو البقاء {ويجزي} أي: ويثيب ويكرم {الذين أحسنوا} أي: على ثباتهم على الدين وصبرهم عليه وعلى أذى أعدائهم {بالحسنى} أي: بالمثوبة الحسنى وهي الجنة.
وبين المحسنين بقوله تعالى: {الذين يجتنبون} أي: يكلفون أنفسهم ويجهدونها على أن يتركوا {كبائر الإثم} أي: ما عظم الشارع إثمه بعد تحريمه بالوعيد والحد، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الباء الموحدة وبعدها ياء ساكنة والباقون بفتح الموحدة وبعدها ألف وبعد الألف همزة مكسورة وعطف على كبائر قوله تعالى: {والفواحش} والفاحشة من الكبائر ما كرهه الطبع وأنكره العقل واستخبثه الشرع والكبيرة صفة عائدة إلى الكيفية.
وقوله تعالى: {إلا اللمم} فيه أوجه: أحدها وهو المشهور أنه استثناء منقطع أي لكن اللمم، لأنه الصغائر فلم تندرج فيما قبلها ثانيها: أنه صفة وإلا بمعنى غير كقوله تعالى {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء: 22)
أي كبائر الأثم والفواحش غير اللمم. ثالثها: أنه متصل وهذا عند من يفسر اللمم بغير الصغائر قالوا: إنّ اللمم من الكبائر والفواحش قالوا: إن معنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرّة ثم يتوب ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك قال السدي: قال أبو صالح: سئلت عن قول الله عز وجل إلا اللمم فقلت: هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: لقد أعانك عليها ملك كريم وروى: عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» ولمسلم «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا يدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه النطق واليد زناها البطش والرجل زناها الخطأ والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» .
تنبيه: ذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر، وقد تظاهرت على ذلك دلائل الكتاب والسنة، وقد اختلف في ضبط الكبيرة بالحد فقال جمع: هي ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وقال جمع: هي المعصية الموجبة للحد والأوّل أوجه لأنهم عدوا الربا وأكل مال اليتيم وشهادة الزور ونحوها من الكبائر ولا حد فيها وقال إمام الحرمين: هي كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، وأما تعريفها بالعد فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي إلى السبعين أقرب وقال سعيد بن جبير هي إلى السبعمائة أقرب أي باعتبار أصناف أنواعها وما عدا المحدود من المعاصي فمن الصغائر ولا بأس بذكر شيء من النوعين.(4/132)
فمن الأوّل تقديم الصلاة أو تأخيرها عن وقتها بلا عذر ومنع الزكاة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ونسيان القرآن واليأس من رحمة الله تعالى، وأمن مكر الله تعالى، وقتل النفس عمداً أو شبه عمد، والفرار من الزحف وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والإفطار في رمضان من غير عذر، وعقوق الوالدين والزنا واللواط وشهادة الزور، وشرب الخمر وإن قل، والسرقة والغصب وقيده جماعة بما يبلغ ربع مثقال كما يقطع به في السرقة، وكتمان الشهادة بلا عذر، وضرب المسلم بغير حق، وقطع الرحم والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً، وسب الصحابة، وأخذ الرشوة، والسحر والنميمة، وأما الغيبة فإن كانت في أهل العلم وحملة القرآن فهي كبيرة وإلا فصغيرة.q
ومن الصغائر النظر المحرم وكذب لا حد فيه ولا ضرر، والإشراف على سوآت الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث والضحك في الصلاة المفروضة، والنياحة وشق الجيب في المصيبة والتبختر في المشي والجلوس بين الفساق إيناساً لهم، وإدخال مجانين وصبيان ونجاسة يغلب تنجيسهم المسجد، واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب لغير حاجة، والإصرار على صغيرة من نوع أو أنواع يصيرها كبيرة إلا أن تغلب طاعاته معاصيه كما أوضحت ذلك في شرح المنهاج وغيره.
{إنّ ربك} أي: المحسن إليك بإرسالك رحمة للعالمين والتخفيف عن أمتك {واسع المغفرة} يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، ويغفر الكبائر بالتوبة وله أن يفغر ما شاء من الذنوب ما عدا الشرك صغيرها وكبيرها كما قال تعالى: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48)
بخلاف غيره من الملوك فإنه لا يغفر لمن تكرّرت ذنوبه إليهم وإن صغرت قال البيضاويّ: ولعله عقب به وعيد المسيئين لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى ا. هـ. ونزل فيمن كان يقول صلاتنا صيامنا حجنا {هو أعلم بكم} أي: بذواتكم وأحوالكم منكم بأنفسكم {إذ} أي: حين {أنشأكم من الأرض} أي: التي طبعها طبع الموت البرد واليبس بإنشاء أبيكم آدم عليه السلام منها، وتهيئتكم للتكوين بعد أن لم يكن فيكم وأنتم تراب قابلية للحياة بقوة قريبة ولا بعيدة أصلاً فميز التراب الذي يصلح لتكوينكم منه والذي لا يصلح {وإذ} أي: وحين {أنتم أجنة} أي: مستورون {في بطون أمهاتكم} فهو يعلم إذ ذاك ما أنتم صائرون إليه من خير وشرّ وإن عملتم مدة من العمر بخلافه، لأنه يعلم ما جبلكم عليه من ذلك.
وقرأ حمزة والكسائيّ في الوصل بكسر الهمزة والباقون بضمها، وكسر حمزة الميم وفتحها الباقون، وأما في الابتداء بالهمزة فالجميع بضمها.
{فلا تزكوا} أي: تمدحوا بالزكاة وهي البركة والطهارة عن الدناءة {أنفسكم} أي: حقيقة بأن يثني الإنسان على نفسه فإنّ تزكيته لنفسه قال القشيري: من علامات كونه محجوباً عن الله تعالى أي: من مدح نفسه على سبيل الإعجاب، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن، أو مجازاً بأن يثنى على غيره من إخوانه وأنه كثيراً ما يثنى بشيء فيظهر خلافه وربما حصل له الأذى بسببه «وإنّ العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع» الحديث ولذلك علل بقوله تعالى: {هو أعلم} أي: منكم ومن جميع الخلق {بمن اتقى} أي فإنه يعلم المتقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب أبيكم آدم عليه السلام فمن(4/133)
جاهد نفسه حتى حصل منه تقوى فهو يوصله فوق ما يؤمل من الثواب في الدارين فكيف بمن صارت له التقوى وصفا ثابتاً.
ولما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحد منهم بسوء فعله فقال تعالى:
{أفرأيت الذي تولى} أي: عن اتباع الحق والثبات عليه. قال مجاهد وأبو زيد ومقاتل نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد اتبع النبيّ صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين وقال له تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال: إني خشيت عذاب الله تعالى فضمن الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله، ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك الذي ضمن ومنعه تمامه، فأنزل الله تعالى {أفرأيت الذي تولى} أي أدبر عن الإيمان.
{وأعطى قليلا} أي: من المال المسمى {وأكدى} أي: منع الباقي، مأخوذ من الكدية أرض صلبة كالصخرة تمنع حافر البئر إذا وصل إليها من الحفر، فأكدى أصله من أكدى الحافر إذا حفر شيئاً فصادف كدية منعته من الحفر ومثله: أجبل إذا صادف جبلاً منعه من الحفر وكديت أصابعه كَلَّت من الحفر ثم استعمل في كل من طلب شيئاً فلم يصل إليه أو لم يتممه ولمن طلب شيئاً ولم يبلغ آخره قال الحطيئة:
*وأعطى قليلاً ثم أكدى عطاءه ... ومن يفعل المعروف في الناس يحمد*
وقال السدي: نزلت في العاصي بن وائل السهمي وذلك أنه ربما يوافق النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت في أبي جهل وذلك أنه قال والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق فذلك قوله تعالى: {وأعطى قليلاً وأكدى} أي لم يؤمن به ومعنى أكدى قطع، وروي أنّ عثمان رضى الله تعالى عنه كان يعطي ماله في الخير فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة: يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان: إنّ لي ذنوباً وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فنزلت.
وقوله تعالى: {أعنده علم الغيب} أي: ما غاب هو المفعول الثاني لرأيت بمعنى أخبرني، والمفعول الأوّل محذوف اقتصاراً لأعطى {فهو} أي: فتسبب عن ذلك أنه {يرى} أي: يعلم أنّ صاحبه يتحمل عنه ذنوبه.
{أم} أي: بل {لم ينبأ} أي: يخبر أخباراً عظيماً متتابعاً {بما في صحف موسى} أي: التوراة المنسوبة إليه بإنزالها عليه، وكذا ما تبعها من أسفار الأنبياء الذين جاؤوا بعده بتقريرها.
وقدم صحف موسى عليه السلام على قوله: {وإبراهيم} أي: وصحفه لأنّ كتاب موسى عليه السلام أعظم كتاب بعد القرآن مع أنه موجود بين الناس تمكن مراجعته، ثم مدح إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: {الذي وفى} أي: أتم ما أمر به من ذلك تبليغ الرسالة واستقلاله بأعباء النبوة وقيامه بأضيافه وخدمتهم إياه بنفسه، وإنه كان يخرج كل يوم فيمشي فرسخاً يرتاد ضيفاً فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم وعن الحسن: ما أمر الله تعالى بشيء إلا وفى به وصبر على ما امتحن به، وما قلق شيئاً من قلق وصبر على حر ذبح الولد وعلى حر النار ولم يستعن بمخلوق بل قال لجبريل عليه السلام لما قال له: ألك حاجة قال: أما إليك فلا وقال الضحاك: وفي المناسك، وروي عن النبيّ(4/134)
صلى الله عليه وسلم أنه قال «إبراهيم الذي وفى أربع ركعات من أول النهار» وهي صلاة الضحى وروي «ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى كان يقول: إذا أصبح وأمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى تظهرون» وقيل: وفى سهام الإسلام وهي ثلاثون عشرة في التوبة {التائبون ... } (التوبة: 112) ، وعشرة في الأحزاب {إنّ المسلمين ... } (الأحزاب: 35) ، وعشرة في المؤمنون، {قد أفلح المؤمنون} (المؤمنون: 1)
وخص هذين النبيين لأنّ الموعودين من بني إسرائيل اليهود والنصارى يدعون متابعة موسى عليه السلام، ومن العرب يدعون متابعة إبراهيم عليه السلام ومن عداهم لا متمسك لهم ولا سلف في نبوّة محققة ولا شريعة محفوظة، وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها والباقون بكسر الهاء وياء بعدها.
ثم فسر تعالى الذي في الصحف واستأنف بقوله تعالى: {ألا تزر} أي: تأثم وتحمل {وازرة} أي: نفس بلغت مبلغاً تكون فيه حاملة لوزر {وزر أخرى} أي: حملها الثقيل من الإثم، وفي هذا إبطال قول من ضمن للوليد بن المغيرة أن يحمل عنه الإثم، وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره، وكان الرجل يقتل بقتل أبيه وابنه وأخيه وعمه وخاله وامرأته والعبد بسيده، حتى جاءهم إبراهيم عليه السلام فنهاهم عن ذلك وبلغهم عن الله عز وجل {ألا تزر وازرة وزر أخرى} .
{س53ش39/ش44 وَأَن لَّيْسَ لِ?نسَانِ إِs مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ? سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَ?ـاهُ الْجَزَآءَ ا?وْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى * وَأَنَّهُ? هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ? هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}
ولما نفى أن يضرّه أثم غيره نفي أن ينفعه سعي غيره بقوله تعالى:
{وأن ليس للإنسان} كائناً من كان {إلا ما سعى} فلا بد أن يعلم الحق في أي جهة فيسعى فيه ودعاء المؤمنين للمؤمن من سعيه بموادته ولو بموافقته لهم في الدين فقط، وكذا الحج عنه والصدقة ونحوها، وأما الولد فواضح في ذلك، وأما ما كان بسبب العلم والصدقة ونحوها فكذلك، وتضحية النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أمته أصل كبير في ذلك فإنّ من تبعه فقد واده وهو أصل في التصدق عن الغير وإهداء ما له من الثواب في القراءة ونحوها إليه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا منسوخ الحكم في هذه الشريعة أي: وإنما هو في صحف موسى وإبراهيم عليهما السلام بقوله: {ألحقنا بهم ذريتهم} (الطور: 21)
فأدخل الأبناء الجنة بصلاح الآباء وقال عكرمة إنّ ذلك لقوم موسى وإبراهيم عليهما السلام، وأما هذه الأمة فلهم ما سعوا وما سعى لهم غيرهم لما يروى أن امرأة رفعت صبياً لها فقالت يا رسول الله ألهذا حج فقال نعم ولك أجر «وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم إنّ أمي انسلت نفسها فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال نعم» .
قال الشيخ تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن تيمية: من اعتقد أنّ الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع وذلك باطل من وجوه كثيرة: أحدها: أنّ الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير. ثانيها: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الموقف في الحساب، ثم لأهل الجنة في دخولها ثم لأهل الكبائر في الخروج من النار وهذا انتفاع بعمل الغير. ثالثها: أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير. رابعها: أنّ الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير. خامسها: أنّ الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط بمحض رحمته وهذا انتفاع بغير عملهم. سادسها: أنّ أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض عمل الغير. سابعها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين {وكان أبوهما صالحاً} (الكهف: 82)(4/135)
فانتفعا بصلاح أبيهما وليس هو من سعيهما. ثامنها: أنّ الميت ينتفع بالصدقة عنه والعتق بنص السنة والإجماع وهو من عمل الغير. تاسعها: أنّ الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة وهو انتفاع بعلم الغير. عاشرها: أنّ الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص السنة وهو انتفاع بعمل الغير. حادي عشرها: أن المدين الذي امتنع صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه حتى قضى دينه أبو قتادة، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب وانتفع بصلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم وبردت جلدته بقضاء دينه وهو من عمل الغير. ثاني عشرها: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمن صلى وحده «ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلى معه» فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير. ثالث عشرها: أنّ الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه وذلك انتفاع بعمل الغير. رابع عشرها: أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وهذا انتفاع بعمل الغير. خامس عشرها: أنّ الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر وهذا انتفاع بعمل الغير. سادس عشرها: أنّ جليس أهل الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم ولم يجلس لذلك بل لحاجة عرضت له والأعمال بالنيات فقد انتفع بعمل غيره. سابع عشرها: الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة الحيّ عليه وهو عمل غيره. ثامن عشرها: أنّ الجمعة تحصل باجتماع العدد وكذلك الجماعة بكثرة العدد وهو انتفاع للبعض بالبعض. تاسع عشرها: أنّ الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (الأنفال: 33)
وقال تعالى: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات} (الفتح: 25)
{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} (البقرة: 251)
فقد دفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض وذلك انتفاع بعمل الغير. عشروها: أنّ صدقة الفطر تجب عن الصغير وغيره ممن يمونه الرجل فينتفع بذلك من يخرج عنه ولا سعي لهما. حادي عشريها: أنّ الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون ويثاب على ذلك ولا سعي له ومن تأمّل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى، فكيف يجوز أن تتأوّل الآية على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
والمراد بالإنسان العموم وقال الربيع بن أنس: ليس للإنسان يعني الكافر: وأما المؤمن فله ما سعي وما سعى له وقيل: ليس للكافر من الخير إلا ما عمله يثاب عليه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة خير، وروي «أنّ عبد الله بن أبي كان أعطى العباس قميصاً ألبسه إياه فلما مات أرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم قميصه ليكفن فيه فلم تبق له حسنة في الآخرة يثاب عليها» .
{وأن سعيه} أي: من خير وشر {سوف يرى} أي: في ميزانه من غير شك يوم القيامة بوعد لا خلف فيه وإن طال المدى، من: أريته الشيء، أي: يعرض عليه ويكشف له.
فإن قيل: العمل كيف يرى بعد وجوده ومضيه؟ أجيب: بأنه يرى على صورة جميلة إن كان العمل صالحاً قال الرازي وذلك على مذهبنا غير بعيد، فإن كل موجود يرى والله تعالى قادر على إعادة كل ما عدم فيعيد الفعل فيرى، وفيه بشارة للموحد وذلك أنّ الله تعالى يريه أعماله الصالحة ليفرح بها ويحزن الكافر بأعماله الفاسدة فيزداد غماً.
{ثم يجزاه} أي: السعي {الجزاء الأوفى} أي: الأتمّ الأكمل والمعنى: أنّ الإنسان يجزى جزاء سعيه بالجزاء الأوفى يقال: جزيت فلاناً سعيه وبسعيه. قال الرازي:(4/136)
الجزاء الأوفى يليق بالمؤمنين الصالحين، لأنّ جزاء الطالح وافر قال تعالى: {فإنّ جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً} (الإسراء: 63)
وذلك أن جهنم ضررها أكثر من نفع الآثام فهي في نفسها أوفر.
{وأنّ إلى ربك} أي: المحسن إليك لا إلى غيره {المنتهى} أي: الانتهاء برجوع الخلائق ومصيرهم إليه فيجازيهم بأعمالهم وقيل: منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الآمال، وروى أبو هريرة مرفوعاً «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق فإنّ الله تعالى لا يحيط به الفكر» وفي رواية «لا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره» قال القرطبي: ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم «يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله تعالى» ولقد أحسن من قال:
*ولا تفكرن في ذي العلا عز وجهه ... فإنك تردى إن فعلت وتخذل*
*ودونك مخلوقاته فاعتبر بها ... وقل مثل ما قال الخليل المبجل*
وقيل: المراد من الآية التوحيد وفي المخاطب وجهان: أحدهما: أنه عام تقديره إلى ربك أيها السامع أو العاقل والثاني: أنه خطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلى الأول يكون تهديداً وعلى الثاني يكون تسلية لقلب النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلى الأول تكون اللام في المنتهى للعهد المعهود في القران وعلى الثاني تكون للعموم أي إلى ربك كل منتهى.
وقوله تعالى: {وأنه هو} أي: لا غيره {أضحك وأبكى} يدل على أنّ كل ما يعمله الإنسان فبقضاء الله تعالى وخلقه حتى الضحك والبكاء، وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر على قوم من أصحابه وهم يضحكون فقال صلى الله عليه وسلم «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال يا محمد إنّ الله يقول لك: {وأنه هو أضحك وأبكى} أي: قضى أسبابهما فرجع إليهم صلى الله عليه وسلم فقال ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال: ائت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول: {هو أضحك وأبكى} أي قضى أسباب الضحك والبكاء وقال بسام بن عبد الله أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم وأنشد يقول:
*السنّ تضحك والأحشاء تحترق ... وإنما ضحكها زور ومختلق*
*يا رب باك بعين لا دموع لها ... ورب ضاحك سنّ ما به رمق*
وقال مجاهد والكلبي أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار، وقال الضحاك: أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر وقال عطاء بن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن لأنّ الفرح يجلب الضحك، والحزن يجلب البكاء وقيل: إنّ الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من سائر الحيوان وقيل: القرد وحده يضحك ولا يبكي وإنّ الإبل وحدها تبكي ولا تضحك وقال يونس بن الحسين: سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة؟ فقال: ما ضحكوا ولا كل من دون العرش منذ خلقت جهنم وعن عائشة قالت: «لا والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إن الميت يعذب ببكاء أحد ولكنه قال إنّ الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذاباً وإنّ الله تعالى هو أضحك وأبكى» .
تنبيه: قوله تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى} وما بعده يسميه البيانيون الطباق المتضادّ(4/137)
وهو نوع من البديع، وهو: أن يذكر ضدّان أو نقيضان أو متنافيان بوجه من الوجوه، وأضحك وأبكى لا مفعول لهما في هذا الموضع لأنهما سيقا لقدرة الله تعالى لا لبيان المقدور فلا حاجة إلى المفعول كقول القائل: فلان بيده الأخذ والعطاء يعطي ويمنع، ولا يريد ممنوعاً ومعطى واختار هذين الموضعين المذكورين لأنهما أمران لا يعللان فلا يقدر أحد من الطبائعيين يبين لاختصاص الإنسان بالضحك والبكاء وجهاً ولا سبباً، وإذا لم يعلل بأمر فلا بدّ له من موجد وهو الله تعالى بخلاف الصحة والسقم فإنهم يقولون: سببهما اختلال المزاج وخروجه عن الاعتدال ومما يدل على ذلك أنهم إذا عللوا الضحك قالوا: لقوّة التعجب وهو باطل، لأنّ الإنسان ربما بهت عند رؤية الأمور العجيبة ولا يضحك وقيل: لقوّة الفرح وليس كذلك لأنّ الإنسان قد يبكي لقوّة الفرح كما قال بعضهم:
*هجم السرور على حتى أنه ... من عظم ما قد سرني أبكاني*
{وأنه هو} أي: لا غيره {أمات وأحيا} وإن رأيتم أسباباً ظاهرة فإنها لا عبرة بها في نفس الأمر بل هو الذي خلقها أي أمات في الدنيا وأحيا في البعث وقال القرطبي: قضى أسباب الموت والحياة وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء وقيل: أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان.
{س53ش45/ش55 وَأَنَّهُ? خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَا?نثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ ا?خْرَى * وَأَنَّهُ? هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ? هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ?? أَهْلَكَ عَادًا ا?ولَى * وَثَمُودَا? فَمَآ أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ? إِنَّهُمْ كَانُوا? هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّـ?ـاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَىِّءَا?ءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}
{وأنه خلق الزوجين} ثم فسرهما بقوله تعالى: {الذكر والأنثى} فإنه لو كان ذلك في يد غيره لمنع البنات لأنها مكروهة لغالب الناس.
وقوله تعالى: {من نطفة إذا تمنى} أي: تصب يشمل سائر الحيوانات لا أن ذلك مختص بآدم وحوّاء عليهما السلام، لأنهما ما خلقا من نطفة، وهذا أيضاً تنبيه على كمال القدرة لأنّ النطفة جسم متناسب الأجزاء ويخلق الله تعالى منها أعضاء مختلفة وطباعاً متباينة، وخلق الذكر والأنثى منها أعجب ما يكون ولهذا لم يقدر أحد على أن يدعي خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله} (الزخرف: 87)
وقال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله} (لقمان: 25)
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى: {وأنه خلق} ولم يقل وأنه هو خلق كما قال تعالى: {وأنه هو أضحك وأبكى} أجيب بأن الضحك والبكاء ربما يتوهم أنهما بفعل الإنسان، والإماتة والإحياء وإن كان ذلك التوهم أبعد فيهما لكن ربما يقول به جاهل كما قال من حاج إبراهيم عليه السلام أنا أحيي وأميت فأكد ذلك بالفصل، وأما خلق الذكر والأنثى من النطفة فلا يتوهم أحد أنه بخلق أحد من الناس فلم يؤكد بالفصل ألا ترى إلى قوله تعالى: {وأنه هو أغنى وأقنى} (النجم: 48)
حيث كان الإغناء عندهم غير مستند إلى الله تعالى، وكان في معتقدهم أن ذلك بفعلهم كما قال قارون: {إنما أوتيته على علم عندي} (القصص: 78)
ولذلك قال: {هو رب الشعرى} (النجم: 49)
فأكد في مواضع استبعادهم إلى الإسناد ولم يؤكد في غيره.
{وأن عليه} أي: خاصاً به علماً وقدرة {النشأة} أي الحياة {الأخرى} للبعث يوم القيامة بعد الحياة الأولى فإن قيل: الإعادة لا تجب على الله تعالى فما معنى عليه؟ أجيب: بأنه عليه بحكم الوعد فإنه قال: {إنا نحن نحيي الموتى} (يس: 12)
فعليه بحكم الوعد لا بالعقل ولا بالشرع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الشين وبعدها ألف ممدودة قبل الهمزة والباقون بسكون الشين وبعدها الهمزة المفتوحة وإذا وقف حمزة نقل حركة(4/138)
الهمزة إلى الشين.
{وأنه هو} أي: وحده من غير نظر إلى سعي ساع ولا غيره {أغنى} قال أبو صالح: أغنى الناس بالأموال {وأقنى} أعطى القنية وأصول الأموال وما يدخرونه بعد الكفاية وقال الضحاك: أغنى بالذهب والفضة وصنوف الأموال، وأقنى بالإبل والبقر والغنم وقال الحسن وقتادة: أخدم، وقال ابن عباس: أغنى وأقنى أعطى فأرضى وقال مجاهد ومقاتل: أقنى أرضى بما أعطى وقنع قال الراغب: وتحقيقه أنه جعل له قنية من الرضا وقال سليمان التيمي: أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه وقال ابن زيد: أغنى أكثر وأقنى أقل وقرأ {يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} (الرعد: 26)
وقال الأخفش: أقنى أفقر وقال ابن كيسان: أولد وقال الزمخشري: أقنى أعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت على أن لا يخرج من يدك.
تنبيه: حذف مفعولا أغنى وأقنى لأنّ المراد نسبة هذين الفعلين إليه، وكذلك باقيها وألف أقنى منقلبه عن ياء لأنه من القنية قال الشاعر:
* ... ألا إنّ بعد العدم للمرء قنية*
ويقال: قنيت كذا وأقنيته قال الشاعر:
* ... قنيت حياتي عفة وتكرّما*
{وأنه هو} أي: لا غيره {رب الشعرى} أي: رب معبودهم وكانت خزاعة تعبد الشعرى، وأوّل من سنّ ذلك رجل من أشرافهم يقال له أبو كبشة عبدها وقال: لأن النجوم تقطع السماء عرضاً والشعرى تقطعها طولاً فهي مخالفة لها فعبدها وعبدتها خزاعة وحمير، وأبو كبشة أحد أجداد النبيّ صلى الله عليه وسلم من قبل أمّهاته وبذلك كان مشركو قريش يسمون النبيّ صلى الله عليه وسلم بابن أبي كبشة حين دعا إلى الله تعالى وخالف أديانهم تشبيهاً بذلك الرجل في أنه أحدث ديناً غير دينهم.
والشعرى في لسان العرب كوكبان: تسمى أحدهما الشعرى العبور وهي المرادة في الآية الكريمة وهي تطلع بعد الجوزاء في شدّة الحرّ ويقال لها: مرزم الجوزاء وتسمى كلب الجبار أيضاً، وتسمى الشعرى اليمانية. والثانية: الشعرى الغميصاء وهي التي في الذراع والمجرة بينهما، وتسمى الشامية وسبب تسميتها بالغميضاء على ما زعمه العرب أنهما كانا أختين أو زوجتين لسهيل فانحدر سهيل إلى اليمن فأتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة فسميت العبور، وأقامت الغميصاء تبكي حتى غمصت عينها ولذلك كانت أخفى من العبور وكان من لا يعبد الشعرى من العرب يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم.
{وأنه أهلك عاداً الأولى} وهم قوم هود عليه السلام هلكوا بريح صرصر، والأخرى قوم صالح وقيل: الأخرى إرم وقيل: الأولى أول الخلق هلاكاً بعد قوم نوح، وقرأ نافع وأبو عمرو بتشديد اللام بعد الدال المفتوحة نقلاً وهمز قالون الواو بعد اللام همزة ساكنة والباقون بتنوين الدال وكسر التنوين وسكون اللام وبعدها همزة مضمومة، فإذا قرأ القارئ عاد الأولى لقالون وأبي عمرو فله في الوصل أي وصل عاد بالأولى وجه واحد وهو النقل المذكور، وقالون على أصله بالهمزة كما ذكر، فإذا وقف على عاداً وابتدأ بالولى فله الابتداء بهمزة الوصل وهو ألولى، وله أيضاً الابتداء بغير همز الوصل وهو لولى، وقالون يهمز الواو في الوجهين الأوّلين ولم يهمز في الوجه الثالث الذي هو الأصل، ووافقهما ورش في الأوجه المذكورة في الوصل(4/139)
والابتداء لا في الوجه الثالث الذي هو الأصل فإنه ليس من مذهبه إلا النقل.
{وثموداً} وهم قوم صالح أهلكهم الله تعالى بصحية {فما أبقى} منهم أحداً، وقرأ عاصم وحمزة بغير تنوين للدّال في الوصل وسكون الدال في الوقف والباقون بالتنوين في الوصل والوقف على الألف.
{وقوم نوح} أي: أهلكهم لأجل ظلمهم بالتكذيب {من قبل} أي: قبل الفريقين {إنهم} أي: قوم نوح {كانوا} أي: بما لهم من الأخلاق التي هي كالجبلات التي لا انفكاك عنها {هم} أي: خاصة {أظلم} أي: من الطائفتين المذكورتين {وأطغى} أي: وأشدّ تجاوزاً في الظلم وعلوّاً وإسرافاً في المعاصي وتجبراً وعتوّاً لتمادي دعوة نوح عليه السلام قريباً من ألف سنة، ولأنهم أطول أعماراً وأشدّ أبداناً وكانوا مع ذلك ملء الأرض، روي أنّ الرجل منهم كان يأخذ بيد ابنه فينطلق به إلى نوح عليه السلام فيقول: احذر هذا فإنه كذاب، وإنّ أبي قد مشى بي إلى هذا وقال لي ما قلت لك فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه ولهذا قال نوح عليه السلام: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} (نوح: 26 ـ 27)
وقوله تعالى: {والمؤتفكة} منصوب بقوله تعالى: {أهوى} وقدّم لأجل الفواصل، والمراد بالمؤتفكة قرى قوم لوط رفعها إلى عنان السماء على جناح جبريل عليه السلام، ثم أهواها إلى الأرض أي أسقطها وأتبعها بحجارة النار الكبريتية، وهو قوله تعالى: {فغشاها} أي: أتبعها ما غطاها فكان لها بمنزلة الغشاء وهوّله بقوله تعالى: {ما غشى} أي: أمراً عظيماً من الحجارة المنضودة المسمومة وغيرها مما لا تسع العقول وصفه.
{فبأيّ آلاء} أي: أنعم {ربك} أي: المحسن إليك {تتمارى} أي: تشك أيها الإنسان وقيل: أراد الوليد بن المغيرة وقال ابن عباس: تتمارى أي تكذب وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي تشك في إجالة الخواطر في فكرك في إرادة هداية جميع قومك بحيث لا تريد أن أحداً منهم يهلك، وقد حكم ربك بإهلاك كثير منهم لما اقتضته حكمته فكان بعض خواطرك في تلك الإجالة يشكك ببعضها بعضاً.
{هذا} أي: النبي صلى الله عليه وسلم {نذير} أي: محذر بليغ التحذير {من النذر الأولى} أي: من جنسهم أي رسول كالرسل قبله أرسل إليكم كما أرسلوا إلى أقوامهم، وقال تعالى {الأولى} على تأويل الجماعة، أو هذا القرآن نذير من النذر الأولى أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم.
{أزفت الأزفة} أي: قربت الموصوفة بالقرب في قوله تعالى: {اقتربت الساعة} (القمر: 1)
وهو يوم القيامة.
{ليس لها من دون الله} أي: من أدنى رتبة من رتبة الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وقوله تعالى: {كاشفة} يجوز أن يكون وصفاً وأن يكون مصدراً، فإن كان وصفا احتمل أن يكون التأنيث لأجل أنه وصف لمؤنث محذوف تقديره نفس كاشفة، أو حال كاشفة أي مبينة متى تقوم كقول تعالى: {لا يجليها لوقتها إلا هو} (الأعراف: 187)
أو ليس لها نفس كاشفة أي قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله تعالى غير أنه تعالى لا يكشفها، أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير وإن كان مصدراً فهي بمعنى الكشف كالعافية والمعنى ليس لها من دون الله كشف أي لا يكشف عنها ولا يظهرها غيره.
{أفمن هذا الحديث} قال: أكثر المفسرين المراد بالحديث القرآن(4/140)
العظيم الذي يأتي على سبيل التجدد بحسب الوقائع والحاجات {تعجبون} إنكاراً وهو في غاية ما يكون من ترقيق القلوب، وقرأ أبو عمرو بإدغام المثلثة في التاء المثناة بخلاف عنه.
{وتضحكون} أي: استهزاء من هذا الحديث وتجدّدون ذلك في كل وقت {ولا تبكون} أي كما هو حق من يسمعه لما فيه من الوعد والوعيد وغير ذلك وقال الرازي يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى حديث أزفت الآزفة، فإنهم كانوا يتعجبون من حشر الأجساد والعظام البالية.
وقوله تعالى: {وأنتم سامدون} جملة مستأنفة أخبر الله تعالى عنهم بذلك ويحتمل أن تكون حالاً أي انتفى عنكم البكاء في حال كونكم سامدين، واختلف في معنى السمود فقيل: هو الإعراض والغفلة عن الشيء أي: وأنتم معرضون غافلون عما يطلب منكم وقيل: هو اللهو يقال: دع عنا سمودك، أي: لهوك قاله الوالبي والعوفي عن ابن عباس وقال الشاعر:
*ألا أيها الإنسان إنك سامد ... كأنك لا تفنى ولا أنت هالك*
فهذا بمعنى لاه لاعب وقيل هو الجمود وقيل هو الاستكبار قال الشاعر:
*رمى الحدثان نسوة آل سعد ... بمقدار سمدن له سمودا*
*فردّ شعورهنّ السود بيضا ... ورد وجوههنّ البيض سودا*
فهذا بمعنى الجمود والخشوع وقال عكرمة وأبو عبيدة: السمود الغناء بلغة حمير يقولون: يا جارية اسمدي لنا أي: غني، فكانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا وقال مجاهد أشِرون وقال الضحاك: غضاب يتبرطمون وقال الراغب: السامد اللاهي الرافع رأسه من قولهم بعير سامد في سيره وقال الحسن: السامد الواقف للصلاة قبل وقوف الإمام لما روي: أنه صلى الله عليه وسلم خرج والناس ينتظرونه قياماً فقال: «مالي أراكم سامدين» وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سرجين ورماد وقوله تعالى: {فاسجدوا} أي: اخضعوا خضوعاً كثيراً بالسجود {لله} أي الملك الأعظم يحتمل أن يكون المراد به سجود التلاوة وأن يكون المراد به سجود الصلاة {واعبدوا} أي: اشتغلوا بكل أنواع العبادة ولم يقل واعبدوا الله إما لكونه معلوماً من قوله تعالى: {فاسجدوا لله} وإما لأنّ العبادة في الحقيقة لا تكون إلا لله ويقوّى الاحتمال الأوّل ما روى عكرمة عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «سجد في النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجنّ والإنس» وعن عبد الله ابن مسعود قال أوّل سورة أنزلت فيها سجدة النجم قال: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلاً شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصا أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، قال عبد الله: فلقد رأيته بعد ذلك قتل كافراً وهو أمية بن خلف كما في بعض الروايات. وروى زيد بن ثابت قال: قرأت على النبيّ صلى الله عليه وسلم {والنجم} فلم يسجد فيها وهذا يدلّ على أنّ سجود التلاوة غير واجب، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنّ الله تعالى لم يكتبها علينا إلا أن نشاء وهو قول الشافعي وأحمد رضي الله عنهما، أي: فهي مستحبة وذهب قوم إلى وجوبها على القارئ والمستمع جميعاً وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي وذهب قوم إلى أنها في المفصل غير مستحبة. وما رواه البيضاوي(4/141)
تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والنجم
أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحد به» حديث موضوع.
سورة القمر
وتسمى اقتربت
مكية إلا {سيهزم الجمع ويولون الدبر} الآياتوهي خمس وخمسون آية وثلاثمائة واثنتان وأربعونكلمة وألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفاً
{بسم الله} أي الذي أحاط علمه فتمت قدرته {الرحمن} الذي وسعت رحمته كل شيء فعمت الشقي والسعيد نعمته {الرحيم} الذي خص بإتمام نعمته من اصطفاه فأسعدتهم رحمته.
{اقتربت الساعة} دنت القيامة وفي أول هذه السورة مناسبة لآخر ما قبلها، وهو قوله تعالى: {أزفت الأزفة} (النجم: 57)
فكأنه أعاد ذلك مستدلاً عليه بقوله تعالى: {أزفت الأزفة} فهو حق إذ القمر انشق. وقوله تعالى: {وانشق القمر} ماض على حقيقته وهو قول عامّة المسلمين إلا من لا يلتفت إلى قوله وقد صح في الأخبار أنّ القمر انشق على عهد(4/142)
رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّتين، وعن ابن مسعود قال: «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهدوا» وروى أنس بن مالك أنّ أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراً بينهما. وقال سنان عن قتادة: فأراهم انشقاق القمر مرتين. وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله: لم ينشق بمكة. وقال مقاتل: انشق القمر ثم التأم بعد ذلك وقيل انشق بمعنى سينشق يوم القيامة، وأوقع الماضي موقع المستقبل وهو خلاف الإجماع وقيل انشق بمعنى انفلق عنه الظلام عند طلوعه كما يسمى الصبح فلقاً وأنشد النابغة:
*فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا عند شق الصبح داع*
وإنما ذكرت ذلك تنبيهاً على ضعفه. وروى أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش: سحركم ابن أبي كبشة فسلوا السفار فسألوهم فقالوا نعم قد رأيناه فأنزل الله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} .
{وإن يروا} أي: كفار قريش {آية} أي: معجزة له صلى الله عليه وسلم كانشقاق القمر {يعرضوا} عنها {ويقولوا} هذا {سحر مستمرّ} أي: ذاهب سوف يذهب ويبطل من قولهم مرّ الشيء واستمرّ إذا ذهب مثل قولهم: قر واستقر قاله مجاهد وقتادة، وقال أبو العالية والضحاك: مستمرّ أي: قوي شديد، من قولهم: مر الحبل إذا صلب واشتد، وأمررته: إذا أحكمت فتله، واستمر الشيء إذا قوي واستحكم، وقيل: مستمرّ أي دائم، فإنّ محمداً صلى الله عليه وسلم كان يأتي كل زمان بمعجز فقالوا: هذا سحر مستمرّ دائم لا يختلف بالنسبة إلى شيء بخلاف سحر السحرة، فإنّ بعضهم يقدر على أمر وأمرين وثلاثة ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكلّ قاله الزمخشري ومنه قول الشاعر:
*ألا إنما الدنيا ليال وأعصر ... وليس على شيء قديم بمستمرّ*
وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال ألا إنّ الساعة قد اقتربت وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم مستمرّ دائم مطرد، وكل شيء قد انقادت طريقه ودامت حاله قيل فيه قد استمّر وقال أبو حيان: سبب نزولها أنّ مشركي قريش قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فرقتين ووعدوا بالإيمان إن فعل ذلك وقال ليلة بدرأي ليلة أربعة عشر في الشهر فسأل ربه فانشق القمر فقالوا سحر مستمرّ ولم يؤمنوا.
{وكذبوا} بكون انشقاقه دالاً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وجزموا بالتكذيب عناداً {واتبعوا} أي: بمعالجة فطرتهم الأولى المستقيمة في دعائها إلى التصديق {أهواءهم} في أنه صلى الله عليه وسلم سحر القمر وأنه خسوف في القمر وظهور شيء في جانب آخر من الجوّ يشبه نصف القمر وأنه سحر أعيننا وأنّ القمر لم يصبه شيء فهذه أهواؤهم.
قال القشيري: إذا حصل اتباع الهوى فمن شؤمه يحصل التكذيب لأنّ الله تعالى يلبس على قلب صاحبه حتى لا يستبصروا الرشد واتباع الرضا مقرون بالتصديق لأنّ الله تعالى ببركات الاتباع للحق يفتح عين البصيرة فيأتي بالتصديق.
{وكل أمر} أي: من أموركم من الخير أو الشرّ {مستقرّ} أي: بأهله في الجنة أو النار وقال قتادة وكل أمر مستقرّ فالخير مستقر بأهل الخير والشرّ مستقرّ بأهل الشرّ وقيل مستقرّ قول المصدّقين والمكذبين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعذاب، وقيل: كل أمر مستقرّ في علم الله تعالى لا يخفى عليه شيء فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم والأنبياء صدقوا وبلغوا كقوله تعالى: {لا يخفى على الله منهم شيء} (غافر: 16)
{ولقد جاءهم} أي أهل مكة في القرآن قبل الانشقاق {من الأنباء} أي: أخبار إهلاك الأمم الماضية المكذبة رسلهم لأنّ الأنباء الأخبار العظام التي لها وقع كقول الهدهد {وجئتك من سبأ بنبأ يقين} (النمل: 22)
لأنه كان خبراً عظيماً له وقع وخطر وقال تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ} (الحجرات: 6)
أي بأمر عظيم له خطر وإنما يجب التثبت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال {ما فيه} خاصة {مزدجر} أي: عمّاهم فيه من الباطل، ولكن لم يزدجر منهم إلا من أراد الله تعالى.
تنبيه: المزدجر اسم مصدر أي ازدجار أو اسم مكان أي موضع ازدجار والدال بدل من تاء الافتعال وازدجرته وزجرته نهيته بغلظة وما موصولة أو موصوفة.
وقوله تعالى: {حكمة} خبر مبتدأ محذوف أو بدل من ما أومن مزدجر {بالغة} أي: لها أعظم البلوغ إلى أنهى غايات الحكمة لصحتها ووضوحها ففيها مع الزجر ترجئة ومواعظ وأحكام ودقائق {فما تغن} أي: تنفع {النذر} أي: الإنذارات والمنذرون والأمور المنذر بها ومنها إنما المغني بذلك هو الله تعالى فما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن.
قال البقاعي: ولعل الإشارة بإسقاط ياء تغني بإجماع المصاحف من غير موجب في اللفظ إلى أنه كما سقطت غاية أحرف الكلمة سقطت ثمرة الإنذار وهو القبول.
تنبيه: يجوز في ما أن تكون استفهامية وتكون في محل نصب مفعولاً مقدّماً أي أي شيء تغني النذر وأن تكون نافية أي لم تغن النذر شيئاً والنذر جمع نذير والمراد به المصدر أو اسم الفاعل.
ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد التعلق بطلب نجاتهم فهو لذلك ربما اشتهى إجابتهم إلى مقترحاتهم تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فتولّ عنهم} أي: كلف نفسك الإعراض عن تمني ذلك فما عليك إلا البلاغ وأمّا الهداية فإلى الله تعالى وحده.
تنبيه: قال أكثر المفسرين نسختها آية السيف وقال الرازي(4/143)
إنّ قول المفسرين في قوله تعالى: {فتولّ} منسوخ ليس كذلك بل المراد منه لا تناظرهم بالكلام وقوله تعالى: {يوم} منصوب باذكر، أي: واذكر يوم {يدع الداع} . وقيل: منصوب بيخرجون بعده والداعي معرف كالمنادي في قوله تعالى: {يوم ينادي المنادي} (ق: 41)
لأنه معلوم قد أخبر عنه فقيل إنّ منادياً ينادي وداعياً يدعو، فقيل: الداعي إسرافيل عليه السلام ينفخ قائماً على صخرة بيت المقدس قاله مقاتل، وقيل: جبريل عليه السلام وقيل: ملك موكل بذلك والتعريف حينئذ لا يقطع حدّ العلمية ويكون كقولنا جاء رجل فقال الرجل قاله الرازي. وقرأ نافع وأبو عمرو بحذف الياء بعد العين وقفاً وإثباتها وصلاً وابن كثير بإثباتها وقفا ووصلا والباقون بحذفها وقفا ووصلا {إلى شيء نكر} أي: منكر فظيع لم ير مثله فينكرونه استعظاماً.
فإن قيل ما ذلك الشيء المنكر أجيب بأنه الحساب أو الجمع له أو النشر للجمع فإن قيل النشر لا يكون منكراً فإنه أحياء ولأنّ الكافر من أين يعرف وقت النشر ما يُجزى عليه لينكره أجيب بأنه يعلم ذلك لقوله تعالى عنهم: {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} (يس: 52)
وقرأ ابن كثير بسكون الكاف والباقون بالرفع.
ولما بين تعالى دعاءه بما هال أمره بين حال المدعوّين زيادة في الهول فقال تعالى: {خشعاً أبصارهم} أي: ينظرون نظر الخاضع الذليل السافل المنزلة المستوحش الذي هو شرّ حال، ونسب الخشوع إلى الأبصار لأنّ الذل والعز يتبين في النظر والذل أن يرمي به صاحبه إلى الأرض مثلاً مع هيبة يعرف منها ذلك كما قال تعالى: {خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي} (الشورى: 45)
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بفتح الخاء وألف بعدها وكسر الشين والباقون بضم الخاء ولا ألف بعدها وفتح الشين مشدّدة أمّا القراءة الأولى فهي جارية على اللغة الفصحى من حيث إنّ الفعل وما جرى مجراه إذا قدّم على الفاعل وحد تقول: تخشع أبصارهم، ولا تقول: تخشعن أبصارهم وأمّا القراءة الثانية فجاءت على لغة طيىء يقولون: أكلوني البراغيث قال الزمخشري: ويجوز أن يكون في خشعاً ضمير هم ويقع أبصارهم بدلاً عنه ا. هـ. وتقدّم نظير ذلك في قوله تعالى في الأنبياء: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} (الأنبياء: 3)
وجملة {خُشَّعاً أبصارهم} حال من فاعل {يخرجون} أي: الناس {من الأجداث} أي: القبور {كأنهم جراد} أي: في كثرتهم وتراكم بعضهم على بعض وصغارهم وضعفهم وتموّجهم يقال في الجيش الكثير المائج بعضه فوق بعض جاؤوا كالجراد وكالذباب {منتشر} أي: منبث متفرّق في كل مكان لكثرتهم لا يدرون أين يذهبون.
{مهطعين} أي: مسرعين مادّي أعناقهم {إلى الداعي} مصوبي رؤوسهم إليه لا يلتفتون إلى سواه كما يفعل من ينظر في ذل وخضوع وصمت واستكانة هذا حال الكل، وأمّا الكافر فنبه عليه بقوله تعالى: {يقول} أي: على سبيل التكرار {الكافرون} أي الذين كانوا في الدنيا عريقين في ستر الأدلة وإظهار الأباطيل المضلة: {هذا} أي الوقت الذي نحن فيه لما نرى فيه من الأهوال {يوم عسر} أي: في غاية العسر والصعوبة والشدّة وذلك بحسب حالهم فيه كما قال تعالى في سورة المدّثر: {يوم عسير على الكافرين} (المدثر: 9 ـ 10)
ولما فرغ من حكاية كلام الكافرين ومن ذكر علامات الساعة أعاد ذكر بعض الأنبياء فقال تعالى:
{كذبت} أي:(4/144)
أوقعت التكذيب العظيم الذي عموا به جميع الرسالات وجميع الرسل {قبلهم} أي: أهل مكة {قوم نوح} مع ما كان بهم من القوّة ولهم من الانتشار في جميع الأقطار، وأنث فعلهم تحقيراً لهم، وتهويناً لأمرهم في جنب قدرته تعالى.
فإن قيل: إلحاق الضمير المؤنث بالفعل قبل ذكر الفاعل جائز وحسن بالاتفاق وإلحاق ضمير الجمع بالفعل قبيح عند أكثرهم فلا يجوزون كذبوا قوم نوح ويجوّزون كذبت فما الفرق؟ أجاب الرازي بأنّ التأنيث إنما جاز قبل الجمع لأن الأنوثة والذكورة للفاعل أمر لا يتبدل ولم تحصل الأنوثة للفاعل بسبب فعله بخلاف الجمع لأنّ الجمع للفاعلين بسبب فعلهم {فكذبوا عبدنا} نوحاً عليه السلام على ماله من العظمة بنسبته إلينا مع تشريفنا إياه بالرسالة {وقالوا} زيادة على التكذيب {مجنون} أي: فهذا الذي يصدر منه من الخوارق أمر من الجنّ.
{وازدجر} وهل هذا من مقولهم أي قالوا: إنه ازدجر أي ازدجرته الجنّ وذهبت بلبه قاله مجاهد، أو هو من كلام الله تعالى أخبر الله تعالى عنه بأنه انتهر وازدجر بالسب وأنواع الأذى، وقالوا: {لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين} (الشعراء: 116) .
قال الرازي: وهذا أصح لأنّ المقصود تقوية قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم بذكر من تقدّمه وأيضاً يترتب عليه قوله تعالى: {فدعا ربه} وهذا الترتيب في غاية الحسن، لأنّهم لمّا زجروه وانزجر هو عن دعائهم دعا ربه الذي رباه بالإحسان إليه وبرسالته {أني} أي: بأني {مغلوب} أي: من قومي كلهم بالقوّة والمنعة لا بالحجة وأكده ابلاغاً في الشكاية وإظهار الذل العبودية؛ لأنّ الله تعالى عالمٌ بسر العبد وجهره فما شرع الدعاء في أصله إلا لإظهار التذلل وكذا الإبلاغ فيه، وقال ابن عطية: غلبتني نفسي وحملتني على الدعاء عليهم. قال ابن عادل: وهو ضعيف. {فانتصر} أي: أوقع نصرتي عليهم أنت وحدك على أبلغ وجه فانتقم لي منهم.
{ففتحنا} أي: بسبب دعائه فتحاً يليق بعظمتنا {أبواب السماء} أي: كلها في جميع الأقطار، وعَبَّرَ بجمع القلة عن جمع الكثرة والمراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها فإنّ للسماء أبواباً تفتح وتغلق وقيل: هذا على سبيل الاستعارة فإنّ الظاهر أنّ الماء كان من السحاب فهو كقول القائل في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفي قوله تعالى: {ففتحنا} بيان بأنّ الله تعالى انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم وقرأ ابن عامر بتشديد التاء بعد الفاء والباقون بالتخفيف.
وفي الباء في قوله تعالى: {بماء} وجهان: أظهرهما: أنّها للتعدية وذلك على المبالغة في أنه جعل الماء كالآلة للفتح به كما تقول فتحت بالمفتاح والثاني أنها للحال أي فتحناها ملتبسة بماء {منهمر} أي: منصب بأبلغ ما يكون من السيلان والصب كثرة وعظماً ولذلك لم يقل بمطر لأنّه خارجٌ عن تلك العادة واستمرّ ذلك أربعين يوماً.
{وفَجّرْنا} أي: صدّعنا بما لنا من العظمة وشققنا وبعثنا وأسلنا {الأرض عيونا} أي: جميع عيون الأرض ولكنَّه عدل عنه للتهويل بالإبهام ثمَّ البيان وإفادة أنّ وجه الأرض صار كله عيوناً وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بكسر العين والباقون بضمها.
{فالتقى الماء} أي: المعهود وهو ماء السماء وماء الأرض بسبب فعلنا هذا، وزاد في تعظيمه بأداة الاستعلاء فقال تعالى: {على أمرٍ} أي: حالٍ(4/145)
{قد قدرِ} أي: قضى أي في الأزل وهو هلاكهم غرقاً بماء مقدّر لا يزيد قطرة ولا يهلك غير من أمرناه بإهلاكهم.
{وحملناه} أي: نوحاً عليه السلام تتميماً لانتصاره {على ذات} أي: سفينة صاحبةِ {ألواح} أي: أخشاب نجرت حتى صارت عريضة {ودسر} جمع دسار ككتاب وهو ما تشدّ به السفينة من مسمار وحديد أو خشب أو من خيوط الليف ونحوها قال البقاعي: ولعله عبّر عن السفينة بما شرحها تنبيهاً على قدرته على ما يريد.
{تجري} أي: السفينة {بأعيننا} أي: محفوظة من أنْ تدخل بحر الظلمات، أو يأتي عليها غير ذلك من الآفات بحفظنا على مالنا من العظمة حفظ من ينظر الشيء بأعين كثيرة ولا يغيب عنه أصلاً، وجوّزوا أنْ يكون جمع تكسير لعين الماء. وقوله تعالى: {جزاء} منصوب بفعل مقدّر أي أغرقوا انتصاراً {لمن كان كفر} وهو نوح عليه الصلاة والسلام أو الباري تعالى:
{ولقد تركناها} أي: أبقينا هذه الفعلة العظيمة من جري السفينة على هذا الوجه وإبقاء نوعها دالة على ما لنا من العظمة وقيل تلك السفينة بعينها بقيت على الجودي حتى أدرك بقاياها أول هذه الأمّة {آية} أي: علامة عظيمة على مالنا من العلم المحيط والقدرة التامّة {فهل من مدّكر} أي: معتبر ومتعظ بها وأصله مذتكر أبدلت التاء دالاً مهملة وكذا المعجمة وأدغمت فيها.
وقوله تعالى: {فكيف كان} أي وجد وتحقق {عذابي} أي: لمن كفر وكذب رسلي {ونذر} أي: إنذاري، استفهام تقرير فكيف خبر كان وهي للسؤال عن الحال والمعنى حمل المخاطبين على الإقرار بوقوع عذابه تعالى بالمكذبين لنوح موقعه وقرأ ورش بإثبات الياء بعد الراء وصلا لا وقفاً جميع ما في هذه السورة، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً.
قال البقاعي: ولما كان هذا المفصل مما أنزل أول القرآن تيسيراً على الأمّة نبه على ذلك بقوله تعالى: {ولقد يسرنا} أي: على مالنا من العظمة {القرآن} أي: على ماله من الجمع والفرق والعظمة المناسبة لكونه وصفاً لنا {للذكر} أي: الاتعاظ والتذكر والتدبر والفهم والتشريف والحفظ لمن يراعيه. قال ابن برجان: أنزلناه باللسان العربي ونزلناه للإفهام تنزيلاً، وضربنا لهم الأمثال، وأطلنا لهم في هذه الأعمار ليتذكروا الميثاقَ المأخوذَ عليهم، وقال القشيري: يسرّ قراءته على ألسنة قوم وعلمه على قلوب قوم وفهمه على قلوب قوم وحفظه على قلوب قوم وكلهم أهل القرآن وخاصته وليس يُحفظ من كتب الله تعالى عن ظهر قلب غيره. قاله المحلى. {فهل من مدكر} أي: معتبر ومتعظ بها وتقدم أصله.
ولما انقضت قصة نوح عليه السلام على هذا الهول العظيم ذكر قصة عاد لأنها أعظم قصة جرت بعد قوم نوح فيما تعرفه العرب بقوله تعالى:
{س54ش18/ش22 كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}
{كذبت عاد} أي: أوقعت التكذيب العام المطلق الذي أوجب تكذيبهم برسولهم هود عليه الصلاة والسلام في دعائه لهم إليّ وإنذاره عذابي {فكيف} أي: فعلى أي الأحوال لأجل تكذيبهم {كان عذابي} لهم {ونذر} أي: وإنذاري إياهم بلسان رسولي قبل نزوله، أي وقع موقعه.
فإن قيل: لِمَ لم يقل: فكذبوا هودا كما قال تعالى في قصة نوح: {فكذبوا عبدنا} أجيب: بأنّ تكذيب قوم نوح أبلغ لطول مقامه فيهم وكثرة عنادهم وإمّا لأن قصة عاد ذكرت مختصرة.
ثم بين عذابهم بقوله تعالى: {إنا أرسلنا} أي: بمالنا من العظمة. {عليهم ريحاً}(4/146)
وعبر بحرف الاستعلاء إعلاماً بالنقمة، ثم وصف الريح بقوله تعالى: {صرصراً} أي: شديدة الصوت من صرصر الباب أو القلم إذا صوت، وقيل: الشديدة البرد من الصر، وهو البرد، وقال مكي: أصله صرّر من صرَّ الشيء إذا صوت لكن أبدلوا من الراء المشدّة صاداً وهذا قول الكوفيين وقال الرازي: الصرصر: الدائمة الهبوب، من أصر على الشيء إذا دام وثبت.
وأكد شؤمها بذم زمانها فقال تعالى: {في يوم نحس} أي: شديد القباحة قيل: كان ذلك يوم الأربعاء في آخر الشهر وهو شوال لثمان بقين منه، واستمر إلى غروب شمس الأربعاء آخره، فإنه قال تعالى في سورة الحاقة: {سبع ليال وثمانية أيام حسوماً} وقال تعالى في حم السجدة: {في أيام نحسات} (فصلت: 16)
فالمراد باليوم هنا الوقت والزمان، وقوله تعالى: {مستمر} أي: دائم الشؤم إلى وقت نفاذ المراد منه يفيد ما تفيده الأيام، لأنّ الاستمرار ينبىء عن امتداد الزمان كما تنبىء عنه الأيام، والحكاية مذكورة هنا على سبيل الاختصار، فذكر الزمان ولم يذكر مقداره على سبيل الإيجاز فاستمر عليهم بنحوسه ولم يبق منهم أحد إلا أهلكه، هذا وصفها في ذاتها.
وأمّا وصفها بفعلها فيهم فذكره بقوله تعالى: {تنزع} أي: تأخذ {الناس} أي: الذين هم صور لاثبات لهم بأرواح التقوى من الأرض: بعضهم من وجهها، وبعضهم من حُفَرٍ حفروها ليمتنعوا بها من العذاب فتطيرهم بين السماء والأرض كأنهم الهباء المنثور فتقلع رؤوسهم من جثثهم.
وقوله تعالى: {كأنهم} أي: حين ينزعون فيلقون لا أرواح فيهم {أعجاز نخل} أي: أصول نخل قطعت رؤوسها حال من الناس مقدرة. وقوله: {منقعر} صفة لنخل باعتبار الجنس وأنث في الحاقة فقال: {نخل خاوية} (الحاقة: 7)
باعتبار معنى الجماعة. قال ابن عادل: وإنما ذكَّر هنا وأنث هناك مراعاة للفواصل في الموضعين. وقال الرازي: ذكر الله تعالى لفظ النخل في مواضع ثلاثة ووصفها على الأوجه الثلاثة فقال تعالى: {والنخل باسقات} (ق: 10)
وذلك حال عنها وهي كالوصف، وقال تعالى: {نخل خاوية} (الحاقة: 7)
و {نخل منقعر} فحيث قال: منقعر كان المختار ذلك لأنّ المنقعر في حقيقة الأمر كالمفعول لأنه ورد عليه القعر فهو مقعور، والخاوي والباسق فاعل، وإخلاء المفعول من علامة التأنيث أولى: تقول: امرأة قتيل، وأمّا الباسقات فهي فاعلات حقيقة لأنّ البسوق أمر قائم بها، وأمّا الخاوية فهي من باب حسن الوجه لأنّ الخاوي موضعها فكأنه قال نخل خاوية المواضع، وهذا غاية الإعجاز حيث أتى بلفظ مناسب للألفاظ السابقة واللاحقة من حيث اللفظ.
تنبيه: الأعجاز جمع عجْز وهو مؤخر الشيء، ومنه العجْز لأنه يؤدي إلى تأخير الأمور، والمنقعر المنقلع من أصله: يقال: قعرت النخلة: قلعتها من أصلها فانقعرت، وقعرت البئر وصلت إلى قعرها، وقعرت الإناء شربت ما فيه حتى وصلت إلى قعره.
وكرّر قوله تعالى: {فكيف كان عذابي ونذر} للتهويل. وقيل: الأوّل: لما حاق بهم في الدنيا، والثاني: لما يحيق بهم في الآخرة، كما قال أيضاً في قصتهم: {لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى} (فصلت: 16)
وتقدّم تفسير قوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر} وكرّره إيذاناً بأنّ تفسير القرآن مع إعجازه لا يكون إلا بعظمة تفوت قوى البشر، وتعجز عنها منهم القدر.
ولما انقضت قصة عاد ذكر تعالى قصة ثمود لأنها تلي(4/147)
قصة عاد في الفظاعة، فقال تعالى: {كذبت ثمود} أي قوم صالح عليه السلام وقوله تعالى: {بالنذر} جمع نذير بمعنى منذر أي بالإنذارات التي أنذرهم بها نبيهم صالح عليه السلام إن لم يؤمنوا به.
ثم علل ذلك وعقبه بقوله تعالى: {فقالوا} منكرين لما جاءهم من الله تعالى غاية الإنكار {أبشراً} إنكار الرسالة، هذا النوع ليكون إنكار النبوة نبيهم على أبلغ الوجوه وهو منصوب بفعل يفسره {نتبعه} الآتي، وقولهم: {منا} نعت له أي فلا فضل له علينا فما وجه اختصاصه بذلك من بيننا، وقولهم: {واحداً} نعت له أيضاً، ثم عظموا الإنكار بقولهم {نتبعه} أي: نجاهد أنفسنا في خلع مألوفنا وما كان عليه آباؤنا، والاستفهام بمعنى النفي والمعنى: كيف نتبعه ونحن أشد الناس قوّة وكثرة وهو واحد منّا.
ثمَّ استنتجوا من هذا الإنكار الشديد قولهم مؤكدين: {إنَّا إذاً} أي: إن أتبعناه {لفي ضلال} أي: ذهاب عن الصواب محيط بنا {وسعر} أي: ونيران جمع سعير فعكسوا عليه وقالوا: إن اتبعناك كنا إذاً كما تقول، وقيل: السعر الجنون يقال ناقة مسعورة قال الشاعر:
*كأنّ بها سعر إذا العيس هزها ... ذميل وإرخاء من السير متعب*
ثم استدلوا بأمر آخر ساقوه مساق الإنكار فقالوا: {أألقي} أي: أنزل {الذكر} أي: الوحي الذي يكون به الشرف الأعظم بغتة في سرعة {عليه} لأنه لم يكن عندهم في مضمار هذا الشأن، ولا توسموا فيه قبل إشارته به شيئاً منه بل أتاهم به بغتة في غاية الإسراع ودلوا على وجه التعجب والإنكار بالاختصاص بقولهم: {من بيننا} أي: وفينا من هو أولى بذلك منه سنا وشرفاً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: بتحقيق الهمزة الأولى المفتوحة وتسهيل الثانية المضمومة كالواو، وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفا بخلاف عن أبي عمرو ولم يدخل ورش وابن كثير ألفا، وأمّا هشام فله تسهيل الثانية وتحقيقها وإدخال الألف بينهما مع التحقيق، والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال، وإذا وقف حمزة فله في الثانية التسهيل وإبدالها واواً والتحقيق.
ثم أضربوا عن ذلك الاستفهام لأنه بمعنى النفي بقولهم: {بل هو كذاب} أي: بليغ في الكذب في قوله إنه أوحى إليه ما ذكر {أشر} أي: متكبر بطر غلبت عليه البطالة حتى أعجبته نفسه فتجبر فهو يريد الترفع، قال الله تعالى: {سيعلمون} أي: بوعد لا خلف فيه {غداً} أي: في الزمن الآتي القريب وهو يوم القيامة، لأنّ كل ما حقق إتيانه قريب عند نزول العذاب في الدنيا ويوم القيامة.
وقرأ ابن عامر وحمزة بعد السين بتاء الخطاب وفيه وجهان: أحدهما أنه حكاية عن قول صالح عليه السلام لقومه. والثاني: أنه خطاب من الله تعالى على جهة الالتفات، والباقون بياء الغيبة جرياً على الغيب قبله في قوله تعالى: {فقالوا أبشراً} واختار هذه القراءة مكي، لأنّ عليها الأكثر. {من الكذاب الأشر} أي: وهو هم بأن يعذبوا على تكذيبهم لنبيه صالح صلى الله عليه وسلم وروي أنهم تعنتوا عليه فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء فقال تعالى: {إنا} أي: بما لنا من العظمة {مرسلوا الناقة} أي موجدوها لهم ومخرجوها كما اقترحوا من حجر أهلناه لذلك وخصصناه من بين الأحجار دلالة على إرسالنا صالحاً عليه السلام: مخصصين له(4/148)
من بين قومه وذلك أنهم قالوا لصالح عليه السلام نريد أن نعرف المحق، منا بأن ندعوا آلهتنا وتدعو إلهاك فمن أجابه إلهه علم أنه المحق فدعوا أوثانهم فلم تجبهم، فقالوا: ادع أنت فقال: فما تريدون؟ قالوا: تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عشراء وبراء، فأجابهم إلى ذلك بشرط الإيمان، فوعدوه بذلك وأكدوا فكذبوا بعدما كذبوا في أنّ آلهتهم تجيبهم، وصدق هو عليه السلام في كل ما قال فأخبره ربه سبحانه أنه يجيبهم إلى إخراجها {فتنة لهم} أي: امتحاناً يخالطهم به فيميلهم عن حالتهم التي وعدوا بها وتخليهم عنها، لأنّ المعجزة فتنة لأنّ بها يتميز المثاب من المعذب، فالمعجزة تصديق وحينئذ يفترق المصدّق من المكذب، أو يقال: إخراج الناقة من الصخرة معجزة ودورانها بينهم وقسمة الماء كان فتنة، ولهذا قال تعالى: {إنا مرسلوا الناقة} ولم يقل: {مخرجوا} .
{فارتقبهم} أي: كلف نفسك انتظارهم فيما يكون لهم جزاء على أعمالهم انتظار من يحرسهم {واصطبر} أي: عالج نفسك واجتهد في الصبر عليهم، وأصل الطاء في اصطبر تاء فتحولت طاء لتكون موافقة للصاد في الإطباق {ونبئهم} أي: أخبرهم إخباراً عظيماً بأمر عظيم وهو {أن الماء} أي: الذي يشربونه وهو ماء بئرهم {قسمة بينهم} أي: بين قوم صالح عليه السلام والناقة فغلَّب العاقل عليها، والمعنى أنا إذا بعثناها كان لهم يوم لا تشاركهم فيه، ولها يوم لا تدع في البئر قطرة يأخذها أحد منهم وتوسع الكل بدل الماء لبنا.
{كل شرب} أي: نصيب من الماء {محتضر} أي: فالناقة تحضر الماء يوم وردها وتغيب عنهم يوم ورودهم قاله: مقاتل، وقال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم غيبها فيشربون، ويحضرون اللبن يوم وردها فيحتلبون.
تنبيه: الحكمة في قسمة الماء إمّا لأنّ الناقة عظيمة الخلق فتنفر منها حيواناتهم فكان يوم للناقة ويوم لهم، وإمّا لقلة الماء فلا يحملهم، وإمّا لأنّ الماء كان مقسوماً بينهم لكل فريق يوم، فيوم ورد الناقة على هؤلاء يرجعون على الآخرين وكذلك الآخرون فيكون النقصان على الكل، ولا تختص الناقة بجميع الماء، روي أنهم كانوا يكتفون في يوم وردها بلبنها، وليس في الآية إلا القسمة دون كيفيتها وظاهر قوله تعالى: {كل شرب محتضر} يعضد الوجه الثالث، وحضر واحتضر بمعنى واحد.
وقوله تعالى: {فنادوا صاحبهم} فيه حذف قبله، أي: فتمادوا على ذلك ثم ملّوه فعزموا على عقرها فنادوا صاحبهم وهو قدّار بن سالف الذي انتدبوه بطراً وأشراً لقتل الناقة وكذباً في وعدهم الإيمان وإكرامها بالإحسان وكان أشجعهم، وقيل كان رئيسهم.
{فتعاطى} أي: فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث به {فعقر} أي: فتسبب عن ذلك عقرها، وقيل: فتعاطى الناقة فعقرها، أو فتعاطى السيف فقتلها، والتعاطي تفاعل الشيء بتكليف. قال محمد بن إسحق كمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها فانتظم به عضلة ساقها ثم شدّ عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاءة واحدة ثم نحرها. وقال ابن عباس: كان الذي عقرها احمر أزرق أشقر أكشف أقعى يقال له قدار بن سالف، والعرب تسمي الجزار قدار تشبيهاً بقدار بن سالف مشؤوم آل ثمود.
{فكيف كان عذابي} أي: كان على حال ووجه هو أهل لأن يجتهد في الإقبال على تعرفه والسؤال عنه {ونذر} أي: إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله،(4/149)
أي وقع موقعه.
وبينه بقوله تعالى: {إنا} أي: بمالنا من العظمة {أرسلنا} أي: إرسالاً عظيماً {عليهم صيحة} وحقر شأنهم بالنسبة إلى عظمة عذابه بقوله تعالى: {واحدة} صاحها عليهم جبريل عليه السلام فلم يكن لهم بصيحته هذه التي هي واحدة طاقة، كما قال تعالى {فكانوا كهشيم المحتظر} (القمر: 31)
وهو الذي يجعل لغنمه حظيرة من يابس الشجر والشوك يحفظهنّ فيها من الذئاب والسباع، وما يسقط من ذلك فما داسته هو الهشيم والهشيم المهشوم المكسور، ومنه سمي هاشم لهشمه الثريد في الجفان غير أنّ الهشيم يستعمل كثيراً في الحطب المتكسر اليابس قال المفسرون كانوا كالخشب المتكسر الذي يخرج من الحظائر، بدليل قوله تعالى: {هشيماً تذروه الرياح} (الكهف: 45)
وهو من باب إقامة الصفة مقام الموصوف، وتشبيههم بالهشيم: إمّا لكونهم يابسين كالموتى الذين ماتوا من زمان، أو لانضمام بعضهم إلى بعض فاجتمعوا بعضهم فوق بعض كما يجمع الحاطب الحطب يضعه شيئاً فوق شيء منتظراً حضور من يشتري منه. قال ابن عادل: ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم في الجحيم، أي كانوا كالحطب اليابس الذي للوقيد، كقوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} (الأنبياء: 98) ، وقوله تعالى: {فكانوا لجهنم حطبا} (الجن: 15)
تنبيهات
أحدها: أنه تعالى ذكر {فكيف كان عذابي ونذر} في ثلاثة مواضع؛ ذكرها في حكاية نوح عليه السلام بعد بيان العذاب؛ وذكرها ههنا قبل بيان العذاب؛ وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه، وبعد بيانه فحيث ذكر قبل بيان العذاب فللبيان، كقول العارف حكاية لغير العارف: هل تعلم كيف كان أمر فلان؟ وغرضه أن يقول: أخبرني عنه وحيث ذكرها بعد بيان العذاب ذكرها للتعظيم؛ كقول فلان: أي ضرب وأيما ضرب، ويقول: ضربته وكيف ضربته؟ أي قوياً وفي حكاية عاد ذكرها مرتين: للبيان والاستفهام.
ثانيها: أنه تعالى ذكر في حكاية نوح عليه السلام الذي للتعظيم وفي حكاية ثمود ذكر الذي للبيان؛ لأنّ عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام وهو الطوفان الذي عمّ العالم ولا كذلك عذاب قوم هود فإنه كان مختصاً بهم.
