بإعطاء قدر الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة، ولهذا قال الفقهاء: إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من الرأس، فكأنه تعالى نهى أوّلاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً لتحصل له تلك الزيادة. وفي الثاني: أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج بالتعيين عن العهدة كما قيده بقوله تعالى {بالقسط} ، وفي الآية الثالثة نهى عن
النقص في كل الأشياء وكذا قوله تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} فإنّ العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد، ومفسدين حال مؤكدة لمعنى عاملها. وفائدتها: إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعله الخضر عليه السلام.
{بقيت الله} قال ابن عباس: يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن {خير لكم} مما تأخذونه بالتطفيف. وقال مجاهد: مما يحصل لكم في الدنيا من المال الحرام {إن كنتم مؤمنين} ، أي: مصدّقين بما قلت لكم وأمرتكم به.
فائدة: {بقيت} رسمت هنا بالتاء المجرورة وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي والباقون وقفوا عليها بالهاء. {وما أنا عليكم بحفيظ} أعلم جميع أعمالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فساداً. ولما أمرهم شعيب عليه السلام بشيئين بالتوحيد وبترك البخس.
{قالوا} له {يا شعيب} سموه باسمه استخفافاً وغلظة وأنكروا عليه متهزئين به {أصلواتك تأمرك} ، أي: تفعل معك فعل من يأمر دائماً بتكليفنا {أن نترك ما يعبد} ، أي: على سبيل المواظبة {آباؤنا} من الأصنام، فحذف الذي هو التكليف؛ لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره، قالوا له ذلك في جواب أمره لهم بالتوحيد {أو} نترك {أن نفعل} ، أي: دائماً {في أموالنا ما نشاء} من قطع الدراهم والدنانير وإفساد المعاملة والمقامرة ونحوها مما يكون إفساداً للمال، قالوا ذلك في جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإيفاء، وإنما أضافوا ذلك إلى صلاته تهكماً واستهزاء بها وإشعاراً بأن مثل هذا لا يدعو إليه داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه، وكان شعيب عليه الصلاة والسلام كثير الصلاة في الليل والنهار، وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا. وقصدوا بقولهم أصلواتك تأمرك السخرية والهزء، كما أنك إذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فيقال له: هذا فائدة مطالعة تلك الكتب على سبيل الهزء فكذا هنا. وقرأ حفص وحمزة والكسائي: أصلاتك بالإفراد، والباقون بالجمع والتاء بالرفع في القراءتين، وغلظ ورش اللام في أصلواتك، وقولهم له: {إنك لأنت الحليم الرشيد} تهكم به، وقصدوا وصفه بضدّ ذلك كما يقال للبخيل الخسيس: لو رآك حاتم لسجد لك، وعللوا إنكار ما سمعوه منه واستبعدوه بأنه موسوم بالحلم والرشد المانعين من المبادرة إلى مثل ذلك، ثم أخرج قوله عليه الصلاة والسلام على تقدير سؤال بقوله:
{قال يا قوم} مستعطفاً لهم لما بينهم من عواطف القرابة منبهاً لهم على أحسن النظر فيما ساقه على سبيل الفرض؛ والتقدير: ليكون أدعى إلى سبيل الوفاق والإنصاف {أرأيتم} ، أي: أخبروني {إن كنت على بينة} ، أي: برهان {من ربي} وعطف على جملة الشرط المستفهم عنه قوله: {ورزقني} والضمير في {منه} لله تعالى، أي: من عنده بإعانته بلا كدّ مني في تحصيله. وعظم الرزق(2/74)
بقوله: {رزقاً حسناً} جليلاً ومالاً حلالاً لم أظلم فيه أحداً، وجواب الشرط محذوف، أي: فهل يسوغ مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه فأخالفه في أمره ونهيه، وهذا اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء {وما أريد أن أخالفكم} ، أي: وأذهب {إلى ما أنهاكم عنه} فأرتكبه {إن} ، أي: ما {أريد} ، أي: فيما آمركم به وأنهاكم عنه {إلا الإصلاح} ، أي: ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهي عن المنكر {ما استطعت} ، أي: وهو الإبلاغ والإنذار فقط، ولا استطيع إجباركم على الطاعة؛ لأنّ ذلك إلى الله تعالى فإنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء {وما توفيقي} ، أي: لإصابة الحق والصواب {إلا بالله} ، أي: إلا بمعونته وتأييده {عليه} لا على غيره {توكلت} ، أي: اعتمدت في جميع أموري، فإنه القادر على كل شيء، وما عداه عاجز، وهذه الصيغة تفيد الحصر فلا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى، وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب المبدأ وأمّا قوله: {وإليه أنيب} ففيه إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضاً يفيد الحصر؛ لأنّ قوله وإليه أنيب يدل على أنه لا مآب للخلق إلا إلى الله تعالى، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيباً قال: «خطيب الأنبياء» لحسن مراجعته قومه.
{ويا قوم لا يجرمنكم} ، أي: لا يكسبنكم {شقاقي} ، أي: خلافي وهو فاعل بيجرم، والضمير مفعول أوّل، والمفعول الثاني {أن يصيبكم} عذاب العاجلة على كفركم وأفعالكم الخبيثة. قال في «الكشاف» : جرم مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد وإلى مفعولين، تقول: جرم ذنباً وكسبه وجرمته ذنباً وكسبته إياه. ومنه قوله تعالى {لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم} . {مثل ما أصاب قوم نوح} من الغرق {أو قوم هود} من الريح العقيم {أو قوم صالح} من الرجفة {وما قوم لوط منكم ببعيد} لا في الزمان ولا في المكان؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بهلاكهم، وكانوا جيران قوم لوط وبلادهم قريبة من بلادهم، فإن القرب في الزمان والمكان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال، فكأنه يقول: اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب. فإن قيل: لِمَ قال ببعيد ولم يقل ببعيدين؟ أجيب: بأنّ التقدير: وما إهلاكهم بشيء بعيد، وأيضاً يجوز أن يسوى في قريب وبعيد وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودهما على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما انتهى.
{واستغفروا ربكم} ، أي: آمنوا به {ثم توبوا إليه} عن عبادة غيره؛ لأنّ التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان وقد مرّ مثل ذلك. {إن ربي رحيم} ، أي: عظيم الرحمة للتائبين {ودود} ، أي: محب لهم. ولما بلغ عليه السلام في التقرير والبيان أجابوه بأنواع فاسدة.
الأوّل: {قالوا} له {يا شعيب ما نفقه} ، أي: ما نفهم {كثيراً مما تقول} . فإن قيل: إنه كان يخاطبهم بلسانهم فلم قالوا {ما نفقه} ؟ أجيب: بأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم لشدّة نفرتهم عن كلامه وهو قوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} أو أنهم فهموه ولكنهم ما أقاموا له وزناً، فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه: ما أدري ما تقول. النوع الثاني: قولهم له: {وإنا لنراك فينا ضعيفاً} ، أي: لا قوّة لك فتمتنع منا إن أردناك بسوء أو ذليلاً(2/75)
لا عز لك، وقيل: أعمى بلغة حمير، قاله قتادة، وفي هذا تجويز العمي على الأنبياء إلا أنّ هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى؛ لأنه ترك الظاهر من غير دليل، وقيل: ضعيف البصر، قاله الحسن. النوع الثالث: قولهم له: {ولولا رهطك} ، أي: عشيرتك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم {لرجمناك} بالحجارة حتى تموت، والرهط من الثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى السبعة، والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا له أنه لا حرمة له عندهم ولا وقع له في صدورهم وأنهم إنما لم يقتلوه لأجل احترام رهطه. النوع الرابع: قولهم له: {وما أنت علينا بعزيز} ، أي: لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم، وإنما يعز علينا رهطك؛ لأنهم من أهل ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا، ولما خوّف الكفار شعيباً عليه السلام بالقتل والإيذاء حكى الله تعالى عنهم ما ذكروه في هذا المقام وهو نوعان: الأوّل:
{قال} لهم {يا قوم} مستعطفاً لهم مع غلظتهم عليه {أرهطي أعز عليكم من الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلماً حتى نظرتم إليهم فيّ لقرابتي منهم، ولم تنظروا إلى الله تعالى في قربي منه لما ظهر عليّ من كرامته تعالى {واتخذتموه وراءكم ظهرياً} ، أي: جعلتموه كالمنسيّ المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به، والإهانة لرسوله. قال في «الكشاف» : والظهريّ منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب، ونظيره قولهم في النسبة إلى الأمس أمسيّ بكسر الهمزة، وقوله: {إنّ ربي بما تعملون محيط} ، أي: إنه عليم بأحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها. النوع الثاني: قوله:
{ويا قوم اعملوا على مكانتكم} والمكانة الحالة التي يمكن صاحبها من عمله، والمعنى: اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة وكل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إليّ، {إني} أيضاً {عامل} بما آتاني الله من القدرة والطاعة {سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب} فمن موصولة مفعول العلم. فإن قيل: لم لم يقل فسوف تعلمون؟ أجيب: بأنّ إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل وأمّا حذف الفاء فيجعله جواباً عن سؤال مقدّر وهو المسمى في علم البيان بالاستئناف البياني، تقديره أنه لما قال: {ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل} فكأنهم قالوا: فماذا يكون بعد ذلك فقال: سوف تعلمون، فظهر أن حذف حرف الفاء ههنا أكمل في بيان الفصاحة والتهويل؛ لأنه استئناف. {وارتقبوا} ، أي: انتظروا عاقبة أمركم {إني معكم رقيب} ، أي: منتظر، والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب والصريم، بمعنى الضارب والصارم أو بمعنى المراقب كالعشير والنديم، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع.
{ولما جاء أمرنا} بعذابهم وإهلاكهم {نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة} ، أي: بفضل {منا} بأن هديناهم للإيمان ووفقناهم للطاعة. فإن قيل: لم جاءت قصة عاد وقصة مدين بالواو وقصة صالح ولوط بالفاء؟ أجيب: بأنّ قصة عاد ومدين لم يسبقهما ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنهما ذكرا بعد الوعد وذلك قوله تعالى: {وعد غير مكذوب} وقوله: {إنّ موعدهم الصبح} فلذلك جاءا بفاء السببية. {أخذت الذين ظلموا} ، أي: ظلموا أنفسهم بالشرك والبخس. {الصيحة} ، أي: صيحة جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة خرجت أرواحهم وماتوا جميعاً، وقيل: أتتهم صيحة من السماء {فأصبحوا(2/76)
في ديارهم جاثمين} ، أي: باركين على الركب ميتين.
{كأن لم يغنوا} ، أي: كأنهم لم يقيموا {فيها} ، أي: ديارهم مدّة من الدهر، مأخوذ من قولهم: غني بالمكان إذا أقام فيه مستغنياً به عن غيره {ألا بعداً} ، أي: هلاكاً {لمدين كما بعدت ثمود} إنما شبههم بهم؛ لأنّ عذابهم كان أيضاً بالصيحة لكن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم، قال ابن عباس: لم يعذب الله تعالى أمّتين بعذاب إلا قوم شعيب وقوم صالح؛ فأمّا قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأمّا قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم.
القصة السابعة: التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي آخر قصصها قصة موسى عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى:
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} أي: التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام {وسلطان مبين} أي: برهان بيّن ظاهر على صدق نبوّته ورسالته وقيل: المراد بالآيات المعجزات وبالسلطان المبين العصا؛ لأنها أظهر الآيات، وذلك لأنّ الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات وهي العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص من الثمرات والسنين، ومنهم من أبدل نقص الثمرات والسنين بإظلال الجبل وفلق البحر. قال بعض المحققين: سميت الحجة سلطاناً لأنّ صاحب الحجة يقهر من لا حجة له، كالسلطان يقهر غيره، والعلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوّة العلمية، والملوك سلاطين بحسب ما معهم من القدرة والمكنة إلا ان سلطنة العلماء أكمل وأقوى من سلطنة الملوك؛ لأنّ سلطنة العلماء لا تقبل النسخ والعزل وسلطنة الملوك تقبلهما ولأنّ سلطنة الملوك تابعة لسلطنة؛ العلماء لأنّ سلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة.
{إلى فرعون} طاغية القبط {وملئه} ، أي: أشراف قومه الذين تتبعهم الأذناب؛ لأنّ القصد الأكبر رفع أيديهم عن بني إسرائيل {فاتبعوا أمر فرعون} ، أي: اتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال والطغيان الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل ولم يتبعوا موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات الظاهرة الباهرة لفرط جهالتهم وعدم استبصارهم {وما أمر فرعون برشيد} ، أي: بسديد ولا حميد العاقبة ولا يدعو إلى خير وقيل: رشيد ذو رشد، وانسلاخ فرعون من الرشد كان ظاهراً؛ لأنه كان دهرياً نافياً للصانع والمعاد وكان يقول: لا إله للعالم وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم وعبوديته رعاية لمصلحة العالم، وكل الرشد في عبادة الله تعالى ومعرفته، فلما كان هو نافياً لهذين الأمرين كان خالياً من الرشد بالكلية.
{يقدم قومه يوم القيامة} إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال أو كما تقدم قومه في الدنيا فأدخلهم البحر وأغرقهم فكذا يتقدمهم في القيامة فيدخلهم النار كما قال تعالى: {فأوردهم النار} . فإن قيل: لم لم يقل يقدم قومه فيوردهم النار بل أتى بلفظ الماضي؟ أجيب: بأنه إنما أتى بلفظ الماضي مبالغة في تحققه، ونزل النار له منزلة الماء فسمّى إتيانها مورداً، ولهذا قال تعالى: {وبئس الورد المورود} وردهم لأنّ الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضدّه. فإن قيل: لفظ النار مؤنث فكان مقتضى ذلك أن يقال: وبئست الورد المورود؟ أجيب: بأن لفظ الورد مذكر فكان التذكير(2/77)
والتأنيث جائزين كما تقول: نعم المنزل دارك ونعمت المنزل دارك، فمن ذكر غلب المنزل ومن أنث بنى على تأنيث الدار.
{وأتبعوا في هذه} ، أي: الدنيا {لعنة} ، أي: طرداً وبعداً عن الرحمة {ويوم القيامة} ، أي: وأتبعوا يوم القيامة لعنة أخرى فهم ملعونون في الدنيا والآخرة، ونظيره قوله تعالى في سورة القصص: {وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} (القصص، 42) . {بئس الرفد} ، أي: العون {المرفود} رفدهم، سأل رافع بن الأزرق ابن عباس عن ذلك فقال: هو اللعنة بعد اللعنة. وقال قتادة: ترادفت عليهم لعنتان من الله تعالى لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة، وكل شيء جعلته عوناً لشيء فقد رفدته به، وسميت اللعنة عوناً؛ لأنها إذا أتبعتهم في الدنيا أبعدتهم عن الرحمة وأعانتهم على ما هم فيه من الضلال. وسميت رفداً أي عوناً لهذا المعنى على التهكم كقول القائل: تحية بينهم ضرب وجيع. وسميت معاناً لأنها أردفت في الآخرة بلغة أخرى ليكونا هاديتين إلى طريق الجحيم. ولما ذكر تعالى قصص الأوّلين قال تعالى: {ذلك} ، أي: المذكور وهو مبتدأ خبره {من أنباء القرى} ، أي: أخبار أهل القرى وهم الأمم السالفة في القرون الماضية، وقوله تعالى: {نقصه عليك} ، أي: نخبرك به يا محمد خبراً بعد خبر، وفائدة ذكر هذه القصص على النبيّ صلى الله عليه وسلم ليعلم السامع أنّ المؤمن يخرج من الدنيا مع الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، وأنّ الكافر يخرج مع اللعنة في الدنيا والعقاب في الآخرة، وإذا تكرّرت هذه الأقاصيص على السمع فلا بدّ وأن يلين القلب وتخضع النفس وتزول العداوة ويحصل في القلب خوف يحمله على النظر والاستدلال. وفي أخباره صلى الله عليه وسلم بهذه القصص من غير مطالعة كتب ولا تتملذ دلالة على نبوّته فإنّ ذلك لا يكون إلا بوحي من الله تعالى {منها} ، أي: القرى {قائم} ، أي: باقٍ كالزرع القائم هلك أهله دونه {و} منها {حصيد} ، أي: عافى الأثر كالزرع المحصود هلك مع أهله.
{وما ظلمناهم} ، أي: بإهلاكهم بغير ذنب {ولكن ظلموا أنفسهم} بالكفر والمعاصي. وقال ابن عباس: يريد وما نقصناهم في الدنيا من النعيم والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفّوا بحقوق الله تعالى {فما أغنت} ، أي: دفعت {عنهم آلهتهم} ، أي: أصنامهم {التي يدعون} ، أي: يعبدون {من دون الله} ، أي: غيره {من شيء} أي شيئاً فمن مزيدة {لما جاء أمر ربك} ، أي: عقابه {وما زادوهم} بعبادتهم {غير تتبيب} ، أي: غير تخسير، وقيل: تدمير، ولما أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه بما فعله بأمم من تقدّم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما خالفوا الرسل وما ورد عليهم من عذاب الاستئصال وبين أنهم ظلموا أنفسهم فحل بهم العذاب في الدنيا.
قال تعالى بعده: {وكذلك} ، أي: ومثل ذلك الأخذ العظيم {أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي} ، أي: القرى {ظالمة} والمراد أهلها ونظيره قوله تعالى: {وكما أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} (القصص، 58) وقوله تعالى: {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة} (الأنبياء، 12) فبين تعالى أنّ عذابه ليس مقصوراً على من تقدّم، بل الحال في أخذ كل الظالمين يكون كذلك. ولما بيّن تعالى كيفية أخذ الأمم المتقدّمة، ثم بين تعالى أنه إنما يأخذ جميع الظالمين على ذلك الوجه أتبعه بما يزيده تأكيداً وتقوية بقوله تعالى: {إنّ أخذه أليم} ، أي: مؤلم {شديد} ، أي: صعب مفتت القوى. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله(2/78)
عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» . ثم قرأ {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد} » وفي هذه الآية الكريمة والحديث الشريف دلالة على أن من أقدم على ظلم فإنه يتداركه بالتوبة والإنابة وردّ الحقوق إلى أهلها، إن كان الظلم للغير لئلا يقع في هذا الوعيد العظيم والعذاب الشديد، ولا يظنّ أنّ هذه الآية مختصة بظالمي الأمم الماضية بل هي عامّة في كل ظالم ويعضده الحديث.
{إنّ في ذلك} ، أي: ما ذكر من عذاب الأمم الماضية وإهلاكهم {لآية} ، أي: لعبرة وموعظة {لمن خاف عذاب} يوم الحياة {الآخرة} لأنه ينظر ما أحلّ الله تعالى بالمجرمين في الدنيا وما هو إلا أنموذج لما أعد لهم في الآخرة، فإذا رأى عظمه وشدّته اعتبر به عظم العذاب الموعود فيكون له عبرة وعظة ولطفاً في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى، وقوله: {ذلك} إشارة إلى يوم القيامة؛ لأنّ عذاب الآخرة دل عليه {يوم مجموع له} ، أي: فيه {الناس} ، أي: إنّ خلق الأوّلين والآخرين كلهم يحشرون في ذلك اليوم ويجمعون، ثم وصفه تعالى بوصف آخر بقوله تعالى: {وذلك يوم مشهود} ، أي: يشهده أهل السموات وأهل الأرض.
{وما نؤخره} ، أي: ذلك اليوم وهو يوم القيامة {إلا لأجل} ، أي: وقت {معدود} ، أي: معلوم محدود وذلك الوقت لا يعلمه إلا الله تعالى.
{يوم يأت} ذلك اليوم {لا تكلم} فيه حذف إحدى التاءين، أي: لا تتكلم {نفس إلا بإذنه} تعالى. وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء بعد التاء من يأتي وصلاً ووقفاً وحذفها الباقون، وأمّا التاء من تكلم فشدّدها البزي في الوصل وخففها الباقون. فإن قيل: كيف يوفق بين قوله تعالى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} (النحل، 111) وقوله تعالى: {هذا يوم ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} ؟ أجيب: بأنّ ذلك اليوم يوم طويل له مواقف ومواطن، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفي بعضها يكفون عن الكلام ولا يؤذن لهم، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم {فمنهم} ، أي: الناس {شقيّ و} منهم {سعيد} ، أي: فمنهم من سبقت له الشقاوة فوجبت له النار بمقتضى الوعيد، ومنهم من سبقت له السعادة فوجبت له الجنة بموجب الوعد، وعن عليَ رضي الله تعالى عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله وبيده مخصرة ثم نكت بها الأرض ساعة، ثم قال: «ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أمّا من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ {فأمّا من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى فسنيسره لليسرى} (الليل، 5، 6، 7) الآية» . وبقيع الغرقد هو مقبرة أهل المدينة الشريفة ومدفنهم فيه، والمخصرة كالسوط والعصا مما يمسكه الإنسان بيده، والنكت بالنون والتاء المثناة من فوق ضرب الشيء بتلك المخصرة أو باليد أو نحو ذلك حتى يؤثر فيه.
{فأمّا الذين شقوا} في علمه تعالى {ففي النار لهم فيها زفير} وهو صوت شديد {وشهيق} وهو صوت ضعيف. وقيل: الزفير إخراج النفس والشهيق ردّه. وقيل: الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير بالنهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار إذا ردّده في صدره. وقيل: الزفير(2/79)
في الحلق والشهيق في الصدر، وعلى كل المراد منهما الدلالة على شدّة كربهم وغمهم {خالدين فيها} وقوله تعالى: {ما دامت السموات والأرض} فيه وجهان: أحدهما: سموات الآخرة وأرضها وهي مخلوقة دائمة للأبد والدليل على أن لها سموات وأرضاً قوله تعالى: {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات} (إبراهيم، 48) . وقوله تعالى: {وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء} (الزمر، 74) ، ولأنه لا بدّ لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إمّا سماء يخلقها الله تعالى، أو يظلهم العرش وكل ما أظلك فهو سماء، وكل ما استقرّ قدمك عليه فهو أرض. والوجه الثاني: أنّ المراد مدّة دوامهما في الدنيا {إلاّ} ، أي: غير {ما شاء ربك} من الزيادة على مدّتهما مما لا منتهى له وذلك هو الخلود فيها أبداً {إن ربك فعال لما يريد} من غير اعتراض.
{وأمّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} كما تقدّم، ودل عليه قوله تعالى: {عطاء غير مجذوذ} ، أي: مقطوع، وقيل الاستثناء في أهل الشقاوة يرجع إلى قوم من الموحدين يدخلهم الله تعالى إلى النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها فيكون ذلك استثناء، وذلك كافٍ في صحة الاستثناء؛ لأنّ زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض من غير الجنس لأنّ الذين أخرجوا من النار سعداء في الحقيقة استثناهم الله تعالى من الأشقياء،. لما روي عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج قوم من النار بالشفاعة» ، وفي رواية: «أن الله تعالى يخرج ما شاء من النار فيدخلهم الجنة» . وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليصيبن قوماً سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم الله بفضله ورحمته الجنة» وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة فيسمون الجهنميين» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: «ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد» ، أي: من أهل الكبائر من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم بأن تخلى طبقتهم التي كانوا فيها وإن نازع في ذلك الزمخشري على مذهبه الفاسد من أنّ أهل الكبائر يخلدون في النار، وأمّا الاستثناء في أهل السعادة فيرجع إلى مدّة لبثهم في النار قبل دخولهم الجنة أو أنّ الاستثناء راجع إلى الفريقين فإنهم مفارقوا الجنة أيام عذابهم، وأنّ التأبيد من مبدأ معين ينقص باعتبار الابتداء كما ينقص باعتبار الانتهاء، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله تعالى: {فمنهم شقيّ وسعيد} تقسيماً صحيحاً؛ لأنّ شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه؛ لأنّ ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي، أو مانع من الجميع من الجنة والنار، مدّة تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ وهو ما بين الموت إلى البعث ومدّة
وقوفهم للحساب، ثم يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيكون المعنى خالدين في الجنة والنار إلا هذا المقدار. وقيل: معناه لو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء؛ لأنه تعالى حكم بالخلود. وقال الفراء: هذا الاستثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله، كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه.
وقال أهل المعاني: هذه عبارة عن التأبيد على عادة العرب يقولون: لا آتيك ما دامت السموات والأرض ولا يكون كذا ما اختلف الليل والنهار يعنون أبداً. وقيل: إنّ أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحياناً،(2/80)
وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة وهو الفوز برضوان الله تعالى ولقائه كما قال تعالى: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر} (التوبة، 72) . وقرأ حفص وحمزة والكسائي سعدوا بضم السين على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده والباقون بفتحها، وعطاء نصب على المصدر المؤكد، أي: أعطوا عطاء، أو الحال من الجنة، ولما شرح الله تعالى أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء شرح للرسول صلى الله عليه وسلم أحوال الكفار من قومه فقال:
{فلا تك} يا محمد {في مرية} ، أي: شك {مما يعبد هؤلاء} المشركون من الأصنام أننا نعذبهم كما عذبنا من قبلهم، وهذه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم {ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم} ، أي: كعبادتهم {من قبل} وقد عذبناهم {وإنا لموفوهم} مثلهم {نصيبهم} ، أي: حظهم من العذاب {غير منقوص} ، أي: كاملاً غير ناقص. ولما ذكر تعالى في هذه الآية إعراضهم عن الاتباع مع ما أتى به من المعجزات وأنزل عليه من الكتاب سلاه بأخيه موسى عليه السلام بقوله تعالى:
{ولقد آتينا موسى الكتاب} ، أي: التوراة الجامعة للخير {فاختلف فيه} ، أي: الكتاب، فآمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف هؤلاء في القرآن {ولولا كلمة سبقت من ربك} بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة {لقضي} ، أي: لوقع القضاء {بينهم} ، أي: بين من اختلف في كتاب موسى في الدنيا فيما اختلفوا فيه بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز به المحق، ولكن سبقت الكلمة أنّ القضاء الكامل إنما يكون يوم القيامة كما قال تعالى في سورة يونس عليه السلام: {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم} (يونس، 93) الآية ولما كان الاختلاف قد يكون بغير الكفر بين تعالى أنه به؛ لأنّ كل طائفة من اليهود تنكر شكها فيه وفعلها فعل الشاك فقال تعالى مؤكداً: {وإنهم لفي شك} ، أي: عظيم محيط بهم {منه} ، أي: من الكتاب والقضاء {مريب} ، أي: موقع في الريب والتهمة والاضطراب مع ما رأوا من الآيات التي منها سماع كلام الله تعالى ورؤية ما كان يتجلى في جبل الطور من خوارق الأحوال. وقيل: الضمير في وإنهم راجع لكفار مكة وفي منه للقرآن {وإن كلا} ، أي: كل الخلائق، وقوله تعالى {لما} ما زائدة واللام موطئة لقسم مقدّر تقديره والله {ليوفينهم ربك أعمالهم} فيجازي المصدّق على تصديقه الجنة، ويجازى المكذب على تكذيبه النار. وقرأ نافع وابن كثير وشعبة بتخفيف وإن والباقون بالتشديد، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد ميم لما والباقون بالتخفيف.
فائدة: قال بعض الفضلاء أنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التأكيدات: أوّلها: كلمة إن وهي للتأكيد، وثانيها: لفظة كل وهي أم الباب في التأكيد. وثالثها: اللام الداخلة على خبر إن تفيد التأكيد أيضاً. ورابعها: حرف ما إذا جعلناه على قول الفراء موصولاً. وخامسها: المضمر. وسادسها: اللام الثانية الداخلة على جواب القسم. وسابعها: النون المذكورة في قوله تعالى {ليوّفينّهم} فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدلّ على أنّ أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر، ثم أردفه بقوله(2/81)
تعالى: {إنه بما يعملون خبير} وهو من أعظم المؤكدات فإنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده، ففيه وعد للمحسنين ووعيد للمكذبين الكافرين. ولما بين تعالى أمر الوعد والوعيد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم
{فاستقم} ، أي: على دين ربك والعمل والدعاء إليه {كما أمرت} والأمر في ذلك للتأكيد فإنّه صلى الله عليه وسلم كان على الاستقامة لم يزل عليها، فهو كقولك للقائم: قم حتى آتيك، أي: دم على ما أنت عليه من القيام حتى آتيك، وتوطيئة لقوله تعالى: {ومن تاب معك} ، أي: وليستقم أيضاً على دين الله والعمل بطاعته من آمن معك. قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ عنه روغان الثعلب، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى شدّة الاستقامة بقوله:
«شيبتني هود وأخواتها» ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم آية أشدّ ولا أشق من هذه الآية، وعن بعضهم: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له: يروى عنك أنك قلت: «شيبتني هود» فقال: نعم. فقلت: بأيّ آية قال: «قوله تعالى {فاستقم كما أمرت} . وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحد غيرك؟ قال: «قل آمنت بالله ورسوله ثم استقم» . قال الإمام الرازي: إن هذه الآية أصل عظيم في الشريعة، وذلك لأنّ القرآن لما ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتبة في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيها لقوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل والبقر من البقر وجب اعتبارها، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به انتهى. ولما كانت الاستقامة هي التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط نهى عن الإفراط بقوله تعالى: {ولا تطغوا} ، أي: لا تتجاوزوا الحد فيما أمرتم به أو نهيتم عنه بالزيادة إفراطاً، فإن الله تعالى إنما أمركم ونهاكم لتهذيب أنفسكم لا لحاجته إلى ذلك، ولن تطيقوا أن تقدروا الله حق قدره والدين متين لم يشادّه أحد إلا غلبه، كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» ، فقوله صلى الله عليه وسلم: إنّ الدين يسر ضدّ العسر أراد به التسهيل في الدين وترك التشديد فإنّ هذا الدين مع يسره وسهولته قوي فلن يغالب ولن يقاوى. وقوله وسدّدوا، أي: اقصدوا السداد في الأمور وهو الصواب وقاربوا، أي: اطلبوا المقاربة وهي القصد الذي لا غلوّ فيه ولا تقصير، والغدوة الرواح بكرة، والرواح الرجوع عشاء. والمراد منه: اعملوا بالنهار واعملوا بالليل أيضاً. وقوله: واستعينوا بشيء من الدلجة إشارة إلى تقليله،
ولما نهى تعالى عن الإفراط وهو الزيادة تصريحاً أفهم النهي عن التفريط وهو النقص عن المأمور تلويحاً من باب أولى، ثم علل ذلك مؤكداً تنزيلاً لمن يفرط أو يفرّط منزلة المنكر فقال: {إنه بما تعملون بصير} ، أي: عالم بأعمالكم كلها لا يخفى عليه شيء منها فيجازيكم عليها.
{ولا تركنوا} ، أي: تميلوا {إلى الذين ظلموا} أدنى ميل {فتمسكم النار} ، أي: تصيبكم بحرها والنهي متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومراقبتهم والرضا بأعمالهم والتشبيه بهم والتزيي بزيهم ومد العين إلى زهرتهم وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله تعالى: {ولا تركنوا} فإنّ الركون هو الميل(2/82)
اليسير. وحكي أنّ الموفق صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له في ذلك فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك، أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء قال الله سبحانه وتعالى: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} (آل عمران، 187) واعلم أنّ أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغيّ بدونك ممن لم يؤد حقاً ولم يترك باطلاً، حين أدناك اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم وجسراً يعبرون عليك إلى ملاذهم وسلّماً يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما أعمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً} (مريم، 59) فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل، فداوِ دينك فقد دخله
سقم، وهيئ
زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء والسلام. وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القرّاء الزائرون للملوك. وعن الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملاً، أي: من الظلمة. وعن محمد بن سلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء. قال صلى الله عليه وسلم: «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله في أرضه» . ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء فقال: لا فقيل له: يموت، فقال: دعه يموت. وقوله تعالى: {وما لكم من دون الله من أولياء} ، أي: أعواناً وأنصاراً يمنعوكم من عذابه حال من قوله: {فتمسكم النار} ، أي: فتمسكم النار وأنتم على هذه الحالة {ثم لا تنصرون} ، أي: لا تجدون من ينصركم ويخلصكم من عذاب الله في القيامة. ففي هذه الآية وعيد لمن ركن إلى الظلمة بأن تمسه النار فكيف يكون حال الظالم في نفسه. ولما أمر تعالى بالاستقامة أردفه بالأمر بالصلاة بقوله تعالى:
{وأقم الصلاة} وذلك يدلّ على أنّ أعظم العبادات بعد الإيمان بالله تعالى هو الصلاة وقوله تعالى: {طرفي النهار} الغداة والعشي، أي: الصبح والظهر والعصر. وقوله تعالى: {وزلفاً} جمع زلفةً، أي: طائفة {من الليل} ، أي: المغرب والعشاء {إنّ الحسنات} كالصلوات الخمس {يذهبن} ، أي: يكفرن {السيئات} ، أي: الذنوب الصغائر، لما رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر» ، وزاد في رواية أخرى: «ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر» ، وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرأيتم لو أنّ نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرّات ما تقولون هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يارسول الله، لا يبقى من درنه شيء.u
فقال: ذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا» . وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرّات» . وعن الحسن أنّ الحسنات قول العبد: سبحان والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.(2/83)
وسبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي عن أبي اليسر بن عمر وقال: أتتني امرأة وزوجها بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعث فقالت: بعني بدرهم تمراً. قال: فأعجبتني فقلت: إنّ في البيت تمراً هو أطيب من هذا فالحقيني، فَدَخَلَتْ معي البيت فأهويت إليها فقبلتها، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً، فأتيت عمراً فذكرت له ذلك فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحداً، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: «أخنت رجلاً غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا» حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة حتى ظنّ أنه من أهل النار وأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً حتى أوحي إليه: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل} إلى قوله تعالى: {ذلك ذكرى للذاكرين} ، أي: عظة للمتقين. قال أبو اليسر: فأتيته فقرأها عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهذا خاصة أم للناس عامّة؟ قال: «بل للناس عامّة» . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وعن عبد الله بن مسعود أنّ رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فنزلت فقال رجل: يا رسول الله، ألهذا خاصة؟ فقال: «بل للناس كافة» . وعن معاذ بن جبل قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً لقي امرأة ليس بينهما معرفة وليس يأتي الرجل إلى امرأة شيئاً إلا قد أتى هو إليها إلا أنه لم يجامعها؟ قال: فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ويصلي، فقال معاذ بن جبل فقلت: يا
رسول الله، أهي له خاصة أم للمؤمنين عامّة؟ قال: «بل للمؤمنين عامّة» . قال العلماء: الصغائر من الذنوب تكفرها الأعمال الصالحة مثل الصلاة والصدقة والذكر والاستغفار ونحو ذلك من أعمال البر، وأمّا الكبائر من الذنوب فلا يكفرها إلا التوبة النصوح ولها ثلاث شرائط: الأوّل: الإقلاع عن الذنب بالكلية، الثاني: الندم على فعله، الثالث: العزم التام على أن لا يعود إليه في المستقبل، فإذا حصلت هذه الشرائط صحت التوبة وكانت مقبولة إن شاء الله تعالى والإشارة في قوله تعالى {ذلك ذكرى} إلى ما تقدّم ذكره من قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} إلى ههنا. وقيل: هو إشارة إلى القرآن. وقوله تعالى:
{واصبر} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي: واصبر يا محمد على أذى قومك أو على الصلاة وهو قوله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليهافإن الله لا يضيع أجر المحسنين} ، أي: أجر أعمالهم. وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود ودليلاً على أنّ الصلاة والصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإخلاص. ولما بيّن تعالى أنّ الأمم المتقدّمين حل بهم عذاب الاستئصال بين أنّ السبب فيه أمران، السبب الأوّل: أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض فقال تعالى:
{فلولا} ، أي: فهلا {كان من القرون} ، أي: من الأمم الماضية {من قبلكم أولو بقية} ، أي: أصحاب رأي وخير وفضل {ينهون عن الفساد في الأرض} وسمي الفضل والجود بقية؛ لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلاً في الجودة والفضل، ويقال: فلان من بقية القوم، أي: من خيارهم وبه فسر بيت الحماسة:
*إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم
ومنه قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم(2/84)
وصيانة لها من سخط الله تعالى وعقابه.
فائدة: حكي عن الخليل أنه قال: كل ما في القرآن من كلمة لولا فمعناه هلا إلا التي في الصافات. قال صاحب «الكشاف» : وما صحت هذه الحكاية ففي غير الصافات {لولا أن تداركه نعمة من ربه} (القلم، 49) ، {ولولا رجال مؤمنون} (الفتح، 25) ، {ولولا أن ثبتناك} (الإسراء، 74) انتهى. وقوله تعالى: {إلا قليلاً ممن أنجينا منهم} استثناء منقطع، معناه: ولكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي. السبب الثاني لنزول عذاب الاستئصال قوله تعالى: {واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه} ، أي: ما نعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك {وكانوا مجرمين} ، أي: كافرين.
تنبيه: قوله تعالى: (واتبع الذين ظلموا) إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفاً على مضمر؛ لأنّ المعنى إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد، وأتبع الذين ظلموا شهواتهم فهو عطف على نهوا، وإن كان معناه واتبعوا جزاء الاتراف فالواو للحال فكأنه قيل: أنجينا القليل وقد أتبع الذين ظلموا جزاءهم. وقوله تعالى: {وكانوا مجرمين} عطف على أترفوا، أي: اتبعوا الاتراف، وكونهم مجرمين؛ لأنّ تابع الشهوات مغمور بالآثام أو على اتبعوا، أي: اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. ثم بيّن تعالى أنه ما أهلك أهل القرى بظلم بقوله تعالى:
{وما كان ربك ليهلك القرى بظلم} ، أي: بشرك {وأهلها مصلحون} فيما بينهم، والمعنى: أنه لا يهلك أهل القرى بمجردّ كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم، والحال أنّ عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين الشرك بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤوا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم، ولهذا قيل: إنّ حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة، وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح. ويقال في الأثر: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم، وإنما نزل على قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عذاب الاستئصال لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق {ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة} ، أي: أهل ملة واحدة وهي الإسلام كقوله تعالى {إنّ هذه أمتكم أمة واحدة} وفي هذه الآية دليل على أنّ الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل أحد، وأن ما أراده يجب وقوعه. والمعتزلة يحملون هذه الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار، ولهذا قال الزمخشري: يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أهل ملة واحدة {ولا يزالون مختلفين} ، أي: على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومجوسي ومشرك ومسلم، فكل أهل دين من هذه الأديان اختلفوا في دينهم أيضاً اختلافاً كثيراً لا ينضبط. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة» وفي رواية «ألا إنّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإنّ هذه الأمّة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة فثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة» . والمراد بهذه الفرق: أهل البدع والأهواء كالقدرية والمعتزلة والرافضة. والمراد بالواحدة: هي ملة السنة والجماعة الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله. فإن قيل: ما الدليل على أنّ الاختلاف في الأديان فلم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال؟ أجيب:
بأنّ الدليل عليه ما قبل هذه(2/85)
الآية وهو قوله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة} (هود، 118) فيجب حمل الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمّة واحدة وما بعد هذه الآية وهو قوله تعالى: {إلا من رحم ربك} ، أي: أراد لهم الخير فلا يختلفون فيه، فيجب حمل الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه ذلك، وفي هذه الآية دلالة على أنّ الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى؛ لأنّ تلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العذر، فإنّ كل ذلك حاصل في حق الكفار فلم يبق إلا أن يقال: تلك الرحمة هو أنه سبحانه وتعالى خلق فيهم تلك الهداية والمعرفة {ولذلك خلقهم} ، أي: خلق أهل الاختلاف للاختلاف، وخلق أهل الرحمة للرحمة. روي عن ابن عباس أنه قال: خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا، وخلق أهل العذاب لأن يختلفوا، وخلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً، والحاصل: أنّ الله تعالى خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين، وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين، فحكم على بعضهم بالاختلاف وهم أهل الباطل ومصيرهم إلى النار، وحكم على بعضهم بالاتفاق وهم أهل الحق ومصيرهم إلى الجنة، ويدل لذلك قوله تعالى: {وتمت كلمة ربك} وهي {لأملأنّ جهنم من الجنة} ، أي: الجنّ {والناس أجمعين} وهذا صريح بأنّ الله تعالى خلق أقواماً للجنة والرحمة فهداهم ووفقهم لأعمال أهل الجنة، وخلق أقواماً للضلالة والنار فخذلهم ومنعهم من الهداية، ولما ذكر تعالى القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر نوعين من الفائدة أوّلهما تثبيت الفؤاد بقوله تعالى:
{
وكلاً} ، أي: وكل نبأ {نقص عليك} وقوله تعالى: {من أنباء الرسل} ، أي: نخبرك به بيان لكل. وقوله تعالى: {ما نثبت به فؤادك} بدل من كلاً، ومعنى تثبيت فؤاده: زيادة يقينه وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى، وذلك لأنّ الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية فإذا رأى له فيه مشاركاً خف ذلك على قلبه كما يقال: المصيبة إذا عمت خفت، وإذا سمع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القصص وعلم أنّ حال جميع الأنبياء مع أتباعهم هكذا سهل عليه تحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه. الفائدة الثانية: قوله تعالى: {وجاءك في هذه الحق} ، أي: في السورة وعليه الأكثر، أو في هذه الأنباء المقتصة فيها. وقال الحسن: في هذه الدنيا. قال الرازي: وهذا بعيد غير لائق بهذا الموضع؛ لأنه لم يجر للدنيا ذكر حتى يعود الضمير لها. فإن قيل: قد جاءه الحق في غير هذه السورة بل القرآن كله حق وصدق؟ أجيب: بأنه إنما خصها بالذكر تشريفاً لها {وموعظة وذكرى للمؤمنين} وخصهم بالذكر لانتفاعهم بذلك بخلاف الكفار، فذكر تعالى أموراً ثلاثة: الحق والموعظة والذكرى، أمّا الحق فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد، وأمّا الموعظة فهي إشارة إلى السفر عن الدنيا وتقبيح أحوالها، وأمّا الذكرى فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال النافذة الصالحة في الدار الآخرة، ولما بلغ تعالى الغاية والإنذار والإعذار والترغيب والترهيب أتبع ذلك بأن قال لرسوله صلى الله عليه وسلم
{وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم} ، أي: حالتكم، وفيه وعيد وتهديد، وإن كانت صيغته صيغة الأمر فهو كقوله تعالى لإبليس: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك(2/86)
ورجلك} (الإسراء، 64) وقرأ شعبة بعد النون بألف على الجمع والباقون بغير ألف على الإفراد {إنا عاملون} ، أي: على حالتنا التي أمرنا بها ربنا {وانتظروا} ، أي: ما يعدكم الشيطان به من الخذلان {إنا منتظرون} ، أي: ما يحل بكم من نقم الله تعالى وعذابه نحو ما نزل على أمثالكم، وقيل: إنا منتظرون ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان، ثم إنه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشريفة المقدّسة فقال:
{ولله غيب السموات والأرض} ، أي: علم ما غاب فيهما فعلمه سبحانه وتعالى نافذ في جميع مخلوقاته خفيها وجليها {وإليه} أي لا إلى غيره {يرجع الأمر كله} ، أي: إليه يرجع أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة، وقرأ نافع وحفص بضم الياء وفتح الجيم على البناء للمفعول، والباقون بفتح الياء وكسر الجيم. ولما كان أوّل درجات السير إلى الله تعالى عبوديته وآخرها التوكل عليه قال تعالى: {فاعبده} ولا تشتغل بعبادة غيره {وتوكل عليه} ، أي: ثق به في جميع أمورك فإنه كافيك {وما ربك بغافل عما تعملون} فيحفظ على العباد أعمالهم لا يخفى عليه شيء منها فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة.
فائدة: قال كعب الأحبار خاتمة التوراة خاتمة سورة هود. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة هود أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح ومن كذب به وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى وكان يوم القيامة من السعداء» حديث موضوع.
سورة يوسف
عليه السلام مكية كلها
مائة وإحدى عشرة آية وعدد كلماتها ألف وتسعمائة وست وتسعون كلمة وعدد حروفها سبعة آلاف ومائة وستة وسبعون حرفاً.
{بسم الله} الذي وسع كل شيء قدرة وعلماً {الرحمن} لجميع خلقه المبين لهم طريق الهدى {الرحيم} الذي خص حزبه بالإبعاد عن مواطن الردى وقوله تعالى:
{الر} تقدّم الكلام على أوائل السور أوّل سورة البقرة، وقرأ ورش بالإمالة بين بين، وأبو عمرو وابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، والباقون بالفتح، واختلف في سبب نزول هذه السورة فعن سعيد بن جبير أنه قال: لما أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يتلوه على قومه فقالوا: يا رسول الله لوقصصت علينا، فنزلت هذه السورة، فتلاها عليهم فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا فنزل {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني} فقالوا: لو ذكرتنا فنزل: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} (الحديد 16) ، وعن ابن عباس أنه قال: سألت اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: حدّثنا عن أمر يعقوب وولده وشأن يوسف، فنزلت هذه السورة، وقوله تعالى: {تلك} إشارة إلى آيات هذه السورة، أي: تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسماة بالر هي {آيات الكتاب} ، أي: القرآن {المبين} ، أي: المبين فيه الهدى والرشد والحلال والحرام المظهر للحق من الباطل الذي ثبت فيه قصص الأوّلين والآخرين، وشرحت فيه أحوال المتقدّمين.
{إنا أنزلناه} ، أي: الكتاب {قرآناً عربياً} ، أي: بلغة العرب لكي يعلموا معانيه ويفهموا ما فيه. روي أنّ علماء اليهود قالوا(2/87)
لكبراء المشركين اسألوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر؟ وعن كيفية قصة يوسف، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وذكر فيها أنه تعالى عبّر عن هذه القصة بألفاظ عربية ليتمكنوا من فهمها، والتقدير أنا أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف حال كونه قرآناً عربياً، وسمي بعض القرآن قرآناً؛ لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض {لعلكم} يا أهل مكة {تعقلون} ، أي: إرادة أن تفهموا أو تحيطوا بمعانيه، ولا يلتبس عليكم {ولو جعلناه قرآنا أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته} (يوسف، 44) . واختلف العلماء هل في القرآن شيء بغير العربية؟ فقال أبو عبيدة: من زعم أنّ في القرآن لساناً غير العربية فقد أعظم على الله القول واحتج بهذه الآية {إنا أنزلناه قرآناً عربياً} وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أنّ فيه من غير لسان العرب من سجيل ومشكاة وأليم وإستبرق، وجمع بعض المفسرين بين القولين بأنّ هذه الألفاظ لما تكلمت بها العرب ودارت على ألسنتهم صارت عربية فصيحة وإن كانت غير عربية في الأصل لكنهم لما تكلموا بها نسبت إليهم وصارت لهم لغة وهو جمع حسن.
{نحن نقص عليك أحسن القصص} ، أي: أحسن الاقتصاص؛ لأنه اقتص على أبدع الأساليب، والقصص اتباع الخبر بعضه بعضاً، وأصله في اللغة من قص الأثر إذا اتبعه، وإنما سميت الحكاية قصة؛ لأنّ الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئاً فشيئاً، والمعنى: أنا نبين لك يا محمد أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان، أو قصة يوسف عليه السلام خاصة، وسماها أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدين والدنيا وما فيها من سير الملوك والمماليك والغلمان ومكر النساء والصبر على إيذاء الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد اللقاء وغير ذلك. قال خالد بن معدان في سورة يوسف ومريم: يتفكه فيهما أهل الجنة في الجنة. وقال ابن عطاء: لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها {بما} ، أي: بسبب ما {أوحينا} ، أي: بإيحائنا {إليك} يا محمد {هذا القرآن} الذي قالوا فيه أنه مفترى، فنحن نتابع القصص القصة بعد القصة حتى لا يشك شاك ولا يمتري ممتر أنه من عند الله {وإن كنت من قبله} ، أي: إيحائنا إليك أو هذا القرآن {لمن الغافلين} ، أي: عن قصة يوسف وإخوته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما علم ذلك بالوحي، وقيل لمن الغافلين عن الدين والشريعة، وإن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية وقوله تعالى:
{إذ قال يوسف لأبيه} بدل من {أحسن القصص} أو منصوب بإضمار اذكر، ويوسف اسم عبري، وقيل: عربي، وردّ بأنه لو كان عربياً لصرف، وسئل أبو الحسن الأقطع عن يوسف فقال: الأسف في اللغة الحزن، والأسيف العبد، واجتمعا في يوسف فسمي به، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» وقوله {يا أبت} أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة، ولذلك قلبها ابن كثير وابن عامر هاء في الوقف، ووقف الباقون بالتاء كالرسم، وفي الوصل بالتاء للجميع، وفتح التاء في الوصل ابن عامر، وكسرها الباقون {إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمسم والقمر} قال أهل التفسير: رأى يوسف عليه الصلاة والسلام في منامه، وكان ابن اثنتي عشرة، سنة، وقيل: سبع عشرة، وقيل: سبع سنين(2/88)
ليلة الجمعة، وكانت ليلة القدر كأنّ أحد عشر كوكباً نزلت من السماء ومعها الشمس والقمر، فسجدوا له وفسروا الكواكب بإخوته، وكانوا أحد عشر يستضاء بهم كما يستضاء بالنجوم، والشمس والقمر بأبيه وأمّه بجعل الشمس للأمّ؛ لأنها مؤنثة والقمر للأب؛ لأنه مذكر. والذي رواه البيضاوي تبعاً «للكشاف» عن جابر من أنّ يهودياً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف فأخبره بأسمائها فقال اليهودي:، أي: والله إنها لأسماؤها. قال ابن الجوزي: إنه موضوع، وقوله: {رأيتهم لي ساجدين} استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها فلا تكرار؛ لأنّ الرؤية الأولى تدل على أنه شاهد الكواكب والشمس والقمر والثانية تدل على أنه شاهد كونها ساجدة له.
وقال بعضهم: إنه لما قال: إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر قيل له: كيف رأيت؟ قال: رأيتهم لي ساجدين. وقال آخرون: يجوز أن يكون أحدهما من الرؤية والآخر من الرؤيا، وهذا القائل لم يبين أنّ أيهما يحمل على الرؤية وأيهما يحمل على الرؤيا؟ قال الرازي: فذكر قولاً مجملاً غير مبين. فإن قيل: قوله: رأيتهم وقوله: ساجدين لا يليق إلا بالعقلاء والكواكب جمادات فكيف جاءت اللفظة المخصوصة بالعقلاء في حق الجمادات؟ أجيب: بأنها لما وصفت بالسجود صارت كأنها تعقل وأخبر عنها كما أخبر عمن يعقل كما قال تعالى في صفة الأصنام: {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} (الأعراف، 198) وكما في قوله تعالى: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} (النمل، 18) . فإن قيل: لم أفرد الشمس والقمر بالذكر مع أنهما من جملة الكواكب؟ أجيب: بأنه أفردهما لفضلهما وشرفهما على سائر الكواكب كقوله تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة، 98) وهل المراد بالسجود نفس السجود حقيقة أو التواضع؟ كلاهما محتمل، والأصل في الكلام حمله على الحقيقة قال أهل التفسير: إن يعقوب عليه السلام كان شديد الحب ليوسف عليه السلام فحسده إخوته لهذا السبب، وظهر وذلك ليعقوب فلما رأى يوسف هذه الرؤيا، وكان تأويلها أن أبويه وإخوته يخضعون له، وخاف عليه حسدهم وبغيهم.
{قال} له أبوه {يا بنيّ} بصيغة التصغير للشفقة أو لصغر سنه على ما تقدّم، وقرأ حفص في الوصل بفتح الياء، والباقون بالكسر والتشديد للجميع {لا تقصص رؤياك على إخوتك} ، أي: لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها {فيكيدوا لك كيدا} ، أي: فيحتالوا في هلاكك. فإن قيل: لم لم يقل فيكيدوك كما قال فكيدوني؟ أجيب: بأنّ هذه اللام تأكيد للصلة كقوله: {للرؤيا تعبرون} (يوسف، 43) وكقوله: نصحتك ونصحت لك، وشكوتك وشكوت لك.I
وقيل صلة كقوله: {لربهم يرهبون} (الأعراف، 154) . {إن الشيطان للإنسان عدوّ مبين} ، أي: ظاهر العداوة كمل فعل بآدم وحوّاء فلا يألو جهداً في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على الكيد، وعن أبي قتادة قال: كنت أرأى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يحبه فلا يحدّث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فلا يحدث به وليتفل عن يساره ثلاثاً وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وشرّها فإنها لا تضرّه»
وعن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من(2/89)
الله فليحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضرّه» . وعن أبي رزين العقيلي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءاً من النبوّة، وهي على رجل طائر ما لم يحدّث بها فإذا حدّث بها سقطت» قال: وأحسبه قال: «ولا يحدّث بها إلا لبيباً أو حبيباً» وإنما أضيفت الرؤيا المحبوبة إلى الله إضافة تشريف بخلاف الرؤيا المكروهة وإن كانتا جميعاً من خلق الله تعالى وتدبيره وإرادته ولا فعل للشيطان فيهما، ولكنه يحضر المكروهة ويرتضيها، فيستحب إذا رأى الشخص في منامه ما يحب أن يحدّث به من يحب، وإذا رأى ما يكره فلا يحدّث به وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم من شرها، وليتفل ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الآخر فإنها لا تضرّه، فإنّ الله تعالى جعل هذه الأسباب سبباً لسلامته من المكروه كما جعل الصدقة سبباً لوقاية المال. قال الحكماء: إنّ الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها عن قريب والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين، قالوا: والسبب فيه أن رحمة الله تعالى تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل، وأمّا الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدّماً على ظهوره بزمن طويل حتى تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حضور ذلك الخير أكثر وأتم، ولهذا لم تظهر رؤيا يوسف عليه السلام إلا بعد أربعين سنة، وهو قول أكثر المفسرين، وقال الحسن البصري: كان بينهما ثمانون سنة حتى اجتمع على أبويه وإخوته وخروا له ساجدين.
{وكذلك} ، أي: وكما اجتباك ربك للاطلاع على هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكمال نفس {يجتبيك} ، أي: يختارك ويصطفيك {ربك} بالدرجات العالية واجتباء الله تخصيصه بفيض إلهي يحصل منه أنواع الكرامات بلا سعي من العبد، وذلك مخصوص بالأنبياء وبعض من يقاربهم من الصدّيقين والشهداء والصالحين وقوله: {ويعلمك} كلام مستأنف خارج عن التشبيه والتقدير وهو يعلمك {من} ، أي: بعض {تأويل الأحاديث} من تأويل الرؤيا وغيرها من كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدّمين، وكان يوسف عليه السلام في تعبير الرؤيا وغيرها غاية، والتأويل ما تؤل إليه عاقبة الأمر {ويتم نعمته عليك} بالنبوّة.
قال ابن عباس: لأنّ منصب النبوّة، أي: ومع الرسالة أعلى من جميع المناصب، وكل الخلق دون درجة الأنبياء، فهذا من تمام النعمة عليهم؛ لأنّ جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة والنبوّة فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوّة والرسالة، وقيل: يجتبيك بالنبوّة ويتم نعمته عليك بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة، أمّا سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والإجلال في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد، وأمّا سعادات الآخرة فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى {وعلى آل يعقوب} ، أي: أولاده وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب، وتمام النعمة هو النبوّة والرسالة كما مرّ فلزم حصولها لآل يعقوب وأيضاً أن يوسف عليه السلام قال: إني رأيت أحد عشر كوكباً وكان تأويله أحد عشر نفساً لهم فضل وكمال ويستضىء بعلمهم ودينهم أهل الأرض؛ لأنه لا شيء أضوأ(2/90)
من الكواكب وبها يهتدي، وذلك يقتضي أن تكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلاً.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام؟ أجيب: بأنّ ذلك وقع منهم قبل النبوّة، والعصمة من المعاصي إنما تعتبر بعد النبوّة لا قبلها على خلاف فيه. {كما أتمها على أبويك} بالنبوّة والرسالة، وقيل: إتمام النعمة على إبراهيم عليه السلام خلاصه من النار واتخاذه خليلاً، وعلى إسحاق خلاصه من الذبح وفداؤه بذبح عظيم على قول أن إسحاق هو الذبيح. {من قبل} ، أي: من قبل هذا الزمان وقوله: {إبراهيم وإسحاق} عطف بيان لأبويك ثم إن يعقوب عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله: {إن ربك عليم} ، أي: بليغ العلم {حكيم} ، أي: بليغ الحكمة وهي وضع الأشياء في أتقن مواضعها.
{لقد كان في} خبر {يوسف وإخوته} وهم أحد عشر؛ يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وزبلون قال البقاعي: بزاي وباء موحدة ويشجر وأمّهم ليا بنت ليان وهي ابنة خال يعقوب وولد له من سريتين إحداهما زلفى، والأخرى يلقم كذا قاله البغويّ. وقال الرازي: والأخرى بلهمة أربعة أولاد وأسماؤهم دان ونفتالى؛ قال البقاعي: بنون مفتوحة وفاء ساكنة ومثناة فوقية ولام بعدها ياء، وجاد وأشر، ثم توفيت ليا فتزوّج بأختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، وقيل: جمع بينهما ولم يكن الجمع محرماً حينئذٍ {آيات} ، أي: علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء {للسائلين} عن قصصهم.
قال الرازيّ: ولمن لم يسأل عنها وهو كقوله تعالى: {في أربعة أيام سواء للسائلين} (فصلت، 10) وقيل: آيات على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أنّ اليهود سألوه عن قصة يوسف، وقيل: سألوه عن سبب انتقال ولد يعقوب من أرض كنعان إلى أرض مصر فذكر لهم قصة يوسف فوجدوها موافقة لما في التوراة، فعجبوا منه فكان دلالة على نبوّته صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقرأ الكتب المتقدّمة ولم يجالس العلماء وأصحاب الأخبار، ولم يأخذ عنهم شيئاً، فدل ذلك على أنّ ما يأتي به وحي سماوي أوحاه الله تعالى إليه وعرفه به، وهذه السورة تشتمل على أنواع من العبر والمواعظ والحكم منها رؤيا يوسف عليه السلام وما حقق الله تعالى فيها من حسد إخوته وما آل إليه أمره من الملك، ومنها ما اشتمل على حزن يعقوب وصبره على فقد ولده وما آل إليه أمره من بلوغ المراد، وغير ذلك من الآيات التي إذا فكر فيها الإنسان اعتبر، وقرأ ابن كثير {آية} على التوحيد، والباقون على الجمع.
{إذ} ، أي: واذكر إذ {قالوا} ، أي: بعض إخوة يوسف لبعض بعد أن بلغتهم الرؤيا وقالوا: ما يرضى أن تسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه {ليوسف وأخوه} ، أي: بنيامين {أحب إلى أبينا منا} اللام لام الابتداء وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أردوا أنّ زيادة محبته لهما أمر ثابت لا شبهة فيه، وخبر المبتدأ أحب ووحد؛ لأن أفعل يستوي فيه الواحد وما فوقه مذكراً كان أو مؤنثاً إذا لم يعرّف أو لم يضف، وقيل: اللام لام قسم تقديره والله ليوسف، وإنما قالوا: وأخوه وهم جميعاً إخوته؛ لأنّ أمّهما كانت واحدة، والواو في قولهم: {ونحن عصبة} واو الحال، أي: يفضلهما في المحبة علينا وهما اثنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة، ونحن جماعة أقوياء نقوم بمرافقه فنحن أحق بزيادة المحبة منهما لفضلنا بالكثرة(2/91)
والمنفعة عليهما، والعصبة والعصابة العشرة فما فوقها. وقيل: إلى الأربعين سموا بذلك؛ لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ويستكفى بهم النوائب {إنّ أبانا لفي ضلال} ، أي: خطأ {مبين} ، أي: بيّن في إيثاره حب يوسف وأخيه علينا والقرب المقتضي للحب في كلنا واحد؛ لأنّا في البنوّة سواء ولنا مزية تقتضي تفضيلنا وهي إنا عصبة لنا من النفع له والذّب عنه والكفاية ما ليس لهما.
تنبيه: هاهنا سؤالات: الأوّل: إنّ من المعلوم أنّ تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد فلم أقدم يعقوب عليه السلام على ذلك؟ أجيب: بأنه إنما فضلهما في المحبة والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذوراً فيها ولا يلحقه في ذلك لوم.
الثاني: كيف اعترضوا على أبيهم وهم يعلمون أنه نبيّ وهم مؤمنون به؟ وأجيب: بأنهم وإن كانوا مؤمنين بنبوّته لكن جوّزوا أن يكون فعله باجتهاد، ثم أنّ اجتهادهم أدّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد لكونهم أكبر سناً وأكثر نفعاً وغاب عنهم أنّ تخصيصهما بالبرّ كان لوجوه: أحدها: أنّ أمّهما ماتت، ثانيها: أنه كان في يوسف من آثار الرشد والنجابة ما لم يجده في سائر أولاده، ثالثها: أنه وإن كان صغيراً إلا أنه كان يخدم أباه بأنواع من الخدمة أعلى وأشرف مما كان يصدر عن سائر أولاده، والحاصل أنّ هذه المسألة كانت اجتهادية وكانت مخلوطة بميل النفس وموجبات الفطرة فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر.
الثالث: أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال عن رعاية مصالح الدنيا والبعد عن طريق الرشد لا الضلال في الدين. الرابع: أنّ قولهم: {ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا} محض حسد، والحسد من أمّهات الكبائر لا سيما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على أمورٍ مذمومة منها قولهم:
{اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً} ، أي: بحيث يحصل اليأس من اجتماعه بأبيه، ومنها القاؤه في ذل العبودية، ومنها أنهم أبقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم، ومنها إقدامهم على الكذب وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوّة؟ أجيب: بما تقدّم أنّ ذلك كان قبل النبوّة، وقرأ نافع وابن كثير وهشام والكسائي بضم التنوين من مبين في الوصل، والباقون بالكسر، فإن وقف القارئ على مبين وامتحن في الابتداء يبتدئ بالضم للجميع، وقولهم: {يخل لكم وجه أبيكم} جواب الأمر، أي: يصف لكم وجه أبيكم فيقبل بكليته عليكم ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ولا ينازعكم في محبته أحد، وقولهم: {وتكونوا} مجزوم بالعطف على يخل لكم أو منصوب بإضمار أن {من بعده} ، أي: قتل يوسف أو طرحه {قوماً صالحين} بأن تتوبوا إلى الله تعالى بعد فعلكم فإنه يعفو عنكم، وقال مقاتل: يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم.
{قال قائل منهم} هو يهوذا وكان أحسنهم رأياً فيه، وهو الذي قال: {فلن أبرح الأرض} (يوسف، 80) وقيل: روبيل وكان أكبرهم سناً {لا تقتلوا يوسف وألقوه} ، أي: اطرحوه {في غيابت الجب} ، أي: في أسفله وظلمته، والغيابة كل موضع ستر شيئاً وغيبه عن النظر قال القائل:
*فإن أنا يوماً غيبتني غيابتي ... فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها، والجب البئر الكبيرة التي ليست مطوية سميت جباً لأنها قطعت قطعاً ولم يحصل فيها شيء غير القطع من طيّ أو ما أشبهه، وإنما ذكر الغيابة مع الجب دلالة على(2/92)
أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين. قال بعض أهل العلم: إنهم عزموا على قتله وعصمه الله تعالى رحمة بهم ولو فعلوا لهلكوا أجمعين، واختلف في موضع ذلك الجب، فقال قتادة: هو ببيت المقدس وقال وهب: هو بأرض الأردن. وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. وقرأ نافع بألف بين الباء والتاء على الجمع والباقون بغير ألف على التوحيد {يلتقطه} ، أي: يأخذه {بعض السيارة} جمع سيار، أي: المبالغ في السير، وذلك الجب كان معروفاً يرد عليه كثير من المسافرين، فإذا أخذوه ذهبوا به إلى ناحية أخرى فنستريح منه {إن كنتم فاعلين} ، أي: ما أردتم من التفريق فاكتفوا بذلك ولما أجمعوا على التفريق بين يوسف وأبيه بضرب من الحيل.
{قالوا} إعمالاً للحيلة في الوصول إليه مستفهمين على وجه التعجب؛ لأنه كان أحس منهم السوء فكان يحذرهم عليه {يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف و} الحال {إنا له لناصحون} ، أي: قائمون بمصلحته وحفظه.
تنبيه: اتفق القراء على إخفاء النون الساكنة عند النون المتحرّكة واتفقوا أيضاً على إدغامها مع الإشمام.
{أرسله معنا غداً} ، أي: إلى الصحراء {نرتع} ، أي: نتسع في أكل الفواكه ونحوها وأصل الرتع أكل البهائم في الخصب في زمن الربيع ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير {ونلعب} روي أنه قيل لأبي عمرو: كيف يقولون نلعب وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذ أنبياء، وأيضاً جاز أن يكون المراد باللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لجابر: «فهلا بكراً تلاعبها، وتلاعبك» وأيضاً كان لعبهم الاستباق والانتضال والغرض منه المحاربة والمقاتلة مع الكفار، والدليل عليه قولهم {إنا ذهبنا نستبق} وإنما سموه لعباباً لأنه في صورته.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون فيهما، والباقون بالياء، وسكن العين أبو عمرز وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، وكسرها الباقون في الوصل، ولقنبل وجه آخر وهو أنه يثبت الياء في نرتع بعد العين وقفاً ووصلاً {وإنا له لحافظون} ، أي: بليغون في الحفظ له حتى نردّه إليك سالماً. قال أبو حيان: وانتصب {غداً} على الظرف وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد، وأصل غداً غدو فحذفت الواو انتهى. ثم إنّ يعقوب عليه السلام اعتذر لهم بعذرين الأوّل: ما حكاه الله تعالى عنه بقوله:
{قال إني ليحزنني أن تذهبوا به} ، أي: ذهابكم به، والحزن هنا ألم القلب بفراق المحبوب؛ لأنه كان لا يقدر أن يصبر عنه ساعة، وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي، والباقون بفتح الياء وضم الزاي، والثاني: قوله: {وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون} بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم به، وكان يعقوب عليه السلام رأى في النوم أنّ الذئب شدّ على يوسف فكان يحذره فمن أجل هذا ذكر ذلك، وكأنه لقنهم العلة، وفي أمثال العرب البلاء موكل بالمنطق، والمراد به الجنس، وكانت أرضهم كثيرة الذئاب.
{قالوا} مجيبين عن الثاني بما يلين الأب لإرساله مؤكدين لتطييب خاطره دالين على القسم بلامه {لئن أكله الذئب ونحن} ، أي: والحال أنَّا {عصبة} ، أي: جماعة عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفى الخطوب، وأجابوا عن القسم بما أغنى عن جواب الشرط(2/93)
بقولهم {إنّا إذاً} ، أي: إذا كان هذا {لخاسرون} ، أي: كاملون في الخسارة؛ لأنا إذا ضيّعنا أخانا فنحن لما سواه من أموالنا أشد تضييعاً، وأعرضوا عن جواب الأول؛ لأن حقدهم وغيظهم كان بسبب العذر الأوّل وهو شدّة حبه له، فلما سمعوا ذلك المعنى تغافلوا عنه وأقله أن يقولوا: ما وجه الشح بفراقه يوماً والسماح بفراقنا كل يوم. وقرأ الذيب ورش والسوسي والكسائي بإبدال الهمزة ياء وقفاً ووصلاً، وحمزة وقفاً لا وصلاً، والباقون بالهمزة وقفاً ووصلاً. وقوله تعالى:
{س12ش15/ش20 فَلَمَّا ذَهَبُوا? بِهِ? وَأَجْمَعُو?ا? أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَتِ الْجُبِّ? وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ يَشْعُرُونَ * وَجَآءُو? أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ * قَالُوا? يَا?أَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ? وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَآءُو عَلَى قَمِيصِهِ? بِدَمٍ كَذِبٍ? قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا? فَصَبْرٌ جَمِيلٌ? وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ * وَجَآءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا? وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ?? قَالَ يَابُشْرَى هَاذَا غُلَامٌ? وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً? وَاللَّهُ عَلِيمُ? بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا? فِيهِ مِنَ الزاهِدِينَ}
{فلما ذهبوا به} فيه إضمار واختصار تقديره فأرسله معهم فلما ذهبوا به {وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب} ، أي: وعزموا على إلقائه فيها ولا بدّ من تقدير جواب، وهو فجعلوه فيها وحذف الجواب في القرآن كثير بشرط أن يكون المذكور دليلاً عليه وهنا كذلك، قال وهب وغيره من أهل السير والأخبار: إن إخوة يوسف قالوا له: ما تشتاق أن تخرج معنا إلى مواشينا فتصيد وتستبق؟ قال: بلى. قالوا: فاسأل أباك أن يرسلك معنا قال يوسف: أفعل، فدخلوا جميعاً على أبيهم وقالوا: يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا، فقال يعقوب: ما تقول يا بنيّ؟ قال: نعم يا أبت إني أرى من إخوتي اللين واللطف فأحب أن تأذن لي، وكان يعقوب عليه الصلاة والسلام يكره مفارقته ويحب مرضاته، فأذن له فأرسله معهم، فلما خرجوا من عند أبيهم جعلوا يحملونه على رقابهم وأبوهم ينظر إليهم، فلما بعدوا عنه وصاروا إلى الصحراء ألقوه على الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وأغلظوا له القول وجعلوا يضربونه فجعلوا كلما جاء إلى واحد منهم واستغاث به يضربه فلم ير منهم رحيماً فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يصيح يا أبتاه ويا يعقوب لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وجعل يبكي بكاء شديداً، فأخذه روبيل فجلد به الأرض، ثم جلس على صدره وأراد قتله فقال له: مهلاً يا أخي لا تقتلني فقال له: يا ابن راحيل أنت صاحب الأحلام الكاذبة قل لرؤياك تخلصك من أيدينا، ولوى عنقه، فاستغاث يوسف بيهوذا، وقال له: اتق الله فيّ وحل بيني وبين من يريد قتلي فأدركته رحمة ورقة، فقال يهوذا: يا إخوتاه ما على هذا عاهدتموني، فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فيه، فجاؤوا به على بئر على غير الطريق واسع الأسفل ضيق الرأس، فجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا إِخوتاه ردّوا عليّ قميصي أستتر به في الجب فقالوا: ادع الشمس
والقمر والكواكب تخلصك وتؤنسك فقال: إني لم أر شيئاً فألقوه فيها، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة كانت في البئر فقام عليها فنادوه فظنّ أنها رحمة أدركته فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ليقتلوه، فمنعهم يهوذا من ذلك وكان يهوذا يأتيه بالطعام وبقي فيها ثلاث ليال.
{وأوحينا إليه} في الجب في صغره وهو ابن سبع عشرة سنة أو دونها كما أوحى إلى يحيى وعيسى عليهما السلام في صغرهما، وفي القصص أنّ إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرّد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه ودفعه إبراهيم عليه السلام إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة علقها بيوسف فأخرجها جبريل وألبسه إياها {لتنبئنهم} ، أي: لتخبرنهم بعد هذا اليوم(2/94)
{بأمرهم} ، أي: بصنعهم {هذا وهم لا يشعرون} ، أي: أنك يوسف لعلوّ شأنك وبعده عن أوهامهم وطول العهد المغير للهيئات كما قال تعالى: {فعرفهم وهم له منكرون} (يوسف، 58) والمقصود من ذلك تقوية قلبه وأنه سيخلص مما هو فيه من المحنة، ويصير مستولياً عليهم، ويصيرون تحت أمره ونهيه وقهره. روي أنهم لما دخلوا عليه لطلب الحنطة عرفهم وهم له منكرون ودعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطنّ فقال: إنه ليخبرني هذا الجام إنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف فطرحتموه وقلتم لأبيكم: أكله الذئب، وقيل: لا يشعرون بإيحائنا إليك وأنت في البئر بأنك ستخبرهم بصنيعهم هذا، والفائدة في إخفاء ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم وكانوا يقصدون قتله، وقيل: إنّ المراد من هذا الوحي الإلهام كما في قوله تعالى {وأوحينا إلى أمّ موسى} (القصص، 7) وقوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل} (النحل، 68) {و} لما كان من المعلوم أنه ليس بعد هذا الفعل الذي فعلوه إلا الاعتذار {جاؤوا أباهم} دون يوسف {عشاءً} في ظلمة الليل لئلا يتفرس أبوهم في وجوههم إذا رآها في ضياء النهار ضدّ ما
جاؤوا به من
الاعتذار وقد قيل: لا تطلب الحاجة في الليل فإنّ الحياء في العينين ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار {يبكون} والبكاء جريان الدمع من العين، والآية تدل على أنه لا يدل على الصدق لاحتمال التصنع، روي أنّ امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال الشعبي: يا أبا أمية أما تراها تبكي فقال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق فعند ذلك فزع يعقوب عليه السلام فقال: هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا. قال: فما فعل يوسف؟.
{قالوا يا أبانا إنّا ذهبنا نستبق} قال الزجاج: يسابق بعضنا بعضاً في الرمي، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا سبق إلا في خف أو نضل أو حافر» يعني بالنضل الرمي، وقيل: العدو لنتبين أينا أسرع عدواً {وتركنا يوسف} أخانا {عند متاعنا} ، أي: ما كان معنا مما نحتاج إليه في ذلك الوقت من ثياب وزاد ونحو ذلك {فأكله} ، أي: فتسبب عن انفراده أن أكله {الذئب وما} ، أي: والحال أنك ما {أنت بمؤمن} ، أي: بمصدّق لما علموا أنه لا يصدّقهم بغير أمارة {لنا ولو كنا صادقين} في هذه القصة لمحبة يوسف عندك فكيف وأنت تسيء الظنّ بنا؟ وقيل: لا تصدّقنا؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى.v
{و} لما علموا أنه لا يصدّقهم بغير أمارة {جاؤوا على قميصه} ، أي: يوسف عليه السلام {بدم كذب} قال الفراء:، أي: مكذوب فيه إلا أنه وصفه بالمصدر على تقدير ذي كذب أو مكذوب أطلق على المصدر مبالغة؛ لأنه غير مطابق للواقع؛ لأنهم ادّعوا أنه دم يوسف عليه السلام والواقع أنه دم سخلة ذبحوها ولطخوا القميص بذلك الدم. قال القاضي: ولعلّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيداً لصدقهم إذ يبعد أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص ولا بدّ في المعصية من أن يقترن بها الخذلان، فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الاتهام أقوى فلما شاهد يعقوب عليه السلام القميص صحيحاً علم كذبهم، روي أنّ يعقوب عليه السلام أخذ القميص منهم، وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق قيمصه.
تنبيه:(2/95)
على قميصه محله النصب على الظرفية كأنه قيل: وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول: جاء على جماله بأحماله، ولا يصح أن يكون حالاً متقدّمة؛ لأنّ حال المجرور لا يتقدّم عليه. قال الشعبي: قصة يوسف كلها في قميصه، وذلك أنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه ولما شهد الشاهد قال: {إن كان قميصه قد من قبل} (يوسف، 26) ولما أتي بقميصه إلى يعقوب وألقي على وجهه ارتدّ بصيراً.
ثم ذكر تعالى أنّ إخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم {قال} يعقوب عليه السلام {بل سوّلت} ، أي: زينت {لكم أنفسكم أمراً} ففعلتموه به، واختلف في السبب الذي عرف به كونهم كاذبين على وجوه: الأوّل: أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم. الثاني: كان عالماً بأنه حيّ؛ لأنه عليه السلام قال ليوسف: {وكذلك يجتبيك ربك} (يوسف، 6) وذلك دليل على كذبهم في ذلك القول، الثالث: أنه لما رأى قميصه صحيحاً قال: كذبتم لو أكله الذئب لخرق ثوبه، وقيل: إنه لما قال ذلك قال بعضهم: بل قتله، اللصوص فقال: كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله فلما اختلفت أقوالهم عرف بسبب ذلك كذبهم وقوله: {فصبرٌ جميلٌ} مرفوع بالابتداء لكونه موصوفاً، وخبره محذوف والتقدير: فصبر جميل أولى من الجزع، ومنهم من أضمر المبتدأ قال الخليل: الذي أفعله صبر جميل وقال قطرب: معناه فصبري صبر جميل. وقال الفراء: فهو صبر جميل. وعن الحسن أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر الجميل؟ فقال: «صبر لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر كما قال يعقوب {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} » . وقال مجاهد: فصبر جميل من غير جزع. وقال الثوري: إنّ من الصبر أن لا تحدّث بوجعك ولا بمصيبتك ولا تزكي نفسك. وروي أنّ يعقوب عليه السلام كان قد سقط حاجباه وكان يرفعهما بخرقة فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ فقال: يارب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة الإفك أنها قالت: والله لئن حلفت لا تصدّقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده والله المستعان على ما تصفون فأنزل الله تعالى في عذرها ما أنزل.
وقوله {فصبر جميل} يدل على أنّ الصبر على قسمين قد يكون جميلاً، وقد يكون غير جميل، فالصبر الجميل أن ينكشف له أنّ هذا البلاء، من الحق فاستغراقه في شهود نور المبلي يمنعه من الاشتغال بالشكاية من البلاء ولذلك قيل: المحبة التامّة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء؛ لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب والخط وموصل النصيب لا يكون محبوباً بالذات بل بالعرض، فهذا هو الصبر الجميل وأمّا الصبر لا للرضا بقضاء الله تعالى بل كان لسائر الأغراض فذلك الصبر لا يكون جميلاً. فإن قيل: الصبر على قضاء الله تعالى واجب، وأمّا الصبر على ظلم الظالمين فغير واجب، بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير، فلم صبر يعقوب على ذلك ولم يبالغ في البحث مع شدّة رغبته في حضور يوسف ونهاية حبه له وكان من بيت عظيم شريف وكان الناس يعرفونه ويعتقدون فيه؟.
أجيب: بأنه يحتمل أن يكون منع من الطلب بوحي تشديداً للمحنة عليه زيادةً في أجره، أو أنه لو بالغ في البحث لربما أقدموا على إيذائه ولم يمكنوه من الطلب والفحص(2/96)
فرأى أنّ الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى وقال: {والله المستعان} ، أي: المطلوب منه العون {على ما تصفون} ، أي: تذكرون من أمر يوسف، والمعنى أنّ إقدامه على الصبر لا يكون إلا بمعونة الله تعالى؛ لأنّ الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع، وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر، فكأنّ المحاربة وقعت بين الصنفين فما لم تحصل إعانة الله تعالى لم تحصل الغلبة، فقوله: {فصبر جميل} يجري مجرى قوله: {إياك نعبد} (الفاتحة، 4) وقوله: {والله المستعان على ما تصفون} يجري مجرى قوله: {وإياك نستعين} (الفاتحة، 5) .
ولما أراد الله تعالى خلاص يوسف من الجب بين سببه بقوله تعالى:
{وجاءت سيارة} وهم القوم المسافرون سموا بذلك؛ لأنهم يسيرون في الأرض وكانوا رفقة من مدين يريدون مصر، فأخطؤوا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرض فيها جب يوسف وكان الجبّ في قفرة بعيدة عن العمران، أي: لم يكن إلا للرعاة. روي أنّ ماءه كان ملحاً فعذب حين ألقي يوسف فيه، فلما نزلوا أرسلوا رجلاً يقال له: مالك بن ذعر لطلب الماء فذلك قوله تعالى: {فأرسلوا واردهم} ، أي: الذي يريد الماء ليستقي منه، والوارد هو الذي يتقدّم الرفقة إلى الماء فيهيئ الأرشية والدلاء {فأدلى} ، أي: أرسل {دلوه} في البئر يقال: أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر ودلوتها إذا أخرجتها، والدلو معروف والجمع الدلاء فلما أرسلها تعلق بالحبل يوسف عليه السلام فلما خرج فإذا هو بغلام أحسن ما يكون قال صلى الله عليه وسلم «أعطي يوسف شطر الحسن» . ويقال: إنه ورث ذلك الجمال من جدّته سارة، وكانت جدّته قد أعطيت سدس الحسن قال ابن إسحاق: ذهب يوسف وأمّه بثلثي الحسن. وحكى الثعلبي عن كعب الأحبار قال: كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والعضدين والساقين خميص البطن صغير السرّة، وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم رأيت شعاع من ثناياه لا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله وصوّره قبل أن يصيب الخطيئة، فلما رآه مالك بن ذعر {قال يا بشرى هذا غلام} نادى البشرى بشارة لنفسه، كأنّه قال تعالى فهذا أوانك.
وعن الأعمش أنه قال: دعا امرأة اسمها بشرى فقال: يا بشرى. وعن السدي أنّ المدلي نادى صاحبه وكان اسمه بشرى فقال: يا بشرى. كما قرأه حمزة وعاصم والكسائي، فإنهم قرؤوا بحذف الياء بعد الألف، والباقون بإثبات الياء. وقيل: ذهب به فلما دنا من أصحابه صاح بذلك. وروي أنّ جدران البئر كانت تبكي على يوسف حين أخرج منها واختلف في ضمير {وأسرّوه بضاعة} إلى من يعود؟ وفيه قولان:
الأوّل: أنه عائد إلى الوارد وأصحابه أخفوا من الرفقة أنهم وجدوه بالجب، وذلك أنهم قالوا: إن قلنا للسيارة: التقطناه شاركونا، وإن قلنا اشتريناه سألونا الشركة فالأصوب أن نقول: إنّ أهلاً لنا جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر.
والثاني: ونقل عن ابن عباس أنه قال: وأسرّوه يعني إخوة يوسف أسرّوا شأنه، وذلك أنّ يهوذا كان يأتيه بالطعام كل يوم فلم يجده في البئر فأخبر إخوته فطلبوه، فإذا هم بمالك بن ذعر وأصحابه نزول فأتوهم فإذا هم بيوسف فقالوا: هذا عبد لنا أبق منا وتابعهم يوسف على ذلك؛(2/97)
لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية. قال الرازي: والأوّل أولى؛ لأنّ قوله {وأسرّوه بضاعة} يدل على أنّ المراد أنهم أسرّوه حال ما حكموا بأنه بضاعة، وذلك إنما يليق بالوارد لا بإخوة يوسف.
تنبيه: البضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت الشيء إذا قطعته. قال الزجاج: وبضاعة منصوب على الحال كأنه قال: وأسرّوه حال ما جعلوه بضاعة ولما جعل تعالى هذا البلاء سبباً لوصوله إلى مصر، ثم صارت وقائعه إلى أن صار ملكاً بمصر، وحصل ذلك الذي رآه في النوم، فكان العمل الذي عمله الأعداء في دفعه عن ذلك المطلوب صيّره الله تعالى سبباً لحصول ذلك المطلوب، فلهذا المعنى قال تعالى: {والله عليم} ، أي: بالغ العلم {بما يعملون} ، أي: لم يخف عليه ما فعلوه بيوسف وأبيهم.
{وشروه} ، أي: باعوه إذ قد يطلق لفظ الشراء على البيع يقال: شريت الشيء بمعنى بعته وإنما حمل هذا الشراء على البيع؛ لأنّ الضمير في (شروه) وفي {كانوا فيه من الزاهدين} يرجع إلى شيء واحد، وذلك أنّ إخوته زهدوا فيه فباعوه، وقيل: إنّ الضمير يعود إلى مالك بن ذعر وأصحابه، وعلى هذا يكون لفظ الشراء على بابه.
وقال محمد بن إسحاق: ربك أعلم أَإِخوته باعوه أم السيارة، واختلفوا في معنى قوله تعالى: {بثمن بخس} فقال الضحاك:، أي: حرام، لأنّ ثمن الحرّ حرام وسمي الحرام بخساً؛ لأنه مبخوس البركة. وقال ابن مسعود: أي: زيوف، وقال عكرمة: أي: بثمن قليل، ويدل لهذا قوله تعالى: {دراهم معدودة} لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان أقل من أربعين درهما إنما كانوا يأخذون ما دونها عداً، فإذا بلغتها وهي أوقية وزنوها، واختلفوا في عدد تلك الدراهم فقال ابن عباس: كانت عشرين درهماً فاقتسموها درهمين درهمين، وعلى هذا لم يأخذ أخوه بنيامين شقيقه منها شيئاً، وقال مجاهد: كانت اثنتين وعشرين درهماً. وقال عكرمة: أربعين درهماً. {وكانوا} ، أي: إخوته {فيه} ، أي: يوسف {من الزاهدين} لأنهم لم يعلموا منزلته عند الله تعالى، ومعنى الزهد قلة الرغبة يقال: زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه، وأصله القلة، يقال: رجل زهيد إذا كان قليل الطمع، وقيل: كانوا في الثمن من الزاهدين؛ لأنهم لم يكن قصدهم تحصيل الثمن، وإنما كان قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه. وقيل: الضمير في كانوا للسيارة؛ لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به خائف من انتزاعه مستعجل في بيعه لا جرم باعوه بأوكس الأثمان.