ثالثها: أنه تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص، وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتم وجه، لأنّ حال صالح عليه السلام كان أتمّ مشابهة بحال محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أتى بأمر عجيب أرضى، وكان أعجب مما جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنّ عيسى عليه السلام أحيى الميت، لكن الميت كان محلا للحياة، فقامت الحياة بإذن الله تعالى في محل كان قابلاً لها، وموسى عليه السلام انقلبت عصاه ثعباناً، فأثبت الله تعالى له في الخشب الحياة بإذنه سبحانه، لكن الخشبة نبات كان له قوة في النمو، فأشبه الحيوان في النمّو، وصالح عليه السلام كان الظاهر في بدء خروج الناقة من الحجر، والحجر جماد ليس محلاً للحياة، ولا محلاً للنمو، ونبينا صلى الله عليه وسلم أتى بأعجب من الكل، وهو المتصرّف في الجرم السماوي الذي يقول المشرك لا وصول لأحد إلى السماء، وأمّا الأرضيات فقالوا: إنها أجسام مشتركة المواد تقبل كل واحدة منها صورة الأخرى، والسماويات لا تقبل ذلك فلما أتى بما اعترفوا بأنه لا يقدر على مثله آدمي كان أتمّ وأبلغ من معجزة صالح عليه السلام التي هي أتم من معجزة سائر الأنبياء غير محمد صلى الله عليه وسلم
{ولقد يسرنا} أي: على مالنا من العظمة(4/150)
{القرآن} أي: الكتاب الجامع لكل خير الفارق بين كل ملبس، {للذكر} أي: الحفظ، والتذكر، والتدبر وحصول الشرف في الدارين؛ {فهل من مدّكر} أي: من ناظر بعين الإنصاف، والتجرّد عن الهوى ليرى كل ما أخبرنا به فيعينه عليه.
ولما انقضت قصة ثمود بما تعرفه العرب بالأخبار، ورؤية الآثار، فقال تعالى:
{كذبت قوم لوط} أي: وهم في قوة عظيمة على ما يحاولونه، وإن كانوا في تكذيبهم هذا أضعف من عقول النساء عن التجرد عن الهوى بما دلّ عليه تأنيث الفعل بالتاء، وكذا ما قبلها من القصص {بالنذر} أي: بالأمور المنذرة لهم على لسان نبيهم لوط عليه السلام.
ودلّ على تناهي القباحة في مرتكبهم بتقديم الأخبار عن عذابهم، فقال تعالى مؤكداً توعداً لمن استمرّ على التكذيب {إنا} أي: بما لنا من العظمة {أرسلنا عليهم حاصباً} أي: ريحاً شديدة ترميهم بالحصباء، وهي صغار الحجارة الواحد دون ملء الكف فهلكوا {إلا آل لوط} وهم من آمن به، فكان إذا رأيته فكأنك رأيت لوطاً عليه السلام لما يلوح عليه من أفعاله، والمشي على منواله في أقواله وأفعاله {نجيناهم} أي: تنجية عظيمة {بسحر} أي: بآخر ليلة من الليالي، وهي الليلة التي عذب فيها قومه، «وانصرف» لأنه نكرة لأنا لا نعرف تلك الليلة بعينها، ولو قصد به وقت بعينه لمنع الصرف للتعريف، والعدل عن أل هذا هو المشهور، وزعم صدر الأفاضل: أنه مبني على الفتح كأمس مبنياً على الكسر.
تنبيه: قال الجلال المحلي: وهل أرسل الحاصب على آل لوط أو لا: قولان؛ وعبر عن الاستثناء على الأوّل بأنه متصل، وعلى الثاني بأنه منقطع، وإن كان من الجنس تسمحاً.
وقوله تعالى: {نعمة} أما مفعول له؛ وإمّا مصدر بفعل من لفظها أو من معنى نجيناهم لأن تنجيتهم، إنعام فالتأويل: إمّا في العامل، وإمّا في المصدر. وقوله تعالى: {من عندنا} متعلق بنعمة، أو بمحذوف صفة لها. {كذلك} أي: مثل هذا الإنجاء العظيم الذي جعلناه جزاء لهم {نجزي من شكر} أي: من آمن بالله تعالى، وأطاعه قال بعض المفسرين: وهو وعد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنه يصونهم عن الهلاك العام؛ وقال الرازي: ويمكن أن يقال: هو وعد لهؤلاء بالثواب يوم القيامة كما أنجاهم في الدنيا من العذاب، لقوله تعالى: {ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين} (آل عمران: 145)
وقال مقاتل: من وحد الله تعالى لم يعذبه مع المشركين.
{ولقد أنذرهم} أي: رسولنا لوط عليه السلام {بطشتنا} أي: أخذتنا المقرونة من الشدّة بما لنا من العظمة، وهي العذاب الذي نزل بهم، وقيل: هي عذاب الآخرة لقوله تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى} (الدخان: 16)
{فتماروا} أي تجادلوا وكذبوا {بالنذر} أي بإنذاره فكان سبباً للأخذ.
{ولقد راودوه عن ضيفه} أي أرادوا أن يخلي بينهم وبين القوم الذين أتوه في صورة الأضياف، ليخبثوا بهم، وكانوا ملائكة في صورة شباب مرد؛ وأفرد لأنّ المراد الجنس {فطمسنا} أي: فتسبب عن مراودتهم أن طمسنا بعظمتنا {أعينهم} أي: أعميناها، وجعلناها بلاشق كباقي الوجه بأن صفقها جبريل عليه السلام بجناحه؛ وقال الضحاك: بل أعماهم الله تعالى فلم يروا الرسل وقالوا: لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا فرجعوا فلم يروهم؛ وهذا قول ابن عباس وروي أنهم صارت أعينهم مع وجوههم كالصفيحة الواحدة؛ وقال(4/151)
القشيري: مسح بجناحه على وجوههم فعموا، ولم يهتدوا للخروج.
قال ابن جرير: والعرب تقول: طمست الريح الأعلام إذا دفنتها بما تسفي عليها، فانطلقوا هاربين مسرعين إلى الباب لا يهتدون إليه ولا يقعون عليه، بل يصادمون الجدران خوفاً مما هو أعظم من ذلك، وهم يقولون عند ذلك لوط سحر الناس، وما أدّتهم عقولهم إلى أن يؤمنوا فينجوا أنفسهم.
قال القشيري: وكذلك أجرى الله تعالى سنته في أوليائه بأن يطمس على قلوب أعدائهم حتى يلتبس عليهم كيف يؤذون أولياءه ويخلصهم من كيدهم. وقوله تعالى: {فذوقوا عذابي ونذر} أي: إنذاري وتخويفي، خطاب لهم أي: قلنا لهم على لسان الملائكة فذوقوا، فهو خطاب مع كل مكذب أي: إن كنتم تكذبون فذوقوا. قال القرطبي: والمراد من هذا الأمر الخبر أي: فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط عليه السلام.
فإن قيل: النذر كيف تذاق؟ أجيب بأنّ المراد ثمرته وفائدته.
فإن قيل: إذا كان المراد بقوله تعالى: {عذابي} هو العذاب العاجل وبقوله تعالى: {ونذر} هو العذاب الآجل: فهما لم يكونا في زمان واحد، فكيف قال تعالى: {فذوقوا} ؟ أجيب: بأنّ العذاب الآجل أوّله متصل بآخر العذاب العاجل فهما كالواقع في زمان واحد، وهو قوله تعالى: {أغرقوا فأدخلوا ناراً} (نوح: 25)
{ولقد صبحهم} أي: أتاهم وقت الصباح؛ وقرأ نافع، وابن كثير، وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال عند الصاد؛ والباقون: بلا إظهار؛ وحقق المعنى بقوله تعالى: {بكرة} أي في أوّل نهار العذاب؛ وانصرف بكرة لأنه نكرة؛ ولو قصد به وقت بعينه امتنع الصرف للتأنيث والتعريف؛ {عذاب} أي: فقلع بلادهم ورفعها؛ ثم قلبها وحصبها بحجارة النار وخسفها وغمرها بالماء المنتن الذي لا يعيش به حيوان؛ {مستقر} أي ثابت عليهم غير زائل ليس بخيال ولا سحر كما قالوا عند الطمس، فإنه أهلكهم فاتصل بعذاب البرزخ المتصل بعذاب القيامة المتصل بالعذاب الأكبر في الطبقة التي تناسب أعمالهم من عذاب النار.
فقال لهم لسان الحال إن لم ينطق لسان المقال: {فذوقوا} أي: بسبب أفعالكم الخبيثة {عذابي ونذر} .
تنبيه: قد علم من تكرير هذا أن سبب العذاب التكذيب بالإنذار لأي رسول كان، وكان استئناف كل قصة منبهاً على أنها أهل على حدتها لأن يتعظ بها.
{ولقد يسرنا} أي: على مالنا من العظمة {القرآن} أي: الجامع الفارق بين الحق والباطل؛ ولو شئنا لأعليناه بما لنا من القدرة إلى حد تعجز القوى عن فهمه، كما أعليناه إلى رتبة وقفت القوى عن معارضته {للذكر فهل من مدكر} أي: فيخلص نفسه من مثل هذا الذي أوقع فيه هؤلاء أنفسهم ظناً منهم أن الأمر لا يصل إلى ما وصل إليه جهلاً منهم، وعدم اكتراث بالعواقب.
ولما انقضت قصة لوط عليه السلام أتبعها قصة موسى عليه السلام لأنها بعد قوم لوط؛ بقوله تعالى:
{ولقد جاء آل فرعون} أي: فرعون ملك القبط بمصر؛ وقومه الذين إذا رآهم أحد كان كأنه فيهم لشدّة قربهم منه، وتخلقهم بأخلاقه {النذر} أي الإنذار على لسان موسى وهرون عليهما السلام؛ فلم يؤمنوا بل {كذبوا} أي: تكذيباً عظيماً مستهزئين {بآياتنا} التي أتاهم بها موسى عليه السلام {كلها} أي: التسع التي أوتيها وهي: العصا، واليد، والسنين، والطمس، والطوفان، والجراد، والقمل،(4/152)
والضفادع، والدم.
فإن قيل كيف قال: {ولقد جاء} ولم يقل في غيره جاء؟ أجيب: بأنّ موسى عليه السلام لما جاء كان غائباً عن القوم، فقدم عليهم كما قال تعالى: {فلما جاء آل لوط المرسلون} (الحجر: 61)
وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} لأنه جاءهم من عند الله من السموات بعد المعراج، كما جاء موسى قومه من الطور؛ والنذر: الرسل ولقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى عليه السلام، وقيل: النذر: الإنذارات
تنبيه: ههنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ أبو عمرو وقالون: بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر؛ وسهل ورش وقنبل الهمزة الثانية؛ ولهما أيضاً إبدالها ألفاً وورش على أصله في الهمزة المسهلة؛ ومدّ بعد الجيم حمزة وابن ذكوان، والباقون بالفتح؛ وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر؛ {فأخذناهم} أي: بما لنا من العظمة بنحو ما أخذنا به قوم نوح من الإغراق {أخذ عزيز} أي: لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء {مقتدر} أي: لا يعجل بالأخذ لأنه لا يخاف الفوت ولا يخشى معقباً لحكمه بالغ القدرة إلى حد لا يدرك الوصف كنهه.
ثم خوّف كفار مكة فقال تعالى: {أكفاركم} أي: الراسخون منكم يا أهل مكة في الكفر الثابتون عليه، يا أيها المكذبون، لهذا النبيّ الكريم الساترون لشموس دينه {خير} في الدنيا بالقوة والكثرة، أو في الدين عند الله أو عند الناس {من أولئكم} أي: المذكورين من قوم نوح إلى فرعون الذين وعظناكم بهم في هذه السورة؟ وهذا استفهام بمعنى الإنكار أي ليسوا بأقوى منهم فمعناه نفي أي ليس كفاركم خيراً من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم.
تنبيه: قوله تعالى: {خير} مع أنّه لا خير فيهم إما أن يكون كقول حسان:
*فشر كما لخير كما الفداء*
أو هو بحسب زعمهم واعتقادهم؛ أو المراد بالخير شدّة القوّة؛ أو لأنّ كل ممكن فلا بدّ وأن يكون له صفات محمودة، فالمراد تلك الصفات {أم لكم} أي: يا أهل مكة {براءة في الزبر} أي: أنزل إليكم من الكتب السماوية أنّ من كفر منكم فهو في أمان من عذاب الله تعالى والاستفهام هنا أيضاً بمعنى النفي أي ليس الأمر كذلك.
{أم يقولون} أي: كفار قريش {نحن جميع} أي جمع واحد مبالغ في اجتماعه فهو في الغاية من الضم فلا افتراق له {منتصر} أي على كل من يعاديه، لأنهم على قلب رجل واحد ولم يقل منتصرون لموافقة رؤوس الآي.
ولما قال أبو جهل يوم بدر: إنا جميع منتصر نزل {سيهزم الجمع} بأيسر أمر بوعد لا خلف فيه. وقال مقاتل: ضرب أبو جهل يوم بدر فرسه فتقدم من الصف وقال: نحن ننتصر اليوم على محمد وأصحابه فأنزل الله تعالى: {أم يقولون نحن جميع منتصر} وقال سعيد بن المسيب: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما نزلت {سيهزم الجمع ويولون الدبر} ، كنت لا أدري أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في درعه ويقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} فهزموا ببدر ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل الأدبار لموافقة رؤوس الآي.
{بل الساعة} أي: القيامة التي يكون فيها الجمع الأكبر والهول الأعظم {موعدهم} أي: للعذاب {والساعة أدهى} أي من كل ما يفرض وقوعه في الدنيا وأدهى أفعل تفضيل من الداهية، وهي أمر هائل لا يهتدي لدوائه فهي أمر عظيم؛ يقال: دهاه أمر كذا أي أصابه دهواً ودهياً؛(4/153)
وقال ابن السكيت دهته داهية دهواء ودهياء وهي توكيد لها وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح {وأمر} لأنّ عذابها للكفار غير مفارق ولا مزايل فهي أعظم نائبة وأشد مرارة من الأسر والقتل يوم بدر وفي رواية: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يثب في درعه ويقول: اللهمّ إن قريشاً جادلتك وتجاهر رسولك بفخرها بخيلها فأخنهم الغداة. يقال: أخنى عليه الدهر أي غلبه وأهلكه ومنه قول النابغة:
*أخني عليها الذي أخنى على لبد*
وأخنيت عليه أفسدت ثم قال: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} قال عمر: فعرفت تأويلها وهذا من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّه أخبر عن غيب فكان كما أخبر؛ قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين. فالآية على هذا مكية وفي البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: «لقد أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب» {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} وعن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «وهو في قبة له يوم بدر أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا، فأخذ أبو بكر بيده وقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك وهو في الدرع فخرج وهو يقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم} يريد يوم القيامة {والساعة أدهى وأمر} مما لحقهم يوم بدر» .
{إن المجرمين} أي: المشركين القاطعين لما أمر الله تعالى أن يوصل {في ضلال} أي: هلاك بالقتل في الدنيا {وسعر} أي: نار مسعرة أي مهيجة في الآخرة وقيل: {في ضلال} أي: عمى عن القصد بالبعث وسعر. قال الضحاك أي: نار تسعر عليهم وقيل ضلال ذهاب عن طريق الجنة في الآخرة، وسعر جمع سعير نار مسعرة وقال الحسين بن الفضل: إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونار في الآخرة. وقال قتادة: في عناء وعذاب.
ثم بين عذابهم في الآخرة بقوله تعالى: {يوم يسحبون} أي: في القيامة إهانة لهم من أي ساحب كان {في النار} أي الكاملة النارية {على وجوههم} لأنهم في غاية الذل والهوان جزاء بما كانوا يذلون أولياء الله تعالى مقولاً لهم من أي قائل اتفق {ذوقوا} لأنه لا منعة لهم ولا حمية بوجه {مَسَّ سقر} أي: حرّ النار وألمها فإن مسها سبب للتألم بها، وسقر علم لجهنم مشتقة من سقرته الشمس أو النار أي لوحته ويقال: صقرته بالصاد وهي مبدلة من السين قال ذو الرمة:
*إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها ... يا فنان مربوع الصريمة معبل*
وعدم صرفها للتعريف والتأنيث. وقال بعض المفسرين: إنّ هذه الآية نزلت في القدرية لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «مجوس هذه الأمة القدرية» وهم المجرمون الذين سماهم الله تعالى في قوله سبحانه {إنّ المجرمين في ضلال وسعر} وفي مسلم عن أبي هريرة قال: «جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت هذه الآية إلى آخرها» قال الرازي: والقدري هو الذي ينكر القدر وينسب الحوادث لاتصالات الكواكب لما مرّ أنّ قريشاً خاصموا النبيّ صلى الله عليه وسلم في القدر، ومذهبهم أن الله تعالى مكن العبد من الطاعة والمعصية وهو قادر على خلق ذلك في العبد وقادر على أن يطعم الفقير ولهذا قالوا: أنطعم من لو(4/154)
يشاء الله أطعمه منكرين لقدرته تعالى على الإطعام.
وقوله صلى الله عليه وسلم «القدرية مجوس هذه الأمة» إن أريد بالأمة المرسل إليهم مطلقاً كالقوم فالقدرية في زمانه صلى الله عليه وسلم هم المشركون المنكرون قدرته على الحوادث فلا يدخل فيهم المعتزلة؛ وإن كان المراد بالأمة من آمن به صلى الله عليه وسلم فمعناه أن نسبة القدرية إليهم كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة؛ فإنّ المجوس أضعف الكفرة المتقدّمين شبهة وأشدّ مخالفة للعقل وكذا القدرية في هذه الأمة؛ وكونهم كذلك لا يقتضي الجزم بكونهم في النار فالحق أنّ القدري: هو الذي ينكر قدرة الله تعالى وقد ردّ عليهم بالكتاب والسنة.
أما من الكتاب فقوله تعالى:
{إنا} أي: بمالنا من العظمة {كل شيء} من الأشياء المخلوقة صغيرها وكبيرها {خلقناه بقدر} أي: قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة وقوّة بالغة وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب ذلك في اللوح قبل وقوعه.
وأمّا من السنة: فما روى عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف عام قال وعرشه على الماء. وعن طاووس اليماني قال: أدركت ما شاء الله تعالى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون كل شيء بقدر الله تعالى؛ قال: وسمعت من عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز» وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن بالله عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله: بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، والبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر؛ وزاد عبد الله خيره وشره» .
تنبيه: {كل شيء} منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر، ولما بين سبحانه وتعالى أنّ كل شيء بفعله بيّن يسر ذلك وسهولته عليه بقوله تعالى: {وما أمرنا} في كل شيء أردناه وإن عظم أمره {إلا واحدة} أي: فعلة يسيرة لا معالجة فيها وليس هناك أحداث قول لأنه قديم بل تعلق القدرة بالمقدور على وفق الإرادة الأزلية؛ وقيل إلا كلمة واحدة وهي قوله تعالى {كن} كما قال تعالى: {إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40)
ثم مثل لنا ذلك بأسرع ما نعقله وأخفه بقوله تعالى: {كلمح بالبصر} واللمح النظر بالعجلة وفي الصحاح لمحة وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف أي فكما أن لمح أحدكم بصره لا كلفة عليه فيه فكذلك الأفعال كلها عندنا بل أيسر؛ وعن ابن عباس معناه: وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلا كطرف البصر.
{ولقد أهلكنا} أي: بما لنا من العظمة {أشياعكم} أي: أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السابقة والقدرة عليكم كالقدرة عليهم فاحذروا أن يصيبكم ما أصابهم ولذلك سبب عنه قوله تعالى: {فهل من مدكر} أي بما وقع لهم أنه مثل من مضى بل أضعف وأنّ قدرته تعالى عليه كقدرته تعالى عليهم ليرجع عن غيه خوفاً من سطوته والاستفهام بمعنى الأمر أي ادكروا واتعظوا.
{وكل شيء فعلوه} قال الجلال المحلي: أي: العباد. وقال أكثر المفسرين: أي: الأشياع لأنه هو المتقدم ذكره {في الزبر} أي مكتوب في دواوين الحفظة. وقيل: في اللوح المحفوظ. وقيل: في أم الكتاب فلتحذروا من أفعالهم فإنها غير منسية هذا ما أطبق(4/155)
عليه القراء بما أدى إلى هذا المعنى من رفع كل لأنه لو نصب لأوهم تعلق الجار بالفعل فيوهم أنهم فعلوا في الزبر كل شيء من الأشياء وهو فاسد.
{وكل صغير وكبير} أي: من الخلق وأعمالهم وآجالهم {مستطر} أي: مكتوب في اللوح المحفوظ.
ولما وصف الكفار وصف المؤمنين مؤكداً رداً على المنكر فقال عز من قائل: {إنّ المتقين} أي: العريقين في وصف الخوف من الله الذي وفقهم لطاعته {في جنات} أي: خلال بساتين ذات أشجار تستر داخلها وقوله تعالى: {ونهر} أريد به الجنس: لأن فيها أنهاراً من ماء وعسل ولبن وخمر؛ أفرده لموافقة رؤوس الآي ولشدة اتصال بعضها ببعض فكأنها شيء واحد. والمعنى: أنهم يشربون من أنهارها وقيل: هو السعة والصفاء من النهار.
وكما جعل للمتقين في تلك الدار ذلك جعل لهم في هذه الدار أيضاً جنات العلوم وأنهار المعارف ولهذا كانوا {في مقعد صدق} أي حق لا لغو فيه ولا تأثيم، ولم يقل في مجلس صدق، لأنّ القعود جلوس فيه مكث ومنه قواعد البيت والقواعد من النساء ولذا قال: {عند مليك} أي: ملك تام الملك {مقتدر} أي: قادر لا يعجزه شيء وهو الله تعالى. وعند إشارة للرتبة والكرامة والمنزلة من فضله تعالى، جعلنا الله تعالى ومحبينا منهم.
وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة القمر في كل غبّ ـ أي يقرأ يوماً ويترك يوماً ـ بعثه الله تعالى يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر» . حديث موضوع.
سورة الرحمن
وتسمى عروس القرآن
لأنها مجمع النعم والجمال والبهجة في نوعها والكمال مكية كلها في قول الحسن وعروة وابن الزبير وعطاء وجابر؛ وقال ابن عباس: إلا آية منها وهي: قوله تعالى: {يسأله من في السموات والأرض} (الرحمن: 29)
الآية وقال ابن مسعود ومقاتل: هي مدنية كلها قال ابن عادل: والأوّل أصح لما روى عروة بن الزبير قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، وذلك أن الصحابة قالوا: ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط فمن رجل يسمعهموه، فقال ابن مسعود: أنا فقالوا نخشى عليك وإنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه، فأبى ثم قام عند المقام فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {الرحمن علم القرآن} ثم تمادى بها رافعاً صوته وقريش في أنديتها فتأملوا وقالوا: ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا: هو يقول الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه، وصح أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم «قام يصلي الصبح بنخلة فقرأ بسورة الرحمن، ومرّ النفر من الجن فآمنوا به» وهي سبع وثمانون آية وثلاثمائة، وإحدى وخمسون كلمة وألف وستمائة وستة وثلاثون حرفاً.
{بسم الله} الذي ظهرت إحاطة كماله بما ظهر من عجائب مخلوقاته؛ {الرحمن} الذي ظهر عموم رحمته بما بهر من بدائع مصنوعاته؛ {الرحيم} الذي ظهر اختصاصه لأهل طاعته بما تحققوا من الذلّ المفيد للعز بلزوم عباداته.
ولما كانت هذه السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والأخروية صدرها بقوله تعالى:
{علم} أي: من شاء {القرآن} وقدم من نعمه الدينية ما هو أعلى مراتبها وأقصى مراقبها وهو إنعامه تعالى بالقرآن العظيم، وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم(4/156)
وحي الله تعالى رتبة، وأعلاها منزلة، وأحسنه في أبواب الدين أثراً؛ وهو سنام الكتب السماوية، ومصداقها والعيار عليها.
تنبيه: أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها؛ لأنّ آخر تلك مليك مقتدر، وأوّل هذه أنه رحمن. قال سعيد بن جبير وعامر والشعبي: الرحمن: فاتحة ثلاث سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى الر، وحم، ون، فيكون مجموع هذه الرحمن.l
ولله تبارك وتعالى رحمتان: رحمة سابقة بها خلق الخلق؛ ورحمة لاحقة بها أعطاهم الرزق والمنافع، فهو رحمن باعتبار السابقة، رحيم باعتبار اللاحقة، ولما اختص بالإيجاد لم يقل لغيره رحمن ولما خلق بعض خلقه الصالحين ببعض أخلاقه بحسب الطاقة البشرية فأطعم ونفع جاز أن يقال له: رحيم.
وفي إعراب الرحمن ثلاثة أوجه: أحدها: أنه خبر مبتدأ مضمر أي الله الرحمن الثاني: أنه مبتدأ وخبره مضمر أي الرحمن ربنا. الثالث: أنه مبتدأ خبره علم القرآن؛ فإن قيل: كيف يجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} (آل عمران: 7)
أجيب بأنا أن قلنا بعطف الراسخين على الله فهو ظاهر، وإن قلنا بالوقف على الله ويبتدأ بقوله تعالى: {والراسخون} (آل عمران: 7)
فلأن من علم كتاباً عظيماً فيه مواضع مشكلة قليلة وتأمّلها بقدر الإمكان فإنه يقال فلان يعلم الكتاب الفلاني، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين في تلك المواضع القليلة، وكذا القول في تعليم القرآن، أو يقال المراد لا يعلمه من تلقاء نفسه بخلاف الكتب التي تستخرج بقوة الذكاء والفكر.
واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال أكثر المفسرين: نزلت حين قالوا: وما الرحمن، وقيل: نزلت جواباً لأهل مكة حين قالوا: إنما يعلمه بشر وهو رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب؛ فأنزل الله تعالى: {الرحمن علم القرآن} أي: سهله ليذكر ويقرأ، كما قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} (القمر: 17)
ولما كان كأنه قيل كيف يعلمه وهو صفة من صفاته، ولمن علمه قال تعالى مستأنفاً أو معللاً {خلق الإنسان} أي: الجنس بأن قدره وأوجده على هذا الشكل المعروف والتركيب الموصوف منفصلاً عن جميع الجمادات، وأصله منها ثم عن سائر الناميات، ثم عن غيره من الحيوانات، وخلقه له دليل على خلقه لكل شيء موجود {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (القمر: 49)
وقيل علم القرآن جعله علامة.
وآية {علمه البيان} أي القوّة الناطقة وهي الإدراك للأمور الكلية والجزئية، والحكم على الحاضر والغائب بقياسه على الحاضر، وغير ذلك مما أودعه له سبحانه مع تعبيره عما أدركه مما هو غائب في ضميره وإفهامه لغيره: تارة بالقول وتارة بالفعل، نطقاً وكتابة وإشارة وغيرها، فصار بذلك ذا قدرة في نفسه والتكميل لغيره فهذا تعليم البيان الذي مكن من تعليم القرآن، وقال ابن عباس وقتادة والحسن: يعني آدم عليه السلام علم أسماء كل شيء، وقيل: علمه اللغات كلها وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية، وعن ابن عباس أيضاً وابن كيسان: المراد بالإنسان ههنا محمد صلى الله عليه وسلم والمراد من البيان: الحلال والحرام والهدى من الضلال، وقيل: ما كان وما يكون لأنه بين عن الأولين والآخرين، وعن يوم الدين، وقال الضحاك: البيان: الخير والشرّ، وقال الربيع بن أنس: هو ما ينفعه وما يضره. وقال السدي: علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقيل: بيان الكتابة والخط بالقلم نظيره قوله تعالى: {علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} .(4/157)
فإن قيل: لِمَ قدّم تعليم القرآن للإنسان على خلقه وهو متأخر عنه في الوجود؟ أجيب: بأنّ التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه.
فإن قيل: كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن؟ أجيب: بأنّ في ذلك إشارة إلى أن النعمة في التعميم لا في تعليم شخص دون شخص، وبأنّ المراد من قوله تعالى: {علمه البيان} : تعديد النعم على الإنسان واستدعاء الشكر منه؛ ولم يذكر الملائكة لأنّ المقصود ذكر ما يرجع إلى الإنسان. وقيل: تقديره علم جبريل القرآن وقيل علم محمداً صلى الله عليه وسلم وقيل علم الإنسان وهذا أولى لعمومه.
تنبيه هذه الجمل من قوله تعالى: {علم القرآن} إلى هنا جيء بها من غير عاطف لأنها سيقت لتعديد نعمه؛ كقولك: فلان أحسن إلى فلان أكرمه أشاد ذكره رفع قدره؛ فلشدّة الوصل ترك العاطف؛ وهي أخبار مترادفة للرّحمن.
ولما ذكر تعالى خلق الإنسان وإنعامه عليه بتعليمه البيان ذكر نعمتين عظيمتين بقوله تعالى: {الشمس} وهي آية النهار {والقمر} وهي آية الليل {بحسبان} فإنهما على قانون واحد وحساب لا يتغيران وبذلك تتم منفعتهما للزراعات وغيرها ولولا الشمس والقمر لفات كثير من المنافع الظاهرة بخلاف غيرهما من الكواكب فإنّ نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ظهور نعمتهما، وإنهما بحسبان لا يتغير أبدا، ولو كان سيرهما غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزراعات في أوقاتها ومعرفة فصول السنة، والمعنى يجريان بحسبان معلوم فأضمر الخبر. قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك: يجريان بحسبان في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال أبو زيد وابن كيسان بهما تحسب الأوقات والأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً إن كان الدهر كله ليلاً أو نهاراً. وقال السدي: بحسبان تقدير آجالهما أي: يجريان بآجال كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا نظيره {كل يجري إلى أجل مسمى} (لقمان: 29)
{والنجم} أي: النبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له كالبقول {والشجر} أي: الذي له ساق كشجر الرمان وتقدم الجواب عن قوله تعالى: {وأنبتنا عليه شجرة من يقطين} (الصافات: 146)
في سورة الصافات {يسجدان} أي: ينقادان لله تعالى فيما يريده طبعاً انقياد الساجد من المكلفين طوعاً وقال الضحاك سجودهما سجود ظلالهما. وقال الفراء سجودهما أنهما يستقبلان إذا طلعت الشمس ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء، وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما كما قال تعالى: {يتفيؤوا ظلاله} (النحل: 48)
وقال الحسن ومجاهد: النجم نجم السماء وسجوده في قول مجاهد دوران ظله؛ وقيل: سجود النجم أفوله وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمارها حكاه الماوردي.
وقال النحاس: أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل فهو من الموات كلها استسلامها لأمر الله عز وجل وانقيادها له، ومن الحيوان كذلك.
فإن قيل: كيف اتصلت هاتان الجملتان بالرحمن؟ أجيب بأنه استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أنّ الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره كأنه قيل الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له.
فإن قيل: أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟ أجيب: بأنّ الشمس والقمر سماويان والنجم والشجر أرضيان فبين القبيلين تناسب من(4/158)
حيث التقابل، فإن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وأنَّ جرى الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله تعالى فهو مناسب لسجود النجم والشجر.
{والسماء} أي: ورفع السماء ثم فسر ناصبها فيكون كالمذكور مرتين إشارة إلى عظيم تدبيره لشدّة ما فيها من الحكم فقال تعالى: {رفعها} أي حسا قال البقاعي: بعدما كانت ملتصقة بالأرض ففتقها وأعلاها عنها؛ وقال الزمخشري وتبعه البيضاوي: خلقها مرفوعة؛ قال البيضاوي: محلاً ورتبه، وقال الزمخشري: حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومتنزل أوامره ونواهيه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه، ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه.
{ووضع الميزان} أي: العدل الذي دبر به الخافقين من الموازنة وهي المعادلة لتنتظم أمورنا كما قال صلى الله عليه وسلم «بالعدل قامت السموات والأرض» وقال السدي: وضع في الأرض العدل الذي أمر به يقال وضع الله الشريعة ووضع فلان كذا أي: ألفه. وقيل على هذا الميزان القرآن لأنّ فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل، وقال الحسن وقتادة والضحاك هو الميزان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل يدل عليه قوله تعالى: {وأقيموا الوزن بالقسط} (الرحمن: 9)
والقسط هو العدل؛ وقيل هو الحكم، وقيل المراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال.
{أن} أي: لأجل أن {لا تطغوا} أي: تتجاوزوا الحدود {في الميزان} فمن قال: الميزان العدل قال: طغيانه الجور؛ ومن قال: إنه الميزان الذي يوزن به قال: طغيانه البخس قال ابن عباس: لا تخونوا من وزنتم له. وعنه أنه قال: يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس المكيال والميزان ومن قال: إنه الحكم قال: طغيانه التحريف. وقيل فيه إضمار أي: وضع الميزان وأمركم أن لا تطغوا فيه.
فإن قيل: إذا كان المراد به ما يوزن به فأيّ نعمة عظيمة فيه حتى يعدّ في الآلاء؟ أجيب: بأنّ النفوس تأبى الغبن ولا يرضى أحد أن يغلبه غيره ولو في الشيء اليسير، ويرى أنّ ذلك استهانة به فلا يترك خصمه يغلبه فوضع الله تعالى معياراً بيّن به التساوي ولا تقع به البغضاء بين الناس وهو الميزان، وهو كل ما توزن به الأشياء بين الناس، ويعرف مقاديرها به من ميزان ومكيال ومقياس، فهو نعمة كاملة ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته وكثرته وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء اللذين لا يتبين فضلهما إلا عند فقدهما.
{وأقيموا الوزن بالقسط} أي: افعلوه مستقيماً بالعدل. وقال أبو الدرداء: أقيموا لسان الميزان بالعدل. وقال ابن عيينة: الإقامة باليد والقسط بالقلب وقال مجاهد: القسط العدل بالرومية {ولا تخسروا الميزان} أي: لا تنقصوا الموزون، أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان؛ وكرّر لفظ الميزان تشديداً للتوصية وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه؛ وقيل: كرّره لمحال رؤوس الآي، وقيل كرّره ثلاث مرات: الأول: بمعنى الآلة وهو قوله تعالى: {ووضع الميزان} والثاني: بمعنى المصدر أي لا تطغوا في الوزن. والثالث: للمفعول أي لا تخسروا الموزون. قال ابن عادل: وبين القرآن والميزان مناسبة، فإنّ القرآن فيه العلم الذي لا يوجد في غيره من الكتب والميزان به يقام العدل الذي لا يقام بغيره من(4/159)
الآلات.
ولما ذكر إنعامه الدال على اقتداره برفع السماء، ذكر على ذلك الوجه مقابلها بعد أن وسط بينهما ما قامتا به من العدل تنبيهاً على شدّة العناية والاهتمام به فقال تعالى: {والأرض} أي: ووضع الأرض ثم فسر ناصبها كما فعل في قوله تعالى: {والسماء رفعها} فقال تعالى: {وضعها} أي: دحاها وبسطها على الماء {للأنام} أي: كل من فيه قابلية النوم أو قابلية الونيم وهو الصوت. وقيل: هو الحيوان وقيل: بنو آدم خاصة. وهو مروي عن ابن عباس ونقل النووي في التهذيب عن الزبيدي الأنام الخلق قال: ويجوز الأنيم وقال: الواحدي قال الليث: الأنام ما على ظهر الأرض من جميع الخلق. وقال: الحسن هم الأنس والجن.
{فيها} أي: الأرض {فاكهة} أي: ما يتفكه به الإنسان من ألوان الثمار ونكرها لأنّ الانتفاع بها دون الانتفاع بما ذكر بعدها فهو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، إذ التنكير فيها للتعظيم والتكثير، نبه عليه بتعريف فرع منها ونوه به لأنّ فيه مع التفكه التقوت وهو أكثر ثمار العرب المقصودين بهذا الذكر بالقصد الأوّل فقال تعالى: {والنخل} ودل على تمام القدرة بقول تعالى: {ذات} أي: صاحبة {الأكمام} أي: أوعية ثمرها وهو الطلع قبل أن ينفتق بالثمر، والأكمام جمع كم بالكسر قال الجوهري: والكم بالكسر والكمامة وعاء الطلع وغطاء النور والجمع كمام وأكمة وإكمام والكمامة ما يكم به فم البعير لئلا يعض؛ وكم القميص بالضم والجمع أكمام وكممه والكمة القلنسوة المدوّرة لأنها تغطي الرأس.
{والحب} أي: جميع الحبوب التي يقتات بها كالحنطة والشعير {ذو العصف} قال ابن عباس: تبن الزرع وورقه الذي يعصفه الريح، وقال مجاهد: ورق الشجر والزرع، وقال سعيد بن جبير: بقل الزرع الذي أوّل ما ينبت منه وهو قول الفراء. والعرب تقول: خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك وقيل: العصف حطام النبات. {والريحان} وهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الرزق قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: هو الرزق بلغة حمير، كقولهم: سبحان الله وريحانه نصبوهما على المصدر يريدون تنزيهاً له واسترزاقاً. وعن ابن عباس أيضاً والضحاك وقتادة: أنه الريحان الذي يشم، وهو قول ابن زيد. وقال سعيد بن جبير: هو ما قام على ساق. وقال الفراء: العصف المأكول من الزرع والريحان ما لا يؤكل وقال الكلبي: العصف الورق الذي يؤكل والريحان هو الحب المأكول. وقيل: كل بقلة طيبة الريح سميت ريحاناً، لأنّ الإنسان يراح لها رائحة طيبة أي يشم. وفي الصحاح: والريحان نبت معروف، والريحان الرزق تقول: خرجت أبتغي ريحان الله، وفي الحديث: «الولد من ريحان الله» . وقرأ ابن عامر: بنصب الحب وذا والريحان بخلق مضمر، أي: وخلق الحب وذا العصف والريحان.
وقرأ حمزة والكسائي: برفع الحب وذو عطفا على فاكهة، وجرّ الريحان عطفاً على العصف، والباقون: برفع الثلاثة عطفاً على فاكهة أي وفيها أيضاً هذه الأشياء.
ولما دخل في قوله تعالى: {والأرض وضعها للأنام} الجنّ والأنس خاطبهما بقوله تعالى: {فبأيّ آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن إليكما المدبر لكما الذي لا مدبر ولا سيد لكما غيره {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها؟ وكرر هذه الآية في هذه السورة في أحد وثلاثين(4/160)
موضعاً تقريراً للنعمة، وتأكيداً في التذكير، وفصل بين كل نعمتين بما ينبههم عليها ليفهمهم النعم، ويقرّرهم بها كما تقول لمن تتابع عليه إحسانك وهو يكفره وينكره: ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلاً فحملتك؟ أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا، قال القائل:
*كم نعمة كانت لكم كم كم وكم*
وقال آخر:
*لا تقتلي مسلماً إن كنت مسلمة ... إياك من دمه إياك إياك*
وقال آخر:
*لا تقطعنّ الصديق ما طرفت ... عيناك من قول كاشح أشر*
*ولا تملنّ يوماً زيارته ... زره وزره وزر وزر وزر*
وقال الحسن بن الفضل: التكرير طرد للغفلة، وتأكيد للحجة قال بعض العلماء: والتكرير ههنا كما تقدّم في قوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} (القمر: 17)
وكقوله تعالى: فيما سيأتي {ويل يومئذ للمكذبين} (المرسلات: 15)
وذهب جماعة منهم ابن قتيبة إلى أنّ التكرير لاختلاف النعم، فلذلك كرّر التوقيف مع كل واحدة.
وقال الرازي: وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الالتفات، والمراد به التقرير والزجر وذكر لفظ الرب لأنه يشعر بالرحمة؛ قال: وكرّرت هذه اللفظة في هذه السورة نيفاً وثلاثين مرة: إما للتأكيد، ولا يعقل لخصوص العدد معنى. وقيل: الخطاب مع الأنس والجنّ والنعمة منحصرة في دفع المكروه، وتحصيل المقصود، وأعظم المكروهات: نار جهنم ولها سبعة أبواب، وأعظم المقاصد نعيم الجنة ولها ثمانية أبواب، فالمجموعة خمسة عشر وذلك بالنسبة للإنس والجنّ ثلاثون والزائد لبيان التأكيد. وروى جابر بن عبد الله قال: «قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال ما لي أراكم سكوتاً للجنّ كانوا أحسن منكم ردّاً ما قرأت عليهم هذه الآية من مرّة {فبأيّ آلاء ربكما تكذبان} إلا قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد» وقرأ ورش {فبأيّ آلاء} على أصله بالمدّ، والتوسط، والقصر جميع ما في هذه السورة.
ولما ذكر تعالى خلق العالم الكبير من السماء والأرض، وما فيهما من الدلالات على وحدانيته وقدرته ذكر خلق العالم الصغير فقال تعالى: {خلق الإنسان} أي: آدم عليه السلام {من صلصال} أي: من طين يابس له صلصلة أي صوت إذا نقر {كالفخار} أي كالخزف المصنوع المشوي بالنار، وقيل هو طين خلط برمل؛ وقيل: هو الطين المنتن من صل اللحم وأصل إذا أنتن.
تنبيه: قال تعالى: هنا.
من {صلصال كالفخار} وقال تعالى في الحجر: {من حما مسنون} وقال تعالى في الصافات: {من طين لازب} (الصافات: 11)
وقال تعالى في آل عمران {كمثل آدم خلقه من تراب} (آل عمران: 59)
وكله متفق المعنى وذلك أنه أخذه من تراب الأرض، فعجنه بالماء، فصار طيناً، ثم ترك حتى صار حمأ مسنوناً ثم منتناً ثم صوّره كما يصوّر الإبريق وغيره من الأواني، ثم أيبسه حتى صار في غاية الصلابة فصار كالخزف الذي إذا نقر صوت صوتاً، يعلم منه هل فيه عيب أو لا فالمذكور هنا آخر تخليقه وهو أنسب بالرحمانية وفي غيرها تارة مبدؤه وتارة أثناؤه فالأرض أمّه والماء أبوه ممزوجين بالهواء الحامل للجزء الذي هو من فيح جهنم؛ فمن التراب جسده ونفسه، ومن الماء روحه(4/161)
وعقله، ومن النار غوايته وحدته، ومن الهواء حركته وتقلبه في محامده ومذامه، فالغالب في جبلته التراب، فلهذا نسب إليه، وإن خلق من العناصر الأربع، كما أنّ الجانّ خلق من العناصر الأربع لكن الغالب في جبلته النار فنسب إليها؛ كما قال تعالى: {وخلق الجانّ} أي: أبا الجنّ، وهو إبليس وقيل: هو أبوهم وليس هو بإبليس؛ وقيل: هو اسم جنس كالإنسان {من مارج من نار} وهو لهبها الخالص من الدخان؛ وقال القشيري: هو اللهب المختلط بسواد النار، فالنار أغلب عناصره. وقال الليث: المارج الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد. وعن ابن عباس: أنه اللهب الذي يعلو النار فيختلط بعضه ببعض أحمر وأصفر وأخضر وهو مشاهد في النار ترى الألوان الثلاثة مختلط بعضها ببعض؛ ونحوه عن مجاهد. وقال أبو عبيدة والحسن: المارج المختلط من النار وأصله من مرج إذا اضطرب واختلط قال القرطبي: يروى أنّ الله تعالى خلق نارين فمرج أحداهما بالأخرى فأكلت إحداهما الأخرى وهي نار السموم، فخلق منها إبليس.
تنبيه: {من مارج من نار} مَنْ الأولى لابتداء الغاية؛ وفي الثانية وجهان: أحدهما: أنها للبيان. والثاني: أنها للتبعيض.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} الناشئة عن مبدئكما ومربيكما وسيد كما {تكذبان} أي: مما أفاض عليكما في أطوار خلقتكما حتى صيركما أفضل المركبات وخلاصة الكائنات.
{رب} أي: خالق ومدبر {المشرقين} أي: مشرق الشتاء ومشرق الصيف {ورب المغربين} كذلك.
{فبأي آلاء} أي: نعم ربكما أي الذي دبر لكما هذا التدبير العظيم {تكذبان} أي: بما في ذلك من الفوائد التي لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه إلى غير ذلك.
{مرج} أي: أرسل الرحمن {البحرين} أي: العذب والملح فجعلهما مضطربين من طبعهما الاضطراب حال كونهما {يلتقيان} أي: يتماسان على وجه الأرض بلا فصل بينهما في رؤية العين. وقال ابن عباس: بحر السماء وبحر الأرض. قال سعيد بن جبير: يلتقيان في كل عام. وقيل: يلتقي طرفاهما. وقال الحسن وقتادة: بحر فارس والروم. وقال ابن جريج: البحر المالح والأنهار العذبة. وقيل: بحر المشرق وبحر المغرب. وقيل: بحر اللؤلؤ وبحر المرجان.
{بينهما برزخ} أي حاجز عظيم فعلى القول بأنهما بحر السماء وبحر الأرض فالحاجز الذي بينهما هو ما بين السماء والأرض؛ قاله الضحاك وعلى الأقوال الباقية: قال الحسن وقتادة: هو الأرض. وقال بعضهم هو القدرة الإلهية وهذا أولى.
{لا يبغيان} اختلف فيه. فقال قتادة: لا يبغيان على الناس فيغرقانهم كما طغيا فأهلكا من على الأرض في أيام نوح عليه السلام، فجعل بينهما وبين الناس اليبس، وقال مجاهد وقتادة أيضاً: لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه. وقيل البرزخ ما بين الدنيا والآخرة أي: بينهما مدة قدّرها الله تعالى وهي مدّة الدنيا فهما لا يبغيان فإذا أذن الله تعالى في انقضاء الدنيا صار البحران شيئاً واحداً؛ وهو كقوله تعالى: {وإذا البحار فجرت} (الإنفطار: 3)
وقال سهل بن عبد الله: البحران طريق الخير والشرّ، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة، وقال الرازي: معنى الآية أنّ الله تعالى أرسل بعض البحرين إلى بعض ومن شأنهما الاختلاط، فحجزهما ببرزخ من قدرته فهما لا يبغيان أي لا يتجاوز كل واحد منهما ما حدّه له خالقه(4/162)
لا في الظاهر ولا في الباطن فمتى حفرت على جنب الملح في بعض الأماكن وجدت الماء العذب وإن قربت الحفرة منه؛ قال البقاعي: بل كلما قربت كان أحلى فخلطهما سبحانه في رأي العين وحجز بينهما في غيب القدرة هذا وهما جمادان لا نطق لهما ولا إدراك، فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها المدركون العقلاء؟.
{فبأي آلاء} أي نعم {ربكما} أي الموجد لكما والمربي {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها فهلا اعتبرتم بهذه الأصول من أنواع الموجودات فصدقتم بالآخرة لعلكم تنجون من عذاب الله تعالى.
{يخرج منهما اللؤلؤ} وهو كبار الجوهر {والمرجان} وهو صغار الجوهر، قاله علي وابن عباس والضحاك: وقيل: بالعكس؛ وقيل: المرجان حجر أحمر وقيل: حجر شديد البياض والمرجان أعجمي أي بمخالطة العذب المالح من غير واسطة أو بواسطة السحاب فصار ذلك كالذكر والأنثى، وقال الرازي: فيكون العذب كاللقاح للملح، وقال أبو حيان: قال الجمهور: إنما يخرج من الأجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة فأسند ذلك إليهما، وهذا مشهور عند الغواصين. قال مكي: كما قال: {على رجل من القريتين عظيم} (الزخرف: 31)
أي: من إحدى القريتين وحذف المضاف كثير شائع؛ وقيل: هو كقوله تعالى: {نسيا حوتهما} (الكهف: 61)
وإنما الناسي فتاه، ويعزى لأبي عبيدة؛ قال البغوي: وهذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئان ثم يخص أحدهما بفعل، كقوله تعالى {يا معشر الجنّ والأنس ألم يأتكم رسل منكم} وكانت الرسل من الأنس، وقيل: يخرج من أحدهما اللؤلؤ، ومن الآخر المرجان، وقيل: بل يخرجان منهما جميعاً، وقال ابن عباس: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر والصدف تفتح أفواهها للمطر وقد شاهده الناس فيكون تولده من بحر السماء وبحر الأرض، وهذا قول الطبري.
وقال الزمخشري: فإن قلت لم قال منهما، وإنما يخرجان من الملح؟ قلت: لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرجان منهما كما يقال: يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميع البحر وإنما يخرجان من بعضه؛ وتقول خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله بل من دار واحدة من دوره، وقيل: لايخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب ا. هـ.
وقال بعضهم: كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام بعض الناس، فمن الجائز أنه يسوقهما من البحر العذب إلى الملح، واتفق أنهم لم يخرجوهما إلا من الملح، وإذا كان في البر أشياء تخفى على التجار المتردّدين القاطعين المفاوز فكيف بما في قعر البحر. قال ابن عادل: والجواب عن هذا أنّ الله تعالى لا يخاطب الناس ولا يمتن عليهم إلا بما يألفون ويشاهدون.
وقرأ نافع وأبو عمرو: يخرج بضم الياء وفتح الراء مبنياً للمفعول، والباقون بفتح الياء وضم الراء مبنياً للفاعل على المجاز. وقرأ السوسي وشعبة: بإبدال الهمزة الساكنة واواً وصلاً ووقفاً، وإذا وقف حمزة أبدل الأولى والثانية.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: الملك الأعظم المالك لكما {تكذبان} أبكثرة النعم من خلق المنافع في البحار وتسليطكم عليها، وإخراج الحلي العجيبة أم بغيرها.
{وله} أي: لا لغيره {الجواري} أي: السفن الكبار والصغار الفارغة والمشحونة فلا تغترّوا بالأسباب الظاهرة فتقفوا معها فتسندوا شيئاً من ذلك إليها، وقرأ: {والمنشآت} حمزة وأبو بكر بخلاف عنه بكسر(4/163)
الشين بمعنى أنها تنشئ الموج بجريها أو تنشئ السير إقبالاً وإدباراً، أو التي رفعت شراعها أي قلوعها والشراع القلع وعن مجاهد كل ما رفعت قلعها فهي من المنشآت وإلا فليست منها ونسبة الرفع إليها مجاز كما يقال: أنشأت السحابة المطر وقرأ الباقون بفتح الشين وهو اسم مفعول أي أنشأها الله تعالى أو الناس أو رفعوا شراعها.
تنبيه: الجواري جمع جارية وهو اسم أو صفة للسفينة، وخصها بالذكر لأنّ جريها في البحر لا صنع للبشر فيه، وهم معترفون بذلك فيقولون لك الفلك ولك الملك؛ وإذا خافوا الغرق دعوا الله وحده، وسميت السفينة جارية لأنّ شأنها ذلك وإن كانت واقفة في الساحل كما سماها في موضع آخر بالجارية كما قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية} (الحاقة: 11)
وسماها بالفلك قبل أن لم تكن كذلك فقال تعالى لنوح عليه السلام: {واصنع الفلك بأعيننا} (هود: 37)
ثم بعدما عملها سماها سفينة فقال تعالى: {فأنجيناه وأصحاب السفينة} (العنكبوت: 15)
قال الرازي: فالفلك أولاً ثم السفينة ثم الجارية ا. هـ. والمرأة المملوكة تسمى أيضاً جارية لأنّ شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها بخلاف الزوجة فهي من الصفات الغالبة.
والسفينة فعليه بمعنى فاعله عند ابن دريد؛ كأنها تسفن الماء وفعيلة بمعنى مفعولة عند غيره بمعنى مسفونة وقوله تعالى: {في البحر} متعلق بالمنشآت وقوله تعالى: {كالأعلام} حال إمّا من الضمير المستكن في المنشآت وإمّا من الجواري وكلاهما بمعنى واحد؛ والأعلام الجبال والعلم الجبل الطويل علماً على الأرض قال القائل:
*إذا قطعنا علماً بدا لنا علم*
وقال آخر:
*ربما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبى شمالات*
وقالت الخنساء في أخيها صخر:
*وإن صخراً لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار*
أي: جبل فالسفن في البحر كالجبال في البرّ؛ وجمع الجواري. ووحد البحر وجمع الأعلام إشارة إلى عظمة البحر.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} العظمى التي عمت خلقه {تكذبان} أبتلك النعم من خلق موادّ السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر وأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها غيره أم غيرها؟.
وقوله تعالى: {كل من عليها فان} أي: هالك غلب فيه من يعقل على غيره وجميعهم مراد؛ والضمير في عليها للأرض قال بعضهم: وإن لم يجر لها ذكر كقوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} (ص: 32)
ورد هذا بأنه قد تقدّم ذكرها في قوله تعالى: {والأرض وضعها} (الرحمن: 10)
وقيل: الضمير عائد إلى الجواري.
قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلكت أهل الأرض فنزل: {كل شيء هالك إلا وجهه} فأيقنت الملائكة بالهلاك.
فإن قيل: الكلام في تعدّد النعم فأين النعمة في فناء الخلق؟ أجيب: بأنها التسوية بينهم في الموت والموت سبب للنقل إلى دار الجزاء والثواب.
{ويبقى} أي: بعد فناء الكل بقاء مستمرّا إلى ما لا نهاية له {وجه ربك} أي: ذاته فالوجه عبارة عن وجود ذاته. قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه.
فإن قيل كيف خاطب الاثنين بقوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} وخاطب ههنا الواحد فقال: {ويبقى وجه ربك} ولم يقل وجه(4/164)
ربكما؟ أجيب: بأنّ الإشارة ههنا وقعت إلى كل أحد فقال: ويبقى وجه ربك أيها السامع ليعلم كل أحد أنّ غيره فان فلو قال: ويبقى وجه ربكما لكان كل أحد يخرج نفسه ورفيقه؛ المخاطب عن الفناء، فإن قيل: فلو قال: ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل؛ أجيب: بأن كاف الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر والموضع موضع بيان اللطف وتعديد النعم، فلهذا قال: بلفظ الرب وكاف الخطاب
ولما ذكر تعالى مباينته للمخلوقات وصف نفسه بالإحاطة الكاملة فقال تعالى: {ذو الجلال} أي: العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به {والإكرام} أي: الإحسان العام وهو صفة فعله مع جلاله وعظمته.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المربى لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى {تكذبان} أبتلك النعم من بقاء الرب وفناء الكل والحياة الدائمة والنعيم المقيم أم بغيرها؟.
وقوله تعالى: {كل من عليها فان} أي: هالك غلب فيه من يعقل على غيره وجميعهم مراد؛ والضمير في عليها للأرض قال بعضهم: وإن لم يجر لها ذكر كقوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} (ص: 32)
ورد هذا بأنه قد تقدّم ذكرها في قوله تعالى: {والأرض وضعها} (الرحمن: 10)
وقيل: الضمير عائد إلى الجواري.
قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلكت أهل الأرض فنزل: {كل شيء هالك إلا وجهه} فأيقنت الملائكة بالهلاك.
فإن قيل: الكلام في تعدّد النعم فأين النعمة في فناء الخلق؟ أجيب: بأنها التسوية بينهم في الموت والموت سبب للنقل إلى دار الجزاء والثواب.
{ويبقى} أي: بعد فناء الكل بقاء مستمرّا إلى ما لا نهاية له {وجه ربك} أي: ذاته فالوجه عبارة عن وجود ذاته. قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه.
فإن قيل كيف خاطب الاثنين بقوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} وخاطب ههنا الواحد فقال: {ويبقى وجه ربك} ولم يقل وجه ربكما؟ أجيب: بأنّ الإشارة ههنا وقعت إلى كل أحد فقال: ويبقى وجه ربك أيها السامع ليعلم كل أحد أنّ غيره فان فلو قال: ويبقى وجه ربكما لكان كل أحد يخرج نفسه ورفيقه؛ المخاطب عن الفناء، فإن قيل: فلو قال: ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل؛ أجيب: بأن كاف الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر والموضع موضع بيان اللطف وتعديد النعم، فلهذا قال: بلفظ الرب وكاف الخطاب
ولما ذكر تعالى مباينته للمخلوقات وصف نفسه بالإحاطة الكاملة فقال تعالى: {ذو الجلال} أي: العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به {والإكرام} أي: الإحسان العام وهو صفة فعله مع جلاله وعظمته.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المربى لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى {تكذبان} أبتلك النعم من بقاء الرب وفناء الكل والحياة الدائمة والنعيم المقيم أم بغيرها؟.
وقوله تعالى: {كل من عليها فان} أي: هالك غلب فيه من يعقل على غيره وجميعهم مراد؛ والضمير في عليها للأرض قال بعضهم: وإن لم يجر لها ذكر كقوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} (ص: 32)
ورد هذا بأنه قد تقدّم ذكرها في قوله تعالى: {والأرض وضعها} (الرحمن: 10)
وقيل: الضمير عائد إلى الجواري.
قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلكت أهل الأرض فنزل: {كل شيء هالك إلا وجهه} فأيقنت الملائكة بالهلاك.
فإن قيل: الكلام في تعدّد النعم فأين النعمة في فناء الخلق؟ أجيب: بأنها التسوية بينهم في الموت والموت سبب للنقل إلى دار الجزاء والثواب.
{ويبقى} أي: بعد فناء الكل بقاء مستمرّا إلى ما لا نهاية له {وجه ربك} أي: ذاته فالوجه عبارة عن وجود ذاته. قال ابن عباس: الوجه عبارة عنه.
فإن قيل كيف خاطب الاثنين بقوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} وخاطب ههنا الواحد فقال: {ويبقى وجه ربك} ولم يقل وجه ربكما؟ أجيب: بأنّ الإشارة ههنا وقعت إلى كل أحد فقال: ويبقى وجه ربك أيها السامع ليعلم كل أحد أنّ غيره فان فلو قال: ويبقى وجه ربكما لكان كل أحد يخرج نفسه ورفيقه؛ المخاطب عن الفناء، فإن قيل: فلو قال: ويبقى وجه الرب من غير خطاب كان أدل على فناء الكل؛ أجيب: بأن كاف الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر والموضع موضع بيان اللطف وتعديد النعم، فلهذا قال: بلفظ الرب وكاف الخطاب
ولما ذكر تعالى مباينته للمخلوقات وصف نفسه بالإحاطة الكاملة فقال تعالى: {ذو الجلال} أي: العظمة التي لا ترام وهو صفة ذاته التي تقتضي إجلاله عن كل ما لا يليق به {والإكرام} أي: الإحسان العام وهو صفة فعله مع جلاله وعظمته.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المربى لكما على هذا الوجه الذي مآله إلى العدم إلى أجل مسمى {تكذبان} أبتلك النعم من بقاء الرب وفناء الكل والحياة الدائمة والنعيم المقيم أم بغيرها؟.
الكتاب: السراج المنير للخطيب الشربينى
وقوله تعالى: {يسأله من في السموات} أي: كلها كلهم {والأرض} كذلك مستأنف وقيل: حال من وجه والعامل فيه يبقى أي: يبقى مسؤولاً من أهل السموات والأرض بلسان الحال أو المقال أو بهما. قال ابن عباس وأبو صالح: أهل السموات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونهما جميعاً. وقال ابن جريج: يسأله الملائكة الرزق لأهل الأرض فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض كما في الحديث، قال القرطبي: وفي الحديث: «إن من الملائكة ملكاً له أربعة أوجه وجه كوجه الإنسان يسأل الله تعالى الرزق لبني آدم، ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله تعالى الرزق للسباع، ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله تعالى الرزق للبهائم، ووجه كوجه النسر وهو يسأل الله تعالى الرزق للطير» . وقال ابن عطاء: إنهم يسألوه القوّة على العبادة. وقوله تعالى: {كل يوم} منصوب بالاستقرار الذي تضمنه الخبر وهو قوله تعالى: {هو في شان} والشأن الأمر روى أبو الدرداء: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كل يوم هو في شان قال من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كربة ويرفع أقواماً ويضع آخرين» . وعن ابن عمر: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يفغر ذنباً ويكشف كرباً ويجيب داعياً» . وقال أكثر المفسرين من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق ويعزّ قوماً ويذل قوماً ويشفي قوماً ويفرج مكروباً ويجيب داعياً ويعطي سائلاً ويغفر ذنباً إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء. وروى البغوي: عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: «إنّ مما خلق الله عز وجل لوحاً من درّة بيضاء دفتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكلماته نور ينظر الله تعالى فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعزّ ويذلّ ويفعل ما يشاء» ، فذلك قوله تعالى: {كل يوم هو في شان} .
وقال سفيان بن عيينة: الدهر كله عند الله تعالى يومان أحدهما: اليوم الذي هو مدّة عمر الدنيا فشأنه فيه أي: في كل يوم من أيامها الأمر والنهي والإماتة والإحياء والاعطاء والمنع، والثاني: يوم القيامة وشأنه فيه الجزاء والحساب والثواب والعقاب. وقال أبو سليمان الداراني: في هذه الآية له في كل يوم إلى العبيد برّ جديد.
وقال بعض المفسرين: شأنه تعالى أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر عسكراً من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمّهات، وعسكراً من الأرحام إلى الدنيا، وعسكراً(4/165)
من الدنيا إلى القبور ثم يرتحلون جميعاً إلى الله تعالى. وقيل: نزلت في اليهود حين قالوا إنّ الله لا يقضي يوم السبت شيئاً.
وسأل بعض الملوك وزيره عن هذه الآية فاستمهله إلى الغد وذهب كئيباً يتفكر فيها، فقال له غلام أسود: يا مولاي أخبرني ما أصابك لعل الله تعالى يسهل لك على يدي؛ فأخبره فقال: أنا أفسرها للملك فأعلمه فقال أيها الملك شأن الله تعالى أن يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحيّ، ويشفي سقيما، ويسقم صحيحا، ويبتلي معافى، ويعافي مبتلى، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويفقر غنيا، ويغني فقيرا، فقال الأمير: أحسنت، وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة، فقال: يا مولاي هذا من شأن الله تعالى.
وعن عبد الله بن طاهر: أنه دعا الحسين بن الفضل وقال له أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشف لي قوله تعالى: {فأصبح من النادمين} (المائدة: 31)
وقد صح أنّ الندم توبة. وقوله تعالى: {كل يوم هو في شان} وصح أنّ القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: 39)
فمعناه ليس له إلا ما يسعى فما بال الأضعاف؟ قال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون في هذه الأمة لأنّ الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم. وقيل: إنّ ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله، وأما قوله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} فمعناه أنه ليس له إلا ما يسعى عدلاً ولي أن أجزيه بواحدة ألفاً فضلاً، وأما قوله تعالى: {كل يوم هو شان} فإنها شؤون يبديها لاشؤون يبتديها؛ فقام عبد الله: فقبل رأسه وسوغ خراجه.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} المدبر لكما هذا التدبر العظيم {تكذبان} أي: أبتلك النعم أم بغيرها؟.
{سنفرغ لكم} أي سنقصد لحسابكم وجزائكم؛ وقرأ حمزة والكسائي: بعد السين بالياء التحتية والباقون بالنون {أيه الثقلان} أي: الإنس والجنّ وذلك يوم القيامة فإنه تعالى لا يفعل ذلك في غيره قال القرطبي: يقال فرغت من الشغل أفرغ فراغاً وفروغاً وتفرّغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلت وليس بالله تعالى شغل يفرغ منه؛ وإنما المعنى سنقصد لمجازاتكم ومحاسبتكم فهو وعيد لهم وتهديد قاله ابن عباس والضحاك؛ كقول القائل لمن يريد تهديده: إذا أتفرّغ لك أي أقصدك وأنشد ابن الأنباري لجرير:
*الآن وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لهم عذابا*
يريد: وقد قصدت، وأنشد الزجاج والنحاس:
*فرغت إلى العبد المقيد في الحجل*
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم «أنه لما بايع الأنصار ليلة العقبة صاح الشيطان: يا أهل الحباحب هذا مذمم يبايع بني قيلة على حربكم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا أزبّ العقبة أما والله يا عدوّ الله لأتفرغنّ لك» أي: أقصد إلى إبطال أمرك. وهذا اختيار الكسائي وغيره. قال ابن الأثير الأزبّ في اللغة الكثير الشعر؛ وهو ههنا شيطان اسمه أزبّ العقبة وهو الحية. وقيل: إنّ الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور ثم قال تعالى: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} أي ما وعدناكم ونوصل كلاً إلى ما وعدناه أقسم ذلك وأتفرّغ منه قاله الحسن ومقاتل وابن زيد.
تنبيه: رسمْ {أيه} بغير ألف فإذا وقف عليها وقف أبو عمرو والكسائي أيها بالألف ووقف الباقون على الرسم أيه وفى(4/166)
الوصل قرأ ابن عامر أيه برفع الهاء والباقون بنصبها.
فائدة: سمى الإنس والجن بالثقلين لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف؛ وقيل: سموا بذلك لأنهما ثقلا الأرض أحياء وأمواتا. قال الله تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} (الزلزلة: 2)
ومنه قولهم: أعطه ثقله أي وزنه؛ وقال بعض أهل المعاني كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل ومنه قيل لبيض النعام: ثقل؛ لأنّ واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به؛ وقال جعفر الصادق: سميا ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب؛ وقيل: الثقل الإنس لشرفهم وسمي الجن بذلك مجازاً للمجاورة والتغلب كالقمرين والعمرين والثقل العظيم الشريف. قال صلى الله عليه وسلم «إني تارك فيكم ثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي» .
{فبأيّ آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن إليكما بهذا الصنيع المحكم {تكذبان} أي: أبتلك النعم من إثابة أهل طاعته وعقوبة أهل معصيته أم بغيرها؟.
{يا معشر الجنّ} أي: يا جماعة فيهم الأهلية والعشرة والتصادق {والإنس} أي: الخواص والمستأنسين والمأنوسين المبني أمرهم على الإقامة والاجتماع {إن استطعتم} أي: وجدت لكم إطاعة الكون في {أن تنفذوا} أي: تسلكوا بأجسامكم وتمضوا من غير مانع يمنعكم {من أقطار} أي: نواحي {السموات والأرض} هاربين من الله تعالى من أنواع الجزاء بينكم، أو عصياناً عليه في قبول أحكامه وجري مراداته وأقضيته عليكم من الموت وغيره. وقوله تعالى: {فانفذوا} أمر تعجيز والمعنى: إن استطعتم أن تجوزوا نواحي السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا، يعني لا مهرب لكم ولا خروج لكم عن ملك الله تعالى أينما تولوا فثم ملك الله عز وجلّ.
فإن قيل: ما الحكمة في تقديم الجنّ على الإنس ههنا، وتقديم الإنس على الجنّ في قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن} (الإسراء: 88)
أجيب بأنّ النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجنّ أليق إن أمكن والإتيان بمثل القرآن بالإنس أليق إن أمكن فقدم في كل موضع ما يليق به.
فإن قيل: لم جمع في قوله تعالى: {سنفرغ لكم} وفي قوله تعالى: {إن استطعتم} وثنى في قوله {أيه الثقلان} أجيب: بأنهما فريقان في حال الجمع كقوله تعالى: {فإذا هم فريقان يختصمون} (النمل: 45)
{وهذان خصمان اختصموا في ربهم} .
{لا تنفذون} أي: لا تقدرون على النفوذ {إلا بسلطان} أي: إلا بقوّة وقهر وأنى لكم ذلك؟ وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ولن تعلموا إلا بسلطان أي بينة من الله تعالى.
تنبيه: في هذه الآيات والتي في الأحقاف وفي قل أوحى دليل على أنّ الجنّ مكلفون مخاطبون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء مؤمنهم كمؤمنهم وكافرهم ككافرهم.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} المحسن إليكما المربي لكما بما تعرفون به قدرته على ما يريد {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرهما؟.
وقال البغوىّ: وفي الخبر يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون {يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم} الآية، فذلك قوله تعالى: {يرسل عليكما} أي: أيها المعاندون؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: حين يخرجون من القبور لسوقهم إلى المحشر {شواظ من نار} قال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع من النار. وقال ابن عباس(4/167)
رضي الله تعالى عنهما: هو اللهب الخالص الذي لا دخان له. وقال الضحاك هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس كدخان الحطب وقال سعيد بن جبير: عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر وقيل: هو اللهب الأحمر. وقال عمرو: هو النار والدخان جميعاً وحكاه الأخفش عن بعض العرب قال حسان:
*هجوتك فاختضعت لها بذل ... بقافية تأجج كالشواظ*
وقرأ ابن كثير: بكسر الشين والباقون: بضمها، وهما لغتان بمعنى واحد مثل صوار من البقر وصوار وهو القطيع من البقر.
واختلف في قوله سبحانه وتعالى: {ونحاس} فقيل: هو الصفر المعروف يذيبه الله تعالى ويعذبهم به. وقيل: هو الدخان الذي لا لهب معه قاله الخليل، وهو معروف في كلام العرب؛ وأنشد الأعشى:
*تضيء كضوء سراج السلي
... ط لم يجعل الله فيه نحاسا*
وقال ابن برحان والعرب تسمى الدخان نحاساً بضم النون وكسرها، وأجمع القراء على ضمها ا. هـ وقال الضحاك: هو دردري الزيت المغلي. وقال الكسائي: التي لها ريح شديد. {فلا تنتصران} أي فلا تمتنعان ولا ينصر بعضكم بعضاً من ذلك بل يسوقكم إلى المحشر.
{فبأي آلاء} أي نعم {ربكما} أي: المدبر لكما هذا التدبير المتقن {تكذبان} أبتلك النعم ـ فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار في عداد الآلاء ـ أم بغيرها؟.
{فإذا انشقت السماء} أي: انفرجت، فكانت أبواباً لنزول الملائكة {فكانت وردة} أي: محمرّة مثل الوردة {كالدهان} أي: كالأديم الأحمر على خلاف العهد بها لشدّة حرّ نار جهنم. وقال مجاهد والضحاك وغيرهما: الدهان الدهن والمعنى صارت في صفاء الدهن؛ والدهان على هذا جمع دهن. وقال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، أي: تذوب مع جريان الدهن حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها؛ وقال الحسن: كصب الدهن فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً؛ وجواب إذا فما أعظم الهول.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: الخالق والرازق لكما {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها مما يكون بعد ذلك؟.