روي في الأخبار أنّ مالك بن ذعر انطلق هو وأصحابه بيوسف وتبعهم إخوته يقولون: استوثقوا منه؛ لأنه آبق فذهبوا به حتى أتوا مصر وعرضه مالك على البيع فاشتراه قطفير أو اطفير وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العمالقة، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى، واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله تعالى العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات} (غافر، 34) وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، وقيل: اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين.(2/98)
وقال وهب بن منبه: قدمت السيارة بيوسف مصر فدخلوا به السوق يعرضونه للبيع فترافع الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه ذهباً وزنه فضة ووزنه مسكاً وحريراً، وكان وزنه أربعمائة رطل وكان عمره حينئذ سبع عشرة سنة، وقيل: ثلاث عشرة سنة، فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن فذلك قوله تعالى:
{وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته} واسمها زليخا وقيل: راعيل {أكرمي مثواه} قال الرازي: اعلم أن شيئاً من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن ولم يثبت أيضاً في خبر صحيح وتفسير كتاب الله تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات فاللائق بالعاقل أن يحترز من ذكرها انتهى. ولكن البغوي ذكرها وتبعه على ذلك جماعة من المفسرين واللام في امرأته متعلقة بقال لا باشتراه، والمثوى موضع الإقامة، أي: اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً، أي: حسناً مرضياً بدليل قول يوسف: {إنه ربي أحسن مثواي} والمراد تفقديه بالإحسان وتعهديه بحسن الملكية حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا ساكنة في كنفنا.
قال المحققون: أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال: سلام الله على المجلس العالي. ولما أمر بإكرام مثواه علّل ذلك بأن قال: {عسى أن ينفعنا} ، أي: يقوم بإصلاح مهماتنا، أو نبيعه بالربح إن أردنا بيعه {أو نتخذه ولدا} ، أي: نتبناه وكان حصوراً ليس له ولد.
قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة العزيز في يوسف حيث قال لامرأته: {أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا} ، وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {استأجره} ، وأبو بكر في عمر حيث استخلفه. {وكذلك} ، أي: وكما نجيناه من القتل والجب وعطفنا عليه قلب العزيز {مكنا ليوسف في الأرض} ، أي: أرض مصر. قال البقاعي: التي هي كالأرض كلها لكثرة منافعها بالملك فيها لتمكنه من الحكم بالعدل والنبوّة، وقوله تعالى: {ولنعلمه من تأويل الأحاديث} ، أي: تعبير الرؤيا عطف على مقدر متعلق بمكنا، أي: لنمكنه أو الواو زائدة {والله غالب على أمره} ، أي: الأمر الذي يريده؛ لأنه تعالى فعال لما يريد، ولا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه أو على أمر يوسف أراد إخوته قتله، فغلب أمره عليهم، وأرادوا أن يلتقطه بعض السيارة ليندرس اسمه، فغلب أمره وظهر اسمه واشتهر، ثم باعوه ليكون مملوكاً فغلب الله أمره حتى صار ملكاً وسجدوا بين يديه، ثم أرادوا أن يضرّوا أباهم ويطيبوا قلبه حتى يخلو لهم وجهه فغلب أمره تعالى فأظهره على مكرهم، واحتالت عليه امرأة العزيز لتخدعه عن نفسه فغلب أمره تعالى فعصمه حتى لم يهمّ بسوء بل هرب منه غاية الهرب، ثم بذلت جهدها في إذلاله وإلقاء التهمة عليه فأبى الله تعالى إلا إعزازه وبراءته، ثم أراد يوسف عليه السلام ذكر الساقي له فغلب أمره تعالى فأنساه ذكره حتى مضى الأجل الذي ضربه الله تعالى له وكم من أمر كان في هذه القصة وفي غيرها يرشد إلى أنه لا أمر لغيره {ولكنّ أكثر الناس} وهم الكفار {لا يعلمون} أنّ الأمر كله
بيد الله تعالى، أو أنّ أكثر الناس لا يعلمون ما هو صانع بيوسف وما يريد منه فمن تأمّل في الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أنّ الأمر كله لله، وأنّ قضاء الله تعالى غالب. ولما بين تعالى أنّ إخوته أساؤوا إليه وصبر على تلك الشدائد والمحن ومكنه(2/99)
في الأرض اتبعه الأمر بتمام النعمة عليه بقوله تعالى:
{ولما بلغ أشدّه} ، أي: منتهى شبابه وقوّته وشدّته تقول العرب: بلغ فلان أشدّه إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوّته، وهذا اللفظ مستعمل في الواحد والجمع يقال: بلغ فلان أشدّه وبلغوا أشدّهم وهو ثلاث وثلاثون سنة. وقال السدي: بلغ ثلاثين سنة، وقال الضحاك: عشرين سنة. وقال الكلبي: الأشد ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين، وقيل: أقصاه اثنان وستون سنة. قال الأطباء: إنّ الإنسان يحدث في أوّل الأمر ويتزايد كل يوم شيئاً فشيئاً إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال، ثم يأخذ في التراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق كالقمر. {آتيناه حكما} ، أي: حكمة وهو العلم المؤيد بالعمل أو حكماً بين الناس {وعلماً} ، أي: علم تأويل الأحاديث، وقيل: المراد بالحكم النبوّة والرسالة.
وتقدّم أنّ قوله تعالى: {وأوحينا} أنه وحي حقيقة. قال الرازي: فلا يبعد أن يقال: إنّ ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت لا لأجل بعثته إلى الخلق بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره؛ ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه السلام {وكذلك} ، أي: ومثل ذلك الجزاء الذي جزيناه به {نجزي المحسنين} قال ابن عباس: يعني المؤمنين، وعنه أيضاً يعني المهتدين، وقال الضحاك: يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف عليه السلام. وعن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله. ولما أخبر تعالى أنّ سبب النعمة عليه إحسانه اتبعه دليله فقال تعالى:
{وراودته التي هو في بيتها} ، أي: امرأة العزيز راودت يوسف {عن نفسه} لأنها لما رأته في غاية الحسن والجمال طمعت فيه، ويقال: إنّ زوجها كان عاجزاً، والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب كان المعنى خادعته عن نفسه، أي: فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهو عبارة عن التمحل لمواقعته إياها {وغلقت الأبواب} ، أي: أطبقتها وكانت سبعة، والتشديد للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق، لأنّ مثل هذا الفعل لا يكون إلا في ستر وخفية لا سيما إذا كان حراماً ومع قيام الخوف الشديد {وقالت} له {هيت} أي تهيأت وتصنعت {لك} خاصة فأقبل إليّ وامتثل أمري. قال الواحدي: هيت لك اسم للفعل نحو رويد وصه ومه، ومعناه: هلم في قول جميع أهل اللغة، وقرأ نافع وابن عامر بكسر الهاء، والباقون بالفتح قرأ وهشام بعد الهاء بهمزة ساكنة، والباقون بياء ساكنة، وقرأ ابن كثير بضم التاء وفتحها، والباقون بالفتح {قال} لها يوسف عليه السلام {معاذ الله} ، أي: أعوذ بالله وأعتصم به وألجأ إليه مما تدعينني إليه {إنه} ، أي: الذي اشتراني {ربي} ، أي: سيدي {أحسن مثواي} ، أي: أكرم منزلي فلا أخونه في أهله وقيل: إنه أي: الله ربي أحسن مثواي، أي: آواني ومن بلاء الجب أنجاني {إنه لا يفلح الظالمون} ، أي: إن فعلت هذه الفعلة فأنا ظالم ولا يفلح الظالمون.
{ولقد همت به وهم بها} ، أي: قصدت مخالطته وقصد مخالطتها، والهمَّ بالشيء قصده والعزم عليه، ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بشيء أمضاه والمراد بهمته ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله تعالى من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهمّ، ولهذا قال بعض أهل الحقائق: الهمّ قسمان: همّ ثابت وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز،(2/100)
فالعبد مأخوذ به، وهمّ عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام، والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل، كما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل: إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشرة أمثالها، وإذا تحدّث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها» .
قال في «الكشاف» : ويجوز أن يريد بقوله: {وهم بها} شارف أن يهم بها كما يقول الرجل: قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل ومشافهته كأنّه شرع فيه {لولا أن رأى} ، أي: بعين قلبه {برهان ربه} ، أي: الذي آتاه إياه من الحكم والعلم، أي: لهمّ بها لكنه كان البرهان حاضراً لديه حضور من يراه بالعين فلم يهمّ أصلاً مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله تعالى من القوّة مع كونه في سن الشباب، فلولا المراقبة لهمّ بها لتوفر الداعي غير أنّ نور الشهود محاها أصلاً، وهذا التقدير هو اللائق بمثل مقامه عليه السلام مع أنه الذي تدلّ عليه أساليب هذه الآيات من جعله من المخلصين والمحسنين المصروف عنهم السوء وأنّ السجن أحب إليه من ذلك مع قيام القاطع على كذب ما تضمنه قولها: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} الآية من مطلق الإرادة ومع ما يتحتم من تقدير ما ذكر بعد لولا في خصوص هذا التركيب من أساليب كلام العرب، فإنه يجب أن يكون المقدّر بعد كل شرط من معنى ما دل عليه ما قبله، وهذا مثل قوله تعالى: {إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} (القصص، 10) ، أي: لأبدت به، وأما ما ورد عن السلف مما يعارض ذلك من تفسيرهم بها بأن حل الهيمان وجلس بها مجلس المجامع وبأنه حلّ تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها، ومن تفسير البرهان بأنه سمع صوتاً: إياك وإياها فلم يكترث له، فسمعه ثانياً فلم يعمل به، فسمعه ثالثاً أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضاً على أنملته، وقيل: ضرب بيده على صدره فخرجت شهوته من أنامله، وقيل: كل ولد يعقوب ولد له اثنا عشر ولداً إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل ما نقص من شهوته حين همّ، وقيل: صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنا قعد لا ريش له، وقيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها: {وإنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين} (الأنفطار، 10، 11) فلم ينصرف
ثم رأى فيها: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} (الإسراء، 32) فلم ينته ثم رأى فيها {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} (البقرة، 281) فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبريل عليه السلام: أدرك عبدي قبل أن يدرك الخطيئة، فانحط جبريل وهو يقول: يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟ وقيل: رأى تمثال العزيز.d
وقيل: قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت: أستحي أن يرانا، فقال يوسف: استحيت مما لا يسمع ولا يبصر ولا أستحي من السميع العليم بذات الصدور، فلم يصح منه شيء عن أحد منهم مع أنّ هذه الأقوال التي وردت عنهم إذا جمعت تناقضت وتكاذبت. قال الزمخشريّ: وهذا ونحوه ممن يورده أهل الجبر والحشو الذين دينهم بهت لله وأنبيائه فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدّي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدي بنبيّ من أنبياء الله تعالى فيما ذكروه وأهل العدل والتوحيد.(2/101)
ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل وأطال في ردّ ذلك، وكذا فعل الرازي.
وقيل: وهمّ بها، أي: بزجرها ووعظها. وقيل: همّ بها، أي: غمه امتناعه منها. وقيل: همّ بها، أي: نظر إليها وقيل: همّ بضربها ودفعها. وقيل: هذا كله قبل نبوّته، وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف عليه السلام ميل شهوة حتى نبأه الله تعالى فألقى عليه هيبة النبوّة فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه {كذلك} ، أي: مثل ذلك التثبيت نثبته في كل أمر {لنصرف عنه السوء} ، أي: الهمّ بالزنا وغيره {والفحشاء} أي: الزنا وغيره، وقيل: السوء مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بالشهوة، والفحشاء هي الزنا، فكأنه قيل: لم فعل به هذا؟ فقيل: {إنه من عبادنا} ، أي: الذين عظمناهم {المخلصين} ، أي: في عبادتنا الذين هم خير صرف لا يخالطهم غش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام بعد الخاء، والباقون بالفتح.
قال الرازي: فوروده باسم الفاعل دل على كونه آتيا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص، ووروده باسم المفعول يدلّ على أنّ الله تعالى استخلصه واصطفاه لحضرته، وعلى كلا اللفظين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه وهذا مع قول إبليس: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} (الحجر: 39، 40) شهادة من إبليس أنّ يوسف عليه السلام بريء من الهمّ فمن نسبه إلى الهمّ إن كانوا من أتباع دين الله فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته، وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته، قال: ولعلهم يقولون كنا في أوّل الأمر تلامذة إبليس إلا أنا زدنا وفجرنا عليه في السفاهة كما قال الجزوري:
*وكنت فتى من جند إبليس فارتقى ... بي الأمر حتى صار إبليس من جندي
*فلو مات قبلي كنت أحسن بعده ... طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
ثم ذكر سبحانه وتعالى مبالغة في الامتناع بالجدّ في الهرب دليلاً على إخلاصه وأنه لم يهمّ أصلاً فقال:
{واستبقا الباب} ، أي: أوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منهما هذا للهرب منها، وهذه لمنعه، فكل منهما بذل أقصى جهده في السبق، فلحقته عند الباب الأقصى مع أنه قد كان سبقها بقوّة الرجولية وقوّة الداعية إلى الفرار إلى الله تعالى، ولكن عاقه إتقانها للمكر بكون الأبواب كانت مغلقة فكان يشتغل بفتحها فتعلقت بأدنى ما وصلت إليه من قميصه وهو ما كان من ورائه خوف فواته فاشتد تعلقها به مع إعراضه هو عنها وهربه منها ففتحه فأراد الخروج فمنعته {و} لم تزل تنازعه حتى {قدّت} ، أي: شقت {قميصه} وكان القدّ {من دبر} ، أي: الناحية من الخلف منه، وانقطعت منه قطعة فبقيت في يدها {وألفيا} ، أي: وجدا {سيدها} ، أي: زوجها قطفير وهو العزيز تقول المرأة لبعلها: سيدي ولم يقل: سيدهما؛ لأنّ ملك يوسف لم يصح فلم يكن سيداً له على الحقيقة {لدى} ، أي: عند {الباب} جالساً مع ابن عمّ المرأة. فإن قيل: كيف وحد الباب وقد جمعه في قوله: {وغلقت الأبواب} ؟ أجيب:. بأنه أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار والمخلص من العار، فقد روى كعب الأحبار: أنّ يوسف لما هرب جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب فلما رأت المرأة ابن عمها هابته وخافت التهمة فسابقت يوسف بالقول و {قالت} لزوجها {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} ، أي: فاحشة زنا أو غيره، ثم خافت عليه أن يقتل وذلك لشدّة(2/102)
حبها له فقالت: {إلا أن يسجن} ، أي: يحبس في السجن ويمنع التصرّف {أو عذاب أليم} ، أي: مؤلم بأن يضرب بالسياط ونحوها، وإنما بدأت بالسجن قبل العذاب؛ لأنّ المحب لا يشتهي إيلام المحبوب، وإنما أرادت أن يسجن عندها يوماً أو يومين ولم ترد السجن الطويل فإنه لا يعبر عنه بهذه العبارة، بل يقال: يجب أن يجعل من المسجونين، ألا ترى أن فرعون هكذا قال في حق موسى عليه السلام في قوله: {لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} (الشعراء، 29) . فلما سمع يوسف عليه السلام مقالتها
{قال} مبرئاً نفسه {هي} بضمير الغيبة لاستحيائه بمواجهتها بإشارة أو ضمير خطاب {راودتني عن نفسي} ، أي: طلبت مني الفاحشة فأبيت وفررت منها، وذلك أنّ يوسف عليه السلام ما كان يريد أن يذكر ذلك القول ولا يهتك سترها ولكن لما قالت هي ما قالت ولطخت عرضه احتاج إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه، وصدقه لعمري فيما قال لا يحتاج إلى بيان أكثر من الحال الذي كان فيه وهو أنهما عند الباب ولو كان الطلب منه لما كان إلا في محلها الذي تجلس فيه وهو صدر البيت وأشرف موضع فيه، وأيضاً هو عبد لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحال، وأيضاً أنّ المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، وأما يوسف فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى.
ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة، ويدل على أنه بريء من الريب وأنّ المرأة هي المذنبة وهو قوله تعالى: {وشهد شاهد من أهلها} ، أي: وحكم حاكم من أهل المرأة، واختلفوا في هذا الشاهد، فقال سعيد بن جبير والضحاك: كان صبياً في المهد أنطقه الله تعالى كرامة ليوسف عليه السلام.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «تكلم في المهد أربعة وهم صغار شاهد يوسف وابن ماشطة بنت فرعون وعيسى بن مريم وصاحب جريج الراهب» رواه الإمام أحمد، وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة؛ عيسى بن مريم وصاحب جريج وصبيّ كان يرضع أمّه فمرّ راكب حسن الهيئة فقالت أمّه: اللهم اجعل ابني مثل هذا فقال الصبي: اللهم لا تجعلني مثله» وبهذا الاعتبار صاروا خمسة وزاد الثعلبي سادساً وهو يحيى بن زكريا عليهما السلام وزاد غيره على ذلك، ولعل الحصر فيما ذكر في الحديث كان قبل العلم بالزيادة فلا تناقض وأوصلهم السيوطي إلى أحد عشر ونظمهم فقال:
*تكلم في المهد النبي محمد ... ويحيى وعيسى والخليل ومريم
*ومبري جريج ثم شاهد يوسف ... وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
*وطفل عليه مرّ بالأمّة التي ... يقال لها تزني ولا تتكلم
*وماشطة في عهد فرعون طفلها ... وفي زمن الهادي المبارك يختم
وقالت طائفة عظيمة من المفسرين: إنها كان لها ابن عم وكان رجلاً حكيماً واتفق في ذلك الوقت أنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليها فقال: قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنّا لا ندري أيكما قدّام صاحبه ولكن {إن كان قميصه قدّ من قبل} ، أي: من قدام {فصدقت وهو من الكاذبين} {وإن كان قميصه قد من دبر} ، أي: من خلف {فكذبت وهو من الصادقين} لأنه لولا إدباره(2/103)
منها وإقبالها عليه لما وقع ذلك، فعرف سيدها صحة ذلك بلا شبهة كما قال تعالى:
{فلما رأى} ، أي: سيدها {قميصه} ، أي: يوسف عليه السلام {قدّمن دبر قال} لها زوجها قطفير وقد قطع بصدقه وكذبها مؤكداً لأجل إنكارها {إنه} ، أي: هذا القذف له {من كيدكن} معشر النساء، والكيد طلب الإنسان بما يكره {إن كيدكن عظيم} والعظيم ما ينقص مقدار غيره عنه حساً أو معنى. فإن قيل: كيف وصف كيد النساء بالعظم مع قوله تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفاً} (النساء، 28) وهلا كان مكر الرجال أقوى من مكر النساء؟ أجيب: بأنّ الإنسان ضعيف بالنسبة لخلق ما هو أعظم منه كخلق السموات والأرض وبأن كيدهنّ أدق من كيد الرجال وألطف وأخفى؛ لأنّ الشيطان عليهنّ لنقصهنّ أقدر ومكرهنّ في هذا الباب أعظم من كيد جميع البشر؛ لأنّ لهنّ من المكر والحيل والكيد في إتمام مرادهن ما لا يقدر عليه الرجال في هذا الباب؛ ولأنّ كيدهنّ في هذا الباب يورث العار ما لا يورثه كيد الرجال، ولما ظهر للقوم براءة يوسف من ذلك الفعل المنكر حكى تعالى أنه قال:
{يوسف} ، أي: يا يوسف {أعرض} ، أي: انصرف بكليتك مجاوزاً {عن هذا} الحديث فلا تذكره لأحد حتى لا يشيع وينشر بين الناس، ثم التفت إلى المرأة وقال لها: {واستغفري لذنبك} ، أي: توبي إلى الله تعالى مما رميتي يوسف به من الخطيئة وهو بريء منها {إنك كنت من الخاطئين} ، أي: الآثمين.
قال أبو بكر الأصم: إنّ ذلك الزوج كان قليل الغيرة فاكتفى منها بالاستغفار، وقيل: إنّ القائل المذكور هو الشاهد. فإن قيل: كيف قال من الخاطئين بلفظ التذكير؟ أجيب: بأنه قال ذلك تغليباً للذكور على الإناث أو أن المراد أنك من نسل الخاطئين، فمن ذلك النسل سرى ذلك العرق الخبيث فيك، ثم شاع الخبر واشتهر.
{وقال نسوة} ، أي: وقال جماعة من النساء وكنّ خمساً: امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن، وامرأة الحاجب، والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي، ولذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث وقوله: {في المدينة} ، أي: مدينة مصر ظرف، أي: أشعن الحكاية في مصر أو صفة نسوة، وقيل: مدينة عين شمس. {امرأت العزيز} وإنما أضفنها إلى زوجها إرادة لإشاعة الخبر، لأنّ النفس إلى سماع أخبار أولي الأخطار أميل ويردن قطفير والعزيز الملك بلسان العرب ورسم امرأة بالتاء المجرورة ووقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء، وأما الوصل فهو بالتاء للجميع {تراود فتاها} ، أي: عبدها الكنعاني، يقال: فتاي وفتاتي، أي: عبدي وجاريتي {عن نفسه} ، أي: تطلب منه الفاحشة وهو يمتنع منها {قد شغفها حباً} ، أي: شق شغاف قلبها وهو حجابه حتى وصل إلى فؤادها، وحباً نصب على التمييز، وقيل: جلدة رقيقة يقال لها: لسان القلب قال النابغة:
*وقد حال همّ دون ذلك والج ... مكان انشغاف تبتغيه الأصابع
وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الشين، والباقون بالإدغام {إنا لنراها} ، أي: نعلم أمرها علماً هو كالرؤية {في ضلال} ، أي: خطأ {مبين} ، أي: بين ظاهر حيث تركت ما يجب على أمثالها من العفاف والستر بسبب حبها إياه.
{فلما سمعت} زليخا {بمكرهنّ} ، أي: قولهن(2/104)
وإنما سمي ذلك مكراً لوجوه:
الأوّل أنّ النسوة إنما ذكرن ذلك الكلام استدعاءً لرؤية يوسف عليه السلام، والنظر إلى وجهه؛ لأنهنّ عرفن أنهنّ إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهنّ ليتمهد عذرها عندهنّ.
الثاني: أنّ زليخا أسرّت إليهنّ حبها ليوسف عليه السلام وطلبت منهنّ كتمان هذا السرّ فلما أظهرن السرّ كان ذلك مكراً.
الثالث: أنهنّ وقعنّ في غيبتها والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر {أرسلت إليهنّ} تدعوهنّ لتقيم عذرها عندهنّ. قال وهب: اتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة من أشراف مدينتها فيهنّ الخمس {وأعتدت} ، أي: أعددت {لهنَّ متكأً} ، أي: طعاماً يقطع بالسكين، وهو الأترج وإنما سمي الطعام متكأً؛ لأنه يتكأ عنده. قال جميل:
*فظللنا بنعمة واتكأنا ... وشربنا الحلال من قلله
والمتكأ ما يتكأ عليه عند الطعام والشراب والحديث؛ لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، ولذلك جاء النهي عنه في الحديث أن يأكل الرجل متكئاً. وقال صلى الله عليه وسلم «لا آكل متكئاً» وقيل: إنها زينت البيت بألوان الفواكه والأطعمة ووضعت الوسائد ودعت النسوة اللاتي عيرنها بحب يوسف عليه السلام {وآتت} ، أي: أعطت {كل واحدة منهنَّ سكيناً} ، أي: لتأكل بها، وكانت عادتهنّ أن يأكلن اللحم والفواكه بالسكين {وقالت} زليخا ليوسف عليه السلام {اخرج عليهنّ} ، أي: النسوة، وكان يخاف من مخالفتها فخرج عليهنّ يوسف وكانت قد زينته واختبأته في مكان.
وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بكسر التاء في الوصل، والباقون بالضم، وأمّا الابتداء فجميع القراء يبتدؤون الهمزة بالضم {فلما رأينه} ، أي: النسوة {أكبرنه} ، أي: أعظمنه ودهشن عند رؤيته، واتفق الأكثرون على أنهنّ إنما أكبرنه بمحبتهنّ الجمال الفائق، والحسن الكامل وكان يوسف قد أعطي شطر الحسن، وقال عكرمة: كان فضل يوسف في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت يوسف ليلة أسري بي إلى السماء كالقمر ليلة البدر» ذكره البغويّ بغير سند، وقال ابن إسحاق: كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يتلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من الماء عليها ويقال: إنه ورث حسن آدم عليه السلام يوم خلقه الله تعالى قبل أن يخرج من الجنة، وقيل: ورث الجمال من جدّته سارة، وقيل: أكبرنه يعني حضن، والهاء للسكت يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته دخلت في الكبر؛ لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر، وكأنّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله:
*خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
وقيل: أمنين قال الكميت:
*ولما رأته الخيل من رأس شاهق ... صهلن وأمنين المنيّ المدفقا
وقال الرازي: إنما أكبرنه؛ لأنهنّ رأين عليه نور النبوّة وسيما الرسالة، وآثار الخضوع والإخبات وشاهدن فيه شهادة الهيبة، وهيبة ملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهنّ، وكان الجمال العظيم مقروناً بتلك الهيبة، فوقع الرعب والمهابة منه في قلوبهنّ(2/105)
{وقطعنّ أيديهنّ} ، أي: جرحنها بالسكاكين التي معهنّ، وهنّ يحسبن أنهنّ يقطعنّ الأترج، ولم يجدن الألم من فرط الدهشة بيوسف، وقال وهب: مات جماعة منهنّ {وقلن حاش لله} ، أي: تنزيهاً، له الرسم بغير ألف بعد الشين.
وقرأ أبو عمرو في الوصل دون الوقف بألف بعد الشين والباقون بغير ألف وقفاً ووصلاً {ما هذا} ، أي: يوسف عليه السلام {بشراً} وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية ويدل عليها هذه الآية وقوله تعالى {ما هنّ أمّهاتهم} (المجادلة، 2) {إن} ، أي: ما {هذا إلا ملك كريم} ، أي: على الله لما حواه من الحسن الذي لا يكون عادة في النسمة البشرية، فإنّ الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة.
{قالت} ، أي: زليخا للنسوة لما رأين يوسف ودهشن عند رؤيته {فذلكن} ، أي: فهذا هو {الذي لمتنني فيه} ، أي: في محبته قبل أن تتصوّرنّه حق تصوره ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني، ثم أنها صرحت بما فعلت فقالت: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} ، أي: فامتنع من ذلك الفعل الذي طلبت، وإنما صرحت بذلك؛ لأنها علمت أنها لا ملامة عليها منهنّ، وأنهنّ قد أصابهنّ ما أصابها عند رؤيته، ثم قالت: {ولئن لم يفعل ما آمره} ، أي: وإن لم يطاوعني فيما دعوته إليه {ليسجنن} ، أي: ليعاقبن بالحبس {وليكونا من الصاغرين} ، أي: الذليلين المهانين، فقال النسوة ليوسف: أطع مولاتك فيما دعتك إليه، فاختار يوسف عليه السلام السجن على ما دعت إليه فلذلك.
{قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} وإن كان هذا مما تشتهيه النفس، وذلك مما تكرهه نظراً إلى العاقبة، فإنّ الأوّل فيه الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، والثاني فيه المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة. فإن قيل: إنّ الدعاء كان منها فلم أضافه إليهنّ جميعاً؟ أجيب: بأنهنّ خوّفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها، وقيل: إنهنّ دعونه إلى أنفسهنّ. قال بعض العلماء لو لم يقل السجن، أحب إليّ لم يبتل بالسجن والأولى بالعبد أن يسأل الله تعالى العافية، ولذلك ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الله الصبر بقوله له: «سألت الله البلاء فاسأله العافية» رواه الترمذي {وإلا} ، أي: وإن لم {تصرف عني كيدهنّ} ، أي: فيما أردن مني بالتثبيت على العصمة {أصب} ، أي: أمل {إليهنّ} يقال: صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه واشتاقه {وأكن} ، أي: أصر {من الجاهلين} ، أي: من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه، فإن الحكيم لا يفعل القبيح وفي ذلك دليل على أن من ارتكب ذنباً إنما يرتكبه عن جهالة، والقصد بذلك الدعاء ولذلك قال تعالى:
{فاستجاب له ربه} ، أي: فأجاب الله تعالى دعاءه الذي تضمنه هذا الثناء؛ لأنّ الكريم يغنيه التلويح عن التصريح كما قيل:
*إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاك من تعرّضه الثناء
{فصرف عنه كيدهن} ، أي: فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان {إنه هو السميع} ، أي: لدعاء الملتجئين إليه {العليم} ، أي: للضمائر والنيات فيجيب ما صح فيه القصد وطاب منه العزم.
{ثم بدا} ، أي: ظهر {لهم} ، أي: العزيز وأصحابه {من بعد ما رأوا الآيات} ، أي: الدالة على براءة يوسف عليه السلام كشهادة الصبيّ وقدّ القميص وقطع النساء أيديهنّ واستعصامه عنهنّ {ليسجننه حتى} ، أي: إلى {حين} ينقطع فيه كلام الناس، وذلك أنّ(2/106)
المرأة قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يقول لهم: إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري فإمّا أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإمّا أن تحبسه كما حبستني، فعند ذلك وقع في قلب العزيز أنّ الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة فسجنه.
تنبيه: في فاعل بدا أربعة أوجه: أحسنها أنه ضمير يعود على السجن بفتح السين، أي: ظهر لهم حبسه. والثاني: أنّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل وهو بدا، أي: بدا لهم بداء. والثالث: أنه مضمر يدل عليه السياق، أي: بدا لهم رأي. والرابع: أنه محذوف وليسجننه قائم مقامه، أي: بدا لهم السجن، فحذف وأقيمت الجملة مقامه، وليست الجملة فاعلاً؛ لأن الجمل لا تكون كذلك، وقيل: الحبس هنا خمس سنين، وقيل: سبع سنين.
وقال مقاتل بن سليمان: حبس يوسف اثنتي عشرة سنة، وقال الرازي: والصحيح أنّ هذه المقادير غير معلومة، وإنما القدر المعلوم أنه بقي مسجوناً مدّة طويلة لقوله تعالى: {وادّكر بعد أمة} (يوسف، 45) وعن عكرمة قال: قال رجل ذو رأي للعزيز: متى تركت هذا العبد يعتذر إلى الناس، ويقص عليهم أمره فاتركه في بيتها لا يخرج إلى الناس فإن خرج للناس عذروه وفضحوا أهلك فأمر به فسجن.
{ودخل معه السجن فتيان} وهما غلامان كانا للوليد بن نزوان العمليقي ملك مصر الأكبر أحدهما خبازه صاحب طعامه، والآخر ساقيه صاحب شرابه غضب الملك عليهما فحبسهما وكان السبب فيه أنّ جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله وقتله، فضمنوا لهذين الغلامين مالاً على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ثم أنّ الساقي ندم ورجع عن ذلك، وقبل الخباز الرشوة وسم الطعام فلما حضر الطعام بين يدي الملك قال الساقي: لا تأكل أيها الملك فإنّ الطعام مسموم فقال الخباز: لا تشرب فإنّ الشراب مسموم. فقال الملك للساقي اشرب فشرب فلم يضره، وقال للخباز: كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك الطعام: دابة فهلكت، فأمر بحبسهما، وكان يوسف عليه السلام حين دخل السجن قال لأهله: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه: هلم فلنجرّب هذا العبد العبراني فنتراءى له رؤيا قال ابن مسعود: وما رأيا شيئاً وإنما تحالما ليجربا يوسف وقال قوم: بل كانا رأيا حقيقة فرآهما يوسف وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكر أنهما صاحبا الملك حبسهما وقد رأيا رؤيا غمتهما، فقال يوسف: قصا عليّ ما رأيتما {قال أحدهما} وهو صاحب شراب الملك {إني أراني أعصر خمراً} .
فإني قيل: كيف يعقل عصر الخمر؟ أجيب: عن ذلك بثلاثة أقوال:
أحدها: أن يكون المعنى أعصر عنب خمر، أي: العنب الذي يكون عصيره خمراً فحذف المضاف.
الثاني: إن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه تقول: فلان يطبخ دبساً وهو يطبخ عصيراً.
الثالث: قال أبو صالح: أزد وعمان يسمون العنب بالخمر فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكة فنطقوا بها. قال الضحاك: نزل القرآن بألسنة جميع العرب وذلك أنه قال: إني رأيت في المنام كأني في بستان وإذا فيه شجرة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه، وسقيت الملك فشربه {وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه} وذلك أنه قال: رأيت في المنام كأنّ فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان(2/107)
الطعام وسباع الطير تنهش منه {نبئنا} ، أي: أخبرنا {بتأويله} ، أي: بتفسيره {إنا نراك من المحسنين} ، أي: في علم التفسير؛ لأنه متى عبر لم يخطئ كما قال: وعلمتني من تأويل الأحاديث، وقيل: في أمر الدين؛ لأنه كان شديد المواظبة على الطاعات من الصوم والصلاة، فإنه كان يصوم النهار ويقوم الليل كله، ومن كان كذلك فإنه يوثق بما يقوله في تعبير الرؤيا وفي سائر الأمور، وقيل: في حق الشركاء والأصحاب؛ لأنه كان يعود مرضاهم ويؤنس حزينهم، وإذا ضاق على أحدهم وسع عليه وإذا احتاج أحدهم جمع له شيئاً، قيل: إنه لما دخل السجن وجد قوماً اشتدّ بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يسكنهم ويقول: اصبروا وأبشروا تؤجروا فيقولون: بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف بن صفيّ الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن: والله يا فتى لو استطعت لخليت سبيلك، ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت.
وروي أنّ الفتيين لما رأيا يوسف قالا: لقد أحببناك حين رأيناك، فقال لهما يوسف: أنشدكما الله أن لا تحباني فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ بلاء ثم أحبني أبي فألقيت في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فحبست، فلما قصا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما.
{قال} معرضاً عن سؤالهما أخذاً في غيره من إظهار المعجزة في الدعاء إلى التوحيد {لا يأتيكما طعام ترزقانه} ، أي: في منامكما {إلا نبأتكما بتأويله} ، أي: في اليقظة {قبل أن يأتيكما} تأويله، وقيل: أراد به في اليقظة، يقول: لا يأتيكما طعام ترزقانه من منازلكما تطعمانه إلا نبأتكما بتأويله بقدره ولونه والوقت الذي يصل إليكما قبل أن يصل وأي طعام أكلتم، ومتى أكلتم وهذه كمعجزة عيسى عليه السلام حيث قال: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم} (آل عمران، 49) فقالا: هذا فعل العرافين والكهنة. فمن أين لك هذا العلم؟ فقال: ما أنا بكاهن {ذلكما} ، أي: هذا التأويل والإخبار بالمغيبات {مما علمني ربي} وفي ذلك حث على إيمانهم ثم قواه بقوله {إني تركت ملة} ، أي: دين {قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون} وكرر لفظة هم للتأكيد لشدّة إنكارهم للمعاد. ولما ادعى يوسف عليه السلام النبوّة وأظهر المعجزة أظهر أنه من أهل بيت النبوّة بقوله:
{واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب} ليسمعوا قوله ويطيعوا أمره فيما يدعوهم إليه من التوحيد، فإنّ الإنسان متى ادّعى حرفة أبيه وجدّه لم يستبعد ذلك منه، وأيضاً فكمال درجة إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمر مشهور في الدنيا، فإذا أظهر أنهم آباؤه عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال فكان انقيادهم له أتم وتأثير قلوبهم بكلامه أكمل.
فإن قيل: إنه كان نبياً فكيف قال: اتبعت ملة آبائي، والنبيّ لا بدّ وأن يكون مختصاً بشريعة نفسه؟ أجيب: بأنّ مراده التوحيد الذي لا يتغير، أو لعله كان رسولاً من عند الله تعالى إلا أنه كان نبي على شريعة إبراهيم عليه السلام، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون ياء آبائي، والباقون بالفتح {ما كان} ، أي: ما صح {لنا} معشر الأنبياء {أن نشرك بالله من شيء} لأنّ الله تعالى طهره وطهر آباءه عن الكفر ونظيره قوله تعالى: {ما كان لله أن يتخذ من ولد} (مريم، 35) وإنما قال: من شيء(2/108)
لأنّ؛ أصناف الشرك كثيرة، فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد النار، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد الملائكة، فقوله: من شيء ردّ على هؤلاء الطوائف وإرشاد إلى الدين الحق، وهو أنه لا موجد ولا خالق ولا رازق إلا الله {ذلك} ، أي: التوحيد {من فضل الله علينا} بالوحي {وعلى الناس} ، أي: سائرهم ببعثنا لارشادهم وتثبيتهم عليه {ولكنّ أكثر الناس} ، أي: المبعوث إليهم {لا يشكرون} هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها عليهم؛ لأنهم تركوا عبادته وعبدوا غيره ثم دعاهم إلى الإيمان فقال:
{يا صاحبي السجن} ، أي: يا صاحبيّ في السجن فأضافهما إلى السجن كما تقول: يا سارق الليلة، فكما أنّ الليلة مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام، أو يا ساكني السجن كما قيل لسكان الجنة: أصحاب الجنة، ولسكان النار: أصحاب النار {أأرباب} ، أي: آلهة {متفرقون} ، أي: متباينون من ذهب وفضة وصفر وحديد وخشب وحجارة وصغير وكبير ومتوسط وغير ذلك {خير} ، أي: أعظم في صفة المدح وأولى بالطاعة {أم الله الواحد القهار} ، أي: المتوحد بالألوهية الذي لا يغالب ولا يشارك في الربوبية غيره خير، والاستفهام للتقرير، وفي الهمزتين في {أأرباب} من القراءات ما في {أأنذرتهم} وقد مرّ.
فإن قيل: هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال: إنها خير أم الله؟ أجيب: بأنّ ذلك خرج على سبيل الفرض، والمعنى: لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار. ثم بين عجز الأصنام فقال:
{ما تعبدون} وإنما خاطبهم بلفظ الجمع وقد ابتدأ بالتثنية في المخاطبة؛ لأنه أراد جميع من في السجن من المشركين. والعبادة خضوع القلب في أعلى مراتب الخضوع، وبيّن حقارة معبوداتهم وسفالتها بقوله: {من دونه} ، أي: الله الذي قام البرهان على إلهيته وعلى اختصاصه بذلك {إلا أسماء} وبيّن ما يريد وأوضحه بقوله {سميتموها} ، أي: ذوات أوجدتم لها أسماء {أنتم} سميتموها آلهة وأرباباً، وهي حجارة جماد خالية عن المعنى لا حقيقة لها {وآباؤكم} من قبلكم سموها كذلك {ما أنزل الله بها} ، أي: بعبادتها {من سلطان} ، أي: حجة وبرهان {إن الحكم} ، أي: ما الحكم {إلا لله} ، أي: المختص بصفات الكمال والحكم فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة {أمر} وهو النافذ الأمر المطاع الحكم {أن لا تعبدوا إلا إياه} ؛ لأنه المستحق للعبادة لا هذه الأسماء التي سميتموها آلهة. ولما أقام الدليل على هذا الوجه الذي كان جديراً بالإشارة إلى فضله أشار إليه بأداة البعد تنبيهاً على علوّ مقامه وعظيم شأنه فقال: {ذلك} ، أي: الشأن الأعظم وهو توحيده وإفراده عن خلقه {الدين القيم} ، أي: المستقيم الذي لا عوج فيه {ولكنَّ أكثر الناس} وهم الكفار {لا يعلمون} ما يسيرون إليه من العذاب فيشركون. ولما قرر يوسف عليه السلام أمر التوحيد والنبوّة إلى الجواب عن السؤال الذي ذكراه فقال:
{يا صاحبي السجن} ، أي: الذي يحصل فيه الانكسار للنفس والرقة في القلب، فتخلص فيه المودّة، ولما كان في الجواب ما يسوء الخباز أبهم ليجوّز كل منهما أنه الفائز، فإن ألجأه إلى التعيين كان ذلك عذراً له في الخروج عن الأليق فقال: {أمّا أحدكما} وهو صاحب شراب الملك {فيسقي ربه} ، أي: سيده {خمراً} على(2/109)
عادته، والعناقيد الثلاثة هي ثلاثة أيام يبقى في السجن، ثم يدعو به الملك فيردّه إلى رتبته التي كان عليها هذا تأويل رؤياه {وأمّا الآخر} وهو صاحب طعام الملك {فيصلب} والسلال الثلاثة ثلاثة أيام، ويدعو به الملك فيصلبه {فتأكل الطير من رأسه} هذا تأويل رؤياه، قال ابن مسعود: فلما سمعا قول يوسف عليه السلام قالا: ما رأينا شيئاً إنما كنا نلعب، فقال لهما يوسف عليه السلام {قضي} ، أي: تم {الأمر الذي فيه تستفتيان} ، أي: تطلبان الإفتاء فيه عملاً بالفتوة، فسألتما عن تأويله وهو تعبير رؤياكما كذبتما أو صدقتما لم أقله عن جهل ولا غلط.
{وقال} يوسف عليه السلام {للذي ظنّ} ، أي: علم وتحقق، فالظنّ بمعنى العلم؛ لأنه قاله عن وحي لقوله {قضي الأمر} ويجوز أن يكون ضمير ظنّ للساقي، فهو حينئذ على بابه {أنه ناجٍ منهما} وهو الساقي {اذكرني عند ربك} ، أي: سيدك ملك مصر بما رأيت مني من معالي الأخلاق وطهارة الشيم الدالة على بعدي مما رميت به، والمراد بالرب هنا غير المراد به في قوله: {أأرباب متفرقون} فنجا الساقي وصلب صاحبه وفق ما قاله لهما يوسف عليه السلام، واختلف في ضمير {فأنساه الشيطان ذكر ربه} على قولين:
أحدهما: أنه يعود إلى الساقي، وهو قول جماعة من المفسرين، أي: فأنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك قالوا: لأنّ صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل الساقي حتى أنساه ذكر يوسف أولى من صرفها إلى يوسف.
والقول الثاني وعليه أكثر المفسرين: أنه يرجع إلى يوسف عليه السلام. وقال الرازي: إنه الحق، أي: أنّ الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه تعالى حتى استعان بمخلوق مثله، وتلك غفلة عرضت له عليه السلام، فإنّ الاستعانة بالمخلوق في رفع الظلم جائزة في الشريعة إلا أنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، فهذا وإن كان جائزاً لعامّة الخلق إلا أنّ الأولى بالصدّيقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب، فلهذا صار يوسف عليه السلام مؤاخذاً بهذا القول ولم يؤاخذه تعالى في تلك القصة البتة بل ذكره بأعظم وجوه المدح والثناء فعلم بذلك أنه عليه السلام كان مبرأً مما نسبه الجهال والحشوية إليه.
فإن قيل: كيف تمكن الشيطان من يوسف حتى أنساه ذكر ربه؟ أجيب: بأنّ ذلك إنما كان شغل خاطر، وأمّا النسيان الذي هو عبارة عن ترك الذكر وإزالته عن القلب بالكلية فلا يقدر عليه، واختلف في قدر البضع في قوله تعالى: {فلبث في السجن بضع سنين} فقال مجاهد: ما بين الثلاث إلى التسع. وقال ابن عباس: ما دون العشرة. وقال البغوي: وأكثر المفسرين أنّ البضع في هذه الآية سبع سنين، وكان قد لبث قبله خمس سنين، فجملته اثنتا عشرة سنة، وقال وهب: أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف في السجن سبع سنين. وقال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي: اذكرني عند ربك، قيل له: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلنّ حبسك، فبكى يوسف وقال: يا رب أنسى قلبي كثرة البلوى، فقلت كلمة، قال الحسن: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «رحم الله يوسف لولا كلمته التي قالها ما لبث في السجن ما لبث» ثم بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا بلاء فزعنا إلى الناس، ذكره الثعلبي مرسلاً وبغير سند. وقال الحسن أيضاً: دخل جبريل على يوسف عليهما السلام في السجن، فلما رآه يوسف عرفه فقال له: يا أخا المنذرين ما لي أراك بين(2/110)
الخاطئين. فقال له جبريل: يا طاهر يا ابن الطاهرين يقرأ عليك السلام رب العالمين ويقول لك: أما استحييت مني واستشفعت للآدميين فوعزتي لالبثنك في السجن بضع سنين. قال يوسف: وهو في ذلك عني راض؟ قال: نعم. قال: إذاً لا أبالي. وقال كعب: قال جبريل ليوسف: إنّ الله تعالى يقول لك: من خلقك؟ قال: الله. قال: فمن علمك تأويل الرؤيا؟ قال: الله. قال: فمن حببك إلى أبيك؟ قال: الله. قال: فمن أنجاك من كرب البئر؟ قال: الله تعالى. قال فمن صرف عنك السوء والفحشاء؟ قال: الله. قال: فكيف استشفعت بآدمي مثلك؟.
قال محمد بن عمر الرازيّ في تفسيره: والذي جربته من أوّل عمري إلى آخره أنّ الإنسان كلما عوّل في أمر من الأمور على غير الله تعالى صار ذلك سبباً للبلاء والمحنة والشدّة والرزية، وإذا عول على الله تعالى ولم يرجع إلى أحد من الخلق حصل ذلك المطلوب على أحسن الوجوه، فهذه التجربة قد استمرّت لي من أوّل عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت إلى السابع والخمسين، فعند ذلك استقرّ قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه. ولما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر الأكبر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هائلة، كما قال تعالى:
{وقال الملك إني أرى} ، أي: رأيت عبر بالمضارع حكاية للحال لشدّة ما هاله من ذلك {سبع بقرات سمان} ، أي: خرجن من نهر يابس، والسمن زيادة البدن من الشحم واللحم وسمان جمع سمينة، ويجمع سمين أيضاً عليه يقال: رجال سمان ونساء سمان كما يقال: رجال كرام ونساء كرام {يأكلهنّ} ، أي: يبتلعهنّ {سبع} ، أي: من البقر {عجاف} جمع عجفاء، أي: مهازيل خرجن من ذلك النهر.
تنبيه: جمع عجفاء على عجاف، والقياس عجف نحو حمراء وحمر حملاً له على سمان؛ لأنه نقيضه، ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض {و} إني أرى {سبع سنبلات خضر} ، أي: قد انعقد حبها {و} إني أرى سبع سنبلات {أخر يابسات} ، أي: قد أدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها وإنما استغنى عن بيان حالها بما نص من حال البقرات، والسنبلة نبات كالقصبة فيها جملة حبوب منتظمة، فكأنه قيل: فكان ماذا؟ فقيل: قال الملك بعد أن جمع السحرة والكهنة والمعبرين {يا أيها الملأ} ، أي: الأشراف النبلاء الذين تملأ العيون مناظرهم والقلوب مآثرهم {أفتوني في رؤياي} ، أي: أخبروني بتأويلها {إن كنتم للرؤيا تعبرون} ، أي: إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا فاعبروها.
تنبيه: اللام في للرؤيا مزيدة فلا تعلق لها بشيء، وزيدت لتقدّم المعمول تقويةً للعامل كما زيدت إذا كان العامل فرعاً كقوله تعالى: {فعال لما يريد} (البروج، 16) ولا تزاد فيما عدا ذينك إلا ضرورة، وقيل: ضمن تعبرون معنى ما يتعدّى باللام تقديره: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا، وقيل: متعلقة بمحذوف على أنها للبيان كقوله تعالى: {وكانوا فيه من الزاهدين} (يوسف، 20) تقديره: أعني فيه، وكذلك هذا تقديره: أعني للرؤيا، وعلى هذا يكون مفعول تعبرون محذوفاً تقديره تعبرونها، وفي الآية ما يوجبه حال العلماء من حاجة الملوك إليهم فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل:
{قالوا} هذه الرؤيا {أضغاث} ، أي: أخلاط {أحلام} مختلطة مختلفة مشتبهة جمع ضغث بكسر الضاد وإسكان الغين المعجمة، وهي قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس، والأحلام جمع حلم بضم الحاء وإسكان اللام وضمها، وهو الرؤيا فقيدوها بالأضغاث، وهو ما يكون من الرؤيا باطلاً(2/111)
لكونه من حديث النفس ووسوسة الشيطان لكونها تشبه أخلاط النبات التي لا تناسب بينها؛ لأنّ الرؤيا تارة تكون من الملك وهي الصحيحة، وتارة تكون من تحزين الشيطان وتخليطاته، وتارة من حديث النفس، ثم قالوا: {وما نحن} ، أي: بأجمعنا {بتأويل الأحلام} ، أي: المنامات الباطلة {بعالمين} ، أي: ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للمنامات الصادقة كأنه مقدّمة ثانية للعذر ولما سأل الملك عن هذه الرؤيا واعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب تذكر ذلك الشرابي واقعة يوسف عليه السلام؛ لأنه كان يعتقد فيه كونه متبحراً في هذا العلم كما قال تعالى:
{وقال الذي نجا} ، أي: خلص {منهما} ، أي: من صاحبي السجن وهو الشرابي إنّ في الحبس رجلاً فاضلاً صالحاً كثير العلم كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في كل ما ذكر وما أخطأ في حرف، فكانت هذه الرؤيا سبباً لخلاص يوسف عليه السلام، ولم يتذكر الشرابي إلا بعد طول المدّة كما قال تعالى: {وادّكر} بالدال المهملة، أي: طلب الذكر بالذال المعجمة وزنه افتعل {بعد أمّة} ، أي: وتذكر يوسف بعد جماعة من الزمان مجتمعة، أي: مدّة طويلة، والجملة اعتراض ومقول القول {أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} ، أي: إلى يوسف عليه السلام فإنه أعلم الناس فأرسلوه إليه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولم يكن السجن بالمدينة فأتاه، فقال الساقي المرسل إليه منادياً له نداء القرب تحبباً إليه:
{يوسف} وزاد في التحبب بقوله {أيها الصدّيق} ، أي: البليغ في الصدق والتصديق؛ لأنه جرّب أحواله وعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، وهذا يدل على أنّ من أراد أن يتعلم من رجل شيئاً فإنه يجب عليه أن يعظمه وأن يخاطبه بالألفاظ المشعرة بالإجلال، ثم إنه أعاد السؤال يعني اللفظ الذي ذكره الملك فقال: {أفتنا} ، أي: اذكر لنا الحكم {في سبع بقرات سمان} ، أي: رآهنّ الملك {يأكلهنّ سبع} من البقر {عجاف و} في {سبع سنبلات} جمع سنبلة وهي مجمع الحب من الزرع {خضر و} في سبع {أخر} من السنابل {يابسات} ، أي: في رؤيا ذلك، ونعم ما فعل من ذكر السؤال بعين اللفظ، فإنّ نفس الرؤيا قد تختلف بحسب اختلاف الألفاظ كما هو مذكور في ذلك العلم ثم قال: {لعلي أرجع إلى الناس} ، أي: إلى الملك وجماعته بفتواك قبل مانع يمنعني {لعلهم يرجعون} ، أي: بتأويل هذه الرؤيا، وقيل: بمنزلتك في العلم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بفتح الياء، والباقون بالسكون.
{قال} يوسف عليه السلام معبراً لتلك الرؤيا: أمّا البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبات، وأمّا البقرات العجاف والسنبلات اليابسات فسبع سنين مجدبة فذلك قوله {تزرعون سبع سنين} وهو خبر بمعنى الأمر كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن} (البقرة، 228) {والوالدات يرضعن} (البقرة، 233) وإنما خرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في الإيجاب فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه، والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: {فذروه في سنبله} وقوله: {دأباً} نصب على الحال، أي: دائبين، أي: سبع سنين متتابعة على عادتكم في الزراعة، والدأب العادة، وقيل: ازرعوا بجد واجتهاد، وهذا تأويل السبع السمان والسنبلات الخضر. وقرأ حفص بفتح الهمزة، وسكنها الباقون، وأبدلها السوسي ألفا وقفاً ووصلاً، وحمزة وقفاً فقط. {فما حصدتم فذروه} ، أي: اتركوه {في سنبله} لئلا يفسد ولا يقع فيه السوس، وذلك أبقى له على(2/112)
طول الزمان {إلا قليلاً مما تأكلون} ، أي: ادرسوا قليلاً من الحنطة للأكل بقدر الحاجة، أمرهم بحفظ الأكثر لوقت الحاجة أيضاً، وهو وقت السنين المجدبة كما قال:
{ثم يأتي من بعد ذلك} ، أي: السبع المخصبات {سبع شداد} ، أي: مجدبات صعاب وهي تأويل السبع العجاف والسنبلات اليابسات {يأكلن ما قدّمتم لهنّ} ، أي: يأكل أهلهنّ ما ادّخرتم لأجلهنّ، فأسند إليهنّ على المجاز تطبيقاً بين المعبر وهو يأكلهنّ سبع عجاف والمعبر به وهو يأكلن ما قدّمتم لهنّ {إلا قليلاً مما تحصنون} ، أي: تحرزون وتدّخرون للبذر، والإحصان الإحراز وهو إبقاء الشيء في الحصن بحيث يحفظ ولا يضيع.
{ثم يأتي من بعد ذلك} ، أي: السبع المجدبات {عام فيه يغاث الناس} ، أي: يمطرون من الغيث وهو المطر، وقيل: ينقذون من قول العرب استغثت فأغاثني {وفيه يعصرون} من العنب خمراً، ومن الزيتون زيتاً، ومن السمسم دهناً، وأراد بذلك كثرة النعم والخير. وقال أبو عبيدة: ينجون من الكرب والشدّة والجدب. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب؛ لأنّ الكلام كله مع الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة ردّاً إلى الناس. ولما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير الذي ذكره يوسف عليه السلام استحسنه.
{وقال الملك} ، أي: الذي العزيز في خدمته {ائتوني به} لأسمع ذلك منه وأكرمه وهذا يدلّ على فضيلة العلم فإنه سبحانه وتعالى جعل علمه سبباً لخلاصه من المحنة الدنيوية، فكيف لا يكون العلم سبباً للخلاص من المحن الأخروية؟ فأتاه الرسول ليأتي به إلى الملك {فلما جاءه} ، أي: يوسف عليه السلام عن قرب من الزمان {الرسول} بذلك وهو الساقي وقال له: أجب الملك {قال} له يوسف عليه السلام {ارجع إلى ربك} ، أي: سيدك الملك، ولم يخرج معه حتى يظهر برهانه للملك ولا يراه بعين النقص ولذلك قال: {فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهنّ} وإنما قال يوسف عليه السلام: فاسأله ما بال النسوة، ولم يقل: فاسأله أن يفتش عن حالهنّ؛ لأنّ قوله: فاسأله يحتمل أن يكون بمعنى المسألة، أي: اسأله عن شأنهنّ وأن يكون بمعنى الطلب، وهو أن يفتش عن شأنهنّ فحسن تقييده بلفظ ما التي يسأل بها عن حقيقة الشيء ليهيجه أن يتحرك للتفتيش عن حالهنّ؛ لأنّ الإنسان حريص على تحقيق الشيء ويستنكف أن ينسب إلى الجهل به بخلاف ما لو قال: سله أن يفتش، أي: اطلب منه فإنه لا يبالي بهذا الطلب ولا يلتفت إليه لا سيما الملوك.k
وإنما لم يتعرّض لسيدته مع ما صنعته به كرماً ومراعاة للأدب، وقدّم سؤال النسوة وفحص حالهنّ لتظهر براءة ساحته؛ لأنه لو خرج في الحال لربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثر، فلما التمس من الملك أن يفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة، فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي للشخص أن يجتهد في نفي التهم ويتقي مواقعها وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لقد عجبت من يوسف وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني، ولقد عجبت منه حيث أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليماً ذا أناة» . وأصل الحديث في الصحيحين مختصراً، وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل التواضع لا أنه(2/113)
صلى الله عليه وسلم كان في الأمر منه مبادرة وعجلة لو كان مكان يوسف، والتواضع لا يصغر كبيراً ولا يضع رفيعاً ولا يبطل لذي حق حقه، لكنه يوجب لصاحبه فضلاً ويلبسه جلالة وقدراً، وقوله: «والله يغفر له» مثل هذه المقدمة مشعرة بتعظيم المخاطب من توقيره وتوقير حرمته كما تقول لمن تعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري، ورضي الله تعالى عنك ما جوابك عن كلامي، وقوله: «إن كان لحليماً» إن هي المخففة من الثقيلة، والأناة الوقار، وقيل: هو اسم من التأني في الأمور. وقرأ ابن كثير والكسائي بفتح السين ولا همزة بعدها، والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها {إنّ ربي} ، أي: الله {بكيدهنّ عليم} حين قلن أطع مولاتك، وفيه تعظيم كيدهنّ والاستشهاد بعلم الله تعالى عليه وأنه بريء مما عيب به، والوعيد لهنّ على كيدهنّ، وقيل: المراد بربي الملك، وجعله رباً لنفسه لكونه مربياً له، وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالماً بكيدهنّ ومكرهنّ،
ولما قال يوسف عليه السلام ذلك وأبى أن يخرج من السجن قبل تبين الأمر رجع الرسول إلى الملك فأخبره بما قال عليه السلام فكأنه قيل: فما فعل الملك؟ فقيل:
{قال} للنسوة بعد أن جمعهنّ وامرأة العزيز معهنّ {ما خطبكنّ} ، أي: ما شأنكنّ العظيم وقوله: {إذ راودتنّ} ، أي: خادعتنّ {يوسف عن نفسه} دليل على أنّ براءته كانت متحققة عند كل من علم القصة، وإنما خاطب الملك جميع النسوة بهذا الخطاب، والمراد بذلك امرأة العزيز وحدها ليكون أستر لها، وقيل: إنّ امرأة العزيز راودته عن نفسه وسائر النسوة أمرنه بطاعتها فلذلك خاطبهنّ فكأنه قيل فما قلن؟ قيل: {قلن حاش لله} ، أي: عياذاً بالملك الأعظم وتنزيهاً له من هذا الأمر {ما علمنا عليه} ، أي: يوسف عليه السلام وأغرقن في النفي فقلن {من سوء} ، أي: من خيانة في شيء من الأشياء، ولما أنّ يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال: {ما بال النسوة اللاتي قطعنّ أيديهنّ} (يوسف، 50) فذكرهنّ ولم يذكر تلك المرأة البتة وعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيماً لجانبها وإخفاء للأمر عنها أرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن، فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء فلذلك {قالت امرأت العزيز} مصرحة بحقيقة الحال {الآن حصحص الحق} ، أي: ظهر وتبين {أنا راودته} ، أي: خادعته {عن نفسه} وأكدت ما أفصحت به مدحاً ونفياً لكل سوء بقولها مؤكداً لأجل ما تقدّم {وإنه لمن الصادقين} ، أي: الغريقين في هذا الوصف في نسبة المراودة إليّ، وتبرئة نفسه، فقد شهد النسوة كلهنّ ببراءته، وإنه لم يقع منه ما ينسب به إلى شيء من السوء البتة، فمن نسب بعد ذلك هما أو غيره فهو تابع لمجرّد الهوى في نبيّ من المخلصين.
قال الرازي: رأيت في بعض الكتب أنّ امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادّعت عليه المهر، فأمر القاضي بأن تكشف عن وجهها حتى يتمكن الشهود من إقامة الشهادة. فقال الزوج: لا حاجة إلى ذلك فإني مقرّ بصداقها في دعواها. فقالت المرأة: لما أكرمتني إلى هذا الحدّ فاشهدوا أني أبرأت ذمّتك من كل حق لي عليك. ولما رجع الرسول إلى يوسف عليه السلام وأخبره بشهادتهنّ ببراءته قال:
{ذلك} ، أي: الخلق العظيم في تثبتي في السجن إلى أن تبين الحق {ليعلم} العزيز بإقرارها وهي في الأمن وأنا في محل الضيق والخوف علماً مؤكداً {أني لم أخنه} ، أي: في أهله ولا في غيرها {بالغيب} ، أي:(2/114)
والحال أنّ كلاً منا غائب عن صاحبه هذا قول الأكثرين أنه قول يوسف عليه السلام، قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله قوله تعالى: {إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة} (النمل، 34) هذا كلام بلقيس، ثم قال الله تعالى: {وكذلك يفعلون} (النمل، 34) وقوله تعالى: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} (آل عمران، 9) كلام الداعي ثم قال الله تعالى: {إنّ الله لا يخلف الميعاد} ثم ختم الكلام بقوله: {وأنّ الله لا يهدي} ، أي: يسدّد وينجح بوجه من الوجوه {كيد الخائنين} ، أي: ولو كنت خائناً لما خلصني الله من هذه الورطة العظيمة، وحيث خلصني منها ظهر أني بريء عما نسبوني إليه.
وقيل: إنه كلام امرأة العزيز، والمعنى: أني وإن كنت أحلت عليه الذنب في حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه في غيبته، أي: لم تقل فيه وهو في السجن خلاف الحق، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت: {وأنّ الله لا يهدي كيد الخائنين} يعني إني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت، وإنه لما كان بريئاً من الذنب لا جرم طهره الله تعالى منه. واعلم أنّ هذه الآية على القول الأوّل دالة على طهارة يوسف عليه السلام من وجوه كثيرة؛
الأوّل: قولها: {أنا رادوته عن نفسه} .
والثاني: قولها: {وإنه لمن الصادقين} وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله: {هي راودتني عن نفسي} .
والثالث: قول يوسف عليه السلام: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام قال له جبريل عليه السلام: ولا حين هممت. قال الرازي: وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد، أي: وإنما أسندها بعضهم لابن عباس بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريف ظاهر القرآن.
ورابعها: أنّ إقدامه على قوله {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما، والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاً لا يليق بأحد من العقلاء، فكيف يليق إسناده إلى نبي مرسل من سلالة الأنبياء الأصفياء؟ فثبت أنّ هذه الآية تدل دلالة قاطعة على براءته مما يقول الجهال والحشوية، واختلفوا في تفسير قوله:
{وما أبرئ نفسي} لأنّ ذلك يختلف باختلاف ما قبله؛ لأنّ قوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} إن كان من كلام يوسف عليه السلام، وقد مرّ أنه قول الأكثرين فهو أيضاً كلامه، وإن كان من كلام المرأة، فهذا أيضاً كلامها، فعلى الأوّل قد تمسك به الحشوية، وقالوا: إنه عليه السلام لما قال: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال له جبريل: ولا حين حللت تكة سراويلك فعند ذلك قال يوسف عليه السلام {وما أبرئ نفسي} . {إنّ النفس لأمّارة بالسوء} ، أي: بالزنا {إلا ما رحم} ، أي: عصم منه {ربي إنّ ربي غفور} ، أي: للهم الذي هممته {رحيم} ، أي: لو فعلته لتاب عليّ، وهذا ضعيف كما قاله الرازي لما تقدّم أنّ الآية المتقدّمة برهان قاطع على براءته من الذنب، وإنما قال ذلك عليه السلام؛ لأنه لما قال: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} كان ذلك جارياً مجرى مدح النفس وتزكيتها وقد قال تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} (النجم، 32) فاستدرك ذلك على نفسه بقوله: {وما أبرئ نفسي} والمعنى وما أزكي نفسي {إنّ النفس لأمارة بالسوء} ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية.
وعلى الثاني أنها لما قالت: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب}(2/115)
قالت: {وما أبرئ نفسي} من الخيانة مطلقاً، فإني قد خنته حي أحلت الذنب عليه وقلت: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن} وأودعته في الحبس، كأنها أرادت الاعتذار مما كان، واختلف في قوله:
{وقال الملك} فمنهم من قال: هو العزيز، ومنهم من قال: هو الريان الذي هو الملك الأكبر. قال الرازي: وهذا هو الأظهر لوجهين:
الأوّل: أنّ قول يوسف {اجعلني على خزائن الأرض} يدل عليه.
الثاني: قوله {أستخلصه لنفسي} يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصاً وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصاً للعزيز فدل هذا على أنّ هذا الملك هو الملك الأكبر انتهى. وإنما صرّح به ولم يستغن بضميره كراهية الالتباس لما تخلل بينه وبين جواب امرأة العزيز من كلام يوسف عليه السلام، ولو كان الكل من كلامها لاستغني بالضمير، ولم يحتج إلى إبرازه {ائتوني به استخلصه لنفسي} ، أي: أجعله خالصاً لي دون شريك. قال ابن عباس: فأتاه الرسول فقال له: ألق عنه ثياب السجن وألبسه ثياباً جدداً، وقم إلى الملك فدعا له أهل السجن وهو يومئذٍ ابن ثلاثين سنة، واغتسل وتنظف ولبس ثياباً جدداً بعد أن دعا لأهل السجن فقال: اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعمّ عنهم الأخبار، وكتب على باب السجن هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وبيوت الأحزان، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء. ثم أتى الملك فلما رآه غلاماً حدثاً فقال: أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة؟ ثم أقعده قدّامه وقال له: لا تخف وألبسه طوقاً من ذهب وثياباً من حرير، وأعطاه دابة مسرجة مزينة كدابة الملك، وروي أنّ جبريل عليه السلام دخل على يوسف وهو في الحبس وقال: قل: اللهم اجعل لي من عندك فرجاً ومخرجاً، وارزقني من حيث لا أحتسب، فقبل الله تعالى دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن، وروي أنّ يوسف لما دخل عليه قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه بالعربية فقال: ما هذا اللسان؟ قال: هذا لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان؟ قال: هذا لسان آبائي، قال وهب: كان الملك يتكلم بسبعين لغة ولم يعرف هذين اللسانين، وكان الملك كلما كلمه بلسان أجابه يوسف عليه السلام وزاد بالعربية والعبرانية {فلما كلمه} ، أي: كلم الملك يوسف عليه السلام وشاهد منه ما شاهد من جلال النبوّة وجميل الوزارة وخلال السيادة ومخايل السعادة أقبل عليه وقال:
إني أحبّ أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهاً، فأجابه بذلك الجواب شفاهاً وشهد قلبه بصحته فعند ذلك.
{قال} له {إنك اليوم لدينا مكين أمين} ، أي: ذو مكانة وأمانة على أمرنا فما ترى أيها الصديق؟ {قال} أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً وتبني الخزائن، وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنين المجدبة بعنا الغلال فيحصل بهذا الطريق مال عظيم، فقال الملك: ومن لي بهذا الشغل؟ فقال يوسف: {اجعلني على خزائن الأرض} جمع خزانة وأراد خزائن الطعام والأموال، والأرض أرض مصر، أي: خزائن أرضك مصر، وقال الربيع بن أنس:، أي: خرج مصر ودخله.
وروى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من(2/116)
ساعته لكنه لما قال ذلك أخره الله تعالى سنة فأقام في بيته سنة مع الملك» . قال الرازي: وهذا من العجائب؛ لأنه لما تثاقل عند الخروج من السجن سهل الله تعالى عليه ذلك على أحسن الوجوه. ولما سارع في ذكر هذا الالتماس أخر الله تعالى ذلك المطلوب عنه، وهذا يدل على أنّ ترك التصرف أتم، والتفويض بالكلية إلى الله تعالى أولى، ثم قال: {إني حفيظ عليم} ، أي: ذو حفظ وعلم بأمرها، وقيل: كاتب وحاسب. فإن قيل: لم طلب يوسف عليه السلام الإمارة والنبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: «لا تسأل الإمارة» . ولم طلب الإمارة من سلطان كافر، ولم لم يصبر مدّة، ولم أظهر الرغبة في طلبها في الحال، ولم طلب أمر الخزائن في أوّل الأمر مع أن هذا يورث نوع تهمة، ولم مدح نفسه وقد قال تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} (النجم، 32) ولم ترك الاستثناء في هذا وقد قال تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23، 24) فهذه سبعة أسئلة؟.
أجيب عنها: بأنّ الأصل في جواب هذه الأسئلة أنّ التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان وإنما كان ذلك واجباً عليه لوجوه:
الأوّل: أنه كان رسولاً حقاً من الله تعالى إلى الخلق والرسول يجب عليه مراعاة الأمة بقدر الإمكان.
والثاني: أنه علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد، فلعله تعالى أمره أن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق.
والثالث: أن السعي أيضاً في إيصال النفع إلى المستحقين ورفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول، فكان مكلفاً عليه السلام برعاية المصالح من هذه الوجوه، وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإنما مدح نفسه؛ لأنّ الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكن ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر، وأيضاً مدح النفس إنما يكون مذموماً إذا قصد به الشخص التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل، وأمّا هذا الوجه فليس بمذموم وقوله تعالى {فلا تزكوا أنفسكم} (النجم، 32) المراد به تزكية حال من لا يعلم كونها مزكاة والدليل قوله تعالى بعد هذه الآية: {هو أعلم بمن اتقى} (النجم، 32) أمّا إذا كان الإنسان عالماً بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه، وإنما ترك الاستثناء؛ لأنه لو ذكره بما اعتقد الملك فيه إنه إنما ذكره لعلمه أنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي، فلهذا المعنى ترك الاستثناء، ولما سأل يوسف عليه السلام ما تقدم قال معلماً بأنه قد أجيب بتنجيز الله تعالى له:
{وكذلك} ، أي: كإنعامنا عليه بالخلاص من السجن {مكنا ليوسف في الأرض} ، أي: أرض مصر {يتبوّأ} ، أي: ينزل {منها حيث يشاء} بعد الضيق والحبس قال ابن عباس وغيره: ولما انقضت السنة من يوم سأل الأمارة دعاه الملك فتوجه وجعل خاتم الملك في إصبعه وقلده سيفه وجعل له سريراً من ذهب مكللاً بالدرّ والياقوت طوله ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرة أذرع عليه ستون فراشاً، فقال يوسف عليه السلام: أما السرير فأشدّ به ملكك، وأمّا الخاتم فأدبر به أمرك، وأمّا التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي، وأمره أن يخرج فخرج لونه كالثلج ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه في صفاء لونه، فانطلق حتى جلس على ذلك السرير ودانت له الملوك ودخل الملك بيته وفوّض إليه أمر مصر، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه.
قال ابن إسحاق: قال ابن زيد: وكان لملك مصر خزائن(2/117)
كثيرة فسلم سلطانه كله إليه وجعل أمره وقضاءه نافذاً في مملكته، ثم مات قطفير بعد ذلك فزوّجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيراً مما كنت تريدين؟ قالت: أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي، فوجدها يوسف عليه السلام عذراء فأصابها فولدت له ذكرين افراثيم وميشا، فأقام العدل بمصر وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى، ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية، ثم بالدواب في السنة الثالثة، ثم بالعبيد والإماء في السنة الرابعة، ثم بالضياع والعقار في السنة الخامسة، ثم بأولادهم في السنة السادسة، ثم برقابهم في السنة السابعة حتى لم يبق بمصر حرّ ولا حرّة إلا صار عبداً له، فقال الناس: ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم من هذا صار كل الخلق عبيداً له، فلما سمع ذلك قال: إني أشهد الله أني اعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع أحداً ممن يطلب الطعام أكثر من حمل بعير؛ لئلا يضيق الطعام على الباقين هذا ملخص ما قاله البغوي والزمخشري وغيرهما.
قال الرازي: والله أعلم بحقيقة الحال وروي أنّ يوسف عليه السلام كان لا يشبع من طعام في تلك الأيام، فقيل له: تجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: إن شبعت نسيت الجائع، وأمر يوسف طباخ الملك أن يجعل غداءه نصف النهار أراد بذلك أن يذيق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين قال البغوي: فمن ثم جعل الملوك غداءهم نصف النهار قال الله تعالى: {نصيب} ، أي: نخص {برحمتنا من نشاء} في الدنيا والآخرة {ولا نضيع أجر المحسنين} بل نؤتيهم أجورهم عاجلاً؛ وآجلاً لأنّ إضاعة الأجر إما أن تكون للعجز أو للجهل أو للبخل، والكل ممتنع في حق الله تعالى فالإضاعة ممتنعة.
{ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون} الشرك والفواحش، قال الرازي: وهذا تنصيص من الله تعالى على أنّ يوسف عليه السلام كان في الزمان السابق من المتقين وليس هاهنا زمان سابق يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله تعالى فيه: {ولقد همت به وهمّ بها} فكان هذا من الله تعالى شهادة بأنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين وأيضاً قوله: {ولا نضيع أجر المحسنين} شهادة من الله تعالى على أنه كان من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأنّ يوسف كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين، والجاهل الحشوي يقول: إنه كان من المذنبين ولا شك أن من لم يقبل قول الله تعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين. ولما اشتدّ القحط وعظم البلاء عم ذلك جميع البلاد حتى وصل إلى بلاد الشام وأرض كنعان، وقصد الناس مصر من كل مكان للميرة، فجعل يوسف عليه السلام لا يعطي أحداً أكثر من حمل بعير وإن كان عظيماً تقسيطاً بين الناس. وتزاحم الناس عليه، ونزل بآل يعقوب ما نزل بالناس من الشدّة، فبعث بنيه إلى مصر للميرة وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمه وأبيه فذلك قوله تعالى:
{وجاء إخوة يوسف} وكانوا عشرة وكان منزلهم بالعربات من أرض فلسطين ثغور الشأم وكانوا أهل إبل وشياه، فدعاهم أبوهم يعقوب عليه السلام، وقال: بلغني أن(2/118)
بمصر ملكاً صالحاً يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه لتشتروا منه ما تحتاجون من الطعام.
وههنا همزتان مختلفتان من كلمتين، فقرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو بتسهيل الثانية، والباقون بالتحقيق. ولما أمرهم أبوهم بذلك خرجوا حتى قدموا مصر {فدخلوا عليه فعرفهم} قال ابن عباس: بأوّل نظرة إليهم عرفهم. وقال الحسن: لم يعرفهم حتى تعرفوا إليه. {وهم له منكرون} ، أي: لم يعرفوه وذلك لوجوه: الأوّل: أنه عليه السلام أمر حجابه بأن يوقفوهم من البعد وما كان يتكلم معهم إلا بواسطة، الثاني: أنهم حين ألقوه في الجب كان صغيراً، ثم أنهم رأوه بعد وفور اللحية وكبر الجثة، قال ابن عباس: وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة، فلذلك أنكروه، وقال عطاء: إنما لم يعرفوه؛ لأنه كان على سرير الملك، وكان بزيّ ملوك مصر عليه ثياب حرير، وفي عنقه طوق ذهب، ثم أنّ يوسف عليه السلام أمر بإنزالهم وإكرامهم وكانت عادته أن لا يزيد أحداً على حمل بعير، وكانوا عشرة فأعطاهم عشرة أحمال كما قال تعالى:
{ولما جهزهم بجهازهم} ، أي: وفاهم كيلهم والجهاز ما يعدّ من الأمتعة للنقلة كعدد السفر وما يحمل من بلدة إلى أخرى وما تزف به المرأة إلى زوجها، فقالوا: إن لنا شيخاً كبيراً وأخاً آخر بقي معه وذكروا أنّ أباهم لأجل سنه وشدّة حزنه لم يحضر، وأن أخاهم في خدمة أبيه ولا بدّ لهما أيضاً من حملين آخرين من الطعام، فلما ذكروا ذلك قال يوسف عليه السلام: فهذا يدل على أنّ حب أبيكم له أزيد من حبه لكم، وهذا شيء عجيب؛ لأنكم أنتم مع جمالكم وعقلكم وأدبكم إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم دل ذلك على أنه أعجوبة في العقل والأدب فجيئوني به حتى أراه كما قال تعالى حكاية عنه: {قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم} ، أي: الذي خلفتموه عنده.
وقيل: إنه لما نظر إليهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: اخبروني من أنتم وما أمركم؟ فإني أنكرت شأنكم قالوا: قوم من أرض الشأم أصابنا ما أصاب الناس، فجئنا نمتار فقال: لعلكم جئتم لتنظروا إلى عورة بلادنا؟ قالوا: لا والله لسنا بجواسيس إنما نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ صديق، يقال له يعقوب نبيّ من أنبياء الله تعالى، قال: وكم كنتم؟ قالوا: كنا اثنى عشر فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك فيها، وكان من أحبنا إلى أبينا قال: فكم أنتم ههنا؟ قالوا: عشرة. قال: وأين الابن الآخر؟ قالوا: عند أبينا؛ لأنه أخو الذي هلك وأبوه مبتلى به. قال: فمن يعلم أن الذي تقولون حق؟ قالوا: أيها الملك إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد. فقال يوسف عليه السلام: فائتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين، فأنا أرضى بذلك. فقالوا: إنّ أبانا يحزن على فراقه وسنراوده عنه. قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأياً في يوسف فخلفوه عنده، ثم إنه قال لهم: {ألا ترون أني أوفي الكيل} ، أي: أتمه ولا أبخس منه شيئاً، وقرأ نافع بفتح الياء من أني، والباقون بالسكون، وأما الياء من {أوفي} فجميع القراء يثبتونها في الوقف لثباتها في الرسم، وحذفوها في الوصل لالتقاء الساكنين {وأنا خير المنزلين} ، أي: المضيفين فإنه كان قد أحسن ضيافتهم مدّة إقامتهم عنده. قال الرازي: وهذا يضعف قول من يقول من المفسرين أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم عيون وجواسيس، ولو شافههم بهذا الكلام(2/119)
فلا يليق به أن يقول لهم: {ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين} وأيضاً يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقاً أن يقول لهم: أنتم عيون وجواسيس مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التهمة؛ لأنّ البهتان لا يليق بحال الصديق ثم قال عليه السلام:
{فإن لم تأتوني به} ، أي: بأخيكم {فلا كيل} ، أي: فلا ميرة {لكم عندي} ولم يمنعهم من غيره {ولا تقربون} نهي أو عطف على محل فلا كيل لكم، أي: تحرموا ولا تقربوا مني ولا تدخلوا دياري، فجمع لهم عليه السلام بين الترغيب والترهيب فالترغيب في قوله الأوّل، والترهيب في قوله الثاني؛ لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى الطعام وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده، ومع ذلك لم يخطر ببالهم أنه يوسف، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل:
{قالوا سنراود} ، أي: بوعد لا خلف فيه حين نصل {عنه أباه} ، أي: سنكمله فيه وننازعه الكلام ونحتال فيه ونتلطف في ذلك ولاندع جهداً {وإنا لفاعلون} ما أمرتنا به والتزمناه.
{و} لما أرغبهم وأرهبهم في شأن أخيه {قال لفتيته} ، أي: غلمانه الكيالين جمع فتى، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بألف بعد الياء المثناة تحت وبعد الألف نون مكسورة، والباقون بالياء المثناة تحت ثم بتاء مثناة فوق مكسورة. {اجعلوا بضاعتهم} ، أي: التي أتوا بها ثمن الميرة وكانت دراهم، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها كانت النعال والأدم {في رحالهم} جمع رحل أوعيتهم التي يحملون فيها الطعام {لعلهم يعرفونها} ، أي: بضاعتهم {إذا انقلبوا} ، أي: رجعوا {إلى أهلهم} وفتحوا أوعيتهم {لعلهم يرجعون} إلينا.
واختلف في السبب الذي من أجله رد يوسف عليه السلام بضاعتهم في رحالهم على أوجه:
الأوّل: أنه أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدّة الزمان، وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق، فوضع تلك الدراهم في رحالهم حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم.
الثاني: أراد أن يعرّف أباه انه أكرمهم وطلبهم لمزيد الإكرام فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه.
الثالث: مقصوده أن يعرفوا أنه لا يطلب ذلك الأخ لأجل الإيذاء والظلم ولا يطلب زيادة الثمن.
والرابع: أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم فيه عيب ولا منة.
الخامس: قال الفراء: إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم وقع في قلوبهم أنهم وضعوا تلك البضاعة في رحالهم على سبيل السهو وهم أنبياء وأولاد أنبياء فيرجعون ليعرفوا السبب فيه، ويردوا الملك إلى مالكه.
السادس: أراد به التوسعة على أبيه؛ لأنّ الزمان كان زمان القحط.
السابع: رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه ومن إخوته على شدّة حاجتهم إلى الطعام لؤم.
الثامن: خاف أن لا يكون عند أبيه من المال ما يرجعون به مرّة أخرى.
التاسع: أنهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه علموا أنّ ذلك كرم من يوسف عليه السلام وسخاء، فيبعثهم ذلك إلى العود إليه والحرص على معاملته عليه السلام.
{فلما رجعوا} ، أي: أخوة يوسف عليه السلام {إلى أبيهم قالوا يا أبانا} إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة عظيمة لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا إكرامه، فقال يعقوب عليه السلام: إذا رجعتم إلى ملك مصر فأقرؤوه مني السلام وقولوا له: إنّ أبانا يدعو لك بما أوليتنا، ثم قال لهم: أين شمعون؟ قالوا: ارتهنه ملك مصر، وأخبروه بالقصة وقولهم: {منع منا الكيل} فيه قولان:
أحدهما: أنهم لما طلبوا الطعام(2/120)
لأخيهم الغائب عند أبيهم منعوا منه.
والثاني: أنهم منعوا الكيل في المستقبل، وهو قول يوسف عليه السلام: {فلا كيل لكم عندي ولا تقربون} ويدل لهما قولهم: {فأرسل معنا أخانا} بنيامين {نكتل} فإنّ حمزة والكسائي قرآه بالياء، أي: يكتل لنفسه، وهذا يدل للقول الأوّل، والباقون بالنون، أي: نكتل نحن وإياه، وهذا يدل للقول الثاني {وإنا له لحافظون} عن أن يناله مكروه حتى نردّه إليك، فلما قالوا ليعقوب عليه السلام هذه المقالة.
{قال} لهم {هل آمنكم} ، أي: أقبل منكم الآن وفي مستقبل الزمان تأمينكم لي فيه بما يسوءني تأميناً مستقبلاً {عليه} ، أي: بنيامين {إلا كما أمنتكم} ، أي: في الماضي {على أخيه} يوسف عليه السلام {من قبل} فإنكم أكدتم غاية التأكيد فلم تحفظوه لي ولم تردّوه إليّ، والأمن اطمئنان القلب إلى سلامة النفس، فأنا في هذا لا آمن عليه إلا الله تعالى {فالله} المحيط علماً وقدرة {خيرٌ حافظاً} منكم ومن كل أحد، ففيه التفويض إلى الله تعالى والاعتماد عليه في جميع الأمور. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بفتح الحاء وألف بعدها وكسر الفاء، والباقون بكسر الحاء وسكون الفاء، وهو منصوب على التمييز في القراءتين، وتحتمل الأولى النصب على الحال اللازمة {وهو أرحم الراحمين} ، أي: أرحم بي من أن يفجعني به بعد مصيبتي بأخيه فلا يجمع عليّ مصيبتين.
{ولما} أرادوا تفريغ ما قدموا به من الميرة {فتحوا متاعهم} ، أي: أوعيتهم التي حملوها من مصر {وجدوا بضاعتهم} ، أي: ما كان معهم من كنعان لشراء القوت {ردّت إليهم} والوجدان ظهور الشيء للنفس بحاسة أو ما يغني عنها، فكأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: {قالوا} ، أي: لأبيهم عليه السلام {يا أبانا ما} استفهامية، أي: أي شيء {نبغي} ، أي: نريد، جميع القراء أثبتوا الياء وقفاً ووصلاً لثباتها في الرسم، فكأنه قال لهم: ما الخبر؟ فقالوا بياناً لذلك؟ وتأكيداً للسؤال في استصحاب أخيهم: {هذه بضاعتنا ردّت إلينا} هل من مزيد على ذلك أكرمنا وأحسن مثوانا وباع منا وردّ علينا متاعنا.
ولما كان التقدير ونرجع بها إليه بأخينا، فيظهر له نصحنا وصدقنا {ونمير أهلنا} ، أي: نجلب إليهم الميرة برجوعنا إليه، والميرة الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد {ونحفظ أخانا} فلا يصيبه شيء مما تخشى عليه تأكيداً للوعد بحفظه {ونزداد كيل بعير} لأخينا {ذلك كيل يسير} ، أي: سهل على الملك لسخائه وحرصه على البذل، وقيل: قصير المدّة ليس سبيل مثله أن تطول مدّته بحسب الحبس والتأخير، وقيل قليل فابعث أخانا حتى نبدل تلك القلة بالكثرة، فكأنه قيل: ما قال لهم؟ فقيل:
{قال} يعقوب عليه السلام: {لن أرسله} ، أي: بنيامين كائناً {معكم} ، أي: في وقت من الأوقات {حتى تؤتوني موثقاً} ، أي: عهد مؤكداً {من الله} قرأ ابن كثير بإثبات الياء بعد النون وقفاً ووصلاً، وأبو عمرو بإثبات الياء وقفاً لا وصلاً، وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً، وقوله {لتأتنني} ، أي: كلكم {به} أي: تحلفوا بالله لتأتنني به من الإتيان، وهو المجيء في كل حال جواب القسم، أو المعنى حتى تحلفوا بالله لتأتنني به {إلا} ، أي: في حال {أن يحاط} ، أي: تحصل الإحاطة بمصيبة من المصائب لاطاقة لكم بها {بكم} فتهلكوا من عند آخركم كل ذلك زيادة في التوثيق بما حصل له من المصيبة بيوسف عليه السلام، وإن كان الاعتماد في حفظه إنما هو على الله تعالى، وهذا من باب(2/121)
اعقلها وتوكل، فأجابوه إلى ذلك كما قال تعالى {فلما آتوه موثقهم} بذلك {قال الله على ما نقول} نحن وأنتم {وكيل} ، أي: شهيد، وأرسله معهم بعد ذلك.