{فيومئذ} أي: فتسبب عن يوم إذ انشقت السماء أنه {لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جانّ} أي: سؤال تعرّف واستعلام، بل سؤال تقريع وتوبيخ وملام، وذلك أنه لا يقال له هل فعلت كذا؟ بل يقال له لم فعلت كذا؟ على أنّ ذلك اليوم طويل وهو ذو ألوان تارة يسأل فيه، وتارة لا يسأل والأمر في غاية الشدّة وكل لون من تلك الألوان يسمى يوماً فيسأل في بعض ولا يسأل في بعض وقيل: المعنى ألا يسألون إذا استقروا في النار. وقال الحسن وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم لأنّ الله تعالى حفظها عليهم وكتبتها الملائكة؛ رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وعن الحسن ومجاهد: لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم؛ دليله قوله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم} (الرحمن: 41) .
ورواه مجاهد عنه أيضاً: في قوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين} (الحجر: 92)
وقوله تعالى: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} (الرحمن: 39)
قال لا يسألهم ليعرف ذلك منهم ولكنه يسألهم لم عملتموها سؤال توبيخ؛ وقال أبو العالية: لا يسأل(4/168)
غير المجرم عن ذنب المجرم؛ وقال قتادة: يسألون قبل الختم على أفواههم ثم يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم شاهدة عليهم.
تنبيه: الجانّ هنا وفيما يأتي بمعنى الجني والإنس بمعنى الإنسي.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: الذي ربى كلاً منكم بما لا مطمع في إنكاره ولا خفاء فيه {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها مما أنعم الله تعالى على عبادة المؤمنين في هذا اليوم؟.
{يعرف} أي: لكل أحد {المجرمون} أي: العريقون في هذا الوصف {بسيماهم} أي العلامات التي صور الله تعالى ذنوبهم فيها، فجعلها ظاهرة بعد أن كانت باطنة وظاهرة الدلالة عليهم، كما يعرف الآن الليل إذا جاء لا يخفى على أحد أصلاً وكذا النهار ونحوهما لغير الأعمى؛ قال البقاعي: وتلك السيمى والله أعلم زرقه العيون، وسواد الوجوه، والعمى والصمم والمشي على الوجوه، ونحو ذلك، وكما يعرف المحسنون بسيماهم: من بياض الوجوه، وإشراقها، وتبسمها، والغرّة والتحجيل، ونحو ذلك.
وسبب عن هذه المعرفة قوله تعالى: مشيراً بالبناء للمفعول إلى سهولة الأخذ من أيّ آخذ كان {فيؤخذ بالنواصي} أي: منهم وهي مقدمات الرؤوس {والأقدام} بعد أن يجمع بينها فيسحبون بها سحباً من كل ساحب أقامه الله تعالى لذلك لا يقدرون على الامتناع بوجه فيلقون في النار؛ وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره وعنه يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين ناصيته حتى يندق ظهره، ثم يلقى في النار؛ وفعل بالكافر ذلك ليكون أشدّ لعذابه؛ وقيل: تسحبه الملائكة إلى النار تارة تأخذ بناصيته وتجره على وجهه وتارة تأخذ بقدميه وتسحبه على وجهه.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المنعم عليكما الذي دبر مصالحكم بعد أن أوجدكم {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها مما وعد أن يفعل من الجزاء في الآخرة لكل شخص بما كان يعمل في الدنيا أو غير ذلك من الفضل؟.
{هذه جهنم} أي: يقال لهم إذا ألقوا فيها هذه جهنم {التي يكذب} أي: ماضياً وحالاً ومآلاً استهانة؛ ولو ردّوا إلى الدنيا بعد إدخالهم إياها لعادوا لما انهوا عنه.
{بها المجرمون} أي: المشركون الحقيقون بالإجرام، وهو قطع ما من حقه أن يوصل وهو ما أمر الله تعالى به وخص هذا الاسم إشارة إلى أنها تلقاهم بالتجهم والعبوسة والكلاحة والفظاعة كما كانوا يفعلون مع الصالحين عند الإجرام المذكور.
{يطوفون بينها} أي بين درك النار {وبين حميم آن} أي: حارمتناه في الحرارة وهو منقوص كقاض؛ يقال: أنى يأني فهو آن؛ كقضى يقضي فهو قاض؛ والمعنى أنهم يسعون بين الحميم والجحيم، فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآن الذي صار كالمهل؛ وهو قوله تعالى: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل} (الكهف: 29)
وقال كعب الأحبار: وادٍ من أودية جهنم يجمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم، ثم يخرجون منه وقد أحدث الله تعالى لهم خلقاً جديداً، فيلقون في النار، فذلك قوله تعالى: {يطوفون بينها وبين حميم آن} .
فإن قيل: هذه الأمور ليست نعمة؟ فكيف قال عز وجل: {فبأيّ آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن أيها الثقلان إليكما {تكذبان} أجيب: من وجهين:
أحدهما: أن ما وصف من هول يوم القيامة وعقاب المجرمين فيه زجر عن المعاصي وترغيب في الطاعات، وهذا من أعظم النعم؛ روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أتى على شاب يقرأ في(4/169)
الليل {فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان} (الرحمن: 37)
فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول ويحي من يوم تنشق فيه السماء ويحي فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «ويحك يا فتى منها فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء من بكائك» .
الثاني: أنّ المعنى إن كذبتم بالنعمة المتقدّمة استحقيتم هذه العقوبات وهي دالة على الإيمان بالغيب، وهو من أعظم النعم.
ولما عرف ما للمجرم المجترئ على العظائم وقدمه لما اقتضاه مقام التكذيب من الترهيب، وجعله سابعاً إشارة إلى أبواب النار السبع، عطف عليه ما للخائف الذي أداه خوفه إلى الطاعة، وجعله ثامناً على عدد أبواب الجنة الثمانية فقال تعالى:
{ولمن خاف} أي: من الثقلين ووحد الضمير مراعاة للفظ من إشارة إلى قلة الخائفين {مقام ربه} أي: قيامه بين يدي ربه للحساب بترك المعصية والشهوة؛ قال القرطبي: ويجوز أن يكون المقام للعبد ثم يضاف إلى الله تعالى وهو كالأجل في قوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم} (الأعراف: 34)
وقوله تعالى في موضع آخر: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر} (نزح: 4)
. وقال مجاهد: هو الذي يهم بالمعصية فيذكر الله تعالى فيدعها من مخافته عز وجل. {جنتان} أي: لكل خائف جنتان على حدة. قال مقاتل: جنة عدن وجنة النعيم وقال محمد بن علي الترمذي: جنة بخوف ربه وجنة بترك شهوته؛ وقال ابن عباس: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض؛ وقيل: جنتان لجميع الخائفين؛ وقيل: جنة لخائف الإنس وأخرى لخائف الجنّ فيكون من باب التوزيع؛ وقيل: مقام هنا مقحم كما تقول أخاف جانب فلان، وفعلت هذا لمكانك، وأنشد:
*................ ونفيت عنه ... مقام الذئب؛ كالرجل اللعين*
يريد ونفيت عنه الذئب؛ قال ابن عادل: وليس بجيد لأنّ زيادة الاسم ليست بالسهلة؛ وقيل: إنّ الجنتين جنته التي خلقت له وجنة، ورثها؛ وقيل: إحدى الجنتين منزله والأخرى منزل أزواجه كما يفعل رؤساء الدنيا؛ وقيل: إحدى الجنتين مسكنه والأخرى بستانه؛ وقيل: إحدى الجنتين أسافل القصور والأخرى أعاليها؛ وقال الفراء: إنها جنة واحدة وإنما ثنى مراعاة لرؤوس الآي؛ وأنكر القتيبي هذا وقال: لا يجوز أن يقال خزنة النار عشرون وإنما قال: تسعة عشر مراعاة لرؤوس الآي؛ وقيل: جنة واحدة وإنما ثنى تأكيداً كقوله تعالى: {ألقيا في جهنم} (ق: 24)
وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل إلا أن يبلغه الله تعالى إليه إلا أن يبلغه الله تعالى الجنة» أخرجه الترمذي. قوله أدلج الإدلاج مخففاً سير أول الليل، ومثقلاً سير آخر الليل؛ والمراد من الإدلاج التشمير والجد والاجتهاد في أوّل الأمر فإن من سار في أوّل الليل كان جديراً ببلوغ المنزل.
روى البغوي بسنده عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} قلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ولمن خاف مقام ربه جنتان} فقلت الثانية: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالثة: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} قلت الثالثة: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء» .
فائدة: قال القرطبي: في هذه الآية دليل على أنّ من قال لزوجته إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق إنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفا من الله تعالى وحياء منه؛ وقاله سفيان الثوري وأفتى به. هذا ومذهب(4/170)
الشافعي أنه لا يحنث إذا كان مسلماً ومات على الإسلام.
وقال عطاء: نزلت هذه الآية في أبي بكر حين ذكر ذات يوم الجنة حين أزلفت والنار حين أبرزت؛ وقال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ فأعجبه فسأل عنه، فأخبر عنه أنه من غير حل فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فقال: رحمك الله لقد أنزلت فيك آية وتلا عليه الآية.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} المربي لكما بإحسانه الكبار التي لا يقدر أحد على شيء منها {تكذبان} أبتلك النعمة أم بغيرها من نعمة التي لا تحصى؟.
ثم وصف الجنتين بقوله تعالى: {ذواتا} أي: صاحبتا أو خبر لمبتدأ محذوف أي: هما ذواتا، وفي تثنية ذات لغتان الردّ إلى الأصل، فإنّ أصلها ذوية فالعين واو واللام ياء لأنها مؤنثة ذوو الثانية التثنية على اللفظ فيقال ذاتا. وقوله تعالى {أفنان} فيه وجهان:
أحدهما: أنه جمع فنن كطلل وهو الغصن المستقيم طولاً تكون به الزينة بالورق والثمر وكمال الانتفاع، قال النابغة الذبياني:
*بكاء حمامة تدعو هديلا
... مفجعة على فنن تغني
وفي الحديث: «أهل الجنة مرد مكحولون الوفانين» يريد الأفانين وهو جمع أفنان وأفنان جمع فنن من الشعر شبه بالغصن ذكره الهروي. وقال قتادة: ذواتا أفنان أي: ذواتا سعة وفضل على سواهما.
والوجه الثاني: أنه جمع فن وإليه أشار ابن عباس. والمعنى ذواتا أنواع وأشكال وقال الضحاك: ألوان من الفاكهة واحدها فنّ إلا أنّ الكثير في فنّ أن يجمع على فنون: وقال عطاء كل غصن فنون من الفاكهة، ولذا سبب عنه قوله تعالى: {فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن إليكما والمدبر لكما {تكذبان} أبتلك النعم من وصف الجنة الذي جعل لكم من أمثاله ما تعتبرون به، أم بغيرها؟.
ولما كانت الجنان لا تقوم إلا بأنهار قال تعالى: {فيهما عينان تجريان} أي: في كل واحدة منهما عين جارية قال ابن عباس تجريان: ماء بالزيادة والكرامة من الله تعالى على أهل الجنة؛ وعن ابن عباس أيضاً والحسن: تجريان بالماء الزلال إحدى العينين التسنيم والأخرى السلسبيل؛ وقال عطية: أحدهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين؛ وقيل: تجريان من جبل من مسك قال أبو بكر الوراق: فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخالفة الله عز وجل فتجريان في أي مكان شاء صاحبهما وإن علا مكانه كما تصعد المياه في الأشجار في كلّ غصن منها وإن زاد علوها.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المالك لكما والمحسن إليكما {تكذبان} أبتلك النعم التي ذكرها وجعل لها في الدنيا أمثالاً كثيرة أم بغيرها؟.
{فيهما} أي: الجنتين {من كل فاكهة} أي: تعلمونها أو لا تعلمونها {زوجان} أي: صنفان ونوعان قيل: معناه أنّ فيهما من كلّ ما يتفكه به ضربين رطباً ويابساً؛ وقال ابن عباس: ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرّة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو.
فإن قيل: قوله تعالى: {ذواتا أفنان} و {فيهما عينان تجريان} و {فيهما من كل فاكهة زوجان} كلها أوصاف للجنتين فما الحكمة في فصل بعضها عن بعض بقوله تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} مع أنه تعالى لم يفصل حين ذكر العذاب بين الصفات؛ بل قال تعالى: {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران} مع أنّ إرسال الشواظ غير إرسال النحاس؟ أجيب: بأنه تعالى جمع(4/171)
العذاب جملة، وفصل آيات الثواب ترجيحاً لجانب الرحمة على جانب العذاب، وتطييباً للقلب وتهييجاً للسامع فإن إعادة ذكر المحبوب وتطويل الكلام في اللذات مستحسن.
فإن قيل: فما وجه توسط آية العينين بين ذكر الأفنان وآية الفاكهة والفاكهة إنما تكون على الأعصان، والمناسبة ألا يفصل بين آية الأغصان والفاكهة؟ أجيب: بأنّ ذلك على عادة المتنعمين إذا خرجوا متفرجين في البستان؛ فأوّل قصدهم الفرجة بالخضرة والماء ثم يكون الأكل تبعاً.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} التي ادخرها الموجد لكما المحسن إليكما {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها مما فوضه إليكم من سائر النعم التي لا تحصى.
ولما كان التفكه لا يكمل حسنه إلا مع التنعم من طيب الفرش وغيره؛ قال تعالى مخبراً عن هؤلاء الذين يخافون مقام ربهم {متكئين} أي: لهم ما ذكر حال الاتكاء، والعامل في الحال محذوف أي يتنعمون متكئين {على فرش} وعظمها بقول تعالى مخاطباً للمكلفين بما يحتمل عقولهم وإلا فليس في الجنة ما يشبهه على الحقيقة شيء من الدنيا {بطائنها من استبرق} وهو ما غلظ من الديباج؛ قال ابن مسعود: وأبو هريرة: إذا كانت البطائن التي تلي الأرض هكذا، فما ظنك بالظهارة؟.
وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من استبرق فما الظاهر؟ قال: هذا مما قال الله تعالى {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين} (السجدة: 17)
وقال ابن عباس: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم فأمّا الظواهر فلا يعلمها إلا الله تعالى؛ ونظير ذلك في الجنة قوله تعالى: {عرضها السموات والأرض} (آل عمران: 133)
وأمّا الطول فلا يعلمه إلا الله عز وجلّ، لكن قال القرطبي: وفي الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ظواهرها نور يتلألأ» . وقيل: الظهائر من السندس. وعن الحس البطائن: هي الظواهر وهو قول الفراء. وروي عن قتادة: والعرب تقول للبطن ظهر فيقولون: هذا بطن السماء وظهر الأرض. وقال الفراء: قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة لأنّ كل واحد منهما يكون وجهاً، والعرب تقول هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء لظاهرها الذي نراه وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا، وقالوا: لا يكون هذا إلا في الوجهين المتساويين إذا ولي كلّ واحد منهما قوم كالحائط بينك وبين قوم وعلى أديم السماء؛ وقال ابن عباس: وصف البطائن وترك الظواهر لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ماء الظواهر.
تنبيه: قال الرازي: الاستبرق معرب وهو الديباج الثخين؛ أي: وهذا ومثله لا يخرج القرآن عن كونه عربياً لأن العربي ما نطقت به العرب وضعاً واستعمالاً من لغة غيرها، وذلك كله سهل عليهم وبه يحصل الإعجاز بخلاف ما لم يستعملوه من كلام العجم لصعوبته عليهم، وذكر الاتكاء لأنه حال الصحيح الفارغ القلب المتنعم البدن بخلاف المريض والمهموم.
{وجنى الجنتين} أي: ثمرها {دان} أي: قريب؛ قال ابن عباس: تدنو الشجرة حتى يجنيها وليّ الله تعالى إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً وإن شاء مضطجعاً، وقال قتادة: لا يردّ يده بُعْد ولا شوك.
قال الرازي: جنة الآخرة مخالفة لجنة الدنيا من ثلاثة أوجه: أحدها: أنّ الثمرة على رؤوس الشجر في الدنيا بعيدة على الإنسان المتكىء وفي الجنة هو متكىء والثمرة تتدلى إليه؛ وثانيها: أنّ الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة ويتحرك إليها وفي الآخرة هي تدنو إليهم وتدور عليهم؛ وثالثها أنّ الإنسان في الدنيا إذا قرب من ثمرة شجرة بعد عن غيرها وثمار(4/172)
الجنة كلها تدنوا إليهم في وقت واحد ومكان واحد.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المربي لكما الذي يقدر على كلّ ما يريده {تكذبان} أمن قدرته على عطف الأغصان وتقريب الثمار أم من غيرها؟.
ولما كان ما ذكر لا تتم نعمته إلا بالنسوان الحسان قال تعالى: {فيهنّ} أي الجنان التي علم مما مضى أنّ لكلّ فرد من الخائفين منها جنتين، فصح الجمع؛ وقال الزمخشري فيهنّ في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى، أو في الجنتين لاشتمالهما على أماكن وقصور ومجالس ا. هـ. قال أبو حيان: وفيه أي: الأوّل بعد لأن الاستعمال أن يقال على الفراش كذا، ولا يقال في الفراش كذا إلا بتكلف ولذلك جمع الزمخشري مع الفرش غيرها حتى صح له أن يقول ذلك؛ وقيل يعود على الجنتين لأن أقل الجمع اثنان وقال الفراء كل موضع في الجنة جنة فلذلك صح أن يقال فيهنّ {قاصرات الطرف} أي: الأعين على أزواجهنّ المتكئين من الأنس والجنّ.
قال الرازي وقوله قاصرات الطرف أي نساء وأزواج فحذف الموصوف لنكتة وهي أنه تعالى لم يذكرهنّ باسم الجنس وهو النساء بل بالصفات، فقال تعالى: {حور عين} (الواقعة: 22)
{كواعب أترابا} (النبأ: 33)
{قاصرات الطرف} {حور مقصورات} (الرحمن: 72)
ولم يقل: نساء عربا ولا نساء قاصرات لوجهين: أما على عادة العظماء كبنات الملوك إنما يذكرن بأوصافهنّ؛ وإما لأنهنّ لما كملن كأنهنّ خرجن عن جنسهنّ.
وقوله تعالى: {قاصرات الطرف} يدلّ على عفتهنّ وعلى حسن المؤمنين في أعينهنّ فيحببن أزواجهنّ حباً شديد يشغلهنّ عن النظر إلى غيرهم. قال ابن زيد: تقول لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك فالحمد الله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك، ويدلّ أيضاً على الحياء لأن الطرف حركة الجفن والحيية لا تحرّك جفنها ولا ترفع رأسها.
تنبيه: انظر إلى حسن هذا الترتيب فإنه تعالى بين أولاً: المسكن وهو الجنة، ثم بين ما يتنزه به وهو البستان والأعين الجارية، ثم ذكر المأكول فقال تعالى: {فيهما من كل فاكهة} ثم ذكر موضع الراحة بعد الأكل وهو الفراش، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه.
ولما كان الاختصاص بالشيء من أعظم الملذذات لا سيما المرأة قال تعالى {لم يطمثهنّ} أي: لم يجامعهنّ ويتسلط عليهنّ؛ يقال طمثت المرأة كضرب وفرح حاضت، وطمثها الرجل افتضها، وأيضاً جامعها {إنس قبلهم} أي: المتكئين {ولا جان} فكأنه قال: هنّ أبكار لم يخالطهنّ أحد فإنّ هذا جمع كلّ من يمكن منه جماع، وفي ذلك دليل على أنّ الجني يغشى كما يغشى الإنسي ويدخل الجنة ويكون لهم فيها جنتان، قال ضمرة: للمؤمنين منهم أزواج من الحور فالإنسيات للإنس والجنيات للجنّ، وقال مقاتل لأنهنّ خلقن في الجنة فعلى قوله يكونون من حور الجنة؛ وقال الشعبي: من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئن خلق وهو قول الكلبي. أي: لم يجامعهنّ في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جان؛ وأمّا في الدنيا فقال مجاهد: إذا جامع الرجل ولم يسمّ ينطوي الجني على إحليله فيجامع معه. وقال القرطبي: لم يطمثهن لم يصبهنّ بالجماع قبل أزواجهنّ أحد، وهذا شامل لنساء الجنة ولنساء الدنيا بعد إنشائهنّ خلقاً جديداً، وقرأ الكسائي: يطمثهنّ بضم الميم في الموضعين بخلاف عنه وتخييراً في أحدهما، وهما لغتان: يقال طمثها يطمثها ويطمثها إذا جامعها.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} المدبر مصالحكما {تكذبان}(4/173)
أي: بأي نوع من أنواع هذا الإحسان أم غيره.
{كأنهنّ الياقوت} أي: صفاء {والمرجان} أي: اللؤلؤ بياضاً، والياقوت جوهر نفيس يقال إنّ النار لا تؤثر فيه، والمرجان صغار اللؤلؤ وأشدّه بياضاً؛ وقيل: شبه لونهنّ ببياض اللؤلؤ مع حمرة الياقوت لأنّ أحسن الألوان البياض المشرب بحمرة. قال ابن الخازن: والأصح أنه شبههن بالياقوت لصفائه فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استضأته لرأيت السلك من ظاهره لصفائه. قال عمرو بن ميمون: إنّ المرأة من الحور العين لتلبس سبعين حلة فيرى مخ ساقها من وراء الحلل كما يرى الشراب الأحمر من الزجاجة البيضاء: يدل على صحة ذلك ما روي عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة حتى يرى مخها» ، وذلك لأنّ الله تعالى يقول: {كأنهنّ الياقوت والمرجان} ، فأمّا الياقوت: فإنه حجر لو أدخلت فيها سلكاً ثم استضأته لرأيته من ورائه، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر» ؛ زاد في رواية «ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دريّ في السماء إضاءة لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوّطون؛ آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ومجامرهم الألوّة» أي: بخورهم العود ورشحهم المسك ولكلّ واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء لحمها من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب رجل واحد» .
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المالك الملك المربي ببدائع التربية {تكذبان} أبما جعله مثالاً لما ذكر من وصفهنّ أم بغيره؟.
{هل جزاء الإحسان} أي: بالطاعة من الإنس والجن وغيرهما {إلا الإحسان} أي: بالثواب؛ وقال ابن عباس: هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة؛ وعن أنس بن مالك قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ثم قال: «أتدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة» .
ورى الواحدي بغير سند عن ابن عمر وابن عباس: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في هذه الآية يقول الله عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلا أن أسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} الكريم الرحيم الجامع لأوصاف الكمال {تكذبان} أبشيء من هذه النعم الجزيلة أم بغيرها؟.
{ومن دونهما} أي: من أدنى مكان ورتبة تحت جنتي هؤلاء المحسنين المقربين {جنتان} أي: لكل واحد ممن دون هؤلاء المحسنين من الخائفين، وهم أصحاب اليمين؛ وقال أبو موسى الأشعري: جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين؛ وقال ابن جريج هي أربع جنان جنتان للمقرّبين السابقين فيهما من كل فاكهة زوجان؛ وجنتان: لأصحاب اليمين والتابعين فيهما فاكهة ونخل ورمان. وقال الكسائي ومن دونهما أي أمامهما وقبلهما يدلّ عليه قول الضحاك: الجنتان الأوليان من ذهب وفضة والأخريان من ياقوت؛ وعلى هذا فهما أفضل من الأوليين؛ وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وقال: ومعنى {ومن دونهما جنتان} أي: دون هذا إلى العرش أي: أقرب وأدنى إلى العرش. وقال مقاتل: الجنتان الأوليان جنة عدن، وجنة النعيم، والأخريان الفردوس، وجنة المأوى.(4/174)
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن بنعمه لجميع خلقه {تكذبان} أبشيء مما تفضل به عليكم أم بغيره؟.
ثم وصف تلك الجنتين بقوله تعالى: {مدهامّتان} قال ابن عباس رضي الله عنهما: خضراوان. وقال مجاهد: سوداوان لأنّ الخضرة إذا اشتدت تضرب إلى السواد، وهذا مشاهد بالنظر ولذلك قالوا: سواد العراق لكثرة شجره وزرعه، والأرض إذا اخضرّت غاية الخضرة تضرب إلى سواد؛ قال الرازي: والتحقيق فيه أنّ ابتداء الألوان هو البياض وانتهاءها هو السواد فإن الأبيض يقبل كل لون والأسود لا يقبل شيئاً من الألوان.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن إليكما بالرزق وغيره {تكذبان} أبشيء من تلك النعم أم بغيرها.
ثم وصف تلك الجنتين أيضاً بقوله تعالى: {فيهما} أي: في جنتي كل شخص منهم {عينان نضاختان} قال ابن عباس: أي: فوّارتان بالماء، والنضخ بالخاء المعجمة أكثر من النضح بالحاء المهملة لأنّ النضح بالمهملة الرشح والرش، وبالمعجمة فورانُ الماء وقال مجاهد: المعنى نضاختان بالخير والبركة، وعن ابن مسعود: تنضخ على أولياء الله تعالى بالمسك والكافور والعنبر في دور أهل الجنة كما ينضخ رش المطر، وقال سعيد بن جبير بأنواع الفواكه والماء.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} المربي البليغ الحكمة في التربية {تكذبان} أبتلك النعمة أم بغيرها؟.
ثم وصف الجنتين أيضاً بقوله تعالى: {فيهما فاكهة} وخص أشرفها وأكثرها وجداناً في الخريف والشتاء، كما في جنان الدنيا التي جعلت مثالاً لهاتين بقوله تعالى: {ونخل ورمان} فإن كلاً منهما فاكهة وأدام، فلهذا خصا تشريفاً وتنبيهاً على ما فيهما من التفكه، وأولهما أعمّ نفعاً، وأعجب خلقاً، ولذا قدمه فعطفهما على الفاكهة من باب ذكر الخاص بعد العامّ تفضيلاً له؛ كقوله تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة: 98)
وقوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (البقرة: 238)
وقال بعض العلماء: ليس ذلك من الفاكهة. ولهذا قال أبو حنيفة: إذا حلف لا يأكل الفاكهة فأكل رطباً أو رماناً لم يحنث، وخالفه صاحباه. وقال القرطبي: وقيل: إنما كررها لأنّ النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البر عندنا، لأن النخل عامة قوتهم، والرمان كالثمرات فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليه، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثمار التي يعجبون بها فإنما ذكر الفاكهة ثم ذكر النخل والرمان لعمومها وكثرتها عندهم من المدينة إلى مكة إلى ما والاها من أرض اليمن فأخرجهما من الذكر من الفواكه وأفرد الفواكه على حدتها.
وقيل: أفردا بالذكر لأنّ النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه قال البغوي: وعن ابن عباس قال: نخل الجنة جذوعهما زمرّد أخضر وورقها ذهب أحمر، وسعفها كسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال، والدلاء أشدّ بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، وألين من الزبد ليس له عجم.
وروي أنّ الرمانة من رمان الجنة ملء جلد البعير المقتب؛ وقيل: إنّ نخل الجنة نضيد، وثمرها كالقلال كلما نزعت عادت مكانها أخرى؛ العنقود منها اثنا عشر ذراعاً.
{فبأي آلاء} أي نعم {ربكما} المحسن إلى الثقلين بجليل التربية {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها مما أحسن به إليكم؟.
{فيهنّ} أي: الجنان الأربع، أو الجنتين وقصورهما {خيرات حسان} أي: نساء الواحدة خيرة على معنى ذوات خير، وقيل: خيرات بمعنى خيرات فخفف كهين ولين.
روى الحسن عن أمّه عن(4/175)
أم سلمة: قالت: «قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى: {خيرات حسان} ؛ قال: خيرات الأخلاق حسان الوجوه» . وقال أبو صالح: لأنهنّ عذارى أبكار؛ قال الحكيم الترمذي: فالخيرة ما اختارهنّ الله تعالى فأبدع خلقهنّ باختياره، فاختيار الله تعالى لا يشبهه اختيار الآدميين، فوصفهنّ بالحسن فإذا وصف الله تبارك وتعالى خالق الحسن شيئاً بالحسن فانظر ما هناك وقال الرازي: في باطنهنّ الخير وفي ظاهرهنّ الحسن.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: الكامل الإحسان إليكما {تكذبان} أبنعمة ما جعل لكم من الفواكه أم غيرها؟.
ثم زاد في وصفهنّ بقوله تعالى: {حور} جمع حوراء وهي الشديدة سواد العين الشديدة بياضها {مقصورات} والمقصورات المحبوسات المستورات {في الخيام} وهي الحجال، فلسن بالطوّافات في الطرق؛ قاله ابن عباس، والنساء تمدح بملازمتهنّ البيوت كما قال قيس بن الأسلت:
*وتكسل عن جيرانها فيزرنها ... وتعتل من إتيانهنّ فتعذر*
ويقال امرأة مقصورة وقصيرة وقصورة بمعنى واحد، قال كثير عزة:
*وأنت التي حببت كلّ قصيرة ... إليّ ولم يعلم بذاك القصائر*
*عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا شر النساء البحاتر*
والخيام: جمع خيمة، وهي: أربعة أعواد تنصب وتسقف بشيء من نبات الأرض، وجمعها خيم، كتمرة وتمر، وتجمع الخيم على خيام فهو جمع الجمع؛ وأمّا ما يتخذ من شعر أو وبر أو نحوه فيقال له: خباء، وقد يطلق عليه خيمة تجوّزاً. وقال عمر: الخيمة درة مجوّفة. وقاله ابن عباس قال: وهي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وفي الحديث: «أنّ في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها: ستون ميلاً؛ في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون» . وقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي: قال: بلغنا أن سحابة أمطرت من العرش فخلقن أي: الحور العين من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطىء الأنهار سعتها أربعون ميلاً وليس لها باب، حتى إذا دخل وليّ الله تعالى بالخيمة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم وليّ الله أنّ أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها، فهي مقصورة قد قصرها الله عن أبصار المخلوقين. وقال مجاهد: معناه قصرن أطرافهنّ وأنفسهنّ على أزواجهنّ فلا يبغين بدلاً. وقال صلى الله عليه وسلم «لو أنّ امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» .
فائدة: اختلفوا أيما أكثر حسناً وأتم جمالاً، الحور أم الآدميات؛ فقيل: الحور لما ذكر في وصفهنّ في القرآن والسنة، ولقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه في صلاة الجنازة: «وأبدله زوجاً خيراً من زوجه» . وقيل: الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف روي ذلك مرفوعاً. وقيل: إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النبيين والمؤمنين، يخلقن في الآخرة على أحسن صورة، قاله الحسن البصري، قال ابن عادل: والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، إنما هنّ مخلوقات في الجنة لأنّ الله تعالى قال: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جانّ} وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات ا. هـ. لكن مرّ أنه(4/176)
لم يطمثهن بعد إنشائهن خلقاً آخر وعلى هذا لا دليل في ذلك.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} الذي صوركم فأحسن صوركم {تكذبان} أبهذه النعم أم بغيرها؟.
{لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ} كحور الجنتين الأوليين وضميرهم في قبلهم لأصحاب الجنتين.
{فبأي آلاء} أي نعم {ربكما} الذي جعل لكم في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {تكذبان} أبهذه النعم أم بغيرها.
{متكئين} أي لهم ما ذكر حالة الاتكاء والعامل في الحال محذوف، أي: ينعمون متكئين {على رفرف} أي: ثياب ناعمة وفرش رقيقة النسج من الديباج لينة ووسائد عظيمة، ورياض باهرة، وبسط لها أطراف فاضلة، وهو جمع رفرفة، لأن الله تعالى وصفه بالجمع بقوله: {خضر} ووصفه بذلك لأنّ الخضرة أحسن الألوان وأبهجها، وقال الجوهري: هو ثياب خضر تتخذ منها المحابس الواحدة رفرفة واشتقاقه من رف الطائر أي: ارتفع في الهواء ورفرف بجناحيه إذا نشرهما للطيران؛ وقيل: الرفرف طرف الفسطاط والخباء الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد؛ وفي الخبر في وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم «فرفع الرفرف، فرأينا وجهه كأنه ورقة» ، أي: رفع طرف الفسطاط وقال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول: الرفرف أعظم خطراً من الفرش فذكر في الأولين {متكئين على فرش بطائنها من استبرق} وقال هنا: {متكئين على رفرف خضر} فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الولي رفرف به أي طار به حيثما يريد كالمرجاح. وروي في حديث المعراج أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ سدرة المنتهى، جاءه الرفرف فتناوله من جبريل وطار به إلى سند العرش فذكر أنه قال طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي على ربي. أي: في محل تنزلات رحمة ربي ثم لما جاء الانصراف تناوله فطار به خفضا ورفعاً يهوي به، حتى أداه إلى جبريل عليه السلام؛ فالرفرف خادم من الخدم بين يدي الله تعالى له خواص الأمور من الدنوّ والقرب؛ كما أنّ البراق دابة تركبها الأنبياء عليهم السلام مخصوصة بذلك، وهذا الرفرف الذي سخر لأهل الجنتين الدائبتين هو متكؤهما وفرشهما يرفرف بالوليّ على حافات تلك الأنهار حيث يشاء إلى خيام أزواجه.
وقوله تعالى: {وعبقريّ} منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجنّ فينسبون إليه كل شيء عجب؛ قال في القاموس: عبقر موضع كثير الجنّ وقرية ثيابها في غاية الحسن، والعبقري الكامل من كل شيء؛ وقال الخليل: هو كلّ جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم؛ وقال قطرب ليس هو من المنسوب بل هو بمنزلة كرسي وبختي ا. هـ. والمراد به: الجنس، ولذلك قال تعالى: {حسان} حملاً على المعنى أي هي في غاية من كمال الصنعة وحسن المنظر لا توصف.
{فبأيّ آلاء} أي: نعم {ربكما} المحسن الواحد الذي لا محسن غيره ولا إحسان إلا منه {تكذبان} أبشيء من هذه النعم أم بغيرها.
ولما دلّ ما ذكر في هذه السورة من النعم على إحاطة مبدعها بأوصاف الكمال وختم نعم الدنيا بقوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وفيه إشارة إلى أنّ الباقي هو الله تعالى وأنّ الدنيا فانية ختم نعيم الآخرة بقوله عز من قائل: {تبارك} قال ابن برّجان: تفاعل من البركة ولا يكاد يذكره جل ذكره إلا عند أمر معجب ا. هـ. ومعناه ثبت ثباتاً لا تسع العقول وصفه.
ولما كان تعظيم الاسم أبلغ في تعظيم المسمى قال تعالى: {اسم ربك}(4/177)
أي: المحسن إليك بإنزال هذا القرآن الذي جبلك على متابعته فصرت مظهراً له وصار خلقاً لك فصار إحسانه إليك فوق الوصف؛ وقيل: لفظ اسم زائد وجرى عليه الجلال المحلي والأوّل أولى.
{ذي الجلال} أي: العظمة الباهرة {والإكرام} قال القرطبي: كأنه يريد به الاسم الذي افتتح به السورة، فقال: {الرحمن} فافتتح بهذا الاسم فوصف خلق الإنسان والجنّ، وخلق السموات والأرض وصنعه؛ وأنه تعالى كل يوم هو في شان، ووصف تدبيره فيهم؛ ثم وصف يوم القيامة، وأهوالها، وصفة النار، ثم ختمها بصفة الجنان.
ثم قال في آخر الصفة {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} أي: هذا لاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أنّ هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم، وخلقت لكم السماء والأرض والخليقة والجنة والنار فهذا كله لكم من اسم الرحمن فمدح اسمه فقال تعالى: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} أي: جليل في ذاته كريم في أفعاله وقرأ ابن عامر: بالواو رفعاً صفة للاسم والباقون بالياء خفضاً صفة لرب، فإنه هو الموصوف بذلك. روى الثعلبي عن علي أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره» . وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري: من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الرحمن أدى شكر ما أنعم الله عليه» حديث موضوع.
سورة الواقعة
مكية
في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء؛ وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} وقال الكلبي: مكية إلا أربع آيات؛ منها آيتان {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} نزلتا في سفره إلى مكة؛ وقوله تعالى: {ثلة من الأوّلين وثلة من الآخرين} نزلتا في سفره إلى المدينة، وقدّمنا أنّ في المدني والمكي اصطلاحين، وأنّ المشهور أنّ المكي ما نزل قبل الهجرة؛ والمدني ما نزل بعدها وهي ست وتسعون آية؛ قال الجلال المحلي: وهي ست أو سبع أو تسع وتسعون آية وثلاثمئة وثمان وتسعون كلمة، وألف وسبع مئة وثلاثة أحرف.
{بسم الله} الذي له الكمال كله ففاوت بين الناس في الأحوال {الرحمن} الذي عم بنعمة البيان وفاضل في قبولها بين أهل الإدبار وأهل الإقبال {الرحيم} الذي قرب أهل حزبه ففازوا بمحاسن الأقوال والأفعال.
ولما قسم سبحانه الناس في تلك السورة إلى ثلاثة أصناف مجرمين وسابقين ولاحقين، شرح أحوالهم في هذه السورة وبين الوقت الذي يظهر فيه إكرامه وانتقامه بقوله تعالى:
{إذا وقعت الواقعة} أي: التي لا بد من وقوعها ولا واقع يستحق أن يسمى الواقعة بلام الكمال وتاء المبالغة غيرها، وهي النفخة الثانية التي يكون عنها البعث الأكبر الذي هو القيامة الجامعة لجميع الخلق، فسميت واقعة لتحقق وقوعها، وقيل: لكثرة ما يقع فيها من الشدائد، وانتصاب إذا بمحذوف مثل اذكر أو كان كيت وكيت، وقال الجرجاني: إذا صلة كقوله تعالى: {اقتربت الساعة} (القمر: 1)
و {أتى أمر الله} (النحل: 1)
وهو كما يقال: جاء الصوم أي دنا وقرب وقوله تعالى: {ليس لوقعتها(4/178)
كاذبة} مصدر بمعنى الكذب والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر كقوله تعالى: {لا تسمع فيها لاغية} (الغاشية: 11)
أي: لغو والمعنى: ليس لها كذب قاله الكسائي، أو صفة والموصوف محذوف أي: ليس لوقعتها حال كاذبة، أي: كل من يخبر عن وقعتها صادق، أو نفس كاذبة بأن تنفيها كما نفتها في الدنيا وقال الزجاج: ليس لوقعتها كاذبة أي: لا يردها شيء، وقيل: إنّ قيامها جد لا هزل وقوله تعالى: {خافضة رافعة} تقرير لعظمتها وهو خبر لمبتدأ محذوف أي: هي، قال عكرمة ومقاتل: خفضت الصوت فأسمعت من دنا، ورفعت الصوت فأسمعت من نأى يعني: أسمعت القريب والبعيد. وعن السدى خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين.
وقال قتادة: خفضت أقواماً في عذاب الله تعالى ورفعت أقواماً إلى طاعة الله تعالى. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: خفضت أعداء الله تعالى في النار ورفعت أولياء الله تعالى في الجنة. وقال ابن عطاء: خفضت قوماً بالعدل ورفعت آخرين بالفضل. ولا مانع أنّ كل ذلك موجود فيها والرفع والخفض يستعملان عند العرب في المكان والمكانة والعز والإهانة؛ ونسب سبحانه وتعالى الخفض والرفع إلى القيامة توسعاً ومجازاً على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لا يمكن منه الفعل، يقولون: ليل قائم ونهار صائم وفي التنزيل: {بل مكر الليل والنهار} (سبأ: 33)
والخافض والرافع في الحقيقة هو الله تعالى، واللام في قوله تعالى: {لوقعتها} إمّا للتعليل أي: لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدّة وقعتها، وإمّا للتعدية كقولك ليس لزيد ضارب، فيكون التقدير إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها أمر يوجد لها كاذب إذا أخبر عنه.
قال الرازي: وعلى هذا لا تكون ليس عاملة في إذا وهي بمعنى ليس لها كاذب {إذا رجت الأرض} أي: كلها على سعتها وثقلها بأيسر أمر {رجاً} أي: حركت تحريكاً شديداً بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل، قال بعض المفسرين: ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم ما عليها وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها، والرجرجة: الاضطراب، وارتج البحر وغيره واضطرب وفي الحديث: «من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له» . يعني إذا اضطربت أمواجه والظرف متعلق بخافضة أو بدل من إذا وقعت.
ولما ذكر حركتها المزعجة أتبعها غايتها بقوله تعالى: {وبست الجبال بساً} أي: فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لتّه؛ قال ابن عباس ومجاهد: كما يبس الدقيق أي: يلت، والبسيسة السويق، أو الدقيق يلت بالسمن أو الزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زاداً قال الراجز:
*لا تخبزا خبزاً وبسابسا ... ولا تطيلا بمناخ حبساً*
أو سيقت وسيرت من بس الغنم إذا ساقها وبست الأبل وأبسستها لغتان إذا زجرتها، وقلت: بس بس قاله أبو زيد؛ وقال الحسن: بست قلعت من أصلها فذهبت، ونظيرها ينسفها ربي نسفاً؛ وقال عطية: بسطت بالرمل والتراب {فكانت} أي: بسبب ذلك {هباء} أي: غباراً هو في غاية الانسحاق وإلى شدّة لطافته أشار بصفته فقال تعالى: {منبثاً} أي: منتشر متفرّقاً بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه، فهو كالذي يرى في شعاع الشمس إذا دخل من كوّة؛ وعن ابن عباس: هو ما تطاير من النار إذا أضرمت يطير منها شرر، فإذا وقع لم يكن شيئاً {وكنتم} أي: قسمتم بما كان في جبلاتكم(4/179)
وطبائعكم في الدنيا {أزواجاً} أي: أصنافا {ثلاثة} كل صنف يشاكل ما هو منه كما يشاكل الزوج الزوجة؛ قال البيضاوي: وكل صنف يكون أو يذكر مع صنف آخر زوج.
ثم بين من هم بقوله تعالى: {فأصحاب الميمنة} وهم الذين يؤتون كتبهم بإيمانهم مبتدأ، وقوله تعالى: {ما} استفهام فيه تعظيم مبتدأ ثان، وقوله تعالى: {أصحاب الميمنة} خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأوّل، وتكرير المبتدأ بلفظه مغن عن الضمير، ومثله {الحاقة ما الحاقة} (الحاقة: 1 ـ 2)
{القارعة ما القارعة} (القارعة: 1 ـ 2)
ولا يكون ذلك إلا في مواضع التعظيم.
ولما ذكر الناجين بقسميهم أتبعهم أضدادهم بقوله تعالى: {وأصحاب المشأمة} أي: الشمال وهم الذي يؤتون كتبهم بشمائلهم وقوله تعالى: {ما أصحاب المشأمة} تحقير لشأنه بدخولهم النار، وقال السدي: {أصحاب الميمنة} هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، {وأصحاب المشأمة} هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، والمشأمة الميسرة وكذا الشامة والعرب تقول لليد الشمال: الشؤمي، قال البغوي: ومنه سمى الشأم واليمن، لأنّ اليمن عن يمين الكعبة، والشام عن شمالها؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: {أصحاب الميمنة} هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرّية من صلبه، فقال الله تعالى لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي؛ وقال زيد بن أسلم: هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن؛ وقال ابن جريج: {أصحاب الميمنة} هم أصحاب الحسنات {وأصحاب المشأمة} هم {أصحاب السيئات} .d
وفي صحيح مسلم من حديث الإسراء عن أبي ذر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال: فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى قال: فقال: مرحباً بالنبيّ الصالح والابن الصالح، قال: قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: آدم عليه السلام وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار» . وذكر الحديث وقال المبرّد: أصحاب الميمنة: أصحاب التقدّم وأصحاب المشأمة: أصحاب التأخر والعرب تقول اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، أي: اجعلني من المتقدّمين، ولا تجعلني من المتأخرين.
تنبيه: الفاء في قوله تعالى: {فأصحاب} تدل على التقسيم وبيان ما ورد عليه التقسيم، كأنه قال: أزواجاً ثلاثة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون، ثم بين حال كل قسم فقال: فأما أصحاب الميمنة وترك التقسيم أولاً واكتفى بما يدل عليه بأنّ ذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها، فإن قيل: ما الحكمة في اختيار لفظ المشأمة في مقابلة الميمنة مع أنه قال في بيان أحوالهم: وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال؟ أجيب: بأنّ اليمين وضع للجانب المعروف، واستعملوا منه ألفاظاً في مواضع، فقالوا: هذا ميمون تيمناً به، ووضعوا مقابلة اليمين اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه، واستعملوا منه ألفاظاً تشاؤماً به فذكر المشأمة في مقابلة الميمنة، وذكر الشمال في مقابلة اليمين، فاستعمل كل لفظ مع مقابلة.
ولما ذكر تعالى القسمين وكان كل منهما قسمين ذكر أعلى أهل القسم الأوّل ترغيباً في حسن حالهم ولم يقسم أهل المشأمة ترهيباً في سوء حالهم فقال تعالى: {والسابقون} أي: إلى أعمال الطاعة مبتدأ وقوله تعالى: {السابقون} تأكيد عن المهدوي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «السابقون الذين(4/180)
إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سُئِلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» . وقال محمد بن كعب القرظي: هم الأنبياء عليهم السلام، وقال الحسن وقتادة: السابقون إلى الإيمان من كل أمّة؛ وقال محمد بن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين قال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} (التوبة: 100)
وقال مجاهد والضحاك: هم السابقون إلى الجهاد وأوّل الناس رواحاً إلى الصلاة؛ وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: هم السابقون إلى الصلوات الخمس؛ وقال سعيد بن جبير: إلى التوبة وأعمال البرّ، قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} (آل عمران: 133)
{ثم أثنى عليهم فقال تعالى أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (المؤمنون: 61)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم أربعة: منهم سابق أمّة موسى عليه السلام وهو حز قيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمّة عيسى عليه السلام وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقا أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال سميط بن عجلان: الناس ثلاثة: رجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب الشمال. وروي عن كعب قال: هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة، وقيل: هم أوّل الناس رواحاً إلى المسجد وأولهم خروجاً في سبيل الله.
وخبر المبتدأ {أولئك} أي: العالو الرتبة جداً {المقرّبون} أي: الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم واصطفاهم الله تعالى للسبق، فأرادهم لقربه ولولا فضله في تقريبهم لم يكونوا سابقين؛ قال الرازي في اللوامع: المقرّبون تخلصوا من نفوسهم وأعمالهم كلها الله تعالى ديناً ودنيا من حق الله تعالى، وحق الناس وكلاهما عندهم حق الله تعالى، والدنيا عندهم آخرتهم لأنهم يراقبون ما يبدو لهم من ملكوته فيتلقونه بالرضا والإنقياد، وهم صنفان: صنف قلوبهم في جلاله وعظمته هائمة قد ملكتهم هيبته فالحق يستعملهم في وصف آخر قد أرخى من عنانه والأمر عليه أسهل لأنه قد جاوز بقلبه هذه الخطة، ومحله أعلى فهو أمين الله تعالى في أرضه فيكون عليه أوسع ا. هـ.
ثم بين تقريبه لهم بقوله تعالى: {في جنات النعيم} أي: الذي لا كدر فيه بوجه ولا منغص ولما ذكر السابقين فصلهم بقوله تعالى: {ثلة} أي: جماعة وقيدها الزمخشري بالكثيرة وأنشد:
*وجاءت إليهم ثلة خندفية ... تجيش كتيار من السيل مزبد*
قال ابن عادل: ولم يقيدها غيره بل صرّح بأنها الجماعة؛ قلت: أو كثرت ثم قال: والكثرة التي فهمها الزمخشري قد تكون من السياق ا. هـ. لكن قال البغوي: والثلة جماعة غير محصورة العدد {من الأولين} أي: من الأمم السابقة من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم من النبيين عليهم السلام ومن آمن بهم {وقليل من الآخرين} وهم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كان الأنبياء عليهم السلام مئة ألف ونيفاً وعشرين ألفاً، وكان من خرج مع موسى عليه السلام من مصر وهو مؤمن به من الرجال المقاتلين ممن هو فوق العشرين ودون الثمانين ست مئة ألف، فما ظنك بمن عداهم من الشيوخ ومن دون العشرين من البالغين الصبيان ومن النساء، فكيف بمن عداه من سائر النبيين عليهم السلام المجدّدين من بني إسرائيل وغيرهم. قال البيضاوي: ولا يخالف ذلك(4/181)
قوله عليه الصلاة والسلام: «أمتي يكثرون سائر الأمم» . لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة، وتابعوا هذه الأمّة أكثر من تابعيهم.
قيل: لما نزلت هذه الآية شق على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت {ثلة من الأوّلين وثلة من الآخرين} فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني» . رواه أبو هريرة رضي الله عنه. ذكره الماوردي وغيره ومعناه ثابت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود وكأنه أراد أنها منسوخة؛ قال الرازي: وهذا في غاية الضعف لأنّ عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان بالنسبة إلى ما مضى في غاية القلة والمراد بالأولين الأنبياء وكبار أصحابهم وهم إذا اجتمعوا كانوا أكثر من السابقين من هذه الأمّة ولأنّ هذا خبر والخبر لا ينسخ، وقال الحسن: سابقوا من مضى أكثر من سابقينا فلذا قال تعالى: {وقليل من الآخرين} وقال في أصحاب اليمين: وهم سوى السابقين {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} ولذا قال صلى الله عليه وسلم «إنى لأرجو أن تكون أمتي شطر أهل الجنة ثم تلا {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} » . وروى الطبراني: أنّ الثلة والقليل كلاهما من هذه الأمة فتكون الصحابة كلهم من هذه الثلة، وكذا من تبعهم بإحسان إلى رأس القرن الثالث وهم لا يحصيهم إلا الله تعالى؛ ومن المعلوم أنه تناقص الأمر بعد ذلك إلى أن صار السابق في الناس أقل من القليل لرجوع الإسلام إلى الحال التي بدأ عليها من الغربة، «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء أي وهم الذين إذا فسد الناس صلحوا، كما فسر به النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال أبو بكر: كلا الثلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها، وهو مثل قوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} (فاطر: 32)
وقيل: المراد بالأولين {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وبالآخرين {ذرياتهم} الملحقون بهم في قوله تعالى: {وأتبعتهم ذريتهم بإيمان} (الطور: 21)
ألحقنا بهم ذرياتهم، واشتقاق الثلة وهي مبتدأ من الثل وهو القطع والخبر {على سرر} جمع سرير وهو ما يجعل الإنسان من المقاعد العالية المصنوعة للراحة والكرامة {موضونة} قال ابن عباس رضي الله عنهما: منسوجة بالذهب، وقال عكرمة: مشبكة بالدرّ والياقوت؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً: موضونة، أي: مصفوفة لقوله تعالى في موضع آخر: {على سرر مصفوفة} وقيل: منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدرّ والياقوت، والموضونة المنسوجة، وأصله: من وضنت الشيء أي: ركبت بعضه على بعض، ومنه قيل للدرع موضونة لتركب حلقها قال الأعشى:
*ومن نسج داود موضونة ... تسير مع الحيّ عيراً فعيراً*
ومنه أيضاً وضين الناقة وهو حزامها لتراكب طاقاته، قال عمر رضي الله عنه: وهو مار بواد محسر.
*إليك تعد وقلقاً وضينها ... معترضاً في بطنها جنينها*
*مخالفاً دين النصارى دينها
رواه البيهقي. ومناه أن ناقتي تعدو إليك مسرعة في طاعتك قلقاً، وضينها وهو حبل كالجزام من كثرة السير والإقبال التام والاجتهاد البالغ في طاعتك؛ والمراد: صاحب الناقة فيسنّ للمار(4/182)
بوادي محسر أن يقول هذا الكلام الذي قاله عمر رضى الله تعالى عنه.
ولما ذكر تعالى السرر وبين عظمتها ذكر غايتها فقال سبحانه: {متكئين عليها} أي: السرر على الجنب أو غيره كحال من يكون على كرسي فيوضع تحته شيء آخر للإتكاء عليه {متقابلين} فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وقال مجاهد وغيره: هذا في المؤمن وزوجته وأهله أي: يتكؤون متقابلين، قال الكلبي طول كل سرير ثلث مئة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت وقيل: إنهم صاروا أرواحاً نورانية صافية ليس لهم أدبار ولا ظهور.
تنبيه: {متكئين عليها متقابلين} حالان من الضمير في على سرر، ويجوز أن تكون حالاً متداخلة فيكون متقابلين حالاً من ضمير متكئين، ثم بين تعالى أنهم في غاية الراحة بقوله تعالى:
{يطوف عليهم} أي: لكفاية كل ما يحتاجون إليه {ولدان} أي: على أحسن صورة وزي وهيئة {مخلدون} قد حكم الله تعالى ببقائهم على ما هم عليه من الهيئة على شكل الأولاد قال الحسن والكلبي: لا يهرمون ولا يتغيرون، ومنه قول امرئ القيس:
*وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال*
وقال سعيد بن جبير: مخلدون مقرّطون، يقال للقرط: الخلد، والقرط ما يجعل في الأذنين من الحلق؛ وقيل: مقرطقون أي ممنطقون من المناطق والمنطقة ما يجعل في الوسط؛ وأكثر المفسرين أنهم على سن واحد أنشأهم الله تعالى لأهل الجنة، يطوفون عليهم نشؤاً من غير ولادة فيها لأنّ الجنة لا ولادة فيها؛ وقال عليّ بن أبي طالب والحسن البصري رضى الله عنهم: الولدان ههنا ولدان المسلمين الذي يموتون صغاراً ولا حسنة لهم ولا سيئة؛ وقال سلمان الفارسي: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة؛ قال الحسن: لم تكن لهم حسنات يجازون بها ولا سيآت يعاقبون عليها فوضعوا هذا الموضع. والمقصود أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة وقوله تعالى: {بأكواب} متعلق بيطوفون، والأكواب جمع كوب وهي كيزان مستديرة الأفواه بلا عرى ولا خراطيم، لا يعوق الشارب منهاعائق عن شرب من أي موضع. أراد منها، فلا يحتاج أن يحول الإناء عن الحالة التي تناوله بها ليشرب، وقوله تعالى: {وأباريق} جمع إبريق، وهي أوان لها عرى وخراطيم فيها من أنواع المشارب ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، سمى بذلك لبريق لونه من صفائه {وكأس} أي: إناء شراب الخمر {من معين} أي: خمر صافية صفاء الماء ليس يتكلف عصرها جارية من منبع لا ينقطع أبداً.
فإن قيل: كيف جمع الأكواب والأباريق وأفرد الكأس؟ أجيب: أنّ ذلك على عادة أهل الشرب فإنهم يعدون الخمر في أوان كثيرة ويشربون بكأس واحد، وفيها مباينتهم أهل الدنيا من حيث أنهم يطوفون بالأكواب والأباريق ولا تثقل عليهم بخلاف أهل الدنيا {لا يصدّعون عنها} أي: بسببها قال الزمخشري وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها، والصداع: هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه، والخمر تؤثر فيه؛ قال علقمة بن عبدة في وصف الخمر:
*تشفى الصداع ولا يؤذيك صالتها ... ولا يخالطها في الرأس تدويم*
قال أبو حيان: هذه صفة خمر الجنة كذا قال لي الشيخ أبو جعفر بن الزبير؛ والمعنى: لا تتصدّع رؤوسهم من شربها فهي لذة بلا أذى بخلاف خمر الدنيا؛ وقيل: لا يتفرقون عنها {ولا ينزفون} أي: تذهب(4/183)
بعقولهم بوجه من الوجوه أي: يفرغ شرابهم من نزفت البئر إذا نزح ماؤها كله؛ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الزاي والباقون بفتحها {وفاكهة مما يتخيرون} أي: يختارون ما يشتهون من الفواكه لكثرتها؛ وقيل: المعنى: وفاكهة متخيرة مرضية والتخير الاختيار {ولحم طير مما يشتهون} أي: يتمنون؛ قال ابن عباس رضى الله عنهما: يخطر على قلبه لحم الطير فيصير ممثلاً بين يديه على ما اشتهى، ويقال: إنه يقع على صحفة الرجل فيأكل منه ما يشتهي ثم يطير فيذهب؛ فإن قيل: ما الحكمة في تخصيص الفاكهة بالتخيير، واللحم بالاشتهاء؟ أجيب: بأنّ اللحم والفاكهة إذا حضرا عند الجائع تميل نفسه إلى اللحم، وإذا حضرا عند الشبعان تميل نفسه إلى الفاكهة، فالجائع مشته، والشبعان غير مشته بل هو مختار، وأهل الجنة إنما يأكلون لا من جوع بل للتفكه فميلهم للفاكهة أكثر فيتخيرونها، ولهذا ذكرت في مواضع كثيرة في القرآن بخلاف اللحم، وإذا اشتهاه حضر بين يديه على ما يشتهيه فتميل نفسه إليه أدنى ميل، ولهذا قدم الفاكهة على اللحم.
فإن قيل: الفاكهة واللحم لا يطوف بهما الولدان، والعطف يقتضي ذلك؟ أجيب: بأنّ الفاكهة واللحم في الدنيا يطلبان في حال الشرب فجاز أن يطوف بهما الولدان فيناولونهم الفواكه الغريبة واللحوم العجيبة لا للأكل بل للإكرام كما يضع المكرم للضيف أنواع الفواكه بيده، أو يكون معطوفاً على المعنى في قوله: {جنات النعيم} أي: مقرّبون في جنات النعيم وفاكهة ولحم، أي: في هذا النعيم يتقلبون.
ولما لم يكن بعد الأكل والشراب أشهى من النساء قال تعالى: {وحور} أي: نساء شديدات سواد العيون وبياضها {عين} أي: ضخام العيون وقرأ حمزة والكسائي بخفض الاسمين عطفاً على سرر، فإنّ النساء في معنى المتكأ لأنهن يسمين فراشاً، والباقون بالرفع عطفاً على ولدان {كأمثال اللؤلؤ المكنون} أي: المخزون في الصدف المصون الذي لم تمسه الأيدي ولم تقع عليه الشمس والهواء، فيكون في نهاية الصفاء؛ قال البغوي: ويروى أنه يسطع نور في الجنة فيقولون: ما هذا؟ فيقال: ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها ويروى أنّ الحوراء إذا مشت يسمع تقديس الخلاخل من ساقها، وتمجيد الأسورة من ساعديها، وأنّ عقد الياقوت يضحك في نحرها، وفي رجليها نعلان من ذهب شراكهما من لؤلؤ يصران بالتسبيح. ولما بالغ في وصف جزائهم بالحسن والصفاء دل على أنّ أعمالهم كانت كذلك لأنّ الجزاء من جنس العمل فقال تعالى: {جزاء} أي: فعل ذلك لهم لأجل الجزاء {بما كانوا يعملون} أي: يجدّدون عمله على جهة الاستمرار، قالت المعتزلة: هذا يدل على أنّ إيصال الثواب واجب على الله تعالى، لأنّ الجزاء لا يجوز الإخلال به، وأجيبوا بأنه لو صح ما ذكروه لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة، لأنّ العقل إذا حكم بأنّ ترك الجزاء قبيح، وعلم بالعقل أنّ القبيح من الله تعالى لا يوجد علم أنّ الله تعالى يعطى هذه الأشياء لأنها جزاؤه، وإيصال الجزاء واجب، فكان لا يصح التمدح به {لا يسمعون فيها لغواً} أي: شيئاً مما لا ينفع واللغو
الساقط {ولا تأثيماً} أي: ما يحصل به الإثم أو النسبة إلى الأثم بل حركاتهم وسكناتهم كلها في رضا الله تعالى؛ وقال ابن عباس رضى الله عنهما: باطلاً وكذباً؛ قال محمد بن كعب: ولا تأثيماً أي: لا يؤثم بعضهم بعضاً؛ وقال مجاهد: لا يسمعون شتماً ولا مأثماً وقوله تعالى: {إلا قيلاً} فيه قولان أحدهما: أنه(4/184)
استثناء منقطع وهذا واضح لأنه لم يندرج تحت اللغو والتأثيم، والثاني: أنه متصل وفيه بعد؛ قال
ابن عادل فكان هذا رأى أنّ الأصل لا يسمعون فيها كلاماً فاندرج عنده فيه؛ ثم بين تعالى ذلك بقوله: {سلاماً سلاما} أي قولاً سلاماً، قال عطاء: يحيى بعضهم بعضاً بالسلام، أو تحيهم الملائكة، أو يحييهم ربهم؛ ودل على دوامه بتكريره فقال تعالى: {سلاما} ففيه إشارة إلى كثرة السلام عليهم ولهذا لم يكرر في قوله تعالى {سلام قولاً من رب رحيم} (يس: 58)
وقال القرطبي: السلام الثاني بدل من الأوّل، والمعنى: إلا قولاً يسلم فيه من اللغو.
ولما بين حال السابقين شرع في بيان حال أصحاب اليمين فقال تعالى:
{وأصحاب اليمين} ثم فخم أمرهم وأعلى مدحهم لتعظيم جزائهم فقال تعالى: {ما أصحاب اليمين} فإن قيل: ما الحكمة في ذكرهم بلفظ أصحاب الميمنة عند تقسيم الأزواج الثلاثة وبلفظ أصحاب اليمين عند ذكر الإنعام؟ أجيب: بأن ذلك تفنن في العبارة والمعنى واحد {في سدر} أي: شجر نبق {مخضود} أي: لا شوك فيه كأنه خضد شوكه أي: قطع ونزع منه؛ قال ابن المبارك: أخبرنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولون: إنا لينفعنا الأعراب ومسائلهم؛ قال: أقبل أعرابي يوماً فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله تعالى في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذى صاحبها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وما هي؟» قال: السدر فإن له شوكاً مؤذياً؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو ليس يقول سدر مخضود خضض الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة، فإنها تنبت ثمراً على اثنين وسبعين لوناً من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر» ؛ وقال أبو العالية والضحاك: نظر المسلمون إلى وج وهو واد بالطائف مخصب فأعجبهم سدره فقالوا يا ليت لنا مثل هذا فنزلت. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة وما فيها:
*إن الحدائق في الجنان ظليلة ... فيها الكواعب سدرها مخضود*
قال مجاهد: {في سدر مخضود} هو الموقر حملاً الذي تنثني أغصانه كثرة حمله من خضض الغصن إذا ثناه وهو رطب؛ وقال سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من القلال {وطلح منضود} أي: منظوم بالجمل من أعلاه إلى أسفله ليست له ساق بارزة متراكم يتركب بعضه على بعض على ترتيب هو في غاية الإعجاب، والطلح جمع الطلحة؛ قال عليّ وابن عباس رضى الله عنهم وأكثر المفسرين: الطلح شجر الموز واحده طلحة؛ وقال الحسن: ليس هو موزاً ولكنه شجر له ظل بارد رطب؛ وقال الفرّاء وأبو عبيدة: شجر عظيم كثير الشوك والطلح كل شجر عظيم له شوك؛ وقال الزجاج: هو شجر أم غيلان؛ قال مجاهد: ولكن ثمرها أحلى من العسل، وقال الزجاج: لها نور طيب جدّاً خوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله إلا أنّ فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا؛ وقال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل؛ وقال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ثمر كله كلما أكلت ثمرة عاد مكانها أحسن منها {وظل ممدود} أي: دائم لا يزول ولا تنسخه الشمس لقوله تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظلّ ولو شاء لجعله ساكناً} (الفرقان: 45)
كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس؛ وقيل: الظل ليس ظلّ أشجار بل ظلّ يخلقه الله تعالى، قال الربيع بن أنس رضى الله عنه: يعني ظلّ العرش؛ وقال عمرو بن ميمون رضى الله عنه: مسيرة سبعين ألف سنة؛ وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر(4/185)
الطويل والعمر الطويل والشيء الذي لا ينقطع ممدود قال الشاعر:
*غلب العزاء وكان غير مغلب ... دهر طويل دائم ممدود*
وفي صحيح الترمذي وغيره، عن أبي هريرة رضى الله عنه: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها، واقرؤوا إن شئتم {وظلّ ممدود} » في هذا الحديث ردّ على من يقول: إنّ الأشجار لا ظل لها وقد سئل السبكي عن الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولاً إذا تراءت له شجرة يقول: يا رب أدنني من هذه لأستظل في ظلها، الحديث من أيّ شيء يستظل والشمس قد كورت؟ أجاب بقوله تعالى: {وظلّ ممدود} وبقوله تعالى: {هم وأزواجهم في ظلال} (يس: 56)
إذ لا يلزم من تكوير الشمس عدم الظل لأنه مخلوق لله تعالى وليس بعدم بل أمر وجودي له نفع بإذن الله تعالى في الأبدان وغيرها. فليس الظل عدم الشمس كما قد يتوهم؛ وروى عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله تعالى: {وظلّ ممدود} قال شجرة في الجنة يخرج إليها أهل الجنة فيتحدّثون، ويشتهي بعضهم لهو الدنيا فيرسل الله تعالى عليهم ريحاً من الجنة فتتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا {وماء مسكوب} أي: جار في منازلهم في غير أخدود لا يحتاجون فيه إلى جلب ماء من الأماكن البعيدة ولا إدلاء في بئر كأهل البوادي، فإن العرب كانت أصحاب بادية وبلاد حارّة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك {فاكهة كثيرة} أي: أجناسها وأنواعها وأشخاصها {لا مقطوعة ولا ممنوعة} قال ابن عباس رضى الله عنهما: لا تنقطع إذا جنيت، ولا تمتنع من أحد إذ أراد أخذها، وقال بعضهم: لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان كما تنقطع أكثر ثمار الدنيا إذا جاء الشتاء، ولا يتوصل إليها إلا بالثمن؛ وقيل: لا يمنع من أرادها شوك ولا بعد ولا حائط بل إذا اشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها، قال تعالى {قطوفها دانية} (الحاقة: 23)
وجاء في الحديث: «ما قطع من ثمار الجنة إلا أبدل الله تعالى مكانها ضعفين» .
ولما كان التفكه لا يكمل الإلتذاذ به إلا مع الراحة قال تعالى: {وفرش مرفوعة} أي: رفيعة القدر يقال: ثوب رفيع، أي: عزيز مرتفع القدر والثمن بدليل قوله تعالى: {متكئين على فرش بطائنها من استبرق} (الرحمن: 54)
فكيف ظهائرها أو مرفوعة فوق السرر بعضها فوق بعض؛ روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وفرش مرفوعة} قال: «ارتفاعها كما بين السماء والأرض مسيرة خمس مئة عام» . قال: حديث غريب؛ وقيل: هي كناية عن النساء كما كنى عنهن باللباس، أي: ونساء مرتفعات الأقدار في حسنهن وكمالهن، والعرب تسمى المرأة فراشاً ولباساً على الاستعارة.
دليل هذا التأويل قوله تعالى: {إنا} أي: بمالنا من العظمة التي لا يتعاظمها شيء {أنشاناهن} أي: الفرش التي معناها النساء من أهل الدنيا بعد الموت بالبعث وزاد في التأكيد فقال تعالى: {إنشاء} أي: خلقاً جديداً من غير ولادة بل جمعناهن من التراب كسائر بني آدم، ليكونوا كأبيهم آدم عليه السلام في خلقه من تراب، لتكون الإعادة كالبداءة ولذلك يكون الكل عند دخول الجنة على شكله عليه السلام، وروى النحاس بإسناده أن أم سلمة سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء} فقال: «هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطاً عمشاً(4/186)
رمصاً جعلهن الله تعالى بعد الكبر أتراباً على ميلاد واحد في الاستواء» . وروى أنس بن مالك رضى الله عنه يرفعه في قوله تعالى {إنا أنشأناهن إنشاء} قال: هن العجائز العمش الرمص كنّ في الدنيا عمشاً رمصاً. وعن المسيب بن شريك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء} قال: «هن عجائز الدنيا أنشأهن الله تعالى خلقاً جديداً كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً» فلما سمعت عائشة رضى الله عنها ذلك قالت واوجعاه فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ليس هناك وجع» . وعن الحسن رضى الله عنه قال: أتت عجوز النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال: «يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز، قال: فولت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول {إنا أنشأناهن إنشاء} » {فجعلناهن} أي: الفرش المنشآت وغيرهن بعظمتنا المحيطة بكل شيء {أبكاراً} أي عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن عذارى ولا وجع؛ وذكر المسيب عن غيره: أنهن فضلن على الحور العين بصلاتهن في الدنيا؛ وقال مقاتل وغيره: هن الحور العين أنشأهن الله تعالى لم تقع عليهن الولادة وقوله تعالى: {عرباً} جمع عروب كصبور وصبر وهي الغنجة المحببة إلى زوجها، وقال الرازي في اللوامع: الفطنة
بمراد الزواج كفطنة العرب؛ وقيل: الحسناء؛ وقيل: المحسنة لكلامها؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هن العواتق. وأنشدوا
*وفي الخباء عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشى دونها البصر*
وقرأ حمزة وشعبة: بسكون الراء والباقون بضمها كرسل ورسل وفرش وفرش وقوله تعالى: {أتراباً} جمع ترب، وهو المساوي لك في سنك لأنه يمس جلدهما التراب في وقت واحد، وهو آكد في الأئتلاف، وهو من الأسماء التي لا تتعرّف بالإضافة، لأنه في معنى الصفة إذ معناه مساويك، ومثله: خدنك لأنه بمعنى مصاحبك؛ قال القرطبي: سن واحد وهو ثلاث وثلاثون سنة؛ يقال في النساء: أتراب، وفي الرجال: أقران؛ وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حدّ الفتى من النساء، وانحطت عن الكبر؛ وقال مجاهد: الأتراب الأمثال والأشكال. وقال السدّي: أتراب في الأخلاق لا تباغض فيهن ولا تحاسد، وروى أبو هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضاً محجلين أبناء ثلاثين أو قال ثلاثاً وثلاثين على خلق آدم عليه السلام ستون ذراعاً في سبعة أذرع» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من مات من أهل الجنة من صغير وكبير يردون بنى ثلاثين سنة في الجنة لا يزيدون عليها أبداً وكذلك أهل النار» . وعن أبي سعيد الخدري: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم، واثنان وسبعون ألف زوجة، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء، ينظر وجهه في خدّها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضئ ما بين المشرق والمغرب، وأنه ليكون عليها سبعون ثوباً ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أدنى أهل الجنة منزلة وما منهم دنيء لمن يغدو عليه ويروح عشرة آلاف خادم مع كل واحد منهم ظريفة ليست مع صاحبه.
«وفي تعلق اللام في قوله تعالى: {لأصحاب اليمين} وجهان أحدهما: أنّها متعلقة بأنشأناهن أي: لأجل أصحاب اليمين والثاني: أنها متعلقة بأتراباً كقولك: هذا ترب لهذا أي: مساو له.(4/187)
ثم بينهم بقوله تعالى: {ثلة من الأولين} أي: من أصحاب اليمين {وثلة} أي: منهم {من الآخرين} فلم يبين فيهم قلة ولا كثرة، قال البقاعي: والظاهر أنّ الآخرين أكثر فإن وصف الأولين بالكثرة لا ينافي كون غيرهم أكثر ليتفق مع قول النبيّ صلى الله عليه وسلم «أن هذه الأمة ثلثا أهل الجنة فإنهم عشرون ومئة صف هذه الأمة منهم ثمانون صفاً وأربعون من سائر الأمم» . وعن عروة بن رويم قال: لما نزل قوله تعالى: {ثلة من الأوّلين وقليل من الآخرين} بكى عمر وقال: يا نبيّ الله آمنا برسول الله وصدقناه ومن ينجو منّا قليل فأنزل الله تعالى: {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر فقال: قد أنزل الله تعالى فيما قلت فقال عمر: رضينا عن ربنا وتصديق نبينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من آدم إلينا ثلة ومنا إلى يوم القيامة ثلة ولا يستتمها الأسود من رعاة الإبل ممن قال لا إله إلا الله» .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: قال: «عرضت عليّ الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورفع إلي سواد عظيم فقلت إنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فتفرق الناس، ولم يبين لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكر أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك ولكنّا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: «هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة ابن محصن فقال: ادع الله تعالى أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم ثم قام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة» . والرهط دون العشرة وقيل إلى الأربعين. وعن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «عرضت عليّ الأنبياء الليلة باتباعها حتى أتى على موسى في كبكبة بني إسرائيل فلما رأيتهم أعجبوني فقلت: أي رب من هؤلاء؟ قيل: هو أخوك موسى ومن معه من بني إسرائيل، قلت: يا رب وأين أمتي؟ قيل: انظر عن يمينك فنظرت فإذا ظراب مكة قد سدّ بوجوه الرجال، فقال: هؤلاء أمتك أرضيت؟ فقلت: رضيت رب، قيل: انظر عن يسارك فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال، فقيل: هؤلاء أمتك أرضيت؟ قلت: رب رضيت فقيل: إن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة لا حساب عليهم، فقال صلى الله عليه وسلم إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا، وإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أهل الظراب، فإن عجزتم فكونوا من أهل الأفق، فإني قد رأيت أناساً يتهاوشون كثيراً» . وعن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة نحواً من أربعين فقال: «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟
قلنا: نعم، قال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر» . وتقدم في الحديث المار أنهم ثلثا أهل الجنة ولا منافاة لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أولاً بالقليل ثم أطلعه الله تعالى على الزيادة
ولما أتم وصف أصحاب الجنة أتبعه أضدادهم بقوله تعالى:
{وأصحاب الشمال} أي: الجهة التي تتشاءم العرب بها ويعبر بها(4/188)
عن الشيء الأخس والحظ الأنقص قال البقاعي: والظاهر أنهم أدنى أصحاب المشأمة كما أن أصحاب اليمين دون السابقين من أصحاب الميمنة ثم عظم ذمهم ومصابهم فقال تعالى: {ما أصحاب الشمال} أي: أنهم بحال من الشؤم هو جدير بأن يسأل عنه وسماهم بذلك لأنهم يأخذون كتبهم بشمالهم ثم بين متقلبهم وما أعدّ لهم من العذاب فقال تعالى: {في سموم} أي: ريح حارة من النار تنفذ في المسام {وحميم} أي: ماء حار بالغ في الحرارة إلى حدّ يذيب اللحم {وظل من يحموم} أي: دخان أسود كالحمم أي الفحم شديد السواد؛ وقيل: النار سوداء وأهلها سود وكل شيء فيها أسود؛ وقيل: اليحموم اسم من أسماء النار؛ قال الرازي: وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائماً لأنهم إن تعرضوا لمهب الهواء أصابهم السموم، وإن استكنوا كما يفعل الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان بالكن يكونون في ظلّ من يحموم، وإن أرادوا التبرّد بالماء من حرّ السموم يكون الماء من حميم فلا إنفكاك لهم من العذاب؛ أو يقال: أن السموم تضربه فيعطس وتلتهب نار السموم في أحشائه فيشرب الماء فيقطع أمعاءه فيريد الاستظلال بظل فيكون ذلك الظل اليحموم؛ وذكر السموم والحميم دون النار تنبيهاً بالأدنى على الأعلى كأنه قال أبرد الأشياء في الدنيا حارّ عندهم فكيف أحرّها؟ وقوله تعالى {لا بارد} أي: ليروح النفس {ولا كريم} أي: ليؤنس به ويلجأ إليه صفتان للظل كقوله تعالى: {من يحموم} وقال الضحاك: لا بارد أي: كغيره من الظلال بل حار لأنه من دخان شفير جهنم ولا كريم عذب؛ وقال سعيد بن المسيب: ولا حسن منظره وكل شيء لا خير فيه ليس بكريم فسماه ظلاً ونفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوى إليه من أذى الحرّ، وذلك كرمه ليمحو ما في مدلول الظن من الاسترواح إليه، والمعنى: أنه ظل حارّ ضارّ إلا أن للنفي في نحو هذا شأناً ليس للإثبات وفيه تهكم بأصحاب المشأمة
وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة.
ثم بين استحقاقهم لذلك بقوله تعالى: {إنهم كانوا} أي: في الدنيا قبل ذلك أي الأمر العظيم الذي وصلوا إليه {مترفين} أي: أنهم إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا في سعة من العيش متمكنين في الشهوات مستمتعين بها متمكنين منها {وكانوا يصرّون} أي: يقيمون ويديمون على سبيل التجديد لما لهم من الميل الجبلي إلى ذلك {على الحنث} أي: الذنب ويعبر بالحنث عن البلوغ ومنه قولهم: لم يبلغوا الحنث، وإنما قيل ذلك لأنّ الإنسان عند بلوغه إليه يؤاخذ بالحنث أي: الذنب، وتحنث فلان أي: جانب الحنث، وفي الحديث: «كان يتحنث بغار حراء» أي: يتعبد لمجانبة الإثم نحو خرج فتفعل في هذه كلها للسلب.
ولما كان ذلك قد يكون من الصغائر التي تغفر قال تعالى: {العظيم} أي: وهو الشرك قاله الحسن والضحاك؛ وقال مجاهد: هو الذنب الذي لا يتوبون منه؛ وقال الشعبي: هو اليمين الغموس وهو من الكبائر يقال حنث في يمينه، أي: لم يبرها ورجع فيها، وكانوا يقسمون أن لا بعث وأنّ الأصنام أنداد الله تعالى فذلك حنثهم، فإن قيل: الترفه هو التنعم وذلك لا يوجب ذمّاً؟ أجيب: بأنّ الذمّ إنما حصل بقوله تعالى: {وكانوا يصرّون على الحنث العظيم} فإن صدور المعاصي ممن كثرت النعم عليه أقبح القبائح وفي الآية مبالغات، لأنّ قوله تعالى: {يصرون} يقتضي أنّ ذلك عادتهم والإصرار مداومة المعصية ولأنّ الحنث أبلغ من الذنب لأن الذنب يطلق(4/189)
على الصغيرة ويدل على ذلك قولهم: بلغ الحنث أي: بلغ مبلغاً تلحقه فيه الكبيرة، ووصفه بالعظيم يخرج الصغائر فإنها لا توصف بذلك؛ قال الرازي: والحكمة في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين وذلك تنبيه على أنّ الثواب منه فضل والعقاب منه عدل، والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر يتوهم بالتفضل نقص وظلم، وأما العدل إن لم يعلم سبب العقاب يظن أنّ هناك ظلماً، ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب اليمين {جزاء بما كانوا يعملون} كما قال في السابقين لأنّ أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه.
{وكانوا} أي: زيادة على ما ذكر {يقولون} أي: إنكاراً مجددين لذلك دائماً عناداً {أئذا} أي أنبعث إذا {متنا وكنا} أي كوناً ثابتاً {تراباً وعظاماً} ثم أعادوا الاستفهام تأكيداً لإنكارهم فقالوا: {أئنا لمبعوثون} أي: كائن وثابت بعثنا ساعة من الدهر وأكدوا ليكون إنكارهم لما دون ذلك بطريق الأولى وقرأ قالون أئذا بتحقيق الهمزة الأولى، المفتوحة وتسهيل الثانية المكسورة وإدخال ألف بينهما وكسر الميم من متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئناء، وقرأ ورش بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ولا إدخال بينهما وكسر ميم متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئنا مع النقل عن أصله؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بالاستفهام فيهما مع تسهيل الثانية إلا أنّ أبا عمرو يدخل بينهما ألفاً فيهما وابن كثير لا يدخل ألفاً وضما ميم متنا {أو آباؤنا} أي: أو تبعث آباؤنا {الأولون} أي: الذين قد بليت مع لحومهم عظامهم فصاروا كلهم تراباً ولا سيما أن حملتهم السيول ففرّقت أعضاءهم وذهبت بها في الآفاق؛ فإن قيل: كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون من غير تأكيد بنحن؟ أجيب بأنه حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله تعالى: {ما أشركنا ولا آباؤنا} (الأنعام: 148)
لفصل لا المؤكدة للنفي، وقرأ قالون وابن عامر: بسكون الواو من أو والباقون بفتحها.
ثم ردّ الله تعالى عليهم قولهم ذلك بقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
{قل} أي: لهؤلاء ولكل من كان مثلهم وأكد لإنكارهم {إن الأولين} أي: الذين جعلتم الاستبعاد فيهم وهم الآباء {والآخرين} وهم الأبناء {لمجموعون} أي: في المكان الذي يكون فيه الحساب {إلى ميقات يوم} أي: زمان {معلوم} أي: معين عند الله تعالى وهو يوم القيامة إذ هو من شأنه أن يعلم بما عليه من الأمارات والميقات ما وقت به الشيء من زمان أو مكان إلى حد {ثم إنكم} أي: بعد هذا الجمع {أيها الضالون} أي: الذين غلبت عليهم الغباوة فهم لا يفهمون فضلوا عن الهدى ثم اتبع ذلك ما أوجب الحكم عليهم بالضلال فقال تعالى: {المكذبون} بالبعث والخطاب لأهل مكة ومن في مثل حالهم {لآكلون من شجر من زقوم} وهو من أخبث الشجر المر بتهامة ينبتها الله تعالى في الجحيم فهو في غاية الكراهة وبشاعة المنظر ونتن الرائحة وقد مرّ الكلام على ذلك في الصافات
تنبيه: من الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر {فمالؤن} أي: ملأ هو في غاية الثبات وأنتم في غاية الإقبال عليه مع ما هو عليه من عظيم الكراهة {منها} أي: الشجر وأنثه لأنه جمع شجرة وهو اسم جنس، قال البقاعي: وهم يكرهون الإناث فتأنيثه والله أعلم زيادة في تنفيرهم؛ وقال الزمخشري: أنت ضمير الشجر على المعنى وذكره على اللفظ في قوله: {منها} وعليه وهو(4/190)
لف ونشر مرتب {البطون} أي: يضطركم إلى تناول هذا الكريه حتى تملؤا بطونكم منه.
ثم لما بين أكلهم أتبعه مشربهم فقال تعالى: {فشاربون عليه} أي: الأكل أو الزقوم {من الحميم} لأجل مرارته وحرارته يحتاجون إلى شرب الماء فيشربون من الماء الحار {فشاربون} أي: منه {شرب الهيم} أي: الإبل العطاش وهو جمع هيمان للذكر وهيمى للأنثى كعطشان وعطشى، والهيام: داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت أو تسقم سقماً شديداً؛ وقيل: إنه جمع هائم وهائمة من الهيام أيضاً إلا أن جمع فاعل وفاعلة على فعل قليل نحو نازل ونزل وعائد وعود؛ وقيل: إنه جمع هيام بفتح الهاء وهو الرمل غير المتماسك الذي لا يروى من الماء أصلاً فيكون مثل سحاب وسحب بضمتين ثم خفف بإسكان عينه ثم كسرت فاؤه لتصح الباء كما فعل بالذي قبله، والمعنى: أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل فإذا ملؤوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاؤهم فيشربون منه شرب الهيم.
فإن قيل: كيف صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان فكان عطفاً للشيء على نفسه؟ أجيب: بأنهما ليستا بمتفقتين من حيث أن كونهم شاربين الحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع أمعائهم أمر عجيب فشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاً فكانتا صفتين مختلفتين؛ وقرأ نافع وعاصم وحمزة: بضم الشين والباقون بفتحها.
{هذا} أي: ما ذكر {نزلهم} أي: ما يعدّ لهم أول قدومهم مكان ما يعد للضيف أول حلوله كرامة له {يوم الدين} أي: الجزاء الذي هو حكمة القيامة وإذا كان هذا نزلهم فما ظنك بما يأتي بعدما استقرّوا في الجحيم وفي هذا تهكم كما في قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران: 21)
فإن النزل ما يعد للنازل تكرمة له ثم استدل على منكري البعث بقوله تعالى: {نحن} أي: لا غيرنا {خلقناكم} أي بما لنا من العظمة {فلولا} تحضيض، أي: فهلا {تصدقون} أي: بالبعث فإن الإعادة أسهل من الابتداء؛ وقيل: نحن خلقنا رزقكم فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا؛ ومتعلق التصديق محذوف تقديره: فلولا تصدّقون بخلقنا {أفرأيتم} أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة {ما تمنون} أي: تصبون من المنيّ في أرحام النساء {أأنتم تخلقونه} أي: توجدونه مقدراً على ما هو عليه من الإستواء، والحكمة بعد خلقه من صورة النطفة إلى صورة العلقة ثم من صورة العلقة إلى صورة المضغة ثم منها إلى صورة العظام والأعصاب {أم نحن} أي: خاصة {الخالقون} أي الثابت لنا ذلك وقرأ أفرأيتم في الثلاثة مواضع نافع بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة، ولو رش وجه ثان وهو أبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائي، والباقون بالتحقيق، وقرأ أأنتم في الثلاثة المواضع نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بخلاف عن هشام، وأدخل بينهما ألفاً، قالون وأبو عمرو وهشام، ولم يدخل بينهما ورش وابن كثير ولو رش وجه ثان وهو إبدال الثانية ألفا والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال بينهما.
ولما كان الجواب قطعاً أنت الخالق وحدك أكد ذلك بقوله تعالى: {نحن} أي: بمالنا من العظمة لا غيرنا {قدرنا} أي: تقديراً عظيماً لا يقدر سوانا على نقص شيء منه، {بينكم الموت} أي قسمنا عليكم فلم نترك أحداً منكم بغير حصة منه، وأقتنا موت كل بوقت معين لا يتعداه، فقصرنا عمر هذا وربما كان(4/191)
في الأوج من قوّة البدن وصحة المزاج فلو اجتمع الخلق لهم على إطالة عمره ما قدروا أن يؤخروه لحظة، وأطلنا عمر هذا وربما كان في الحضيض من ضعف البدن واضطراب المزاج فلو تمالؤا على تقصيره طرفة عين لعجزوا.
وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بالتشديد {وما نحن} أي: على ما لنا من العظمة {بمسبوقين} أي: بالموت أي: لا عاجزين ولا مغلوبين {على} أي: عن {أن نبدّل} أي تبديلاً عظيماً {أمثالكم} أي: صوركم وأشخاصكم {وننشئكم} أي إنشاء جديداً بعد تبديل ذواتكم {في ما لا تعلمون} فإنّ بعضكم تأكله الحيتان أو السباع أو الطيور فننشئ أبدانه منها، وبعضهم يصير تراباً فربما نشأ منه نبات فأكلته الدواب فنشأت منه أبدانها وربما صار ترابه من معادن الأرض الذهب والفضة والحديد والنحاس والحجر ونحو ذلك وقد لمح إلى ذلك قوله تعالى: {قل كونوا حجارة أو حديداً} (الإسراء: 50)
إلى آخرها ويكون المعنى كما قال البغوي: نأت بخلق مثلكم بدلاً منكم ونخلقكم فيما لا تعلمون من الصور أي: بتغيير أوصافكم وصوركم إلى صور أخرى بالمسخ ومن قدر على ذلك قدر على الإعادة وقال الطبري: معنى الآية نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين في آجالكم أي: لا يتقدّم متأخر ولا يتأخر متقدم، وننشئكم فيما لا تعلمون من الصور وقال الحسن: أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام قبلكم، وقيل: المعنى: ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا فنجمل المؤمن ببياض وجهه ونقبح الكافر بسواد وجهه «فائدة» في ما مقطوعة في الرسم.H
{ولقد علمتم النشأة الأولى} أي: الترابية لأبيكم آدم عليه السلام، واللحمية لأمكم حواء رضى الله عنها والنطفية لكم وكل منها تحويل من شيء إلى آخر غيره، فما الذي شاهدتم قدرته على ذلك لا يقدر على تحويلكم بعد أن تصيروا تراباً إلى ما كنتم عليه أولاً من الصور ولهذا سبب عما تقدم قوله تعالى: {فلولا} أي: فهلا ولم لا {تذكرون} أي تذكراً عظيماً تكرهون أنفسكم عليه فتعلمون أن من قدر على النشأة الأولى قدر على الثانية فإنها أقل ضعفاً لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثال وفيه دليل على صحة القياس، وفي الخبر عجباً كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى، وعجباً للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشأة بفتح الشين وبعدها ألف قبل الهمزة والباقون بسكونها ولا ألف بعدها، فإذا وقف حمزة نقل حركة الهمزة إلى الشين وخفف ذال تذكرون حمزة والكسائي وحفص، وشدّدها الباقون.
ثم ذكر لهم حجة أخرى بقوله تعالى: {أفرأيتم} أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما نبهنا كم عليه فيما تقدم فتسبب عن تنبيهكم لذلك أنكم رأيتم {ما تحرثون} أي: تجددون حرثه على الاستمرار من أراضيكم فتطرحون فيه البذر {أأنتم تزرعونه} أي: تنشئونه بعد طرحكم وتجعلونه زرعاً فيكون فيه السنبل والحب {أم نحن} خاصة {الزارعون} أي: المنبتون له والحافظون؛ روى أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا يقولنّ أحدكم زرعت وليقل حرثت» . قال أبو هريرة أرأيتم إلى قوله تعالى: {أفرأيتم} الآية.
ولما كان الجواب قطعاً أنت الفعال لذلك وحدك قال تعالى موضحاً لأنه ما زرعه غيره {لو نشاء} أي: لو عاملناكم بصفة العظمة(4/192)
{لجعلناه} أي: بتلك العظمة {حطاما} أي: مكسوراً مفتتاً لا حب فيه قبل النبات حتى لا يقبل الخروج أو بعده ببرد مفرط أو حر مهل أو غير ذلك فلا ينتفع به {فظلتم} أي فأقمتم بسبب ذلك نهاراً في وقت الأشغال العظيمة وتركتم ما يهمكم {تفكهون} حذفت منه إحدى التائين في الأصل تخفيفاً أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم وقيل: تندمون على ما سلف منكم من المعاصي التي أوجبت تلك العقوبة قال الزمخشري: ومنه الحديث: «مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء فبينما هم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكهون» . أي: يتندمون. وقال الكسائي: التفكة التلهف على ما فات من الأضداد، تقول العرب: تفكهت أي تنعمت وتفكهت أي حزنت وتقولون: {أنا لمغرمون} بحذف القول ومعنى الغرم ذهاب المال بغير عوض من الغرام وهو الهلاك ومن مجيء الغرام بمعنى الهلاك قول القائل:
*أن يعذب يكن غراماً وإن يع ... ط جزيلاً فإنه لا يبالي*
وقال ابن عباس: الغرام العذاب، أي: عذبوا بذهاب أموالهم، والمعنى: أن غرمنا الحب الذي بذرناه فذهب بغير عوض ومن الغرام بمعنى العذاب قول القائل:
*وثقت بأنّ الحلم منك سجية
... وأنّ فؤادي مبتلى بك مغرم
وقرأ شعبة: أئنا بهمزة مفتوحة بعدها همزة مكسورة على الاستفهام والباقون بهمزة واحدة مكسورة على الخبر {بل نحن} أي: خاصة {محرومون} أي: ممنوعون رزقنا حرمنا من لا يرد قضاؤه فلاحظ لنا في الاكتساب فلو كان الزارع ممن له خط لأفلح زرعه ثم ذكر تعالى لهم حجة أخرى بقوله تعالى: {أفرأيتم الماء} أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما نبهنا عليه فيما مضى من المطعم وغيره فرأيتم الماء {الذي تشربون} فتحيوا به أنفسكم وتسكنوا به عطشكم، ذكرهم بنعمه التي أنعم بها عليهم بإنزال المطر الذي لا يقدر عليه أحد إلا الله عز وجل {أأنتم أنزلتموه من المزن} أي: السحاب وهو اسم جنس واحد مزنة قال القائل:
*فلا مزنة ودقت ودقها
... ولا أرض أبقل إبقالها
وعن ابن عباس والثوري: المزن السماء والسحاب، وقال أبو زيد: المزنة: السحابة البيضاء أي خاصة وهي أعذب ماء والجمع مزن والمزنة المطرة {أم نحن} أي: خاصة {المنزلون} أي: له بمالنا من العظمة {لو نشاء} أي: حال إنزاله وبعده قبل أن ينتفع به {جعلناه} أي بما تقتضيه صفة العظمة {أجاجاً} أي: ملحاً مراً محرقاً كأنه في الأحشاء لهيب النار المؤجج فلا يبرد عطشاً ولا ينبت نبتاً ينتفع به، وقال ابن عادل: الأجاج المالح الشديد الملوحة {فلولا} أي: فهلا ولم لا {تشكرون} أي: تجددون الشكر على سبيل الاستمرار باستعمال ما أفادكم ذلك من القوى في طاعة الله الذي أوجده لكم ومكنكم منه.
ثم ذكر تعالى لهم حجة أخرى بقوله تعالى: {أفرأيتم النار} أي: أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة ما تقدم فرأيتم النار {التي تورون} أي: تخرجون من الشجر الأخضر {أأنتم أنشأتم} أي: اخترعتم وأوجدتم وأحييتم وربيتم ورفعتم {شجرتها} أي: التي يقدح منها النار وهي المرخ والعقار وهما شجرتان قدح منهما النار وهما رطبتان، وقيل: أراد جميع(4/193)
الشجر الذي توقد به النار {أم نحن} أي: خاصة وأكد بقوله تعالى: {المنشؤن} أي: لها بمالنا من العظمة على تلك الهيئة فمن قدر على إيجاد النار التي هي أيبس ما يكون في الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادّة لها كان أقدر على إعادة الطراوة في تراب الجسد الذي كان غضاً طرياً فيبس.
ولما كان الجواب قطعاً أنت وحدك قال تعالى دالاً على ذلك تنبيهاً على عظم هذا الخبر {نحن} أي: خاصة {جعلناها} أي: لما اقتضته عظمتنا {تذكرة} أي: شيئاً يتذكر به تذكراً عظيماً جليلاً كما أخبرنا به من البعث وعذاب النار الكبرى وما ينشأ فيها من شجرة الزقوم وغير ذلك، وقيل: موعظة يتعظ بها المؤمن؛ وعن أبي هريرة رضى الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ناركم التي توقدون جزء من سبعين جزأ من نار جهنم، قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزأ كلها مثلها مثل حرّها» . {ومتاعاً} أي: بلغة ومنفعة {للمقوين} أي: المسافرين والمقوى النازل في أرض القوا بالكسر والقصر والمدّ وهي القفر البعيدة من العمران، والمعنى: أنه ينتفع بها أهل البوادي والأسفار فإن منفعتهم بها أكثر من المقيم فإنهم يوقدونها بالليل لتهرب السباع ويهتدي الضال إلى غير ذلك من المنافع؛ وقال مجاهد: للمقوين أي: المنتفعين بها من الناس أجمعين يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون بها من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز إلى غير ذلك من المنافع، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله تعالى منها؛ وقال ابن زيد: للجائعين في إصلاح طعامهم يقال: أقويت منذ كذا وكذا أي: ما أكلت شيئاً قال الشاعر:
*وإني لاختار القوا طاوي الحشى ... محافظة من أن يقال لئيم*
وقال قطرب: المقوي من الأضداد يقال للفقير: مقو لخلوه من المال ويقال للغني: مقو لقوته على ما يريد، والمعنى: فيها متاعاً ومنفعة للفقراء والأغنياء لا غنى لأحد عنها، وقال المهدوي: الآية تصلح للجميع لأنّ النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير.
ولما ذكر تعالى ما يدل على وجوب وحدانيته وقدرته وإنعامه على سائر الخلق خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم أو كل أحد من الناس بقوله تعالى: {فسبح} أي: أوقع التنزيه العظيم من كل شائبة نقص من ترك البعث وغيره ولا سيما بعد بلوغ هذه الأدلة {باسم} أي: ملتبساً بذكر اسم {ربك} أي: المحسن إليك بهذا البيان الأعظم.
فائدة: أثبتوا ألف الوصل هنا في اسم ربك لأنه لم يكثر دوره كثرته في البسملة وحذفوه منها لكثرة دورها وهم شأنهم الإيجاز وتقليل الكثير إذا عرف معناه وهذا معروف لا يجهل، وإثبات ما أثبت من أشكاله مما لا يكثر دليل على الحذف منه، ولذا لا تحذف مع غير الباء في اسم الله ولا مع الباء في غير الجلالة الكريمة من الأسماء وقد أوضحت ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة.
ولما كان المقام للعظمة قال الله تعالى: {العظيم} أي: الذي ملأ الأكوان كلها عظمة فلا شيء منها إلا وهو مملوء بعظمته تنزيهاً عن أن يلحقه شائبة نقص أو يفوته شيء من كمال، فالعظيم صفة للإسم أو الرب، والاسم قيل: بمعنى الذات وقيل: زائد أي: فسبح ربك واختلف في «لا» في قوله تعالى: {فلا أقسم} فقال أكثر المفسرين: معناه فاقسم ولا صلة مؤكدة بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وإنه لقسم} ومثلها في قوله تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب} (الحديد: 29)
والتقدير:(4/194)
ليعلم وقال بعضهم أنها حرف نفي وإنّ المنفي بها محذوف وهو كلام الكافر الجاهل والتقدير فلا حجة بما يقوله الكافر؛ ثم ابتدأ قسماً بما ذكر وضعف هذا بأنّ فيه حذف اسم لا وخبرها قال أبو حيان: ولا ينبغي فإنّ القائل بذلك مثل سعيد بن جبير تلميذ حبر القرآن وهو عبد الله بن عباس، ويبعد أن يقول سعيد إلا بتوقيف، وقال بعضهم: إنها لام الابتداء والأصل: فلأقسم فأشبعت الفتحة فتولد منها ألف كقول بعضهم: أعوذ بالله من العقراب قال الزمخشري: ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين: أحدهما: أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة والإخلال بها ضعيف قبيح، والثاني: أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال وفعل القسم يجب أن يكون للحال.
واختلف أيضاً في معنى قوله عز وجلّ: {بمواقع النجوم} فقال أكثر المفسرين: بمساقطها لغروبها، قال الزمخشري: ولعل الله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً عظيمة مخصوصة وللملائكة عبادات موصوفة، أو لأنه وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين ونزول الرحمة والرضوان عليهم، فلذلك أقسم بمواقعها واستعظم ذلك بقوله تعالى: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} وقال عطاء بن رباح: أراد بمواقعها منازلها، قال الزمخشري: وله في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف، وقال الحسن: مواقعها انكدارها وانتثارها يوم القيامة؛ وقال ابن عباس والسدي: المراد نجوم القرآن أي أوقات نزولها؛ وقال الضحاك: هي الأنواء التي كانت الجاهلية تقول إذا مطروا: مطرنا بنوء كذا، وقال القشيري: هو قسم ولله أن يقسم بما يريد وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة فإن قيل لو تعلمون جوابه ماذا؟ أجيب: بأنه مقدّر تقديره لعظمتموه أي: لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم عظم هذا القسم ولكنكم ما علمتموه فعلم أنكم لا تعلمون، وقرأ بموقع حمزة والكسائي بسكون الواو ولا ألف بعدها والباقون بفتح الواو ألف بعدها.
وقوله تعالى: {إنه} أي: القرآن الذي أفهمته النجوم بعموم إفهامها {لقرآن} أي: جامع سهل ذو أنواع جليلة {كريم} أي: بالغ الكرم منزه عن كل شائبة لؤم ودناءة هو المقسم عليه، وفي الكلام اعتراضان أحدهما: الاعتراض بقوله تعالى: {وإنه لقسم} بين القسم والمقسم عليه، والثاني الاعتراض بقوله تعالى: {لو تعلمون} بين الصفة الموصوف.
تنبيه: من كرم هذا القرآن العظيم كونه من الملك الأعلى إلى خير الخلق بسفارة روح القدس، مشتملاً على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش والمعاد وبلسان العرب الذين اتفقت علماء الفرق على أنّ لسانهم أفصح الألسن، وعلى وجه أعجز العرب كافة وبقية الخلق أجمعين واختلف في معنى قوله تعالى: {في كتاب} أي: مكتوب {مكنون} أي: مصون فالذي عليه الأكثر أنه المصحف سمي قرآنا لقرب الجوار على الاتساع ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ» . أراد به المصحف وقوله تعالى: {لا يمسه} خبر بمعنى النهي ولو كان باقياً على خبرتيه لزم منه الخلف لأنّ غير المطهر يمسه وخبر الله تعالى لا يقع فيه خلف لأنّ المراد بقوله تعالى: {إلا المطهرون} لا المحدثون وهو قول عطاء وطاوس وسالم والقاسم وأكثر أهل العلم وبه قال مالك والشافعي رضى الله عنهما؛ وقال(4/195)
ابن عادل: والصحيح أنّ المراد بالكتاب: المصحف الذي بأيدينا لما روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم «لا يمس القرآن إلا طاهر» ، وقال ابن عمر قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالمصحف {لا يمسه إلا المطهرون} فقام فاغتسل وأسلم، وعلى هذا قال قتادة وغيره معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس انتهى.
وقال ابن عباس: {مكنون} محفوظ عن الباطل والكتاب هنا كتاب في السماء، وقال جابر: هو اللوح المحفوظ، أي: لقوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} (البروج: 21 ـ 22)
وقال عكرمة: التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن، وقال السدي: الزبور وقيل: لا من «لا يمسه» نافية والضمة في لا يمسه ضمة إعراب وعلى هذا ففي الجملة وجهان: أحدهما: أن محلها الجرّ صفة لكتاب، والمراد به: إمّا اللوح المحفوظ والمطهرون حينئذ الملائكة، أو المراد به المصحف والمراد بالمطهرون الملائكة كلهم، والثاني: محلها رفع صفة لقرآن والمراد بالمطهرين: الملائكة فقط أي: لا يطلع عليه، لأنّ نسبة المس إلى المعاني متعذرة وقيل: إنها ناهية والفعل بعدها مجزوم لأنه لوفك عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى: {لم يمسسهم سوء} (آل عمران: 174)
ولكنه أدغم، ولما أدغم حرّك بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب، وفي الحديث: «إنا لم نرده عليكما إلا أنا حرم» بضم الدال، وإن كان القياس يقتضي جواز فتحها تخفيفاً، وبهذا ظهر فساد رد من رد بأنّ هذا لو كان نهياً كان يقال لا يمسه بالفتح لأنه خفي عليه وانضم ما قبل الهاء في هذا التحويل لا يجوّز سيبويه غيره.
واختلفوا في المس المذكور في الآية فقال أنس وسعيد بن جبير: لا يمس ذلك إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة وقال أبو العالية وابن زيد: هم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم، وقال الكلبي: هم السفرة الكرام البررة وهذا كله قول واحد وهو اختيار مالك، وقال الحسن: هم الملائكة الموصوفون في سورة عبس في قوله تعالى: {صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} (عبس: 13 ـ 16)
وقيل: معنى لا يمسه لا ينزل به إلا المطهرون أي: إلا الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء ولا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون، ولو كان المراد طهر الحدث لقال المتطهرون أو المطهرون بتشديد الطاء ومن قال بالأوّل قال: المطهرون يعني المتطهرون.
تنبيه: اختلف العلماء في مس المصحف وحمله على غير وضوء فالجمهور على المنع من مسه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم وهو مذهب عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي، وأما الحمل فلأنه أبلغ من المس سواء حمله بعلاقته أم في كمه أم على رأسه وسواء مس نفس الأسطر أم ما بينها أم الحواشي أم الجلد أم العلاقة أم الخريطة أم الصندوق إذا كان المصحف فيهما، وسواء مس بأعضاء الوضوء أم بغيرها؛ وقال جماعة بجواز مسه وحمله واحتجوا بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل كتاباً فيه قرآن، وهرقل محدث يمسه هو وأصحابه، وبأنّ الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار، وبأنه إذا لم تحرم القراءة فالحمل والمس أولى، وبأنه يجوز حمله(4/196)
في أمتعة.
وأجيب عن الأوّل: بأنّ ذلك الكتاب كان فيه آيتان ولا يسمى مصحفاً ولا ما في معناه وبأنه لو كان كتاباً قد تضمن مع القرآن دعاء إلى الإسلام فلم يكن القرآن بانفراده مقصوداً فجاز تغليباً للمقصود فيه، وعن الثاني: بأنه أبيح للصبيان للضرورة لأنهم غير مكلفين، وعن الثالث: بأن القراءة أبيحت للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت وبأنا لا نسلم الأولوية المذكورة بدليل أن الكافر لا يمنع من القراءة ويمنع من حمل المصحف ومسه، وعن الرابع: بأن جواز حمل المصحف في الأمتعة محله إذا لم يكن المصحف مقصود بالحمل.
وقال آخرون بحرمة المس دون الحمل واحتجوا بأنّ المحرم يحرم عليه مس الطيب دون حمله، وأجيب عنه: بأنه غير صحيح لأنّ حمل المصحف أبلغ في الاستيلاء عليه من مسه، فلما حرم الأدنى كان تحريم الأعلى أولى ولأن تحريم المصحف إنما هو لحرمته فاستوى فيه مسه وحمله بخلاف طيب المحرم فإنّ تحريمه مقصور على الاستمتاع به وليس في حمله استمتاع به، ولو لف كمه على يده وقلب به أوراق المصحف حرم عليه لأنّ القلب يقع باليد لا بالكم بخلاف قلب ذلك بعود، ويحرم كتب شيء من القرآن أو من أسماءه تعالى بنجس أو على نجس ومسه به إذا كان غير معفو عنه، ولو خاف على المصحف من حرق أو غرق أو وقوع نجاسة عليه أو وقوعه في يد كافر جاز حمله مع الحدث بل يجب ذلك صيانة للمصحف، ولو لم يجد من يودعه المصحف وعجز عن الوضوء فله حمله مع الحدث ويلزمه أن يتيمم إن وجد التراب ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم للنهي عنه في الصحيحين، وخرج المصحف غيره نحو كتب الفقه والحديث وكتب التفسير، فلا يحرم حملها ولا مسها إلا أن يكون القرآن أكثر من التفسير أو مساوياً له فيحرم الحمل والمس لأنه حينئذ في معنى المصحف وفي ذلك زيادة ذكرتها في شرح المنهاج وغيره.
وقوله تعالى: {تنزيل} أي: منزل إليكم بالتدريج بحسب الوقائع والتقريب للإفهام والتأني والترقية من حال إلى حال وحكم إلى حكم بوسائط الرسل من الملائكة {من رب العالمين} أي: الخالق العالم بتربيتهم صفة القرآن أي: القرآن منزل من عند رب العالمين سمى المنزل تنزيلاً على اتساع اللغة كقوله تعالى: {هذا خلق الله} (لقمان: 11)
وأوثر المصدر لأن تعلق المصدر بالفاعل أكثر، وفي ذلك رد على قول من قال: بأن القرآن شعر أو سحر أو كهانة.
{أفبهذا الحديث} أي: القرآن الذي تقدمت أوصافه العالية وهو يتجدد إليكم إنزاله وقتاً بعد وقت {أنتم مدهنون} أي: متهاونون كمن يدهن في الأمر أي: يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به، قال ابن برّجان: الأدهان والمداهنة: الملاينة في الأمور والتغافل والركون إلى التجاوز ا. هـ.
قال البقاعي: فهو على هذا إنكار على من سمع أحداً يتكلم في القرآن بما لا يليق ثم لا يجاهره بالعداوة، وأهل الاتحاد كابن عربي الطائي صاحب الفصوص، وابن الفارض صاحب التائية، أول من صوبت إليه هذه الآية فإنهم تكلموا في القرآن على وجه يبطل الدين أصلاً ورأساً ويحله عروة عروة، فهم أضر الناس على هذا الدين ومن يتأوّل لهم أو ينافح عنهم أو يعتذر لهم أو يحسن الظنّ بهم مخالف لإجماع الأمّة أنجس حالاً منهم فإنّ مراده إبقاء كلامهم الذي لا أفسد للإسلام منه من غير أن يكون لإبقائه مصلحة ما بوجه من الوجوه ا. هـ. وجرى ابن المقري في روضه على(4/197)
كفر من شك في كفر طائفة ابن العربي الذين ظاهر كلامهم عند غيرهم الاتحاد، وهو بحسب ما فهمه من ظاهر كلامهم، ولكن كلام هؤلاء جار على اصطلاحهم إذا اللفظ المصطلح عليه حقيقة في معناه الاصطلاحي مجاز في غيره، والمعتقد منهم لمعناه معتقد لمعنى صحيح؛ وأمّا من اعتقد ظاهره من جهلة الصوفية الذين لا علم عندهم بل أكثرهم يدعي أنّ العلم حجاب ومدعي ذلك هو المحجوب فإنه يعرّف فإن استمرّ على ذلك بعد معرفته صار كافراً. فنسأل الله تعالى التوفيق والعصمة.
ولما كان هذا القرآن متكفلاً بسعادة الدارين قال تعالى: {وتجعلون رزقكم} أي: حظكم ونصيبكم وجميع ما تنتفعون به من هذا الكتاب وهو نفعكم كله {أنكم تكذبون} فتضعون الكذب مكان الشكر كقوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} (الأنفال: 35)
أي: لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة، قال القرطبي: وفيه بيان أنّ ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسباباً بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة أو صبر إن كان مكروهاً تعبداً له وتذللاً، وعن ابن عباس: أنّ المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب مطرنا بنوء كذا؛ ورواه علي بن أبي طالب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: «مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر فقال بعضهم: هذه رحمة الله تعالى وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا قال: فنزلت هذه الآية {فلا أقسم بمواقع النجوم} حتى بلغ {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} » .
وفيه أيضاً «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أرأيتم إن دعوت الله تعالى لكم فسقيتم لعلكم أن تقولوا هذا المطر بنوء كذا فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء فصلى ركعتين ودعا الله تعالى، فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا، فمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا ولم يقل هذا من رزق الله تعالى فنزلت {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} » . أي: شكراً الله على رزقه إياكم أنكم تكذبون بالنعمة، وتقولون: سقينا بنوء كذا كقول القائل: جعلت إحساني إليك إساءة منك إليّ وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوّاً، قال الشافعي: لا أحب لأحد أن يقول مطرنا بنوء كذا وإن كان النوء عندنا الوقت لا يضرّ ولا ينفع ولا يمطر ولا يحبس شيئاً من المطر، والذي أحب أن يقول: مطرنا وقت كذا كما يقول مطرنا شهر كذا، ومن قال مطرنا بنوء كذا وهو يريد أن النوء أنزل الماء كما يقول أهل الشرك فهو كافر حلال دمه إن لم يتب. وحاصله إن اعتقد أنّ النوء هو الفاعل حقيقة فهو كافر وإلا فيكره له ذلك كراهة تنزيه، وسبب الكراهة: أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظنّ بقائلها ولأنها من شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم
ثم بين سبحانه أنه لا فاعل لشيء في الحقيقة سواه بقوله تعالى: {فلولا} وهي: أداة تفهم طلباً بزجر وتوبيخ وتقريع بمعنى فهلا ولم لا {إذا بلغت الحلقوم} أي: بلغت الروح منكم ومن غيركم عند الاحتضار الحلقوم، أضمرت من غير ذكر لدلالة الكلام عليها دلالة ظاهرة،(4/198)
وفي الحديث: «أن ملك الموت له أعوان يقطعون العروق ويجمعون الروح شيئاً فشيئاً حتى تنتهي إلى الحلقوم فيتوفاها ملك الموت» . والحلقوم مجرى الطعام في الحلق والحلق مساغ الطعام والشراب معروف فكان الحلقوم أدنى الحلق إلى جهة اللسان {وأنتم} أي: والحال أنكم أيها العاكفون حول المحتضر المتوجعون له {حينئذ} أي: بلغت الروح ذلك الموضع {تنظرون} أي: إلى أمري وسلطاني، أو إلى الميت ولا حيلة لكم ولا فعل بغير النظر ولم يقل: تبصرون لئلا يظنّ أنّ لهم إدراكاً بالبصر لشيء من البواطن من حقيقة الروح ونحوها {ونحن} أي: والحال أنا نحن بما لنا من العظمة {أقرب إليه} أي: المحتضر بعلمنا وقدرتنا {منكم} على شدّة قربكم منه، قال عامر بن قيس: ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله أقرب إليّ منه {ولكن لا تبصرون} من البصيرة أي: لا تعلمون ذلك {فلولا} أي: فهلا {إن كنتم} أيها المكذبون بالعبث {غير مدينين} أي: مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم، أو مقهورين مملوكين مجزيين محاسبين بما عملتم في دار البلاء التي أقامكم فيها أحكم الحاكمين، من دانه إذا ذله واستعبده، وأصل تركيب دان للذل والإنقياد قاله البيضاوي {ترجعونها} أي: الروح إلى ما كانت عليه {إن كنتم} كوناً ثابتاً {صادقين} فيما زعمتم فلولا الثانية تأكيد للأولى، وإذ ظرف لترجعون المتعلق به الشرطان؛ والمعنى: أنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في كل شيء أن أنزل عليكم كتاباً معجزاً قلتم سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولاً صادقاً قلتم ساحر كذاب، وإن رزقكم مطراً يحييكم به قلتم صدق نوء كذا على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل، فما لكم لا
ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد.
ثم ذكر تعالى طبقات الخلق عند الموت وبين درجاتهم فقال عز من قائل: {فأما إن كان} المتوفى {من المقرّبين} السابقين الذين اجتذبهم الحق من أنفسهم فقرّبهم منه فكانوا مرادين قبل أن يكونوا مريدين، وليس القرب قرب مكان لأنه تعالى منزه عنه وإنما هو بالتخلق بالصفات الشريفة على قدر الطاقة البشرية ليصير الإنسان روحاً خالصاً كالملائكة لا سبيل إلى الحظوظ والشهوات عليها وقوله تعالى: {فروح} مبتدأ خبره مقدّر قبله أي: فله روح، أي: راحة ورحمة وما ينعشه من نسيم الريح. وقال سعيد بن جبير: فله فرج، وقال الضحاك: مغفرة ورحمة {وريحان} أي: رزق عظيم ونبات حسن بهيج وأزاهير طيبة الرائحة، وقال مقاتل: هو بلسان حمير رزق، يقال: خرجت أطلب ريحان الله أي: رزقه؛ وقيل: هو الريحان الذي يشم؛ قال أبو العالية: لا يفارق أحد من المقربين الدنيا حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيشمه ثم تقبض روحه؛ وقال أبو بكر الوراق: الروح النجاة من النار والريحان دخول دار القرار {وجنت} أي: بستان جامع الفواكه والرياحين {نعيم} أي: ذات تنعم ليس فيها غيره وأهله مقصورة عليهم.
تنبيه: جنت هنا مجرورة التاء ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، فالكسائي بالأمالة في الوقف على أصله، والباقون بالتاء على المرسوم.
{وأما إن كان} المتوفى {من أصحاب اليمين} أي: الذين هم في الدرجة الثانية من أصحاب الميمنة {فسلام لك} أي: يا صاحب اليمين(4/199)
{من} إخوانك {أصحاب اليمين} أي: يسلمون عليك كقوله تعالى: {إلا قيلاً سلاماً سلاما} وقال القرطبي: فسلام لك من أصحاب اليمين أي: لست ترى منهم إلا ما تحبّ من السلامة فلا تهتم لهم فإنهم يسلمون من عذاب الله تعالى؛ وقيل المعنى: سلام لك منهم، أي: أنت سالم من الاعتمام لهم والمعنى واحد؛ وقيل: أصحاب اليمين يدعون لك يا محمد بأن يصلي الله عليك ويسلم؛ وقيل معناه: سلمت أيها العبد مما تكره فإنك من أصحاب اليمين فحذف إنك؛ وقيل: إنه يحيى بالسلام تكرّماً؛ وعلى هذا في محل السلام ثلاثة أقوال: أحدها: عند قبض روحه في الدنيا يسلم عليه ملك الموت قاله الضحاك، وقال ابن مسعود: إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام، الثاني: عند مسألته في القبر يسلم عليه منكر ونكير، الثالث: عند بعثه في القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها؛ قال القرطبي: ويحتمل أن يسلم عليه في المواطن الثلاثة ويكون ذلك إكراماً بعد إكرام.
ولما ذكر تعالى الصنفين الناجيين أتبعهما الهالكين جامعاً لهم في صنف واحد لأنّ من أريدت له السعادة يكفيه ذلك ومن ختم له بالشقاوة والعياذ بالله تعالى لا ينفعه الإغلاظ والإكثار فقال تعالى: {وأما إن كان} المتوفى {من المكذبين} الذين أخذناه من أصحاب المشأمة وأنتم حوله تتقطع أكبادكم له ولا تقدرون له على شيء أصلاً {الضالين} أي: عن الهدى وطريق الحق {فنزل من حميم} كما قال تعالى: {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون} إلى أن قال: {فشاربون شرب الهيم} وقال تعالى: {ثم إنّ لهم عليها لشوباً من حميم} (الصافات: 67)
أي: ماء متناه في الحرارة بعد ما نالوا من العطش كما يرد أصحاب الميمنة الحوض كما يبادر به للقادم ليبرد به غلة عطشه ويغسل به وجهه ويديه {وتصلية جحيم} أي: ونزل من تصلية جحيم، والمعنى: إدخال في النار؛ وقيل: إقامة في الجحيم ومقاساة لأنواع عذابها، يقال: أصلاه النار وصلاه أي: جعله يصلاها والمصدر هنا مضاف إلى المفعول كما يقال: لفلان إعطاء ما له أي: يعطي المال {إن هذا} أي: الذي ذكر في هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به في قولهم: إننا لمبعوثون ومن قيام الأدلة عليه {لهو حق اليقين} أي: حق الخبر اليقين أي: لما عليه من الأدلة القطعية المشاهدة كأنه مشاهد مباشر، وقيل: إنما جاز إضافة الحق إلى اليقين وهما واحد لاختلاف لفظهما وذلك من باب إضافة المترادفين
ولما حقق له تعالى إلى هذا اليقين سبب عن أمره لنبيه صلى الله عليه وسلم بالتنزيه عما وصفوه به مما يلزم منه وصفه بالعجز فقال تعالى: {فسبح} أي: أوقع التنزيه كله عن كل شائبة نقص بالاعتقاد والقول والفعل بالصلاة وغيرها بأن تصفه بكل ما وصف به نفسه من الأسماء الحسنى وتنزهه عن كل ما نزه نفسه عنه {باسم ربك} أي: المحسن إليك بما خصك به مما لم يعطه أحداً غيرك وإذا كان هذا لاسمه فكيف بما هو له {العظيم} الذي ملأت عظمته جميع الأقطار والأكوان وزادت على ذلك بما لا يعلمه حق العلم سواه، لأنّ من له هذا الخلق على هذا الوجه المحكم وهذا الكلام الأعز الأكرم لا ينبغي لشائبة نقص أن تلم بجنابه أو تدنو من فناء بابه، وعن عقبة بن عامر قال: «لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} قال النبيّ صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال النبي صلى الله عليه وسلم اجعلوها في سجودكم» . خرجه أبو داود وعن(4/200)
أبي ذر قال: «قال لي عليه الصلاة والسلام: ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى سبحان الله وبحمده» . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» هذا الحديث آخر حديث في البخاري وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال: «سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة» . «روى أبو طيبة عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً» ورواه البيهقي وغيره وكان أبو طيبة لا يدعها أبداً وأخرجه ابن الأثير في كتابه جامع الأصول ولم يعزه.
سورة الحديد
مكية أو مدنية وهي تسع وعشرون آية وخمسمئة وأربع وأربعون كلمة وألفان وأربعمئة وستة وسبعون حرفاً
{بسم الله} الذي أحاطت هيبته بجميع الموجودات {الرحمن} الذي وسعهم جوده في جميع الحركات والسكنات {الرحيم} الذي خص أهل ولايته بما يرضيه من العبادات
ولما ختمت الواقعة بالأمر بتنزيهه عما أنكره الكفرة من البعث جاءت هذه لتقرير ذلك التنزيه فقال تعالى:
{سبح لله} أي: الملك المحيط بجميع صفات الكمال {ما في السموات} أي: الإجرام العالية والذي فيها {والأرض} والذي فيها أي: نزهه كل شيء فاللام مزيدة وجيء بما دون من تغليباً للأكثر {وهو} أي: وحده {العزيز} الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الذي أتقن كل شيء صنعه، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها {له} أي: وحده {ملك السموات والأرض} وما فيهما وما بينهما ظاهراً أو باطناً فالملك الظاهر ما هو الآن موجود في الدنيا من أرض مدحية وسماء مبنية وكواكب مضية وأفلاك ورياح وسحاب مرئية وغير ذلك مما يحيط به علمه تعالى والملك الباطن الغائب عنا وأعظمه المضاف إلى الآخرة وهو الملكوت {يحيي} أي: له صفة الإحياء فيحيي ما شاء من الخلق بأن يوجده على صفة الحياة كيف شاء في أطوار يقلبها كيف شاء ومما شاء {ويميت} أي: له هاتان الصفتان على سبيل الاختيار والتجدد والاستمرار فهو قادر على البعث بدليل ما ثبت له من صفة الإحياء {وهو على كل شيء} أي: من الإحياء والإمانة وغيرهما من كل ممكن {قدير} أي: بالغ القدرة.
{هو} أي: وحده {الأول} بالأزلية قبل كل شيء فلا أوّل له، والقديم الذي منه وجود كل شيء، وليس وجوده من شيء لأنّ كل ما نشاهده متأثر لأنه متغير وكل ما كان كذلك فلا بدّ له من موجد غير متأثر ولا متغير {والآخر} أي: بالأبدية الذي ينتهي إليه وجود كل شيء في سلسلة الترقي وهو بعد فناء كل شيء باق فلا آخر له، لأنه يستحيل عليه نعت العدم لأنّ كل ما سواه متغير وكل ما تغير بنوع من التغير جاز إعدامه وما جاز إعدامه فلا بدّ له من معدم يكون بعده ولا يمكن إعدامه {والظاهر} أي: الغالب العلي على كل شيء {والباطن} أي: العالم بكل شيء هذا معنى قول ابن عباس، وقال يمان: هو الأوّل القديم والآخر الرحيم والظاهر(4/201)
الحكيم والباطن العليم؛ وقال السدي: هو الأول ببره إذ عرفك توحيده والآخر بجوده إذ عرفك التوبة على ما جنيت والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له والباطن بستره إذ عصيته فستر عليك؛ وقال الجنيد: هو الأول بشرح القلوب والآخر بغفران الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب؛ وسأل عمر كعباً عن هذه الآية فقال: معناها أن علمه بالأوّل كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن {وهو بكل شيء عليم} أي: لكون الأشياء عنده على حد سواء والبطون والظهور إنما هو بالنسبة إلى الخلق، وأما هو سبحانه وتعالى فلا باطن من الخلق عنده بل هم في غاية الظهور لديه لأنه الذي أوجدهم.
فإن قيل: ما معنى هذه الواوات؟ أجيب: بأنّ الواو الأولى: معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية؛ والثالثة: أنه الجامع بين الظهور والخفاء، وأمّا الوسطى: فعلى أنه الجامع بين الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الآخريين فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والحاضرة والآتية وهي في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك بالحواس؛ قال الزمخشري: وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة وهذا على رأيه الفاسد وهو على رأي المعتزلة المنكرين رؤية الله تعالى في الآخرة؛
وأما أهل السنة فإنهم يثبتون الرؤية للأحاديث الدالة على ذلك من غير تشبيه ولا تكييف تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً؛ وعن سهل قال: كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول: اللهمّ ربّ السموات والأرض ربّ العرش العظيم ربنا ورب كل شيء، فالق الحبّ والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شرّ كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهمّ أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من فضلك. وكان يروى ذلك عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
{هو} أي: وحده {الذي خلق السموات} وجمعها لعلم العرب بتعددها {والأرض} أي: الجنس الشامل للكل وأفردها لعدم توصلهم إلى العلم بتعدّدها وقال تعالى: {في ستة أيام} أي: من أيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة سناً للتأني في الأمور وتقدير للأيام التي أوترها سابعها الذي خلق فيه الإنسان الذي دل يوم خلقه باسمه الجمعة على أنه المقصود بالذات وبأنه السابع نهاية المخلوقات وقوله تعالى: {ثم استوى على العرش} أي: السرير كناية عن انفراده بالتدبير وإحاطة قدرته وعلمه، كما يقال في ملوكنا جلس فلان على سرير الملك بمعنى: أنه انفرد بالتدبير لا يكون هناك سرير فضلاً عن جلوس وأتى بأداة التراخي تنبيهاً على عظمته {يعلم ما يلج} أي: يدخل دخولاً يغيب فيه {في الأرض} أي: من النبات وغيره من أجزاء الأموات وغيرها وإن كان ذلك في غاية البعد فإنّ الأماكن كلها بالنسبة إليه تعالى على حد سواء في القرب والبعد {وما يخرج منها} كذلك.
تنبيه: في التعبير بالمضارع دلالة على ما أودع في الخافقين من القوى فصارا بحيث يتجدد منهما ذلك بخلقه تجدّد مستمرّاً إلى حين خرابهما {وما ينزل من السماء} من الوحي والأمطار والحرّ والبرد وغيرها من الأعيان والمنافع التي يوجدها سبحانه وتعالى(4/202)
من مقادير أعمار بني آدم وأرزاقهم وغيرها من جميع شؤونهم {وما يعرج} أي: يصعد ويرتقي ويغيب {فيها} كالأبخرة والأنوار والكواكب والأعمال وغيرها ولم يجمع السماء لأنّ المقصود حاصل بالواحدة مع إفهام التعبير بها الجنس الشامل للكل {وهو معكم} بالعلم والقدرة أيها الخلق {أينما كنتم} لا ينفك علمه وقدرته عنكم بحال فهو عالم بجميع أموركم وقادر عليكم تعالى الله عن اتصال بالعالم ومماسة أو انفصال عنه بغيبة أو مسافة {والله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {بما تعملون} أي: على سبيل التجدّد والاستمرار {بصير} أي: عالم بجليله وحقيرة فيجازيكم به وقدم الجار لمزيد الاهتمام والتنبيه على تحقيق الإحاطة {له} أي: وحده {ملك السموات} وجمع لاقتضاء المقام له {والأرض} وأفرد لخفاء تعدّدها عليهم مع إرادة الجنس، ودل على إرادة ملكه وإحاطته بقوله تعالى: {وإلى الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له وحده {ترجع} بكل اعتبار على غاية السهولة {الأمور} أي: كلها حساً لبعث ومعنى بالابتداء والإفناء ودل على ذلك بقوله تعالى: {يولج} أي: يدخل ويغيب بالنقص والمحو {الليل في النهار} فإذا هو قد قصر بعد طوله وقد انمحى بعد شخوصه وحلوله، وزاد النهار وملأ الضياء الأقطار بعد ذلك الظلام {ويولج النهار} الذي عمّ الكون ضياؤه {في الليل} الذي كان قد غاب في علمه فإذا الظلام قد طبق الآفاق فيزيد الليل والطول الذي كان في النهار قد صار نقصاً {وهو} أي: وحده {عليم} أي: بالغ العلم {بذات الصدور} أي: بما فيها من الأسرار والمعتقدات على كثرة اختلافها وتغيرها وإن خفيت على أصحابها.
ولما قامت الأدلة على تنزيهه سبحانه قال تعالى آمراً بالإذعان له ولرسوله صلى الله عليه وسلم
{آمنوا} أي: أيها الثقلان {بالله} أي: الملك الأعظم الذي لا مثل له {ورسوله} الذي عظمته من عظمته، ونزل في غزوة العسرة وهي غزوة تبوك {وأنفقوا} أي: في سبيل الله {مما جعلكم مستخلفين فيه} أي: من الأموال التي في أيديكم فإنها أموال الله تعالى لأنها بخلقه وإنشائه لها، وإنما موّلكم إياها وخولكم بالاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرّف فيها فليست هي بأموالكم في الحقيقة وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم بتوريثه إياكم فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم وسينقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم.
ولما أمر تعالى بالإنفاق ووصفه بما سهله سبب عنه ما يرغب فيه فقال تعالى: {فالذين آمنوا منكم وأنفقوا} من أموالهم في الوجوه التي ندب إليها على وجه الإصلاح على ما دلّ عليه التعبير بالإنفاق {لهم أجر كبير} أي: لا تبلغ عقولكم حقيقة كبره فاغتنموا الإنفاق في أيام استخلافكم قبل عزلكم وإتلافكم، وخصهم بالذكر بقوله تعالى: {منكم} لضيق في زمانهم، وقيل: إنّ ذلك إشارة إلى عثمان فإنه جهز جيش العسرة.
وقوله تعالى: {وما} أي: وأيّ شيء {لكم} من الأعذار أو غيرها في أنكم أو حال كونكم {لا تؤمنون بالله} أي: تجدّدون الإيمان تجديداً مستمراً بالملك الأعلى، أي: الذي له الملك كله والأمر كله(4/203)
خطاب للكفار، أي: لا مانع لكم بعد سماعكم ما ذكر {والرسول} أي: والحال أن الذي له الرسالة العامة {يدعوكم} في الصباح والمساء {لتؤمنوا} أي: لأجل أن تؤمنوا {بربكم} الذي أحسن تربيتكم بأن جعلكم من أمّة هذا النبيّ الكريم فشرفكم به {وقد} أي: والحال أنه قد {أخذ ميثاقكم} أي: وقع أخذه فصار في غاية القباحة، ترك التوثق بسبب نصب الأدلة والتمكين من النظر بإبداع العقول وذلك كله منضم إلى أخذ الذرّية من ظهر آدم عليه السلام حين أشهدهم على أنفسهم {ألست بربكم قالوا بلى} (الأعراف: 172)
وقرأ أبو عمرو: بضم الهمزة وكسر الخاء ورفع القاف على البناء للمفعول ليكون المعنى: من أيّ أخذ كان من غير نظر إلى معين وقرأ الباقون بفتح الهمزة والخاء ونصب القاف على البناء للفاعل والآخذ هو الله القادر على كل شيء العالم بكل شيء، والحاصل: أنهم نقضوا الميثاق في الإيمان فلم يؤاخذهم حتى أرسل الرسل {إن كنتم مؤمنين} أي: مريدين الإيمان فبادروا إليه {هو} أي: لا غيره {الذي ينزل} أي: على سبيل التدريج والموالاة بحسب الحاجة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي {على عبده} الذي هو أحق الناس بحضرة جماله وإكرامه وهو محمد صلى الله عليه وسلم {آيات} أي: علامات هي من ظهورها حقيقة أن يرجع إليها ويتعبد بها {بينات} أي: واضحات وهي آيات القرآن الكريم {ليخرجكم} أي: الله بالقرآن أو عبده بالدعوة {من الظلمات} التي أنتم منغمسون فيها من الحظوظ والنقائص التي جبل عليها الإنسان والغفلة الكاملة على تراكم الجهل، فمن آتاه الله تعالى العلم والإيمان فقد أخرجه من هذه الظلمات التي طرأت عليه {إلى النور} الذي كان له وصفاً لروحه وفطرته الأولى السليمة {وإن الله} أي: الذي له صفات الكمال {بكم لرؤوف رحيم} أي: حيث نبهكم بالرسل والآيات ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة، والباقون بالمدّ، وورش على أصله بالمدّ والتوسط والقصر، وليس قصره كقصر أبي عمرو ومن معه وإنما قصره كمدّ قالون ومن وافقه {وما} أي: وأي شيء يحصل {لكم} في {أن لا تنفقوا} أي: توجدوا الإنفاق للمال {في سبيل الله} أي: في كل ما يرضى الملك الأعظم الذي له صفات الكمال ليكون لكم به وصلة فيخصكم بالرأفة التي هي أعظم الرحمة، فإنه ما يبخل أحد عن وجه خير إلا سلط الله عليه غرامة في وجه شرّ {ولله} أي: الذي له صفات الكمال لا سيما صفة الإرث المقتضية للزهد في الموروث {ميراث السموات
والأرض} أي: يرث كل شيء فيهما فلا يبقى لأحد مال فمن تأمّل أنه زائل هو وكل ما في يده والموت من ورائه وطوارق الحوادث مطبقة به وعما قليل ينقل ما في يده إلى غيره هان عليه الجود بنفسه وماله
s
ثم بين تعالى التفاوت بين المنفقين منهم فقال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق} أي: أوجد الإنفاق في ماله وجميع قواه وما يقدر عليه {من قبل الفتح} أي: الذي هو فتح جميع الدنيا في الحقيقة وهو فتح مكة الذي كان سبباً لظهور الدين الحق {وقاتل} سعياً في إنفاق نفسه لمن آمن به قبل الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً وقله الحاجة إلى القتال والنفقة فيه ومن أنفق من بعد(4/204)
الفتح، فحذف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه، وفضل الأوّل لما ناله إذ ذاك بالإنفاق من كثرة المشاق لضيق المال حينئذ، وفي هذا دليل على فضل أبي بكر فإنه أوّل من أنفق لم يسبقه في ذلك أحد، وخاصم الكفار حتى ضرب ضرباً شديداً أشرف منه على الهلاك، روى محمد بن فضيل عن الكلبي: أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضى الله عنه، وعن ابن عمر قال: «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال: مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها بخلال؟ فقال: أنفق ماله عليّ قبل الفتح قال: فإنّ الله عز وجل يقول: اقرأ عليه السلام وقل له: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أسخط على ربي إني عن ربي راض» {أولئك} أي: المنفقون المقاتلون وهم السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلع مدّ أحدهم ولا نصيفه» لمبادرتهم إلى الجود بالنفس والمال {أعظم درجة} وتعظيم الدرجة يكون لعظم صاحبها {من الذين أنفقوا من بعد} أي: من بعد الفتح {وقاتلوا} أي: من بعد الفتح {وكلا} أي: وكل واحد من الفريقين {وعد الله} أي: الذي له
الجلال
والإكرام {الحسنى} أي: المثوبة الحسنى وهي: الجنة مع تفاوت الدرجات، وقرأ ابن عامر: برفع اللام على الابتداء أي: وكل وعده ليطابق ما عطف عليه والباقون بنصبها أي: وعد كلا {والله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة بجميع صفات الكمال {بما تعملون} أي: تجدّدون عمله على الأوقات {خبير} أي: عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها.
تنبيه: التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدين وقد يكون في أحكام الدنيا فأمّا التقدّم في أحكام الدين فقالت عائشة «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم وأعظم المنازل مرتبة الصلاة» وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» وقال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» وقال: «فليؤمكما أكبركما» وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين فمن قدّم في الدين قدّم في الدنيا، وفي الحديث «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا» وفي الحديث: «ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه»
ثم رغب في الإنفاق بقوله تعالى: {من} وأكد بالإشارة بقوله تعالى: {ذا} لأجل ما للنفوس من الشح {الذي يقرض الله} أي: يعطي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز لأنه إذا أعطى المستحق ما له لوجه الله تعالى فكأنه أقرضه إياه {قرضاً حسناً} أي: طيباً خالصاً مخلصاً فيه متحرياّ به أفضل الوجوه من غير منّ وكدر بتسويف وغيره {فيضاعفه له} أي: يؤتي أجره من عشرة إلى أكثر من سبعمئة كما ذكره في البقرة إلى ما شاء الله تعالى من الأضعاف، وقيل: القرض الحسن أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال زيد بن أسلم: هو النفقة على الأهل، وقال الحسن: التطوع بالعبادات، وقرأ ابن عامر وعاصم بنصب الفاء بعد العين والباقون بالرفع وقرأ ابن كثير وابن عامر بغير ألف بعد الضاد وتشديد العين، والباقون بألف بعد الضاد وتخفيف العين {وله} أي: للمقرض زيادة(4/205)
على ذلك {أجر} لا يعلم قدره إلا الله تعالى وهو معنى وصفه بقوله تعالى: {كريم} أي: حسن طيب زاك تامّ وقوله تعالى:
{يوم} ظرف لقوله تعالى: {وله أجر كريم} أو منصوب بإضمار أذكر أي: واذكر يوم {ترى} أي: بالعين {المؤمنين والمؤمنات} أي: الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة {يسعى نورهم} أي: ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة {بين أيديهم وبأيمانهم} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أنّ الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم فيجعل النور في الجهتين شعار لهم وآية لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومرّوا على الصراط يسعون يسعى معهم ذلك النور حبيباً لهم ومتقدّماً، والأوّل: نور الإيمان والمعرفة والأعمال المقبولة، والثاني: نور الإنفاق لأنه بالإيمان نبه عليه الرازي وقال قتادة: ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم «قال من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن ودون ذلك حتى أنّ من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه» . وقال عبد الله بن مسعود: «يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نوراً نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويتقد أخرى ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة: {بشراكم اليوم} أي: بشارتكم العظيمة في جميع ما يستقبلكم من الزمان.
تنبيه: {بشراكم اليوم} مبتدأ واليوم ظرف وقوله تعالى: {جنات} خبره على حذف مضاف أي: دخول جنات وهو المبشر به ثم وصفها بما لا تكمل اللذة إلا به بقوله: {تجري من تحتها الأنهار} ثم آمنهم من خوف الانقطاع بقوله تعالى: {خالدين فيها} أي: خلوداً لا آخر له لأنّ الله تعالى أورثهم ذلك فلا يورث عنه لأنّ الجنة لا موت فيها {ذلك} أي: هذا الأمر العظيم المتقدّم من النور والبشرى بالجنات المخلدة {هو الفوز العظيم} أي: الذي ملأ بعظمته جميع جهاتهم.
ولما شرح تعالى حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين بقوله: {يوم يقول المنافقون والمنافقات} وهم المظهرون الإيمان المبطنون الكفر.
تنبيه: يوم بدل من يوم ترى أو منصوب بأذكر {للذين آمنوا} أي: ظاهراً وباطناً {انظرونا} أي: انتظرونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف على ركائب تزف بهم وهؤلاء مشاة، أو انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به، وقرأ حمزة: بقطع الهمزة في الوصل وكسر الظاء والباقون بوصل الهمزة ورفع الظاء، وأما الوقف على آمنوا والابتداء بانظرونا فحمزة على حاله كما يقرأ في الوصل، والباقون بضم همزة الوصل في الابتداء والظاء على حالها من الضم {نقتبس} أي: نستضيء {من نوركم} أي: هذا الذي نراه لكم ولا يلحقنا منه شيء كما كنا في الدنيا نرى إيمانكم بما نرى من ظواهركم ولا نتعلق من ذلك بشيء، {جزاء وفاقاً} (النبأ: 26)
وذلك لأنّ الله تعالى يضيء للمؤمنين نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضاً نوراً خديعة لهم وهو قوله تعالى: {وهو خادعهم} (التحريم: 8)
فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحاً وظلمة فأطفأت نور المنافقين فذلك قوله تعالى: {يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه} الآية مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين والقبس الشعلة من النار أو السراج، قال ابن عباس(4/206)
وأبو إمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة؛ قال الماوردي: أظنها بعد فصل القضاء ثم يعطون نوراً يمشون فيه؛ وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون وبقوا في الظلمة قالوا للمؤمنين: {انظرونا نقتبس من نوركم} قيل لهم جواباً لسؤالهم؛ قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون: أي: قول ردّ وتوبيخ وتهكم وتنديم {ارجعوا وراءكم} أي: ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا النور {فالتمسوا نوراً} هناك فمن ثم يقتبس أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا والتمسوا نوراً آخر فلا سبيل لكم إلى هذا النور، وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما هو تخييب وإقناط لهم، وقال قتادة: تقول لهم الملائكة: ارجعوا وراءكم من حيث جئتم، وقرأ هشام والكسائي: بضم القاف والباقون بكسرها.
ولما كان التقدير فرجعوا أو فأقاموا في الظلمة سبب عنه وعقب قوله تعالى: {فضرب بينهم} أي: بين المؤمنين والمنافقين {بسور} أي: حائط حائل بين شق الجنة وشق النار {له} أي: لذلك السور {باب} موكل به حجاب لا يفتحون إلا لمن أذن له الله تعالى من المؤمنين لما يهديهم إليه من نورهم الذي بين أيديهم بشفاعة أو نحوها {باطنه} أي: ذلك السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة من جهة الذين آمنوا جزاء لإيمانهم الذي هو غيب {فيه الرحمة} وهي ما لهم من الكرامة لأنه يلي الجنة التي هي ساترة تبطن من فيها بأشجارها وبأستارها كما كانت بواطنهم ملآنة رحمة {وظاهره} أي: ما ظهر لأهل النار {من قبله} أي: من عنده ومن جهته {العذاب} وهو الظلمة والنار لأنه يليها لاقتصار أهلها على الظواهر من غير أن يكون لهم نفوذ إلى باطن، وروي عن عبد الله بن عمر أنّ السور الذي ذكر الله تعالى في القرآن هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم.