فإن قيل: لم أرسله معهم وقد شاهد منهم ما شاهد في يوسف عليه السلام؟ أجيب: بأن ذلك لوجوه: أحدها: أنهم كبروا ومالوا إلى الخير والصلاح، الثاني: أنه كان شاهد أنه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد والحقد مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام، الثالث: لعل الله أوحى إليه وضمن حفظه وإيصاله إليه.
{و} لما عزموا على الخروج إلى مصر وكانوا موصوفين بالكمال والجمال وأبناء رجل واحد {قال} لهم {يا بني لا تدخلوا} إذا قدمتم إلى مصر {من باب واحد} من أبوابها {وادخلوا من أبواب} واحترز من أن تكون متلاصقة أو متقاربة جداً بقوله: {متفرّقة} ، أي: تفرّقا كثيراً، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا بالعين، وهي من قدر الله تعالى.
وقد ورد شرعنا بذلك ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق» . وفي رواية عن أحمد «يحضرها الشيطان وحسد ابن آدم» . وفي رواية لمسلم: «العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» . وفي رواية عن جابر: «إنّ العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر» ، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: «أعيذكما بكلمات الله التامّة من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامّة» . ويقول: «هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق» صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر النبيين، وعن عبادة بن الصامت قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوّل النهار فوجدته شديد الوجع، ثم عدت إليه في آخر النهار فرأيته معافى فقال: «إنّ جبريل عليه السلام أتاني فرقاني فقال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل عين وحاسد الله يشفيك، قال فأفقت» وفي رواية أنّ بني جعفر بن أبي طالب كانوا غلماناً بيضاً فقالت أسماء: يا رسول الله، إنّ العين إليهم سريعة فاسترق لهم من العين؟ فقال لها: «نعم» . وفي رواية دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أمّ سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا: يا رسول الله أصابته العين. فقال: «أما تسترقون له من العين» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «كان يؤمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين الذي أصيب بالعين» .
ولما خاف يعقوب عليه السلام أن يسبق من أمره هذا إلى بعض الأوهام أنّ الحذر يغني عن القدر نفى ذلك بقوله عليه السلام {وما أغني} ، أي: أدفع {عنكم} بقولي ذلك {من الله من شيء} قدره عليكم، وإنما ذلك شفقة، ومن مزيدة للتأكيد، واعلم أنّ الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم بأن يجزم بأنه لا يحصل الا ما قدره الله تعالى وإن الحذر لايدفع القدر، فالإنسان مأمور بأن يحذر الأشياء المهلكة والأغذية الضارة، ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضارّ بقدر الإمكان، ومع ذلك يكون جازماً بأنه لا يصل إليه إلا ما قدّره الله تعالى، ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله تعالى، فقوله عليه السلام: {لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة} إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم، وقوله: {وما أغني عنكم من الله من شيء} إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب بل إلى التوحيد المحض، والبراءة من كل شيء سوى الله تعالى. ولما قصر(2/122)
الأمر كله إليه تعالى وجب رد كل أمر إليه، وقصر النظر عليه، فقال منبهاً على ذلك {إن الحكم إلا لله} وحده الذي ليس الحكم إلا له {عليه} ، أي: على الله وحده {توكلت} ، أي: جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعل {وعليه} وحده {فليتوكل المتوكلون} ، أي: الثابتون في باب التوكل، فإنّ ذلك من أعظم الواجبات من فعله فاز ومن أغفله خاب، وقد ثبت بالبرهان أن لا حكم إلا لله، فلزم القطع بأنّ حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله تعالى، وذلك يوجب أن لا توكل إلا على الله تعالى، فهذا مقام شريف عال.
والشيخ أبو حامد الغزالي أكثر في تقرير هذا المعنى في كتاب التوكل من كتب «إحياء علوم الدين» فمن أراد الاستقصاء فيه فليطالع ذلك الكتاب. ولما قال يعقوب عليه السلام: {وما أغني عنكم من الله من شيء} صدّقه الله تعالى في ذلك فقال:
{ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم} ، أي: متفرّقين {ما كان} ذلك التفرّق {يغني عنهم من الله} ، أي: من قضائه وأغرق في النفي فقال: {من شيء} ، أي: مما قضاه عليهم كما تقدّم من قول يعقوب عليه السلام فسرّقوا وأخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله وتضاعفت المصيبة على يعقوب عليه السلام وقوله تعالى: {إلا حاجة} استثناء منقطع، أي: لكن حاجة {في نفس يعقوب} وهي الوصول إلى ما أمر به شفقة عليهم {قضاها} يعقوب عليه السلام وأبرزها من نفسه إلى أولاده فعملوا فيها بمراده فاغني عنهم الخلاص من عقوق أبيهم فقط {وإنه} ، أي: يعقوب عليه السلام مع أمره لبنيه بذلك {لذو علم} ، أي: معرفة بالحكمين حكم التكليف وحكم التقدير واطلاع على الكونين عظيم {لما علمناه} بالوحي ونصب الحجج، ولذلك قال: {وما أغني عنكم من الله من شيء} ولم يغتر بتدبيره. ولما كان قد يظنّ أنّ كل أحد يكون كذلك، أي: يعلم ما علمه نفى ذلك سبحانه وتعالى بقوله جل شأنه {ولكنّ أكثر الناس} ، أي: لأجل ما نالهم من الاضطراب {لا يعلمون} ، أي: ليسوا بذوي علم لما علمناهم لإعراضهم عنه واستفراغ قواهم في الاهتمام بما وقع التكليف لهم به ومن أحوال الدنيا ومقابلة فطرهم القويمة السليمة بردّها إلى ما تدعوهم إليه الحظوظ والشهوات حتى لا يكون طب لمخلوق. ولما أخبر تعالى عن دخولهم إلى البلد أخبر عن دخولهم لحاجتهم إلى يوسف عليه السلام.
فقال: {ولما دخلوا} ، أي: أخوة يوسف عليه السلام {على يوسف} في المقدمة الثانية بأخيهم بنيامين قالوا: هذا أخونا فقال: أحسنتم واحتسبتم وستجدون خير ذلك عندي، ثم أنزلهم وأكرم منزلهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحيداً فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حياً أجلسني معه، فقال يوسف: لقد صار أخوكم هذا وحيداً فأجلسه معه على مائدته، وصار يؤاكله فلما كان الليل أمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتاً، فبقي بنيامين وحده فقال يوسف هذا ينام معي على فراشي كما قال تعالى {آوى} أي: ضم {إليه أخاه} فبات معه وجعل يوسف يضمه إليه ويشمه ثم قال له: ما اسمك؟ فقال: بنيامين، قال: وما بنيامين؟ قال: المثكل وذلك أنه لما ولد هلكت أمّه. قال: وما اسم أمّك؟ قال: راحيل بنت لاوي. قال: فهل لك من ولد؟ قال: نعم عشرة بنين. ولما رأى تأسفه لأخ له هلك، قال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك؟ فقال: ومن يجد أخاً مثلك ولكنك لم يلدك(2/123)
يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه {وقال إني أنا أخوك فلا تبتئس} ، أي: لا تحزن {بما كانوا يعملون} ، أي: بشيء فعلوه بنا فيما مضى، فإنّ الله قد أحسن إلينا فلا تلتفت إلى أعمالهم المنكرة التي قد أقدموا عليها، وقد جمعنا الله تعالى على خير ولا تعلمهم بشيء من ذلك.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، والباقون بالسكون، ومدّ بعد النون من أنا قبل الهمزة المفتوحة نافع، والباقون بالقصر، ثم أنه ملأ لهم أوعيتهم كما أرادوا، وكان في المرّة الأولى أبطأ في تجهيزهم في طول المدّة ليتعرّف أخبارهم من حيث لا يشعرون، ولذلك لم يعطف بالفاء، وأسرع في تجهيزهم في هذه المرّة قصداً إلى انفراده بأخيه من غير رقيب بالحيلة التي دبّرها فلذلك أتت الفاء في قوله:
{فلما جهزهم} ، أي: اعجل جهازهم وأحسنه {بجهازهم جعل} بنفسه أو بمأذونه {السقاية} ، أي: المشربة التي كان يشرب بها {في رحل أخيه} ، أي: وعاء طعام أخيه بنيامين كما فعل ببضاعتهم في المرّة الأولى. قال ابن عباس: كانت من زبرجد. وقال ابن إسحاق: كانت من فضة وقيل: من ذهب. وقال عكرمة: كانت مشربة من فضة مرصعة بالجواهر، وجعلها يوسف عليه السلام مكيالاً لئلا يكال بغيرها وكان يشرب فيها.
قال الرازي: هذا بعيد؛ لأنّ الإناء الذي يشرب فيه الملك لا يصلح أن يجعل صاعاً، وقيل: كانت الدواب تسقى بها، قال: وهذا أيضاً بعيد؛ لأنّ الآنية التي تسقى الدواب فيها لا تكون كذلك، وقال: والأصوب أن يقال: كان ذلك الإناء شيئاً له قيمة أمّا إلى هذا الحد الذي ذكروه فلا، والسقاية والصواع واحد، ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف عليه السلام حتى انطلقوا وذهبوا منزلاً، وقيل: حتى خرجوا من العمارة ثم بعث خلفهم من استوقفهم وحبسهم {ثم أذن} ، أي: أعلن فيهم بالنداء {مؤذن} قائلاً برفع صوته وإن كانوا في غاية القرب منه بما دل عليه إسقاط الأداة {أيتها العير} ، أي: القافلة، قال أبو الهيثم: كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير. قال: وقول من قال العير الإبل خاصة باطل، فقوله: {أيتها العير} ، أي: أصحاب العير كقوله: يا خيل الله اركبي. قال الفراء: كانوا أصحاب إبل. وقال مجاهد: كانت العير حميراً.
وقرأ ورش بإبدال همزة مؤذن واواً وقفاً ووصلاً، وحمزة في الوقف فقط، والباقون بالقصر. {إنكم لسارقون} فقفوا حتى ننظر الذي فقد لنا، والسرقة أخذ ما ليس له أخذه في خفاء من حرز مثله. فإن قيل: هل كان هذا النداء بأمر يوسف عليه السلام أو ما كان بأمره؟ فإن كان بأمره فكيف يليق بيوسف عليه السلام مع علو منصبه أن يبهت أقواماً وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً؟ وإن كان بغير أمره فهلا أظهر براءتهم عن تلك التهمة؟ أجيب: بأجوبة:
الأوّل: أنه عليه السلام لما أظهر لأخيه أنه يوسف قال لست أفارقك قال: لا سبيل إلى ذلك إلا بتدبير حيلة أنسبك فيها إلى ما لا يليق بك. قال: رضيت بذلك، وعلى هذا لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام؛ لأنه قد رضي به فلا يكون ذلك ذنباً.
الثاني: {إنكم لسارقون} يوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام فهو من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة من الكذب.
الثالث: أنّ المنادي إنما ذكر النداء على سبيل الاستفهام وعلى هذا يخرج أن يكون كذباً.
الرابع: ليس في القرآن ما يدل على أنهم قالوا هذا بأمر يوسف عليه السلام. قال الرازي: والأقرب إلى ظاهر الحال أنهم(2/124)
فعلوا ذلك من أنفسهم؛ لأنهم لما طلبوا السقاية فلم يجدوها، ولم يكن هناك أحد غيرهم غلب على ظنهم أنهم الذين أخذوها. ولما وصل إليهم الرسول قال لهم: ألم نحسن ضيافتكم ونكرم مثواكم ونفيكم كيلكم وفعلنا بكم ما لم نفعل بغيركم؟ قالوا: بلى، وما ذاك؟ قالوا: سقاية الملك فقدناها ولا نتهم عليها غيركم فذلك قوله تعالى:
{قالوا و} الحال أنهم قد {أقبلوا عليهم} ، أي: على جماعة الملك المنادي وغيره {ماذا} ، أي: ما الذي {تفقدون} مما يمكننا أخذه والفقدان ضدّ الوجود {قالوا نفقد} وكان للسقاية اسمان فعبروا بقولهم {صواع الملك} والصواع هو المكيال وهو السقاية المتقدّمة سموه تارة كذا وتارة كذا، وإنما اتخذوا هذا الإناء مكيالاً لعزة ما يكال به في ذلك الوقت. {ولمن جاء به حمل بعير} ، أي: من الطعام، والبعير يطلق لغة على الذكر خاصة وأطلقه بعضهم على الناقة أيضاً، وجعله نظير إنسان وهو ما جرى عليه الفقهاء في باب الوصية، والجمع في القلة على أبعرة، وفي الكثرة على بعران {وأنا به زعيم} قال مجاهد: هذا الزعيم هو الذي أذن، والزعيم الكفيل، وهذه الآية تدل على أنّ الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «الزعيم غارم» .
وإذا ورد في شرعنا ما يقرّر شرع غيرنا، هل يكون شرعاً لنا؟ في ذلك خلاف والراجح أنه ليس بشرع لنا. فإن قيل: كيف تصح هذه الكفالة مع أنّ السارق لا يستحق شيئاً؟ أجيب: بأنهم لم يكونوا سراقاً في الحقيقة فيحمل ذلك على مثل رد الضائع، فيكون ذلك جعالة أو أنّ مثل هذه الكفالة، كانت جائزة عندهم في ذلك الزمان.
{قالوا} ، أي: أخوة يوسف عليه السلام {تالله} التاء حرف قسم، وهي عند الجمهور بدل من واو القسم، والواو بدل من الباء، فهي فرع الفرع، فلذلك ضعفت عن التصريف في الأسماء، فلا تدخل إلا على الجلالة الكريمة أو الرب مضافاً للكعبة أو الرحمن في قول ضعيف، ولو قلت: تالرحمن لم يجز، أي: والله {لقد علمتم} أي: بما جرّبتم من أمانتنا قبل هذا في كون مجيئنا {ما جئنا} وأكدوا النفي باللام فقالوا {لنفسد} ، أي: نوقع الفساد {في الأرض} ، أي: أرض مصر {و} لقد علمتم {ما كنا} ، أي: بوجه من الوجوه {سارقين} ، أي: موصوفين بهذا الوصف قطعاً. فإن قيل: من أين علموا ذلك؟ أجيب: بأنّ ذلك يعلم مما رأوا من أحوالهم، وقيل: لأنهم ردّوا البضاعة التي جعلت في رحالهم، قالوا: فلوا كنا سارقين ما رددناها، وقيل: قالوا ذلك؛ لأنهم كانوا معروفين بأنهم لا يتناولون ما ليس لهم، وكانوا إذا دخلوا مصر كمموا أفواه دوابهم كي لا تتناول شيئاً من حروث الناس.
{قالوا} ، أي: أصحاب يوسف عليه السلام المنادي ومن معه {فما جزاؤه} ، أي: السارق، وقيل: الصواع {إن كنتم كاذبين} في قولكم: ما كنا سارقين ووجد فيكم، والجزاء مقابلة العمل بما يستحق من خير وشر.
{قالوا} وثوقاً منهم بالبراءة وإخباراً بالحكم عندهم {جزاؤه من وجد في رحله} ولتحققهم البراءة علقوا الحكم على مجرد الوجدان لا السرقة، ثم أكدوا ذلك بقولهم: {فهو جزاؤه} قال ابن عباس: كان ذلك الزمان كل سارق بسرقته فلذلك قالوا ذلك، أي: فالسارق جزاؤه أن يسلم بسرقته إلى المسروق منه فيسترق سنّة، وكان ذلك سنّة آل يعقوب في حكم السارق وكان حكم ملك مصر أن يضرب السارق ويغرم ضعفي قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس(2/125)
أخاه عنده فرد الحكم إليهم ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم {كذلك} ، أي: الجزاء {نجزي الظالمين} بالسرقة، قال أصحاب يوسف: فلا بد من تفتيش رحالكم، فردوهم إلى يوسف عليه السلام فأمر بتفتيشها بين يديه.
{فبدأ بأوعيتهم} ففتشها {قبل وعاء أخيه} لئلا يتهم فلم يجد فيها شيئاً {ثم} ، أي: بعد تفتيش أوعيتهم والتأني في ذلك {استخرجها} ، أي: السقاية أو الصاع؛ لأنه يذكر ويؤنث {من وعاء أخيه} فلما خرج الصاع من وعاء بنيامين نكس أخوته رؤوسهم من الحياء، وأقبلوا على بنيامين يلومونه ويقولون: له إيش الذي صنعت فضحتنا وسوّدت وجوهنا يا ابن راحيل مازال لنا منكم بلاء حتى أخذت هذا الصاع. فقال بنيامين: بل بنوا راحيل مازال لهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فاهلكتموه في البرية إنّ الذي وضع هذا الصاع في رحلي هو الذي وضع البضاعة في رحالكم، فأخذ بنيامين رقيقاً.
وقيل: إنّ المنادي وأصحابه هم الذين تولوا تفتيش رحالهم وهم الذين استخرجوا الصاع من رحله فأخذوه برقبته وردّوه إلى يوسف عليه السلام. تنبيه: هاهنا همزتان مختلفتان من كلمتين قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الثانية ياء، والباقون بالتحقيق. {كذلك} ، أي: مثل ذلك الكيد {كدنا ليوسف} خاصة بأنّ علمناه إياه جزاء لهم على كيدهم بيوسف عليه السلام في الابتداء، وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام: {فيكيدوا لك كيداً} (يوسف، 5) والكيد من الخلق الحيلة، ومن الله تعالى التدبير بالحق، فالمراد من هذا الكيد هو أنّ الله تعالى ألقى في قلب إخوته بأن حكموا أنّ جزاء السارق هو أن يسترق لا جرم لما ظهر الصاع في رحله حكموا عليه بالاسترقاق، وصار ذلك سبباً لتمكن يوسف عليه السلام من إمساك أخيه عند نفسه. ولما كان الكيد يشعر بالحيلة والخديعة، وهو في حق الله تعالى محال حمل على الغاية، ونهايته هنا إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل له إلى دفعه، فالكيد في حق الله تعالى محال على هذا المعنى، وقيل: المراد بالكيد هاهنا إنّ أخوة يوسف سعوا في إبطال أمره، والله تعالى نصره وقوّاه وأعلى أمره وقوله تعالى: {ما كان} ، أي: يوسف {ليأخذ أخاه في دين الملك} ، أي: حكمه بيان للكيد؛ لأنّ جزاءه كان عنده الضرب وتغريم مثلي ما أخذ لا أنه يستبعد، وقوله تعالى: {إلا أن يشاء الله} فيه وجهان:
أحدهما: أنه استثناء منقطع تقديره: ولكن بمشيئة الله أخذه في دين الملك، وهو دين آل يعقوب عليه السلام إنّ الاسترقاق جزاء السارق.
والثاني: أنه مفرغ من الأحوال العامّة والتقدير ما كان ليأخذه في كل حال إلا في حال التباسه بمشيئة الله، أي إذنه في ذلك. ولما كان يوسف عليه السلام إنما تمكن من ذلك بعلو درجته وتمكنه ورفعته بعدما كان فيه عندهم من الصغار كان ذلك محل عجب فقال تعالى التفاتاً إلى مقام التكلم: {نرفع درجات من نشاء} ، أي: بالعلم كما رفعنا درجته، وكان الأصل درجاته ولكنه عمم؛ لأنه أدل على العظمة، فكان أليق بمظهرها، وفي هذه الآية دليل على أنّ العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات؛ لأنّ الله تعالى لما هدى يوسف عليه السلام إلى هذه الحيلة مدحه لأجل ذلك ورفع درجته على إخوته، ووصف إبراهيم عليه السلام بقوله تعالى: {نرفع درجات من نشاء} عندما حكى عنه دلائل التوحيد والبراءة(2/126)
عن إلهية الشمس والقمر والكواكب.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين التاء، والباقون بغير تنوين {وفوق كل ذي علم عليم} قال ابن عباس: فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فوق كل عالم؛ لأنه هو الغني بعلمه عن التعلم، وفي الآية دليل على أنّ إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء، وكان يوسف أعلم منهم. قال ابن الأنباري: يجب أن يتهم العالم نفسه ويستشعر التواضع لربه تعالى، ولا يطمع نفسه في العلية في العلوم؛ لأنه لا يخلو عالم من عالم فوقه. ولما حصل لإخوة يوسف من إخراج الصواع من رحل بنيامين ما حصل، فكأنه قيل: فما كان فعلهم عند ذلك؟.
فقيل: {قالوا} تسلية لأنفسهم ودفعاً للعار عن خاصتهم {إن يسرق} ولم يجزموا بسرقته لعلمهم بأمانته وظنهم أنّ الصواع دس في رحله وهو لا يشعر كما دست بضاعتهم في رحالهم، وكان قد قال لهم ذلك {فقد سرق أخ له من قبل} ، أي: يوسف وكان غرضهم من ذلك إنا لسنا على طريقته ولا على سيرته، وهو وأخوه مختصان بهذه الطريقة؛ لأنهما من أمّ أخرى، واختلفوا في التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام على أقوال، فقال سفيان بن عيينة: أخذ دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلاً. وقال مجاهد: جاءه سائل فأخذ بيضة من البيت فناولها للسائل، وقال وهب: كان يخبىء الطعام من مائدة يعقوب للفقراء، وقال سعيد بن جبير: كان جدّه أبو أمّه كافراً يعبد الوثن وأمرته أمّه أن يسرق تلك الأوثان ويكسرها، فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك فهذا هو السرقة. وقال محمد بن إسحاق: إنّ يوسف عليه السلام كان عند عمته ابنة إسحاق، وكانت تحبه حباً شديداً، فأرادت أن تمسكه عند نفسها وكان قد بقي معها منطقة لأبيها إسحاق عليه السلام، وكانوا يتبركون بها، فشدّتها على وسط يوسف عليه السلام من تحت ثيابه وهو صغير لا يشعر، ثم قالت: إنه سرقها، وكان علمهم أنّ من سرق يسترق فقال يعقوب عليه السلام: إن كان قد فعل ذلك فهو سلم لك فأمسكته عندها حتى ماتت، فتوصلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها.
قال ابن الأنباري: وليس في هذه الأفعال كلها سرقة، ولكنها تشبهها فعيروه بها عند الغضب، وقيل: إنهم كذبوا عليه وبهتوه، وكانت قلوبهم مملوءة من الغضب على يوسف بعد تلك الوقائع وبعد انقضاء المدّة الطويلة. قال الرازي: وهذه الواقعة تدل على أنّ قلب الحاسد لا يطمئن من الغل البتة. {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها} ، أي: يظهرها {لهم} والضمير للكلمة التي هي قوله: {قال} ، أي: في نفسه {أنتم شرّ مكاناً} ، أي: من يوسف وأخيه، أي: لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له، وقيل: الضمير يرجع إلى الكلمة التي قالوها في حقه، وهي قولهم: {فقد سرق أخ له من قبل} وعلى هذا يكون المعنى: فأسر يوسف جواب الكلمة التي قالوها في حقه {والله أعلم} منكم {بما تصفون} ، أي: تقولون، وأنه ليس كما قلتم، قال أصحاب الأخبار والسير: إنّ يوسف عليه السلام لما استخرج الصاع من رحل بنيامين نقره وأدناه إلى أذنه ثم قال: إنّ صاعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً لأب واحد وإنكم انطلقتم بأخ لكم من أبيكم فبعتموه فقال بنيامين: أيها الملك إنّ صاعك يخبرك من جعله في رحلي، ثم نقره وأدناه من أذنه، فقال: إنّ صاعي غضبان وهو يقول: كيف تسألوني عن صاحبي وقد رؤيت مع من كنت؟ قالوا: فغضب(2/127)
روبيل لذلك، وكانوا أولاد يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وكان إذا صاح ألقت كل حامل حملها إذا سمعت صوته، وكان مع هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه، وكان أقوى الأخوة وأشدّهم، وروي أنه قال لإخوته: كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا: عشرة. فقال: اكفوني أنتم الأسواق، وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق، ودخلوا على يوسف فقال روبيل: لتردّن علينا أخانا أو لأصيحنّ صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلا ألقت ولدها، وقامت كل شعرة في جسده حتى خرجت من ثيابه، فقال يوسف لابن له صغير: قم إلى جنب روبيل فمسه، ويروى خذ بيده فائتني به،
فذهب الغلام فمسه فسكن غضبه فقال لإخوته: من مسني منكم؟ قالوا: لم يصبك منا أحد. فقال روبيل: إنّ هنا بذراً من بذر يعقوب. فقال يوسف: من يعقوب؟ وروي أنه غضب ثانياً، فقام إليه يوسف فركضه برجله، وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض، وقال: أنتم يا معشر العبرانيين تظنون أنّ لا أحد أشد منكم فلما صار أمرهم إلى هذا ورأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وذلوا.
و {قالوا يا أيها العزيز} فخاطبوه بما يليق بالأكابر ليرق لهم {إن له} ، أي: هذا الذي وجد الصواع في رحله {أباً شيخاً كبيراً} ، أي: في سنه وقدره وهو مغرم به لا يقدر على فراقه ولا يصبر عنه {فخذ أحدنا مكانه} وأحسن إلى أبيه بإرساله إليه {إنا نراك} ، أي: نعلمك علماً هو كالرؤية أو بحسب ما رأيناه {من المحسنين} ، أي: العريقين في صفة الإحسان فاجر في أمرنا على عادة إحسانك، فكأنه قيل: فما أجابهم؟ قيل:
قال ابن الأنباري: وليس في هذه الأفعال كلها سرقة، ولكنها تشبهها فعيروه بها عند الغضب، وقيل: إنهم كذبوا عليه وبهتوه، وكانت قلوبهم مملوءة من الغضب على يوسف بعد تلك الوقائع وبعد انقضاء المدّة الطويلة. قال الرازي: وهذه الواقعة تدل على أنّ قلب الحاسد لا يطمئن من الغل البتة. {فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها} ، أي: يظهرها {لهم} والضمير للكلمة التي هي قوله: {قال} ، أي: في نفسه {أنتم شرّ مكاناً} ، أي: من يوسف وأخيه، أي: لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له، وقيل: الضمير يرجع إلى الكلمة التي قالوها في حقه، وهي قولهم: {فقد سرق أخ له من قبل} وعلى هذا يكون المعنى: فأسر يوسف جواب الكلمة التي قالوها في حقه {والله أعلم} منكم {بما تصفون} ، أي: تقولون، وأنه ليس كما قلتم، قال أصحاب الأخبار والسير: إنّ يوسف عليه السلام لما استخرج الصاع من رحل بنيامين نقره وأدناه إلى أذنه ثم قال: إنّ صاعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً لأب واحد وإنكم انطلقتم بأخ لكم من أبيكم فبعتموه فقال بنيامين: أيها الملك إنّ صاعك يخبرك من جعله في رحلي، ثم نقره وأدناه من أذنه، فقال: إنّ صاعي غضبان وهو يقول: كيف تسألوني عن صاحبي وقد رؤيت مع من كنت؟ قالوا: فغضب روبيل لذلك، وكانوا أولاد يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء، وكان إذا صاح ألقت كل حامل حملها إذا سمعت صوته، وكان مع هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه، وكان أقوى الأخوة وأشدّهم، وروي أنه قال لإخوته: كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا: عشرة. فقال: اكفوني أنتم الأسواق، وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق، ودخلوا على يوسف فقال روبيل: لتردّن علينا أخانا أو لأصيحنّ صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلا ألقت ولدها، وقامت كل شعرة في جسده حتى خرجت من ثيابه، فقال يوسف لابن له صغير: قم إلى جنب روبيل فمسه، ويروى خذ بيده فائتني به،
فذهب الغلام فمسه فسكن غضبه فقال لإخوته: من مسني منكم؟ قالوا: لم يصبك منا أحد. فقال روبيل: إنّ هنا بذراً من بذر يعقوب. فقال يوسف: من يعقوب؟ وروي أنه غضب ثانياً، فقام إليه يوسف فركضه برجله، وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض، وقال: أنتم يا معشر العبرانيين تظنون أنّ لا أحد أشد منكم فلما صار أمرهم إلى هذا ورأوا أن لا سبيل لهم إلى تخليصه خضعوا وذلوا.
و {قالوا يا أيها العزيز} فخاطبوه بما يليق بالأكابر ليرق لهم {إن له} ، أي: هذا الذي وجد الصواع في رحله {أباً شيخاً كبيراً} ، أي: في سنه وقدره وهو مغرم به لا يقدر على فراقه ولا يصبر عنه {فخذ أحدنا مكانه} وأحسن إلى أبيه بإرساله إليه {إنا نراك} ، أي: نعلمك علماً هو كالرؤية أو بحسب ما رأيناه {من المحسنين} ، أي: العريقين في صفة الإحسان فاجر في أمرنا على عادة إحسانك، فكأنه قيل: فما أجابهم؟ قيل:
{قال معاذ الله} هو نصب على المصدر، وحذف فعله وأضيف إلى المفعول، أي: نعوذ بالذي لا مثل له معاذاً عظيماً من {أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} ولم يقل: سرق متاعنا؛ لأنه لم يفعل في الصواع فعل السارق، ولم يقع منه قبل ذلك ما يصح إطلاق الوصف عليه، ثم علله بقوله {إنا إذاً} ، أي: إذا أخذنا أحداً مكانه {لظالمون} ، أي: عريقون في الظلم في دينكم، فلم تطلبون ما هو ظلم عندكم، ولما استيأسهم بما قال عن إطلاق بنيامين حكى الله تعالى ما تم لهم من الرأي فقال:
{فلما} دالاً بالفاء على قرب زمن تلك المراجعات {استيأسوا} ، أي: أيسوا {منه} لما رأوا من إحسانه ولطفه ورحمته يأساً شديداً بما رأوا من ثباته على أخذه بعينه وعدم استبداله {خلصوا} ، أي: انفردوا عن غيرهم حال كونهم {نجياً} وهو مصدر يصلح للواحد وغيره، أي: ذوي نجوى يناجي بعضهم بعضاً، فكأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: {قال كبيرهم} في السنّ وهو روبيل، وقيل: في الفضل والعلم وهو يهوذا، وقيل: شمعون وكان له الرياسة على إخوته {ألم تعلموا} مقرراً لهم بما يعرفونه مع قرب الزمان ليشتدّ توجههم في بذل الجهد في الخلاص من غضب أبيهم {أن أباكم} ، أي: الشيخ الكبير الذي فجعتموه في أحب ولده إليه {قد أخذ عليكم} ، أي: قبل أن يعطيكم هذا الولد الآخر {موثقاً} ، أي: عهداً وثيقاً {من الله} في أخيكم، وإنما جعل حلفهم بالله موثقاً منه؛ لأنه بإذن منه وتأكيد من جهته، وقوله {ومن قبل ما فرطتم} في هذه الآية وجوه: أظهرها أن ما مزيدة فيتعلق الظرف بالفعل بعدها والتقدير: ومن قبل هذا فرطتم، أي: قصرتم في حق يوسف وشأنه، وزيادة ما كثيرة، وبه بدأ الزمخشري وغيره، وقيل: أنها مصدرية في محل رفع(2/128)
بالابتداء والخبر هو قوله: {في يوسف} ، أي: وتفريطكم كائن أو مستقر في يوسف، وإلى هذا ذهب الفارسي، وقيل: غير ذلك ولا نطيل بذكره إذ في هذا القدر كفاية {فلن أبرح} ، أي: أفارق {الأرض} ، أي: أرض مصر {حتى يأذن لي أبي} ، أي: بالعود إليه {أو يحكم الله لي} بخلاص أخي {وهو خير الحاكمين} ، أي: أعدلهم، فإن قيل: هذه الواقعة من أولها إلى آخرها تزوير وكذب، فكيف يجوز ليوسف عليه السلام أن يعمل مثل هذه الأعمال بأبيه ولم يخبره بمكانه، وحبس أخاه أيضاً عنده مع علمه بشدة وجدان أبيه عليه وشدة غمه وفيه ما فيه من العقوق وإيذاء الناس من غير ذنب لاسيما ويعلم أنه إذا حبس أخاه عنده بهذه التهمة فإنه يعظم حزن أبيه ويشتد غمه، فكيف يليق بالرسول المعصوم المبالغة في التزوير إلى هذا الحد؟
أجيب: بأجوبة كثيرة للعلماء، وأحسنها أنه إنما فعل ذلك بأمر من الله تعالى له لا عن أمره وإنما أمره الله تعالى بذلك ليزيد بلاء يعقوب عليه السلام، فيضاعف له الأجر على البلاء ويلحقه بدرجة آبائه، ولله تعالى أسرار لا يعلمها أحد من خلقه، وهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فهو الذي أخفى خبر يوسف عن يعقوب في هذه المدة مع قرب المسافة لما يريد أن يدبره فيهم، والله أعلم بأحوال عباده، ثم قال كبيرهم:
{ارجعوا إلى أبيكم} دوني {فقولوا} له، أي: متلطفين في خطابكم {يا أبانا} وأكدوا مقالتكم فإنه ينكرها وقولوا {إن ابنك سرق} فإن قيل: كيف يحكمون عليه بأنه سرق من غير بينة وهو قد أجابهم بالجواب الشافي، فقال: الذي جعل الصاع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحالكم؟ أجيب: بأنهم لما شاهدوا الصاع وقد أخرج من متاعه غلب على ظنهم أنه سرق فلذلك نسبوه إلى السرقة في ظاهر الأمر لا في حقيقة الحال، ويدل على أنهم لم يقطعوا عليه بالسرقة قولهم {وما شهدنا} عليه {إلا بما علمنا} ظاهراً من رؤيتنا الصاع يخرج من وعائه، وأما قوله: وضع الصاع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم، فالفرق ظاهر؛ لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم، وأما هذا الصاع فإن أحداً لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصاع في رحله، فلهذا السبب غلب على ظنهم أنه سرق، فشهدوا بناء على الظن {وما كنا للغيب} ، أي: ما غاب عنا حين أعطينا الموثق {حافظين} ، أي: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق، ويصير أمرنا إلى هذا ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به معنا، وإنما قلنا: ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه سبيل، وحقيقة الحال غير معلومة لنا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، فلعل الصاع دس في رحله، ونحن لا نعلم ذلك، فلعل حيلة دبرت في ذلك غاب عنا علمها كما صنع في رد بضاعتنا.
{واسأل القرية} ، أي: أهلها على حذف المضاف، وهو مجاز مشهور، وقيل: إنه مجاز لكنه من باب إطلاق المحل وإرادة الحال {التي كنا فيها} وهي مصر عما أخبرناك به يخبروك بصدقنا، فإن الأمر قد اشتهر عندهم، وقيل: هي قرية من قرى مصر كانوا ارتحلوا منها إلى مصر {و} اسأل {العير} ، أي: القافلة، وهم قوم من كنعان جيران يعقوب عليه السلام {التي أقبلنا فيها} والسؤال طلب الأخبار بأداته من الهمزة، أو هل أو غيرهما، والقرية الأرض الجامعة لحدود فاصلة وأصلها من قريت الماء جمعته، والعير قافلة الحمير من العير بالفتح وهو الحمار هذا هو الأصل ثم كثر حتى استعمل في غير الحمير، ولما كان ذلك(2/129)
بالإنكار لما يتحقق من كرم أخيهم أكدوه بقولهم {وإنا} ، أي: والله إنا {لصادقون} في أقوالنا، ولما رجعوا إلى أبيهم وقالوا له ما قال كبيرهم، فكأنه قيل: فما قال لهم؟ فقيل:
{س12ش83/ش87 قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا? فَصَبْرٌ جَمِيلٌ? عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا? إِنَّهُ? هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا?أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا? تَاللَّهِ تَفْتَؤُا? تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُوا? بَثِّى وَحُزْنِى? إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا تَعْلَمُونَ * يَابَنِىَّ اذْهَبُوا? فَتَحَسَّسُوا? مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَتَا?يـ?َسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ? إِنَّهُ? يَا?يْـ?َسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِs الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}
{قال} لهم {بل سوّلت} ، أي: زينت تزييناً فيه غي {لكم أنفسكم أمراً} ، أي: حدّثتكم بأمر ففعلتموه، وإلا فما أدرى الملك أن السارق يؤخذ بسرقته {فصبر جميل} ، أي: فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل صبري، أو أجمل، وقدم مثل ذلك في واقعة يوسف إلا أنه قال فيها: {والله المستعان على ما تصفون} (يوسف، 18) وقال هنا {عسى الله أن يأتيني بهم} ، أي: بيوسف وشقيقه بنيامين والأخ الثالث الذي أقام بمصر {جميعاً} ، أي: فلا يتخلف منهم أحد، وإنما قال يعقوب عليه السلام هذه المقالة؛ لأنه لما طال حزنه واشتدّ بلاؤه ومحنته علم أن الله تعالى سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب، فقال ذلك على سبيل حسن الظن بالله تعالى وتفرس أن هذه الأفعال نشأت عن يوسف عليه السلام، وأن الأمر يرجع إلى سلامة واجتماع، ثم علل هذا بقوله: {إنه هو العليم} ، أي: البليغ العلم بما خفي عنا من ذلك فيعلم أسبابه الموصلة إلى المقاصد {الحكيم} ، أي: البليغ فيما يدبره ويقضيه.
{و} لما ضاق قلب يعقوب عليه السلام بسبب الكلام الذي سمعه من أبنائه في حق بنيامين {تولى عنهم} ، أي: انصرف بوجهه عنهم لما توالى عنده من الحزن {وقال يا أسفا} ، أي: يا أسفي {على يوسف} ، أي: تعال هذا أوانك، والأسف اشدّ الحزن والحسرة، والألف بدل من ياء المتكلم، وإنما تأسف على يوسف دون أخويه، والحادث إنما هو مصيبتهما؛ لأن مصيبته كانت قاعدة المصائب، والحزن القديم إذا صادفه حزن آخر كان ذلك أوجع للقلب وأعظم لهيجان الحزن الأوّل، كما قال متمم بن نويرة لما رأى قبراً جديداً جدّد حزنه على أخيه مالك:
*فقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى والدكادك؟
*فقلت نعم إنّ الأسى يبعث الأسى ... فدعني فهذا كله قبر مالك
ولأنه كان واثقاً بحياتهما دون حياته، وفي حديث رواه الطبراني «لم تعط أمة من الأمم إنا لله وإنا إليه راجعون عند المصيبة إلا أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع، وقال {يا أسفا} {وابيضت عيناه} ، أي: انمحق سوادهما وبدل بياضاً {من الحزن} ، أي: من كثرة البكاء عليه، وقيل: عند غلبة البكاء يكثر الماء في العين فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء، وقيل: ضعف بصره حتى صار يدرك إدراكاً لطيفاً، وقيل: عمي، وقال مقاتل: لم يبصر بهما ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف عليه السلام. قيل: إن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن، فقال: إنّ بصر أبيك ذهب من الحزن عليك، فوضع يده على رأسه وقال: ليت أمي لم تلدني، ولم أكن حزناً على أبي.
فإن قيل: هذا إظهار للجزع وجار مجرى الشكاية وهو لا يليق بمثل يعقوب عليه السلام أجيب: بأنه لم يذكر إلا هذه الكلمة، ثم عظم بكاؤه، ثم أمسك لسانه عن النياحة، وذكر ما لا ينبغي، ولم يظهر الشكاية مع أحد من الخلق ويدل لذلك قوله: {فهو كظيم} ، أي: مغموم مكروب لا يظهر كربه وقوله: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} فكل ذلك يدل على أنه لما عظمت مصيبته وقويت محنته صبر وتجرع الغصة وما أظهر(2/130)
الشكاية به، فلا جرم استوجب به المدح العظيم والثناء الجزيل. روي أن يوسف عليه السلام قال لجبريل عليه السلام: هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم. قال: فكيف حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى، وهي التي لها ولد واحد يموت. قال: فهل له أجر؟ قال: نعم أجر مئة شهيد، ولعل أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد وأيضاً البكاء مباح فقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: «القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون» . رواه الشيخان.
تنبيه: شرف الإنسان باللسان والعين والقلب فبين تعالى أن هذه الثلاثة كانت غريقة في الغم، فاللسان كان مشغولاً بقوله: يا أسفا، والعين بالبكاء والبياض، والقلب بالغم الشديد، أي: الذي يشبه الوعاء المملوء الذي سد فلا يمكن خروج الماء منه، وهذا مبالغة في وصف ذلك الغم.
ولما وقع من يعقوب عليه السلام ذلك كأن قائلاً يقول: فما قال له أولاده؟ فقيل:
{قالوا} له حنقاً من ذلك {تالله تفتؤ} ، أي: لا تفتأ، أي: لا تزال {تذكر يوسف} تفجعاً، فتفتأ جواب القسم وهو على حذف لا كقول الشاعر:
*فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي
ويدل على حذفها أنه لو كان مثبتاً لاقترن بلام الابتداء ونون التوكيد معاً عند البصريين أو أحدهما عند الكوفيين، فتفتأ هنا ناقصة بمعنى لا تزال كما تقرّر، ورسمت تفتؤ بالواو {حتى} إلى أن {تكون حرضاً} ، أي: مشرفاً على الهلاك لطول مرضك وهو مصدر يستوي فيه الواحد وغيره {أو تكون من الهالكين} ، أي: الموتى.
فإن قيل: لما حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعاً؟ أجيب: بأنهم بنوا الأمر على الظاهر، قال أكثر المفسرين: قائل هذا الكلام هم أخوة يوسف، وقال بعضهم: ليس الأخوة بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاده وخدمه، ولما قالوا له ذلك فكأن قائلاً يقول: فما قال لهم؟ فقيل:
{قال} لهم {إنما أشكو بثي} والبث أشد الحزن سمي بذلك؛ لأنه من صعوبته لا يطاق حمله فيباح به وينشر {وحزني} مطلقاً وإن كان سببه خفيفاً يقدر الخلق على إزالته {إلى الله} المحيط بكل شيء علماً وقدرةً لا إلى غيره، فهو الذي تنفع الشكوى إليه {وأعلم من الله} ، أي: الملك الأعلى من اللطف بنا أهل البيت {ما لا تعلمون} فيأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب، وفي ذلك إشارة إلى أنه كان يعلم حياة يوسف، ويتوقع رجوعه إليه وذكروا لسبب هذا التوقع أموراً: أحدها: أنّ ملك الموت أتاه فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال: لا يا نبي الله، ثم أشار إلى جانب مصر وقال: اطلبه من ههنا ولذلك قال:
{يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا} ، أي: والتحسيس طلب الخبر بالحاسة وهو قريب من التجسيس بالجيم، وقيل: التحسيس بالحاء يكون في الخير، وبالجيم يكون في الشرّ ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورة الناس، والمعنى تحسسوا خبراً {من} أخبار {يوسف وأخيه} ، أي: اطلبوا خبرهما.