وقال ابن سريج: كان كعب يقول: في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس إنه الباب الذي قال الله تعالى: {فضرب بينهم بسور له باب} الآية، وقيل: السور عبارة عن منع المنافقين عن طلب المؤمنين {ينادونهم} أي: ينادي المنافقون الذين آمنوا ويترققون لهم {ألم نكن معكم} أي: في الدنيا نصلي ونصوم فنستحق المشاركة فيما صرتم إليه بسبب ذلك الذي كنا معكم فيه {قالوا} أي: الذين آمنوا {بلى} أي: كنتم معنا في الظاهر {ولكنكم فتنتم أنفسكم} أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلها فتنة {وتربصتم} أي: بالإيمان والتوبة وبمحمد صلى الله عليه وسلم وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح منه {وارتبتم} أي: شككتم في الدين وفي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفيما وعدكم به {وغرّتكم الأمانيّ} أي: ما تتمنون من الإرادات التي معها شهوة عظيمة من الأطماع الفارغة التي لا سبب لها غير شهوة النفس إياها بما كنتم تتوقعون لنا من دوائر السوء {حتى جاء أمر الله} أي: قضاء الملك المتصف بجميع صفات الكمال فلا كفؤ له ولا خلف وقرأ قالون وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية، وأيضاً لهما إبدالها والباقون بتحقيقهما، وأمال الألف بعد الميم حمزة وابن ذكوان، والباقون(4/207)
بالفتح وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة الثانية مع المدّ والتوسط والقصر {وغرّكم بالله} أي: الملك الذي له جميع العظمة {الغرور} أي: من لا صنع له إلا الكذب وهو الشيطان فإنه يزين لكم بغروره التسويف ويقول: إنّ الله غفور رحيم وعفو كريم وماذا عسى أن تكون ذنوبكم عنده وهو عظيم ومحسن وحليم ونحو ذلك فلا يزال حتى يوقع الإنسان فإذا أوقعه واصل عليه مثل ذلك حتى يتمادى فإذا تمادى صار الباعث له حينئذ من قبل نفسه فصار طوع يده {فاليوم} أي: بسبب أفعالكم تلك {لا يؤخذ منكم فدية} أي: نوع من أنواع الفداء وهو البدل والعوض للنفس على أي حال كان من قلة أو
كثرة لأنّ الإله غني وقد فات محل العمل الذي شرعه لكم لانقياد أنفسكم، وقرأ ابن عامر بالتاء الفوقية على التأنيث والباقون بالتحتية على التذكير {ولا من الذين كفروا} أي: الذين أظهروا كفرهم ولم يستروه كما سترتموه أنتم لمساواتكم لهم في الكفر، وإنما عطف الكافر على المنافق وإن كان المنافق كافراً في الحقيقة لأنّ المنافق أبطن الكفر والكافر أظهره فصار غير المنافق فحسن عطفه على المنافق {مأواكم النار} أي: منزلكم ومسكنكم لا مقر لكم غيرها تحرقكم كما كنتم تحرقون قلوب الأولياء بإقبالكم على الشهوات وإضاعة حقوق ذوي الحاجات، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، وورش لا يبدل هذه الهمزة ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {هي} أي: لا غيرها {مولاكم} أي: هي أولى بكم وأنشد قول لبيد:
*
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها*
والشاهد في مولى المخافة فمولى بمعنى أولى والفرجان الجانبان وهو الخلف والقدام وهو وصف بقرة وحشية أي: غدت على حالة كلا جانبيها مخوف وحقيقته في الآية محراكم بحاء مهملة وراء أي: مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي: مكان، كقول القائل: إنه لكريم، ويجوز أن يراد هي ناصركم، أي: لا ناصر لكم غيرها، والمراد: نفي الناصر على البنات، وقيل: تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.
ولما كان التقدير بئس المولى هي عطف عليه قوله تعالى: {وبئس المصير} أي: هذه النار واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {ألم يأن} أي: يحن ويدرك وينتهي إلى الغاية {للذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {أن تخشع} أي: تلين وتسكن وتخضع وتذل وتطمئن {قلوبهم لذكر الله} أي: الملك الأعظم الذي لا خير إلا منه فيصدق في إيمانه من كان كاذباً ويقوى في الدين من كان ضعيفاً فيعرض عن الفاني ويقبل على الباقي ولا يطلب لداء دينه دواء ولا لمرض قلبه شفاء في غير القرآن، فقال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وعن ابن مسعود رضى الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، وعن الحسن: أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل ما تقرؤون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق، وقيل: كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت؛ وعن أبي بكر رضى الله عنه: أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة(4/208)
فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم وقال: هكذا كنا حتى قست القلوب وقال الشاعر:
*ألم يأن لي يا قلب أن نترك الجهلا ... وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا*
وقوله تعالى: {وما نزل من الحق} أي: القرآن عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر لأن القرآن جامع للأمرين للذكر والموعظة أو أنه حق نازل من السموات؛ ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله تعالى، وقرأ نافع وحفص بتخفيف الزاي والباقون بالتشديد وقوله تعالى: {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل} أي: قبل ما نزل إليكم وهم اليهود والنصارى معطوف على تخشع والمراد: النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكى عنهم بقوله تعالى: {فطال عليهم الأمد} أي: الأجل لطول أعمارهم أو آمالهم أو ما بينهم وبين أنبيائهم {فقست} أي: بسبب الطول {قلوبهم} أي: صلبت واعوجت بحيث لا تنفعل بالطاعات والخير فكانوا كل حين في تعنت جديد على أنبيائهم عليهم السلام يسألونهم المقترحات، وأما بعد أنبيائهم فابعدوا في القساوة فمالوا إلى دار الكدر وأعرضوا عن دار الصفاء فانجروا إلى الهلاك باتباع الشهوات؛ قال القشيري: وقسوة القلب إنما تحصل باتباع الشهوة فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان؛ وعن أبي موسى الأشعري: أنه بعث إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاث مئة رجل قد قرؤوا القرآن فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاقرؤه ولا تطيلوا عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم {وكثير منهم} أخرجته قساوته عن الدين أصلاً ورأسا فهم {فاسقون} أي: عريقون في صفة الإقدام على الخروج من دائرة الحق التي حدها لهم الكتاب حتى تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وقوله تعالى:
{اعلموا أن الله} أي: الملك الأعظم الذي له الكمال كله فلا يعجزه شيء {يحيي} أي: على سبيل التجديد والاستمرار كما تشاهدونه {الأرض} أي: بالنبات {بعد موتها} أي: يبسها تمثيل لإحياء الأموات بجميع أجسادهم وإفاضة الأرواح عليها كما فعل بالنبات وكما فعل بالأجسام أول مرة، ولإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة فاحذروا سطوته واخشوا غضبه وارجوا رحمته، لإحياء القلوب فإنه قادر على إحيائها بروح الوحي كما أحيا الأرض بروح الماء لتصير بأحيائها بالذكر خاشعة بعد قسوتها كما صارت الأرض رابية بعد خشوعها وموتها. { {
ولما انكشف الأمر بهذه غاية الانكشاف أنتج قوله تعالى: {قد بينا} أي: على مالنا من العظمة {لكم الآيات} أي: العلامات النيرات {لعلكم تعقلون} أي: لتكونوا عند من يعلم ذلك ويمنعه من الخلائق على رجاء من حصول العقل لكم بما يتجدد لكم من فهمه على سبيل التواصل الدائم بالاستمرار
وقرأ: {إن المصدقين} أي: العريقين في هذا الوصف من الرجال {والمصدقات} أي: من النساء، ابن كثير وشعبة بتخفيف الصاد فيهما من التصديق بالإيمان والباقون بالتشديد فيهما من التصدق أدغمت التاء في الصاد أي: الذين تصدقوا وقوله تعالى: {وأقرضوا الله} أي: الذي له الكمال كله عطف على معنى الفعل في المصدقين لأنّ اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى أصدقوا كأنه قيل: إنّ الذين أصدقوا وأقرضوا الله {قرضاً حسناً} أي: بغاية ما يكون من طيب النفس وإخلاص النية والنفقة(4/209)
في سبيل الخير وحسنه؛ كما قال الرازي: أن يصرف بصره عن النظر إلى فعله والنفقة وإلا متنا به وطلب العوض عليه {يضاعف} أي: ذلك القرض {لهم} من عشرة إلى سبعمائة كما مرّ لأنّ الذي كان له العرض كريم، وقرأ ابن كثير وابن عامر: بتشديد العين ولا ألف بينها وبين الضاد؛ والباقون بتخفيف العين وبينها وبين الضاد ألف {ولهم} أي: مع المضاعفة {أجر كريم} أي: ثواب حسن وهو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم.
ثم بين سبحانه وتعالى الحامل على الصدقة ترغيباً فيه وهو الإيمان فقال تعالى: {والذين آمنوا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم {بالله} أي: الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام {ورسله} أي: كلهم لأجل ما لهم من النسبة إليه فمن كذب واحد منهم لم يكن مؤمناً بالله تعالى: {أولئك} أي: هؤلاء العالو الرتبة {هم الصديقون} أي: الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه؛ وقال القشيري الصديق من استوى ظاهره وباطنه؛ ويقال: هو الذي يحمل الأمر على الأشق ولا ينزل إلى الرخص ولا يجنح للتأويلات؛ وقال مجاهد: كل من آمن بالله تعالى ورسله عليهم السلام فهو صدّيق وتلا هذه الآية؛ وقال الضحاك: الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب رضى الله عنهم ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى آله، واختلف في نظم قوله تعالى: {والشهداء عند ربهم} أي: المحسن إليهم بالتربية لمثل تلك الرتبة العالية فمنهم من قال: هي متصلة بما قبلها والواو للنسق وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين، وقال الضحاك: هم التسعة الذين سميناهم رضي الله عنهم؛ وقال مجاهد: كل مؤمن صدّيق وشهيد وتلا هذه الآية، وقال قوم: تم الكلام عند قوله تعالى: {هم الصديقون} ثم ابتدأ بقوله تعالى: {والشهداء} فهو مبتدأ وخبره {لهم أجرهم} أي: جعله ربهم لهم {ونورهم} أي: الذي زادهموه من فضله برحمته قالوا: والواو للاستئناف وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وجماعة؛ ثم اختلفوا فيهم فمنهم من قال: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس رضى الله عنهما وهو قول مقاتل بن حيان، وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله عز وجل.
ولما ذكر تعالى أهل السعادة جعلنا الله تعالى ووالدينا ومحبينا منهم جامعاً لأصنافهم أتبعهم أهل الشقاوة لذلك بقوله تعالى: {والذين كفروا} أي: ستروا ما دلت عليه الأدلة {وكذبوا بآياتنا} أي: على مالها من العظمة بنسبتها إلينا {أولئك} أي: هؤلاء البعداء من كل خير {أصحاب الجحيم} أي: النار التي هي غاية في توقدها وفي ذلك دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة عرفاً، وأما غيرهم من العصاة فدخولهم فيها ليس على وجه الصحبة الدالة على الملازمة.
ثم بين سبحانه وتعالى الحامل على الصدقة ترغيباً فيه وهو الإيمان فقال تعالى: {والذين آمنوا} أي: أوجدوا هذه الحقيقة العظيمة في أنفسهم {بالله} أي: الملك الأعلى الذي له الجلال والإكرام {ورسله} أي: كلهم لأجل ما لهم من النسبة إليه فمن كذب واحد منهم لم يكن مؤمناً بالله تعالى: {أولئك} أي: هؤلاء العالو الرتبة {هم الصديقون} أي: الذين هم في غاية الصدق والتصديق لما يحق له أن يصدقه من سمعه؛ وقال القشيري الصديق من استوى ظاهره وباطنه؛ ويقال: هو الذي يحمل الأمر على الأشق ولا ينزل إلى الرخص ولا يجنح للتأويلات؛ وقال مجاهد: كل من آمن بالله تعالى ورسله عليهم السلام فهو صدّيق وتلا هذه الآية؛ وقال الضحاك: الآية خاصة في ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة وتاسعهم عمر بن الخطاب رضى الله عنهم ألحقه الله تعالى بهم لما عرف من صدق نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى آله، واختلف في نظم قوله تعالى: {والشهداء عند ربهم} أي: المحسن إليهم بالتربية لمثل تلك الرتبة العالية فمنهم من قال: هي متصلة بما قبلها والواو للنسق وأراد بالشهداء المؤمنين المخلصين، وقال الضحاك: هم التسعة الذين سميناهم رضي الله عنهم؛ وقال مجاهد: كل مؤمن صدّيق وشهيد وتلا هذه الآية، وقال قوم: تم الكلام عند قوله تعالى: {هم الصديقون} ثم ابتدأ بقوله تعالى: {والشهداء} فهو مبتدأ وخبره {لهم أجرهم} أي: جعله ربهم لهم {ونورهم} أي: الذي زادهموه من فضله برحمته قالوا: والواو للاستئناف وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وجماعة؛ ثم اختلفوا فيهم فمنهم من قال: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين يشهدون على الأمم يروى ذلك عن ابن عباس رضى الله عنهما وهو قول مقاتل بن حيان، وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله عز وجل.
ولما ذكر تعالى أهل السعادة جعلنا الله تعالى ووالدينا ومحبينا منهم جامعاً لأصنافهم أتبعهم أهل الشقاوة لذلك بقوله تعالى: {والذين كفروا} أي: ستروا ما دلت عليه الأدلة {وكذبوا بآياتنا} أي: على مالها من العظمة بنسبتها إلينا {أولئك} أي: هؤلاء البعداء من كل خير {أصحاب الجحيم} أي: النار التي هي غاية في توقدها وفي ذلك دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص، والصحبة تدل على الملازمة عرفاً، وأما غيرهم من العصاة فدخولهم فيها ليس على وجه الصحبة الدالة على الملازمة.
ولما ذكر تعالى حال الفريقين في الآخرة حقر أمر الدنيا بقوله تعالى: {اعلموا} أي: أيها العباد المبتلون بحب الدنيا {أنما الحياة الدنيا} أي: الحاضرة التي رغب في الزهد فيها والخروج عنها بالصدقة والقرض الحسن، وما مزيدة للتأكيد أي: الحياة في هذه الدار {لعب} أي: لعب لا ثمرة له فهو باطل كلعب الصبيان {ولهو} أي:(4/210)
شيء يفرح به الإنسان فيلهيه أي يشغله عما يعنيه ثم ينقضي كلهو الفتيان، ثم أتبع ذلك أعظم ما يلهي في الدنيا بقوله تعالى: {وزينة} أي: شيء يبهج العين ويسر النفس كزينة النسوان وأتبعها ثمرتها بقوله تعالى: {وتفاخر بينكم} أي: كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض فيجر ذلك إلى الحسد والبغضاء وأتبع ذلك بما يحصل به الفخر بقوله تعالى: {وتكاثر} أي: من الجانبين كتكاثر الرهبان {في الأموال} أي: التي لا يفتخر بها إلا أحمق لكونها مائلة {والأولاد} أي: التي لا يغتر بها إلا سفيه لأنها زائلة وآفاتها هائلة وإنما هي فتنة وابتلاء يظهر بها الشاكر من غيره، ثم ذلك كله قد يكون ذهابه عن قريب فيكون على أضداد ما كان عليه فيكون أشد في الحسرة ثم في آخر ذلك يموت فإذا هو قد اضمحل أمره ونسى عما قليل ذكره وصار ماله لغيره وزينته متمتعاً بها سواه، فالدنيا حقيرة وأحقر منها طالبها لأنها جيفة وطالب الجيفة ليس له خطر وأخسهم من يبخل بها، وقال علي لعمار: لا تحزن على الدنيا فإنّ الدنيا ستة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل مشمومها المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها تقتل الرجال، وأما المنكوح فهو النساء وهو مبال في مبال والله إنّ المرأة لتزين أحسنها فيراد منها أقبحها ا. هـ. ويناسب بعض ذلك قول الشاعر:
*فخير لباسها نسجات دود
... وخير شرابها قيء الذباب
*وأشهى ما ينال المرء فيها
... مبال في مبال مستطاب
قال القشيري: وهذه الدنيا المذمومة هي ما يشغل العبد عن الآخرة فكل ما يشغله عن الآخرة فهو الدنيا ا. هـ. أي: وأما الطاعات وما يعين عليها فمن أمور الآخرة ثم ضرب الله للدنيا مثلاً بقوله تعالى: {كمثل} أي: هذا الذي ذكرته من أمرها يشبه مثل {غيث} أي: مطر حصل بعد جدب وسوء حال {أعجب الكفار} أي: الزراع الذين حصل منهم الحرث والبذر الذي يستره الحارث كما يستر الكافر حقيقة أنوار الإيمان بما يحصل منه من الجحد والطغيان {نباته} أي: نبات ذلك الغيث كما يعجب الكافر في الغالب بسط الدنيا له استدراجاً من الله تعالى: {ثم يهيج} أي: ييبس فيتم جفافه فيحين حصاده {فتراه} أي: عقب كل ذلك وبالقرب منه {مصفراً} أي: على حالة لا نموّ بعدها {ثم} أي: بعد تناهي الجفاف {يكون} أي: كونا كأنه مطبوع عليه {حطاماً} أي: فتاتاً يضمحل بالرياح.
ولما ذكر تعالى الظل الزائل ذكر أثره الثابت الدائم مقسماً له إلى قسمين فقال تعالى: {وفي الآخرة عذاب شديد} أي: على من آثر الدنيا وأخذها بغير حقها معرضاً عن ذكر الله تعالى وعن الآخرة هذا أحد القسمين، وأما القسم الآخر فهو: ما ذكره بقوله تعالى: {ومغفرة} أي: ولمن أقبل على الآخرة ورفض الدنيا ولم تشغله عن ذلك الله تعالى مغفرة {من الله} أي: الملك الأعظم {ورضوان} أي: في جنة عالية تفضلاً منه تعالى ورحمة، وقوله تعالى جل وعلا: {وما الحياة الدنيا} أي: لكونها تشغل بزينتها مع أنها زائلة {إلا متاع الغرور} أي: هو في نفسه غرور لا حقيقة له(4/211)
إلا ذلك لأنه لا يسر بقدر ما يضر تأكيد لما سبق، قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
ثم أرشدهم الله تعالى إلى المسابقة إلى الخيرات لأنّ الدنيا خيال ومحال، والآخرة بقاء وكمال بقوله تعالى:
{سابقوا} أي: سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار {إلى مغفرة} أي: ستر لذنوبكم عيناً وأثراً {من ربكم} أي: المحسن إليكم بأنواع الخيرات التي توجب المغفرة لكم من ربكم، وقال الكلبي: سارعوا بالتوبة لأنها تؤدي إلى المغفرة، وقال مكحول: هي التكبيرة الأولى مع الإمام، وقيل: الصف الأول {وجنة} أي: وبستان هو من عظم أشجاره واطراد أنهاره بحيث يستر داخله {عرضها كعرض السماء والأرض} أي: السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها ببعض لكان عرض الجنة في قدرها جميعاً، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد أن لكل واحد من المطيعين جنة بهذه السعة، وقال مقاتل: إنّ السموات السبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح وألزق بعضها إلى بعض لكانت عرض جنة واحدة من الجنان، وسأل عمر ناس من اليهود إذا كانت الجنة عرضها ذلك فأين النار؟ فقال لهم: أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا: إنه لمثلهما في التوراة. ومعناه: أنه حيث شاء الله وهذا عرضها ولا شك أن الطول أزيد من العرض فذكر العرض تنبيهاً على أن طولها أضعاف ذلك، وقيل إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ويقع في أنفسهم وأفكارهم وأكثر ما يقع في أنفسهم مقدار السموات والأرض فشبه عرض الجنة بما تعرفه الناس {أعدت} أي: هيئت هذه الجنة الموعود بها وفرغ من أمرها بأيسر أمر {للذين آمنوا} أي: أوقعوا هذه الحقيقة {بالله} أي: الذي له جميع العظمة لأجل ذاته مخلصين له الإيمان {ورسله} فلم يفرقوا بين أحد منهم وفي هذا أعظم رجاء وأقوى أمل لأنه ذكر أنّ الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئاً آخر، يدل عليه قوله تعالى في سياق الآية {ذلك} أي: الفضل العظيم جداً {فضل الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له فلا اعتراض عليه {يؤتيه من يشاء} فبين أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله لا بعمله، لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
«لن يدخل الجنة أحداً منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمة» . ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} لأنّ الباء في الحديث عوضيه، وفي الآية سببية، فإن قيل: يلزم على هذا أن يقطع بحصول الجنة لجميع العصاة وأن يقطع بأنه لا عقاب عليهم؟ أجيب: بأنا نقطع بحصول الجنة ولا نقطع بنفي العقاب عنهم لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة بقوا فيها أبد الآباد فكانت معدة لهم {والله} أي: والحال أنّ الملك المختص بجميع صفات الكمال فله الأمر كله {ذو الفضل العظيم} أي: الذي جل أن تحيط بوصفه العقول {ما أصاب من مصيبة في الأرض} أي: من قحط المطر وقلة النبات ونقص الثمرات وغلاء الأسعار وتتابع الحوائج وغير ذلك {ولا في أنفسكم} أي: من الأمراض والفقر وذهاب الأولاد وضيق العيش وغير ذلك {إلا في كتاب} أي: مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله تعالى:(4/212)
{من قبل أن نبرأها} أي: نخلق ونوجد ونقدر المصيبة في الأرض والأنفس، وهذا دليل على أنّ اكتساب العباد بخلقه سبحانه وتعالى وتقديره {إن ذلك} أي: الأمر الجليل وهو علمه بالشيء وكتبه له على تفاصيله قبل أن يخلقه {على الله} أي: لما له من الإحاطة بصفات الكمال {يسير} لأن علمه محيط بكل شيء فقدرته شاملة لا يعجزه فيها شيء.
ثم بين ثمرة إعلامه بذلك بقوله تعالى: {لكيلا} أي: أعلمناكم بأنا على مالنا من العظمة قد فرغنا من التقدير فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير لا الحزن يدفعه ولا السرور يجلبه ويجمعه كما قال صلى الله عليه وسلم «يا معاذ ليقل همك ما قدر يكن» لأجل أن {لا تأسوا} أي: تحزنوا حزناً كبيراً زائداً على ما في أصل الجبلة فربما جرّ ذلك إلى السخط وعدم الرضا بالقضاء {على ما فاتكم} أي: من المحبوبات الدنيوية {ولا تفرحوا} أي: تسروا سروراً يوصلكم إلى البطر بالتمادي على ما في أصل الجبلة وقوله تعالى: {بما آتاكم} قرأه أبو عمرو بقصر الهمزة، أي: جاءكم منه، والباقون بالمد أي أعطاكم قال جعفر الصادق رضي الله عنه: مالك تأسف على مفقود ولا يردّه عليك الفوت ومالك تفرح بموجود ولا يتركه في يدك الموت ا. هـ.
ولقد عزى الله تعالى المؤمنين رحمة بهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده، وفرحهم بحصول المحبوب لا يفيده، وبأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بإدخاره عند الله تعالى وذلك بأن يقول: المصيبة قدر الله تعالى وما شاء فعل ويصبر؛ وفي النعمة هكذا قضى وما أدري مآله هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر فلا يزال خائفاً عند النعمة قائلاً في الحالين ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن، وأكمل من هذا أن يكون مسروراً بذكر ربه في كلتا الحالتين، وقيمة الرجال إنما تعرف بالواردات المغيرة فمن لم يتغير بالمضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته كما أشار إليه القشيري؛ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان تتعدى فيهما إلى ما لا يجوز {والله} أي: الذي له صفات الكمال {لا يحب} أي: لا يفعل فعل المحب بأن يكرم {كل مختال} أي: متكبر نظراً إلى ما في يده من الدنيا {فخور} أي: به على الناس قال القشيري: الاختيال من بقايا النفس ورؤيتها، والفخر من رؤية خطر ما به يفتخر.
وقوله تعالى: {الذين يبخلون} بدل من كل مختال فخور فإنّ المختال بالمال يضن به غالباً {ويأمرون الناس} أي: كل من يعرفونه {بالبخل} إرادة أن يكونوا لهم رفقاء يعملون بأعمالهم الخبيثة أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله تعالى: {ومن يتول} أي: يكلف نفسه الإعراض ضد ما في فطرته من محبة الخير والإقبال على الله تعالى: {فإن الله} الذي له جميع صفات الكمال {هو} أي: وحده {الغني الحميد} لأنّ معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإنّ الله غني أي: عن ماله وعن إنفاقه وكل شيء مفتقر إليه وهو مستحق للحمد سواء أحمده الحامدون أم لا {لقد أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {رسلنا} أي: الذين لهم نهاية الجلال بما لهم بنا من الاتصال من الملائكة إلى الأنبياء على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ومن الأنبياء إلى الأمم {بالبينات} أي: الحجج القواطع {وأنزلنا} أي: بعظمتنا التي لا شيء أعلى منها {معهم الكتاب}(4/213)
أي: الكتب المتضمنة للأحكام وشرائع الدين {والميزان} أي: العدل، وقيل: الآلة روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام وقال مر قومك يزنوا به {ليقوم الناس بالقسط} أي: ليتعاملوا بينهم بالعدل {وأنزلنا} أي: خلقنا خلقا عظيماً بما لنا من القوة {الحديد} أي: المعروف على وجه من القوّة والصلابة واللين فلذلك سمي إيجاده إنزالاً؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزل آدم عليه السلام من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد وروي من آلة الحدادين السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة، وحكاه القشيري قال: والميقعة ما يحدد به يقال: وقعت الحديدة أقعها أي: حددتها وفي الصحاح: الميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشبة القصار التي يدق عليها والمطرقة والمسن الطويل، وروي ومعه المبرد والمسحاة، وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض أنزل الحديد والنار والماء والملح» . وروى عكرمة
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أنزل ثلاثة أشياء مع آدم عليه السلام الحجر الأسود وكان أشد بياضاً من الثلج وعصا موسى عليه السلام وكانت من آس طولها عشرة أذرع مع طول موسى» ؛ وعن الحسن {وأنزلنا الحديد} خلقناه كقوله تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام} (الزمر: 6)
وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه {فيه بأس} أي: قوة وشدّة {شديد} أي: قوة شديدة فمنه جنة وهي آلة الدفع ومنه سلاح وهو آلة الضرب {ومنافع للناس} بما يعمل منه من مرافقهم لتقوم أحوالهم بذلك قال البيضاوي: ما من صنعة إلا والحديد آلتها، وقال مجاهد: يعني جنة، وقيل: انتفاع الناس بالماعون الحديد كالسكين والفأس ونحو ذلك، وروي أنّ الحديد أنزل في يوم الثلاثاء فيه بأس شديد، أي مهراق الدماء ولذلك نهي عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء لأنه يوم جرى فيه الدم؛ وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أن في يوم الثلاثاء ساعة لا يراقد فيها الدم» .
وقوله تعالى: {وليعلم الله} أي: الذي له جميع العظمة علم شهادة لأجل إقامة الحجة بما يليق بعقول الخلق فيكون الجزاء على العمل لا على العلم، عطف على قوله تعالى: {ليقوم الناس} أي: لقد أرسلنا رسلنا وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس وليعلم الله {من ينصره} أي: ينصر دينه بآلات الحرب من الحديد وغيره وقوله تعالى: {ورسله} عطف على مفعول ينصره أي: وينصر رسله وقوله تعالى: {بالغيب} حال من هاء ينصره، أي: غائباً عنهم في الدنيا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ينصرونه ولا يبصرونه {إن الله} أي: الذي له العظمة كلها {قوي} أي: فهو قادر على إهلاك جميع أعدائه وتأييد من ينصره من أوليائه {عزيز} فهو غير مفتقر إلى نصرة أحد وإنما دعا عباده إلى نصرة دينه ليقيم الحجة عليهم فيرحم من أراد بامتثال المأمور ويعذب من يشاء بارتكاب المنهي لبناء هذه الدار على حكمة ربط المسببات بالأسباب ولما أجمل الرسل في قوله تعالى:
{لقد أرسلنا رسلنا} (الحديد: 5) فصل هنا ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب فقال تعالى: {ولقد أرسلنا} أي: بما لنا من العظمة {نوحاً} وهو الأب الثاني وجعلنا الأغلب على رسالته مظهر الجلال {وإبراهيم} وهو أبو العرب والروم وبني إسرائيل الذي أكثر الأنبياء من نسله وجعلنا الأغلب على رسالته تجلى الإكرام {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {في ذريتهما النبوّة}(4/214)
فلا يوجد نبي إلا من نسلهما {والكتاب} أي: الكتب الأربعة وهي التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الكتاب الخط بالقلم يقال: كتب كتاباً وكتابة والضمير في قوله تعالى: {فمنهم مهتد} يعود على الذرية لتقدم ذكرها لفظاً وقيل: يعود على المرسل إليهم لدلالة أرسلنا، أي: هو بعين الرضا منا وهو من لزم طريقة الاصفياء وإن كان من أولاد الأعداء {وكثير منهم} أي: المذكورين {فاسقون} أي: هم بعين السخط وإن كانوا من أولاد الأصفياء، والمراد بالفاسق ههنا: الكافر لأنه جعل الفساق ضد المهتدين، وقيل: هو الذي ارتكب الكبيرة سواء أكان كافراً أم لم يكن لإطلاق هذا الاسم وهو يشمل الكافر وغيره {ثم قفينا} أي: أتبعنا بما لنا من العظمة {على آثارهم} أي: الأبوين المذكورين ومن مضى قبلهما من الرسل أو عاصرهما منهم {برسلنا} أي: فأرسلناهم واحداً في أثر واحد كموسى والياس وداود وغيرهم، ولا يعود الضمير على الذرية لأنها باقية مع الرسل وبعدهم وأيضاً الرسل المقفى بهم من الذرية {وقفينا} أي: أتبعنا بما لنا من العظمة على آثارهم قبل أن تندرس {بعيسى بن مريم} وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه وهو آخر من جاء قبل النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام فأمته أولى الأمم باتباعه صلى الله عليه وسلم {وآتيناه} أي: بما لنا من العظمة {الإنجيل} كتاباً ضابطاً لما جاء به مقيماً لملته مبشراً بالنبيّ العربيّ موضحاً لأمره مكثراً من ذكره {وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {في قلوب الذين اتبعوه} أي: على
دينه بغاية جهدهم فكانوا على { {
منهاجه {رأفة} أي: أشدّ رقة على من كان ينسب إلى الاتصال بهم {ورحمة} أي: رقة وعطفاً على من لم يكن له سبب في الاتصال بهم كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أنّ قلوبهم في غاية الصلابة فهم أعزة على الكافرين متوادين بعضهم لبعض وقوله تعالى: {ورهبانية} منصوب بفعل مقدر يفسره الظاهر وهو قوله تعالى: {ابتدعوها} قال أبو علي: ابتدعوا رهبانية ابتدعوها فتكون المسألة من باب الاشتغال وإلى هذا نحا الفارسي والزمخشري وأبو البقاء وجماعة إلا أن هذا يقال: إنه إعراب المعتزلة، وذلك أنهم يقولون: ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له فالرحمة والرأفة لما كانتا من فعل الله تعالى نسب خلقهما إليه، والرهبانية لما لم تكن من فعل الله تعالى بل من فعل العبد يستقل بفعلها نسب ابتداعها إليه، وقيل: إن رهبانية معطوفة على رأفة ورحمة، وجعل إما بمعنى خلق أو بمعنى صيّر وابتدعوها على هذا صفة الرهبانية، وإنما خصت بذكر الابتداع لأنّ الرأفة والرحمة في القلب أمر غريزي لا تكلف للإنسان فيهما بخلاف الرهبانية فإنها أفعال البدن وللإنسان فيها تكسب، لكن أبو البقاء منع هذا بأن ما جعله الله تعالى ليبتدعونه. وجوابه: ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك بها والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين متحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلو واللباس والخشن والاعتزال عن النساء والتعبد في الكهوف والغيران، روي أنّ ابن عباس رضي الله عنهما قال: في أيام الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم غير الملوك التوراة والإنجيل فساح نفر وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا؛ قال الضحاك:(4/215)
إن ملوكاً بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقي بعدهم: نحن إذا
نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم
فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع. وقال قتادة: الرهبانية التي ابتعدوها رفض النساء واتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع هي لحوقهم بالبراري والجبال وقوله تعالى: {ما كتبناها} صفة لرهبانية ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك، قال ابن زيد: معناه ما فرضناها {عليهم} ولا أمرنا هم بها في كتابهم ولا على لسان رسولهم وقوله تعالى: {إلا ابتغاء رضوان الله} أي: الملك الأعظم استثناء منقطع، أي: ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، وقيل: متصل بما هو مفعول من أجله والمعنى: ما كتبناها عليهم الشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله ويكون كتب بمعنى: قضى فصار المعنى: كتبناها عليهم ابتغاء مرضاة الله {فما رعوها حق رعايتها} أي: ما قاموا بها حق القيام بل ضموا إليها التثليث وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين ملكهم وبقي على دين عيسى كثير منهم وآمنوا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم {فآتينا} أي: بما لنا من صفات الكمال {الذين آمنوا} أي: بالنبيّ صلى الله عليه وسلم {منهم أجرهم} أي: اللائق بهم وهو الرضوان المضاعف {وكثير منهم} أي: من هؤلاء الذين ابتدعوها فضيعوا {فاسقون} أي: عريقون في وصف الخروج عن الحدود التي حدّها الله تعالى وهم الذين تركوا الرهبانية وكفروا بدين عيسى عليه السلام، روى البغوي بسنده عن ابن مسعود أنه قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم فرقة غزت الملوك وقاتلوهم على دين عيسى وفرقة لم يكن لهم طاقة بمعاداة الملوك ولا أن يقيموا بين أظهرهم فدعوهم إلى دين الله تعالى ودين عيسى عليه السلام فساحوا في البلاد فترهبوا وهم الذين قال الله عز وجل: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} » ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم «من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم
الهالكون» .
وعن ابن مسعود أيضاً قال: «كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: يا ابن أم عبد هل تدري من أين اتخذت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت الله ورسوله أعلم، قال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بالمعاصي فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزموا أهل الإيمان ثلاث مرار فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء قتلونا ولم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله تعالى النبيّ الذي وعدنا عيسى عليه السلام يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم فتفرّقوا في غيران الجبال وأحدثوا الرهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ثم تلا هذه الآية {ورهبانية ابتدعوها} إلى قوله تعالى: {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} يعني من ثبت عليها أجرهم ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن أم عبد أتدري ما رهبانية أمتي قلت الله ورسوله أعلم قال: الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة»
وعن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ لكلّ أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله تعالى» وعن ابن عباس قال: كانت ملوك بني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل(4/216)
وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعونهم إلى دين الله تعالى: فقيل لملوكهم: لو جمعتم هؤلاء الذين شقوا عليكم فقتلتموهم أو دخلوا فيما نحن فيه فجمعهم ملكهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل وإلا فما بدلوا منهما فقالوا نحن نكفيكم أنفسنا، فقالت طائفة: ابنوا لنا اسطوانة ثم ارفعونا إليها أعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم، وقالت طائفة: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش فإن قدرتم علينا بأرض فاقتلونا، وقالت طائفة: ابنوا لنا دوراً في الفيافي نحتفر الآبار ونحترث البقر فلا نرد عليكم ولا نراكم ففعلوا بهم ذلك، فمضى أولئك على منهاج عيسى عليه السلام، وخلف قوم من بعدهم ممن غير الكتاب فجعل الرجل يقول: نكون في مكان فلان فنتعبد كما تعبد ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فذلك قوله عز وجلّ: {ورهبانية ابتدعوها} ابتدعها هؤلاء الصالحون فما رعوها حق رعايتها، يعني الآخرين الذين جاؤوا من بعدهم {فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم} يعني: الذين اتبعوها ابتغاء مرضاة الله {وكثير منهم فاسقون} هم الذين جاؤوا من بعدهم قال: فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب دير من ديره فآمنوا وصدّقوا فقال الله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا} أي: بموسى وعيسى عليهما السلام إيماناً صحيحاً {اتقوا الله} أي: خافوا عقاب الملك الأعظم {وآمنوا برسوله} محمد صلى الله عليه وسلم إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بمن تقدّمه، هذا إذا كان خطاباً لمؤمني أهل الكتاب، وأمّا إذا كان خطاباً للمؤمنين من أهل الكتاب وغيرهم، فالمعنى: آمنوا برسوله إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بالله تعالى فإنه لا يصح الإيمان بالله إلا مع الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم {يؤتكم} أي: يثبكم على اتباعه {كفلين} أي: نصيبين ضخمين {من رحمته} يحصنانكم من العذاب كما يحصن الكفل الراكب من الوقوع وهو كساء يعقد على ظهر البعير فيلقي مقدّمه على الكاهل ومؤخره على العجز وهذا التحصين لأجل إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيمانكم بمن تقدّمه مع خفة العمل ورفع الآصار، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق وإن كان منسوخاً ببركة الإسلام. وقيل: الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم وقال أبو موسى الأشعري: كفلين ضعفين بلسان الحبشة، وقال ابن زيد: كفلين أجر الدنيا وأجر الآخرة، وعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث يؤتون أجرهم مرتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوّجها، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيده» {ويجعل لكم} أي: مع ذلك {نوراً} مجازياً في الدنيا من العلوم والمعارف القلبية وحسياً في الآخرة بسبب العمل {تمشون به} أي: مجازاً في الدنيا بالتوفيق للعمل وحقيقة في الآخرة بسبب العمل، وقال مجاهد: النور هو البيان والهدى، وقال ابن عباس: هو القرآن، وقال الزمخشري: هو النور المذكور في قوله تعالى: {نورهم يسعى} (التحريم: 1)
وقيل: يمشون في الناس يدعونهم إلى الإسلام فيكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياستكم فيه وذلك أنهم خافوا أن تزول(4/217)
رياستهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله تعالى لا الرياسة الحقيقية في الدين {ويغفر لكم} أي: ما فرط منكم من سهو وعمد وهزل وجدّ {والله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {غفور} أي: بليغ المحو للذنوب عيناً وأثر {رحيم} أي: بليغ الإكرام لمن يغفر له ويوفقه للعمل بما يرضيه.
ولما بلغ من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله تعالى: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} قالوا للمسلمين: أمّا من آمن منا بكتابكم فله أجره مرتين لإيمانه بكتابكم وبكتابنا ومن لم يؤمن منا فله أجره كأجوركم فما فضلكم علينا فأنزل الله تعالى: {لئلا يعلم} أي: ليعلم ولا زائدة للتأكيد {أهل الكتاب} الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم {أن} مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشان والمعنى أنهم {لا يقدرون على شيء} في زمن من الأزمان {من فضل الله} أي: الملك الأعلى فلا أجر لهم ولا نصيب في فضله إن لم يؤمنوا بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة: حسد الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب المؤمنين منهم فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبيّ يقطع الأيدي والأرجل فلما خرج من العرب كفروا به فنزلت الآية. وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادّعوا الفضل عليهم فنزلت، وقيل: المراد من فضل الله الإسلام، وقيل: الثواب، وقال الكلبي: من رزق الله وقيل: نعم الله تعالى التي لا تحصى {وأنّ} أي: وليعلموا أن {الفضل} أي: الذي لا يحتاج إليه من هو عنده {بيد الله} الذي له الأمر كله {يؤتيه من يشاء} لأنه قادر مختار فآتى المؤمنين منهم أجرهم مرتين {والله} أي: الذي أحاط بجميع صفات الكمال {ذو الفضل العظيم} أي: مالكه ملكاً لا ينفك ولا ملك لأحد فيه معه ولا تصرف بوجه أصلاً فلذلك يخص من يشاء بما يشاء
روى البخاري عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو قائم على المنبر: «إنما بقاؤكم فيمن سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين، قال أهل التوراة: ربنا هؤلاء أقل عملاً وأكثر أجراً قال: هل ظلمتكم من أجركم شيئاً؟ قالوا: لا، قال فذلك فضلي أوتيه من أشاء» وفي رواية «فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: ربنا» الحديث، وفي رواية «إنما أجلكم في أجل من كان قبلكم خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس» ؟ «وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعلمت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى العصر على قيراط قيراط، ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ألا فأنتم الذين تعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى وقالوا: نحن أكثر عملاً وأقل عطاء قال الله تعالى: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فإنه فضلي أوتيه من شئت» . وعن أبي موسى الأشعري(4/218)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملاً فأبوا وتركوا واستأجر آخرين من بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى
إذا كان حين صلاة العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه فقال: أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا فاستأجر آخرين على أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكلموا أجر الفريقين كلاهما فذلك مثلهم ومثل ما بقوا من هذا النور» . وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله» حديث موضوع.
سورة المجادلة
مدنية
في قول الجميع الأرواية عن عطاء إلا العشر الأول منها مدني وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} نزلت بمكة وهي اثنتان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة وألف وسبعمائة واثنان وسبعون حرفاً.
{بسم الله} الذي تمت قدرته وكملت جميع صفاته {الرحمن} الذي شمل الخلائق جوداً بالإيجاد وإرسال الهداة {الرحيم} الذي خص أصفياءه فتمت عليهم نعمة مرضاته
ونزل في خولة بنت ثعلبة وكانت تحت أوس بن الصامت وكان قد ظاهر منها.
{قد سمع الله} أي: أجاب بعظيم فضله الذي أحاط بجميع صفات الكمال فوسع سمعه الأصوات {قول التي تجادلك} أي: تراجعك أيها النبيّ {في زوجها} المظاهر منها روي «أنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مرّ بها في خلافته وهو على حمار والناس معه، فاستوقفته طويلاً ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميراً ثم قيل لك: عمر ثم قيل لك: أمير المؤمنين فاتق الله يا عمر فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت ومن أيقن بالحساب خاف العذاب وهو واقف يسمع كلامها فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الموقف فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة أتدرون من هذه العجوز هي: خولة بنت ثعلبة سمع الله تعالى قولها من فوق سبع سموات أيسمع ربّ العالمين قولها ولا يسمعه عمر» وعن عائشة: «تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهمّ إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل بهذه الآية {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} الآية. وروي «أنها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها، قال عروة: وكان امرأ به لمم فأصابه بعض لممه فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:(4/219)
إنّ أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ فلما علا سنى ونثرت بطني أي: كثر ولدي جعلني عليه كأمّه فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم حرمت عليه فقالت: والله ما ذكر طلاقاً وإنه أبو ولدي وأحب الناس إليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي فقد طالت صحبتي ونفضت له بطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما آراك إلا حرمت عليه
أو أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه، هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي وأنّ لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليّ جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهمّ أني أشكو إليك، فأنزل على لسان نبيك وكان هذا أوّل ظهار في الإسلام، فأنزل الله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} الآية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها وقال: ما حملك على ما صنعت قال: الشيطان فهل من رخصة؟ فقال: نعم وقرأ عليه الأربع آيات فقال له هل تستطيع العتق فقال لا والله فقال هل تستطيع الصوم؟ فقال لا والله إني إن أخطأني أن آكل في اليوم مرّة أو مرتين لكل صبري ولظننت أني أموت قال: فأطعم ستين مسكيناً، قال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً، وأخرج أوس من عنده مثله فتصدق به على ستين مسكيناً» .
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لها مريه أن يعتق رقبة فقالت: أيّ رقبة والله لا يجد رقبة وما له خادم غيري، فقال: مريه أن يصوم شهرين، فقالت: والله ما يقدر على ذلك إنه يشرب في اليوم كذا كذا مرّة، فقال: مريه فليطعم ستين مسكيناً، فقالت: أنّى له ذلك» {وتشتكي} أي: تتعمد بتلك المجادلة الشكوى منتهية {إلى الله} أي: سؤال الملك الأعظم الرحمة الذي أحاط بكل شيء علماً.
فإن قيل: ما معنى قد في قوله تعالى: {قد سمع} أجيب: بأنّ معناها التوقع لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله تعالى تجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرّج عنها لصدقها في شكواها وقطع رجائها في كشف ما بها من غير الله إنّ الله تعالى يكشف كربتها {والله} أي: والحال أنّ الذي وسعت رحمته كلّ شيء، لأنّ له الأمر كله {يسمع تحاوركما} أي: تراجعكما الكلام وهو على تغليب الخطاب {إن الله} أي: الذي أحاط بجميع صفات الكمال {سميع} أي: بالغ السمع لكل مسموع {بصير} أي: بالغ البصر لكل ما يبصر فهما صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة وهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متصفاً بهما
ولما أتم تعالى الخبر عن إحاطة العلم استأنف الإخبار عن حكم الأمر المجادل بسببه فقال تعالى: {الذين يظهرون} أي: يوجدون الظهار في أي زمان كان وقوله تعالى: {منكم} أي: أيها العرب المسلمون توبيخ لهم وتهجين لعادتهم لأنّ الظهار كان خاصاً بالعرب دون سائر الأمم فنبه تعالى على أنّ اللائق بهم أن يكونوا أبعد الناس عن هذا الكلام لأنّ الكذب لم يزل مستهجناً عندهم في الجاهلية ثم زاده الإسلام استهجاناً {من نسائهم} أي: يحرمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله تعالى عليهم ظهور أمّهاتهم.
والظهار لغة: مأخوذ من الظهر لأنّ صورته الأصلية أن يقول لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي، وخصوا الظهر دون البطن(4/220)
والفخذ وغيرهما لأنه موضع الركوب والمرأة مركوب الزوج.
وقيل: من العلو قال تعالى: {فما اسطاعوا أن يظهروه} (الكهف: 97)
أي: أن يعلوه وكان طلاقاً في الجاهلية، وقيل: في أوّل الإسلام ويقال: كان في الجاهلية إذا كره أحدهم أمرأته أنه ولم يرد أن تتزوج بغيره آلى منها أو ظاهر فتبقى لا ذات زوج ولا خلية تنكح غيره؛ فغير الشارع حكمه إلى تحريمها بعد العود ولزوم الكفارة كما سيأتي.
وحقيقته الشرعية: تشبيه الزوجة غير البائن بأنثى لم تكن حلاله وسمى هذا المعنى ظهاراً لتشبيه الزوجة بظهر الأم، وله أركان أربعة: مظاهر ومظاهره منها وصيغة ومشبه به وشرط في المظاهر كونه زوجاً يصح طلاقه، وشرط في المشبه به كونه كلّ أنثى محرم أو جزء أنثى محرم لم تكن حلاله كابنته وأخته، وشرط في الصيغة لفظ يشعر بالظهار صريح كأنتِ أو رأسك أو بدنك كظهر أمي أو كجسمها أو بدنها أو كناية كانت أمي أو كعينها أو غيرها مما يذكر للكرامة كرأسها أو روحها ويصح تأقيته وتعليقه، وأصل يظهرون يتظهرون أدغمت التاء في الظاء وقرأ {الذين يظاهرون} و {الذي يظاهرون} عاصم بضم الياء وتخفيف الظاء وبعدها ألف وتخفيف الهاء مكسورة، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح الياء وتشديد الظاء وتخفيف الهاء مع فتحها وبين الظاء والهاء ألف، والباقون بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء ولا ألف بينهما {ما هنّ} أي: نساؤهم {أمهاتهم} أي: على الحقيقة {إن} أي: ما {أمهاتهم} أي: حقيقة {إلا اللائي ولدنهم} ونساؤهم لم يلدنهم فلا يحرمن عليهم حرمة مؤبدة للإكرام والاحترام، ولا هنّ ممن ألحق بالأمهات بوجه يصح كأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنهنّ أمّهات لما لهنّ من حق الإكرام والاحترام والإعظام؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أعظم في أبوة الدين من أبي النسب، وكذا المرضعات، لما لهنّ من حق الرضاع الذي هو وظيفة الأمّ بالأصالة.
وأمّا الزوجة فمباينة لجميع ذلك.
وقرأ قالون وقنبل: بالهمزة المكسورة ولا ياء بعدها، وقرأ ورش والبزي وأبو عمرو بتسهيل الهمزة مع المدّ والقصر وللبزي وأبو عمر وأيضاً موضع الهمزة ياء ساكنة مع المدّ والباقون بهمزة مكسورة وبعدها ياء وهم على مراتبهم في المدّ {وإنهم} أي: المظاهرون {ليقولون} أي: في هذا التظهر على كلّ حالة {منكراً من القول} إذ الشرع أنكره وهو حرام إتفاقاً كما نقل عن الرافعي في باب الشهادات {وزوراً} أي: قولاً مائلاً عن السداد منحرفاً عن القصد، لأنّ الزوجة معدّة للاستمتاع الذي هو في الغاية من الامتهان والأمّ في غاية البعد عن ذلك.
فإن قيل: المظاهر إنما قال: أنت عليّ كظهر أمي فشبه بأمه ولم يقل أنها أمّه فما معنى أنه منكر من القول وزور والزور الكذب وهذا ليس بكذب.
أجيب: بأنّ قوله هذا إن كان خبراً فهو كذب وإن كان إنشاء فهو كذلك لأنه جعله سبباً للتحريم والشرع لم يجعله سبباً لذلك، وأيضاً فإنما وصف بذلك لأنّ الأم مؤبدة التحريم والزوجة لا يتأبد تحريمها بالظهار فهو زور محض.
فإن قيل: قوله تعالى: {إلا اللائي ولدنهم} يقتضي أن لا أمّ إلا الوالدة وهذا مشكل بقوله تعالى: {وأمّهاتكم اللاتي أرضعنكم} (النساء: 23)
وقوله تعالى: {وأزواجه أمّهاتهم} (الأحزاب: 6)
أجيب: بأنّ الشارع ألحقهنّ بالوالدات لما مر {وإن الله} أي: الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه في شرع ولا غيره {لعفوّ} أي: من صفاته أن يترك عقاب من شاء {غفور} أي: من صفاته أن يمحو عين الذنب وأثره.(4/221)
ثم بين أحكام الظهار بقوله تعالى: {والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} والعود في ظهار غير مؤقت من غير رجعية أن يمسكها بعد ظهاره مع علمه بوجود الصفة في المعلق زمن إمكان فرقة ولم يفارق، لأن العود للقول مخالفته، يقال: قال فلان قولاً ثم عادله وعاد فيه أي: خالفه ونقضه، وهو قريب من قولهم عاد في هبته، ومقصود الظهار وصف المرأة بالتحريم وإمساكها يخالفه، فلو اتصل بظهاره جنونه أو إغماؤه أو فرقة بموت أو فسخ من أحدهما بمقتضية كعيب بأحدهما أو بطلاق بائن أو رجعي ولم يراجع فلا عود، والعود في ظهار غير مؤقت من رجعية سواء أطلقها عقب الظهار أم قبله أن يراجع.
ولو ارتد متصلاً بالظهار بعد الدخول ثم أسلم في العدّة فلا عود بالإسلام بل بعده، والفرق أنّ الرجعة إمساك في ذلك النكاح والإسلام بعد الردّة تبديل للدّين الباطل بالحق والحّل تابع له فلا يحصل به إمساك وإنما يحصل بعده فالعود في ظهار مؤقت يحصل بتغييب حشفة أو قدرها من فاقدها في المدّة ويجب في العود به وإن حلّ نزع لما غيبه، كما لو قال: إن وطأتك فأنت طالق لحرمة الوطء قبل التكفير كما سيأتي وانقضاء المدة واستمرار الوطء وطء ولما كان المبتدأ الموصول يتضمن معنى الشرط أدخل الفاء في خبره ليفيد السببية فيتكرّر الوجوب بتكرير سببه فقال عز من قائل: {فتحرير} أي: فعليهم بسبب هذا الظهار والعود تحرير {رقبة} مؤمنة فلا تجزىء كافرة قال تعالى في كفارة القتل: {فتحرير رقبة مؤمنة} (النساء: 92)
وألحق بها غيرها قياساً عليها بجامع حرمة سببيهما من القتل والظهار أو حملاً للمطلق على المقيد كما في حمل المطلق في قوله تعالى: {واستشهدوا شهدين من رجالكم} (البقرة: 282)
على المقيد في قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق: 2)
بلا عوض ولا بعيب يخل بعمل فيجزئ صغير ولو ابن يوم وأقرع وأعرج يمكنه تباع مشي بأن يكون عرجه غير شديد وأعور لم يضعف عوره بصر عينه السليمة ضعفاً يخل بالعمل وأصم وأخرس يفهم الإشارة وتفهم عنه وأخشم وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه لا فاقد رجل أو خنصر وبنصر من يد أو أنملتين من كلّ منهما أو فاقد أنملتين من أصبع غيرهما أو فاقد أنملة إبهام لا خلال كل من الصفات المذكورة بالعمل.
ولا يجزىء مريض لا يرجى برؤه ولم يبرأ كيد شلاء وهرم بخلاف من يرجى برؤه ومن لا يرجى برؤه إذا برىء، ولا مجنون إفاقته أقلّ من جنونه تغليباً للأكثر، ويجزئ معلق عتقه بصفة بأن ينجز عتقه بنية الكفارة أو معلقه كذلك بصفة أخرى وتوجد قبل الأولى، ويجزئ نصفا رقبتين أعتقهما عن كفارة باقيهما أو في أحدهما كما استظهره بعضهم، ويجزئ إعتاق رقبتيه عن كفارتيه لأجعل العتق المعلق كفارة عند وجود الصفة ولا مستحق عتق كأم ولد وصحيح كتابة {من قبل أنّ يتماسا} أي: يتجدّد بينهما مس روى أبو داود وغيره «أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل ظاهر من امرأته وواقعها: لا تقربها حتى تكفّر» . وكالتكفير مضى مدة المؤقت لانتهائه بها وحمل التماس هنا لشبه الظهار بالحيض على التمتع بما بين السرّة والركبة ومن حمله على الوطء ألحق به التمتع بغيره فيما بينهما، ولو ظاهر من أربع بكلمة كأنتن كظهر أمي فإن أمسكهنّ فأربع كفارات لوجود سببها أو ظاهر منهنّ بأربع كلمات ولو متوالية فعائد من غير أخيرة، ولو كرر في امرأة متصلاً تعدد الظهار إن قصد استئنافاً ويصير المظاهر بالاستئناف عائداً(4/222)
{ذلكم} أي: ذلك الحكم بالكفارة {توعظون به} أي: أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه {والله} أي: الذي له الإحاطة بالكمال {بما تعملون} أي: تجدّدون فعله {خبير} أي: عالم بظاهره وباطنه فهو عالم بما يكفره فافعلوا بما أمر به وقفوا عند حدوده، وإنما يلزم الإعتاق عن الكفارة من ملك رقيقاً أو
ثمنه فاضلاً عن كفاية ممونة من نفسه وغيره.
قال الرافعي: وسكتوا عن تقدير مدة ذلك ويجوز أن تقدر بالعمر الغالب وأن تقدّر بسنة ا. هـ. والذي عليه الجمهور هو: الأوّل ولا يلزمه بيع عقار ورأس تجارة وماشية لا يفضل دخلوها عن غلة العقار وربح مال التجارة وفوائد الماشية من نتاج وغيره عن كفاية ممونة ولا بيع مسكن ورقيق نفيسين ألفهما ولا يلزمه شراء بغبن.
{فمن لم يجد} أي: الرقبة بأن عجز المكفر عن الإعتاق حساً أو شرعاً وقت أداء الكفارة {فصيام} أي: فعليه صيام {شهرين متتابعين} عن كفارته فالرقيق لا يكفر إلا بالصوم لأنه معسر لا يملك شيئاً وليس لسيده منعه من الصوم إن ضره، وإنما اعتبر العجز وقت الأداء لا وقت الوجوب قياساً على سائر العبادات.
ولو ابتدأ الصوم ثم وجد الرقبة لم يلزمه الانتقال عنه، لأنه أمر به حيث دخل فيه، وقال أبو حنيفة: يعتق قياساً على الصغيرة المعتدة بالشهور إذا رأت الدم قبل انقضاء عدّتها فإنها تستأنف الحيض إجماعاً ويكفيه نية صوم الكفارة، وإن لم ينو الولاء، فإن انكسر الشهر الأول أتمه من الثالث ثلاثين لتعذر الرجوع فيه إلى الهلال.
وينقطع التتابع بفوات يوم ولو بعذر كمرض أو سفر فيجب الاستئناف ولو كان الفائت اليوم الأخير أو اليوم الذي نسيت النية له بخلاف ما إذا فات بجنون أو إغماء مستغرق لمنافاة ذلك الصوم {من قبل أن يتماسا} كما مرّ في العتق، فإن جامع ليلاً عصى ولم ينقطع التتابع لأنه ليس محلاً للصوم بخلافه نهاراً وقال أبو حنيفة ومالك: يبطل بكلّ حال ويجب عليه ابتداء الكفارة لقوله تعالى: {من قبل أن يتماسا} .
{فمن لم يستطع} بأن عجز عن صوم أو لا لمرض يدوم شهرين بالظنّ المستفاد من العادة في مثله أو من قول الأطباء أو لمشقة شديدة تلحقه بالصوم أو بولائه ولو كانت المشقة لشدّة شهوة الوطء أو خوف زيادة مرض {فإطعام} أي: فعليه إطعام {ستين مسكيناً} أي: من قبل أن يتماسا حملاً للمطلق على المقيد بأن يملك كل مسكين من أهل الزكاة مدّاً من جنس الفطرة كبر وشعير وأقط ولبن فلا يجزئ لحم ودقيق وسويق، وخرج بأهل زكاة غيره فلا يجزئ دفعها لكافر ولا لهاشميّ ومطلبيّ ولا لمواليهما ولا لمن تلزمه مؤنته ولا لرقيق، لأنها حق الله تعالى فاعتبر فيها صفات الكمال.
{ذلك} أي: الترخيص العظيم لكم والرفق بكم والبيان الشافي من أمر الله الذي هو موافق للحنيفية السمحة ملة أبيكم إبراهيم عليه السلام {لتؤمنوا} أي: ليتحقق إيمانكم {بالله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه فتطيعوا بالانسلاخ عن أمر الجاهلية {ورسوله} أي: الذي تعظيمه من تعظيمه.
ولما رغب في هذا الحكم رهب في التهاون به بقوله تعالى: {وتلك} أي: هذه الأحكام العظيمة المذكورة {حدود الله} أي: أوامر الملك الأعظم ونواهيه التي يجب امتثالها والتعبد بها لترعى حق رعايتها فالتزموها وقفوا عندها ولا تعدوها، فإنه لا يطاق انتقامه إذا تعدّى نقضه وإبرامه {وللكافرين} أي: العريقين في الكفر بها أو بشيء(4/223)
من شرائعه {عذاب أليم} أي: بما آلموا المؤمنين به من الاعتداء فإن عجز عن جميع خصال الكفارة لم تسقط الكفارة عنه بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها، فإذا قدر عل خصلة من خصالها فعلها، ولا يتبعض العتق ولا الصوم بخلاف الإطعام حتى لو وجد بعض مدّ أخرجه، لأنه لا بدل له وبقي الباقي في ذمته.
قال الزمخشري: فإن قلت فإذا امتنع المظاهر من الكفارة هل للمرأة أن تدافعه قلت لها ذلك وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر وأن يحبسه، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها لأنه يضرّ بها في ترك التكفير والانتفاع بحق الاستمتاع فيلزم أبداً حقها فإن قلت: فإن مس قبل أن يكفر قلت عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر لما روي أن سلمة بن صخر البياضي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها فقال عليه الصلاة والسلام: استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر» ا. هـ. والمراد بالاستغفار هنا: التوبة.
ولما ذكر تعالى المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها بقوله تعالى: {إن الذين يحادّون الله} أي: يغالبون الملك الأعلى على حدوده ليجعلوا حدوداً غيرها وذلك صورته صورة العداوة؛ لأنّ المحادة المعاداة والمخالفة في الحدود وهو كقوله تعالى: {ومن يشاق الله} (الحشر: 4)
{ورسوله} أي: الذي عزه من عزه، وقيل: يحادّون الله أي: أولياء الله كما في الخبر «من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة» والضمير في قوله تعالى: {إن الذين يحادّون الله ورسوله} يحتمل أن يرجع إلى المنافقين، فإنهم كانوا يوادّون الكافرين ويظاهرونهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فأذلهم الله تعالى ويحتمل أن يرجع لجميع الكفار فأعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم {كبتوا} أي: أذلوا وقال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا، وقال قتادة: أخذوا، وقال أبو زيد: عذبوا، وقال السدي: لعنوا، وقال الفراء: أغيظوا يوم الخندق.
وقيل: يوم بدر {كما كبت الذين من قبلهم} أي: المحادّين المخالفين رسلهم كقوم نوح ومن بعدهم ممن أصرّ على العصيان.
قال القشيريّ: ومن ضيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو أحدث في دينه بدعة انخرط في هذا السلك {وقد أنزلنا} أي: بما لنا من العظمة عليكم وعلى من قبلكم {آيات بينات} أي: دلالات عظيمة هي في غاية البيان لذلك ولكل ما يتوقف عليه الإيمان كترك المحادّة وتحصيل الإذعان {وللكافرين} أي: الراسخين في الكفر بالآيات أو بغيرها من أوامر الله تعالى: {عذاب مهين} بما تكبروا واعتدوا على أولياء الله تعالى وشرائعه يهينهم ذلك العذاب ويذهب عزهم وشماختهم ويتركون به محادتهم.
وقوله تعالى: {يوم} منصوب باذكر كما قاله الزمخشري قال: تعظيماً لليوم أو بلهم أي بالاستقرار الذي تضمنه لوقوعه خبراً أو بفعل مقدّر قدّره أبو البقاء يهانون أو يعذبون أو استقرّ ذلك يوم {يبعثهم الله} أي: الملك الأعظم {جميعاً} أي: حال كونهم مجتمعين، الكافرين المصرّح بهم والمؤمنين المشار إليهم الرجال والنساء أحياء كما كانوا لا يترك منهم أحد، وقيل: مجتمعين في حال واحد {فينبئهم} أي: يخبرهم أخباراً عظيماً مستقصى {بما عملوا} تخجيلاً وتوبيخاً وتشهيراً لحالهم {أحصاه الله} أي: أحاط به عدداً وكماً وكيفاً وزماناً ومكاناً بماله من صفات الكمال والجلال {ونسوه} لأنهم تهاونوا به حيث ارتكبوه ولم يبالوا به لضر أو تهم بالمعاصي وإنما تحفظ(4/224)
معظمات الأمور أو لخروجه عن الحدّ في الكثرة فكيف كل واحد على انفراده {والله} أي: بماله من القدرة الشاملة والعلم المحيط {على كل شيء} أي: على الإطلاق {شهيد} أي: حفيظ حاضر لا يغيب ورقيب لا يغفل.
ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات فقال جل ذكره:
{ألم تر} أي: تعلم علماً هو في وضوحه كالرؤية بالعين {أنّ الله} أي: الذي له صفات الكمال كلها {يعلم ما في السموات} كلها {وما في الأرض} كذلك كليات ذلك وجزئياته لا يغيب عنه شيء منه بدليل أنّ تدبيره محيط بذلك على أتم ما يكون، وهو يخبر من شاء من أنبيائه وأصفيائه بما يشاء من أخبار ذلك القاصية والدانية والماضية والآتية فيكون كما أخبر، وقوله تعالى: {ما يكون من نجوى} يكون فيه من كان التامة، ومن نجوى فاعلها، ومن مزيدة فيه أي: ما يقع من تناجي {ثلاثة} ويجوز أن يقدره مضاف أي: أهل نجوى فيكون ثلاثة صفة لأهل وإن يؤوّل نجوى بمتناجين جعلوا نجوى مبالغة فيكون ثلاثة صفة لنجوى واشتقاقها من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض فإنّ السر يرتفع إلى الذهن لا يتيسر لكل أحد أن يطلع عليه وقوله تعالى: {إلا هو رابعهم} استثناء من أعمّ الأحوال.
أي: ما يوجد شيء من هذه الأشياء في حال من الأحوال إلا وهو يعلم نجواهم كأنه حاضر معهم وشاهدهم كما تكون نجواهم عند الرابع الذي يكون معهم {ولا خمسة} أي: من نجواهم {إلا هو سادسهم} أي: يعلم نجواهم كما مرّ.
فإن قيل: ما الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة؟ أجيب: بوجهين أحدهما: أن قوماً من المنافقين تحلقوا للتناجي فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة، فقيل: ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون {ولا أدنى من ذلك} أي: من عددهم {ولا أكثر} أي: من ذلك {إلا هو معهم} يسمع ما يقولون {أينما} أي: في أي مكان {كانوا} فإنه لا مسافة بينه وبين شيء فقد روي عن ابن عباس: أنها نزلت في ربيعة وخبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوماً يتحدّثون فقال أحدهم: أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً وقال الثالث: إن كان يعلم بعضه فهو يعلم كله وصدق لأنّ من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها، لأنّ كونه عالماً بغير سبب ثابت له مع كل معلوم.
والوجه الثاني: أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والمتخالين للشورى والمندوبون لذلك ليسوا بكل أحد وإنما هم طائفة مجتباة من أولي النهي والأحلام ورهط من أهل الرأي والتجارب، وأوّل عددهم اثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال، وحكم به الاستصواب.
ألا ترى إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه كيف ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع فذكر عز وجل الثلاثة والخمسة وقال {ولا أدنى من ذلك} فدلّ على الاثنين والأربعة، وقال: {ولا أكثر} فدلّ على ما يلي هذا العدد ويقاربه، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال في خطبته الكبرى أخرجها الحارث ابن أبي أسامة رقى المنبر وقال: «يا أيها الناس ادنوا واسمعوا لمن خلفكم ثلاث مرات» فدنا الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض والتفتوا فلم يروا أحداً فقال: رجل منهم بعد الثالثة: لمن نسمع(4/225)
يا رسول الله الملائكة فقال: «لا أنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا بين أيديكم ولا خلفكم ولكن عن أيمانكم وعن شمائلكم» وعلى ذلك فليسوا في مكان الإيمان هنا والشمائل بل في المكانة من ذلك فالله جلّ جلاله أعلى وأجل وأنزه مكانة وأكرم استواء {ثم ينبئهم} أي: يخبر أصحاب النجوى أخباراً عظيماً {بما عملوا} دقيقه وجليله {يوم القيامة} الذي هو المراد الأعظم من الوجود لإظهار الصفات العلا فيه أتم إظهار {إنّ الله} الذي له الكمال كله {بكل شيء} أي: مما ذكر وغيره {عليم} أي: بالغ العلم فهو على كل شيء شهيد وهذا تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {ألم تر} أي: تعلم علماً هو كالرؤية {إلى الذين نهوا عن النجوى} فقيل: في اليهود وقيل: في المنافقين، وقيل: في فريق من الكفار وقيل في فريق من المسلمين لما روى أبو سعيد الخدري قال: «كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم ما هذه النجوى فقلنا تبنا إلى الله تعالى يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيخ يعني الدجال فرقاً منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه قلنا بلى يا رسول الله قال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل» ذكره الماوردي.
وقال ابن عباس: «نزلت في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك ويقولون: ما نراهم إلا وقد بلغهم من إخواننا الذين خرجوا وفي السرايا قتل أو موت أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلما طال ذلك عليهم وأثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله تعالى: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} {ثم يعودون} أي: على سبيل الاستمرار، لأنه وقع مرّة وبادروا إلى التوبة منها أو فلتة معفواً عنها {لما نهوا عنه} أي: من غير أن يعتدوا لما يتوقع من جهة الناهي من الضرر عنده {ويتناجون} أي: يقبل بعضهم على المناجاة إقبالاً واحداً فيفعل كل منهم منها ما يفعله الآخر مرّة بعد أخرى على سبيل الاستمرار.
وقرأ حمزة بعد الياء: بنون ساكنة وبعدها ثاء فوقية مفتوحة ولا ألف قبل الجيم وضم الجيم، والباقون بتاء فوقية مفتوحة وبعدها نون مفتوحة وبعد النون ألف وفتح الجيم {بالإثم} أي: بالشيء الذي لا يثبت عليهم به الذنب وبالكذب وبما لا يحل {والعدوان} أي: العدوان الذي هو نهاية في قصد الشرّ بالإفراط في مجاوزة الحدود {ومعصيت الرسول} أي: مخالفة النبيّ الذي جاء إليهم من الملك الأعلى وهو كامل في الرسالة لكونه مرسلاً إلى جميع الخلق وفي كل الأزمان فلا نبيّ بعده فهو لذلك مستحق غاية الإكرام.
فائدة: رسمت معصية في الموضعين بالتاء المجرورة، وإذا وقف عليها فأبو عمرو وابن كثير والكسائي بالهاء في الوقف، والكسائي بالإمالة في الوقف على أصله ووقف الباقون بالتاء على الرسم واتفقوا في الوصل على التاء
{وإذا جاؤوك} أي: يا أشرف الخلق {حيوك} أي: واجهوك بما يعدونه تحية {بما لم يحيك به الله} أي: الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه «وذلك أنّ اليهود كانوا يدخلون على النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون السام عليك، والسام(4/226)
الموت وهم يوهمون أنهم يقولون السلام عليك وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول: وعليكم فقالت السيدة عائشة: السام عليكم ولعنة الله وغضبه عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش، فقالت: أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم تسمعي ما قلت، رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ» وقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلت» فأنزل الله تعالى: {وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله} وروى أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» بالواو فقال بعض العلماء: إنّ الواو العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن ندخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من سآمة ديننا وهو الملال يقال سئم يسأم سأمة وسأماً، وقال بعضهم: الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر:
*فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى*
أي: لما أجزنا انتحى فزاد الواو وقال: آخرون هي للاستئناف، كأنه قيل: والسام عليكم، وقال آخرون: هي على بابها من العطف ولا يضرّنا ذلك لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا كما تقدّم في قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة.
تنبيه: اختلف العلماء في ردّ السلام على أهل الذمة فقال ابن عباس والشعبي وقتادة: هو واجب لظاهر الأمر بذلك، وقال مالك: ليس بواجب فإن رددت فقل وعليك، وعندنا يجب أن يقول له وعليك لما مرّ في الحديث، وقال بعضهم: يقول في الردّ علاك السلام أي: ارتفع عنك، وقال بعض المالكية: يقال في الردّ السلام عليك بكسر السين يعني الحجارة
ولما كانوا يخفون ذلك جهدهم ويظنون بإملاء الله تعالى لهم أنه صلى الله عليه وسلم لا يطلع عليه وإن اطلع عليه لم يقدر أن ينتقم منهم عبر عن ذلك بقوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم} من غير أن يطلع عليه أحد {لولا} أي: هلا ولم لا {يعذبنا الله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء {بما نقول} أي: لو كان نبيناً لعذبنا الله بما نقول وقيل: قالوا إنه يردّ علينا ويقول: وعليكم السام فلو كان نبياً لاستجيب له فينا ومتنا وهذا موضع تعجب منهم فإنهم كانوا أهل الكتاب وكانوا يعلمون أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يغضبون فلا يعاجلون من يغضبهم بالعذاب {حسبهم} أي: كافيهم في الانتقام {جهنم} أي: الطبقة التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والفظاظة فإن حصل لهم في الدنيا عذاب كان زيادة على الكفاية فاستعجالهم بالعذاب محض رعونة {يصلونها} أي: يقاسون عذابها دائماً، فإنا قد أعددناها لهم {فبئس المصير} أي: مصيرهم.
{يا أيها الذين آمنوا} أي: ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة {إذا تناجيتم} أي: اطلع كل منكم الكلام من نفسه فرفعه وكشفه لصاحبه سرّاً {فلا تتناجوا} أي: توجدوا هذه الحقيقة {بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول} أي: الكامل في الرسالة كفعل المنافقين واليهود، وقال مقاتل: أراد تعالى بقوله: {آمنوا} المنافقين آمنوا بلسانهم، وقال عطاء: يريد الذين آمنوا بزعمهم، وقيل: يا أيها الذين آمنوا بموسى {وتناجوا بالبرّ والتقوى} أي: الطاعة والعفاف عما نهى الله تعالى عنه {واتقوا الله} أي: اقصدوا قصداً يتبعه العمل بأن تجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية {الذي إليه} خاصة {تحشرون} أي: تجمعون(4/227)
بأيسر أمر وأسهله بقهر وكره وهو يوم القيامة، فيتجلى فيه سبحانه للحكم بين الخلق والإنصاف بينهم بالعدل ومحاسبتهم على النقير والقطمير، لا تخفى عليه خافية ولا تقي منه واقية.
{إنما النجوى} أي: المعهود وهي المنهي عنها {من الشيطان} أي: مبتدئة وممتدّة من المحترق بطرده عن رحمة الله تعالى، فإنه الحامل عليها بتزيينها ففاعلها تابع لأعدى أعدائه مخالف لأعظم أوليائه {ليحزن} أي: الشيطان {الذين آمنوا} أي: ليوهمهم أنها لسبب شيء وقع مما يؤذيهم، والحزن همّ غليظ وتوجع يدق، يقال: حزنه وأحزنه بمعنى، قال في القاموس: أو أحزنه جعله حزيناً.
وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه، والباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزن، والقراءة الأولى أشد في المعنى على ما في القاموس
{وليس} أي: الشيطان أو ما حمل عليه من التناجي {بضارهم} أي: الذين آمنوا {شيأ} من الضرر وإن قلّ {إلا بأذن الله} أي: بمشيئة الملك المحيط علماً وقدرة.
فإن قيل: كيف لا يضرّهم ذلك ولا يحزنهم إلا بإذن الله؟ أجيب: بأنهم كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتفاخرهم أنّ غزاتهم غلبوا وأنّ أقاربهم قتلوا فقال تعالى: {لا يضرّهم الشيطان} والحزن بذلك الموهم إلا بأذن الله تعالى أي: بمشيئته وهو أن يقضي الموت على أقاربهم والغلبة على الغزاة {وعلى الله} أي: الملك الذي لا كفء له لا على أحد غيره {فيتوكل المؤمنون} أي: الراسخون في الإيمان في جميع أمورهم، فإنه القادر وحده على إصلاحها وإفسادها فلا يحزنوا من أحد أن يكيدهم بسرّه ولا يجهره فإنهم توكلوا عليه وفوّضوا أمورهم إليه، وخص الراسخين لإمكان ذلك منهم في العادة، وأمّا أصحاب البدايات فلا يكون ذلك منهم إلا خرق عادة، روى ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بأذنه فإنّ ذلك يحزنه» وعن عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه» فبين في هذا الحديث غاية المنع وهو أن يجد الثالث من يتحدّث معه كما فعل ابن عمر وذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعاً فقال له وللأول تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة، أخرجه في الموطأ ونبه على العلة بقوله: من أجل أن يحزنه أي: يقع في نفسه ما يحزن لأجله وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلاً، لوجود ذلك المعنى في حقه بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع فيكون بالمنع أولى، وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أوّل عدد يتأتى ذلك فيه.
قال القرطبي: وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور وسواء أكان التناجي في واجب أو مندوب أو مباح فإنّ الحزن ثابت به، وقد ذهب بعض الناس إلى أنّ ذلك كان في أوّل الإسلام لأنّ ذلك كان حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين فلما فشا الإسلام سقط ذلك، وقال بعضهم: ذلك خاص بالسفر وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه فأمّا الحضر وبين العمارة فلا؛ لأنه يجد من يغيثه بخلاف السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم الغوث
ولما نهى المؤمنين عما يكون سبباً للتباغض والتنافر أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة(4/228)
المحبة والمودّة بقوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا} أي: الذين اتصفوا بهذا الوصف {إذا قيل لكم} أي: من أيّ قائل كان فإنّ الخير يرغب فيه لذاته {تفسحوا} أي: توسعوا أي: كلفوا أنفسكم في اتساع المواضع {في المجلس} أي: الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه، قال قتادة ومجاهد: «كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض» ، وقال ابن عباس: المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، قال الحسن وزيد بن أبي حبيب «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأوّل فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة فنزلت» . فيكون كقوله تعالى: {مقاعد للقتال} (آل عمران: 121)
وقال مقاتل «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصفة وكان في المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين، والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس، فقاموا قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان بعدد القائمين من أهل بدر فشق ذلك على من قام، وعرف النبيّ صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم فقال المنافقون: والله ما عدل على هؤلاء أنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ» فنزلت الآية يوم الجمعة
وروي عن ابن عباس قال: «نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم وكان يريد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم للوقر أي: الصمم الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينهم كلام فنزلت» وقد تقدّمت قصته في سورة الحجرات. وقرأ عاصم: يفتح الجيم، ألف بعدها جمعاً لأنّ لكل جالس مجلساً أي: فليفسح كل واحد في مجلسه والباقون بسكون الجيم ولا ألف إفرادا، قال البغوي: لأنّ المراد منه مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم
وقال القرطبي: الصحيح في الآية أنها عامة في مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير وللأجر سواء أكان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، وإنّ كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى الله عليه وسلم «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق من موضعه» فيكون المراد بالمجلس الجنس ويؤيده قراءة الجمع {فافسحوا} أي: وسعوا فيه عن سعة صدر {يفسح الله} أي: الذي له الأمر كله {لكم} في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين.
وقال الرازي: هذا يطلق فيما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة قال: ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه.
وإذا قيل: أي من أيّ قائل كان كما مضى إذا كان يريد الإصلاح والخير {انشزوا} أي: ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة والجهاد {فانشزوا} أي: فارتفعوا وانهضوا {يرفع الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {الذين آمنوا} وإن كانوا غير علماء {منكم} أي: أيها(4/229)
المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر المبادرون إليها بطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم في مجلسهم وتوسعهم لإخوانهم {والذين أوتوا العلم درجات} يجوز أن يكون معطوفاً على الذين آمنوا فهو من عطف الخاص على العام فإنّ الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين، ويجوز أن يكون والذين أوتوا العلم من عطف الصفات أي: تكون الصفتان لذات واحدة كأنه قيل: يرفع الله المؤمنين العلماء ودرجات مفعول ثان، وقال ابن عباس: تمّ الكلام عند قوله تعالى: {منكم} وينتصب الذين أوتوا بفعل مضمر أي: ويخص الذين أوتوا العلم درجات أو ويرفع درجات.
قال المفسرون: في هذه الآية أنّ الله تعالى رفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم، قال ابن مسعود مدح الله تعالى العلماء في هذه الآية، والمعنى: أنّ الله تعالى يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا بما أمروا به وقال تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر: 9)
وقال تعالى: {وقل رب زدني علماً} (طه: 114)
وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28)
والآيات في ذلك كثيرة معلومة
وأمّا الأحاديث فكثيرة مشهورة منها من «يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» وروي أنّ عمر رضى الله عنه «كان يقدّم عبد الله بن عباس على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فكلموه في ذلك فدعاهم ودعاه فسألهم عن تفسير {إذا جاء نصر الله والفتح} فسكتوا فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه فقال عمر ما أعلم منها إلا ما تعلم» .
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله ما لا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» والمراد بالحسد: الغبطة: وهي أن تتمنى مثله ومنها أنه صلى الله عليه وسلم «قال لعليّ كرّم الله وجهه: لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من جاءه أجله وهو يطلب العلم لحيي به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة واحدة» ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة» .
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وفي رواية كفضلي على أدناكم» .
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: إنّ الله أوحى إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أني عليم أحب كل عليم» .
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومنها: «أنه صلى الله عليه وسلم مرّ بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله تعالى ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون لله عز وجل ويرغبون إليه، وأما هؤلاء فيتعملون الفقه ويعلمونه الجاهل فهؤلاء أفضل، وإنما بعثت معلماً ثم جلس فيهم» والأحاديث في ذلك كثيرة جدّاً.
وأمّا أقوال السلف فلا تحصر، فمنها ما قاله ابن عباس: أن سليمان عليه السلام خير بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه، وما قاله بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك(4/230)
من فاته العلم وأي شيء فات من أدرك العلم.
وما قاله الأحنف: كاد العلماء يكونون أرباباً، وكل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل ما يصير.
وما قاله الزبيري: العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال.
وما قاله أبو مسلم الخولاني: مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا برزت للناس اهتدوا بها وإذا خفيت عنهم تحيروا.
وما قاله معاذ: تعلم العلم فإنّ تعلمه لك حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة.
وما قاله علي: العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق.
وما قاله ابن عمر: مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة.
وما قاله الشافعي من أن: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة وقال: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وقال: من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم فإنه يحتاج إليه في كل منهما.
وقد ذكرت في أوّل شرح المنهاج من الأحاديث ومن أقوال السلف ما يسرّ الناظر الراغب في الخير وفيما ذكرته هنا كفاية لأولي الأبصار {والله} أي: والحال أنّ المحيط بكل شيء علماً وقدرة {بما تعملون} أي: حال الأمر وغيره {خبير} أي: عالم بظاهره وباطنه فإن كان العلم مزيناً بالعمل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتصفية الباطن كانت الرفعة على حسبه، وإن كان على غير ذلك فكذلك.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي: ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة أغنياء كانوا أو فقراء {إذا ناجيتم الرسول} أي: أردتم مناجاة الذي لا أكمل منه في الرسالة الآية، فقال ابن عباس: «إنّ المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكف كثير من الناس» . وقال الحسن: «أنّ قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يناجونه، فظنّ بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه» .
وقال زيد بن أسلم «إنّ المنافقين واليهود كانوا يناجون النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً من مناجاته فكان ذلك يشق على المسلمين لأنّ الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم يناجون أنّ جموعاً اجتمعت للقتال فنزلت {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول} » أي: أردتم مناجاته {فقدّموا} أي: بسبب هذه الإرادة وقوله تعالى: {بين يدي نجواكم} استعارة ممن له يدان والمعنى: قبل نجواكم التي هي سرّكم الذي تريدون أن ترفعوه {صدقة} لقول عمر من أفضل ما أوتيت العرب الشعر يقدّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم يريد قبل حاجته، والصدقة تكون لكم برهاناً على إخلاصكم كما ورد أنّ الصدقة برهان فهي مصدّقة لكم في دعوى الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به عن الله تعالى.
تنبيه: ظاهر الآية يدل على أنّ تقديم الصدقة كان واجباً لأنّ الأمر للوجوب ويؤكد ذلك قوله تعالى بعده: {فإنّ لم تجدوا فإنّ الله غفور رحيم} وقيل: كان مندوباً لقوله تعالى: {ذلك} أي: التصدّق {خير لكم وأطهر} أي: لأنفسكم من الريبة وحب المال هذا(4/231)
إنما يستعمل في التطوّع لا في الواجب ولأنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه والكلام متصل به وهو قوله تعالى: {فإن لم تجدوا} الآية.
وأجيب عن الأوّل: بأنّ المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر فكذلك أيضاً يوصف بهما الواجب.
وعن الثاني: بأنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متصلتين في القول كما قيل في الآية الدالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشراً أنها ناسخة للاعتداد بحول وإن كان الناسخ متقدّماً في التلاوة.
وعن علي أنه قال: «لما نزلت دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقول في دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: كم؟ قلت: حبة أو شعيرة قال إنك لزهيد فلما رأوا ذلك اشتدّ عليهم فارتدعوا، أما الفقير فلعسرته وأما الغنيّ فلشحته» واختلف في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية، فقال الكلبي: ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من نهار ثم نسخ وقال مقاتل وابن حبان: بقي ذلك التكليف عشرة أيام ثم نسخ لما روي عن عليّ أنه قال إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم. وفي رواية عنه فاشتريت به عشرة دراهم وكلما ناجيت النبيّ صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً ثم نسخت فلم يعمل بها أحد.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدّقوا فلم يناج أحد إلا علي تصدّق بدينار، وعدم عمل غيره لا يقدح فيه لاحتمال أن يكون لم يجد عند المناجاة شيئاً أو أن لا يكون احتاج إلى المناجاة ثم نزلت الرخصة.
وعن ابن عمر رضى الله عنه كان لعليّ ثلاث لو كان لي واحدة منهنّ كانت أحب إليّ من حمر النعم تزويجه فاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى.
واختلف في الناسخ لذلك فقيل: هي منسوخة بالزكاة وأكثر المفسرين أنها منسوخة بالآية التي بعدها وهي {أأشفقتم} كما سيأتي وكان عليّ يقول: وخفف عن هذه الأمة {فإن لم تجدوا} أي: ما تقدّمونه فإن الله أي الذي له جميع صفات الكمال {غفور رحيم} أي: له صفتا الستر للمساوي والإكرام بإظهار المحاسن على الدوام فهو يعفو ويرحم تارة يقدّم العقاب للعاصي وتارة بالتوسعة للضيق بأن ينسخ ما يشق إلى ما يخف.
وقوله تعالى: {أأشفقتم} أي: خفتم العيلة لما يعدكم به الشيطان من الفقر خوفاً كاد أن يفطر قلوبكم {أن تقدّموا} أي: بإعطاء الفقراء وهم إخوانكم {بين يدي نجواكم} أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم {صدقات} وجمع؛ لأنه أكثر توبيخاً من حيث إنه يدل على أنّ النجوى تتكرّر استفهام معناه التقرير وهو الناسخ عند الأكثر كما مرّ.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام: بتسهيل الثانية بخلاف عن هشام، وأدخل بينهما الفاء قالون وأبو عمرو وهشام، والباقون بتحقيقهما ولا إدخال والأولى محققة بلا خلاف {فإذ} أي: فحين {لم تفعلوا} أي: ما أمرتكم به من الصدقة للنجوى بسبب هذا الإشفاق {وتاب الله} أي: الملك الأعلى {عليكم} أي: رجع بكم عنها بأن نسخها عنكم تخفيفاً عليكم {فأقيموا} أي: بسبب العفو عنكم شكراً أي: على هذا الكرم والحلم {الصلاة} التي هي طهرة لأرواحكم وصلة لكم بربكم {وآتوا الزكاة} التي هي براءة لأبدانكم وتطهير ونماء لأموالكم وصلة لكم بإخوانكم، ولا تفرّطوا في شيء من ذلك فتهملوه فالصلاة نور يهدي إلى المقاصد الدنيوية والأخروية ويعين على نوائب الدارين، والصدقة برهان على صحة القصد في الصلاة.(4/232)
ثم عمم بعد أن خصص أشرف العبادات البدنية وأعلى المناسك المالية بقوله تعالى: {وأطيعوا الله} أي: الذي له الكمال له {ورسوله} أي: الذي عظمته من عظمته في سائر ما يأمرانكم به، فإنه تعالى ما أمركم لأجل إكرام رسولكم صلى الله عليه وسلم إلا بالحنيفية السمحة {والله} أي: الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة {خبير بما تعملون} أي: يعلم بواطنكم كما يعلم ظواهركم لا تخفى عليه خافية.
{ألم تر} أي: تنظر يا أشرف الخلق {إلى الذين تولوا} أي: تكلفوا بغاية جهدهم وهم المنافقون أي جعلوا أولياءهم الذين يتولون لهم أمورهم {قوماً} وهم اليهود ابتغوا عندهم العزة اغتراراً بما يظهر لهم منهم من القوة {غضب الله} أي: الملك الأعلى الذي لا ندّله {عليهم} أي: المتولى والمتولى لهم {ما هم} أي: المنافقون {منكم} أي: المؤمنين {ولا منهم} أي: اليهود بل هم مذبذبون وزاد في الشناعة عليهم بأقبح الأشياء بقوله تعالى: {ويحلفون} أي: المنافقون يجدّدون الحلف على الاستمرار ودل بأداة الاستعلاء على أنهم في غاية الجراءة على استمرارهم على الإيمان الكاذبة بأنّ التقدير مجترئين {على الكذب} في دعوى الإسلام وغير ذلك مما يقعون فيه من عظائم الآثام فإذا عوتبوا عليه بادروا إلى الإيمان {وهم يعلمون} أنهم كاذبون متعمدون.
روي «أنّ عبد الله بن نبتل كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجره إذ قال لأصحابه: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان، فدخل ابن نبتل وكان أزرق العينين أسمر قصيراً خفيف اللحية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال النبي صلى الله عليه وسلم فعلت فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت» .
{أعد الله} أي: الذي له العظمة الباهرة فلا كفء له {لهم عذاباً} أي: أمراً قاطعاً لكل عذوبة {شديداً} أي: لا طاقة لهم به ثم علل عذابهم بما دلّ على أنه واقع في أتم مواقعه بقوله تعالى مؤكداً تقبيحاً على من كان يستحسن فعالهم {إنهم ساء} أي: بلغ الغاية بما يسوء ودل على أنّ ذلك لهم كالجبلة بقوله تعالى: {ما كانوا يعملون} أي: يجدّدون عمله مستمرّين عليه لا ينفكون عنه، قال الزمخشري: أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة
{اتخذوا أيمانهم} أي: الكاذبة التي لا تهون على من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان {جنة} وقاية وسترة من كل ما يفضحهم من النفاق كائناً ما كان {فصدّوا} أي: كان قبول ذلك منهم وتأخير عقابهم سبباً لإيقاعهم الصدّ {عن سبيل الله} أي: شرع الملك الأعلى الذي هو طريق إلى رضوانه الذي هو سبب الفوز العظيم فإنهم كانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويوهنون أمره ويحقرونه، ومن رآهم قد خلصوا من المكاره بأيمانهم الخائنة ودرّت عليهم الأرزاق استدراجاً، وحصلت لهم الرفعة عند الناس بما يرضونه من أقوالهم المؤكدة بالإيمان، غرّه ذلك فاتبع سنتهم في أقوالهم وأفعالهم ونسج على منوالهم غروراً بظاهر أمرهم معرضاً عما توعدهم الله تعالى عليه من جزاء خداعهم وأمرهم وأجرى الأمر على أسلوب التهكم باللام التي تكون في المحبوب فقال تعالى: {فلهم} أي: فتسبب عن صدّهم إنه كان لهم {عذاب مهين} جزاء بما طلبوا بذلك الصدّ إعزاز أنفسهم وإهانة أهل الإسلام
{لن(4/233)
تغنى} أي: بوجه من الوجوه {عنهم أموالهم} أي: في الدنيا ولا في الآخرة بالافتداء ولا بغيره {ولا أولادهم} أي: بالنصرة والمدافعة {من الله} أي: أغناه مبتدأ من الملك الأعلى {شيئاً} ولو قل جدّاً فمهما أراد بهم سبحانه كان ونفذ ومضى لا يدفعه شيء تكذيباً لمن قال منهم: لئن كان يوم القيامة لنكوننّ أسعد فيه منكم كما نحن الآن ولننجونّ بأنفسنا وأموالنا وأولادنا {أولئك} أي: البعداء من كل خير {أصحاب النار هم} أي: خاصة {فيها} أي: خاصة {خالدون} أي: دائمون لازمون إلى غير نهاية
وقوله تعالى: {يوم} منصوب باذكر أي: واذكر يوم {يبعثهم الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {جميعاً} فلا يترك أحداً منهم ولا من غيرهم إلا أعاده إلى ما كان قبل موته {فيحلفون} أي: فيتسبب عن ظهور القدرة التامّة لهم ومعاينة ما كانوا يكذبون به أنهم يحلفون {له} أي: لله في الآخرة أنهم مسلمون فيقولون: والله ربنا ما كنا مشركين ونحو ذلك {كما يحلفون لكم} في الدنيا أنهم مثلكم، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: يحلفون لله تعالى يوم القيامة كذباً كما حلفوا لأوليائه في الدنيا وهو قولهم والله ربنا ما كنا مشركين. {ويحسبون} أي: في القيامة بأيمانهم الكاذبة {أنهم على شيء} أي: يحصل لهم به نفع بإنكارهم وحلفهم، وقيل: يحسبون في الدنيا أنهم على شيء، لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار والأول أظهر والمعنى: أنهم لشدّة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنهم يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب.
وإليه الإشارة بقوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} (الأنعام: 28)
وعن ابن عباس رضى الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينادي مناد يوم القيامة أين خصماء الله تعالى فتقوم القدرية مسودّة وجوههم مزرقة أعينهم مائل شقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمساً ولا قمراً ولا صنماً ولا اتخذنا من دونك إلهاً» قال ابن عباس رضى الله عنهما: صدقوا والله أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ثم تلا: {ويحسبون أنهم على شيء} » وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: بفتح السين، والباقون بكسرها {ألا إنهم هم الكاذبون} المحكوم بكذبهم في حسبانهم هم والله القدرية ثلاثاً.
{استحوذ} أي: استولى {عليهم الشيطان} مع أنه طريد ومحترق ووصل منهم إلى ما يريده وملكهم ملكاً لم يبق لهم معه اختيار فصاروا رعيته وصار هو محيطاً بهم من كل جهة غالباً عليهم ظاهراً وباطناً من قولهم حذت الأبل وحذذتها إذا استوليت عليها، والحوذ أيضاً: السوق السريع ومنه الأحوذي الخفيف في الشيء لحذقه، واستحوذ مما جاء على الأصل وهو ثبوت الواو دون قلبها ألفاً {فأنساهم} أي: فتسبب عن استحواذه عليهم أن أنساهم {ذكر الله} أي: الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا {أولئك} أي: البعداء البغضاء {حزب الشيطان} أي: أتباعه وجنوده وطائفته وأصحابه {ألا إنّ حزب الشيطان} أي: الطريد المحترق {هم الخاسرون} أي: العريقون في هذا الوصف؛ لأنهم لم يظفروا بغير الطرد والاحتراق.
{إن الذين يحادون الله} أي: يفعلون مع الملك الأعظم الذي لا كفؤ له، فعل من ينازع آخر في الأرض فيغلب على طائفة ليجعل لها حداً لا يتعداه خصمه {ورسوله} أي: الذي عظمته من عظمته {أولئك} أي: البعداء البغضاء {في الأذلين} أي: في جملة من هو أدل خلق الله تعالى.
واختلف في معنى قوله عز وجلّ {كتب الله} أي: الملك الذي لا كفؤ له(4/234)
فقال أكثر المفسرين أي: قضى الله عز وجلّ {لأغلبن} وقال قتادة: كتب في اللوح المحفوظ، وقال الفراء: كتب بمعنى قال وقوله تعالى: {أنا} تأكيد {ورسُلي} أي: من بعث منهم بالحرب ومن بعث منهم بالحجة فإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالحرب كان أغلب وأقوى.
وقال مقاتل: قال المؤمنون لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهنّ رجونا أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول: الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها والله أنهم لأكثر عدداً وأشدّ بطشاً من أن تظنوا فيهم فنزل {لأغلبن أنا ورسلي} .
ونظيره قوله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون وإنّ جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 171 ـ 173)
وقرأ نافع وابن عامر: بفتح الياء والباقون بالسكون {إن الله} أي: الذي له الأمر كله {قويّ} أي: على نصر أوليائه {عزيز} أي: لا يغلب عليه في مراده.
ثم نهى تعالى عن موالاة أعداء الله تعالى بقوله سبحانه {لا تجد} أي: بعد هذا البيان {قوماً} أي: ناساً لهم قوة على ما يريدون {يؤمنون} أي: يجددون الإيمان ويديمونه {بالله} أي: الذي له صفات الكمال {واليوم الآخر} الذي هو موضع الجزاء لكل عامل بكل ما عمل الذي هو محط الحكمة {يوادّون} أي: يحصل منهم ودّ لا ظاهراً ولا باطناً {من حادّ الله} أي: عادى بالمناصبة في حدود الملك الأعلى {ورسوله} فإن من حادّه فقد حادّ الذي أرسله بل لا تجدهم إلا يحادّونهم لا أنهم يوادّونهم.
وزاد ذلك تأكيداً بقوله تعالى: {ولو كانوا آباؤهم} أي: الذين أوجب الله تعالى إلا بناء طاعتهم في المعروف، وذلك كما فعل أبو عبيدة بن الجراح حيث قتل أباه عبد الله بن الجرّاح يوم أحد {أو أبناءهم} أي: الذين جبلوا على محبتهم ورحمتهم، كما فعل أبو بكر «فإنه دعا ابنه يوم بدر إلى المبارزة وقال: دعني يا رسول الله أكن في الرعلة الأولى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» {أو إخوانهم} أي: الذين هم أعضادهم كما فعل مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وخزف سعد بن أبي وقاص غير مرّة فراغ منه روغان الثعلب فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقال: أتريد أن تقتل نفسك.
وقتل محمد بن سلمة الأنصاري أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير {أو عشيرتهم} أي: الذين هم أنصارهم وأمدادهم كما قتل عمر خاله العاصي وهشام بن المغيرة يوم بدر، وعلي وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا يوم بدر بني عمهم عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.
وعن الثوري: أنّ السلف كانوا يرون أنّ الآية نزلت فيمن يصحب السلطان ا. هـ. ومدار ذلك على أنّ الإنسان يقطع رجاء من غير الله تعالى، وإن لم يكن كذلك لم يكن مخلصاً في إيمانه.
تنبيه: قدّم الآباء أوّلاً لأنهم تجب طاعتهم على أبنائهم، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب وهم حياتها، ثم ثلث بالأخوان لأنهم هم الناصرون بمنزلة العضد من الذراع. قال الشاعر:
*أخاك أخاك إن من لا أخا له
... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
*وإن ابن عمّ المرء فاعلم جناحه
... وهل ينهض البازي بغير جناح
ثم ربع بالعشيرة لأنّ بها يستغاث وعليها يعتمد، والمعنى: أنّ الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة ومع(4/235)
هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطروحاً بسبب الدين.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجرّاح لما قتل أباه، وعمر بن الخطاب رضى الله عنه لما قتل خاله العاصي ابن هشام يوم بدر روي أنها نزلت في أبي بكر، وذلك أنّ أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه صكةً سقطت منها أسنانه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال: أو فعلت، قال: نعم، قال: لا تعد إليه، فقال: والذي بعثك بالحق نبياً لو كان السيف مني قريباً لقتلته، فهؤلاء لم يوادّوا أقاربهم.
قال القرطبي: استدل مالك بهذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم، قال القرطبي: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم. وعن عبد العزيز بن أبي دواد: أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلا الآية. وقال صلى الله عليه وسلم «اللهمّ لا تجعل لفاجر عندي نعمة، فإني وجدت فيما أوحيت إليّ {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر} الآية {أولئك} أي: العالو الهمة {كتب} أي: أثبت قاله الربيع بن أنس رضى الله عنه، وقيل: خلق، وقيل: جعل كقوله تعالى: {فاكتبنا مع الشاهدين} (آل عمران: 53)
أي: اجعلنا، وقوله تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون} (الأعراف: 156)
وقيل: {كتب في قلوبهم الإيمان} (طه: 71)
بما وفقهم فيه وشرح له صدرهم، أي: على قلوبهم كقوله تعالى: {في جذوع النخل} وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان. قال البيضاوي: وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان، فإنّ جزاء الثابت في القلب يكون ثابتاً فيه، وأعمال الجوارح لا تثبت فيه. {وأيدهم} أي: وقوّاهم وشدّدهم وشرّفهم {بروح} أي: نور شريف جدّاً يفهمون به ما أودع في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من نور العلم والعمل {منه} أي: من الله تعالى أحياهم به فلا إنفكاك لذلك عنهم في وقت من الأوقات، فأثمر لهم استقامة المناهج ظاهراً وباطناً، فعملوا الأعمال الصالحة فكانوا للدنيا كالسراج، فلا تجد شيئاً أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله تعالى، ومعاداة أعدائه لا بل هو عين الإخلاص، ومن جنح إلى منحرف عن دينه، أوداهن مبتدعاً في عقيدته نزع الله تعالى نور التوحيد من قلبه.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي: بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به وقال ابن عباس رضى الله عنهما: نصرهم على عدوّهم، وسمى تلك النصرة روحاً، لأنّ بها يحيا أمرهم. وقال الربيع بن أنس رضى الله عنه: بالقرآن وحججه، وقال ابن جريج: بنور وبرهان وهدى، وقيل: برحمة، وقيل: أيدهم بجبريل عليه السلام {ويدخلهم جنات} أي: بساتين تستر داخلها من كثرة أشجارها.
وأخبر عن ريها بقوله تعالى: {تجري من تحتها الأنهار} أي قصورها {الأنهار} فهي بذلك كثيرة الرياض والأشجار وقال تعالى: {خالدين فيها} لأنّ ذلك لا يلذ إلا بالدوام، وقال تعالى: {رضى الله} أي: الملك الأعظم {عنهم} لأنّ ذلك لا يتم إلا برضا مالكها الذي له الملك كله {ورضوا عنه} أي: لأنه أعطاهم فوق ما يؤملون {أولئك} أي: الذين هم في الدرجات العلى من العظمة لكونهم قصروا ودّهم على الله تعالى، علماً منهم بأنه ليس الضرّ والنفع إلا بيده {حزب الله} أي: جند الملك الذي أحاط بجميع صفات الكمال {ألا إنّ حزب الله} أي: جند الملك الأعلى، وهم هؤلاء الموصوفون ومن والاهم {هم المفلحون} أي: الذين حازوا الظفر بكل ما يؤملون في الدارين، وقد علم من الرضا من الجانبين والحزبية والإفلاح عدم الإنفكاك عن السعادة فأغنى(4/236)
ذلك عن تقييد الخلود بالتأييد.
فائدة: هذه السورة نصف القرآن عدداً، وليس فيها آية إلا وفيها ذكر الجلالة الكريمة مرة أو مرتين أو ثلاثاً. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّ من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله تعالى يوم القيامة حديث موضوع. والله تعالى أعلم.
سورة الحشر
مدنية
في قول الجميع، وهي أربع وعشرون آية وأربعمائةوخمس وأربعون كلمة، وألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفاً
{بسم الله} الملك الأعظم الذي لا خلف لميعاده {الرحمن} الذي عمت نعمة إيجاده {الرحيم} الذي خص أهل ودّه بالتوفيق فهم أهل السعادة.
ولما ختمت المجادلة بأنه يعز أهل طاعته ويذل أهل معصيته تنزه عن النقائص تأييداً للوعد بنصرهم فقال تعالى:
{سبح} أي: أوقع التنزيه الأعظم عن كل شائبة نقص {لله} الذي أحاط بجميع صفات الكمال {ما في السموات} أي: كلها {وما في الأرض} أي: كذلك، وقيل: أن اللام مزيدة، أي: نزهة وأتى بما تغليباً للأكثر، وجمع السماء لأنها أجناس.
قيل: بعضها من فضة وبعضها من غير ذلك، وأفراد الأرض لأنها جنس واحد {وهو} أي: والحال أنه وحده {العزيز} الذي يغلب كل شيء، ولا يمتنع عليه شيء {الحكيم} الذي نفذ علمه في الظواهر والبواطن، وأحاط بكل شيء فأتقن ما أراد، فكل ما خلقه جعله على وحدانيته دليلاً، وإلى بيان ماله من العزة والحكمة سبيلاً.
وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء، والباقون بضمها، قال المفسرون: نزلت هذه السورة في بني النضير، وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يكونوا عليه ولا له، فلما غزا بدراً وظهر على المشركين قالوا: هو النبيّ الذي نعته في التوراة لا تردّ له راية، فلما غزا أحد وهزم المسلمون ارتابوا وأظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم
وركب كعب بن الأشرف في أربعين راكباً من اليهود إلى مكة، فأتوا قريشاً فحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين أستار الكعبة، ثم رجع كعب وأصحابه إلى المدينة فنزل جبريل عليه السلام، وأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما عاقد عليه كعب وأبو سفيان، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة، فلما قتل كعب بن الأشرف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالمسير إلى بني النضير، وكانوا بقرية يقال لها: زهرة فلما سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدهم ينوحون على كعب، وقالوا: يا محمد واعية على أثر واعية، وباكية على أثر باكية، قال: نعم، قالوا: ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اخرجوا من المدينة، فقالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك، ثم تنادوا بالحرب وآذنوا بالقتال، ودس المنافقون عبد الله بن أبيّ وأصحابه إليهم أن لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولننصرنكم، ولئن(4/237)
خرجتم لنخرجنّ معكم، فدربوا على الأزفة وحصنوها، ثم إنهم اجمعوا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا إليه أن اخرج في ثلاثين رجلاً من أصحابك، ويخرج منا ثلاثون حتى نلتقي بمكان نصف بيننا وبينك فيسمعون منك، فإن صدّقوك وآمنوا بك آمنا كلنا. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثين من أصحابه، وخرج إليه ثلاثون حبراً من اليهود حتى إذا كانوا في براز من الأرض، قال بعض اليهود لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون من رجال أصحابه كلهم يحب الموت قبله، ولكن أرسلوا إليه كيف نفهم ونحن ستون رجلاً اخرج في ثلاثة من أصحابك ونخرج إليك في ثلاثة من علمائنا فيسمعون منك، فإن آمنوا بك آمنا كلنا بك وصدقناك.
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة من أصحابه، واشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلت امرأة ناصحة من بني النضير إلى أخيها، وهو رجل مسلم من الأنصار فأخبرته بما أراد بنو النضير من الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أخوها سريعاً حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فسارّه بخبرهم.
فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح، فأبى عليهم إلا أن يخرجوا من المدينة على ما يأمرهم به النبيّ صلى الله عليه وسلم فقبلوا ذلك فصالحهم على الجلاء وعلى أنّ لهم ما أقلت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، وهي السلاح، وعلى أن يخلوا لهم ديارهم وعقارهم وسائر أموالهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: على أن يحمل كل أهل بيت على بعير ما شاء من متاعهم، وللنبيّ صلى الله عليه وسلم ما بقي.
وقال الضحاك: على كل ثلاثة نفر بعيراً ووسقاً من طعام. ففعلوا ذلك وخرجوا من المدينة إلى الشام إلى أذرعات وأريحاء إلا أهل بيتين من آل بني الحقيق، وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة.
فذلك قوله تعالى: {هو} أي: وحده من غير إيجاف خيل ولا ركاب {الذي أخرج} أي: على وجه القهر {الذي كفروا} أي: ستروا ما في كتبهم من الشواهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه النبيّ الخاتم، وما في فطرتهم الأولى من اتباع الحق {من أهل الكتاب} أي: الذي أنزله الله تعالى على رسوله موسى صلى الله عليه وسلم وهم بنو النضير. وفي التعبير بكفروا إشعار بأنهم الذي أزالوا بالتبديل والإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة {من ديارهم} أي: مساكنهم بالمدينة عقوبة لهم، لأنّ الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح فكان الخروج منه في غاية العسر. قال ابن اسحق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد، وفتح قريظة عند مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان {لأول الحشر} هو حشرهم إلى الشام.
وآخره أن جلاهم عمر في خلافته إلى خيبر. قال سمرة الهمداني: كان أوّل الحشر من المدينة، والحشر الثاني من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من الشام في أيام عمر وقال القرطبي: الحشر الجمع، وهو على أربعة أضرب: حشران في الدنيا وحشران في الآخرة، أما الذي في الدنيا فقوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} كانوا من سبط لم يصبهم جلاء، وكان الله تعالى قد كتب عليهم الجلاء فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا، وكان أوّل حشر في الدنيا إلى(4/238)
الشام، قال ابن عباس وعكرمة رضي الله عنهم: من شك أنّ المحشر في الشام فليقرأ هذه الآية، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «اخرجوا قالوا إلى أين، قال: إلى أرض الحشر» قال قتادة: هذا أول الحشر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من داره.
وأما الحشر الثاني: فحشرهم قرب القيامة، قال قتادة: تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا وتأكل من تخلف منهم، وهذا ثابت في الصحيح. وذكروا أنّ تلك النار ترى بالليل ولا ترى بالنهار.
وقال ابن العربي: للحشر أوّل ووسط وآخر، فالأوّل: جلاء بني النضير، والأوسط: جلاء خيبر، والآخر: حشر يوم القيامة. وعن الحسن: هم بنو قريظة وخالفه بقية المفسرين، وقالوا: بنو قريظة ما حشروا ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي {ما ظننتم} أيها المؤمنون {أن يخرجوا} أي: يوقعوا الخروج من شيء أورثتموه منهم لما كان لكم من الضعف ولهم من القوة لكثرتهم وشدّة بأسهم وقرب بني قريظة منهم وأهل خيبر أيضاً غير بعيدين عنهم، وكلهم أهل ملتهم والمنافقون من أنصارهم فخابت ظنونهم في جميع ذلك {وظنوا أنهم} وقوله تعالى: {ما نعتهم حصونهم} فيه وجهان:
أحدهما: أن تكون حصونهم مبتدأ، وما نعتهم خبر مقدّماً، والجملة خبر أنهم.
الثاني: أن تكون مانعتهم خبر أنهم، وحصونهم فاعل به نحو إنّ زيداً قائم أبوه، وإنّ عمراً قائمة جاريته. وجعله أبو حيان أولى لأنّ في نحو قائم زيد على أن يكون خبراً مقدّماً ومبتدأ مؤخراً خلافاً، والكوفيون يمنعونه فمحل الوفاق أولى.
وقال الزمخشري: فإن قلت: أي فرق بين قولك وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو ما نعتهم، وبين النظم الذي جاء عليه. قلت: في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي تصيير ضميرهم اسماً لأن وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة، لا يبالي معها بأحد يتعرّض لهم أو يطمع في معازتهم، وليس ذلك في قولك: وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم ا. هـ. وهذا الذي ذكره إنما يتأتى على الإعراب الأوّل، وقد تقدّم أنه مرجوح ودل على ضعف عقولهم بأن عبر عن جنده باسمه الأعظم بقوله تعالى: {من الله} أي: الملك الأعظم الذي لا عز إلا له {فأتاهم الله} أي: جاءهم الملك الأعظم الذي لا يحتملون مجيئه {من حيث لم يحتسبوا} بما صوّر لهم من حقارة أنفسهم على حبسها، وهي خذلان المنافقين رعباً كرعبهم. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بفتحها {وقذف} أي: أنزل إنزالاً كأنه قذف بحجارة فثبت {في قلوبهم الرعب} أي: الخوف الذي سكنها بعد أن كان الشيطان زين لهم غير ذلك، وملأ قلوبهم من الأطماع الفارغة. وقرأ في قلوبهم الرعب، وعليهم الجلاء، ولأخوانهم الذين حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم، وأبو عمر وبكسرهما، والباقون بكسر الهاء وضم الميم، وحرّك العين بالضم ابن عامر والكسائي، والباقون بالكسون
ثم بين تعالى حالهم عند ذلك وفسر قذف الرعب بقوله تعالى: {يخربون بيوتهم} أي: لينقلوا ما استحسنوه منها من خشب وغيره. وقرأ أبو عمرو بفتح الخاء وتشديد الراء، والباقون بسكون الخاء وتخفيف الراء وهما بمعنى، لأنّ خرب عدّاه أبو عمرو بالتضعيف، وهم بالهمزة. وعن أبي عمر وأنه فرق بمعنى آخر فقال: خرّب بالتشديد هدم، وأفسد وأخرب بالهمزة ترك الموضع خراباً وذهب عنه، وهو(4/239)
قول الفرّاء. قال المبرد: ولا أعلم لهذا وجهاً، وزعم سيبويه أنهما متعاقبان في بعض الكلام فيجري كل واحد مجرى الآخر، نحو: فرحته وأفرحته.
وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتهم بضم الباء الموحدة، والباقون بكسرها {بأيديهم وأيدي المؤمنين} قال الزهري: وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما صالحهم على أنّ لهم ما أقلت الأبل، كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم فيهدمونها، وينزعون ما استحسنوه منها فيحملونه على إبلهم، ويخرّب المؤمنون باقيها. وقال قتادة والضحاك: كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا، واليهود من داخل ليبنوا ما خرّب من حصنهم.
وقال مقاتل: إنّ المنافقين أرسلوا إليهم أن لا تخرجوا ود ربوا عليهم الأزقة، وكان المسلمون سائر الجوانب.
فإن قيل: ما معنى تخريبها لهم بأيدي المؤمنين؟ أجيب: بأنهم لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه. وقال أبو عمرو بن العلاء: بأيديهم في تركهم لها، وبأيدي المؤمنين في إجلائهم عنها
ولما كان في غاية الغرابة أن يعمل الإنسان في نفسه كما يفعل فيه عدوّه تسبب عن ذلك قوله {فاعتبروا} أي: احملوا أنفسكم بالإمعان في التأمّل في عظيم قدرة الله تعالى، والاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخدّ. وسمي علم التعبير لأنّ صاحبه ينتقل من التخيل إلى المعقول، وسميت الألفاظ عبارات؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقل المستمع ويقال: السعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر به غيره. ولهذا قال القشيري: الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالاتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها
ثم بين أنّ الاعتبار لا يحصل إلا للكمل بقوله تعالى: {يا أولي الأبصار} بالنظر بإبصارهم وبصائرهم في غريب هذا الصنع، لتحققوا به ما وعدكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من إظهار دينه وإعزاز نبيه، ولا تعتمدوا على غير الله تعالى كما اعتمد هؤلاء على المنافقين، فإنّ من اعتمد على مخلوق أسلمه ذلك إلى صغاره ومذلته.
{ولولا أن كتب الله} أي: فرض فرضاً حتماً الملك الذي له الأمر كله {عليهم الجلاء} أي: الخروج من ديارهم والجولان في الأرض. فأمّا معظمهم فأجلاهم بختنصر من بلاد الشام إلى العراق، وأمّا هؤلاء فحماهم الله تعالى بمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الجلاء، وجعله على يده صلى الله عليه وسلم فأجلاهم، فذهب بعضهم إلى خيبر، وبعضهم إلى الشام مرة بعد مرة
تنبيه:: قال الماوردي: الجلاء أخص من الخروج، لأنه لا يقال إلا للجماعة، والإخراج يكون للجماعة والواحد. وقال غيره: الفرق بينهما أنّ الجلاء ما كان مع الأهل والولد، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك {لعذبهم} أي: بالقتل والسبي {في الدينا} كما فعل بقريظة من اليهود {ولهم} أي: على كل حال أجلوا أو تركوا {في الآخرة} التي هي دار البقاء {عذاب النار} وهو العذاب الأكبر.
{ذلك} أي: الأمر العظيم الذي فعله بهم من الجلاء ومقدماته في الدنيا، ويفعله بهم في الآخرة {بأنهم شاقوا الله} أي: الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامّة فكانوا في شق غير شقه، بأن صاروا في شق الأعداء المحاربين بعدما كانوا الموادعين {و} شاقوا {رسوله} أي:(4/240)
الذي إجلاله من إجلاله {ومن يشاق الله} أي: يوقع في الباطن مشاقة الملك الأعلى الذي لا كفؤ له في الماضي والحال والاستقبال {فإن الله} أي: المحيط بجميع العظمة {شديد العقاب} وذلك كما فعل بأهل خيبر.
وقوله تعالى:
{ما} شرطية في موضع نصب بقوله تعالى: {قطعتم} وقوله تعالى: {من لينة} بيان له. واختلف في معنى قوله تعالى: {من لينة} فأكثر المفسرين على أنها هي النخلة مطلقاً، كأنهم اشتقوها من اللين. قال ذو الرمة:
*كان قتودي فوقها عش طائر ... على لينة سوقاء تهفو جنوبها*
وقال الزهري: هي النخلة ما لم تكن عجوة ولا برنية، وقال جعفر بن محمد: هي العجوة خاصة، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه الصلاة والسلام في السفينة، والعتيق: الفحل وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها حكاه الماوردي. وقال سفيان: هي ضرب من النخل يقال لثمرها اللون، وهو شديد الصفرة يرى نواه من خارجه، ويغيب فيه الضرس النخلة منها أحب إليهم من وصيف.
وقيل: هي النخلة الكريمة، أي: القريبة من الأرض. وقيل: هي الفسيلة، أي: بالفاء وهي صغار النخل لأنها ألين من النخلة. وقيل: هي الأشجار كلها للينها بالحياة. وقال الأصمعي: هي الدقل. قال ابن العربي: والصحيح ما قاله الأزهري ومالك، وجمع اللينة لين؛ لأنه من باب اسم الجنس كتمرة وتمر، وقد تكسر على ليان وهو شاذ لأن تكسر ما يفرق بتاء التأنيث شاذ كرطبة ورطب وأرطاب والضمير في قوله تعالى: {أوتركتموها قائمة} عائد على معنى ما.
ولما كان الترك يصدق ببقائها مغروسة أو مقطوعة قال تعالى: {على أصولها فبأذن الله} أي: فقطعها بتمكين الملك الأعظم، روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل ببني النضير وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها، فجزع أعداء الله تعالى عند ذلك وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل، وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض، فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم وخشوا أن يكون ذلك فساداً، واختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم: بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله تعالى هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الأثم، وإن ذلك كان بإذن الله وعن ابن عمر قال: «حرق رسول الله صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع» واللام في قوله تعالى: {وليخزي الفاسقين} متعلقة بمحذوف، أي: وأذن في قطعها ليخزي اليهود في اعتراضهم بأن قطع الشجر المثمر فساد، وليسر المؤمنين ويعزهم، وليخزي الفاسقين.
فإن قيل: لم خصت اللينة بالقطع؟ أجيب: بأنه إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشدّ.
واحتجوا بهذه الآية على أنّ حصون الكفرة وديارهم يجوز هدمها وتحريقها وتغريقها، وأن ترمى بالمناجيق، وكذا أشجارهم. وعن ابن مسعود: أنهم قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال، وروي: أنّ رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا تركتها لرسول الله صلى(4/241)
الله عليه وسلم وقال: هذا قطعتها غيظاً للكفار. وقد استدل به على جواز الاجتهاد، وعلى جوازه بحضور النبي صلى الله عليه وسلم لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك، واحتج به من يقول: كل مجتهد مصيب. وقال الكيا الطبري: وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبيّ صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ولا شك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ذلك وسكت، فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي: وهذا باطل لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولا اجتهاد مع حضوره صلى الله عليه وسلم وإنما يدل على اجتهاد النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه أخذاً بعموم الأدلة للكفار ودخولاً للأذن في الكل بما يقضي عليهم بالبوار، وذلك قوله تعالى: {وليخزي الفاسقين}
{وما أفاء الله} أي: ردّ الملك الذي له الأمر كله ردّاً سهلاً بعد أن كان في غاية العسر والصعوبة {على رسوله} فصيره في يده بعد أن كان خروجه عنها بوضع أيدي الكفرة عليه ظلماً وعدواناً، كما دل عليه التعبير بالفيء الذي هو عود الظلّ إلى الناحية التي كان ابتدأ منها {منهم} أي: ردّاً مبتدأ من الفاسقين فبين تعالى أن هذا فيء لا غنيمة، ويدخل في الفيء أموال من مات منهم بلا وارث، وكذا الفاضل عن وارث له غير حائز، وكذا الجزية وعشر تجارتهم، وما جلوا أي: تفرقوا عنه ولو لغير خوف كضرّ أصابهم.
وأمّا الغنيمة فهي ما حصل لنا من الحربيين مما هو لهم بايجاف حتى ما حصل بسرقة أو التقاط، وكذا ما انهزموا عنه عند التقاء الصفين ولو قبل شهر السلاح، أو أهداه الكافر لنا والحرب قائمة. ولم تحل الغنائم لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالاً جمعوه فتأتي نار من السماء فتأخذه، ثم أحلت لنبينا صلى الله عليه وسلم وكانت في صدر الإسلام له خاصة، لأنه كالمقاتلين كلهم نصرة وشجاعة بل أعظم، ثم نسخ ذلك واستقرّ الأمر على ما هو في سورة الأنفال في قوله تعالى: {واعلموا إنما غنمتم من شيء} (الأنفال: 41)
الآية وأما الفيء فهو مذكور هنا بقوله تعالى: {فما أوجفتم} أي: أسرعتم يا مسلمين {عليه} ومن في قوله تعالى: {من خيل} مزيدة، أي: خيلاً، وأكد بإعادة النافي دفعاً لظن من ظنّ أنه غنيمة لأحاطتهم به بقوله تعالى: {ولا ركاب} والركاب الإبل غلب ذلك عليها من بين المركوبات، واحدها راكبة ولا واحد لها من لفظها.
وقال الرازي: العرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير، ويسمون راكب الفرس فارساً، والمعنى: لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم بها حرباً ولا مشقة، فإنها كانت من المدينة على ميلين، قاله الفرّاء فمشوا إليها مشياً، ولم يركبوا إليها خيلاً ولا إبلاً إلا النبي صلى الله عليه وسلم ركب جملاً، وقيل: حماراً مخطوماً بليف فافتتحها صلحاً.
قال الرازي: إنّ الصحابة طلبوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة بينهم، فذكر الله تعالى الفرق بين الأمرين، وأنّ الغنيمة هي التي تعبتم أنفسكم في تحصيلها، وأمّا الفيء فلم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكان الأمر مفوّضاً فيه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء
{ولكن الله} أي: الذي له العز كله فلا كفؤ له {يسلط رسله} أي: له هذه السنة في كل زمن {على من يشاء} يجعل ما آتاهم سبحانه من الهيبة رعباً في قلوب أعدائه {والله} أي: الملك الذي له الكمال كله {على كل شيء} يصح أن تتعلق المشيئة به، وهو كل ممكن من التسليط وغيره {قدير}(4/242)
أي: بالغ القدرة إلى أقصى الغايات فلا حق لكم فيه، ويختص به النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن ذكر معه في الآية الثانية من الأصناف الأربعة، على ما كان عليه القسمة من أنّ لكل منهم خمس الخمس وله صلى الله عليه وسلم الباقي يفعل فيه ما يشاء
ثم بين تعالى مصرف الفيء بقوله تعالى: {ما أفاء الله} أي: الذي اختص بالعزة والقدرة والحكمة {على رسوله من أهل القرى} أي: قرية بني النضير وغيرها من وادي القرى والصفراء وينبع، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية، فيخمس ذلك خمسة أخماس وإن لم يكن في الآية تخميس، فإنه مذكور في آية الغنيمة فحمل المطلق على المقيد، وكان صلى الله عليه وسلم يقسم له أربعة أخماسه وخمس خمسة، ولكل من الأربعة المذكورين معه خمس خمس وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين، والباقون بالفتح فقوله تعالى: {فلله} أي: الملك الأعلى الذي كله بيده ذلك للتبرّك، فإنّ كل أمر لا يبدأ فيه به فهو أجذم {وللرسول} أي: الذي عظمته من عظمته تعالى، وقد تقدم ما كان له صلى الله عليه وسلم وأمّا بعده صلى الله عليه وسلم فيصرف ما كان له من خمس الخمس لمصالح المسلمين، وسد ثغور، وقضاة، وعلماء بعلوم تتعلق بمصالح المسلمين كتفسير وقراءة، والمراد بالقضاة غير قضاة العسكر أمّا قضاته وهم الذين يحكمون لأهل الفيء في مغزاهم فيرزقون من الأخماس الأربعة لا من خمس الخمس، يقدّم وجوباً الأهمّ فالأهمّ. وأمّا الأربعة المذكورة معه صلى الله عليه وسلم فأولها المذكور في قوله تعالى: {ولذي القربى} أي: منه، وهم مؤمنو بني هاشم وبني المطلب لاقتصاره صلى الله عليه وسلم في القسم عليهم مع سؤال غيرهم من بني عميهم نوفل وعبد شمس له، ولقوله صلى الله عليه وسلم «أما بنو هاشم وبنو المطلب فشيء واحد، وشبك بين أصابعه» فيعطون ولو أغنياء لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى العباس وكان غنياً، ويفضل الذكر على الأنثى كالإرث فله سهمان ولها سهم، لأنه عطية من الله تعالى يستحق بقرابة الأب كالإرث سواء الكبير والصغير، والعبرة بالانتساب إلى الآباء فلا يعطى أولاد البنات من بني هاشم والمطلب شيئاً لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير وعثمان مع أن أم كل منهما كانت هاشمية.
وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، وأبو عمرو بين بين، والباقون بالفتح، وخالفهم أبو عمرو في واليتامى. ثانيها: المذكور في قوله تعالى: {واليتامى} أي: الفقراء منا لأن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة لأنه مال أو نحوه أخذ من الكفار فاختص كسهم المصالح، واليتيم صغير ولو أنثى لخبر «لا يتم بعد احتلام» رواه أبو داود وحسنه النووي وإن ضعفه غيره لا أب له، وإن كان له أمّ. وحد اليتيم في البهائم من فقد أمّه، وفي الطير من فقد أباه وأمّه، ومن فقد أمّه فقط من الآدميين يقال له: منقطع. ثالثها: المذكور في قوله تعالى: {والمساكين} الصادقين بالفقراء، وهم أهل الحاجة منا وتقدّم تعريفهما في سورة الأنفال، وكذا تعريف الرابع المذكور في قوله تعالى: {ابن السبيل} أي: الطريق الفقير منا ذكوراً كانوا أو إناثاً، ولو اجتمع في واحد من هذا الأصناف يتم ومسكنة أعطي باليتم فقط، لأنه وصف لازم والمسكنة زائلة، وللإمام التسوية والتفضيل بحسب الحاجة ويعم الإمام ولو بنائبه الأصناف الأربعة الأخيرة بالأعطاء وجوباً لعموم الآية فلا يخص(4/243)
الحاضر بموضع حصول الفيء، ولا من في كل ناحية منهم بالحاصل فيها نعم لو كان الحاصل لا يسد مسدّاً بالتعميم قدم الأحوج فالأحوج، ولا يعمّ للضرورة.
ومن فقد من الأربعة صرف نصيبه للباقين منهم، وأمّا الأخماس الأربعة فهي للمرتزقة، وهم المرصدون للجهاد بتعيين الإمام لهم بعمل الأولين به بخلاف المتطوّعة فلا يعطون من الفيء بل من الزكاة عكس المرتزقة، ويشرك المرتزقة قضاتهم كما مرّ وأئمتهم ومؤذنوهم وعمالهم، ويجب على الإمام أن يعطي كل من المرتزقة بقدر حاجة ممونه من نفسه، وغيرها كزوجاته ليتفرّغ للجهاد ويراعي في الحاجة الزمان والمكان والرخص والغلاء، وعادة الشخص مروأة وضدّها ويزادان زادت حاجته بزيادة ولد، أو حدوث زوجة فأكثر ومن لا عبد له يعطى من العبيد ما يحتاجه للقتال معه، أو لخدمته إن كان ممن يخدم، ويعطي مؤنته.
ومن يقاتل فارساً ولا فرس له يعطي من الخيل ما يحتاجه للقتال، ويعطى مؤنته بخلاف الزوجات يعطى لهنّ مطلقاً لانحصارهن في أربع، ثم ما يدفعه إليه لزوجته وولده الملك فيه لهما حاصل من الفيء.
وقيل: يملكه هو ويصير إليهما من جهته، فإن مات أعطى الإمام أصوله وزوجاته وبناته إلى أن يستغنوا، ويسنّ أن يضع الإمام ديواناً وهو الدفتر الذي يثبت فيه أسماء المرتزقة وأوّل من وضعه عمر رضي الله عنه وأن ينصب لكل جمع عريفاً، وأن يقدّه في اسم وإعطاء قريشاً لشرفهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ولخبر قدّموا قريشاً، وأن يقدم منهم بني هاشم وبني المطلب فبني عبد شمس فبني عبد العزى فسائر بطون العرب الأقرب فالأقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسائر العرب فالعجم، ولا يثبت في الديوان من لا يصلح، ومن مرض فكصحيح وإن لم يرج برؤه، ويمحى اسم كل من لم يرج، وما فضل عنهم وزع عليهم بقدر مؤنتهم وللإمام صرف بعضه في ثغور وسلاح وخيل ونحوها، وله وقف عقار فيء أو بيعه وقسم غلته أو ثمنه كقسم المنقول أربعة أخماسه للمرتزقة وخمسة للمصالح، وله أيضاً: قسمه كالمنقول لكن خمس الخمس الذي للمصالح لا سبيل إلى قسمته.
ولما حكم سبحانه هذا الحكم في الفيء المخالف لما كانوا عليه في الجاهلية من اختصاص الأغنياء به بين علته المظهرة لعظمته بقوله تعالى: {كي لا يكون} أي: الفيء الذي يسره الله تعالى بقوّته من قذف الرعب في قلوب أعدائه، ومن حقه أن يعطاه الفقراء {دولة} أي: متداولاً {بين الأغنياء منكم} أي: يتداوله الأغنياء ويدور بينهم كما كان في الجاهلية، فإنهم كانوا يقولون: من عزيز، ومنه قول الحسن: اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً، يريد: من غلب منهم أخذه واستأثر به. وقرأ هشام بخلاف عنه تكون بالتأنيث دولة بالرفع، والباقون بالتذكير والنصب، فأمّا الرفع فعلى أن كان تامّة، وأمّا التأنيث والتذكير فواضحان؛ لأنه تأنيث مجازي، وأما النصب فعلى إنها الناقصة واسمها ضمير عائد على الفيء. والتذكير واجب لتذكير المرفوع، ودولة خبرها، وقيل: دولة عائد على ما اعتباراً بلفظها، وكي لا هنا مقطوعة في الرسم
{وما آتاكم الرسول} أي: وكل شيء أحضره لكم الكامل في الرسالة من الغنيمة، أو مال الفيء أو غيره {فخذوه} أي: فاقبلوه لأنه حلال لكم، وتمسكوا به فإنه واجب الطاعة {وما نهاكم عنه} أي: من جميع الأشياء {فانتهوا} لأنه لا ينطق عن الهوى، ولا يقول(4/244)
ولا يفعل إلا ما أمر ربه عز وجل.
تنبيه: هذه الآية تدل على أنّ كل ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر من الله تعالى لأنّ الآية، وإن كانت في الغنائم فجميع أوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه داخل فيها. قال عبد الرحمن بن زيد: لقي ابن مسعود رجلاً محرماً وعليه ثيابه، فقال: انزع عنك هذا، فقال الرجل: تقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله تعالى، قال: نعم {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي: سمعت الشافعي رضى الله عنه يقول: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله تعالى، وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: فقلت له: أصلحك الله ما تقول في المحرم يقتل الزنبور، قال: فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر» حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن أسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب: أنه أمر بقتل الزنبور. وهذا الجواب في غاية الحسن أفتى بقتل الزنبور في الإحرام، وبين أنه يقتدى فيه بعمر، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء به، وأنّ الله تعالى أمر بقبول ما يقوله صلى الله عليه وسلم فجواز قتله من الكتاب والسنة.
وسئل عكرمة عن أمّهات الأولاد هل هنّ أحرار؟ فقال: في سورة النساء في قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم} (النساء: 59)
وفي صحيح مسلم وغيره عن علقمة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى» فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب فجاءت فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال: لئن كنت قرأتيه فقد وجدتيه أما قرأت {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه الحديث.
فائدة: الوشم: هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة، ثم يحشى بالكحل. والمستوشمة، هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك، والنامصة: هي التي تنتف الشعر من الوجه، والمتفلجة: هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة، وقيل: تتفلج في مشيها في كل شيء منهي عنه. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح والهمزة ممدودة بلا خلاف لأنها بمعنى الإعطاء {واتقوا الله} أي: واجعلوا لكم بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاية من عذاب الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة، وعلل ذلك بقوله تعالى: {إن الله} أي: الذي له الجلال والإكرام على الإطلاق {شديد العقاب} أي: العذاب الواقع بعد الذنب. قال البقاعي ومن زعم أن شيئاً مما في هذه السورة نسخ بشيء مما في سورة الأنفال فقد أخطأ، لأنّ الأنفال نزلت في بدر، وهي قبل هذه بمدّة.
وقوله تعالى: {للفقراء} أي: الذين كان الإنسان منهم يعصب الحجر على بطنه من الجوع ويتخذ الحفرة في الشتاء لتقيه البرد وماله دثار غيرها بدل من لذي القربى، وما عطف عليه(4/245)
قاله الزمخشري. والذي منع الإبدال من لله وللرّسول والمعطوف عليهما وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ الله تعالى أخرج رسوله صلى الله عليه وسلم من الفقراء في قوله تعالى: {وينصرون الله ورسوله} ولأنه تعالى يترفع برسوله صلى الله عليه وسلم عن تسميته بالفقير، وقال غيره: إنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: ولكن الفيء للفقراء.
وقيل تقديره: ولكن يكون للفقراء، وقيل تقديره: أعجبوا للفقراء، واقتصر على هذا التقدير الجلال المحلى. وإنما جعله الزمخشري بدلاً من لذي القربى لأنه حنفي، والحنفية يشترطون الفقر في إعطاء ذوي القربى من الفيء، ولذا قال البيضاوي: ومن أعطى أغنياء ذوي القربى، أي: كالشافعي خصص الإبدال بما بعده، أو الفيء بفيء بني النضير ا. هـ. أوانهم كانوا عند نزول الآية كذلك، ثم خصص بالوصف بقوله تعالى: {المهاجرين} وقيد ذلك بقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم} لأنّ الهجرة قد تطلق على من هجر أهل الكفر من غيره مفارقة الوطن وقوله تعالى: {وأموالهم} إشارة إلى أنّ المال لما كان يستره الإنسان كان كأنه ظرف له
ولما كان طلب الدنيا من النقائص بين أنه إذا كان من الله لم يكن كذلك، وأنه لا يكون فادحاً في الإخلاص فقال تعالى: {يبتغون} أي: اخرجوا حال كونهم يطلبون على وجه الاجتهاد، وبين أنه لا يجب عليه سبحانه لأحد شيء بقوله تعالى: {فضلاً من الله} أي: الملك الأعظم الذي لا كفء له، لأنه المختص بجميع صفات الكمال فيغنيهم بفضله عمن سواه {ورضوانا} بأن يوفقهم لما يرضيه عنهم، ولا يجعل رغبتهم في العوض منه فادحاً في الإخلاص فيوصلهم إلى دار كرامته وقرأ شعبة بضم الراء، والباقون بكسرها {وينصرون} أي: على سبيل التجديد والاستمرار {الله} أي: دين الملك الأعظم {ورسوله} الذي عظمته من عظمته بأنفسهم وأموالهم ليضمحل حزب الشيطان {أولئك} أي: العالو الرتبة في الأخلاق الفاضلة {هم الصادقون} أي: العريقون في هذا الوصف، لأنّ مهاجرتهم لما ذكر وتركهم لما وصف دل على كمال صدقهم فيما ادعوه من الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم حيث نابدوا من عاداهما، ووالوا أولياءهما وإن بعدت دارهم وشط مزارهم
ثم اتبع ذكر المهاجرين بذكر الأنصار الذين كانوا في كل حال معه صلى الله عليه وسلم كالميت بين يدي الغاسل مهما شاء فعل ومهما أراد منهم صاروا إليه بقوله تعالى:
{والذين تبوّؤا} أي: جعلوا بغاية جهدهم {الدار} أي: الكاملة في الدور التي جعلها الله تعالى في الأزل للهجرة، وهيأها للنصرة وجعلها محل إقامتهم. وفي قوله تعالى: {والإيمان} أوجه:
أحدها: أنه ضمن تبوّؤا معنى لزموا فيصح عطف الإيمان عليه؛ إذ الإيمان لا يتبوأ.
ثانيها: أنه منصوب بمقدر، أي: واعتقدوا، أو وألفوا، أو وأحبوا، أو وأخلصوا كقول القائل: علفتها تبناً وماء بارداً. وقول الآخر: ومقلداً سيفاً ورمحاً.
ثالثها: أنه يتجوّز في الإيمان فيجعل لاختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط بهم، فكأنهم نزلوه وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة، وفيه خلاف مشهور.
رابعها: أن يكون الأصل دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه.
خامسها: أن يكون سمى المدينة به،(4/246)
لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان، قال: هذين الوجهين الزمخشري، وليس فيه إلا قيام أل مقام المضاف إليه وهو محل خلاف، وهو أن أل هل تقوم مقام الضمير المضاف إليه فالكوفيون يجوّزونه كقوله تعالى: {فإنّ الجنة هي المأوى} (النازعات: 41)
أي: مأواه، والبصريون يمنعونه ويقولون الضمير محذوف، أي: المأوى له. وأما كونها عوضاً عن المضاف إليه، فقال ابن عادل: لا نعرف فيه خلافاً.
سادسها: أنه منصوب على المفعول معه، أي: مع الإيمان. قال وهب: سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال: إنّ المدينة تبوّئت بالإيمان والهجرة، وإنّ غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ {والذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلهم} أي: وهم الأنصار {يحبون} أي: على سبيل التجديد والاستمرار {من هاجر} وزادهم محبة فيهم بقوله تعالى: {إليهم} لأنّ القصد إلى الإنسان يوجب حقه عليه، لأنه لولا كمال محبته له ما خصه بالقصد إليه {ولا يجدون في صدورهم} أي: التي هي مساكن قلوبهم فضلاً عن أن تنطق ألسنتهم {حاجة} قال الحسن: حسداً وحزازة وغيظاً {مما أوتوا} أي: آتى النبيّ المهاجرين من أموال بني النضير وغيرهم، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة لأنّ هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة، فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية.
فعلى هذا يكون الضمير الأوّل للجائين بعد المهاجرين، وفي أوتوا للمهاجرين.
وقيل: إنّ الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه، والمعنى: ولا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره، والمحتاج إليه يسمى حاجة، تقول: خذ منه حاجته، وأعطاه من ماله حاجته قاله الزمخشري: والضميران على ما تقدم، وقال أبو البقاء: مس حاجة، أي: أنه حذف المضاف للعلم به، وعلى هذا فالضميران للذين تبوؤا الدار والإيمان. قال القرطبي: كان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير دعا الأنصال وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم منازلهم وإشراكهم في الأموال، ثم قال صلى الله عليه وسلم «إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبينهم وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم» فقال سعد بن عبادة، وسعد ابن معاذ: بل تقسمه بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، ونادت الأنصار رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين، ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين، أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة.
ولما أخبر تعالى عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الأخبار بتحليهم بالفضائل فقال عز من قائل: {ويؤثرون على أنفسهم} فيبذلون لغيرهم كائناً من كان ما في أيديهم، فإنّ الإيثار تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية، وذلك ينشأ عن قوّة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة عن الرذائل فإنّ النفس إذا طهرت كان القلب أطهر وأكد ذلك بقوله تعالى: {ولو كان} أي كونا هو في غاية المكنة {بهم} أي خاصة لا بالمؤثر {خصاصة} أي: فقر وحاجة إلى ما يؤثرون به.
روي عن أبي هريرة أن رجلاً بات به ضيف،(4/247)
ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفىء السراج وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية. وعنه أيضاً قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضيف هذا الليلة رحمه الله فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله فانطلق به إلى رحله فقال: لامرأته هل عندك شيء؛ قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج» وذكر نحو الحديث الأول.
وفي رواية فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة فانطلق به إلى رحله. وذكر المهدوي أنها نزلت في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار يقال له: أبو المتوكل، ولم يكن عنده إلا قوته.
وذكر القشيري قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إنّ أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منا فبعثها إليهم، فلم يزل يبعث بها واحد إلى آخر حتى تناولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت الآية.
وذكر القرطبي عن أنس قال: أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة، وكان مجهوداً فوجه بها إلى جار له فتداولها سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عادت إلى الأوّل فنزلت.
فإن قيل: قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء أجيب: بأن محل النهي فيمن لا يوثق منه بالصبر على الفقر، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، فأما الأنصار الذين أثنى الله تعالى عليهم بالإيثار على أنفسهم فكانوا كما قال تعالى: {والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس} (البقرة: 177)
فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. كما روي «أنّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب، فقال: هذه صدقة فرماه بها، وقال: يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد فيتكفف الناس» والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال: والجود بالنفس أعلى غاية الجود، وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة: لا تشرف يا رسول الله لا يصيبونك نحري دون نحرك» ، ووقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت. وقال حذيفة الدوري انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي فإذا برجل يقول: آه، آه. فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاصي فقلت أسقيك فأشار أن نعم فسمع آخر يقول آه آه فأشار هشام أن انطلق عليه فجئت إليه، فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وقال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم إلينا حاجاً، فقال لي: يا أبا يزيد ما حد الزهد عندكم، فقلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال: هكذا كلاب بلخ فقلت: وما حد الزهد عندكم، فقال: إذا فقدنا شكرنا وإذا وجدنا آثرنا.