وثانيها: أنه علم أنّ رؤيا يوسف عليه السلام صادقة؛ لأنّ أمارات الرشد والكمال ظاهرة في حق يوسف عليه السلام، ورؤيا مثله لا تخطئ.
وثالثها: لعله تعالى أوحى إليه أنه سيوصله إليه، ولكنه تعالى ما عين الوقت، فلهذا بقي في القلق.
ورابعها: قال السدي: لما أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال(2/131)
حاله وأقواله وأفعاله طمع في أن يكون هو يوسف وقال: بعيد أن يظهر في الكفار مثله، ثم تلطف ببنيه وقال لهم: {ولا تيأسوا} ، أي: تقنطوا {من روح الله} قال ابن عباس: من رحمة الله. وقال قتادة: من فضل الله. وقال ابن زيد: من فرج الله. {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} ، أي: الغريقون في الكفر، قال ابن عباس: إنّ المؤمن من الله على خير يرجوه في البلاء ويحمده على الرخاء، والكافر على الضدّ من ذلك، فإنّ اليأس من رحمة الله لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أنّ إله العالم غير قادر على الكمال، أو غير عالم بجميع المعلومات، أو ليس بكريم بل هو بخيل، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، وإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منها كفر ثبت أنّ اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافراً.
وقرأ البزي بعد التاء من تيأسوا وبعد الياء من لا ييأس بألف وبعدها ياء مفتوحة بخلاف عنه، والباقون بهمزة مفتوحة قبلها ياء ساكنة. ولما قال يعقوب عليه السلام لبنيه ذلك قبلوا منه هذه الوصية وعادوا إلى مصر.
{فلما دخلوا عليه} ، أي: على يوسف عليه السلام {قالوا يا أيها العزيز} وكان العزيز لقباً لملك مصر يومئذ {مسنا وأهلنا} ، أي: من خلفناهم وراءنا {الضر} ، أي: لابسنا ملابسة نحسها {وجئنا ببضاعة} وقالوا {مزجاة} إمّا لنقصها أو لرداءتها أو لهما جميعاً. وقال الحسن: البضاعة المزجاة القليلة، واختلفوا في تلك الرداءة. فقال ابن عباس: كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام، وقيل: متاع الأعراب الصوف والسمن، وقيل: الأقط، وقيل: النعال والأدم وقيل: إنّ دراهم مصر كان ينقش فيها صورة يوسف عليه السلام، والدراهم التي جاؤوا بها ما كان فيها ذلك فما كانت مقبولة عند الناس، ثم سببوا عن هذا الاعتذار؛ لأنه أقرب إلى رحمة أهل الكرم قولهم: {فأوف لنا الكيل} ، أي: شفقة علينا بسبب ضعفنا {وتصدّق} ، أي: تفضل {علينا} زيادة على الوفاء كما عودتنا بفضل ترجو ثوابه، ولما رأوا أفعاله تدل على تمسكه بدين الله تعالى عللوا ذلك بقولهم: {إنّ الله} ، أي: الذي له الكمال كله {يجزي المتصدّقين} ، أي: وإن كانت على غني قوي، فكيف إذا كانت على أهل الحاجة والضعف.
فائدة: سئل سفيان بن عيينة هل حرمت الصدقة على نبي من الأنبياء سوى نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام؟ قال سفيان: ألم تسمع قوله: {وتصدّق علينا..} الآية يريد أن الصدقة كانت حلالاً لهم ولأبيهم. وروي أنّ الحسن سمع رجلاً يقول: اللهم تصدّق عليّ قال: إنّ الله لا يتصدّق وإنما يتصدّق من يبغي الثواب قل: اللهم أعطني وتفضل عليّ.
فإن قيل: إذا كان أبوهم أمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه فلم عادوا إلى الشكوى؟ أجيب: بأن المتحسس يتوصل إلى مطلوبه بجميع الطرق والاعتراف بالعجز، وضموا رقة الحال وقلة المال وشدّة الحاجة، وذلك مما يرقق القلب فقالوا: نجربه في هذه الأمور، فإن رق قلبه لنا ذكرنا له المقصود وإلا سكتنا، فقدّموا هذه المقدّمة قال أبو إسحاق: ذكر لي أنهم لما كلموه بهذا الكلام أدركته الرقة على إخوته فارفض دمعه فباح بالذي كان يكتم فلهذا.
{قال} لهم {هل علمتم} مقرّراً لهم بعد أن استأنسوا به، قال البقاعي: والظاهر أن هذا كان بغير ترجمان {ما} ، أي: قبح الذي {فعلتم بيوسف} ، أي: أخيكم الذي حلتم بينه وبين أبيه {وأخيه} في(2/132)
جعلكم أباه فريداً منه ذليلاً بينكم، ثم في قولكم له لما وجد الصاع في رحله: لا يزال يأتينا البلاء من قبلكم يا بني راحيل، وإنما قال لهم ذلك نصحاً لهم وتحريضاً على التوبة وشفقة عليهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم لا معاتبة وتثريباً، وقيل: أعطوه كتاب يعقوب عليه السلام في تخليص بنيامين، وذكروا له ما هو فيه من الحزن على فقد يوسف وأخيه، فقال لهم ذلك وقوله {إذ أنتم جاهلون} ، أي: فاعلون فعلهم؛ أو لأنهم كانوا حينئذ صبياناً طياشين تلويحاً إلى معرفته، فقد روي أنه لما قال هذا تبسم وكان في تبسمه أمر من الحسن لا يجهله منه من رآه ولو مرّة واحدة فعرفوه بذلك فلذلك.
{قالوا أئنك لأنت يوسف} استفهام تقرير، ولذلك حقق بأن واللام عليه، وقيل: عرفوه بنظره وخلقه حين كلمهم، وقيل: رفع التاج عن رأسه فرآوا علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء، وكان لسارة ويعقوب وإسحاق مثلها. وقرأ ابن كثير بهمزة مكسورة بعدها نون على الخبر، وقرأ قالون وأبو عمرو بهمزة مفتوحة بعدها همزة مكسورة مسهلة بينهما ألف على الاستفهام، وقرأ ورش بغير ألف بينهما، والتسهيل في الثانية على الاستفهام أيضاً، وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين مع القصر، ولهشام وجه ثان وهو المدّ، وقيل: أنهم لم يعرفوه حتى {قال} لهم {أنا يوسف} وزادهم بقوله {وهذا أخي} بنيامين شقيقي، وإنما ذكره لهم ليزيدهم ذلك معرفة له وتثبيتاً في أمره وليبني عليه قوله: {قد منّ الله علينا} قال ابن عباس: بكل خير في الدنيا والآخرة. وقال آخرون: بالجمع بيننا بعد التفرقة. {إنه من يتق} ، أي: المعاصي {ويصبر} ، أي: على البليات وأذى الناس وقال ابن عباس: يتقي الزنا ويصبر على العزوبة، وقال مجاهد: يتقي المعصية ويصبر على السجن {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} والمعنى أنه من يتق ويصبر، فإنّ الله لا يضيع أجرهم، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين، وقرأ قنبل بإثبات الياء بعد القاف وقفاً ووصلاً، واختلف المعربون في ذلك على وجهين: أجودهما: أنّ إثبات حرف العلة في الجزم لغة لبعض العرب وأنشدوا عليه قول قيس بن زهير:
*ألم يأتيك والأنباء تنمي
... بما لاقت لبون بني زياد
وقول الآخر:
*هجوت زبان ثم جئت معتذراً
... من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
وقول الآخر:
*إذا العجوز غضبت فطلقي
... ولا ترضاها ولا تلق
والثاني أنه مرفوع غير مجزوم ومن موصولة والفعل صلتها، فلذلك تمم بإثبات لامه وسكن (يصبر) لتوالي الحركات، وإن كانت في كلمتين، وقرأ الباقون بالحذف وقفاً ووصلاً، ولما ذكر يوسف عليه السلام لإخوته أنّ الله تعالى منّ عليه، وأنه من يتق ويصبر فإنّ الله تعالى لا يضيعهم صدقوه فيه واعترفوا له بالفضل والمرتبة ولذلك.
{قالوا} مقسمين بقولهم: {تالله} ، أي: الملك الأعظم {لقد آثرك} ، أي: اختارك {الله علينا} بالعلم والعقل والحلم والحسن والملك والتقوى وغير ذلك، واحتج بعضهم بهذه الآية على أنّ إخوته ما كانوا أنبياء؛ لأنّ جميع المناصب التي تكون مغايرة لمنصب النبوّة(2/133)
كالعدم بالنسبة إليه، فلو شاركوه في منصب النبوّة لما قالوا ذلك، ثم قالوا: {وإن كنا لخاطئين} ، أي: والحال أن شأننا إنا كنا مذنبين بما فعلنا معك، ولذلك أذلنا الله تعالى لك، فكأنه قيل: ما قال لهم على قدرته وتمكنه مع ما سلف من إهانتهم له؟ فقيل:
{قال} لهم قول الكرام اقتداءً بإخوانه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام {لا تثريب} ، أي: لا لوم ولا تعنيف ولا هلاك {عليكم اليوم} وإنما خصه بالذكر؛ لأنه مظنة التثريب فإذا انتفى ذلك فيه فما ظنك بما بعده، ولما أعفاهم من التثريب كانوا في مظنة السؤال عن كمال العفو المزيل للعقاب من الله تعالى، فاتبعه الجواب عن ذلك بالدعاء لهم بقوله: {يغفر الله} ، أي: الذي لا إله غيره {لكم} ، أي: ما فرط منكم، وعبر في هذا الدعاء بالمضارع إرشاداً لهم إلى إخلاص التوبة، ورغبّهم في ذلك، ورجاهم بالصفة التي هي سبب الغفران، فقال: {وهو} تعالى {أرحم الراحمين} لجميع العباد لا سيما التائب، فهو جدير بإدراك النعم.
روي أنهم أرسلوا إليه إنك لتدعونا إلى طعامك وكرامتك بكرة وعشياً ونحن نستحي مما فرط منا، فقال: إن أهل مصر ينظرونني وإن ملكت فيهم بعين العبودية فيقولون: سبحان من بلغ عبداً بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من ذرية إبراهيم عليه السلام، ولما أقرّ أعينهم بعد اجتماع شملهم بإزالة ما يخشونه دنيا وأخرى سأل عن أبيه فقال: ما فعل أبي بعدي؟ قالوا: ابيضت عيناه من الحزن فأعطاهم قميصه وقال:
{اذهبوا بقميصي هذا} وهو قميص إبراهيم عليه السلام الذي لبسه حين ألقي في النار عرياناً فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، وكان ذلك عند إبراهيم، فلما مات إبراهيم ورثه إسحاق، فلما مات إسحاق ورثه يعقوب، فلما شب يوسف جعل يعقوب ذلك في قصبة من فضة وسدّ رأسها وعلقها في عنقه لما كان يخاف عليه من العين، وكان لا يفارقه، فلما ألقي في البئر عرياناً جاءه جبريل وعلى يوسف ذلك التعويذ، فأخرج القميص وألبسه إياه، ففي الوقت جاء جبريل عليه السلام وقال: أرسل ذلك القميص، فإنّ فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا على سقيم إلا عوفي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته، وقال: إذا وصلتم إلى أبي {فألقوه على وجه أبي يأت} ، أي: يصر {بصيراً} ، أي: يردّ إليه بصره كما كان، أو يأت إليّ حال كونه بصيراً {وأتوني} ، أي: أبي وأنتم {بأهلكم} ، أي: مصاحبين لكم {أجمعين} لا يتخلف منكم أحد فرجعوا بالقميص لهذا القصد. وروي أنّ يهوذا هو الذي حمل القميص لما لطخوه بالدم فقال: لا يحمل هذا غيري لأفرحه كما أحزنته فحمله وهو حاف من مصر إلى كنعان، وبينهما ثمانون فرسخاً.
{ولما فصلت العير} من عريش مصر وهو آخر بلاد مصر إلى أوّل بلاد الشأم {قال أبوهم} لولد ولده ومن حوله من أهله مؤكداً لعلمه أنهم ينكرون قوله: {إني لأجد ريح يوسف} أوصلته إليه ريح الصبا بإذن الله تعالى من مسيرة ثلاثة أيام أو ثمانية أو أكثر، قال مجاهد: هبت ريح فصفقت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة فعلم عليه السلام أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص.
قال أهل المعاني: إنّ الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عليه السلام عند انقضاء مدّة المحنة ومجيء وقت الفرج من المكان(2/134)
البعيد، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدّة ثمانين سنة، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب، وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل، ومعنى {أجد ريح يوسف} أشم وعبر بالوجود؛ لأنه وجدان له بحاسة الشم {لولا أن تفندون} ، أي: تنسبوني إلى الخرف.
قال أبو بكر الأنباري: أفند الرجل إذا خرف وتغير عقله. وعن الأصمعي إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو مفند. قال في «الكشاف» : يقال: شيخ مفنّد ولا يقال: عجوز مفندة؛ لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأى حتى تفند في كبرها، وقيل: التفنيد الإفساد يقال: فندت فلاناً إذا أفسدت رأيه ورددته قال بعضهم:
*يا صاحبيّ دعا لومي وتفنيدي
... فليس ما فات من أمر بمردود
ولما ذكر يعقوب عليه السلام ذلك
{قالوا} ، أي: الحاضرون عنده {تالله إنك لفي ضلالك} ، أي: حبك {القديم} ليوسف لا تنساه ولا تذهل عنه على بعد العهد، وهو كقول إخوة يوسف: {إن أبانا لفي ضلال مبين} (يوسف، 8) وقال مقاتل: معنى الضلال هنا الشقاء، أي: شقاء الدنيا، والمعنى إنك لفي شقائك القديم بما تكابده من الأحزان على يوسف، وقال الحسن: إنما خاطبوه بذلك لاعتقادهم أنّ يوسف قد مات، فكان يعقوب في ولوعه بذكره ذاهباً عن الرشد والصواب، ثم أنهم عجلوا له بشيراً فأسرع قبل وصولهم بالقميص {فلما} وزيدت {أن} لتأكيد مجيئه على تلك الحالة، وزيادتها بعد لما قياس مطرد {جاء البشير} وهو يهوذا بذلك القميص {ألقاه} ، أي: طرحه البشير {على وجهه} ، أي: يعقوب، وقيل: ألقاه يعقوب على وجه نفسه {فارتدّ} ، أي: رجع {بصيراً} ، أي: صيره الله بصيراً كما كان، كما يقال: طالت النخلة، والله تعالى هو الذي أطالها. ولما ألقى القميص على وجهه وبشر بحياة يوسف عليه السلام عظم فرحه، وانشرح صدره، وزالت أحزانه فعند ذلك {قال} لبنيه {ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} من حياة يوسف وإنا الله تعالى يجمع بيننا، قال السهيليّ: لما جاء البشير إلى يعقوب عليه السلام، أعطاه في: بشارته كلمات كان يرويها عن أبيه عن جدّه عليهم السلام، وهي: يا لطيفاً فوق كل لطيف ألطف بي في أموري كلها كما أحب ورضني في دنياي وآخرتي. وروي أنّ يعقوب عليه السلام قال للبشير: كيف تركت يوسف؟ قال: تركته ملك مصر. قال: ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمت النعمة فعند ذلك
{قالوا يا أبانا} منادين بالأداة التي تدل على الاهتمام العظيم بما بعدها لما له من عظيم الوقع {استغفر} ، أي: اطلب من الله تعالى أن يغفر {لنا ذنوبنا} ، أي: التي اقترفناها ثم قالوا مؤكدين تحقيقاً للإخلاص في التوبة {إنا كنا خاطئين} ، أي: متعمدين للإثم بما ارتكبنا في أمر يوسف عليه السلام ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه، ويسأل له المغفرة. قال صلى الله عليه وسلم «إنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» . فكأنه قيل: فما قال لهم؟ فقيل:
{قال} لهم: {سوف أستغفر} ، أي: أطلب أن يغفر {لكم ربي} الذي أحسن إليّ بأنّ يغفر لبنيّ حتى لا يفرق بيني وبينهم في دار البقاء والربوبية ملك هو أتم الملك على الإطلاق وهو ملك الله تعالى، وظاهر هذا الكلام أنه لم يستغفر لهم في الحال بل وعدهم بأن يستغفر لهم بعد ذلك،(2/135)
واختلفوا في سبب هذا المعنى على وجوه، فقال ابن عباس والأكثرون: أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر؛ لأنّ هذا الوقت أوفق الأوقات لرجاء الإجابة، وفي رواية أخرى له أنه أخر الاستغفار إلى ليلة الجمعة؛ لأنها أوفق لأوقات الإجابة.
وقال وهب: كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. وقال طاوس: أخر إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء، وقيل: استغفر لهم في الحال، وقوله: {سوف أستغفر لكم} معناه أني أدوام على هذا الاستغفار في الزمان المستقبل، وقيل: قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرغ رفع يديه، وقال: اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لأولادي ما فعلوا في حق يوسف، فأوحى الله تعالى إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين.
وعن الشعبي قال: أسأل يوسف أن عفا عنكم استغفر لكم ربي {إنه هو الغفور الرحيم} كل ذلك تسكيناً لقلوبهم وتصحيحاً لرجائهم، وروي أنّ يوسف عليه السلام كان بعث مع البشير إلى يعقوب عليه السلام مئتي راحلة وجهازاً كثيراً ليأتوا بيعقوب وأهله وولده، فتهيأ يعقوب عليه السلام للخروج إلى مصر، فخرج بهم فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف عليه السلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وركب أهل مصر معهما بأجمعهم يتلقون يعقوب، وكان يعقوب يمشي وهو يتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا هذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ابنك يوسف، فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدؤه بالسلام، فقال له جبريل: لا حتى يبدأ يعقوب بالسلام فقال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان.
وقال الثوري: لما التقى يعقوب ويوسف عليهما السلام عانق كل واحد منهما صاحبه وبكى فقال يوسف: يا أبت بكيت عليّ حتى ابيضت عيناك ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا؟ قال: بلى يا بنيّ ولكن خشيت أن يسلب دينك، فيحال بيني وبينك فذلك قوله تعالى:
{فلما دخلوا على يوسف آوى} ، أي: ضمّ {إليه أبويه} قال الحسن: أباه وأمّه وكانت حية إكراماً لهما بما يتميزان، به وغلب الأب في التثنية لذكورته، وعن ابن عباس أنها خالته ليا وكانت أمه قد ماتت في نفاس بنيامين. قال البغويّ: وفي بعض التفاسير أنّ الله تعالى أحيا أمّه حتى جاءت مع يعقوب إلى مصر.
فإن قيل: ما معنى دخولهم عليه قبل مصر؟ أجيب: بأنه حين استقبلهم نزل بهم في خيمة أو بيت هناك فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه {وقال} مكرماً {ادخلوا مصر} ، أي: البلد المعروف وأتى بالشرط للأمن لا للدخول فقال: {إن شاء الله آمنين} من جميع ما ينوب حتى مما فرطتم في حقي وفي حق أخي، روي أنّ يعقوب عليه السلام وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى عليه السلام والمقاتلون منهم ألف وبضعة وسبعون رجلاً سوى الصبيان والشيوخ.
{و} لما استقرّت بهم الدار بدخول مصر {رفع أبويه} ، أي: أجلسهما معه {على العرش} ، أي: السرير الرفيع والرفع هو النقل إلى العلوّ {وخرّوا له} ، أي: انحنوا له أبواه وإخوته {سجداً} ، أي: سجود انحناء، والتواضع قد يسمى سجوداً كقول الشاعر:
*ترى ألا كم فيها سجداً للحوافر
لا وضع جبهة وكان تحيتهم في ذلك الزمان، أو أنهم وضعوا الجباه وكان ذلك على طريقة التحية والتعظيم لا على طريقة(2/136)
العبادة، وكان ذلك جائزاً في الأمم السالفة، فنسخت في هذه الشريعة، وروي عن ابن عباس أنه قال: معناه خرّوا لله سجداً بين يدي يوسف عليه السلام، فيكون سجود شكر لله لأجل وجدان يوسف، ويدل عليه قوله تعالى {ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجداً} وذلك يشعر بأنهم صعدوا على السرير، ثم سجدوا لله تعالى، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصعود على السرير؛ لأنّ ذلك أدخل في التواضع.
فإن قيل: هذا التأويل لا يطابق قول يوسف عليه السلام {وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} والمراد منه قوله {إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} (يوسف، 4) أي: رأيتهم ساجدين لأجلي، أي: أنهم سجدوا لله لطلب مصلحتي والسعي في إعلاء منصبي، وإذا كان هذا محتملاً سقط السؤال قال الرازيّ: وعندي أنّ هذا التأويل متعين؛ لأنه يبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوّة أو أنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا شكراً لنعمة وجدانه، فإنه يقال: صليت للكعبة كما يقال: صليت إلى الكعبة. /
قال حسان:
*ما كنت أعرف أنّ الأمر منصرف
... عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن
*أليس أوّل من صلى لقبلتكم
... وأعرف الناس بالآثار والسنن
ثم استأنف يوسف عليه السلام فقال {قد جعلها ربي} ، أي: الذي رباني بما أوصلني إليها {حقاً} ، أي: مطابقة للواقع لتأويلها وتأويل ما أخبرتني به أنت، والتأويل تفسير ما يؤول إليه معنى الكلام، وعن سلمان رضي الله تعالى عنه أنّ ما بين رؤياه وتأويلها أربعون سنة. وعن الحسن: أنه ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وبقي في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة، ثم وصل إلى أبيه وأقاربه وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة، فكان عمره وعشرين سنة {وقد أحسن} ، أي: أوقع إحسانه {بي} تصديقاً لما بشرتني به من إتمام النعمة، وتعدية أحسن بالباء أدل على القرب من التعدية بإلى، وإن كان أصل أحسن أن يتعدّى بإلى كما قال تعالى: {وأحسن كما أحسن الله إليك} (القصص، 77) وقيل: ضمن معنى لطف فتعدّى بالباء كقوله تعالى: {وبالوالدين إحساناً} (البقرة، 83) وقال: {إذ أخرجني من السجن} ولم يذكر إخراجه من الجب لوجوه: أوّلها: أنه قال لإخوته: {لا تثريب عليكم اليوم} (يوسف، 92) ولو ذكر واقعة الجب لكان ذلك تثريباً لهم فكان إهماله جارياً مجرى الكرم.
ثانيها: أنه لما خرج من الجب لم يصر ملكاً بل صيروه عبداً، وإنما صار ملكاً بعد إخراجه من السجن، فكان هذا الإخراج أقرب من أن يكون إنعاماً كاملاً. ثالثها: أنه لما خرج من الجب وقع في المضارّ الحاصلة بسبب تهمة المرأة ولما خرج من السجن وصل إلى أبيه وإخوته، فكان هذا أقرب إلى المنفعة مع أنّ اللفظ محتمل للجب أيضاً لكنه احتمال خفيّ، ولما كان يعقوب وولده بأرض كنعان وتحوّل إلى بدو قال ابن عباس: ومنه قدم على يوسف قال يوسف عليه السلام: {وجاء بكم من البدو} ، أي: من أطراف بادية فلسطين وذلك من أكبر النعم، كما جاء في الحديث: «من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة» والبدو ضدّ الحاضرة، وهو من الظهور يقال: بدا يبدو إذا سكن في البادية، يروى عن عمر: إذا بدونا جفونا، أي: تخلقنا بأخلاق البدويين قال الواحدي: البدو بسط من الأرض يظهر فيه(2/137)
الشخص من بعيد، وأصله من بدا يبدو بدواً، ثم سمي المكان باسم المصدر، وفي الآية دلالة على أن فعل العبد خلق الله تعالى؛ لأنه أضاف إخراجه من السجن إلى الله تعالى ومجيئهم من البدو إليه {من بعد أن نزغ} ، أي: أفسد {الشيطان} بسبب الحسد {بيني وبين إخوتي} وأصل النزغ دخول في أمر لإفساده.
فإن قيل: إضافة يوسف عليه السلام الخير إلى الله تعالى والشر إلى الشيطان تقتضي أن فعل الشر ليس من الله تعالى كما قاله بعض المبتدعة، ولو كان منه لأضافه إليه.
أجيب: بأنّ إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مجاز؛ لأنّ الفاعل المطلق هو الله تعالى في الحقيقة، قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء، 22) فثبت بذلك أنّ الكل من عند الله تعالى وبقضائه وقدره، وليس للشيطان فيه مدخل إلا بإلقاء الوسوسة والتحريش لإفساد ذات البين، وذلك بإقدار الله تعالى إياه على ذلك كما حكى الله تعالى ذلك عنه بقوله تعالى: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} (إبراهيم، 22) ولما كان حصول الاجتماع بينه وبين إخوته وأبويه مع الألفة والمحبة وطيب العيش وفراغ البال، وكان في غاية البعد عن العقول إلا أنه تعالى لطيف قال يوسف عليه السلام {إنّ ربي لطيف لما يشاء} ، أي: لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته، ويتسهل دونها فإذا أراد حصول الشيء سهل أسبابه فحصل، وإن كان في غاية البعد عن الحصول {إنه هو العليم} بوجوه المصالح والتدابير {الحكيم} ، أي: الذي يفعل كل شيء في وقته وعلى وجه يقتضي الحكمة روي أنّ يوسف عليه السلام طاف بأبيه في خزائنه، فلما أدخله خزانة القرطاس قال: يا بنيّ ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل؟ قال: أمرني جبريل بذلك قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أقرب مني إليه، فسأله فقال جبريل: الله أمرني بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب، قال: فهلا خفتني؟ ولما حضر يعقوب عليه السلام الموت وصى يوسف عليه السلام أن يحمله ويدفنه عند أبيه فمضى بنفسه فدفنه ثمة. ثم عاد إلى مصر وأقام بعده ثلاثاً وعشرين سنة.
ولما تم أمره وعلم أنه لا يدوم تاقت نفسه إلى الملك الدائم فقال: {رب قد آتيتني} وافتتح بقد؛ لأنّ الحال حال توقع السامع لشرح حال الرؤيا {من الملك} ، أي: بعضه بعد بعدي منه جدًّا وهو ملك مصر {وعلمتني من} ، أي: بعض {تأويل الأحاديث} طبق ما بشرني به أبي وأخبرت به أنت من التمكين والتعليم قبل قولك {والله غالب على أمره} (يوسف، 21) ثم ناداه بوصف جامع للعلم والحكمة فقال: {فاطر} ، أي: خالق {السموات والأرض} ثم أعلمه بما هو أعلم به منه من أنه لا يعوّل على غيره في شيء من الأشياء {أنت وليي} ، أي: الأقرب إليّ باطناً وظاهراً {في الدنيا والآخرة} ، أي: لا وليّ لي غيرك، والولي يفعل لموليه الأصلح والأحسن فأحسن لي في الآخرة أعظم مما أحسنت لي في الدنيا.
روي أنه صلى الله عليه وسلم حكى عن جبريل عن رب العزة جل وعلا أنه قال: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» فلهذا المعنى من أراد الدعاء لا بدّ وأن يقدّم عليه ذكر الثناء على الله تعالى فهذا يوسف عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديت فاطر السموات والأرض} ثم ذكر عقبه الدعاء وهو قوله {توفني} ، أي:(2/138)
اقبض روحي وافياً تامًّا في جميع أمري حساً ومعنى حال كوني {مسلماً} ولما كان المسلم حقيقة من كان عريقاً في الإخلاص عقبه بقوله: {وألحقني بالصالحين} ونظيره ما فعله الخليل عليه السلام في قوله: {الذي خلقني فهو يهدين} (الشعراء، 78) فمن ههنا إلى قوله: {رب هب لي حكماً} ثناء على الله تعالى ثم قوله: {رب هب لي حكماً} إلى آخر الكلام دعاء فكذا هنا.
تنبيه: اختلف في قوله {توفني مسلماً} هل هو طلب منه للوفاة أم لا؟ فقال قتادة: سأل ربه اللحوق به ولم يتمنّ نبيّ قط الموت قبله، وكثير من المفسرين على هذا القول. وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد إذا توفيتني فتوفني على الإسلام، فهذا طلب لأن يجعل الله تعالى وفاته على الإسلام، وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة، واللفظ صالح للأمرين، ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها: أنّ الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمّة الدنيا إلا أنّ حاصل كلامهم يرجع إلى ثلاثة أمور:
أحدها: أنّ هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشدّ من اللذة الحاصلة عند وجدانها.
وثانيها: أنها غير حاصلة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدّرات.
وثالثها: أنّ الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها، بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل، فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات، ولما عرف العاقل أنه لا يحصل تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم تمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات، ومنها: أن تداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع: لذة الأكل ولذة النكاح ولذة الرياسة، ولكل واحدة منها عيوب كثيرة، أمّا لذة الأكل ففيها عيوب أحدها: أنّ هذه اللذة ليست لذة قوية، فإنه لا يمكن إبقاؤها، فإنّ الإنسان إذا أكل وشبع لم يبق فيه الالتذاذ، بالأكل، فهذه اللذة ضعيفة، ومع ضعفها غير باقية: وثانيها: أنها في نفسها خسيسة وأنّ الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم، ولا شك أنه شيء منفر، ولما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة، وذلك أيضاً منفر، وثالثها: أنّ جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة له فيها، ورابعها: أنّ الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع، والجوع نقص وآفة، وخامسها: أنّ الأكل مستحقر عند العقلاء حتى قيل: من كانت همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه، فهذه إشارات مختصرة إلى معايب الأكل، وأمّا لذة النكاح فما ذكر في الأكل حاصل هنا مع أشياء أخر، وهي أنّ النكاح سبب لحصول الولد، وحينئذ تكثر الأشخاص فتكثر الحاجات إلى المال، فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في المال بطرق لا نهاية لها، وربما صار هالكاً بسبب طلب المال.
وأمّا لذة الرياسة فعيوبها كثيرة منها: أن يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان، ومنها: أنه عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال، ومنها أنه يكون عند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال، فالعاقل إذا تأمّل في هذه المعاني علم قطعاً أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات فيكون لقاء الله عنده أرجح فيتمنى الموت.
وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنّ ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت فقال له: صنع الله لك خيراً كثيراً أحييت سنناً، وأمت بدعاً وفي حياتك خير وراحة للمسلمين فقال:(2/139)
أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقرّ الله عينه وجمع أمره قال: {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} .
فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة السلام يعلمون أنهم يموتون لا محالة على الإسلام، فكان هذا الدعاء حاصله طلب تحصيل الحاصل وإنه لا يجوز؟ أجيب: بأن حال كمال المسلم أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الاستسلام، ويرضى بقضاء الله، وتطمئن النفس وينشرح الصدر، وينفسح القلب في هذا الباب، وهذه حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضدّ الكفر، والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى. فإن قيل: إنّ يوسف عليه السلام كان من أكابر الأنبياء، والصلاح أوّل درجة المؤمنين فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية؟ أجيب: بأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: يعني بأن يلحقه بآبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، والمعنى ألحقني بهم في ثوابهم ودرجاتهم، وولد ليوسف عليه السلام من امرأة العزيز ثلاثة افراثيم وميشا وهو جدّ يوشع بن نون ورحمة امرأة أيوب عليهم السلام، ولما تاقت نفسه إلى الملك المخلد وتمنى الموت فلم يأت عليه أسبوع حتى توفاه الله عز وجل طيباً طاهراً، وتشاح الناس في دفنه فطلب أهل كل محلة أن يدفن في محلتهم رجاء بركته حتى هموا بالقتال، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل حيث يتفرّق الماء بمصر ليجري عليه الماء، وتصل بركته إلى جميعهم، قال عكرمة: دفن في الجانب، الأيمن من النيل فأخصب ذلك الجانب، وأجدب الجانب، الآخر، فنقل إلى الجانب الأيسر فأخصب ذلك الجانب وأجدب الآخر، فدفنوه في وسطه وقدّروا ذلك بسلسلة فأخصب الجانبان إلى أن أخرجه موسى عليه السلام ودفنه بقرب آبائه بالشام، وقد يسر الله تعالى
زيارته وزيارة آبائه في عام شرعت في هذا التفسير سنة أربع وستين وتسعمئة جمعني الله تعالى وآبائي وأهلي وأصحابي وأحبابي معهم في دار كرامته. ولما تمّ الذي كان من أمر يوسف عليه السلام وإخوته على الوجه الأحكم، والصراط الأقوم من ابتدائه إلى انتهائه قال تعالى مشيراً إلى أنه دليل كاف في تصحيح نبوّته صلى الله عليه وسلم بقوله:
{ذلك} ، أي: الذي ذكرته لك يا محمد من قصة يوسف عليه السلام وما جرى له مع إخوته، ثم صار إلى الملك بعد الرق {من أنباء الغيب} ، أي: أخبار ما غاب عنك {نوحيه إليك} ، أي: الذي أخبرناك به من أخبار يوسف وحي أوحيناه إليك {و} الحال إنك {ما كنت لديهم} ، أي: عند إخوة يوسف عليه السلام {إذ} ، أي: حين {أجمعوا أمرهم} ، أي: عزموا على أمر واحد، وهو إلقاء يوسف في الجب {وهم يمكرون} ، أي: يدبرون الأذى في الخفية بيوسف، والمعنى أنّ هذا النبأ غيب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما طالع الكتب ولا تتلمذ لأحد، ولا كانت البلدة بلدة العلماء، وإتيانه صلى الله عليه وسلم بهذه القصة الطويلة على وجه لا يقع فيه تحريف ولا غلط من غير مطالعة ولا تعلم، ومن غير أن يقال: إنه حاضر معهم لا بدّ وأن يكون معجزاً وقوله تعالى: {وما كنت لديهم} ذكر على سبيل التهكم بهم؛ لأنّ كل أحد يعلم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان معهم، ولما سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نقله أبو حيان عن ابن الأنباري عن قصة يوسف عليه السلام، فنزلت مشروحة هذا الشرح الشافي مبينة هذا البيان الوافي فأمّل صلى الله عليه وسلم أن يكون(2/140)
ذلك سبب إسلامهم فخالفوا تأميله عزاه الله تعالى بقوله:
{وما أكثر الناس} ، أي: أهل مكة {ولو حرصت} على إيمانهم {بمؤمنين} لعنادهم وتصميمهم على الكفر وكان ذلك إشارة إلى ما ذكر الله تعالى في قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء} (القصص، 56) ثم نفى عنه التهمة بقوله تعالى:
{وما تسألهم عليه} ، أي: على تبليغ هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك وأغرق في النفي فقال: {من أجر} حتى يكون سؤالك سبباً لأن يتهموك أو يقولوا: لولا أنزل عليه كنز ليستغن به عن سؤالنا، ثم نفى عن هذا الكتاب كل غرض دنيوي بقوله تعالى: {إن هو إلا ذكر} ، أي: عظة من الله تعالى {للعالمين} عامّة، ثم إنّ الله تعالى أخبر عنهم أنهم لما تأمّلوا الآيات الدالة على توحيده تعالى بقوله تعالى:
{وكأين} ، أي: وكم {من آية} دالة على وحدانية الله تعالى {في السموات} كالنيرين وسائر الكواكب والسحاب وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى {والأرض} من الجبال والشجر والدوابّ وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى {يمرّون عليها} ، أي: يشاهدونها {وهم عنها معرضون} ، أي: لا يتفكرون فيها فلا عجب إذا لم يتأمّلوا في الدلائل على نبوّتك، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، ثم إنهم يمرّون عليها ولا يلتفتون إليها. ولما كان ربما قيل: كيف يوصفون بالإعراض وهم يعتقدون أنّ الله تعالى فاعل تلك الآيات؟ بين أنّ إشراكهم سقط لذلك بقوله تعالى:
{وما يؤمن أكثرهم بالله} حيث يقرّون بأنه الخالق الرازق {إلا وهم مشركون} بعبادته الأصنام قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله} (الزخرف، 87) لكنهم كانوا يثبتون شريكاً في العبودية. وعن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في تلبية مشركي العرب كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك يعنون الأصنام. وعنه أيضاً أنّ أهل مكة قالوا: الله ربنا وحده لا شريك له والملائكة بناته فلم يوحدوا بل أشركوا، وقال عبدة الأصنام: ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده، وقالت اليهود: ربنا الله وحده وعزير ابن الله. وقالت النصارى: المسيح ابن الله. وقال عبدة الشمس والقمر: ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا، وقال المهاجرون والأنصار: ربنا الله وحده لا شريك له، ولما كان أكثر هؤلاء لا ينقادون إلا بالعذاب قال تعالى:
{أفأمنوا} إنكار فيه معنى التوبيخ والتهديد {أن تأتيهم} في الدنيا {غاشية} ، أي: نقمة تغشاهم وتشملهم {من عذاب الله} ، أي: الذي له الأمر كله كما أتى من ذكرنا قصصهم من الأمم {أو تأتيهم الساعة بغتة} ، أي: فجأة وهم عنها في غاية الغفلة وقوله تعالى: {وهم لا يشعرون} ، أي: بوقت إتيانها قبله كالتأكيد لقوله {بغتة} . ولما كان صلى الله عليه وسلم مبلغاً عن الله تعالى أمره أن يأمرهم باتباعه بقوله تعالى:
{قل} يا أعلى الخلق وأصفاهم وأعظمهم نصحاً وإخلاصاً {هذه} ، أي: الدعوة إلى الله تعالى التي أدعو إليها {سبيلي} ، أي: طريقتي التي أدعو إليها الناس، وهي توحيد الله تعالى ودين الإسلام وسمي الدين سبيلاً؛ لأنه الطريق المؤدّي إلى ثواب الجنة {أدعو إلى الله} ، أي: إلى توحيده والإيمان به {على بصيرة} ، أي: حجة واضحة وقوله {أنا} تأكيد للمستتر في أدعو على بصيرة؛ لأنه حال منه أو مبتدأ خبره على بصيرة وقوله: {ومن اتبعني} ، أي: ممن آمن بي وصدق بما جاءني عطف عليه؛ لأنّ كل من ذكر الحجة وأجاب عن الشبهة فقد دعا بمقدور وسعه(2/141)
إلى الله، وهذا دلّ على أن الدعاء إلى الله إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول ويقين، فإن لم يكن كذلك وإلا فهو محض الغرور، وقال صلى الله عليه وسلم «العلماء أمناء الرسل على عباد الله» من حيث يحفظون ما يدعون إليه.
فائدة: جميع القراء يثبتون الياء وقفاً ووصلاً لثباتها في الرسم {وسبحان} ، أي: وقل سبحان {الله} تنزيهاً له تعالى عما يشركون به {وما أنا من المشركين} ، أي: الذين اتخذوا مع الله ضدًّا وندًّا، ولما قال أهل مكة للنبيّ صلى الله عليه وسلم هلا بعث الله ملكاً؟ قال تعالى:
{وما أرسلنا من قبلك} إلى المكلفين {إلا رجالاً} ، أي: مثل ما أنك رجل لا ملائكة ولا إناثاً كما قاله ابن عباس، ولا من الجنّ كما قاله الحسن، {يوحى إليهم} ، أي: بواسطة الملائكة مثل ما يوحي إليك. وقرأ حفص قبل الواو بالنون وكسر الحاء، والباقون بالياء وفتح الحاء وضم الهاء من إليهم حمزة على أصله، وكسرها الباقون {من أهل القرى} ، أي: من أهل الأمصار والمدن المبنية بالمدر والحجر ونحوه لا من أهل البوادي؛ لأنّ أهل الأمصار أفضل وأعلم وأكمل وأعقل من أهل البوادي، ومكة أم القرى؛ لأنها مجمع لجميع الخلائق لما أمروا به من حج البيت وكان العرب كلهم يأتونها فكيف تعجبوا في حقك؟ قال الحسن: لم يبعث الله نبياً من البادية لغلظهم وجفائهم، ثم هدّدهم سبحانه وتعالى بقوله تعالى: {أفلم يسيروا} ، أي: هؤلاء المشركون المكذبون {في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} من المكذبين للرسل والآيات فيحذروا تكذيبك ويعتبروا بهم وبما حلّ بهم من عذابنا. ولما أنّ الله تعالى نجى المؤمنين عند نزول العذاب بالأمم الماضية المكذبة وما في الآخرة خير لهم بين ذلك بقوله تعالى: {ولدار الآخرة} ، أي: ولدار الحال الآخرة أو الساعة الآخرة أو الحياة الآخرة {خير} وهي الجنة {للذين اتقوا} الله من حياة مآلها الموت، وإن فرحوا فيها بالمحال وإن امتدّت ألف عام وكان عيشها كله رغداً من غير آلام {أفلا يعقلون} فيستعملون عقولهم فيتبعون الداعي إلى هذا السبيل الأقوم. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتاء على الخطاب لأهل مكة، والباقون بالياء على الغيبة لهم وللمشركين المكذبين وقوله تعالى:
{حتى إذا استيأس الرسل} غاية لمحذوف دلّ عليه الكلام، أي: لا يغررهم تمادي أيامهم فإنّ من قبلهم أمهلوا حتى أيس الرسل من النصر عليهم في الدنيا ومن إيمانهم لانهماكهم في الكفر مترفين متمادين فيه من غير وازع {وظنوا} ، أي: أيقن الرسل {أنهم قد كذبوا} بالتشديد كما قرأه غير حمزة وعاصم والكسائي تكذيباً لا إيمان بعده، وأمّا بالتخفيف كما قرأه هؤلاء فالمعنى أنّ الأمم ظنوا أنّ الرسل قد أخلفوا ما وعدوا به من النصر عليهم {جاءهم نصرنا} لهم بخذلان أعدائهم {فنجي من نشاء} ، أي: النبيّ والمؤمنون، وقرأ ابن عامر وعاصم بنون مضمومة بعدها جيم مشدّدة وياء بعد الجيم مفتوحة، والباقون بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة وتخفيف الجيم وسكون الياء {ولا يرد بأسنا} ، أي: عذابنا {عن القوم المجرمين} ، أي: المشركين ما نزل بهم.
ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه القصص وحث على الاعتبار بها بقوله: {أفلم يسيروا} أتبعه بأنّ في أحاديثهم أعظم عبرة فقال حثا على تأملها والاستبصار بها:
{لقد كان في قصصهم} ، أي: يوسف وإخوته أو في قصص الرسل {عبرة} ، أي: عظة(2/142)
عظيمة {لأولي الألباب} ، أي: لذوي العقول المبرأة من شوائب الكدر ويعتبرون بها إلى ما يسعدهم؛ لأنّ من قدر على ما قص من أمر يوسف عليه السلام لقادر على أن يعز محمداً صلى الله عليه وسلم ويعلي كلمته وينصره على من عاداه كائناً من كان كما فعل بيوسف وغيره.
ولما كان من أجل العبرة في ذلك القطع بحقية القرآن نبه تعالى على ذلك بتقدير سؤال فقال تعالى: {ما كان حديثاً يفترى} ، أي: يختلق؛ لأنّ الذي جاء به من عند الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم لا يصح منه أن يفتريه؛ لأنه لم يقرأ الكتب ولم يتلمذ لأحد، ولم يخالط العلماء، فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما رأوه في التوراة من غير تفاوت كما يعلم من قوله تعالى: {ولكن تصديق الذي بين يديه} ، أي: من الكتب الإلهية المنزلة من السماء كالتوراة والإنجيل، ففي ذلك إشارة إلى أنّ هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التوراة من ذكر قصة يوسف عليه السلام {و} زاد على ذلك بقوله {تفصيل} ، أي: تبيين {كل شيء} ، أي: يحتاج إليه من الدين إذ ما من أمر دينيّ إلا وله سند من القرآن بوسط أو بغير وسط، وقيل: المراد تفصيل كل شيء من واقعة يوسف مع أبيه وإخوته.
قال الواحدي: وعلى التفسيرين جميعاً فهو من العامّ الذي أريد به الخاص كقوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} (الأعراف، 156) ، أي: يجوز أن يدخل فيها وقوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء} (النمل، 23) . {وهدى} من الضلال {ورحمة} ينال بها خير الدارين {لقوم يؤمنون} ، أي: يصدّقون خصهم بالذكر؛ لأنهم هم الذين انتفعوا به كقوله تعالى {هدى للمتقين} فسبحان من أنزله معجزاً باهراً وقاضياً بالحق لا يزال ظاهراً، وما رواه البيضاويّ تبعاً ل «الكشاف» من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «علموا أرقاءكم سورة يوسف فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوّة أن لا يحسد أحداً» حديث موضوع والله أعلم.
سورة الرعد
مكية
إلا {ولا يزال الذين كفروا} الآية {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً} الآية أو مدنية إلا {ولو أنّ قرآنا سيرت به الجبال} وهي ثلاث أو أربع أو خمس أو ست وأربعون آية وعدد كلماتها وخمس وخمسون كلمة وعدد حروفها ثلاثة آلاف وسبعة أحرف.
{بسم الله} الحق الذي كل ما عداه باطل {الرحمن} الذي عمّ الرغبة والرهبةبعموم الرحمة {الرحيم} الذي خص من شاء بما يرضاه عظيم الرهبة.
{المر} قال ابن عباس معناه أنا الله أعلم وأرى. وقال في رواية عطاء: أنا الله الملك الرحمن. وقد تقدم الكلام على شيء من أوائل السور في أوّل سورة البقرة، وقرأ قالون وابن كثير وحفص بالفتح، وقرأ ورش بين بين والباقون بالإمالة {تلك} ، أي: هذه الآيات {آيات الكتاب} ، أي: القرآن، والإضافة بمعنى من، وقيل: المراد بالكتاب السورة الكاملة، ووصفت بالكمال من تعريف الكتاب بأل؛ لأنّ خبر المبتدأ إذا عرف بلام الجنس أفاد المبالغة، وقوله تعالى: {والذي أنزل إليك من ربك} ، أي: القرآن مبتدأ وخبره {الحق} ، أي: الموضوع كل شيء منه في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة الواضح الذي لا يتخلف شيء منه(2/143)
عن مطابقة الواقع من بعث ولا غيره {ولكن أكثر الناس} ، أي: مشركي مكة {لا يؤمنون} لإخلالهم بالنظر والتأمّل فيه.
قال مقاتل: نزلت في مشركي مكة حين قالوا: إنّ محمداً يقوله من تلقاء نفسه فرد الله تعالى عليهم بذلك. ولما ذكر تعالى أنّ {أكثر الناس لا يؤمنون} ذكر عقبه ما يدّل على صحة التوحيد والمعاد بأمور أحدها قوله تعالى:
{الله الذي رفع السموات بغير عمد} ، أي: سواري جمع عمود كأدم وأديم أو عماد كأهب وإهاب، والعمود جسم مستطيل يمنع المرتفع أن يميل، وقوله جمع عمود كأدم وأديم الخ في «حاشية الجمل» : والعامة على فتح العين والميم وهو اسم جمع وعبارة بعضهم أنه جمع نظراً إلى المعنى دون الصناعة وقرأ أبو حيوة ويحيى بن وثاب عمد بضمتين ومفرده يحتمل أن يكون عماداً كشهاب وشهب وكتاب وكتب وأن يكون عموداً كرسول ورسل اه. {ترونها} ، أي: وأنتم ترون السماء مرفوعة بغير عمد من تحتها تسندها ولا من فوقها علاقة تمسكها، فالعمد منفية بالكلية، قال إياس بن معاوية: السماء مقبية على الأرض مثل القبة ففي ذلك دلالة عظيمة على وحدانية الله تعالى؛ لأنّ هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجوّ العالي، ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذاتها فهذا برهان باهر على وجود الإله القادر القاهر، وقيل: الضمير راجع إلى العمد، أي: أن لها عمداً ولكن لا ترونها أنتم، ومن قال بهذا القول يقول: أن عمدها على جبل قاف وهو جبل من زمرّد محيط بالدنيا والسماء عليه مثل القبة وهذا قول مجاهد وعكرمة، قال الرازي: وهذا التأويل في غاية السقوط، لأنّ السموات لما كانت مستقرّة على جبل قاف فأي دلالة تبقى فيها على وجود الإله.
تنبيه: الله مبتدأ، والذي رفع السموات خبره، ويجوز أن يكون الموصول صفة، والخبر يدبر الأمر.
ثانيها: قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} بالحفظ والتدبير والقهر والقدرة، أي: أنّ من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وتدبيره وفي الاحتياج إليه وتقدّم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما فيه كفاية.
وثالثها: قوله تعالى: {وسخر} ، أي: ذلل {الشمس والقمر} لمنافع خلقه مقهوران يجريان على ما يريد {كل} منهما {يجري} في فلكه {لأجل مسمى} ، أي: إلى وقت معلوم وهو وقت فناء الدنيا وزوالها وعند مجيء ذلك الوقت تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك التسييرات، كما وصف الله تعالى ذلك في قوله {إذا الشمس كورت} (التكوير، 1) ، {وإذا النجوم انكدرت} (التكوير، 2) ، {وإذا السماء انشقت} (الإنشقاق، 1) ، {وإذا السماء انفطرت} (التكوير، 1) وعن ابن عباس للشمس وثمانون منزلاً كل يوم لها منزل وذلك يتمّ في ستة أشهر ثم أنها تعودمرّة أخرى إلى واحد واحد منها في ستة أشهر مرّة أخرى، وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلاً، فالمراد بقوله تعالى: {كل يجري لأجلٍ مسمى} هذا، وتحقيقه أنه تعالى قدّر لكل واحد من تلك الكواكب سيراً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء، وحينئذ يلزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال: {يدبر الأمر} ، أي: يقضي أمر ملكه من الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار، ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل، وتكليف العباد، وفي ذلك دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك؛ لأنّ هذا العالم المعلوم من إعلاء العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله عز وجل، والدليل المذكور على أنّ اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى، ومن المعلوم أنّ من اشتغل بتدبير شيء آخر فإنه يشغله شأن، عن شأن فالعاقل إذا تأمّل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم(2/144)
الأجساد وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير، فلا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبير عن تدبير، وذلك يدل على أنه تعالى متعال في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته عن مشابهة المحدثات والممكنات.
ولما كان هذا بياناً شافياً لا لبس فيه قال تعالى: {يفصل} ، أي: يبين {الآيات} التي برزت إلى الوجود وتدبيرها الدالة على وحدانيته وكمال حكمته المشتملة عليها مبتدعاته فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم لتعلموا أنها فعل الواحد المختار.
ولما كان هذا التدبير وهذا التفصيل دالاً على تمام القدرة وغاية الحكمة وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة علل ذلك بقوله {لعلكم} يا أهل مكة {بلقاء ربكم} بالبعث {توقنون} فتعلموا أنّ من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها قادر على إيجاد الإنسان وإحيائه بعد موته، يروى أنّ واحداً قال لعليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: أنه تعالى كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة، فقال: كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة، وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجوّ العالي لا يبعد أن يرد الأرواح إلى الأجساد، وإن كان الخلق عاجزين عنه، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى لا يشغله شأن، عن شأن فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن.
تنبيه: اليقين صفة من صفات العلم، وهي فوق المعرفة، والدراية وهي سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك. ولما ذكر تعالى الدلائل الدالة على وحدانيته وكمال قدرته من رفع السماء بغير عمد وأحوال الشمس والقمر أردفها بذكر الدلائل الأرضية بقوله تعالى: {وهو الذي مدّ الأرض} ، أي: بسطها طولاً وعرضاً لتثبت عليها الأقدام ويتقلب عليها الحيوان ولوشاء لجعلها كالجدار والأزج لا يستطاع القرار عليها هذا إذا قلنا أنّ الأرض مسطحة لا كرة، وعند أصحاب الهيئة أنها كرة فكيف يقولون بذلك ومدّ الأرض ينافي كونها كرة، كما ثبت بالدليل؟ أجيب: بأنّ الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح كما أنّ الله تعالى جعل الجبال أوتاداً مع أنّ العالم من الناس يستقرّون عليها، فكذلك ومع هذا فالله تعالى قد أخبر أنه مدّ الأرض ودحاها وبسطها، وكل ذلك يدل على التسطيح والله تعالى أصدق قيلاً وأبين دليلاً من أصحاب الهيئة هذا هو الدليل الأوّل من الدلائل الأرضية.
الثاني منها قوله: {وجعل} ، أي: وخلق {فيها} ، أي: الأرض {رواسي} ، أي: جبالاً ثوابت واحدها راسية، أي: ثابتة باقية في حيزها غير منتقلة عن مكانها لا تتحرّك ولا يتحرك ما هي راسية فيه وهذا لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر الحكيم قال ابن عباس: أوّل جبل وضع على وجه الأرض جبل أبي قبيس ولما غلب على الجبال وصفها بالرواسي صارت الصفة تغني عن الموصوف، فجمعت جمع الاسم كحائط وكاهل قاله أبو حيان.
الثالث منها قوله تعالى: {وأنهاراً} ، أي: وجعل في الأرض أنهاراً جارية لمنافع الخلق، والنهر المجرى الواسع من مجاري الماء، وأصله الاتساع، ومنه النهار لاتساع ضيائه. الرابع منها: قوله تعالى: {ومن كل الثمرات} وهو متعلق(2/145)
بقوله تعالى: {جعل فيها} ، أي: الأرض {زوجين اثنين} ، أي: وجعل فيها من جميع أنواع الثمار صنفين اثنين، والاختلاف إمّا من حيث الطعم كالحلو والحامض أو اللون كالأسود والأبيض، أو الحجم كالصغير والكبير، أو الطبيعة كالحارّ والبارد.
فإن قيل: الزوجان لا بدّ وأن يكونا اثنين فما الفائدة في اثنين؟ أجيب: بأنه قيل: إنه تعالى أوّل ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط فلو قال: خلق زوجين لم يعلم أنّ المراد النوع أو الشخص، فلما قال: اثنين علم أنه تعالى أوّل ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد، فكما أنّ الناس وإن كان فيهم الآن كثرة فابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص آدم وحوّاء، فكذا القول في جميع الأشجار والزروع.
الخامس منها: قوله تعالى: {يغشي} ، أي: يغطي {الليل} بظلمته {النهار} ، أي: والنهار الليل بضوئه فيعتدل فعلهما على ما قدّره الله تعالى لهما في السير من الزيادة والنقصان، وذلك من الحكم النافعة في الدين والدنيا الظاهرة لكل ذي عقل أنها تدبيره بفعله واختياره وقهره واقتداره. وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بفتح الغين وتشديد الشين، والباقون بسكون الغين وتخفيف الشين. ولما ذكر تعالى هذه الدلائل النيرة والقواطع القاهرة جمعها وناطها بالفكر فقال تعالى: {إن في ذلك} ، أي: الذي وقع التحدّث عنه من الآيات {لآيات} ، أي: دلالات {لقوم يتفكرون} ، أي: يجتهدون في الفكر فيستدلون بالصنعة على الصانع، وبالسبب على المسبب والتفكر والتدبر تصرف القلب في طلب معاني الأشياء، ثم أنه تعالى ذكر دليلاً ظاهراً جدًّا بقوله تعالى:
{وفي الأرض} ، أي: التي أنتم سكانها تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل الشك {قطع} ، أي: بقاع مختلفة {متجاورات} ، أي: متقاربات يقرب بعضها من بعض واحدة طيبة، والأخرى سبخة لا تنبت وأخرى صالحة للزرع لا للشجر، وأخرى بالعكس، وأخرى قليلة الريع، وأخرى كثيرته مع انتظام الكل في الأرضية، وهو من دلائل قدرته تعالى {وجنات} ، أي: بساتين فيها أنواع الأشجار من نخيل وأعناب وغيرذلك كما قال تعالى: {من أعناب وزرع ونخيل صنوان} جمع صنو وهي النخلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس: «عمّ الرجل صنو أبيه» يعني أنهما من أصل واحد {وغير صنوان} ، أي: متفرقات مختلفة الأصول وسمي البستان جنة؛ لأنه يستر بأشجاره الأرض.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص برفع العين واللام والنون الثانية من صنوان والراء من غير مع التنوين في العين واللام والنون، وعدم التنوين في الراء، والباقون بالخفض في الأربعة وعدم التنوين في الراء. ولما كان الماء بمنزلة الأب والأرض بمنزلة الأم وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الواحد المسبب لا إلى شيء من الأسباب قال: {تسقى} قراءة ابن عامر وعاصم بالياء على التذكير، أي: المذكور، وقراءة الباقين بالتاء على التأنيث، أي: الجنات وما فيها {بماء واحد} فتخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه، ولا تتقدّم، والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام، وقيل في حدّه: جوهر سيال به قوام الأرواح {ونفضل بعضها على بعض في الأكل} ، أي: في الطعم ما بين حلو وحامض وغير ذلك.(2/146)
وفي الشكل والرائحة والمنفعة وغير ذلك، وذلك أيضاً مما يدل على القادر الحكيم، فإنّ اختلافها مع اتحاد الأصول والأسباب لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار، قال مجاهد: وذلك كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد. وقال الحسن: هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم وكانت الأرض طينة واحدة في يد، أي: في قدرة الرحمن فسطحها فصارت قطعاً متجاورات، فينزل عليها الماء من السماء، فتخرج هذه زهرتها وشجرها وثمرها ونباتها، وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها وكل يسقى بماء واحد، وكذلك الناس خلقوا من آدم، فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب قوم فتخشع وتخضع، وتقسو قلوب قوم فتلهو ولا تسمع.
وقال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} (الإسراء، 82) وقرأ حمزة والكسائي بالياء ليطابق قوله تعالى: {يدبر الأمر} والباقون بالنون وقرأ نافع وابن كثير بسكون الكاف، والباقون بالرفع {إن في ذلك} ، أي: الأمر العظيم الذي ذكرناه {لآيات} ، أي: دلالات {لقوم يعقلون} ، أي: يستعملون عقولهم بالتدبر والتفكر في الآيات الدالة على وحدانيته تعالى.
ولما ذكر تعالى الدلائل القاهرة الدالة على معرفة المبدأ ذكر بعده ما يدل على المعاد بقوله تعالى: {وإن تعجب} ، أي: يا أكرم الخلق من تكذيب الكفار لك بعد أن كنت تعرف عندهم بالصادق الأمين {فعجب} ، أي: فحقيق أن يتعجب منه {قولهم} ، أي: منكري البعث {أئذا كنا تراباً} ، أي: بعد الموت {أئنا لفي خلق جديد} ، أي: خلق بعد الموت كما كنا قبله، ولم يعلموا أنّ القادر على إنشاء الخلق وما تقدّم على غير مثال قادر على إعادتهم. وقيل: وإن تعجب من اتخاذ المشركين ما لا يضرّهم ولا ينفعهم آلهة يعبدونها مع إقرارهم بأنّ الله تعالى خلق السموات، والأرض، وهو يضر وينفع، وقد رأوا قدرة الله تعالى وما ضرب لهم به الأمثال فعجب قولهم ذلك، والعجب تغير النفس برؤية المستبعد في العادة، وقال المتكلمون: العجب هو الذي لا يعرف سببه، وذلك في حق الله تعالى محال؛ لأنه تعالى علام الغيوب لا تخفى عليه خافية، وقرأ أبو عمرو وخلاد والكسائي بإدغام الباء في الفاء، والباقون بالإظهار.
تنبيه: هنا آيتان في كل منهما همزتان، فقرأ قالون بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الهمزة الثانية، ويدخل بينهما ألفاً على الاستفهام، وفي الآية الثانية بهمزة مكسورة وبعدها نون مشددة على الخبر، وورش كذلك إلا أنه لا يدخل بين الهمزتين في أئذا ألفاً وينقل في الثاني على أصله، وابن كثير يقرأ بالاستفهام فيهما من غير إدخال ألف بين الهمزتين مع تحقيق الأولى وتسهيل الثانية فيهما، وأبو عمرو كذلك مع إدخال ألف بينهما، وابن عامر في الأول بهمزة مكسورة بعدها ذال مفتوحة على الخبر، وفي الثاني بهمزة مفتوحة محققة وهمزة مكسورة محققة على الاستفهام، وأدخل هشام بينهما ألفاً بخلاف عنه، والباقون بهمزتين محققتين الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة ولا ألف بينهما في الموضعين.
فائدة: جميع ما في القرآن من ذلك أحد عشر موضعاً في تسع سور، والأحد عشر مكرّرة فتصير اثنين وعشرين، في هذه السورة موضع، والثاني والثالث في سورة الإسراء، والرابع في المؤمنون، والخامس في النمل، والسادس في العنكبوت، والسابع في السجدة،(2/147)
والثامن والتاسع في الصافات، والعاشر في الواقعة، والحادي عشر في النازعات. وأذكر إن شاء الله تعالى في كل سورة من السور المذكورة مذهبهم في محله.
{أولئك} ، أي: الذين جمعوا أنواعاً من البعد من كل خير {الذين كفروا بربهم} ، أي: غطوا ما يجب إظهاره بسبب الاستهانة بالذي بدأ خلقهم، ثم رباهم بأنواع اللطف، فإذا أنكروا معادهم فقد أنكروا بدأهم {وأولئك} البعداء البغضاء {الأغلال} يوم القيامة {في أعناقهم} بسبب كفرهم، والغل: طوق من حديد تقيد به اليد في العنق، وقيل: المراد بالأغلال ذلهم وانقيادهم يوم القيامة كما يقاد الأسير الذليل بالغل، وقيل: إنهم مقيدون بالضلال لا يرجى فلاحهم. {وأولئك} ، أي: الذين لا خسارة أعظم من خسارتهم {أصحاب النار هم فيها خالدون} ، أي: ثابت خلودهم دائماً لا يخرجون منها ولا يموتون. ولما كان صلى الله عليه وسلم يهدّدهم تارة بعذاب يوم القيامة وتارة بعذاب الدنيا، والقوم كلما هدّدهم بعذاب يوم القيامة أنكروا القيامة والبعث والحشر والنشر، وهو الذي تقدّم ذكره في الآية الأولى، وكلما هدّدهم بعذاب الدنيا قالوا له: فجئنا بهذا العذاب، وطلبوا منه إظهاره وإنزاله على سبيل الطعن وإظهار أنّ الذي يقول كلام لا أصل له نزل:
{ويستعجلونك} ، أي: استهزاء وتكذيباً، والاستعجال طلب التعجيل، وهو تقديم الشيء قبل وقته الذي يقدر له {بالسيئة} ، أي: العذاب {قبل الحسنة} ، أي: الرحمة، وذلك أنّ مشركي مكة كانوا يقولون: اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذا أليم.
تنبيه: قوله {قبل الحسنة} فيه وجهان: أحدهما: متعلق بالاستعجال ظرفاً له والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال مقدرة من السيئة قاله أبو البقاء. {وقد} ، أي: والحال أنه قد {خلت من قبلهم المثلات} جمع مثلة بفتح الميم وضم المثلثة كصدقة وصدقات، أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين أفلا يعتبرون بها. {وإنّ ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} وإلا لم يترك على ظهرها دابة كما قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} (فاطر، 45) . وقال ابن عباس: معناه لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا. {وإنّ ربك لشديد العقاب} للمصرين على الشرك الذين ماتوا عليه. وقال مقاتل: إنه لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب عنهم، وشديد العقاب إذا عاقب. ولما بين سبحانه وتعالى أنّ الكفار طعنوا في نبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبب طعنهم في الحشر والنشر أوّلاً، ثم طعنوا في نبوّته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال ثانياً، ثم طعنوا في نبوّته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة. ثالثاً، وهو المذكور في قوله تعالى:
{ويقول الذين كفروا لولا} ، أي: هلا {أنزل عليه} ، أي: محمد صلى الله عليه وسلم {آية من ربه} ، أي: مثل عصا موسى وناقة صالح وذلك؛ لأنهم أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات، وقالوا: هذا كتاب مثل سائر الكتب، وإتيان الإنسان بتصنيف معين وكتاب معين لا يكون معجزاً مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم راغباً في إجابة مقترحاتهم لشدّة التفاته إلى إيمانهم قال الله تعالى له: {إنما أنت منذر} ، أي: ليس عليك إلا الإنذار والتخويف، وليس عليك إتيان الآيات. {ولكل قوم هاد} ، أي: نبيّ يدعوهم إلى ربهم بما يعطيه من الآيات لا بما يقترحون.(2/148)
وقرأ ابن كثير في الوقف بياء بعد الدال، وفي الوصل بغير ياء وتنوين الدال، والباقون بغير ياء في الوقف والوصل مع تنوين الدال. ولما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات أخبرهم الله تعالى عن عظيم قدرته وكمال علمه بقوله تعالى:
{الله يعلم ما تحمل كل أنثى} من ذكر وغيره وواحد ومتعدّد وغير ذلك {وما تغيض} ، أي: تنقص {الأرحام} من مدّة الحمل {وما تزداد} ، أي: من مدّة الحمل فقد تكون سبعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند الإمام أبي حنيفة، وإلى اربع عند الإمام الشافعي، وإلى خمس عند الإمام مالك رضي الله تعالى عنهم.
وقيل: إنّ الضحاك ولد لسنتين وهرم بن حيان بقي في بطن أمّه أربع سنين، ولذلك سمي هرماً. وقيل: ما تنقصه الرحم من الأولاد وتزيده منهم. يروى أنّ شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمّه. وقيل: من نقصان الولد فيخرج ناقصاً والزيادة تمام خلقه. وقيل: ما تنقص بالسقط عن أن يتم وما يزداد بالتمام. وقيل: ما تنقص بظهور دم الحيض، وذلك أنه إذا سال الدم في وقت الحمل ضعف الولد ونقص بمقدار حصول ذلك. قال ابن عباس: كلما سال الحيض في وقت الحمل يوماً زاد في مدّة الحمل يوماً ليحصل الجبر ويعتدل الأمر والآية تحتمل جميع ذلك إذ لا تنافي في هذه الأقوال. ويدل لذلك قوله تعالى: {وكل شيء} من هذا وغيره من الآيات المقترحات وغيرها {عنده} ، أي: في علمه وقدرته {بمقدار} في كيفيته وكميته لا يجاوزه ولا يقصر عنه لأنه تعالى عالم بكيفية كل شيء وكميته على الوجه المفصل المبين.
تنبيه: قوله تعالى: {عنده} يجوز أن يكون مجرور المحل صفة لشيء أو مرفوعه صفة لكل أو منصوبه ظرفاً لقوله: {بمقدار} أو ظرفاً للاستقرار الذي تعلق به الجار لوقوعه خبراً.
{عالم الغيب} وهو ما غاب عن كل مخلوق {والشهادة} وهو ما شاهدوه، وقيل: الغيب هو المعدوم والشهادة هو الموجود. وقيل: الغيب ما غاب عن الحس، والشهادة ما حضر في الحس {الكبير} ، أي: العظيم {المتعال} عن خلقه بالقهر المنزه عن صفات النقص فهو تعالى موصوف بالعلم الكامل والقدرة التامّة. وقرأ ابن كثير في الوقف والوصل بياء بعد اللام، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً. ولما كان علمه تعالى شاملاً لجميع الأشياء قال تعالى:
{سواء منكم} ، أي: في علمه تعالى {من أسرّ القول} ، أي: أخفى معناه في نفسه {ومن جهر به} ، أي: أظهره فقد استوى في علمه تعالى المسرّ بالقول والجاهر به {ومن هو مستخف} ، أي: مستتر {بالليل} ، أي: بظلامه {وسارب} ، أي: ظاهر بذهابه في سربه {بالنهار} والسرب: بفتح السين وسكون الراء الطريق، وقال ابن عباس: سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة، وقال مجاهد: سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليل، ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التواري والضمير في.
{له} يعود إلى من في قوله {سواء منكم من أسّر القول ومن جهر به ومن هومستخف بالليل} أو للإنسان {معقبات} ، أي: ملائكة تعقبه، والذي عليه الجمهور أنّ المراد بالملائكة الحفظة، وإنما صح وصفهم بالمعقبات إما لأجل أن ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار، وبالعكس وإما لأجل أنهم يتعقبون أعمال العباد ويبتغونها بالحفظ والكتب وكل من عمل عملاً، ثم عاد إليه فقد عقب، فعلى هذا المراد من المعقبات ملائكة الليل والنهار، روي عن عثمان أنه قال يا رسول الله أخبرني(2/149)
عن العبد كم معه من ملك فقال صلى الله عليه وسلم «ملك عن يمينك للحسنات وهو أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشراً وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال لصاحب اليمين: اكتب قال: لا لعله أن يتوب أو يستغفر فيستأذنه ثلاث مرات فإذا قال ثلاثاً قال اكتب أراحنا الله منه. فبئس القرين ما أقل مراقبته لله واستحيائه منا فهو قوله تعالى {له معقبات} {من بين يديه} ، أي: قدّامه {ومن خلفه} ، أي: ورائه، وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لربك رفعك، وإن تجبرت قصمك وملكان على شفتيك يحفظان عليك الصلاة، وملك على فيك، لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهذه عشرة أملاك على كل أدمي» ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فهم عشرون ملكاً على كل آدمي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله تعالى وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون» . وقال مجاهد: ما من عبد إلا وله ملك موكل يحفظه من الجن والأنس والهوام في نومه ويقظته، فإن قيل: الملائكة ذكور فلم ذكروا في جمع الإناث وهو المعقبات؟ أجيب: بجوابين: الأول: قال الفراء: المعقبات ملائكة معقبة واحدها معقب ثم جمعت معقبة بمعقبات كما قيل أبناآت ورجالات جمع أبناء ورجال والذي على التذكير قوله تعالى: {يحفظونه} والثاني: وهو قول الأخفش إنما أنث لكثرة ذلك منها نحو نسابة وعلامة وهو ذكر، واختلف في المراد من قوله تعالى: {من أمر الله} على أقوال:
أحدها: إنه على التقديم والتأخير، والتقدير له معقبات من أمر الله يحفظونه.
ثانيها: أنّ فيه إضماراً، أي: ذلك الحفظ من أمر الله، أي: مما أمر الله تعالى به فحذف الاسم وأبقى خبره.
وثالثهما: أنّ كلمة من معناها الباء والتقدير يحفظونه بأمر الله وبإعانته، وقال كعب الأحبار: لولا أنّ الله تعالى وكّل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجنّ، وقال ابن جريج: معنى يحفظونه، أي: يحفظون عليه الحسنات والسيئات، فإن قيل: ما الفائدة في تخصيص هؤلاء الملائكة مع بني آدم وتسليطهم عليهم؟ أجيب: بأن الإنسان إذا علم أنَّ الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب؛ لأنّ من اعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم، فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها زجره الحياء منهم عن الإقدام إليها كما يزجره إذا حضر من يعظمه من البشر، وإذا علم أنّ الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال، كان ذلك أيضاً ردعاً له عنها، وإذا علم أنّ الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل. ولما دل ذلك على غاية القدرة والعظمة قال تعالى: {إنّ الله} مع قدرته {لا يغير ما بقوم} ، أي: لا يسلبهم نعمته {حتى يغيروا ما} ، أي: الذي {بأنفسهم} من الأحوال الجميلة إلى الأحوال القبيحة {وإذا أراد الله بقوم سوءً} ، أي: هلاكاً وعذاباً {فلا مردّ له} أي لا يقدر أحد لا من المعقبات ولا من غيرها أن يرد مانزل بهم من قضائه وقدره {ومالهم} ، أي: إن أراد الله بهم سواءً {من دونه} ، أي: غير الله {من وال} يلي أمرهم وينصرهم ويمنع العذاب عنهم، وقرأ ابن كثير في الوقف بإثبات الياء بعد اللام دون(2/150)
الوصل، والباقون بغير ياء بعد اللام وقفاً ووصلاً. ولما خوّف الله تعالى بقوله: {وإذا أراد الله بقوم سوءً} اتبعه بذكر آيات تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه، وتشبه العذاب والقهر من بعض الوجوه بقوله تعالى:
{هو الذي يريكم البرق خوفاً} ، أي: للمسافرين من الصواعق {وطمعاً} ، أي: للمقيم في المطر، وقيل: إنّ كل شيء يحصل في الدنيا يحتمل الخير والشر، فهو خير بالنسبة إلى قوم وشر بالنسبة إلى آخرين، فكذلك المطر خير في حق من يحتاج إليه في أوانه وشر في حق من يضرّه ذلك إما بحسب المكان وإما بحسب الزمان، والبرق معروف وهو لمعان يظهر من بين السحاب {وينشىء} ، أي: يخلق {السحاب الثقال} ، أي: بالمطر. تنبيه خوفاً وطمعاً مصدران ناصبهما محذوف، أي: تخافون خوفاً وتطمعون طمعاً، ويجوز غير ذلك، والسحاب قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: غربال الماء وهو غيم ينسحب في السماء، وهو اسم جنس جمعي واحده سحابة وأكثر المفسرين على أنّ الرعد في قوله تعالى:
{ويسبح الرعد بحمده} على أنه اسم للملك الذي يسوق السحاب والصوت المسموع منه تسبيحه ولا يردّ ذلك عطف الملائكة عليه في قوله تعالى: {والملائكة} ، أي: تسبحه {من خيفته} ، أي: الله؛ لأنه أفرد بالذكر تشريفاً له، كما في قوله تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة، 98) . قال ابن عباس: «أقبلت يهود على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ فقال: ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب» . قال ابن الأثير: والمخاريق جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف ويضرب به الصبيان بعضهم بعضاً وهي آلة تزجر بها الملائكة السحاب وتسوقه، وقد جاء تفسير المخراق في حديث آخر، وهو سوط من نور تزجر به الملائكة السحاب. وعن ابن عباس أنه قال: من سمع صوت الرعد فقال: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير، فإن أصابته صاعقة فعليّ ديته. وعن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع صوت الرعد ترك الحديث وقال: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته. وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى: «لو أنّ عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل وأطلعت الشمس عليهم بالنهار ولم أسمعهم صوت الرعد» . وفي رواية عن ابن عباس: الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقه حيث يؤمر وأنه يحوز الماء في نقرة إبهامه، وأنه يسبح الله تعالى إذا سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر. وعن الحسن أنّ الرعد خلق من خلق الله ليس بملك، وقد اختلفت الروايات في ذلك، ففي بعضها أنه ملك موكل بالسحاب، وفي بعضها أنه ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه، وفي بعضها أنه ملك يسوق السحاب بالتسبيح كما يسوق الحادي الإبل بحدائه، وفي بعضها: أنه ملك سمي به وهو الذي تسمعون صوته، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك في البقرة، وقيل: هؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله تعالى له أعواناً، فهم خائفون خاضعون طائعون، وقيل: المراد
بهم جميع الملائكة واستظهر وقوله تعالى: {ويرسل الصواعق} جمع صاعقة وهي العذاب المهلك تنزل من البرق فتحرق من تصيبه {فيصيب بها من يشاء} فيهلكه {وهم يجادلون في الله} حيث يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم والتكذيب التشديد في الخصومة.
روي «أنّ عامر(2/151)
بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدين لقتله فأخذه عامر بالمجادلة ودار أربد من خلفه ليضربه بالسيف فتنبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهمّ اكفنيهما بما شئت. فأرسل الله تعالى على أربد صاعقة فقتلته، ورمى عامر بغدة فمات في بيت سلولية فكان يقول: غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية فنزلت» . «وعن الحسن أنه قال: كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم نفراً يدعونه إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: أخبروني عن رب محمد الذي تدعونني إليه مم هو؟ أمن ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته فانصرفوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا رجلاً أكفر قلباً ولا أعتى على الله منه. فقال صلى الله عليه وسلم ارجعوا، إليه فرجعوا إليه فجعل لا يزيدهم على مقالته الأولى وقال: أجيب محمد إلى رب لا أراه ولا أعرفه فانصرفوا وقالوا: يا رسول الله، ما زادنا على مقالته الأولى وأخبث فقال: ارجعوا إليه فرجعوا فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه وهو يقول هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم فرعدت وبرقت ورمت بصاعقة فأحرقت الكافر وهم جلوس فجاؤوا يسعون ليخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبلهم قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: احترق صاحبكم فقالوا: من أين علمتم؟ فقالوا: أوحى الله تعالى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله} » . {وهو شديد المحال} واختلف المفسرون في قوله تعالى: {وهو
شديد المحال}
فقال عليّ رضي الله عنه: شديد الأخذ. وقال ابن عباس: شديد الحول. وقال مجاهد: شديد القوة. وقال أبو عبيدة: شديد القوة والمغالبة. واختلف في قوله تعالى:
{له} ، أي: الله {دعوة الحق} فقال عليّ: دعوة الحق التوحيد. وقال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله. وقال الحسن: الحق هو الله تعالى وكل دعاء إليه دعوة الحق. {والذين يدعون} ، أي: وهم الكفار. {من دونه} ، أي: غير الله وهي الأصنام {لا يستجيبون} ، أي: الأصنام {لهم} ، أي: الكفار {بشيء} مما يطلبونه من نفع أو دفع ضر {إلا} ، أي: الاستجابة {كباسط} ، أي: كاستجابة باسط {كفيه إلى الماء} ، أي: على شفير البئر يدعوه {ليبلغ فاه} ، أي: بارتفاعه من البئر إليه {وما هو} ، أي: الماء {ببالغه} ، أي: فاه أبداً؛ لأنه جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر على إجابته، فكذلك ما هم بمستجيبين لهم أبداً؛ لأنّ أصنامهم كذلك، وقيل: شبهوا في قلة فائدة دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فبسط كفيه ناشراً أصابعهما، ولم يصل كفاه إلى ذلك الماء ولم يبلغ مطلوبه من مشربه، ثم أنه تعالى عمم في أنه لا يستجاب لهم بقوله تعالى: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} ، أي: ضياع لا منفعة فيه؛ لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم وإن دعوا آلهتهم لم تستطع إجابتهم، وقيل: المراد بالدعاء في الحالين العبادة وقوله تعالى:
{ولله يسجد من في السموات والأرض} يحتمل أن يراد به السجود على حقيقته وهو وضع الجبهة، وعلى هذا فيكون قوله تعالى: {طوعاً} للملائكة والمؤمنين من الثقلين حالتي الشدّة والرخاء وقوله تعالى: {وكرهاً} للكافرين والمنافقين الذين أكرهوا على السجود بالسيف وأن يراد به التعظيم والاعتراف بالعبودية، فكل من السموات والأرض معترف بعبودية الله(2/152)
تعالى كما قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله} (الزخرف، 87) وأن يراد به الانقياد والخضوع وترك الامتناع، وكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى؛ لأنّ قدرته ومشيئته نافذة في الكل.
تنبيه: قوله تعالى: {طوعاً وكرهاً} إمّا مفعول من أجله وإمّا حال، أي: طائعين وكارهين. واختلف في تفسير قوله تعالى: {وظلالهم بالغدوّ} ، أي: البكر {والآصال} ، أي: العشايا، أي: تسجد فقال أكثر المفسرين: كل شخص سواء كان مؤمناً أو كافراً، فإن ظله يسجد لله. قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد لله تعالى وهو طائع، وظل الكافر يسجد لله تعالى وهو كاره. وقال الزجاج: جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله. قال ابن الأنباريّ: ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال عقولاً وأفهاماً تسجد بها لله وتخشع. وقيل: المراد من سجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب وطولها بسبب انحطاط الشمس وقصرها بسبب ارتفاع الشمس وهي منقادة مسلسلة في طولها وقصرها وميلها من جانب إلى جانب. وإنما خص الغدوّ والآصال بالذكر؛ لأنّ الظلال إنما تعظم وتكثر في هذين الوقتين.
تنبيه: الغدوّ جمع غداة كقنى وقناة، والآصال جمع الأصل، والأصل جمع أصيل، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس. ولما بيّن تعالى أن كل من في السموات والأرض ساجد لله تعالى عدل إلى الردّ على عباد الأصنام بقوله تعالى:
{قل} يا أشرف الخلق على الله تعالى لقومك {من رب السموات والأرض} ، أي: من مالكهما وما فيهما ومدبرهما وخالقهما؟ {قل الله} ، أي: أجب عنهم بذلك إن لم يقولوه، ولا جواب لهم غيره، ولأنه البين الذي لا يمكن المراء فيه ولقنهم الجواب به. وروي أنه لما قال للمشركين ذلك عطفوا عليه وقالوا: أجب أنت فأمره الله تعالى، فأجاب بذلك، ثم ألزمهم الحجة على عبادتهم الأصنام بقوله تعالى: {قل} لهم {أفاتخذتم من دونه} ، أي: غير الله {أولياء} ، أي: أصناماً تعبدونها {لا يملكون لأنفسهم نفعاً} يجلبونه {ولا ضرّاً} يدفعونه فكيف يملكون لكم ذلك؟ وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار الذال في اتخذتم عند التاء، والباقون بالإدغام، ثم ضرب الله تعالى مثلاً للمشركين الذين يعبدون الأصنام والمؤمنين الذين يعبدون الله فقال تعالى: {قل هل يستوي الأعمى والبصير} قال ابن عباس: يعني المشرك والمؤمن، وإنما مثل الكافر بالأعمى؛ لأنه لا يهتدي سبيلاً، فكذلك الكافر لا يهتدي سبيلاً. ثم ضرب الله مثلاً للإيمان والكفر بقوله تعالى: {أم هل تستوي الظلمات} ، أي: الكفر {والنور} ، أي: الإيمان؟ الجواب: لا. وقرأ شعبة وحمزة والكسائي {يستوي} بالياء على التذكير، والباقون بالتاء على التأنيث، وأمّا اللام من هل هنا فلا تدغم على القراءتين. {أم جعلوا لله شركاء} والهمزة للانكار، وقوله تعالى: {خلقوا كخلقه} صفة شركاء، أي: خلقوا سموات وأرضين وشمساً وقمراً وجبالاً وبحاراً وجناً وإنساً. {فتشابه الخلق} ، أي: خلق الشركاء بخلق الله {عليهم} من هذا الوجه فلا يدرون ما خلق الله ولا ما خلق آلهتهم، فاعتقدوا استحقاق عبادتهم بخلقهم، وهذا استفهام إنكار، أي: ليس الأمر كذلك ولا يستحق العبادة إلا الخالق. ولما كان من المعلوم قطعاً أن جوابهم أن الخلق كله لله لزمتهم الحجة فقال تعالى: {قل} لهؤلاء المشركين {الله خالق كل شيء} ، أي: مما يصح أن يكون مخلوقاً، فهو من العموم الذي يراد به(2/153)
الخصوص، فلا يدخل
في ذلك صفات الله تعالى، وإذا كان لا خالق غيره فلا يشاركه في العبادة أحد، فوجب أن ينفرد بالإلهية كما قال تعالى: {وهو الواحد} ، أي: الذي لا يجانسه شيء، وكل ما سواه لا يخلو عن مماثل يماثله، وأين رتبة من يماثل من رتبة من لا مثل له؟ {القهار} الذي كل شيء تحت قهره، فيدخل تحت قضائه ومشيئته وإرادته، ثم ضرب تعالى مثلاً للحق والباطل بقوله تعالى:
{أنزل من السماء} ، أي: السحاب أو السماء نفسها {ماء} ، أي: مطراً {فسالت أودية} ، أي: أنهار جمع واد، وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع فيه، واستعمل للماء الجاري فيه، وتنكيرها؛ لأنّ المطر يأتي على تناوب بين البقاع {بقدرها} ، أي: بمقدارها الذي علم الله تعالى أنه نافع غير ضارّ، أو بمقداره في الصغر والكبر. {فاحتمل السيل زبداً رابياً} ، أي: عالياً هو ما على وجهه من قذر ونحوه {ومما توقدون عليه من النار} ، أي: من جواهر الأرض الذهب والفضة والنحاس والحديد {ابتغاء} ، أي: طلب {حلية} ، أي: زينة {أو متاع} ، أي: ينتفع به كالأواني إذا أذيبت، وآلات الحرب والحرث، والمقصود من هذا بيان منافعها {زبد مثله} ، أي: مثل زبد السيل، وهو خبثه الذي ينفيه الكير، ومن للابتداء أو للتبعيض. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة على أن الضمير للناس وإضماره للعلم به، والباقون بالتاء على الخطاب {كذلك} ، أي: مثل هذا الضرب العلي الرتب المتبين السبب {يضرب الله} ، أي: الذي له الأمر كله {الحق والباطل} ، أي: مثلهما، فإنه تعالى مثل الحق في إفادته وثباته بالماء الذي ينزل من السماء، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة، فيننتفع به أنواع المنافع، ويمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه، ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنيّ والآبار، ومثل الباطل في قلة نفعه وسرعة زواله بزبدهما وهو قوله تعالى: {فأما الزبد} ، أي: من السيل وما أوقد عليه من الجواهر {فيذهب جفاء} .