وسأل ذو النون ما حد الزهد قال: ثلاث: تفريق المجموع، وترك تطلب المفقود، والإيثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلاً بقرية من قرى الري، وبينهم أرغفة معدودة لا تشبع(4/248)
جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه {ومن يوق شح نفسه} أي: يجعل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس وقاية تحول بينه وبينها، فلا يكون مانعاً لما عنده حريصاً على ما عند غيره حسداً. قال ابن عمر الشح: أن تطمح عين الرجل فيما ليس له، قال صلى الله عليه وسلم «اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» . وقال القرطبي: الشح والبخل سواء، وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل. وفي الصحاح: الشح البخل مع حرص، والمراد بالشح في الآية الشح بالزكاة، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة وما شاكل ذلك وليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك، وإن أمسك عن نفسه، ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكر من الزكاة والطاعات فلم يوق شح نفسه.
روى الأموي عن ابن مسعود: أنّ رجلاً أتاه فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: وماذاك قال سمعت الله يقول: ومن يوق شح نفسه، وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئاً، فقال ابن مسعود: ليس ذلك الذي ذكر الله تعالى، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكن ذلك البخل وبئس الشيء البخل، ففرق بين الشح والبخل. وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع، وقال بعضهم: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله، إنما الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له. وقال ابن جبير: الشح منع الزكاة، وادخار الحرام وقال ابن عيينة: الشح الظلم. وقال الليث: ترك الفرائض، وانتهاك المحارم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من اتبع هواه ولم يقبل الإيمان، فذلك الشحيح وقال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله تعالى عنه، ولم يمنع شيئاً أمره الله تعالى بإعطائه فقد وقاه الله تعالى شح نفسه.
وعن أنس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «برىء من الشح من أدى الزكاة، وأقرى الضيف، وأعطى في النائبة» وعنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم «كان يدعو اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي وإسرافها وسوأتها» وقال ابن الهياج الأسدي: رأيت رجلاً في الطواف يدعو اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك، فقلت له: فقال: إذا وقيت شح نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أقتل فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. قال القرطبي: ونزل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم «اتقوا الظلم فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنّ الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماؤهم واستحلوا محارهم» وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع غبار في سبيل الله، ودخان جهنم في جوف عبد أبداً» وقال كسرى لأصحابه: أي شيء أضرّ بابن آدم؟ قالوا: الفقر، فقال: الشح أضر من الفقر لأنّ الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبداً {فأولئك} أي: العالو المنزلة {هم المفلحون} أي: الكاملون في الفوز بكل مراد، قال القشيري: ومجرد القلب من الأعراض والأملاك صفة السادة والأكابر من أسرته الأخطار
ولما أثنى سبحانه وتعالى على المهاجرين والأنصار بما هم عليه وأهله أتبعهم ذكر التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين فقال تعالى: {والذين جاؤوا} أي: من أي طائفة كانوا {من بعدهم} أي بعد المهاجرين والأنصار، وهم من آمن(4/249)
بعد انقطاع الهجرة بالفتح، وبعد إيمان الأنصار الذين أسلموا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة {يقولون} على سبيل التجديد والاستمرار تصديقاً لإيمانهم بدعائهم {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا بإيجاد من مهد الدين قبلنا {اغفر لنا} أي: أوقع ستر النقائص آثارها وأعيانها {ولأخواننا} أي: في الدين فإنهم أعظم أخوة، وبينوا العلة بقولهم {الذين سبقونا بالإيمان} قال ابن أبي ليلى الناس على ثلاثة منازل: المهاجرين، والذين تبوؤا الدار والإيمان، والذي جاؤوا من بعدهم فاجتهد أن لا تخرج من هذه المنازل. وقال بعضهم: كن مهاجراً، فإن قلت: لا أجد فكن أنصارياً، فإن لم تجد فاعمل بأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمر الله تعالى.
وقال مصعب بن سعد: الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقول في عثمان فقال له يا أخي أنت من قوم قال الله تعالى فيهم: {للفقراء المهاجرين} الآية، قال: لا، قال: فأنت من قوم قال الله تعالى فيهم: {والذين تبوؤا الدار والإيمان} الآية، قال: لا، قال: فو الله إن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجنّ من الإسلام، وهي قوله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم} الآية وروي أنّ نفراً من أهل العراق جاؤوا إلى محمد بن علي بن الحسين فسبوا أبا بكر وعمر وعثمان فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم، فقالوا: لا فقال: من الذين تبؤوا الدار والإيمان، قالوا: لا قال: فقد تبرأتم من هذين الفريقين، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم} قوموا فعل الله بكم وفعل.
تنبيه: هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضى الله تعالى عنهم أجمعين، لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، ومن أبغضهم أو واحداً منهم، أو اعتقد فيهم شراً أنه لا حق له في الفيء.
قال مالك: من كان يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه لهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ {والذين جاؤوا من بعدهم} الآية، وهي عامة في جميع التابعين الآتين بعدهم إلى يوم القيامة. يروى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت لو رأيت إخواننا، فقالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض» فبين صلى الله عليه وسلم أن أخوانه كان من أتى بعدهم كما قال السدي والكلبي: إنهم الذي هاجروا بعد ذلك، وعن الحسن أيضاً: أنّ الذين جاؤوا من بعدهم من قصد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد انقطاع الهجرة، وإنما بدؤوا في الدعاء بأنفسهم لقوله صلى الله عليه وسلم «ابدأ بنفسك» وقال الشعبي: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سألت اليهود من خير أهل ملتكم فقالوا: أصحاب موسى، وسألت الأنصار من خير أهل ملتكم فقالوا: أصحاب عيسى، وسألت الرافضة من شر أهل ملتكم فقالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم. وعن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تذهب هذه الأمّة حتى يلعن(4/250)
آخرها أوّلها» أعاذنا الله تعالى ومحبينا من الأهواء المضلة {ولا تجعل في قلوبنا غلاً} أي: ضغناً وحسداً وحقداً، وهو حرارة وغليان يوجب الانتقام {للذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان وإن كانوا في أدنى درجاته وقيدوا بالقلب لأنّ رذائل النفس قل أن تنفك، وأنها إن كانت مع صحة القلب أو شك أن لا تؤثر {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا بتعليم ما لم نكن نعلم، وأكدوا إعلاماً بأنهم يعتقدون ما يقولون بقولهم: {إنك رؤوف} أي: راحم أشد الرحمة لمن كانت له بك وصلة بفعل من أفعال الخير {رحيم} مكرم غاية الإكرام لمن أردت، ولو لم يكن
له وصلة فأنت جدير بأن تجيبنا لأنا بين أن تكون لنا وصلة فنكون من أهل الرأفة، أو لا فنكون من أهل الرحمة.
فقد أفادت هذه الآية أن من كان في قلبه غلّ على أحد من الصحابة فليس ممن عنى الله تعالى بهذه الآية. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بكسر الهمزة، والباقون بمدها
ولما ذكر حال المؤمنين اتبعهم بذكر حال المنافقين فقال تعالى: {ألم تر} أي: تعلم علماً هو في غاية الجزم كالمشاهدة يا أعلى الخلق، وبين بعدهم عن جنابه العالي ومنصبه الشريف العالي بأداة الانتهاء فقال تعالى: {إلى الذين نافقوا} أي: أظهروا غيرما أضمروا وبالغوا في إخفاء عقائدهم، وهم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه، قالوا: والنفاق لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبله، وهو استعارة من الضب في نافقائه وقاصعائه وصور حالهم بقوله تعالى: {يقولون لأخوانهم الذين كفروا} أي: غطوا أنوار المعارف التي دلتهم على الحق {من أهل الكتاب} وهم اليهود من بني قريظة والنضير. والأخوان هم الأخوة، وهي هنا تحتمل وجوهاً:
أحدها: الأخوة في الآخرة لأنّ اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم
وثانيها: الأخوة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة.
وثالثها: الأخوة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا لليهود: {لئن أخرجتم} أي: من مخرجّ ما من المدينة {لنخرجن معكم} أي: منها {ولا نطيع فيكم} أي في خذلانكم {أحداً} أي يريد خذلانكم من الرسول والمؤمنين. وأكدوا بقولهم: {أبداً} أي: ما دمنا نعيش، وبمثل هذا العزم يستحق الكافر الخلود الأبدي في العذاب {وإن قوتلتم} أي: من أي مقاتل كان يقاتلكم ولم تخرجوا {لننصرنكم} أي: لنعيننكم ولنقاتلنّ معكم.
ولما كان قولهم هذا كلاماً يقضي عليه سامعه بالصدق من حيث كونه مؤكداً مع كونه مبتدأ من غير سؤال فيه بين حاله سبحانه بقوله تعالى: {والله} أي: يقولون ذلك والحال أنّ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {يشهد إنهم} أي: المنافقين {لكاذبون} أي: فيما قالوا ووعدوا، وهذا من أعظم دلائل النبوّة لأنه إخبار بغيب بعيد عن العادة.
ثم أخبر تعالى عن حال المنافقين بقوله تعالى: {لئن أخرجوا} أي: بنو النضير من أي مخرج كان {لا يخرجون} أي: المنافقون {معهم} أي: حمية لهم لأسباب يعلمها الله تعالى: {ولئن قوتلوا} أي: اليهود من أيّ مقاتل كان، فيكف بأشجع الخلق وأعلمهم صلى الله عليه وسلم {لا ينصرونهم} أي: المنافقون.
ولقد صدق الله تعالى وكذبوا في الأمرين معاً القتال والإخراج لا نصروهم ولا خرجوا معهم فكان ذلك من أعلام النبوة، وعلم به من كان شاكاً فضلاً عن الموفقين {ولئن نصروهم} أي: المنافقون في وقت من الأوقات {ليولنّ} أي:(4/251)
المنافقون ومن ينصرونه. وحقرهم بقوله تعالى: {الأدبار} أي: ولقد قدر وجود نصرهم لولوا الأدبار منهزمين {ثم لا ينصرون} أي: يتجدّد لفريقيهم، ولا لواحد منهما نصرة في وقت من الأوقات. ولم يزل المنافقون واليهود في الذل.
{لأنتم} أيها المؤمنون {أشد رهبة} أي: خوفاً {في صدورهم} أي: اليهود ومن ينصرهم {من الله} أي: لتأخير عذابه، وأصل الرهبة والرهب: الخوف الشديد مع حزن واضطراب، والمعنى: أنهم يرهبونكم ويخافون منكم أشد الخوف، وأشد من رهبتهم من الله لما مرّ. {ذلك} أي: الأمر الغريب وهو خوفهم الثابت اللازم من مخلوق مثلهم ضعيف لرؤيتهم له، وعدم خوفهم من الخالق على ماله من العظمة في ذاته، ولكونه غنياً عنهم {بأنهم قوم} أي: على ما لهم من القوة {لا يفقهون} أي: لا يتجدّد لهم بسبب كفرهم واعتمادهم على مكرهم في وقت من الأوقات، فهم يشرح صدورهم ليدركوا به أنّ الله تعالى هو الذي ينبغي أن يخشى لا غيره، بل هم كالأنعام لا نظر لهم إلى الغيب إنما هم مع المحسوسات. والفقه هو العلم بمفهوم الكلام ظاهره الجلي وغامضه الخفي بسرعة فطنة وجودة قريحة.
{س59ش14/ش19 يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِs فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُر?? بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ? تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى? ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ s يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيبًا? ذَاقُوا? وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِ?نسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِى?ءٌ مِّنكَ إِنِّى? أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا? وَذَالِكَ جَزَا?ؤُا? الظَّالِمِينَ * يَا?أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا? اتَّقُوا? اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ? وَاتَّقُوا? اللَّهَ? إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ? بِمَا تَعْمَلُونَ * وَتَكُونُوا? كَالَّذِينَ نَسُوا? اللَّهَ فَأَنسَـ?ـاهُمْ أَنفُسَهُمْ? أُو?لَا??ـ?ِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
{لا يقاتلونكم} أي: اليهود والمنافقون {جميعاً} أي: قتالاً تقصدونه مجاهرة وهم مجتمعون كلهم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن {إلا في قرى محصنة} أي: ممتنعة بحفظ الدروب، وهي السكك الواسعة بالأبواب والخنادق ونحوها {أو من وراء جدر} أي: محيط بهم سواء كان بقرية أم بغيرها لشدّة خوفهم، وقد أخرج هذا ما حصل من بعضهم عن ضرورة كالأسير، ومن كان ينزل من أهل خيبر من الحصن يبارز ونحو ذلك فإنه لم يكن عن اجتماع أو يكون هذا خاصاً ببني النضير في هذه الكرة. وقرأ ابن كثير وأبو عمر وبكسر الجيم وفتح الدال وألف بعدها وأمال الألف أبو عمرو، والباقون بضم الجيم والدال {بأسهم} أي: حربهم {بينهم شديد} أي: بعضهم فظ على بعض وعداوة بعضهم بعضاً شديدة. وقيل: بأسهم بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد، فإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله تعالى: {تحسبهم} أي: اليهود والمنافقين يا أعلى الخلق، أو يا أيها الناظر وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بكسر السين، والباقون بفتحها {جميعاً} لما هم فيه من اجتماع الأشباح {وقلوبهم شتى} أي: متفرقة أشدّ افتراقاً، وموجب هذا الشتات اختلاف الأهواء التي لا جامع لها من نظام العقل كالبهائم، وإن اجتمعوا في عداوة أهل الحق كاجتماع البهائم في الهرب من الذئب.
قال القشيري: اجتماع النفوس مع تنافر القلوب واختلافها أصل كل فساد، وموجب كل تخاذل، ومقتض لتجاسر العدو واتفاق القلوب، والاشتراك في الهمة، والتساوي في القصد موجب كل ظفر، وكل سعادة. وقرأ شتى الحسن وحمزة والكسائي بالإمالة محصنة، وورش بالفتح وبين اللفظين وأبو عمرو بين بين، والباقون بالفتح، وهي على وزن فعلى {ذلك} أي: الأمر الغريب من الافتراق بعد الاتفاق الذي يحيل الاجتماع {بأنهم قوم} أي: مع شدتهم {لا يعقلون} فلا دين لهم مثلهم في ترك الإيمان.
{كمثل الذين من قبلهم قريباً} أي: بزمن قريب، وهم كما قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: بنو قينقاع من أهل دينهم اليهود أظهروا بأساً شديداً عندما قصدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في أثر غزوة بدر، فوعظهم وحذرهم بأس الله تعالى(4/252)
فقالوا: لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم أما والله لو قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس، ثم مكروا بامرأة من المسلمين فراودوها عن كشف وجهها فأبت، فعقدوا طرف ثوبها من تحت خمارها فلما قامت انكشف سوقها فصاحت، فغار لها شخص من الصحابة فقتل اليهودي الذي عقد ثوبها، فقتلوه فانتقض عهدهم فأنزل الله النبيّ صلى الله عليه وسلم بساحتهم فأذلهم الله تعالى، ونزلوا من حصنهم على حكمه صلى الله عليه وسلم وقد كانوا حلفاء ابن أبي، ولم يغن عنهم شيئاً غير أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم في أن لا يقتلهم وألح عليه حتى كف عن قتلهم، فذهبوا عن المدينة الشريفة بأنفسهم من غير حشر لهم بالإلزام بالجلاء. {ذاقوا وبال أمرهم} أي: عقوبته في الدنيا من القتل وغيره {ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم في الآخرة
مثلهم أيضاً في سماعهم من المنافقين وتخلفهم عنهم {كمثل الشيطان} أي: البعيد من كل خير لبعده من الله تعالى المحترق بعذابه، والشيطان هنا مثل المنافقين {إذ قال للإنسان} وهو هنا مثل اليهود {اكفر} أي: بالله بما زين له ووسوس إليه من اتباعه الشهوات القائم مقام الأمر
{فلما كفر} أي: أوجد الإنسان الكفر على أيّ وجه. ودلت الفاء على إسراعه في متابعة تزيينه. {قال} أي: الشيطان الذي هو هنا عبارة عن المنافقين {إني بريء منك} أي: ليس بيني وبينك علاقة في شيء أصلاً ظناً منه أنّ هذه البراءة تنفعه شيئاً مما استوجبه المأمور بقبوله لآمره، وذلك مثل ضربه الله تعالى للمنافقين واليهود في انخذالهم وعدم الوفاء في نصرتهم.
وحذف حرف العطف ولم يقل وكمثل الشيطان لأنّ حذف العطف كثير. كقولك: أنت عاقل، أنت كريم، أنت عالم، وقوله {كمثل الشيطان} كالبيان لقوله تعالى: {كمثل الذين من قبلهم} روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّ الإنسان الذي قال له الشيطان: راهب نزلت عنده امرأة أصابها لمم ليدعو لها، فزين له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفاً من أن يفتضح فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاؤوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه فجاءه الشيطان، فوعده إن سجد له أنجاه منهم فسجد له فتبرأ منه» وروى عطاء وغيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال: كان راهب يقال له: برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله تعالى فيها طرفة عين، وإن إبليس أعياه في أمره الحيل فجمع ذات يوم مردة الشياطين، فقال: ألا أجد فيكم من يكفيني برصيصا فقال له: الأبيض وهو صاحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو الذي تصدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم وجاءه في صورة جبريل عليه السلام ليوسوس إليه على وجه الوحي، فدفعه جبريل عليه السلام إلى أقصى أرض الهند، فقال الأبيض لإبليس: أنا أكفيك أمره فانطلق فتزيا بزيّ الرهبان، وحلق وسط رأسه، وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام مرّة ولا يفطر في كل عشرة أيام إلا مرة فلما رآه الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العباد في أصل صومعته فلما انفتل برصيصا اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائماً يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم على نفسه حين لم يجبه، فقال له: إنك حين ناديتني كنت مشتغلاً عنك فما حاجتك؟ قال: حاجتي أني أحببت أن أكون معك فأتأدب بأدبك، وأقتبس من علمك، ونجتمع على العبادة،(4/253)
وتدعو لي، وأدعو لك فقال برصيصا: إني لفي شغل عنك، فإن كنت مؤمناً فإن الله سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين نصيباً إن استجاب الله لي، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض، فأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا
أربعين يوماً، فلما التفت بعدها رآه قائماً يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض، قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تأذن لي أن أرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام حولاً يتعبد فلا يفطر إلا في كل أربعين يوماً مرة، ولا ينفتل من صلاته إلا كذلك وربما مد إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض فلما حال الحول قال الأبيض برصيصا إن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً
مما رأيت، وكان بلغنا عنك أنك غير الذي رأيت فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد، وكره مفارقته للذي رآه من شدة اجتهاده فلما ودعه الأبيض قال له: إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهن خير مما أنت فيه، يشفي الله تعالى بها المريض، ويعافي بها المبتلى والمجنون، قال برصيصا: أني أكره هذه المنزلة لأن في نفسي شغلاً، وإني أخاف إن علم به الناس يشغلوني عن عبادة ربي عز وجل، فلم يزل به الأبيض حتى علمه ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال: والله قد أهلكت الرجل. فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فجننه، ثم جاءه في صورة رجل مطبب، فقال لأهله: إن بصاحبكم جنوناً أفأعالجه؟ قالوا: نعم، فقال: إني لا أقوى على جنيته، ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله تعالى فيعافيه. انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب، فانطلقوا به إليه فسألوه فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان، فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون. فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل، وكان لها ثلاثة أخوة، وكان أبوهم هو الملك فلما مات استخلف أخاه فكان عمها ملك بني إسرائيل قصد لها وخنقها، ثم جاء إليهم في صورة رجل مطبب فقال أفأعالجها؟ قالوا: نعم، قال: إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سأرشدكم إلى رجل تثقون به تدعونها عنده، إذا جاءها شيطانها دعا لها حتى تعلموا أنها قد عوفيت فتردونها صحيحة، قالوا: ومن هو؟ قال: برصيصاً، قالوا: كيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأناً من ذلك، قال: ابنوا صومعة إلى جنب صومعته، ولتكن لزيق صومعته حتى يشرف عليها فإن قبلها وإلا فتضعونها في صومعتها، ثم قولوا له: هي أمانة عندك فاحتسب أمانتك. فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فأبى، فبنوا صومعة على ما أمرهم به الأبيض، ووضعوا الجارية في صومعتها، وقالوا: يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك فاحتسب فيها، ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا من صلاته عاين الجارية، وما هي عليه من
الجمال فوقعت في قلبه، ودخل عليه أمر عظيم فجاءها الشيطان فخنقها فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا، فجاء الشيطان وقال: ويحك واقعها فلم تجد مثلها وستتوب بعد ذلك، ويتم لك ما تريد من الأمر فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل على ذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها، فقال له الشيطان: ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب، فإن سألوك فقل ذهب بها شيطانها ولم أقو عليه، فدخل فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل، فجاء الشيطان وهو يدفنها ليلاً فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجاً من التراب، ثم(4/254)
رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته؛ إذ جاء أخوتها يتعهدون أختهم، وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها ويوصونه بها، فلما لم يجدوها قالوا: يا برصيصا ما فعلت أختنا؟ قال: قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه، فصدقوه وانصرفوا فلما أمسوا مكروبين جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال: ويحك إن برصيصا فعل بأختك كذا وكذا، وإنه دفنها في موضع كذا وكذا، فقال الأخ: هذا حلم وهو من عمل الشيطان، برصيصا خير من ذلك فتابع عليه ثلاث ليال، فلم يكترث فانطلق إلى الأوسط بمثل ذلك، فقال الأوسط له ما قال الأكبر ولم يخبر به أحداً، فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك، فقال الأصغر لأخويه: والله لقد رأيت كذا وكذا، فقال الأوسط: أنا والله رأيت مثله، وقال الأكبر: أنا والله رأيت مثله. فانطلقوا إلى برصيصا وقالوا له: ما فعلت بأختنا؟ فقال: أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني، فقالوا: والله لا نتهمك واستحيوا منه وانصرفوا، فجاءهم الشيطان، وقال: ويحكم إنها مدفونة في موضع كذا وكذا، وإن طرف إزارها خارج من التراب. فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوا في النوم فذهبوا إليه ومعهم غلمانهم ومواليهم بالفؤوس والمساحي فهدموا صومعة برصيصا، وأنزلوه منها وكتفوه ثم أتوا به إلى الملك فأقرّ على نفسه، وذلك أنّ الشيطان أتاه فقال: تقتلها، ثم تكابر فيجتمع
عليك أمران
قتل ومكابرة اعترف. فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة، فلما صلب أتاه الأبيض فقال: يا برصيصاً تعرفني، قال: لا، قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات فاستجيب لك ويحك أما اتقيت الله تعالى في الأمانة خنت أهلها، وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل، أما استحيت فلم يزل يعيره، ثم قال: ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت نفسك وأشباهك من الناس، فإن مت على هذه الحالة فلم يفلح أحد من نظائرك، قال: فكيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة حتى أنجيك مما أنت فيه، فأخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك، قال: وما هي؟ قال: تسجد لي، قال: أفعل فسجد له فقال: يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك إني برئ منك» .
{
إني أخاف الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، والباقون بسكونها {رب العالمين} أي: الذي أوجدهم من العدم ورباهم بما يدل على جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا، فلا يغني أحد من خلقه عن أحد شيأ إلا بإذنه.
{فكان} أي: فتسبب عن قوله ذلك أنه كان {عاقبتهما} أي: الغار والمغرور {أنهما في النار} حال كونهما {خالدين فيها} لأنهما ظلما ظلماً لا فلاح معه {وذلك} أي: العذاب الأكبر {جزاء الظالمين} أي: كل من وضع العبادة في غير موضعها، أو هم الكافرون لقوله تعالى: {إنّ الشرك لظلم عظيم} (لقمان: 13)
قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: ضرب الله تعالى هذا المثل ليهود بني النضير، والمنافقين من أهل المدينة فدس المنافقون إليهم، وقالوا: لا تجيبوا محمداً إلى ما دعاكم إليه، ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم فأجابوهم، وإن أخرجوكم خرجنا معكم فأجابوهم فدربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين فناصبوهم الحرب فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصاً، وخذله فكان عاقبة الفريقين في النار.
قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما: وكانت الرهبان بعد ذلك(4/255)
في بني إسرائيل لا يمشون إلا بالتقية والكتمان، وطمع أهل الفسوق في الأحبار، ورموهم بالبهتان حتى كان أمر جريج الراهب، فلما برأه الله تعالى مما رموه به انبسطت بعده الرهبان، وظهروا للناس وكانت قصة جريج ما روي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلاً عابداً فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتت أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال رب أمي وصلاتي وأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته، فقال: مثل مقالته الأولى فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم، قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج فأتوه فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: زنيت بهذه البغي فحلمت منك، فقال: أين الصبيّ فجاؤوا به، فقال: دعوه حتى أصلي فلما انصرف من صلاته أتى الصبيّ وطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك، فقال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا. والثالث: كلم أمه وهي ترضعه في قصة مشهورة» .
{يا أيها الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان باللسان {اتقوا الله} أي: اجعلوا لكم وقاية تقيكم سخط الملك الأعظم باتباع أوامره واجتناب نواهيه، واحذروا عقوبته بسبب التقصير فيما حدّه لكم من أمر أو نهي {ولتنظر نفس ما قدّمت لغد} أي: في يوم القيامة لأنّ هذه الدنيا كلها كيوم واحد يجيء فيه ناس ويذهب آخرون، والموت والآخرة لا بدّ من كل منهما، وكل ما لا بدّ منه فهو في غاية القرب، والعرب تكني عن المستقبل بالغد.
وقيل: ذكر الغد تنبيهاً على أنّ الساعة قريبة كقول القائل: وإنّ غداً لناظره قريب. وقال الحسن وقتادة: قرب الساعة حتى جعلها كغد، لأنّ كل آت قريب، والموت لا محالة آت. ومعنى {ما قدمت} أي: من خير أو شر، ونكر النفس لاستقلال الأنفس التي تنظر فيما قدمت للآخرة، كأنه قال: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، ونكر الغد لتعظيمه وإبهام أمره كأنه قال: الغد لا تعرف كميته لعظمته. وقوله تعالى: {واتقوا الله} أي: الجامع لجميع صفات الكمال تأكيد.
وقيل: كرّر لتغاير متعلق التقويين فمتعلق الأولى أداء الفرائض لاقترانه بالعمل، والثانية ترك المعاصي لاقترانه بالتهديد والوعيد، قال معناه الزمخشري {إن الله} أي: الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا {خبير} أي عظيم الاطلاع على ظواهركم وبواطنكم والإحاطة {بما تعملون} فلا تعملون عملاً إلا كان بمرأى من ومسمع فاسحيوا منه.
{ولا تكونوا} أيها المحتاجون إلى التحذير وهم الذين آمنوا {كالذين نسوا الله} أي: أعرضوا عن أوامر ونواهي الملك الأعظم، وتركوهها ترك الناسين لمن برزت عنه مع ماله من صفات الجلال والإكرام {فأنساهم} أي: فتسبب عن ذلك أن أنساهم بماله من الإحاطة بالظواهر والبواطن {أنفسهم} أي: فلم يقدموا لها ما ينفعها، وإن قدموا شيئاً كان مشوباً بالمفسدات من الرياء والعجب فكانوا ممن قال فيه تعالى: {وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة} (الغاشية، الآيتان: 2 ـ 3)(4/256)
الآية لأنهم لم يدعوا باباً من أبواب الفسق، فإنّ رأس الفسق الجهل بالله، ورأس العلم ومفتاح الحكمة معرفة النفس فأعرف الناس بنفسه أعرفهم بربه {أولئك} أي: البعداء من كل خير {هم الفاسقون} أي: العريقون في المروق من دائرة الدين.
{لا يستوي} أي: بوجه من الوجوه {أصحاب النار} أي: التي هي محل الشقاء الأعظم {وأصحاب الجنة} أي: التي هي دار النعيم الأكبر لا في الدنيا ولا في الآخرة، واستدل بهذه الآية على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر {أصحاب الجنة هم الفائزون} أي: الناجون من كل مكروه المدركون لكل محبوب، وأصحاب النار هم الهالكون في الدارين كما وقع في هذه الغزوة لفريقي المؤمنين وبني النضير ومن والاهم من المنافقين فشتان ما بينهما.
{لو أنزلنا} أي: بعظمتنا التي أبانها هذا الإنزال {هذا القرآن} أي: الجامع لجميع العلوم الفارق بين كل ملتبس المبين لجميع الحكم {على جبل} أي جبل كان، أو جبل فيه تمييز كالإنسان {لرأيته} يا أشرف الخلق وإن لم يتأهل غيرك لتلك الرؤية {خاشعاً} أي: متذللاً باكياً {متصدّعاً} أي: متشققاً غاية التشقق {من خشية الله} أي: من الخوف العظيم ممن له الكمال كله، وفي هذا حث على تأمّل مواعظ القرآن وتدبر آياته {وتلك الأمثال} أي: التي لا يضاهيها شيء {نضربها للناس لعلهم يتفكرون} فيؤمنون.
والمعنى: أنا لو أنزلنا هذا القرآن على الجبل لخشع لوعده، وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المشهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده، والغرض من هذا الكلام التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار وغلظ طباعهم، ونظيره {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} (البقرة: 74)
وقيل الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: لو أنزلنا هذا القرآن يا محمد على جبل لما ثبت وتصدّع من نزوله عليه، وقد أنزلناه عليك وثبتناك له فيكون ذلك امتناناً عليه أن ثبته لما لم تثبت له الجبال.
وقيل: إنه خطاب للأمة، والمعنى: لو أنذر بهذا القرآن الجبال لتصدّعت من خشية الله تعالى، والإنسان أقل قوة وأكثر ثباتاً فهو يقوم بحقه إن أطاع، ويقدر على ردّه إن عصى لأنه موعود بالثواب ومزجور بالعقاب.
ولما وصف تعالى القرآن بالعظم، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف أتبع ذلك بوصف عظمته تعالى، فقال عز من قائل: {هو} أي: الذي وجوده من ذاته فلا عدم له بوجه من الوجوه، فلا شيء يستحق الوصف بهو غيره لأنه الموجود دائماً أزلاً وأبداً فهو حاضر في كل ضمير غائب بعظمته عن كل حس، فلذلك تصدّع الجبل من خشيته ولما عبر عنه بأخص أسمائه أخبر عنه لطفاً بنا وتنزلاً لنا بأشهرها الذي هو مسمى الأسماء كلها بقوله تعالى: {الله} أي: المعبود الذي لا ينبغي العبادة والألوهية الإله {الذي لا إله إلا هو} فإنه لا مجالس له، ولا يليق ولا يصح ولا يتصوّر أن يكافئه، أو يدانيه شيء والإله أول اسم لله تعالى فلذلك لا يكون أحد مسلماً إلا بتوحيده، فتوحيده فرض وهو أساس كل فريضة {عالم الغيب} أي: الذي غاب عن جميع خلقه {والشهادة} أي: الذي وجد فكان يحسه ويطلع عليه بعض خلقه. وقال ابن عباس: معناه عالم السرّ والعلانية، وقيل: ما كان وما يكون. وقال سهل: عالم بالآخرة والدنيا، وقيل: استوى في علمه السرّ والعلانية والموجود والمعدوم. وقوله تعالى: {هو الرحمن(4/257)
الرحيم} معناه ذو الرحمة، ورحمة الله تعالى إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى خلقه. وقيل: إنّ رحمن أشدّ مبالغة من رحيم، ولهذا قيل: هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأنه تعالى بإحسانه في الدنيا يعم المؤمن والكافر، وفي الآخرة يختص إنعامه وإحسانه بالمؤمنين.
{هو الله} أي: الذي لا يقدر على تعميم الرحمة لمن أراد وتخصيصها بمن شاء إلا هو {الذي لا إله} أي: لا معبود بحق {إلا هو الملك} أي: فلا ملك في الحقيقة إلا هو لأنه لا يحتاج إلى شيء، لأنه مهما أراد كان فهو متصرّف بالأمر والنهي في جميع خلقه، فهم تحت ملكه وقهره وإرادته {القدوس} أي: البليغ في النزاهة عن كل وصم يدركه حس، أو يتصورّه خيال، أو يسبق إليه وهم، أو يختلج إليه ضمير.
ونظيره: السبوح وفي تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح {السلام} أي: الذي سلم من النقائص وكل آفة تلحق الخلق، فهو بمعنى السلامة ومنه دار السلام وسلام عليكم وصف به مبالغة في وصف كونه سليماً من النقائص، أو في إعطائه السلامة {المؤمن} قال ابن عباس: هو الذي أمن الناس من ظلمه، وأمن من آمن به عذابه. وقيل: هو المصدّق لرسله بإظهار المعجزات لهم، والمصدّق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب وبما أوعد الكافرين من العذاب. وقال مجاهد: المؤمن الذي وحد نفسه لقوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو} (آل عمران: 18)
قال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة أخرج أهل التوحيد من النار، وأوّل من يخرج من وافق اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبق فيها من وافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى لباقيهم: أنتم المسلمون وأنا السلام وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة هذين الاسمين {المهيمن} قال ابن عباس أي الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء، وقيل: هو القائم على خلقه بقدرته، وقيل: هو الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن قلبت همزته هاء {العزيز} أي: الذي لا يوجد له نظير، وقيل: هو الغالب القاهر {الجبار} الذي جبر خلقه على ما أراده، أو جبر حالهم بمعنى أصلحه، والجبار في صفة الله صفة مدح، وفي صفة الناس صفة ذم وكذا قوله تعالى: {المتكبر} أي: الذي تكبر على كل ما يوجب حاجة أو نقصاً، وهو في حقه تعالى صفة مدح لأنه له جميع صفات العلوّ والعظمة، وفي صفة الناس صفة ذم لأنّ المتكبر هو الذي يظهر من نفسه التكبر، وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علوّ بل له الحقارة والذلة، فإذا أظهر الكبر كان كذاباً في فعله {سبحان الله} أي: تنزه الملك إلا على الذي اختص بجميع صفات الكمال تنزهاً لا تدرك العقول منه أكثر من أنه علا عن أوصاف الخلق فلا يدانيه شيء من نقص تعالى: {عما يشركون} أي: من هذه المخلوقات من الأصنام وغيرها مما في الأرض، أو في السماء من صغير وكبير وجليل وحقير.
{هو} أي: الذي لا شيء يستحق أن يطلق عليه هذا الضمير غيره لأنّ وجوده من ذاته، ولا شيء غيره إلا وهو ممكن ولما ابتدأ بهذا الغيب المحض الذي هو أظهر الأشياء أخبر عنه بأشهر الأشياء الذي لم يقع فيه شركة بوجه. فقال تعالى: {الله} أي: الذي ليس له سميّ فلا كفء له فهو المعبود بالحق فلا شريك له بوجه {الخالق} أي: المقدر للأشياء على مقتضى حكمته {البارئ} أي: المخترع المنشئ للأشياء من العدم إلى الوجود برياً من التفاوت وقوله تعالى: {المصور} أي: الذي يخلق(4/258)
صور الأشياء على ما يريد بكسر الواو ورفع الراء إما صفة، وإمّا خبر واحترزت بهذا الضبط عن قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن فإنهما قرأا بفتح الواو ونصب الراء، وهي قراءة شاذة وإنما تعرّضت لها لأبين وجهها، وهو أن تخرّج هذه القراءة على أن يكون المصور منصوباً بالبارئ، والمصوّر هو الإنسان إمّا آدم وإما هو وبنوه وعلى هذه القراءة يحرم الوقف على المصوّر بل يجب الوصل ليظهر النصب في الراء، وإلا فقد يتوهم منه في الوقف ما لا يجوز {له} أي: خاصة {الأسماء الحسنى} التسعة والتسعون الوارد فيها الحديث، وقد ذكرتها في سورة الإسراء. والحسنى تأنيث الأحسن {يسبح} أي: يكرّر التنزيه الأعظم عن كل شيء من شوائب النقص على سبيل التجدّد والاستمرار {له} أي: على وجه التخصيص {ما في السموات} أي السموات وما فيها {والأرض} وما فيها {وهو} أي: والحال أنه وحده {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الجامع الكمالات بأسرها فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم. وعن معقل بن يسار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاث آيات من سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قاله حين يمسي كان كذلك» .
أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب. وعن أبي هريرة أنه قال: «سألت خليلي أبا القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال: عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها فأعدت عليه فأعاد علي» وقال جابر بن زيد: إنّ اسم الله الأعظم هو الله لمكان هذه الآية. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال «من قرأ سورة الحشر غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر» حديث موضوع.
سورة الممتحنة
مدنية وهي ثلاث عشرة آية وثلاثمائة وثمانوأربعون كلمة وألف وخمسمائة وعشرة أحرف
{بسم الله} الذي من تولاه أغناه عمن سواه {الرحمن} الذي شمل برحمة البيان من حاطه بالعقل ورعاه {الرحيم} الذي خص بالتوفيق من أحبه وارتضاه ونزل في حاطب بن أبي بلتعة.
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّى} أي: وأنتم تدّعون موالاتي {وعدوّكم} أي: العريق في عدواتكم ما دمتم على مخالفته في الدين {أولياء} وذلك ما روي «أنّ مولاة لأبي عمرو بن صيفي يقال لها: سارة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح، فقال لها: أمسلمة جئت، قالت: لا، قال: أفمهاجرة جئت، قالت: لا، قال: فما جاء بك، قالت: كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي تعني قتلوا يوم بدر فاحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني، فقال صلى الله عليه وسلم فأين أنت عن شباب أهل مكة وكانت مغنية نائحة قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب على إعطائها، فكسوها وحملوها وزوّدوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً، واستحملها(4/259)
كتاباً لأهل مكة نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، إعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، وقد توجه إليكم بجيش كالليل وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله تعالى بكم، وأنجز له موعده فيكم فالله وليه وناصره فخرجت سارة، ونزل جبريل عليه السلام بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، وعماراً، وعمر، وطلحة، والزبير، والمقداد، وأبا مرثد، وكانوا فرساناً، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها، فإن أبت فاضربوا عنقها. فادركوها فجحدت وحلفت ما معها كتاب ففتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً فهموا بالرجوع، فقال عليّ: والله ما كذبنا، ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّ سيفه، وقال: أخرجي الكتاب، وإلا والله لأجردنك ولأضربنّ عنقك، فلما رأت الجدّ أخرجته من عقاص شعرها فخلوا سبيلها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة:
هي أحدهم فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، وقال له: هل تعرف هذا الكتاب، قال: نعم، قال: فما حملك عليه، فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش، وروى عزيزاً فيهم أي: غريباً ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً، وقد علمت أنّ الله تعالى ينزل عليهم بأسه، وإنّ كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدّقه وقبل عذره، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: «وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ففاضت عينا عمر» ، وقال: الله ورسوله أعلم. وإضافة العدوّ إلى الله تعالى تغليظاً في خروجهم، وهذه السورة أصل في النهي عن موالاة الكفار، وتقدّم نظيره في قوله تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء} (آل عمران: 28)
وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم} (آل عمران: 118)
روي أنّ حاطباً لما سمع {يا أيها الذين آمنوا} غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان.
ثم إنه تعالى استأنف بيان هذا الاتخاذ بقوله تعالى مشيراً إلى غاية الإسراع والمبادرة إلى ذلك بالتعبير بقوله تعالى: {تلقون} أي: جميع ما هو في حوزتكم مما لا تطمعون فيه إلقاء الشيء الثقيل من علو {إليهم} على بعدهم منكم حساً، ومعنى {بالمودّة} أي: بسببها قال القرطبي: تلقون إليهم بالمودّة، يعني: بالظاهر لأنّ قلب حاطب كان سليماً بدليل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أمّا صاحبكم فقد صدق» هذا نص في إسلامه وسلامة فؤاده وخلوص اعتقاده. وقرأ حمزة بضم الهاء، والباقون بكسرها. وقوله تعالى: {وقد كفروا} أي: غطوا جميع مالكم من الأدلة {بما} أي: بسبب ما {جاءكم من الحق} أي: الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي لا شيء أعظم ثباتاً منه فيه أوجه:
أحدها: الاستئناف.
ثانيها: الحال من فاعل تتخذوا.
ثالثها: الحال من فاعل تلقون، أي: لا تتولوهم ولا توادّوهم، وهذه حالهم. وقوله تعالى: {يخرجون الرسول} يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون تفسير الكفر هم فلا محل له على هذين، وأن يكون حالاً(4/260)
من فاعل كفروا. وقوله تعالى: {وآياكم} عطف على الرسول وقدم عليهم تشريفاً له صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {أن تؤمنوا} أي: توقعوا حقيقة الإيمان مع التجدّد والاستمرار {بالله} أي: الذي اختص بجميع صفات الكمال {ربكم} أي: المحسن إليكم تعليل ليخرجون، والمعنى: يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة لأن تؤمنوا بالله، أي: لأجل إيمانكم بالله.
قال ابن عباس: وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك تغليب المخاطب والإلتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان {إن كنتم خرجتم} أي: عن أوطانكم، وقوله تعالى: {جهاداً في سبيلي} أي: بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها {وابتغاء مرضاتي} أي: ولأجل تطلبكم أعظم الرغبة لرضاي علة للخروج، وعمدة للتعليق، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه لا تتخذوا. وقرأ الكسائي بالإمالة محضة، والباقون بالفتح. وقوله تعالى: {تسرون} أي: توجدون جميع ما يدل على مناصحتكم إياهم والتودّد {إليهم بالمودّة} أي: بسببها بدل من تلقون قاله ابن عطية. قال ابن عادل: ويشبه أن يكون بدل اشتمال لأنّ القاء المودّة يكون سرّاً وجهراً، أو استئناف واقتصر عليه الزمخشري {وأنا} أي: والحال أني {أعلم} أي: من كل أحد حتى من نفس الفاعل، وقرأ نافع بمدّ الألف بعد النون {بما أخفيتم وما أعلنتم} قال ابن عباس: بما أخفيتم قي صدوركم وما أظهرتم بألسنتكم، أي: فأي فائدة لأسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة {ومن يفعله} أي: يوجد أسرار خبر إليهم ويكاتبهم {منكم} أي: في وقت من الأوقات {فقد ضلّ} أي: عمي ومال وأخطأ {سواء السبيل} أي: قويم الطريق الواسع الموصل إلى القصد قويمه وعدله. قال القرطبي: هذا كله معاتبة لحاطب، وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه فإنّ المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب، كما قال القائل:
*إذا ذهب العتاب فليس ودّ ... ويبقى الودّ ما بقي العتاب*
وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الضاد، والباقون بالإدغام.
{إن يثقفوكم} أي: يظفروا بكم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن {يكونوا لكم أعداء} أي: ولا ينفعكم القاء المودّة إليهم {ويبسطون إليكم} أي: خاصة، وإن كان هناك في ذلك الوقت من غير من قتل أعز الناس عليهم {أيديهم} أي: بالضرب أن استطاعوا {وألسنتهم} أي: بالشتم مضمومة إلى فعل أيديهم فعل من ضاق صدره بما تجرّع من آخر من الغصص حتى أوجب له غاية السفه {بالسوء} أي: بكل ما من شأنه أن يسوء {وودّوا} أي: تمنوا قبل هذا {لو تكفرون} لأنّ مصيبة الدين أعظم فهو إليها أسرع، لأنّ دأب العدوّ القصد إلى أعظم ضرر يراه لعدوّه، وعبر بما يفهم التمني الذي يكون في المحالات ليكون المعنى أنهم أحبوا ذلك غاية الحب وتمنوه، وفيه بشرى بأنه من قبيل المحال، وقدم الأوّل لأنه أبين في العداوة وإن كان الثاني أنكى.
ولما كانت عداوتهم معروفة، وإنما غطاها محبة القرابات لأنّ الحب للشيء يعمي ويصم فخطأ رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالهم، فقال تعالى مستأنفاً إعلاماً بأنها خطأ على كل حال.(4/261)
{لن تنفعكم} بوجه من الوجوه {أرحامكم} أي: قراباتكم الحاملة لكم على رحمتكم والعطف عليهم {ولا أولادكم} أي: الذين هم أخص أرحامكم إن واليتم أعداء الله تعالى لأجلهم، فينبغي أن لا تعدّوا قربهم منكم بوجه أصلاً، ثم علل ذلك وبينه بقوله تعالى: {يوم القيامة} أي: القيام الأعظم {يفصل} أي: يوقع الفصل، وهو الفرقة العظيمة بانقطاع جميع الأسباب. وقرأ عاصم بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخففة، وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح الفاء وفتح الصاد مشددة، وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما يكسران الصاد، والباقون بضم الياء وسكون الفاء {بينكم} أي: أيها الناس فيدخل من يشاء من أهل طاعته الجنة، ومن يشاء من أهل معصيته النار فلا ينفع أحد أحداً منكم بشيء من الأشياء، إلا إن كان قد أتى الله تعالى بقلب سليم فيأذّن الله تعالى في إكرامه بذلك {والله} أي: الذي له الإحاطة التامّة {بما تعملون} أي: من كل عمل في كل وقت {بصير} فيجازيكم عليه في الدنيا والآخرة.
ولما نهى تعالى عن موالاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنّ من سيرته التبري من الكفار بقوله تعالى:
{قد كانت} أي: وجدت وجوداً تامّاً، وكأنّ تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها، ولو كانت على أدنى الوجوه {لكم} أي: أيها المؤمنون {أسوة} أي موضع اقتداء وتأسية في إبراهيم وطريقة مرضية. وقرأ أسوة في الموضعين عاصم بضم الهمزة، والباقون بكسرها {حسنة} أي: يرغب فيها {في إبراهيم} أي: في قول أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {والذين معه} أي: ممن كان قبله من الأنبياء. قاله القشيري: وممن آمن به في زمانه كابن أخته لوط عليه الصلاة والسلام، وهم قدوة أهل الجهاد والهجرة، وقيل: المراد بمن معه أصحابه من المؤمنين. وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها، والباقون بكسر الهاء وبعدها ياء أي: فاقتدوا به إلا في استغفاره لأبيه.
قال القرطبي: الآية نص في الأمر بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في فعله، وذلك يدل على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله، وقيل: إنه شرع لنا إذا ورد في شرعنا ما يقرره، وقيل: ليس بشرع لنا مطلقاً وهو الأصح عندنا {إذ} أي: حين {قالوا} وقد كان من آمن به أقل منكم وأضعف {لقومهم} أي: الكفرة وقد كانوا أكثر من عدوّكم وأقوى، وكان لهم فيهم أرحام وقرابات، ولهم فيهم رجاء بالقيام والمحاولات {أنا براء} أي: متبرؤن تبرئة عظيمة {منكم} وإن كنتم أقرب الناس إلينا، ولا ناصر لنا منهم غيركم {ومما تعبدون} أي: توجدون عبادته في وقت من الأوقات {من دون الله} أي: الملك الأعظم {كفرنا بكم} أي: جحدناكم وأنكرنا دينكم {وبدا} أي: ظهر ظهوراً عظيماً {بيننا وبينكم العداوة} وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل أحد على الآخر {والبغضاء} وهي المباينة بالقلوب للبغض العظيم.
ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا: {أبداً} أي: على الدوام. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة بعد المضمومة واواً خالصة، والباقون بتحقيقها وهم على مراتبهم في المدّ، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر، ولهما أيضاً التسهيل مع المدّ والقصر والروم معهما. ولما كان ذلك مؤيساً من صلاح(4/262)
الحال، وقد يكون لحظ النفس بينوا غايته بقولهم: {حتى تؤمنوا بالله} أي: الملك الذي له الكمال كله {وحده} أي: تكونوا مكذبين بكل ما يعبد من دون الله تعالى، وقوله تعالى: {إلا قول إبراهيم لأبيه} فيه أوجه:
أحدها: إنه استثناء متصل من قوله تعالى في إبراهيم، ولكن لا بدّ من حذف مضاف ليصح الكلام، تقديره في مقالات إبراهيم: إلا قوله كيت وكيت.
ثانيها: إنه مستثنى من أسوة حسنة، واقتصر على ذلك الجلال المحلي، وجاز ذلك لأنّ القول أيضاً من جملة الأسوة، لأنّ الأسوة الاقتداء بالشخص في أقواله وأفعاله فكأنه قيل لكم فيه أسوة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا، وهو أوضح لأنه غير محوج إلى تقدير مضاف، وغير مخرج للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله إلى الانقطاع، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره.
ثالثها: قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الاستثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت، أي: لم تبق صلة إلا كذا.
رابعها: إنه استثناء منقطع، أي: لكن قول إبراهيم وهذا بناء من قائله على أنّ القول لم يندرج تحت قوله أسوة، وهو ممنوع. قال القرطبي: معنى قوله تعالى إلا قول إبراهيم لأبيه {لأستغفرنّ لك} أي: فلا تتأسوا به في الاستغفار فتستغفروا للمشركين فإنه كان عن موعدة منه له، قاله قتادة ومجاهد وغيرهما. وقيل: معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه، ثم بين عذره في سورة التوبة، وفي هذا دلالة على تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء، لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمراً مطلقاً في قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم استثنى بعض أفعاله، وهذا إنما جرى لأنه ظنّ أنه أسلم فلما بان أنه لم يسلم تبرّأ منه، وعلى هذا فيجوز الاستغفار لمن يظنّ أنه أسلم، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظنّ فلم توالونهم. وقوله {وما أملك لك من الله} أي: من عذاب أو ثواب الملك إلا على المحيط بنعوت الجلال {من شيء} من تمام قوله المستثنى، ولا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أحواله.
وقوله: {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا {عليك} أي: لا على غيرك {توكلنا} أي: فوّضنا أمرنا إليك يجوز أن يكون من مقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه، فهو من جملة الأسوة الحسنة، وفصل بينهما بالاستثناء ويجوز أن يكون منقطعاً عما قبله على إضمار قول، وهو تعليم من الله تعالى لعباده كأنه قال لهم قولوا ربنا عليك توكلنا {وإليك} أي: وحدك {أنبنا} أي: رجعنا بجميع ظواهرنا وبواطننا {وإليك} أي وحدك {المصير} أي: الرجوع في الآخرة.
{ربنا} أي: أيها المربي لنا والمحسن إلينا {لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} أي: بأن تسلطهم علينا فيفتنوننا بعذاب لا نحتمله، أو فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك. وقيل: لا تعذبنا بعذاب من عندك فيقولون لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك. وقيل: لا تسلط عليهم الرزق دوننا، فإنّ ذلك فتنة لهم {واغفر لنا} أي: استر ما وقع منا من الذنوب، وامح عينه وأثره {ربنا} أي: أيها المحسن إلينا وأكدوا إعلاماً بشدّة رغبتهم في حسن الثناء عليه فقالوا: {إنك أنت} أي: وحدك لا غيرك {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء، ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الذي يضع الأشياء في أوفق محالها فلا يستطاع نقضها، ومن كان كذلك فهو حقيق بأن يعطى من أمله ما طلب.
وقوله تعالى:(4/263)
{لقد كان لكم} أي: يا أمّة محمد جواب قسم مقدّر {فيهم} أي: إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء {أسوة حسنة} أي: في التبري من الكفار، وكرّر للتأكيد. وقيل: نزل الثاني بعد الأول بمدّة. قال القرطبي: وما أكثر المكرّرات في القرآن على هذا الوجه. وقوله تعالى: {لمن كان يرجو الله} أي: الملك المحيط بجميع صفات الكمال {واليوم الآخر} أي: الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير بدل من الضمير في لكم بدل بعض من كل، وفي ذلك بيان أنّ هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة {ومن يتول} أي: يوقع الأعراض عن أوامر الله تعالى فيوالي الكفار {فإن الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {هو} أي: خاصة {الغنيّ} أي: عن كل شيء {الحميد} أي: الذي له الحمد المحيط لإحاطته بأوصاف الكمال، فهو حميد في نفسه وصفاته، أو حميد إلى أوليائه وأهل طاعته.
ولما نزلت الآية الأولى عادى المسلمون أقرباءهم من المشركين، فعلم الله تعالى شدّة وجد المسلمين في ذلك فنزل {عسى الله} أي: أنتم جديرون بأن تطمعوا في الملك إلا على المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {أن يجعل} أي: بأسباب لا تعلمونها {بينكم وبين الذين عاديتم منهم} أي: كفار مكة {مودة} أي: بأن يلهمهم الإيمان فيصيروا لكم أولياء، وقد جعل ذلك عام الفتح تحقيقاً لما رجاه سبحانه، لأنّ عسى من الله تعالى وعد، وهو لا يخلف الميعاد {والله} أي الذي له كمال الإحاطة {قدير} أي: بالغ القدرة على كل ما يريده، فهو يقدر على تقليب القلوب وتيسير العسير {والله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {غفور} أي: محاء لا عيان الذنوب وآثارها {رحيم} يكرم الخاطئين إذا أراد بالتوبة، ثم بالجزاء غاية الإكرام فيغفر لما فرط منكم في موالاتهم من قبل، وما بقي في قلوبكم من ميل الرحم وقوله تعالى:
{لا ينهاكم الله} أي: الذي اختص بالجلال والإكرام {عن الذين لم يقاتلوكم} أي: بالفعل {في الدين} الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم. قال ابن زيد: هذا كان في أوّل الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ. قال قتادة: نسخها {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} (التوبة: 5)
وقال ابن عباس: نزلت في خزاعة، وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً، فرخص الله تعالى في برّهم.
وقال أكثر أهل التأويل: إنها محكمة، واحتجوا بأنّ أسماء بنت أبي بكر قدمت أمّها وهي مشركة عليها المدينة بهدايا، فقالت أسماء: لا أقبل منك هدية، ولا تدخلي علي بيتاً حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخل منزلها، وأن تقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها، وفي ذلك إشارة إلى الاقتصار في العداوة والولاية، كما قال صلى الله عليه وسلم «أحبب حبيبك هوناً مّا عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً مّا عسى أن يكون حبيبك يوماً ما» وروى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه «أنّ أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه طلق امرأته قتيلة في الجاهلية، وهي أمّ أسماء بنت أبي بكر فقدمت عليهم في المدّة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله(4/264)
عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين} . {ولم يخرجوكم من دياركم أن} أي: لا ينهاكم عن أن {تبروهم} بنوع من أنواع البرّ الظاهرة، فإنّ ذلك غير صريح في قصد المودّة {وتقسطوا إليهم} أي: تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة قال ابن العربي: وليس يريد به من العدل، فإنّ العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل وحكي أن القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه فأخذ عليه الحاضرون في ذلك فتلا عليهم هذه الآية {إن الله} أي: الذي له الكمال كله {يحب} أي: يثيب {المقسطين} أي: الذين يزيلون الجور، ويوقعون العدل.
{إنما ينهاكم الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة {عن الذين قاتلوكم} أي: جاهدوكم متعمدين لقتالكم {في الدين} أي: عليه فليس شيء من ذلك خارجاً عنه {وأخرجوكم من دياركم} أي بأنفسهم لبغضكم، وهم عتاة أهل مكة {وظاهروا} أي: عاونوا غيرهم {على إخراجكم} وهم مشركوا مكة. وقوله تعالى: {أن تولوهم} بدل اشتمال من الذين أي: تتخذوهم أولياء. وقرأ البزي بتشديد التاء، والباقون بالتخفيف.
ولما كان التقدير فمن أطاع فأولئك هم المفلحون عطف عليه قوله تعالى: {ومن يتولهم} أي: يكلف نفسه الحمل على غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من المنابزة، وأطلق ولم يقيد بمنكم ليعم المهاجرين وغيرهم، والمؤمنين وغيرهم {فأولئك} أي: الذين أبعدوا عن العدل {هم الظالمون} أي: الغريقون في إيقاع الأشياء في غير مواضعها.
ولما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة فبين أحكام مهاجرة النساء بقوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا} أي: أقرّوا بالإيمان {إذا جاءكم المؤمنات} أي: بأنفسهن {مهاجرات} أي: من الكفار بعد الصلح معهم في الحديبية {فامتحنوهنّ} أي: بالحلف أنهنّ ما هاجرن إلا رغبة في الإسلام، لا بغضاً في أزواجهن الكفار، ولا عشقاً لرجال من المسلمين. كذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفهنّ.
قيل: إنّ سبب الامتحان أنه كان من أرادت منهنّ إضرار زوجها قالت: سأهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بامتحانهنّ {الله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {أعلم} أي: منكم ومن أنفسهنّ {بإيمانهنّ} هل هو كائن، أم لا على وجه الرسوخ، أم لا فإنه المحيط بما غاب كإحاطته بما شوهد، وإنما وكل الأمر إليكم في ذلك ستراً للناس {فإن علمتموهنّ مؤمنات} أي: العلم الممكن لكم، وهو الظنّ المؤكد بالإمارات الظاهرات بالحلف وغيره {فلا ترجعوهنّ} أي: بوجه من الوجوه {إلى الكفار} وإن كانوا أزواجاً. قال ابن عباس: لما جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أنّ من أتاه من أهل مكة ردّه إليهم جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد فأقبل زوجها وكان كافراً وكان صيفي بن الراهب، وقيل: مسافر المخزومي فقال: يا محمد أردد علي امرأتي فأنت شرطت ذلك، وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي «أنّ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء أهلها(4/265)
يسألونه أن يردّها، وقيل: هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد، فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ردّها علينا للشرط، فقال صلى الله عليه وسلم كان الشرط في الرجال لا في النساء فأنزل الله تعالى هذه الآية» . وعن عروة قال كان مما اشترط سهل بن عمرو على النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديبية أن لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وأبى سهل إلا ذلك، فكاتبه النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا ردّه في تلك المدّة، وإن كان مسلماً حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل، وهذا يومي إلى
أنّ الشرط في ردّ النساء نسخ بذلك، وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. وقال بعض العلماء: كله منسوخ بالقرآن، وقالت طائفة: لم يشترط ردّهنّ في العقد لفظاً، وإنما أطلق العقد في ردّ من أسلم فكان ظاهر العموم اشتماله عليهنّ مع الرجال، فبين الله تعالى خروجهنّ عن عمومه وفرق بينهنّ وبين الرجال لأمرين: أحدهما: أنهنّ ذوات فروج فحرمن عليهنّ، الثاني: أنهنّ أرق قلوباً وأسرع تقلباً منهم، فأما المقيمة منهنّ على شركها فمردودة عليهم {لا هنّ} أي: المؤمنات {حلّ} أي: موضع حلّ ثابت {لهم} أي: الكفار باستمتاع، ولا غيره. وقوله تعالى: {ولا هم} أي: رجال الكفار {يحلون لهنّ} أي: المؤمنات تأكيد للأوّل لتلازمهما. وقال البيضاوي: والتكرير للمطابقة والمبالغة، والأولى لحصول الفرقة، والثانية للمنع عن الاستئناف.
وقيل: أراد استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل كما هو في الحال ما داموا مشركين، وهنّ مؤمنات. والمعنى: لم يحل الله تعالى مؤمنة لكافر في حال من الأحوال، وهذا أدل دليل على أنّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها الكافر إسلامها لا هجرتها. وقال أبو حنيفة: الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين، والصحيح كما قال ابن عادل: الأول لأنّ الله تعالى بين العلة، وهو عدم الحل بالإسلام لا باختلاف الدار.
ولما نهى عن الردّ وعلله أمر بما قدم من الأقساط إليهم فقال تعالى: {وآتوهم} أي: أعطوا الأزواج {ما أنفقوا} أي: عليهنّ من المهور، فإنّ المهر في نظير أصل العشرة ودوامها، وقد فوتتها المهاجرة فلا يجمع عليه خسارتان الزوجية والمالية وأما الكسوة والنفقة فأنهما لما يتجدّد من الزمان.
تنبيه: أمر الله تعالى برد ما أنفقوا إلى الأزواج، وإنّ المخاطب بهذا الإمام. وهل يجب ذلك أو يندب؟ ظاهرة الآية الوجوب، ولكن رجح الندب وعليه الشافعي، لأنّ البضع ليس بمال فلا يشمله الأمان كما لا يشمل زوجية، والآية وإن كان ظاهرها الوجوب محتملة للندب الصادق بعدم الوجوب الموافق للأصل وقال مقاتل: يردّ المهر للذي يتزوّجها من المسلمين، وليس لزوجها الكافر شيء. وقال قتادة: الحكم في ردّ الصداق إنما هو في نساء أهل الذمّة، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد عليهم الصداق. قال القرطبي: والأمر كما قال {ولا جناح} أي: حرج وميل {عليكم} يا أيها المشرفون بالخطاب {أن تنكحوهنّ} أي: تجدّدوا زواجكم بهنّ بعد الاستبراء، وإن كان أزواجهنّ من الكفار لم يطلقوهنّ لزوال العلق عنهنّ لأنّ الإسلام فرق بينهم، قال(4/266)
الله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (النساء: 141)
ولما كان قد أمر برد مهور الكفار فكان ربما ظنّ أنه مغن عن تجديد مهر لهنّ إذا نكحهنّ المسلم نفى ذلك بقوله: {إذا آتيتموهنّ} أي: لأجل النكاح {أجورهنّ} أي: مهورهنّ، وفي شرط أثناء المهر في نكاحهنّ إيذان بأن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} جمع عصمة، وهي هنا عقد النكاح، أي: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّ بها فقد انقطعت عصمتها فلا يكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية، والكوافر جمع كافرة كضوارب في ضاربة. قال النخعي: المراد بالآية هي المرأة المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر، وكان الكفار يتزوّجون المسلمات، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما بمكة وأمّ كلثوم بنت عمر والخزاعية أم عبد الله بن المغيرة فتزوجها أبو جهم بن حذافة، وهما على شركهما بمكة فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية: طلق قريبة فلا يرى عمر سلبه في بيتك فأبى معاوية، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ففرق الإسلام بينهما، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص، وكانت ممن فرت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار فحبسها وزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية. وقال الشعبي: كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وأقام أبو العاص بمكة مشركاً، ثم أتى المدينة وأسلم فردّها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم روى أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس بالنكاح الأوّل، ولم يحدث شيئاً. قال محمد بن عمرو في حديث بعد ست سنين، وقال الحسن بن علي: بعد سنتين، قال أبو عمر: فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين: إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها، وإما أنّ الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى: {وبعولتهن أحق
بردّهن في ذلك} يعني: في عدّتهن، وهذا مما لا خلاف فيه أنه عنى به العدّة قال الزهري في قصة زينب: هذه كانت قبل أن تنزل الفرائض، وقال قتادة: كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بينهم وبين المشركين.
تنبيه: المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها. وقيل: هي عامّة نسخ منها نساء أهل الكتاب، فعلى الأول: إذا أسلم وثني، أو مجوسي ولم تسلم أمرأته فرق بينهما، وهو قول بعض أهل العلم منهم مالك والحسن وطاوس وعطاء وعكرمة وقتادة لقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} وقال بعضهم: ينتظر بها تمام العدّة، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد، واحتجوا بأن أبا سفيان بن الحارث أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه بمرّ الظهران، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال، ثم أسلمت بعده بأيام فاستقرّا على نكاحهما لأنّ عدتها لم تكن انقضت، قالوا: ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما. قال الشافعي: ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى: {بعصم الكوافر} لأنّ نساء المؤمنين محرمات على الكفار كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر الوثنيات ولا المجوسيات لقوله تعالى:(4/267)
{لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} ثم بينت السنة أن مراد الله تعالى من قوله هذا: أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا إن أسلم الثاني منهما في العدّة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه في الكافرين الذمّيين: إذا أسلمت المرأة عرض على الزوج الإسلام فإن أسلم، وإلا فرق بينهما، قالوا: ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعاً في دار الحرب، أو في دار الإسلام، وإن كان أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما، وقد تقدمّ أنّ اعتبار الدار ليس بشيء، وهذا الخلاف إنما هو في المدخول بها.
فأمّا غير المدخول بها فلا نعلم خلافاً في انقطاع العصمة بينهما إذ لا عدّة عليها، وكذا يقول مالك في المرأة يرتد زوجها المسلم تنقطع العصمة بينهما لقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح وقال الشافعي وأحمد: ينتظر بها تمام العدّة، فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة فذهب مالك والشافعي وأحمد إلى تمام العدّة، وهو قول مجاهد، وكذا الوثني تسلم زوجته إن أسلم في عدّتها فهو أحق بها، كما أن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدّتهما لما ذكر مالك في الموطأ.
قال بعض العلماء: كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو من شهر، قال: ولم يبلغنا أنّ امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي عدتها. وقال بعضهم: ينفسخ النكاح بينهما لما روى يزيد بن علقمة قال: أسلم جدّي ولم تسلم جدّتي ففرق بينهما عمر، وهو قول طاوس وعطاء والحسن وعكرمة قالوا: لا سبيل له عليها إلا بخطبة {واسألوا} أي: أيها المؤمنون الذين ذهبت زوجاتهم إلى الكفار مرتدّات {ما أنفقتم} أي: من مهور نسائكم {وليسألوا} أي: الكفار {ما أنفقوا} أي: من مهور أزواجهم اللائي أسلمن. قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدّات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار: هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين: إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة ردّوا إلى الكفار مهرها، وكان ذلك نصفاً وعدلاً بين الحالين {ذلكم} أي: الحكم الذي ذكر في هذه الآيات البعيدة تعلق الرتبة عن كل سفيه {حكم الله} أي: الملك الذي له صفات الكمال، فلا تلحقه شائبة نقص {يحكم} أي: الله إذ حكمه على سبيل المبالغة {بينكم} أي: في هذا الوقت وفي غيره على هذا المنهاج البديع، وذلك لأجل الهدنة التي كانت وقعت بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبينهم، وأمّا قبل الحديبية فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يمسك النساء ولا يردّ الصداق {والله} أي: الذي له الإحاطة التامّة {عليم} أي: بالغ العلم لا يخفى عليه شيء {حكيم} أي: فهو لتمام علمه يحكم كل أموره غاية الأحكام، فلا يستطيع أحد نقض شيء منها.
روي أن المسلمين قالوا: رضينا بما حكم الله تعالى، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزل قوله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} أي: واحدة فأكثر منهن، أو شيء من مهورهن بالذهاب {إلى الكفار} مرتدات {فعاقبتم} فغزوتم وغنمتم من أموال الكفار فجاءت نوبة ظفركم بأداء المهر إلى إخوانكم طاعة وعدلاً عقب نوبتهم التي اقتطعوا فيها ما أنفقتم ظلماً {فآتوا} أي: فاحضروا(4/268)
وأعطوا من مهر المهاجرة {الذين ذهبت أزواجهم} أي: منكم من الغنيمة {مثل ما أنفقوا} أي: لفواته عليهم من جهة الكفار. روى الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت: حكم الله تعالى بينهم فقال جلّ ثناؤه {واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا} فكتب إليهم المسلمون قد حكم الله تعالى بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا صداقها، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها، فكتبوا أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئاً فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به فأنزل الله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} الآية. وقال ابن عباس: في قوله تعالى: {ذلكم حكم الله} أي: بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم على بعض. قال الزهري: ولولا العهد لأمسك النساء ولم يرد عليهم صداقاً، وقال قتادة ومجاهد: إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة، وقالا: هي فيمن بيننا وبينه عهد، وقالا: فمعنى {فعاقبتم} فاقتصصتم {فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل مثل ما أنفقوا} أي: من المهور. وقال ابن عباس: معنى الآية إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة، وليس بينكم وبينهم عهد، ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس. وقال الزهري: يعطي من مال الفيء، وعنه يعطى من صداق من لحق بها
تنبيه: محصل مذهب الشافعي في هذه الآية: أنّ الهدنة لو عقدت بشرط أن يردوا من جاءهم منا مرتداً صح، ولزمهم الوفاء به سواء أكان رجلاً أو امرأة، حرّاً أو رقيقاً، فإن امتنعوا من ردّه فناقضون للعهد لمخالفتهم الشرط، أو عقدت على أن لا يردوه جاز، ولو كان المرتدّ امرأة فلا يلزمهم ردّه لأنه صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في مهادنة قريش، حيث قال لسهل بن عمرو وقد جاء رسولاً منهم «من جاءنا منكم رددناه، ومن جاءكم منا فسحقاً سحقاً» ومثله ما لو أطلق العقد كما فهم بالأولى، ويغرمون فيهما مهر المرتدّة. فإن قيل: لم غرموا مهر المرتدّة، ولم نغرم نحن مهر المسلمة على ما تقدم من الخلاف؟ أجيب: بأنهم قد فوتوا عليه الاستتابة الواجبة علينا، وأيضاً المانع جاء من جهتها، والزوج غير متمكن منها بخلاف المسلمة الزوج متمكن منها بالإسلام، وكذا يغرمون قيمة رقيق ارتدّ دون الحرّ، فإن عاد الرقيق المرتد إلينا بعد أخذنا قيمته رددناها عليهم.
بخلاف نظيره في المهر لأنّ الرقيق بدفع القيمة يصير ملكاً لهم، والنساء لا يصرن زوجات.
فإن قيل: كونه يصير ملكاً لهم مبنى على جواز بيع المرتد للكافر، والصحيح خلافه.
أجيب: بأنّ هذا ليس مبنياً عليه لأن هذا ليس بيعاً حقيقة فاغتفر ذلك أجل المصلحة، وإن شرطنا عدم الرد.
فإن قيل: هل يغرم الإمام لزوج المرتدة ما أنفق من صداقها، لأنا بعقد الهدنة حلنا بينه وبينها، ولولاه لقاتلناهم حتى يردوها؟.
أجيب: بأنّ هذا ينبني على أنّ الإمام هل يغرم لزوج المسلمة المهاجرة ما أنفق، وقد تقدم الكلام على ذلك.
فائدة: روي عن ابن عباس أنه قال: لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة أم الحكم بنت أبي سفيان، وكانت تحت شداد بن عياض الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعزة بنت عبد العزيز(4/269)
بن نضلة، وزوجها عمرو بن عبد ود، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل، وأمّ كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر بن الخطاب رجعن عن الإسلام، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهنّ مهور نسائهم من الغنيمة.
ولما كان التحرّي في مثل ذلك عسراً فإنّ المهور تتفاوت تارة وتتساوى أخرى قال تعالى: {واتقوا} أي: في الإعطاء والمنع وغير ذلك {الله} الذي له صفات الكمال، وقد أمركم بالتخلق بصفاته على قدر ما تطيقون {الذي أنتم به مؤمنون} أي: متمكنون في رتبة الإيمان.
ولما خاطب المؤمنين الذين هم موضع الحماية والنصرة للدين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الحكم بإيمانهن بمبايعتهن بقوله تعالى:
{يا أيها النبيّ} مخاطباً له بالوصف المقتضى للعلم {إذا جاءك المؤمنات} جعل إقبالهن عليه صلى الله عليه وسلم لا سيما مع الهجرة مصححاً لإطلاق الهجرة عليهن {يبايعنك على أن لا يشركن} أي: كل واحدة منهن تبايعك على عدم الإشراك في وقت من الأوقات {بالله} أي: الملك الذي لا كفؤ له {شيئاً} أي من إشراك على الإطلاق {ولا يسرقن} أي: يأخذن مال الغير بغير استحقاق في خفية {ولا يزنين} أي: يمكن أحداً من وطئهن بغير عقد صحيح {ولا يقتلن أولادهن} أي: بالوأد كما كان يفعل في الجاهلية من وأد البنات، أي: دفنهن أحياء خوفاً من العار والفقر {ولا يأتين ببهتان} أي: بولد ملقوط أو شبهة بأن {يفترينه} أي: يتعمدن كذبه بأن ينسبنه للزوج، ووصفه بصفة الولد الحقيقي بقوله تعالى: {بين أيديهن} أي: بالحمل في البطون لأنّ بطنها التي تحمل فيها الولد بين يديها {وأرجلهن} أي: بالوضع من الفروج لأنّ فرجها الذي تلد منه بين رجليها، أو لأنّ الولد إذا وضعته سقط بين يديها ورجليها.
وقيل: بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة، ومعنى: بين أرجلهن فروجهن. وقيل: ما بين أيديهن من قبلة أو جسة وبين أرجلهن الجماع. وروي أن هند لما سمعت ذلك قالت: والله إنّ البهتان لأمر قبيح، وما يأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق {ولا يعصينك} أي: على حال من الأحوال {في معروف} وهو ما وافق طاعة الله تعالى كترك النياحة، وتمزيق الثياب، وجر الشعر وشق الجيب، وخمش الوجه {فبايعهن} أي: التزم لهن بما وعدن على ذلك من إعطاء الثواب في نظير ما ألزمن أنفسهن من الطاعة، فبايعهن صلى الله عليه وسلم بالقول ولم يصافح واحدة منهن. قالت عائشة رضى الله عنها «والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمر الله عز وجل، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امراة قط. وروي أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية {أن لا يشركن بالله شيئاً} إلى آخرها قالت: وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها» وقالت أميمة بنت رقيقة «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فقال فيما استطعتن أطعن، فقلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارحم بنا من أنفسنا، وقلت: يا رسول الله صافحنا، فقال إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة» . وروي «أنه صلى الله عليه وسلم بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب، وكان يشترط عليهن» وقالت أم عطية: «لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا(4/270)
عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن أن لا تشركن بالله شيئاً الآية، فقلن نعم، فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: اللهم اشهد» وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه فغمسن أيديهن
فيه» وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال يوم الفتح لمكة، وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه وهو يبايع النساء بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغهن عنه أن لا يشركن بالله شيئاً، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد، فقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيتك أخذته على الرجال، وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ولا يسرقن، فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصيب من ماله قوتنا فلا أدري أيحل لي أم لا، فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وما غير فهو حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال لها: «وإنك لهند بنت عتبة» ، قالت: نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك.
وروي أنها قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك، فهل عليّ حرج إن أخذت ما يكفيني وولدي، قال: «لا إلا بالمعروف» فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها فتضيع وتأخذ أكثر من ذلك فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أي لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة، ثم قال: ولا يزنين، فقالت هند: أوتزني الحرة، فقال: ولا يقتلن أولادهن أي: بالوأد، ولا يسقطن الأجنة، فقالت هند: ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كباراً، وأنت وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: {ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن} فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: {ولا يعصينك في معروف} فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء قال أكثر المفسرين: معناه لا يلحقن بأزواجهن ولداً من غيرهن، وكانت المرأة تلتقط ولداً تلحقه بزوجها وتقول: هذا ولدي منك فكان من البهتان والافتراء.
وهذا عام في الإتيان بولد وإلحاقه بالزوج، وإن سبق النهي عن الزنا.
تنبيه: ذكر تعالى في هذه الآية لرسوله صلى الله عليه وسلم في صفة البيعة خصالاً ستاً صرح فيهن بأركان النهي، ولم يذكر أركان الأمر وهي ست أيضاً: الشهادة، والزكاة، والصلاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجناب، وذلك لأن النهي دائم في كل زمان ومكان، وكل الأحوال فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد.
وقيل: إن هذه المناهي كانت في النساء كثيراً ممن يرتكبها، ولا يحجزهن عنها شرف النسب فخصت بالذكر لهذا، ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس «وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت» فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي لأنها كانت شهوتهم وعادتهم، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة فيها.
ولما كان(4/271)
الإنسان محل النقصان لا سيما النسوان رجاهن سبحانه بقوله تعالى: {واستغفر} أي: اسأل {لهن الله} أي: الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في الغفران إن وقع منهن تقصير وهو واقع، لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره {إن الله} أي: الذي له صفات الكمال {غفور} أي: بالغ الستر للذنوب عيناً وأثراً {رحيم} أي: بالغ الإكرام بعد الغفران تفضلاً منه وإحساناً.
وروي أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنهاهم الله عن ذلك بقوله تعالى:
{يأيها الذين آمنوا لا تتولوا} أي: لا تعالجوا أنفسكم أن توالوا {قوماً} أي: ناساً لهم قوة على ما يحاولونه فغيرهم من باب أولى {غضب الله} أي: أوقع الملك الأعلى الغضب {عليهم} لإقبالهم على ما أحاط بهم من الخطايا، فهو عام في كل من اتصف بذلك يتناول اليهود تناولاً أولياً {قد يئسوا} أي: تحققوا عدم الرجاء {من الآخرة} أي: من ثوابها مع إيقانهم بها لعنادهم النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهم أنه الرسول المبعوث في التوراة {كما يئس الكفار من أصحاب القبور} أي من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء.
وقيل: من أصحاب القبور بيان للكفار، أي: كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة، إذ تعرض عليهم مقاعدهم من الجنة لو كانوا آمنوا، وما يصيرون إليه من النار فيتبين لهم قبح حالهم، وسوء منقلبهم. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة الصف
مدنية في قول الأكثرين، وذكر النحاس عن ابن عباس أنها مكية، وهي أربع عشرة آية ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وتسعمائة حرف
{بسم الله} الملك الأعظم الذي لا كفء له {الرحمن} الذي عم بفضله كل أحد من خلقه {الرحيم} الذي خص من شاء من عباده فهيأه لعبادته وأهله.
{سبح لله} أي: أوقع التنزيه الأعظم للملك الأعظم {ما في السموات} من جميع الملائكة وغيرها كالأفلاك والنجوم {وما في الأرض} كذلك من الآدميين وغيرهم كالشجر والثمار. وقيل: اللام مزيدة، أي: نزه الله وأتى بما دون من، قال الجلال المحلي: تغليباً للأكثر.
فإن قيل: ما الحكمة في انه تعالى قال في بعض السور سبح لله بلفظ الماضي، وفي بعضها يسبح بلفظ المضارع، وفي بعضها فسبح بلفظ الأمر؟.
أجيب: بأن الحكمة في ذلك تعليم العبد أن يسبح الله تعالى على الدوام كما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان، والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان، والأمر يدل عليه في الحال فإن قيل: هلا قيل سبح لله السموات والأرض وما فيهما، وهو أكثر مبالغة أجيب: بأن المراد بالسماء جهة العلو فيشمل السماء وما فيها، وبالأرض جهة السفل فيشمل الأرض وما فيها {وهو} أي: وحده {العزيز} أي: الغالب على غيره أي شىء كان ذلك الغير، ولا يمكن أن يغلب عليه غيره {الحكيم} أي: الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها. روى الدارمي(4/272)
في مسنده قال: أنبأنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا مع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه، فأنزل الله تعالى: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم} {يأيها الذين آمنوا} أي: ادّعوا الإيمان {لم تقولون ما لا تفعلون} حتى ختمها. قال عبد الله: «فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها، قال أبو سلمة: قرأها علينا عبد الله بن سلام حتى ختمها، قال يحيى فقرأها علينا أبو سلمة فقرأها علينا أبو يحيى، فقرأها علينا الأوزاعي، فقرأها علينا محمد فقرأها علينا الدرامي. انتهى. ولي بقراءتها سند متصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الله بن عباس: قال عبد الله بن رواحة: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه فلما نزل الجهاد كرهوه. وقال الكلبي: قال المؤمنون: يا رسول الله لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لسارعنا إليه فنزل {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} فمكثوا زماناً يقولون: لو نعلمها لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين، فدلهم الله تعالى عليها بقوله تعالى: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله} (الصف: 11)
الآية، فابتلوا يوم أحد ففروا فنزلت الآية تعييراً لهم بترك الوفاء. وقال محمد بن كعب: لما أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر.
قالت الصحابة: اللهم اشهد لئن لقينا قتالاً لنفرغن فيه وسعنا، ففروا يوم أحد فعيرهم الله تعالى بذلك. وقال قتادة والضحاك: نزلت في قوم كانوا يقولون: نحن جاهدنا وأبلينا، ولم يفعلوا. وقيل: قد آذى المسلمين رجل ونكى فيهم، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر، فقال عمر لصهيب: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنك قتلته، فقال: إنما قتلته لله ولرسوله، فقال عمر: يا رسول الله قتله صهيب، قال: كذلك يا أبا يحيى، قال: نعم، فنزلت في المنتحل. وقال ابن زيد: نزلت في المنافقين ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم، وكانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم، وقاتلنا فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا. وقال القرطبي: هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملاً فيه طاعة أن يفي به
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى: أنه بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه، ولا تطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة فشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني قد حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقرأ سورة فشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} فلبثت شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. قال ابن العربي: وهذا كله ثابت في الدين لفظاً ومعنى في هذه السورة، وأما قوله: شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة، فمعنى ذلك: ثابت في الدين فإن من التزم شيئاً ألزمه شرعاً. وقال القرطبي: ثلاث آيات منعتني أن أقضي على الناس {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} (البقرة: 44)
{وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88)
و {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت عادت، قلت: من هؤلاء(4/273)
يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به» .
تنبيه: قوله تعالى: {لم تقولون ما لا تفعلون} استفهام على وجه الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير مالا يفعله، إما في الماضي فيكون كذباً، وإما في المستقبل فيكون خلقاً وكلاهما مذموم. قال الزمخشري: لم هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك: بم، وفيم، ومم، وعم، وإلام، وعلام، وإنما حذفت الألف لأن ما والحرف كشيء واحد، ووقع استعمالهما كثيراً في كلام المستفهم، وقد جاء استعمال الأصل قليلاً والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان. ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف كما سمع ثلاثه أربعه بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة ا. هـ. ووقف البزي لمه بهاء السكت بخلاف عنه.
{كبر} أي: عظم. وقوله تعالى: {مقتاً} تمييز، والمقت أشد البغض، وزاد في تشنيعه زيادة في التنفير منه بقوله تعالى: {عند الله} أي: الملك الأعظم الذي يحقر عنده كل متعاظم، وقيل: إن كبر من أمثلة التعجب. وقد عده ابن عصفور في التعجب المبوب له في النحو فقال: صيغة ما أفعله وأفعل به، وفعل، نحو كرم الرجل، وإليه نحا الزمخشري فقال: هذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه قصد في كبر التعجب من غير لفظه، كقوله: غلت ناب كليب بواؤها، ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله. وقوله تعالى: {أن تقولوا} أي: عظم من تلك الجهة أن يقع في وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال قولكم {ما لا تفعلون} فاعل كبر. قال الرازي: وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أن في السورة التي قبلها بين الخروج إلى الجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته بقوله تعالى: {إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي} وفي هذه السورة بين ما يحمل المؤمن ويحثه على الجهاد بقوله تعالى:
{إن الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {يحب} أي: يفعل فعل المحب مع {الذين يقاتلون} أي: يوقعون القتال {في سبيله} أي: بسبب تسهيل طريقه الموصلة إلى رضاه. وقوله تعالى: {صفاً} حال، أي: مصطفين حتى كأنهم في اتحاد المراد على قلب واحد كما كانوا في التساوي في الاصطفاف كالبدن الواحد {كأنهم} من شدة التراص والمساواة بالصدور والمناكب والثبات في المركز {بنيان} وزاد في التأكيد بقوله تعالى: {مرصوص} أي: ملزوق بعض إلى بعض ثابت كثبوت البناء.
وقال ابن عباس: يوضع الحجر على الحجر، ثم يرص بأحجار صغار، ثم يوضع اللبن عليه فيسميه أهل مكة المرصوص. وقال الرازي: يجوز أن يكون المعنى على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وموالاة بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص قال القرطبي: استدل بعضهم بهذه الآية على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. قال المهدوي: وذلك غير مستقيم لما جاء في فضل الفارس من الأجر والغنيمة، ولا يخرج الفرسان من معنى الآية لأن معناها الثبات، ولهذا يحرم الخروج من الصف إن قاومناهم إلا متحرفاً لقتال، كمن ينصرف ليكمن في موضع ويهجم، أو ينصرف من مضيق ليتبعه العدو إلى متسع سهل للقتال، أو متحيز إلى فئة يستنجد بها ولو بعيدة قليلة أو كثيرة، فيجوز انصرافه لقوله تعالى: {إلا(4/274)
متحرفاً لقتال} (الأنفال: 16)
وتجوز المبارزة لكافر لم يطلبها بلا كره، وندب لقوي أذن له الإمام أو نائبه لإقراره صلى الله عليه وسلم عليها، وهي ظهور اثنين من الصفين للقتال، من البروز وهو الظهور، فإن طلبها كافر سنت للقوي المأذون له للأمر بها في خبر أبي داود، ولإن تركها حينئذ إضعافاً لنا وتقوية لهم، وإلا كرهت
ولما ذكر تعالى الجهاد ذكر قصة موسى وعيسى عليهما السلام تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذى قومه، مبتدئاً بقصة موسى عليه السلام لتقدمه فقال تعالى:
{وإذ} أي: واذكر ياأشرف الخلق إذ {قال موسى لقومه} أي: بني إسرائيل، وقوله: {ياقوم} استعطاف لهم واستنهاض إلى رضا ربهم {لم تؤذونني} أي: تجددون أذاي مع الاستمرار، وذلك حين رموه بالأدرة كما مر في سورة الأحزاب ومن الأذى ما ذكر في قصة قارون أنه دس إلى امرأة تدعي على موسى الفجور، ومن الأذى قولهم {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} (الأعراف: 138)
وقولهم: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} (المائدة: 24)
وقولهم: أنت قتلت هارون، وغير ذلك. وقوله تعالى: {وقد تعملون} جملة حالية، أي: علمتم علماً قطعياً تجدده لكم كل وقت بتجدد أسبابه بما آتيتكم به من المعجزات، والكتاب الحافظ لكم من الزيغ {إني رسول الله} الملك الأعظم الذي لا كفؤ له {إليكم} ورسوله يعظم ويحترم لا أنه تنتهك جلالته وتخترم، وأنا لا أقول لكم شيئاً إلا عنه، ولا أنطق عن الهوى {فلما زاغوا} أي: عدلوا عن الحق بمخالفة أوامر الله تعالى وبإيذائه. وقرأ حمزة بالإمالة والباقون بالفتح {أزاغ الله} أي: الملك الذي له الأمر كله {قلوبهم} أي: أمالهم عن الهدى على وفق ما قدره في الأزل {والله} أي: الذي له الحكمة البالغة لأنه المستجمع لصفات الكمال {لا يهدي} أي: بالتوفيق بعد هداية البيان {القوم الفاسقين} أي: العريقين في الفسق الذين لهم قوة المحاولة، فلم يحملهم على الفسق ضعف فاحذروا أن تكونوا مثلهم في العزائم فتساووهم في عقوبات الجرائم، وهذا تنبيه على عظيم إيذاء الرسل حتى إن أذاهم يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى، ثم ذكر القصة الثانية بقوله تعالى:
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} {وإذ} أي: واذكر يا أشرف المرسلين إذ {قال عيسى} ووصفه بقوله {ابن مريم} ليعلم أنه من غير أب وثبتت نبوته بالمعجزات {يا بني إسرائيل} فذكرهم بما كان عليه أبوهم من الدين وما أوصى به بنيه من التمسك بالإسلام، ولم يقل: يا قوم، كما قال موسى عليه السلام؛ لأنه لا أب له فيهم وإن كانت أمه منهم، فإن النسب إنما هو من جهة الأب، وأكد لإنكار بعضهم فقال {إني رسول الله} أي: الملك الأعظم {إليكم} أي: لا إلى غيركم {مصدقاً لما بين يدي} أي: قبلي {من التوراة} التي تعلمون أن الله تعالى أنزلها على موسى عليه السلام، وهي أول الكتب التي نزلت بعد الصحف وحكم بها النبيون، فتصديقي لها مع تأييدي بها مؤيد، لأن ما أقمت من الدلائل حق ومبين أنها دليلي فيما لم أنسخه منها، كما يستدل بما قدامه من الإعلام ويراعيه ببصره. وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ حمزة ونافع بين بين بخلاف عنه عن قالون، والباقون بالفتح {ومبشراً} في حال تصديقي للتوراة {برسول} أي: إلى كل من شملته الربوبية {يأتي من بعدي} أي: يصدق بالتوراة. فكأنه قيل: ما اسمه؟ قال: {اسمه أحمد} والمعنى: أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة، وفي حال تبشيري برسول(4/275)
يأتي من بعدي يعني أن ديني التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر.
فإن قيل: بم انتصب مصدقاً ومبشراً، أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟.
أجيب: بأنه بمعنى الإرسال لأن إليكم صلة للرسول فلا يجوز أن يعمل شيئاً لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها، ولكن بما فيها من معنى الفعل، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل فمن أين تعمل.
وعن كعب: أن الحواريين قالوا لعيسى: يا رسول الله هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم أمة أحمد حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل. وعن حبيش بن مطعم قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي» وقد سماه الله تعالى رؤوفاً ورحيماً. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار، واسمي في الزبور الماحي محى الله بي عبدة الأوثان، واسمي في الإنجيل أحمد، وفي القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض» بل ذكر بعض العلماء أنه له ألف اسم. قال البغوي: والألف في أحمد للمبالغة في الحمد، وله وجهان:
أحدهما: أنه مبالغة من الفاعل، أي: ومعناه أن الأنبياء حمادون لله تعالى، وهو أكثر حمداً من غيره.
والثاني: أنه مبالغة من المفعول، أي: ومعناه أن الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة، وهو أكثر مبالغة وأجمع للفضائل والمحاسن والأخلاق التي يحمد بها ا. هـ. وعلى كلا الوجهين منعه من الصرف للعملية والوزن الغالب، إلا أنه على الاحتمال الأول يمتنع معرفة وينصرف نكرة، وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً لأنه يخلف العلمية الصفة، وإذا نكر بعد كونه علماً جرى فيه خلاف سيبويه والأخفش، وهي مسألة مشهورة بين النحاة. وأنشد حسان يمدحه وصرفه:
*صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد*
أحمد بدل أو بيان للمبارك، وأما محمد فمنقول من صفة أيضاً، وهو في معنى محمود ولكن في معنى المبالغة والتكرار، فأحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة. قال القرطبي: كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة، وكذلك الممدح ونحو ذلك: واسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه وتعالى سماه قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوته، وكان اسمه صادقاً عليه فهو محمود في الدنيا لما هدي إليه ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة. فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ، ثم إنه لم يكن محمداً حتى كان أحمد حمد ربه فنبأه وشرفه، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى فقال: اسمه أحمد، وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه: تلك أمة أحمد، فقال: اللهم اجعلني من أمة محمد. فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمداً بالفعل.
وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه فيكون أحمد الناس لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته، فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنبياء فاتحاً لهم وخاتماً عليهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشعبة بفتح الياء، والباقون بالسكون
وقوله تعالى: {فلما جاءهم} يحتمل أن يعود فيه الضمير لأحمد، أي: جاء الكفار، واقتصر على ذلك الجلال المحلي،(4/276)
ويحتمل عوده لعيسى، أي: جاء لبني إسرائيل {بالبينات} أي: من المعجزات العظيمة التي لا يسوغ لعاقل إلا التسليم لها، ومن الكتاب المبين {قالوا} أي: عند مجيئها من غير نظرة تأمل {هذا} أي: المأتي به من البينات، أو الآتي بها على المبالغة {سحر} فكانوا أول كافر به، لأن هذا وصف لهم لازم سواء بلغهم ذلك أم لا {مبين} أي: في غاية البيان في سحريته. وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء، وهذه القراءة مناسبة للتفسير الثاني، والباقون بكسر السين وسكون الحاء، وهذه مناسبة للتفسير الأول.
{ومن} أي: لا أحد {أظلم} أي: أشد ظلماً {ممن افترى} أي: تعمد {على الله} أي: الملك الأعلى {الكذب} أي: بنسبة الشريك والولد إليه، ووصف آياته بالسحر، ووصف أنبيائه بالسحرة {وهو} أي: والحال أنه {يدعى} أي: من أي داع كان {إلى الإسلام} أي: الذي هو أحسن الأشياء فإن له فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله تعالى: {والله} أي: الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه {لا يهدي القوم} أي: لا يخلق الهداية في قلوب من فيهم قوة المجادلة للأمور الصعاب {الظالمين} أي: الذين يخبطون في عقولهم خبط من هو في الظلام.
{يريدون} أي: يوقعون إرادة ردهم للرسالة بافترائهم {ليطفئوا} أي: لأجل أن يطفئوا {نور الله} أي: الملك الذي لا شئ يكافئه {بأفواههم} أي: بما يقولون من كذب لا منشأ له غير الأفواه، لأنه لا اعتقاد له في القلوب.
تنبيه: الإطفاء هو الإخماد يستعملان في النار وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور، ويفرق بين الإطفاء والإخماد من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل، فيقال: أطفأت السراج، ولا يقال: أخمدت السراج، وفي هذه اللام أوجه: أحدها: أنها تعليلية كما مر، ثانيها: أنها مزيدة في مفعول الإرادة، وقال الزمخشري: أصله يريدون أن يطفئوا كما في سورة التوبة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيداً له، لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لإكرامك، كما زيدت اللام في: لا أب لك تأكيداً لمعنى الإضافة في لا أباك.
قال الماوردي: وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوماً، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر يهود أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم أمره، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية» ، واتصل الوحي بعدها واختلف في المراد بالنور، فقال ابن عباس: هو القرآن، أي: يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول. وقال السدي: الإسلام، أي: يريدون رفعه بالكلام. وقال الضحاك: إنه محمد صلى الله عليه وسلم أي: يريدون هلاكه بالأراجيف وقال ابن جريج: حجج الله تعالى ودلائله، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم. وقيل: إنه مثل مضروب، أي: من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلاً ممتنعاً، كذلك من أراد إطفاء الحق {والله} أي: الذي لا مدافع له لتمام عظمته {متم نوره} فلا يضره ستر أحد له بتكذيبه ولا إرادة إطفائه، وزاد ذلك بقوله تعالى: {ولو كره} أي: إتمامه له {الكافرون} أي: الراسخون في جهة الكفر المجتهدون في المحاماة عنه.
{هو} أي: الذي ثبت أنه جامع لصفات الكمال والجلال وحده من غير أن يكون له شريك أو وزير {الذي أرسل رسوله} أي: الحقيق(4/277)
بأن يعظمه كل من بلغه أمره لأن عظمته من عظمته، ولم يذكر حرف الغاية إشارة إلى عموم الإرسال إلى كل من شمله الملك كما مضى {بالهدى} أي: البيان الشافي بالقرآن والمعجزة {ودين الحق} أي: والملة الحنيفية {ليظهره} أي: يعليه مع الشهرة وإذلال المنازع {على الدين} أي: جنس الشريعة التي ستجعل ليجازى من يسلكها ومن يزغ عنها بما يشرع فيها من الأحكام {كله} فلا يبقى دين إلا كان دونه، وانمحق به وذل أهله ذلاً لا يقاس به ذل {ولو كره} أي: إظهاره {المشركون} أي: المعاندون في كفرهم الراسخون في سلك المعاندة.
فإن قيل: قال أولاً: {ولو كره الكافرون} ، وقال ثانياً: {ولو كره المشركون} ، فما الحكمة في ذلك؟.
أجيب: بأنه تعالى أرسل رسوله، وهو من نعم الله تعالى، والكافرون كلهم في كفران النعم سواء فلهذا قال {ولو كره الكافرون} لأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك فالمراد من الكافرين هنا اليهود والنصارى والمشركون، فلفظ الكافر أليق به. وأما قوله تعالى: {ولو كره المشركون} فذلك عند إنكارهم التوحيد وإصرارهم عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم في ابتداء الدعوة أمر بالتوحيد بلا إله إلا الله فلم يقولوها، فلهذا قال: {ولو كره المشركون} .
{س61ش10/ش14 يَا?أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا? هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ? وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ? ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ا?نْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ? ذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا? نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ? وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * يَا?أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا? كُونُو?ا? أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّـ?نَ مَنْ أَنصَارِى? إِلَى اللَّهِ? قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ? فَـ?َامَنَت طَّآ?ـ?ِفَةٌ مِّن? بَنِى? إِسْرَا?ءِيلَ وَكَفَرَت طَّآ?ـ?ِفَةٌ? فَأَيَّدْنَا الَّذِينَءَامَنُوا? عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا? ظَاهِرِينَ}
واختلف في سب نزول قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان {هل أدلكم} أي: وأنا المحيط علماً وقدرة فهي إيجاب في المعنى، ذكر بلفظ الاستفهام تشريفاً ليكون أوقع في النفس {على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} أي: مؤلم فقال مقاتل: نزلت في عثمان بن مظعون قال: «يا رسول الله لو أذنت لي طلقت خولة، وترهبت واختصيت، وحرمت اللحم، ولا أنام بليل أبداً، ولا أفطر بنهار، فقال صلى الله عليه وسلم إن من سنتي النكاح، ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله، وخصاء أمتي الصوم، ولا تحرموا طيبات ما احل الله لكم، ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنتي فليس مني، فقال عثمان: والله لوددت يا رسول الله أيّ التجارة أحب إلى الله تعالى فأتجر فيها، فنزلت» وقيل: أدلكم، أي: سأدلكم، والتجارة: الجهاد، قال الله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} (التوبة: 111)
الآية، وهذا خطاب لجميع المؤمنين. وقيل: نزل هذا حين قالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملنا به. قال البغوي: وجعل هذا بمنزلة التجارة لأنهم يربحون بها رضا الله تعالى، ونيل جنته والنجاة من النار وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشدد الجيم، والباقون بسكون النون وتخفيف الجيم
ثم بين سبحانه تلك التجارة بقوله تعالى: {تؤمنون} أي: تدومون على الإيمان {بالله} أي: الذي له جميع صفات الكمال، وعلى هذا فلا ينافي ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} وقيل: المراد من هذه الآية المنافقون وهم الذين آمنوا في الظاهر، وقيل: أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة {ورسوله} الذي تصديقه آية الإذعان للعبودية {وتجاهدون} بياناً لصحة إيمانكم على سبيل التجديد والاستمرار {في سبيل الله} أي: الملك الأعظم الذي لا أمر لغيره {بأموالكم وأنفسكم} وقدم الأموال لعزتها في ذلك الزمان، ولأنها قوام الأنفس فمن بذل ماله كله لم يبخل بنفسه، لأن المال قوامها. وقال القرطبي: ذكر الأموال أولاً لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق {ذلكم} أي: الأمر العظيم من الإيمان وتصديقه بالجهاد {خير لكم} أي: من أموالكم(4/278)
وأنفسكم {إن كنتم تعلمون} أي: إن كان يمكن أن يتجدد لكم علم في وقت فأنتم تعلمون أن ذلك خير لكم، فإذا علمتم أنه خير أقبلتم عليه فكان لكم به أمر عظيم، وإن كانت قلوبكم قد طمست طمساً لا رجاء لصلاحه فصلوا على أنفسكم صلاة الموت.
وقوله تعالى: {يغفر لكم} فيه أوجه:
أحدها: أنه مجزوم على جواب الخبر بمعنى الأمر، أي: آمنوا وجاهدوا.
والثاني: أنه مجزوم في جواب الاستفهام، كما قاله الفراء.
والثالث: أنه مجزوم بشرط مقدر، أي: إن تؤمنوا يغفر لكم. قال القرطبي: وأدغم بعضهم فقرأ يغفر لكم، والأحسن ترك الإدغام فإن الراء متكرر قوي فلا يحسن الإدغام في اللام، لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف ا. هـ. وتقدم في آخر سورة البقرة مثل ذلك للزمخشري والبيضاوي ورد عليهما {ذنوبكم} أي: يمحو أعيانها وآثارها كلها {ويدخلكم} أي: بعد التزكية بالمغفرة رحمة لكم {جنات} أي: بساتين {تجري من تحتها} أي: من تحت أشجارها وغرفها وكل منتزه فيها {الأنهار} فهي لا تزال غضة زهراء لم يحتج هذا الأسلوب إلى ذكر الخلود لإغناء ما بعده عنه، ودل على الكثرة المفرطة في الدور بقوله في صيغة منتهى الجموع {ومساكن طيبة} روى الحسن قال: «سألت عمران بن حصين، وأبا هريرة عن قوله تعالى: {ومساكن طيبة} فقالا: على الخبير سقطت سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: «قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتاً من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريراً، في كل سرير سبعون فراشاً من كل لون على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفاً ووصيفة فيعطي الله تعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله» {في جنات عدن} أي: بساتين هي أهل للإقامة بها لا يحتاج في إصلاحها إلى شيء خارج يحتاج في تحصيله إلى الخروج عنها له، قال حمزة الكرماني في كتابه «جوامع التفسير» : هي أي جنات عدن قصبة الجنان ومدينة الجنة أقربها إلى العرش {ذلك} أي: الأمر العظيم جداً {الفوز العظيم} أي: السعادة الدائمة الكبيرة، وأصل الفوز الظفر بالمطلوب.
ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم في الآخرة بشرهم بنعمته في الدنيا.
بقوله تعالى: {وأخرى تحبونها} أي: ولكم إلى هذه النعمة المذكورة نعمة أخرى عاجلة محبوبة، وفي تحبونها تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل. وقوله تعالى: {نصر من الله} أي: الذي أحاطت عظمته بكل شيء خبر مبتدأ مضمر، أي: تلك النعمة أو الخصلة الأخرى نصر من الله {وفتح قريب} أي: غنيمة في عاجل الدنيا قيل: فتح مكة قال الكلبي: هو النصر على قريش، وقال ابن عباس: يريد فتح فارس والروم. وقوله تعالى: {وبشر المؤمنين} عطف على محذوف مثل {قل يا أيها الذين آمنوا وبشر} ، أو على يؤمنون فإنه في معنى الأمر كأنه قال آمنوا وجاهدوا أيها المؤمنون، وبشرهم يا أشرف الرسل بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة.
{يا أيها الذين آمنوا} أي: أقروا بذلك {كونوا} أي: بغاية جهدكم {أنصاراً لله} أي: لدينه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو أنصاراً بالتنوين وجر اللام من الاسم الجليل وترقيقها، والباقون بغير تنوين وتفخيم اللام. {كما} أي: كونوا لأجل أني ندبتكم أنا بقولي من غير واسطة ولذذتكم بخطابي مثل ما كان الحواريون أنصار الله حين {قال(4/279)
عيسى بن مريم} حين أرسلته إلى بني إسرائيل ناسخاً لشريعة موسى عليه السلام {للحواريين} أي: خلص أصحابه وخاصته منهم {من أنصاري إلى الله} أي: المحيط بكل شيء أي: انصروا دين الله تعالى مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى عليه السلام من أنصاري إلى الله، أي: من ينصرني مع الله تعالى: {قال الحواريون} معلمين إنهم جادون في ذلك جداً لا مزيد عليه لعلمهم أن أجابته إجابة الله تعالى، لأنه لا ينطق عن الهوى فليس كلامه إلا عن الله تعالى: {نحن} أي: بأجمعنا وكانوا اثني عشر رجلاً، وهم أول من آمن بعيسى {أنصار الله} أي: الملك الأعلى القادر على تمام نصرنا، ولو كان عدونا كل أهل الأرض.
ولما كان التقدير ثم دعوا كل من خالفهم من بني اسرائيل وبارزهم تسبب عنهم قوله تعالى: {فآمنت} أي: به {طائفة} أي: ناس منهم أهل الاستدارة لما لهم من الكثرة {من بني اسرائيل} قومه {وكفرت طائفة} أي: منهم، وأصل الطائفة: القطعة من الشيء، وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق:
فرقة قالوا: كان الله فارتفع.
وفرقة قالوا: كان ابن الله فرفعه إليه.
وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهم المؤمنون.
واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا، وظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى: {فأيدنا} أي: قوينا بعد رفع عيسى عليه السلام {الذين آمنوا} أي: أقروا بالإيمان المخلص {على عدوهم} أي: الذين عادوهم لأجل إيمانهم {فأصبحوا} أي: صاروا بعد ما كانوا فيه من الذل {ظاهرين} أي: عالين غالبين قاهرين في أقوالهم وأفعالهم لا يخافون أحداً ولا يستخفون منه، وروى المغيرة عن إبراهيم قال: فأصبحت حجة من آمن بعيسى عليه السلام ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام كلمة الله وعبده ورسوله. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الصف كان عيسى مصلياً عليه مستغفراً له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه» حديث موضوع.
سورة الجمعة
مدنية وهي إحدى عشرة آية، ومائةوثمانون كلمة، وسبعمائة وعشرون حرفاً
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نحن الآخرون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب الأول من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله تعالى لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له» وقال يوم الجمعة: «فاليوم لنا، وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى» .
{بسم الله} الذي أحاط علمه بكل معلوم فتم بيانه {الرحمن} الذي تمت نعمة بيانه فهو العظيم شأنه {الرحيم} الذي خص حزبه بالتوفيق فثبت عندهم حبه وإيمانه
{يسبح} أي: يوقع التنزيه الأعظم الأنهى الأكمل {لله} أي: الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {ما في السموات} أي: من جميع الأشياء من الملائكة وغيرها كالأفلاك والنجوم {وما في الأرض}(4/280)
كذلك من الآدميين وغيرهم كالشجر والثمار، وقيل: اللام مزيدة، أي: ينزه الله وأتى بما دون من، قال الجلال المحلي: تغليباً للأكثر، ويحتمل أن يكون المراد بالسماء جهة العلو فيشمل السماء وما فيها، وبالأرض جهة السفل فيشمل الأرض وما فيها {الملك} أي: الذي ثبت له جميع الكمالات، فهو ينصر من يشاء من جنده ولو كان ذليلاً فيصبح ظاهراً {القدوس} أي: المنزه عما لا يليق به، وعن إحاطة أحد من الخلق بعلمه وإدراك كنه ذاته فليس في أيدي الخلق إلا التردد في شهود أفعاله والتدبير لمفاهيم نعوته وجلاله وأحقهم بالقرب والعداد في حزبه المتخلق بأوصافه على قدر اجتهاده، فينبغي للمؤمن التنزه عن أن يقول مالا يفعل، أو يبني شيئاً من أموره على غير إحكام {العزيز} أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {الحكيم} أي: الذي يوقع كل ما أراد في أحكم مواقعه وأتمها وأتقنها.
{هو} أي: وحده {الذي بعث في الأميين} أي: العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون، والأمي: من لا يقرأ ولا يكتب {رسولاً منهم} أي: من جملتهم أمياً مثلهم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وما من حي من العرب إلا وله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، وقد ولدوه. قال ابن إسحاق: إلا بني تغلب فإن الله تعالى طهر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم فلم يجعل لهم عليه ولادة، وكان أمياً لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم صلى الله عليه وسلم علمه الله ما لم يكن يعلم من غير تطلب، فكانت آثار البشرية عنه مندرسة وأنوار الحقائق علية لائحة، وذلك لئلا يتوهم الافتقار إلى الاستعانة بالكتب لأن مشاكلته لحال من بعث فيهم أقرب إلى مساواتهم له لو أمكنهم فيكون معنى عدم إمكان المساواة أدل على الإعجاز، وبعثه إلى العرب لا ينفي بعثه إلى غيرهم لاسيما مع ما ورد فيه من صرائح الدلائل القطعية، فذكر موضع البعث وابتداءه فتكون الغاية مطلقة تقديرها إلى عامة الخلق {يتلو} أي: يقرأ قراءة يتبع بعضها بعضاً على وجه الكثرة والعلو والرفعة {عليهم} مع كونه أمياً مثلهم {آيات} أي: يأتيهم بها على سبيل التجدد والمواصلة، وهي القرآن الذي أعجز الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله {ويزكيهم} أي: يطهرهم من الشرك والأخلاق الرذيلة، والعقائد الزائغة فكانت تزكيته لهم مدة حياته بنظره الشريف إليهم، وتعليمه لهم وتلاوته عليهم، فربما نظر الإنسان نظرة محبة فزكاه الله تعالى بها بحسب القابليات والأمور التي قضى الله تعالى أن تكون مهيآت فكان له أعشق فكان لأتباعه ألزم فكان في كتاب الله وسنته أرسخ {ويعلمهم الكتاب} أي: القرآن المنزل عليه الجامع لكل خير ديني ودنيوي في الأولى والأخرى {والحكمة} هي غاية الحكم للكتاب في قوة فهمه والعمل به فهي العمل المزين بالعلم المتقن به، وقال الحسن: الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة. وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم، والحكمة: السنة، لأن الخط إنما فشا
في العرب بالشرع لما أمروا بالتقييد بالخط. وقال مالك بن أنس: الحكمة: الفقه في الدين {وإن} أي: والحال أنهم {كانوا} أي: كوناً هو كالجبلة لهم {من قبل} أي: قبل إرساله إليهم {لفي ضلال} أي: بعد عن المقصود {مبين} أي: ظاهر في نفسه مناد لغيره أنه ضلال باعتقادهم الأباطيل الظاهرة، وظنهم أنهم على شيء، وعموم الجهل لهم ورضاهم به واختبارهم له.
وقوله تعالى: {وآخرين منهم} فيه(4/281)
وجهان: أحدهما: أنه مجرور عطفاً على الأميين، أي: وبعث في الآخرين من الأميين، أي: الموجودين والآتين منهم بعدهم {لما} أي: لم {يلحقوا بهم} في السابقة والفصل والثاني: أنه منصوب عطفاً على الضمير المنصوب في يعلمهم، أي: ويعلم آخرين لما يلحقوا بهم وسيلحقون، وكل من تعلم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إلى آخر الزمان فرسول الله صلى الله عليه وسلم معلمه بالقوة، لأنه أصل ذلك الخير العظيم والفضل الجسيم.
تنبيه: الذين لم يلحقوا بهم هم الذين لم يكونوا في زمنهم وسيجيئون بعدهم. قال عمر وسعيد بن جبير: هم العجم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: «كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ: {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً، قال: وفينا سلمان الفارسي، قال: «فوضع النبي صلى الله علية وسلم يده على سلمان ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجل من هؤلاء» وفي رواية «لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجال من فارس» أو قال: من أبناء فارس حتى يتناوله. وقال عكرمة: هم التابعون، وقال مجاهد: هم الناس كلهم، يعني: من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم وقال ابن زيد، ومقاتل بن حبان: هم من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.
وروى سهل بن سعد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن في أصلاب أمتي رجالاً ونساء يدخلون الجنة بغير حساب، ثم تلا {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} » قال ابن عادل: والقول الأول أثبت. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيتني أسقي غنماً سوداً، ثم أتبعتها غنماً عقراً أولها يا أبا بكر، قال: يا نبي الله أما السود فالعرب، وأما العقر فالعجم تتبعك بعد العرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أولها الملك يعني جبريل عليه الصلاة والسلام» رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. {وهو} أي: والحال أنه وحده {العزيز} أي: الذي يقدر على كل ما أراده، ولا يغلبة شيء فهو يزكي من يشاء ويعلمه ما أراد من أي طائفة كان، ولو كان أجهل أهل تلك الطائفة لأن الأشياء كلها بيده {الحكيم} فهو إذاً أراد شيئاً موافقاً لشرعه وأمره جعله على أتقن الوجوه وأوثقها، فلا يستطاع نقضه ومهما أراده كيف كان فلا بد من إنفاذه فلا يطاق ردة بوجه.
ولما كان هذا أمراً باهراً عظمه بقوله تعالى على وجه الاستثمار من قدرته:
{ذلك} الأمر العظيم الرتبة من تفضيل الرسول وقومه، وجعلهم متبوعين بعد أن كان العرب أتباعاً لا وزن لهم عند غيرهم من الطوائف {فضلُ الله} أي: الذي له جميع صفات الكمال والفضل ما لم يكن مستحقاً بخلاف الفرص {يؤتيه من يشاء} قال ابن عباس: حيث ألحق العجم بقريش، وقال الكلبي: يعني الإسلام فضل الله يؤتيه من يشاء، وقال مقاتل: يعني الوحي والنبوة.
وقيل: إنه المال ينفق في الطاعة لما روى أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/282)
«أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون، وتكبرون، وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة، قال أبو صالح فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا من أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» وقيل: إنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ودخولهم في دينه ونصرته {والله} الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {ذو الفضل العظيم} .
ولما ترك اليهود العمل بالتوراة ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ضرب الله تعالى لهم مثلاً بقوله تعالى:
{مثل الذين حملوا التوراة} أي: كلفوا وألزموا حمل الكتاب الذي آتاه الله تعالى لبني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، بأن علمهم إياها سبحانه وكلفهم حفظ ألفاظها عن التغيير والنسيان ومعانيها عن التحريف والتلبيس، وحدودها وأحكامها عن الإهمال والتضييع {ثم لم يحملوها} أي: بأن حملوا ألفاظها ولم يعملوا بما فيها من الوصية باتباع عيسى عليه الصلاة والسلام إذا جاءهم، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا جاء فهي ضارة لهم بشهادتها عليهم فإذا لهم النار من غير نفع أصلاً {كمثل} أي: مثلهم مثل {الحمار} أي: الذي هو أبلد الحيوان فهو مثل في الغباوة حال كونه {يحمل أسفاراً} أي: كتباً كباراً من كتب العلم جمع سفر، وهو الكتاب الكبير المسفر عما فيه، في عدم الانتفاع بها لأنه يمشي ولا يدري منها إلا ما يضر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله ومثل ذلك قول الشاعر:
k
*زوامل للأسفار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر*
*لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأحماله أو راح ما في الغرائر*
من إنشاد الشيخ ابن الخباز. {بئس مثل القوم} أي: الذين لهم قوة شديدة على محاولة ما يريدون {الذين كذبوا} أي: محمداً على علم {بآيات الله} أي: دلالات الملك الأعظم على رسوله، ولاسيما محمد صلى الله عليه وسلم والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هذا المثل {والله} أي: الذي له جميع صفات الكمال {لا يهدي القوم} أي: لا يخلق الهداية في قلوب الذين تعمدوا الزيغ {الظالمين} أي: الذين تعمدوا الظلم بمنابذة الهدى الذي هو البيان، الذي لم يدع لبساً حتى صار الظلم لهم صفة راسخة.
ولما ادعت اليهود الفضيلة وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه نزل قوله تعالى:
{قل} أي: يا أشرف الرسل {يا أيها الذين هادوا} أي: تدينوا باليهودية {إن زعمتم} أي: قلتم قولاً هو معرض للتكذيب، ولذلك أكذبتموه {إنكم أولياء لله} أي: الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه خصكم بذلك خصوصية مبتدأة {من دون} أي: أدنى رتبة من رتب {الناس} فلم تنفذ الولاية، وتلك الرتبة في الدنيا إلى أحد منهم غيركم بل خصكم بذلك عن كل من فيه أهلية الحركة لاسيما الأميين {فتمنوا الموت} وأخبروا عن أنفسكم بذلك للنقلة من دار البلاء إلى محل الكرامة والآلاء {إن كنتم} أي: كوناً راسخاً {صادقين} أي: غريقين عند أنفسكم في الصدق، فإن من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب، ومن المقطوع به أن من كان في كدر(4/283)
وكان له ولي قد وعده عند الوصول إليه الراحة التي لا يشوبها ضرر تمنى النقلة إلى وليه. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه فلم يقلها منهم أحد علماً منهم بصدقه صلى الله عليه وسلم فلم يقولوا ولم يؤمنوا عناداً منهم» .
ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يتمنونه في المستقبل أيضاً بقوله تعالى:
{ولا يتمنونه} أي: في المستقبل {أبداً بما قدمت أيديهم} أي: بسبب ما قدموا من الكفر والمعاصي التي أحاطت به فلم تدع لهم حظاً في الآخرة.
تنبيه: قال تعالى هنا: {ولا يتمنونه} وفي البقرة {ولن يتمنوه} (البقرة: 95)
قال الزمخشري: لا فرق بين لا ولن في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل، إلا أن في لن تأكيداً وتشديداً ليس في لا فأتى مرة بلفظ التأكيد {ولن يتمنوه} ومرة بغير لفظه {ولا يتمنونه} قال أبو حيان: وهذا رجوع منه عن مذهبه وهو أن لن تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة، وهي أنها لا تقتضيه. قال بعضهم: وليس فيه رجوع، غاية ما فيه أنه سكت عنه، وتشريكه بين لا ولن في نفي المستقبل لا ينفي اختصاص لن بمعنى آخر ا. هـ. ودعواهم الولاية إلى التوسل إلى الجنة لا يلزم منها الاختصاص بالنعم بدليل أن الدنيا ليست خالصة للأولياء المحقق لهم الولاية بل البر والفاجر مشتركون فيها. {والله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلماً {عليم} بالغ العلم محيط بهم هكذا كان الأصل ولكنه تعالى قال: {بالظالمين} تعميماً وتعليقاً بالوصف لا بالذات، فالمعنى أنه عالم بأصحاب هذا الوصف الراسخين فيه منهم ومن غيرهم، فهو مجازيهم على ظلمهم.
{قل} أي: لهؤلاء يا أشرف الرسل {إن الموت الذي تفرون منه} بالكف عن التمني {فإنه ملاقيكم} أي: لا تفوتونه لاحق بكم.
تنبيه: في هذه الفاء وجهان: أحدهما: إنها داخلة لما تضمنه الاسم من معنى الشرط، وحكم الموصوف بالموصول حكم الموصول في ذلك. قال الزجاج: لا يقال: إن زيداً فمنطلق، وههنا قال: {فإنه ملاقيكم} لما في معنى الذي من الشرط أو الجزاء، أي: إن فررتم منه فإنه ملاقيكم، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه. الثاني: إنها مزيدة محضة لا للتضمن المذكور.
ولما كان الحبس في البرزخ أمراً لا بد منه مهولاً نبه عليه وعلى طوله بأداة التراخي فقال تعالى: {ثم تردون إلى عالم الغيب} أي: السر {والشهادة} أي: العلانية، أو كل ما غاب عن الخلق، وكل ما شوهد {فينبئكم} أي: يخبركم إخباراً عظيماً مستقصى مستوفى {بما كنتم} أي: بما هو لكم كالجبلة {تعملون} أي: بكل جزء منه بما برز إلى الخارج، وبما كان في جبلاتكم ولو بقيتم لفعلتموه ليجازيكم.
{يا أيها الذين أمنوا} أي: أقروا بألسنتهم بالإيمان {إذا نودي} أي: من أي مناد كان من أهل النداء {للصلاة} أي: صلاة الجمعة {من} أي: في {يوم الجمعة} كقوله تعالى: {أروني ماذا خلقوا من الأرض} (فاطر: 40)
أي: في الأرض، والمراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة، لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه، كان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر أذن بلال، وعن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الدور، زاد في رواية فثبت الأمر على ذلك.
وعن أبي داود قال: كان يؤذن بين يدي رسول الله(4/284)
صلى الله عليه وسلم إذا جلس يوم الجمعة على المنبر على باب المسجد، روي أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد، فإذا نزل أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة على ذلك حتى إذا كان عثمان، وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذاناً آخر، فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء، فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن الأذان الثاني الذي كان على زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا نزل أقام الصلاة، فلم يعب ذلك عليه لقوله صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» .
قال الماوردي: أما الأذان الأول فمحدث فعله عثمان بن عفان ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها، وكان عمر أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن سوقهم، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد فجعله عثمان أذانين في المسجد. قال ابن العربي: وفي الحديث الصحيح: «أن الأذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً، فلما كان زمن عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء» ، وسماه في الحديث ثالثاً لأنه أضافه إلى الإقامة، كقوله صلى الله عليه وسلم «بين كل إذانين صلاة لمن شاء» يعني: الأذان والإقامة، وتوهم بعض الناس أنه أذان أصلي فجعلوا المؤذنين ثلاثة. قال ابن عادل: فكان وهماً، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهماً على وهم.
واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة فمنهم من قال: لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام. روى مالك عن أبن هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه الصلاة والسلام، وفيه أهبط، وفيه مات وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وهو عند الله يوم المزيد» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل وفي كفه مرآة بيضاء، وقال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيداً ولأمتك من بعدك، وهو سيد الأيام عندنا، ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد» ومنهم من قال: لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فاجتمعت فيه المخلوقات، ومنهم من قال: لاجتماع الجماعات فيه للصلاة، وقيل: أول من سمى هذا اليوم جمعة كعب بن لؤي.
قال أبو سلمة: أول من قال أما بعد: كعب بن لؤي، وكان أول من سمى الجمعة جمعة، وكان يقول له: يوم العروبة. وعن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموها الجمعة. وقيل: إن الأنصار قالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك، فهلموا نجعل لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى فيه ونصلي، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين، وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، ثم أنزل الله تعالى آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام.
وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة، قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له: بقيع الخضمان، قلت له: كم كنتم يومئذٍ، قال: أربعين» أخرجه أبو داوود.
وأما أول جمعة جمعها النبي(4/285)
صلى الله عيه وسلم بأصحابه، فقال أهل السير: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، حين اشتد الضحى ومن تلك السنة يعد التاريخ، فأقام بها إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجداً، فجمع بهم وخطب وهي أول خطبة خطبها بالمدينة.
وقال فيها: «الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره، وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفر به، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة، والحكمة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة وقرب من الأجل. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفرط، وضل ضلالاً بعيداً أوصيكم بتقوى الله فإن خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، واحذروا ما حذركم الله من نفسه فإن تقوى الله لمن عمل بها على وجل ومخافة من ربه عنوان صدق على ما تبغون من الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية لا ينوي به إلا وجه الله يكون له ذكراً في عاجل أمره، وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان مما سوى ذلك {يود لو أن بينه وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد} (آل عمران: 30)
وهو الذي صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك، فإنه يقول: {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} (ق: 29)
فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عن سيئاته ويعظم له أجراً {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} (الأحزاب: 71)
وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله فقد علمكم في كتابه، وأوضح لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين وأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده {هو اجتباكم} و {سماكم المسلمين} (الحج: 78)
ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيّ عن بينة ولا حول ولا قوة إلا بالله فأكثروا ذكر الله تعالى واعملوا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» .
قال بعضهم: قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه، فكذبهم في قوله: {فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم الله بالحمار يحمل أسفاراً وبالسبت وإنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله تعالى لهم يوم الجمعة.
تنبيه: سمى الله تعالى الجمعة ذكراً له، قال أبو حنيفة: إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكر الله كقوله: الحمد لله سبحان الله جاز، وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال: الحمد لله؛ فارتج عليه، فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالاً، وإنكم إلى أمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وستأتيكم الخطب، ثم نزل وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكر(4/286)
عليه أحد.
وعند صاحبيه والشافعي لا بد من كلام يسمى خطبة، ولها أركان وشروط مذكورة في الفقه.
فإن قيل: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة، وفيها ذكر غير الله؟
أجيب: بأن ما كان من ذكر رسوله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين، وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم، وهم أحق بعكس ذلك فمن ذكر الشيطان.
وهو من ذكر الله على مراحل فإن المنصت للخطبة إذا قال لصاحبه: صه فقد لغا، أفلا يكون الخطيب المغالي في ذلك لاغياً نعوذ بالله من غربة الإسلام، ومن نكد الأيام وقد خاطب الله تعالى المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفاً لهم وتكريماً، فقال {يا أيها الذين آمنوا} ثم خصه بالنداء وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى: {وإذا ناديتم إلى الصلاة} ليدل على وجوبه وتأكد فرضه. وقال بعض العلماء: كون الصلاة الجمعة ههنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ، وقال ابن العربي: وعندي إنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة، وهي قوله تعالى: {من يوم الجمعة} وذلك يفيده لأن النداء الذي يختص بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة، وأما غيرها فهو عام في سائر الأيام، ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى فلا فائدة فيه.
واختلف في معنى قوله تعالى: {فاسعوا} أي: لتكونوا أولياء الله ولا تتهاونوا في ذلك. فقال الحسن: والله ما هو سعي على الأقدام، ولكن سعي بالقلوب والنية، وقال الجمهور: السعي: العمل لقوله تعالى: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن} (الإسراء: 19)
كقوله تعالى: {إن سعيكم لشتى} (الليل: 4)
وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم: 39)
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن أئتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» واختلفوا أيضاً: في معنى قوله تعالى: {إلى ذكر الله} أي: الملك الأعظم، فقال سعيد بن المسيب: هو موعظة الإمام، وقال غيره: الخطبة والصلاة المذكرة بالملك الأعظم الذي من انقطع عن خدمته هلك.
ولما أمر بالمبادرة إلى تجارة الآخرة قال تعالى ناهياً عن تجارة الدنيا التي تعوق عن الجمعة {وذروا البيع} أي: اتركوا البيع والشراء؛ لأن اسم البيع يتناولهما جميعاً، وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني. وقال الزهري: عند خروج الإمام، وقال الضحاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء. وإنما خص البيع من بين الأمور الشاغلة عن ذكر الله تعالى، لأن يوم الجمعة يوم تهبط الناس فيه من بواديهم وقراهم، وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم، واختصاص الأسواق إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى، ودنا وقت الظهيرة وحينئذ تنجز التجارة ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة للذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد قيل: بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله {ذلكم} أي: الأمر العالي الرتبة من فعل السعي، وترك الاشتغال بالدنيا {خير لكم} لأن الأمر الذي أمركم به الذي له الأمر كله، وهو يريد تطهيركم في أديانكم وأبدانكم وأموالكم وبيده إسعادكم وإشقاؤكم.
فإن قيل: إذا كان البيع في هذا الوقت محرماً فهل هو فاسد؟.
أجيب: بأن عامة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع، قالوا:(4/287)
لأن البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة، والثوب المغصوب، والوضوء بماء مغصوب، وعن بعض الناس أنه فاسد. وزاد في الحث على ذلك بقوله تعالى: {إن كنتم} أي: بما هو لكم كالجبلة {تعلمون} أي: يتجدد لكم علم في يوم من الأيام فأنتم ترون ذلك خيراً، فإذا علمتموه خيراً أقبلتم عليه فكان ذلك خيراً لكم وصلاة الجمعة فرض عين تجب على كل من جمع الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، والإقامة، إذا لم يكن له عذراً مما ذكره الفقهاء، ومن تركها استحق الوعيد. قال صلى الله عليه وسلم: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله تعالى على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله تعالى على قلبه» قال ابن عادل: ونقل عن بعض الشافعية أن الجمعة فرض على الكفاية، أما من به عذر يعذر به في ترك الجماعة مما يتصور هنا فلا تجب عليه، وتجب على أعمى وجد قائداً وشيخ هرم وزمن وجدا مركباً لا يشق ركوبه عليهما.
واختلف أهل العلم في موضوع إقامة الجمعة، وفي العدد الذي تنعقد به الجمعة، وفي المسافة التي يجب أن يؤتى منها، فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلاً بالصفة المتقدمة تجب عليهم إقامة الجمعة فيها، وهو قول عبد الله بن عمر، وعمر بن عبد العزيز، وبه قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق قالوا: لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلاً على هذه الصفة، وشرط عمر بن عبد العزيز مع الأربعين أن يكون فيهم وال.
وعند أبي حنيفة تنعقد بأربعة، والوالي شرط، ولا تقام عنده إلا في مصر جامع. وقال الأوزاعي وأبو يوسف: تنعقد بثلاثة إن كان فيهم وال. وقال الحسن، وأبو ثور: تنعقد باثنين كسائر الصلوات، وقال شعبة: تنعقد باثني عشر رجلاً ولا تجب الجمعة على أهل البوادي إلا إذا سمعوا النداء من موضع تقام فيه الجمعة، فيلزمهم الحضور، وإن لم يسمعوا فلا جمعة عليهم، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق.
والشرط أن يبلغهم نداء مؤذن جهوري الصوت في وقت تكون الأصوات هادئة، والرياح ساكنة فكل قرية تكون من موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة. وقال سعيد بن المسيب: تجب الجمعة على من آواه المبيت. قال الزهري: تجب على من كان على ستة أميال وقال ربيعة: على أربعة أميال، وقال مالك والليث: على ثلاثة أميال، وقال أبو حنيفة: لا جمعة على أهل البوادي سواء كانت القرية قريبة أم بعيدة.
دليل الشافعي ومن وافقه ما روى البخاري عن ابن عباس: «أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجؤانا من البحرين» ، ولأبي داود نحوه، وفيه بجؤانا قرية من قرى البحرين» .
تنبيه: فضل يوم الجمعة مشهور وأحاديثه كثيرة مشهورة تقدم بعضها، ومنها: أن الله يعتق في كل جمعة ستمائة عتيق من النار» ، وعن كعب: إن الله تعالى فضل من البلدان مكة، ومن الشهور رمضان، ومن الأيام الجمعة. وقال صلى الله عليه وسلم «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد، ووقي فتنة القبر» وفي الحديث «إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المساجد بأيديهم صحف من فضة، وأقلام من ذهب يكتبون الأول فالأول على مراتبهم» قال(4/288)
الزمخشري: وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج، وقيل: أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة. وعن ابن مسعود: أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه فاغتم وأخذ يعاتب نفسه ويقول: أراك رابع أربعة، وما رابع أربعة بسعيد. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ـ أي: مثل غسلها ـ ثم راح في الساعة الأولى كان كمن قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة كأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر» وروى النسائي «في الخامسة كالذي يهدي عصفوراً، وفي السادسة بيضة، فمن جاء في أول ساعة منها، ومن جاء في آخرها مشتركان في تحصيل البدنة مثلاً، لكن بدنة الأول أكمل من بدنة الآخر، وبدنة المتوسط متوسطة» وهذا في حق غير الإمام أما هو فيسن له التأخير إلى وقت الخطبة اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ويسن إكثار الدعاء يومها وليلتها، أما يومها فلرجاء أن يصادف ساعة الإجابة، وهي ساعة خفية وإرجاها من جلوس الخطيب إلى آخر الصلاة كما في خبر مسلم. قال النووي: وأما خبر: «يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة فيه ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، فالتمسوها آخر
ساعة بعد العصر فيحتمل أن هذه الساعة منتقلة تكون يوماً في وقت، ويوماً في آخر كما هو المختار في ليلة القدر.
وأما ليلتها فبالقياس على يومها، وقد قال الشافعي: بلغني أن الدعاء يستجاب في ليلة الجمعة، ويسن إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يومها وليلتها لخبر: «أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة فمن صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً» وإكثار قراءة سورة الكهف يومها وليلتها لخبر: «من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق» وخبر: «من قرأها يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين» وفي هذا القدر كفاية.
ولما حث على الصلاة وأرشد إلى أن وقتها لا يصلح لطلب شيء غيرها بين لهم وقت المعاش بقوله تعالى:
{فإذا قضيت الصلاة} أي: وقع الفراغ منها على أيّ وجه كان {فانتشروا} أي: فدبوا وتفرقوا مجتهدين {في الأرض} أي: جميعها للتجارة والتصرف في حوائجكم إن شئتم لا جناح عليكم ولا حرج رخصة من الله تعالى لكم {وابتغوا} أي: اطلبوا الرزق {من فضل الله} أي: الذي بيده كل شيء ولا شيء لغيره، وهذا أمر إباحة كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} (المائدة: 2)
قال ابن عباس: إن شئت فاخرج، وإن شئت فاقعد، وإن شئت فصل إلى العصر. وقيل: فانتشروا في الأرض ليس لطلب دنيا، ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله تعالى. وقال الحسن، وسعيد بن جبير ومكحول {وابتغوا من فضل الله} هو طلب العلم {واذكروا الله} أي: الذي له الأمر كله {كثيراً} أي: بحيث لا تغفلون عنه بقلوبكم أصلاً ولا بألسنتكم حتى عند الدخول إلى الخلاء وعند أول الجماع، واستثني من الثاني وقت التلبس بالقذر كوقت قضاء الحاجة والجماع {لعلكم تفلحون} أي: تفوزون بالجنة والنظر إلى وجهه الكريم وعن جابر بن عبد الله «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة(4/289)
فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها، حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً» وفي رواية «أنا فيهم» فأنزل الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة} أي: حمولاً هي موضع للتجارة {أو لهواً} أي: ما يلهي عن كل نافع {انفضوا} أي: نفروا متفرقين من العجلة {إليها} أي: التجارة لأنها مطلوبهم دون اللهو، وأيضاً العطف بأو فإفراد الضمير أولى. وقال الزمخشري: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وذكر الكلبي وغيره: أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عن مجاعة وغلاء سعر، وكان معه جميع ما تحتاج إليه الناس من بر ودقيق وغيره، فنزل عند أحجار الزيت وضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه، فخرج الناس إلا اثنى عشر رجلاً، وقيل: أحد عشر رجلالاً وقال ابن عباس في رواية الكلبي: لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط. وقال الحسن وأبو مالك: أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فلما رأوه قاموا إليه بالبقيع خشوا أن يسبقوا إليه، فلما لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط منهم أبو بكر وعمر فنزلت هذه الآية، فقال صلى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده لو
تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً» .
وقال مقاتل بن حيان، ومقاتل بن سليمان: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة وكان إذا قدم المدينة لم يبق بالمدينة عاتق إلا أتته، وكان يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وغيره، فينزل عند أحجار الزيت، وكانت في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فخرج إليه الناس ليتبايعوا منه، فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس، ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لولا هؤلاء لرميت عليهم الحجارة من السماء» وأنزل الله تعالى هذه الآية والمراد باللهو الطبل.
وقيل: كانت العير إذا قدمت المدينة استقبلوا بالطبل والتصفيق. وقال علقمة: سئل عبد الله أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً أو قاعداً فقال: أما تقرأ {وتركوك قائماً} وعن جابر بن عبد الله قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين قائماً يفصل بينهما بجلوس» وذكر أبو داود في مراسيله السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة، وقد كانوا خليقاً لفضلهم أن لا يفعلوا، فقال: حدثنا محمد بن خالد، قال: حدثنا الوليد، قال: أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة كالعيدين، حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل يقال له: دحية بن خليفة قدم بتجارة، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة الخطبة وأخر الصلاة، وكان لا يخرج أحد لرعاف أو حدث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ثم يشير إليه بيده، فكان في المنافقين من تثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، فكان(4/290)
إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه مستتراً به حتى يخرج فأنزل الله تعالى: {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً} (النور: 63)
الآية» . قال السهيلي: وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوجب أن يكون صحيحاً وقال قتادة: وبلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات كل مرة عير تقدم من الشام، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة.
وقيل: إن خروجهم لقدوم دحية بتجارته ونظرهم إلى العير، وهي تمر لهو لا فائدة فيه إلا أنه كان مما لا إثم فيه لو وقع على ذلك الوجه، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والانفضاض عن حضرته غلظ وكبر، ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل. وقوله تعالى: {وتركوك} أي: تخطب حتى بقيت في اثني عشر رجلاً، قال جابر: أنا أحدهم {قائماً} جملة حالية من فاعل انفضوا، وقد مقدرة عند بعضهم.
تنبيه: في قوله تعالى: {قائماً} تنبيه على مشروعيته في الخطبتين، وهو من الشروط للقادر على القيام، وأما أركانهما فخمسة: حمد الله تعالى، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظهما، ووصية بتقوى الله، وهذه الثلاثة في كل من الخطبتين، وقراءة آية مفهمة ولو في إحداهما والأولى أولى، ودعاء للمؤمنين والمؤمنات في ثانية، ومن الشروط كونهما عربيتين، وكونهما في الوقت، وولاء، وطهر، وستر كالصلاة {قل} يا أشرف الخلق للمؤمنين {ما عند الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {خير} ما موصولة مبتدأ وخير خبرها {من اللهو ومن التجارة} والمعنى: ما عند الله تعالى من ثواب صلاتكم خير من لذة لهوكم، وفائدة تجارتكم. وقيل: ما عند الله من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما اقتسمتموه من لهوكم وتجارتكم {والله} أي: ذو الجلال والإكرام وحده {خير الرازقين} أي: خير من رزق وأعطى فاطلبوا منه، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة ومن لم يأتها في أمصار المسلمين» حديث موضوع.
سورة المنافقين
مدنية وهي إحدى عشرة آية، ومائة وثمانون كلمةوسبعمائة وستة وسبعون حرفاً
{بسم الله} الذي له الإحاطة العظمى علماً وقدرة {الرحمن} الذي ستر بعموم رحمته من أراد من عباده {الرحيم} الذي وفق أهل وده لما يحبه ويرضاه.
{إذا جاءك} يا أيها الرسول المبشر بك في التوراة والإنجيل، وقرأ حمزة وابن ذكوان بالإمالة والباقون بالفتح، وإذا وقف حمزة سهل الهمزة مع المد والقصر، وله أيضاً إبدالها ألفاً مع المد والقصر {المنافقون} أي: الغريقون في وصف النفاق، وهم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه {قالوا} مؤكدين لأجل استشعارهم بتكذيب من يسمعهم لما عندهم من الارتياب {نشهد} قال الحسن: هو بمنزلة اليمين كأنهم قالوا نقسم {إنك لرسول الله} أي: الملك الذي له الإحاطة الكاملة فوافقوا الحق بظاهر(4/291)
أحوالهم، وخالفوا بقلوبهم وأفعالهم. وقوله تعالى: {والله يعلم} أي: وعلمه هو العلم في الحقيقة، وأكد سبحانه بحسب إنكار المنافقين فقال تعالى: {إنك لرسوله} سواء أشهد المنافقون بذلك أم لا فالشهادة حق ممن يطابق لسانه قلبه جملة معترضة بين قولهم: {نشهد إنك لرسول الله} وبين قوله تعالى: {والله يشهد} لفائدة.
قال الزمخشري: لو قال قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد انهم لكاذبون، لكان يوهم أن قولهم هذا كذب فوسط بينهما قوله تعالى: {والله يعلم إنك لرسوله} ليميط هذا الإيهام {والله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال {يشهد} شهادة هي الشهادة لأنها محيطة بدقائق الظاهر والباطن {إن المنافقين} أي: الراسخين في وصف النفاق {لكاذبون} أي: في إخبارهم عن أنفسهم إنهم يشهدون، لأن قلوبهم لا تطابق ألسنتهم فهم لا يعتقدون ذلك، ومن شرط قول الحق أن يتصل ظاهره بباطنه وسره بعلانيته، ومتى تخالف ذلك فهو كذب ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم نشهد إنك لرسول الله وسماه الله تعالى كذباً لأن قولهم خالف اعتقادهم.
{اتخذوا أيمانهم} أي: كلها من شهادتهم وكل يمين سواها {جنة} أي: سترة عن أموالهم ودمائهم، روى البخاري عن زيد بن أرقم قال: كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبي ابن سلول يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني، فأصابني هم لم يصبني مثله فجلست في بيتي، فأنزل الله عز وجل {إذا جاءك المنافقون} إلى قوله تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله} وقوله {ليخرجن الأعز منها الأذل} فأرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «إن الله قد صدقك» وروى الترمذي عن زيد بن أرقم قال: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء، وكان الأعراب يسبقوننا فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض، ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه، قال: فأتى رجل من الأنصار أعرابياً فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه، فانتزع حجراً ففاض الماء، فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره، وكان من أصحابه فغضب عبد الله بن أبي، ثم قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، يعني: الأعراب وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام، فقال عبد الله: إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمداً بالطعام فليأكل هو ومن عنده، ثم قال لأصحابه: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال زيد: وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله بن أبي فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد، قال: فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني
قال: فجاء عمي إلي فقال: ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك المنافقون، قال: فوقع علي من جراءتهم ما لم يقع على أحد، قال: فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قد خفقت(4/292)