قال أبو حيان: مضمحلاً، أي: متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له. وقال ابن الأنباري: متفرّقاً، وانتصابه على الحال. {وأما ما ينفع الناس} من الماء ومن الجواهر الذي هو مثل الحق. {فيمكث في الأرض} ، أي: يثبت ويبقى لينتفع به أهلها {كذلك} ، أي: مثل ذلك الضرب {يضرب} ، أي: يبين {الله} الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة {الأمثال} فيجعلها في غاية الوضوح، وإن كانت في غاية الغموض. قال أهل المعاني: هذا مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل، فالباطل وإن علا على الحق في بعض الأوقات والأحوال، فإن الله يمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو على الماء، فيذهب الزبد فيبقى الماء الصافي الذي ينفع، وكذلك الصفو من هذه الجواهر يبقى، ويذهب العلو الذي هو الكدر وهو ما ينفيه الكير مما يذاب من جواهر الأرض كذلك الحق والباطل. وقيل: هذا مثل للمؤمن واعتقاده وانتفاعه بالإيمان كمثل الماء الصافي الذي ينتفع به الناس، ومثل الكافر وخبث اعتقاده كمثل الزبد الذي لا ينتفع به البتة. ثم إنه تعالى لما ذكر الحق والباطل ذكر ما لأهلهما من الثواب والعقاب فقال تعالى:
{للذين استجابوا لربهم} ، أي: أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعدل والنبوّة وبعث الأموات، والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم {الحسنى} قال ابن عباس وقال أهل المعاني: الحسنى(2/154)
هي المنفعة العظمى في الحسن، وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرّة الدائمة الخالصة عن الانقطاع المقرونة بالتعظيم والإجلال، ولم يذكر تعالى الزيادة هاهنا؛ لأنه تعالى ذكرها في سورة أخرى وهي قوله تعالى {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس، 26) هذا ما لأهل الحق، وأمّا ما لأهل الباطل فهو ما ذكره بقوله جل من قائل: {والذين لم يستجيبوا له} وهم الكفرة فلهم أنواع ثلاثة من العذاب والعقوبة، فالنوع الأوّل قوله تعالى: {لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به} ، أي: جعلوه فكاك أنفسهم بغاية جهدهم؛ لأنّ المحبوب بالذات لكل إنسان هو ذاته، وكل ما هو سواه فهو إنما يحبه لكونه وسيلة إلى مصالح ذاته، فإذا كانت النفس في الضر والألم والتعب وكان مالكاً لما يساوي عالم الأجناس والأرواح، فإنه يرضى بأن يجعله فداء نفسه؛ لأنّ المحبوب بالعرض لا بدّ وأن يكون فداء لما كان محبوباً بالذات، والكناية في به عائدة إلى ما في قوله ما في الأرض.d
والنوع الثاني من أنواع العذاب الذي أعده الله تعالى لهم ما ذكره بقوله تعالى: {أولئك لهم سوء الحساب} وهو المناقشة فيه، وعن النخعي بأن يحاسب العبد بذنبه كله لا يغفر منه شيء، وإنما نوقشوا؛ لأنهم أحبوا الدنيا وأعرضوا عن المولى، فلما ماتوا بقوا محرومين عن معشوقهم الذي هو الدنيا وبقوا محرومين من الفوز بسعادة خدمة المولى.
والنوع الثالث من عقوباتهم ما ذكره بقوله تعالى: {ومأواهم} ، أي: مرجعهم {جهنم} وذلك لأنهم كانوا غافلين عن الاشتغال بخدمة المولى عاشقين للذات الدنيا، فإذا ماتوا فارقوا معشوقهم، فيحترقون على مفارقتها، وليس عندهم شيء آخر يجبر هذه المصيبة، فلذلك كان مأواهم جهنم. ثم إنه تعالى وصف هذا المأوى بقوله عز من قائل: {وبئس المهاد} ، أي: الفراش، والمخصوص بالذم محذوف، أي: جهنم. ونزل في حمزة وأبي جهل، وقيل: في عمار وأبي جهل.
{أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق} ، أي: يؤمن به ويعمل بما فيه، وهو حمزة أو عمار رضي الله تعالى عنهما. {كمن هو أعمى} ، أي: أعمى البصيرة ولا يؤمن به ولا يعمل بما فيه وهو أبو جهل، قال ابن الخازن في تفسيره: وحمل الآية على العموم أولى، وإن كان السبب مخصوصاً، والمعنى: لا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ومن هو لا يبصر الحق ولا يتبعه، وإنما شبه الكافر والجاهل بالأعمى؛ لأنّ الأعمى لا يهتدي لرشد {إنما يتذكر} ، أي: يتعظ {أولو الألباب} ، أي: أصحاب العقول الذين يطلبون من كل صورة معناها، ويأخذون من كل قشرة لبابها، ويعبرون من ظاهر كل حديث إلى سره ولبابه.
{الذين يوفون بعهد الله} ، أي: ما عاقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته حين قالوا: بلى، أو ما عهد الله تعالى عليهم في كتبه. {ولا ينقضون الميثاق} ، أي: ما واثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى، وبينهم وبين العباد، فهو تعميم بعد تخصيص.
{والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} ، أي: من الإيمان والرحم وغير ذلك، والأكثرون على أنه أراد به صلة الرحم. عن أبي موسى أنّ عبد الرحمن بن عوف عاد أبا الدرداء فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فيما يحكي عن ربه تعالى: «أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته، أو قال: بتته» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الرحم متعلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» . وعن(2/155)
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يبسط في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه» . ومعنى ينسأ يؤخر، والمراد به تأخير الأجل، وفيه قولان:
أحدهما وهو المشهور: أنه يزاد في عمره زيادة حقيقية.
والثاني: يبارك له في عمره فكأنه قد زيد فيه. وعن ابن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وصلها» . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تأتي يوم القيامة لها ألسنة ذلقة الرحم فتقول: أي: رب قطعت والأمانة تقول: أي رب تركت والنعمة تقول: أي: رب كفرت» . وعن الفضيل بن عياض أنّ جماعة دخلوا عليه بمكة فقال: من أين أنتم؟ فقالوا: من خراسان. قال: اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أنّ العبد لو أحسن كل الإحسان وكان له دجاجة، فأساء إليها لم يكن من المحسنين.
{ويخشون ربهم} ، أي: وعيده عموماً، والخشية خوف يشوبه تعظيم {ويخافون سوء الحساب} خصوصاً فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا {والذين صبروا} ، أي: على طاعة الله تعالى وعن معاصيه وفي كل ما ينبغي الصبر فيه. وقال ابن عباس: صبروا على أمر الله. وقال عطاء: على المصائب والنوائب. وقيل: صبروا عن الشهوات وعن المعاصي، ومرجع الكل واحد فإنّ الصبر الحبس، وهو تجرع مرارة منع النفس عما تحب مما لا يجوز فعله {ابتغاء} ، أي: طلب {وجه ربهم} ، أي: رضاه لا طلب غيره من جور أو سمعة أو رياء أو لغرض من أغراض الدنيا أو نحو ذلك {وأقاموا الصلاة} ، أي: المفروضة، وقيل: مطلق الصلاة، فيدخل فيه الفرض والنفل.
{وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية} قال الحسن: المراد به الزكاة، فإن لم يتهم بترك الزكاة فالأولى أن يؤدّيها سرًّا، وإن كان يتهم بترك أدائها، فالأولى أن يؤدّيها علانية، وقيل: المراد بالسر صدقة التطوّع، وبالعلانية الزكاة. وقيل: المراد بالسر ما يؤدّيه من الزكاة بنفسه وبالعلانية ما يدفعه إلى الإمام. {ويدرؤون} ، أي: يدفعون {بالحسنة السيئة} كالجهل بالحلم والأذى بالصبر. روي عن ابن عباس قال: يدفعون بالصالح من العمل السيء من العمل، وهو معنى قوله تعالى: {إنّ الحسنات يذهبن السيئات} (هود، 114) وقوله صلى الله عليه وسلم «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية» . وعن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل عليه درع ضيق قد خنقه ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض» . وقال ابن عباس: يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سوء غيرهم. وعن الحسن إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وعن ابن عمر: ليس الواصل من وصل، ثم وصل تلك مجازاة لكن من قطع ثم وصل وعطف من لم يصله، وليس الحليم من ظلم، ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج لكن الحليم من قدر ثم عفا. وعن ابن كيسان إذا أذنبوا تابوا، وقيل: إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره، وروي أنّ شقيقاً البلخي دخل على ابن المبارك متنكراً فقال له: من أين أنت؟ فقال: من بلخ. فقال: وهل تعرف شقيقاً؟ قال: نعم. فقال: وكيف طريقة أصحابه؟ قال: إذا منعوا صبروا وإذا أعطوا شكروا. فقال ابن المبارك: طريقة كلابنا هكذا. فقال شقيق: فكيف ينبغي أن يكون الأمر؟ فقال: الكاملون(2/156)
هم الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا. {أولئك} ، أي: العالو الرتبة {لهم عقبى الدار} وبينها تعالى بقوله:
{جنات عدن} ، أي: إقامة لا انفكاك لها يقال: عدن بالمكان إذا أقام به، ثم استأنف بيان تمكنهم بها بقوله تعالى: {يدخلونها} ولما كانت الدار لا تطيب بدون الأحبة قال تعالى عاطفاً على الضمير المرفوع: {ومن صلح من آبائهم} ، أي: الذين كانوا سبباً في إيجادهم، فيشمل ذلك الآباء والأمهات وإن علوا {وأزواجهم وذرياتهم} ، أي: الذين تسببوا عنهم، والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم، وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعاً لهم وتعظيماً لشأنهم، ويقال: إنّ من أعظم موجبات سرورهم أن يجتمعوا فيتذاكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكروا الله تعالى على الخلاص منها والفوز بالجنة، ولذلك قال الله تعالى في صفة أهل الجنة أنهم يقولون: {يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} (يس: 26، 27) . وفي ذلك دليل على أنّ الدرجة تعلو بالشفاعة، وأن الموصوفين بتلك الصفات يقترن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة زيادة في أنسهم، والتقييد بالصلاح دلالة على أنّ مجرد الأنساب لا تنفع.
وفسر ابن عباس الصلاح بالتصديق فقال: يريد من صدّق بما صدّقوا وإن لم يعمل مثل أعمالهم، قال الرازي: قوله {وأزواجهم} ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه، وما روي عن سودة أنها لما همّ الرسول صلى الله عليه وسلم بطلاقها قالت: دعني يا رسول الله أحشر في جملة نسائك. كالدليل على ما ذكرنا اه. وعلى هذا من تزوجت بغيره قيل: إنها تتخير بينهما، ثم زاد تعالى في ترغيبهم بقوله تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم} لأنّ الإكثار من ترداد رسل الملك أعظم في الفخر وأكثر في السرور والعز. ولما كان إتيانهم من الأماكن المعتادة مع القدرة على غيرها أدل على الأدب والكرم قال تعالى: {من كل باب} قال ابن عباس: لهم خيمة من درّة مجوّفة طولها فرسخ وعرضها فرسخ لها ألف باب مصارعها من ذهب يدخلون عليهم من كل باب يقولون لهم:
{سلام عليكم} ، أي: فأضمر القول هنا لدلالة الكلام عليه {بما صبرتم} على أمر الله، والباء للسببية، أي: بسبب صبركم، أو البدلية، أي: بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه. فإن قيل: بم يتعلق قوله {بما صبرتم} قال الزمخشري: بمحذوف تقديره: هذا بما صبرتم، وقال البيضاوي: متعلق بعليكم أو بمحذوف لا بسلام، فإن الخبر فاصل مع أنّ الزمخشري قال ويجوز أن يتعلق بسلام، أي: نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم، وهذا أظهر وردّ الأول بأن الممنوع منه إنما هو المصدر المؤوّل بحرف مصدري، وفعل والمصدر هنا ليس كذلك.
ولما تم ذلك تسبب عنه قوله تعالى: {فنعم عقبى الدار} وهي المسكن في قرار المهيأ بالأبنية التي يحتاج إليها، والمرافق التي ينتفع بها، والعقبى الإنتهاء الذي يؤدي إليه الابتداء من خير أو شر، والمخصوص بالمدح محذوف، أي: عقباكم. ولما ذكر تعالى صفات السعداء ومايترتب عليها من الأحوال الشريفة العالية أتبعها بذكر أحوال الأشقياء، وذكر مايترتب عليها من الأحوال المخزية المكربة، وأتبع الوعد بالوعيد والثواب بالعقاب؛ ليكون البيان كاملاً فقال تعالى:
{والذين ينقضون عهد الله} ، أي: فيعملون بخلاف موجبه، والنقض التفريق الذي ينفي تأليف البناء {من بعد ميثاقه} ، أي: الذي أوثقه عليهم من الإقرار والقبول(2/157)
{ويقطعون ما} ، أي: الذي {أمر الله به أن يوصل} وذلك في مقابلة قوله من قبل {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} (الرعد، 21) فجعل من صفات هؤلاء القطع بالضد من ذلك الوصل، والمراد به قطع ما يوجب الله تعالى وصله، أي: لما له من المحاسن الجلية والخفية التي هي عين الصلاح، ويدخل في ذلك وصل الرسول صلى الله عليه وسلم بالموالاة والمعاونة، ووصل المؤمنين ووصل الأرحام، ووصل سائر من له حق {ويفسدون} ، أي: يوقعون الفساد {في الأرض} ، أي: في أي جزء كان منها بالظلم وتهييج الفتن، والدعاء إلى غير دين الله تعالى {أولئك} أي البعداء البغضاء {لهم اللعنة} ، أي: الطرد والبعد {ولهم سوء الدار} والدار لهم هي جهنم، وليس لهم فيها إلا ما يسوء الصائر إليها. ولما حكم تعالى على من نقض عهده في قبول التوحيد والنبوّة بأنهم ملعونون في الدنيا ومعذبون في الآخرة، فكأنه قيل: لو كانوا أعداء الله تعالى لما فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا فأجاب الله تعالى بقوله تعالى:
{الله يبسط الرزق} ، أي: يوسعه {لمن يشاء ويقدر} ، أي: يضيقه على من يشاء سواء في ذلك الطائع والعاصي ولا تعلق لذلك بالكفر والإيمان فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن ويوجد المؤمن موسعاً عليه دون الكافر فالدنيا دار امتحان ولما كانت السعة مظنة الفرح إلا عند من وفقه الله تعالى قال الله تعالى: {وفرحوا} ، أي: كفار مكة فرح بطر {بالحياة الدنيا} ، أي: بما نالوه فيها لا فرح سرور بفضل الله والعافية عليهم ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة {وما الحياة الدنيا} ، أي: بكمالها {في الآخرة} ، أي: في جنبها {الامتاع} ، أي: حقير متلاش يتمتع به ويذهب كعجالة الراكب وهي ما يتعجله من تميرات أو شربة ماء سويق أو نحو ذلك.
{ويقول الذين كفروا} من أهل مكة {لولا} ، أي: هلا {أنزل عليه} ، أي: على هذا الرسول {آية} ، أي: علامة بينة {من ربه} ، أي: المحسن إليه كالعصا واليد لموسى والناقة لصالح لنهتدي بها فنؤمن به وأمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله: {قل} ، أي: لهؤلاء المعاندين {إن الله يضل من يشاء} إضلاله فلا تغني عنه الآيات شيئاً وإن أنزلت كل آية {ويهدي} ، أي: يرشد {إليه} ، أي: إلى دينه {من أناب} ، أي: رجع إليه كأبي بكر الصديق وغيره ممن تبعه من العشرة المشهود لهم بالجنة وغيرهم ولو حصلت آية واحدة فلا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضرعوا إلى الله تعالى في طلب الهداية وقوله تعالى:
{الذين آمنوا} بدل من أناب أو خبر مبتدأ محذوف {وتطمئن} ، أي: تسكن {قلوبهم بذكر الله} ، أي: أنساً به واعتماداً عليه ورجاءً منه أو بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته أو بذكر دلائله الدالة على وجوده أو بالقرآن الذي هو أقوى المعجزات وقال ابن عباس: يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت فإن قيل: قد قال الله تعالى في سورة الأنفال: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} (الأنفال، 2) والوجل ضد الاطمئنان فكيف الجمع بين هاتين الآيتين؟ أجيب: بأنهم إذا ذكروا العقاب ولم يأمنوا أن يقدموا على المعاصي فهناك يحصل الوجل وإذا ذكروا وعده بالثواب والرحمة سكنت قلوبهم إلى ذلك وحينئذ حصل الجمع بينهما {ألا بذكر الله} ، أي: الذي له الجلال والإكرام لا بذكر غيره {تطمئن} ، أي: تسكن {القلوب} ويثبت اليقين فيها وقوله تعالى:
{الذين آمنوا وعملوا(2/158)
الصالحات} مبتدأ خبره {طوبى لهم} واختلف العلماء في تفسير طوبى فقال ابن عباس: فرح لهم وقرة عين. وقال عكرمة: نعمى لهم. وقال قتادة: حسنى لهم. وقال النخعي: خير لهم وكرامة. وقال سعيد بن جبير: طوبى اسم الجنة بالحبشية. قال الرازي: وهذا القول ضعيف؛ لأنه ليس في القرآن إلا العربي لا سيما، اشتقاق هذا اللفظ من اللغة العربية ظاهر. وعن أبي هريرة وأبي الدرداء أن طوبى شجرة في الجنة تظل الجنان كلها. وقال عبيد بن عمير: هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي كل دار وغرفة غصن منها لم يخلق الله لوناً ولا زهرة إلا وفيها منه إلا السواد ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة إلا وفيها منها ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل. وقال مقاتل: وكل ورقة منها تظل أمة عليها ملك يسبح الله تعالى بأنواع التسبيح. وعن أبي سعيد الخدري أنّ رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم ما طوبى؟ قال: «شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» . وعن معاوية بن قرّة عن أبيه يرفعه: «طوبى شجرة غرسها الله تعالى بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة» . وفي رواية عن أبي هريرة أنه قال: «إنّ في الجنة شجرة يقال لها: طوبى يقول الله تعالى لها: تفتقي لعبدي عما يشاء فتتفتق له عن فرس مسرجة بلجامها وهيئتها كما يشاء وتتفتق له عن راحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما يشاء» . وقيل: طوبى فعلى من الطيب قلبت ياؤه واواً لضم ما قبلها مصدر لطاب كبشرى وزلفى ومعنى طوبى لك أصبت خيراً وطيباً. {وحسن مآب} ، أي: حسن المنقلب.
{كذلك} ، أي: مثل إرسال الرسل الذين قدمنا الإشارة إليهم في آخر سورة يوسف وفي غيرها {أرسلناك في أمّة} ، أي: جماعة كثيرة {قد خلت من قبلها} ، أي: تقدّمتها {أمم} طال أذاهم لأنبيائهم، ومن آمن بهم، واستهزاؤهم بهم في عدم الإجابة حتى كأنهم تواصوا بهذا القول فليس ببدع إرسالك إليهم {لتتلو} ، أي: لتقرأ {عليهم} ، أي: على أمّتك {الذي أوحينا إليك} من القرآن وشرائع الدين {وهم} ، أي: والحال أنهم {يكفرون بالرحمن} ، أي: بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء.
وقال قتادة: هذه الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن سهل بن عمرو لما جاء للصلح واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «أكتب بسم الله الرحمن الرحيم» . فقال سهل بن عمرو: لا نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة يعني مسيلمة الكذاب أكتب كما كنت تكتب باسمك اللهمّ» فهذا معنى قوله: {وهم يكفرون بالرحمن} ، أي: أنهم يكفرونه ويجحدونه. قال البغويّ: والمعروف أنّ الآية مكية، وسبب نزولها أنّ أبا جهل سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في الحجر يدعو يا الله يا رحمن، فرجع إلى المشركين فقال: إنّ محمداً يدعو الله ويدعو إلهاً آخر يسمى الرحمن ولا نعرف الرحمن، إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: {قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} (الإسراء، 110) . وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم «اسجدوا للرحمن» قالوا: وما الرحمن؟ قال الله تعالى: {قل} لهم يا محمد إنّ الرحمن الذي أنكرتم معرفته {هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت} ، أي: اعتمدت عليه في أموري كلها {وإليه متاب} ،(2/159)
أي: مرجعي ومرجعكم. روي أنّ أهل مكة قعدوا في فناء الكعبة فأتاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وعرض الإسلام عليهم، فقال له عبد الله بن أمية المخزومي: سير لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا، واجعل لنا فيها أنهاراً نزرع فيها، وأحي لنا بعض أمواتنا لنسألهم أحق ما تقول أم باطل؟ فقد كان عيسى يحي الموتى، وسخر لنا الريح حتى نركبها إلى البلاد، فقد كانت الريح مسخرة لسليمان، فلست بأهون على ربك من سليمان، فنزل قوله تعالى:
{ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} ، أي: نقلت عن أماكنها {أو قطعت} ، أي: شققت {به الأرض} من خشية الله تعالى عند قراءته، فجعلت أنهاراً وعيوناً. {أو كلم به الموتى} ، أي: بأن يحيوا، وجواب لو محذوف، أي: لكان هذا القرآن في غاية ما يكون من الصحة، واكتفى بمعرفة السامعين مراده، وهذا معنى قول قتادة قال: لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم. وقيل: تقديره لما آمنوا، ونقل عن الفراء أنّ جواب لو هي الجملة من قوله: {وهم يكفرون} ففي الكلام تقديم وتأخير وما بينهما اعتراض، وتقدير الكلام وهم يكفرون بالرحمن لو أنّ قرآناً سيرت به الجبال، أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن، ولم يؤمنوا لما سبق من علمنا فيهم.
فإن قيل: لم حذفت التاء في قوله تعالى: {وكلم به الموتى} وثبتت في الفعلين قبله؟ أجيب: بأنه من باب التغليب؛ لأنّ الموتى يشمل المذكر والمؤنث. {بل لله الأمر} ، أي: القدرة على كل شيء {جميعاً} وهذا إضراب عما تضمنته لو من معنى النفي، أي: بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات، لكن الإرادة لم تتعلق بذلك لعلمه تعالى بأنه لا يلين قلوبهم ويؤيد ذلك قوله تعالى: {أفلم ييأس الذين آمنوا} عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم وذهب أكثرهم إلى أنّ معناه: أفلم يعلم الذين آمنوا {أن} ، أي: بأنه {لو يشاء الله} ، أي: الذي له صفات الكمال {لهدى الناس جميعاً} ، أي: إلى الإيمان من غير آية، ولكنه تعالى لم يشأ هداية جميع الخلائق {ولا يزال الذين كفروا} ، أي: جميع الكفار {تصيبهم بما} ، أي: بسبب ما {صنعوا قارعة} ، أي: نازلة وداهية تقرعهم بأنواع البلايا تارة بالجدب، وتارة بالسلب وتارة بالقتل، وتارة بالأسر وغيرذلك. واختلف في الكفار على قولين.
قيل: أراد بهم جميع الكفار، لأنّ الوقائع الشديدة التي وقعت لبعض الكفار من ذلك أوجبت حصول الغم في قلب الكل.
وقيل: المراد الكفار من أهل مكة والألف واللام للمعهود السابق ويدل لهذا قول ابن عباس: أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثها إليهم {أو تحل} ، أي: تنزل نزولاً ثابتاً تلك القارعة {قريباً من دارهم} ، أي: فتوهن أمرهم، وقيل: معناه أو تحل أنت يا محمد بجيشك قريباً من دارهم مكة كما حل بالحديبية {حتى يأتي وعد الله} ، أي: بالنصر وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه بفتح مكة، أو بالنصر على جميع الكفرة في زمن عيسى عليه السلام فينقطع ذلك؛ لأنه لا يبقى على الأرض كافر.
وقيل: أراد بوعد الله يوم القيامة؛ لأنّ الله يجمعهم فيه فيجازيهم بأعمالهم {إنّ الله لا يخلف الميعاد} لامتناع الكذب في كلامه تعالى. ولما كان الكفار يسألون هذه الآيات منه صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستهزاء والسخرية، وكان ذلك يشق عليه ويتأذى من تلك الكلمات أنزل الله تعالى تسلية له وتصبيراً له(2/160)
على سفاهة قومه:
{ولقد استهزئ برسل من قبلك} كما استهزئ بك {فأمليت للذين كفروا، أي: أطلت المدّة بتأخير العقوبة ثم أخذتهم} بالعقوبة {فكيف كان عقاب} ، أي: هو واقع موقعه، فكذلك أفعل بمن استهزأ بك، والإملاء الإمهال بأن يترك مدّة من الزمان في راحة وأمن كالبهيمة يملي لها في المرعى، وهذا استفهام معناه التعجب، وفي ضمنه وعيد شديد لهم، وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستهزاء، ثم إنه تعالى أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج، وما يكون توبيخاً لهم وتعجيباً من عقولهم فقال تعالى:
{أفمن هو قائم} ، أي: رقيب {على كل نفس بما كسبت} ، أي: عملت من خير وشر وهو الله تعالى القادر على كل الممكنات العالم بجميع المعلومات من الجزئيات والكليات، ولا بدّ لهذا الكلام من جواب فإن من موصولة صلتها هو قائم، والموصول مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف تقديره كمن ليس بهذه الصفة، وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضرّ دل على هذا المحذوف قوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء} ونظيره قوله تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام} (الزمر، 22) الآية تقديره كمن قسا قلبه يدل عليه قوله: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} (الزمر، 22) وإنما حسن حذفه كون الخبر مقابلاً للمبتدأ، وقد جاء مبيناً كقوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} (النحل، 17) وقوله تعالى: {قل سموهم} فيه تنبيه على أنّ هؤلاء الشركاء لا يستحقونها، والمعنى: سموهم بأسمائهم الحقيقية، فإنهم إذا عرفت حقائقهم أنها حجارة أو غير ذلك مما هو مركز العجز، ومحل الفقر عرف ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء، ثم قيل: أرجعتم عن ذلك إلى الإقرار بأنهم من جملة عبيده؟ {أم تنبئونه} ، أي: تخبرونه {بما لا يعلم} وعلمه محيط بكل شيء {في الأرض} من كونها آلهة ببرهان قاطع {أم} تسمونهم شركاء {بظاهر من القول} ، أي: بحجة إقناعية تقال بالفم، وكل ما لا يعلم فليس بشيء، وهذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب ينادي على نفسه بالإعجاز.
ولما كان التقدير ليس لهم على شيء من هذا برهان قاطع، ولا قول ظاهر بنى عليه قوله تعالى: {بل زين} ، أي: وقع التزيين بأمر من لا يرد أمره على يد من كان من شياطين الإنس أو شياطين الجنّ. {للذين كفروا مكرهم} ، أي: أمرهم الذي أرادوا به ما يراد بالمكر من إظهار شيء وإبطان غيره، وذلك أنهم أظهروا أنّ شركاءهم آلهة حقاً وهم يعلمون بطلان ذلك، وليس بهم في الباطن إلا تقليد الآباء، وأظهروا أنهم يعبدونها لتقرّبهم إلى الله زلفى، ولتشفع لهم، وهم لا يعتقدون بعثاً ولا نشوراً، فصار كل ذلك من فعلهم فعل الماكر {وصدّوا} غيرهم {عن السبيل} ، أي: طريق الهدى الذي لا يقال لغيره سبيل، فإنّ غيره عدم بل العدم خير منه، فهم لم يسلكوا السبيل، ولا تركوا غيرهم يسلكه، فضلوا وأضلوا، وليس ذلك بعجيب فإنّ الله أضلهم {ومن يضلل الله} ، أي: الذي له الأمر كله بإرادة إضلاله {فما له من هاد} وقرأ ابن كثير بإثبات الياء بعد الدال في الوقف دون الوصل، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً. وكذلك من واق وكذا ولا واق. ولما أخبر الله تعالى بتلك الأمور المذكورة بين أنه جمع لهم بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة بقوله تعالى:
{لهم عذاب في الحياة الدنيا} بالقتل والأسر والذم والإهانة واغتنام الأموال واللعن، ونحو ذلك مما فيه غيظهم {ولعذاب الآخرة أشق} ، أي: أشدّ في المشقة بسبب القوّة والشدّة(2/161)
وكثرة الأنواع والدوام، وعدم الانقطاع، ثم بين تعالى أنّ أحداً لا يقيهم من عذابه بقوله تعالى: {وما لهم من الله من واق} ، أي: مانع يمنعهم إذا أراد بهم سوءاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، والواقي فاعل من الوقاية، وهي الحجز بما يدفع الأذية. ولما ذكر تعالى عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين بقوله تعالى:
{مثل} ، أي: صفة {الجنة} ، أي: التي هي مقرهم {التي وعد المتقون} واختلف في إعراب ذلك على أقوال: الأوّل: قال سيبويه: {مثل الجنة} مبتدأ وخبره محذوف والتقدير فيما قصصناه عليك {مثل الجنة} . والثاني: قال الزجاج: {مثل الجنة جنة من صفتها كذا وكذا. والثالث: مثل الجنة} مبتدأ وخبره. {تجري من تحتها الأنهار} كما تقول صفة زيد أسمر، والرابع الخبر. {أكلها} ، أي: مأكولها {دائم} لأنه الخارج عن العادة، فقد وصف الله تعالى الجنة بثلاثة أوصاف، الأوّل: تجري من تحتها، أي: من تحت قصورها وأشجارها الأنهار. الثاني: إن أكلها دائم لا ينقطع أبداً بخلاف جنة الدنيا. والثالث: قوله تعالى: {وظلها} ، أي: دائم ليس كظل الدنيا لا تنسخه الشمس ولا غيرها إذ ليس فيها شمس ولا قمر ولا ظلمة، بل ظل ممدود لا ينقطع ولا يزول. ثم إنه تعالى لما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاثة بيّن تعالى أنها للمتقين بقوله تعالى: {تلك} ، أي: الجنة العالية الأوصاف {عقبى} ، أي: آخر أمر {الذين اتقوا} ، أي: الشرك، ثم كرر الوعيد للكافرين بقوله تعالى {وعقبى} ، أي: منتهى أمر {الكافرين النار} لا غير، وفي ترتيب النظمين إطماع للمتقين وإقناط للكافرين. واختلف في قوله تعالى:
على قولين الأوّل: أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والمراد بالكتاب القرآن {يفرحون بما أنزل إليك} من أنواع التوحيد والعدل والنبوّة والبعث والأحكام والقصص {ومن الأحزاب} ، أي: الجماعات من اليهود والنصارى وسائر الكفار {من ينكر بعضه} وهذا قول الحسن وقتادة.
فإن قيل: الأحزاب منكرون كل القرآن؟ أجيب: بأنهم لا ينكرون كل ما في القرآن، لأنه ورد فيه إثبات الله تعالى وإثبات علمه وقدرته وحكمته وأقاصيص الأنبياء، والأحزاب لا ينكرون كل هذه الأشياء.
والقول الثاني: أنّ المراد بالكتاب التوراة، وبأهله الذين أسلموا من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام وأصحابه، ومن أسلم من النصارى، وهم ثمانون رجلاً أربعون من نجران وثمانية من اليمن واثنان وثلاثون من أرض الحبشة، وفرحوا بالقرآن؛ لأنهم آمنوا به وصدّقوه، والأحزاب بقية أهل الكتاب، وسائر المشركين، وقيل: كان ذكر الرحمن قليلاً في القرآن في الابتداء فلما اسلم عبد الله بن سلام ومن تبعه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرّر الله تعالى ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه} (الرعد، 36) يعني مشركي مكة حين كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم قالوا: ما نعرف إلا رحمن اليمامة؟ يعني مسيلمة فأنزل الله تعالى: {وهم بذكر الرحمن هم كافرون} (الأنبياء، 36) . ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد وبينه بألفاظ قليلة فقال: {قل} ، أي: يا أكرم الخلق على الله تعالى {إنما أمرت} ، أي: وقع إليّ الأمر الجازم الذي لا شك فيه ولا تغيير ممن له الأمر كله {أن أعبد(2/162)
الله} ، أي: وحده، ولذلك قال: {ولا أشرك به} شيئاً {إليه} وحده {أدعو وإليه مآب} ، أي: مرجعي للجزاء لا إلى غيره.
{وكذلك} ، أي: كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم {أنزلناه} ، أي: القرآن {حكماً} والحكم فصل الأمر على الحق {عربياً} بلسانك ولسان قومك، وإنما سمي القرآن حكماً؛ لأنّ فيه جميع التكاليف والحلال والحرام، والنقض والإبرام، فلما كان سبباً للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة. وروي أنّ المشركين كانوا يدعون النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ملة آبائه، فوعده الله تعالى على متابعتهم في تلك المذاهب بأن يصلى إلى قبلتهم بعد ما حوّله الله تعالى عنها بقوله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم} ، أي: الكفار فيما يدعونك إليه من ملتهم {بعد ما جاءك من العلم} ، أي: بأنك على الحق وأن قبلتك هي الكعبة {ما لك من الله من ولي} ، أي: ناصر {ولا واق} ، أي: مانع من عذابه. وقال ابن عباس: الخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد أمته. ونزل لما عير الكفار النبيّ صلى الله عليه وسلم بكثرة النساء.
{ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً} ، أي: نساء ينكحونهنّ فكان لسليمان امرأة وسرية وكان لداود عليه السلام إمرأة {وذرية} ، أي: أولاداً فأنت مثلهم، وكانوا يقولون أيضاً: لو كان رسولاً من عند الله لكان، أي: شيء طلبناه منه من المعجزات أتى به فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بأذن الله} ، أي: بإرادته؛ لأنّ المعجزة الواحدة كافية في إزالة العذر، والعلة وفي إظهار الحجة والبينة، وأمّا الزائد عليها فهو مفوض إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن لم يشأ لم يظهرها لا اعتراض لأحد عليه في ذلك. ولما توعدهم صلى الله عليه وسلم نزول العذاب، وظهور النصرة له ولقومه وتأخر ذلك عنهم قالوا: لو كان نبياً صادقاً لما ظهر كذبه، فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى {لكل أجل} ، أي: مدّة {كتاب} ، أي: مكتوب قد أثبت فيه أن أمر كذا يكون في وقت كذا من الثواب والعقاب والأحكام، والإتيان بالآيات وغيرها إثباتاً ونسخاً على ما تقتضيه الحكمة. ولما اعترضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنّ محمداً يأمر أصحابه بأمر اليوم، ثم يأمر بخلافه غداً، وما سبب ذلك إلا أنه يقوله من تلقاء نفسه، فردّ الله تعالى عليهم بقوله تعالى:
{يمحو الله ما يشاء} ، أي: محوه من الشرائع والأحكام وغيرها بالنسخ فيرفعه {ويثبت} ما يشاء إثباته من ذلك بأن يقرّه ويمضي حكمه كقوله تعالى: {ما ننسخ من آية} (البقرة، 106) إلى قوله تعالى: {ألم تعلم أنّ الله على كل شيء قدير} (البقرة، 106) . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بسكون الثاء المثلثة وتخفيف الباء الموحدة، والباقون بفتح الثاء وتشديد الباء الموحدة.
تنبيه: في هذه الآية قولان:
أحدهما أنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ، وهذا مذهب عمر وابن مسعود وغيرهما قالوا: إنّ الله يمحو من الرزق ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة، فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت عليّ الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب، ومثله عن ابن مسعود وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بعض(2/163)
الآثار: أنّ الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فيردّ إلى ثلاثة أيام، والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة. وروي أنّ الله تعالى ينزل، أي: أمره في آخر ثلاث ساعات تبقى من الليل فينظر في الساعة منهنّ في أمّ الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت. والقول الثاني أنّ هذه الآية خاصة في بعض الأشياء دون بعض، واختلفوا على هذا القول فقال سعيد بن جبير وقتادة: يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض، فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه. وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة، واستدل لهذا بما رواه حذيفة بن أسيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكاً فصوّرها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول الملك: يا رب رزقه فيقضي ربك ما يشاء، ويكتب الملك ثم يقول: يا رب أشقي أم سعيد؟ فيكتبان فيكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد ولا ينقص» .
وقال ابن عطية عن ابن عباس: هو الرجل يعمل بطاعة الله تعالى، ثم يرجع لمعصية الله تعالى، فيموت على ضلاله فهو الذي يمحو الذي يثبت يعمل الرجل بطاعة الله، فيموت وهو في طاعته فهو الذي يثبت. وقال الحسن: يمحو ما يشاء، أي: من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجيء أجله إلى أجله. وعن سعيد بن جبير قال: يمحو ما يشاء من ذنوب العباد فيغفرها، ويثبت ما يشاء فلا يغفرها. وقال عكرمة: يمحو الله ما يشاء من الذنوب بالتوبة، ويثبت بدل الذنوب حسنات كما قال تعالى: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} . (الفرقان، 70) وقال السدي: يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت ما يشاء يعني الشمس بيانه قوله تعالى: {فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} (الإسراء، 12) . وقال الربيع: هذا في الأرواح يقبضها الله تعالى عند النوم، فمن أراد موته أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته وردّه إلى صاحبه بيانه قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} (الزمر، 42) الآية. وقيل إنّ الله تعالى يثبت في أوّل كل سنة حكمها، فإذا مضت السنة محاه، وأثبت حكماً آخر للسنة المستقبلة. وقيل: يمحو الله الدنيا ويثبت الآخرة.
وقيل: إنّ الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب.
وقيل: هذا في المحن والمصائب فهي مثبتة في الكتاب، ثم يمحوها بالدعاء والصدقة {وعنده} تعالى {أمّ الكتاب} أصل الكتب والعرب تسمى كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمّا، ومنه أمّ الرأس للدماغ، وأمّ القرى، وكل مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى فكذلك أمّ الكتاب هو الذي يكون أصلاً لجميع الكتب، وفيه قولان: الأوّل: أنه اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدّل وجميع حوادث العالم العلوي والسفلي يثبت فيه. روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان الله ولا شيء ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة» .
والقول الثاني: أنّ أمّ الكتاب أصله الذي لا يغير منه شيء وهو الذي كتب في الأزل. وقال ابن عباس في رواية عكرمة: هما كتابان كتاب سوى أمّ الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وعنده أمّ الكتاب لا يغير منه شيء، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق. وعن ابن(2/164)
عباس قال: إنّ لله لوحاً محفوظاً مسيرته خمسمائة عام من درّة بيضاء له دفتان من ياقوتة لله فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب. وسأل ابن عباس كعباً عن أمّ الكتاب فقال: علم الله ما هو خالق وما خلقه. ولما كان من مقترحاتهم وطلباتهم استهزاء استعجال السيئة مما توعدوا به وكانت النفس ربما تمنت وقوع ذلك البعض وإثباته ليؤمن به غيره تقريباً لفصل النزاع قال تعالى:
{وإما نرينك} يا محمد وأكده بتأكيد للإعلام بأنه لا حرج عليه في ضلال من ضل بعد إبلاغه {بعض الذي نعدهم} ، أي: من العذاب وأنت حيّ مما تريد، أو تريد أصحابك قبل وفاتك فذلك شافيك من أعدائك، والوعد الخبر عن خير مضمون، والوعيد الخبر عن شر مضمون والمعنى عليه وسماه وعداً لتنزيلهم إياه في طلب نزوله منزلة الوعد {أو نتوفينك} ، أي: قبل أن نرينك ذلك فلا لوم عليك ولا عتب {فإنما عليك البلاغ} ، أي: ليس عليك إلا تبليغ الرسالة إليهم، وليس عليك أن تجازيهم ولا أن تأتيهم بالمقترحات، والبلاغ، اسم أقيم مقام التبليغ، وأمّا فيه إدغام نون أن الشرطية في ما الزائدة. {وعلينا الحساب} ، أي: علينا أن نحاسبهم يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم، فلا تحتفل بإعراضهم ولا تستعجل بعذابهم.
تنبيه: قال أبو حيان: هنا شرطان؛ لأنّ المعطوف على الشرط شرط، فيقدّر لكل شرط، ما يناسب أن يكون جزاء مرتباً عليه والتقدير: وإمّا نرينك بعض الذي نعدهم، فذلك شافيك من أعدائك، وإمّا نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولا عتب، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك ولما وعد الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يريه بعض ما يعده أو يتوفاه قبل ذلك بين تعالى آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت بقوله تعالى:
{أو لم يروا} ، أي: كفار مكة {أنّا نأت الأرض} ، أي: نقصد أرض هؤلاء الكفرة {ننقصها من أطرافها} بما يفتح الله تعالى على المسلمين من ديار الشرك أرضاً بعد أرض حوالي أرضهم، هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة. وقال مجاهد: هو خراب الأرض وقبض أهلها. وعن عكرمة قال: هو قبض الناس. وعن الشعبي مثله، وعطاء وجماعة نقصانها موت العلماء وذهاب الفقهاء، ويؤيد هذا ما رواه عمرو بن العاص أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» . وقال الحسن: قال عبد الله بن مسعود: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله. وقال عليّ: إنما مثل الفقهاء كمثل الأنف إذا قطعت لم تعد. وقال سليمان: لا يزال الناس بخير ما بقي الأوّل حتى يتعلم الآخر، وإذا هلك الأوّل قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس. وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: هلاك علمائهم، ثم أثبت تعالى لنفسه أمراً كلياً فقال: {والله} ، أي: الملك الأعلى. {يحكم} في خلقه بما يريد؛ لأنه {لا معقب} ، أي: راد؛ لأنّ التعقيب ردّ الشيء بعد فصله {لحكمه} وقد حكم للإسلام بالإقبال وعلى الكفر بالإدبار، وذلك كائن لا يمكن تغييره.
تنبيه: محل جملة لا معقب لحكمه النصب على الحال كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه كما تقول: جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة تريد حاسراً {وهو} عز(2/165)
وجل مع تمام القدرة {سريع الحساب} فيحاسبهم عما قليل في الآخرة بعدما عذبهم بالقتل والإجلاء في الدنيا. وقال ابن عباس: يريد سريع الانتقام يعني: حسابه للمجازاة بالخير والشرّ، فمجازاة الكفار بالإنتقام منهم، ومجازاة المؤمنين بإيصال الثواب إليهم، وقد تقدّم الكلام في معنى سريع الحساب قبل هذا. وقوله تعالى:
{وقد مكر الذين من قبلهم} ، أي: من كفار الأمم الماضية قيل: مكروا بأنبيائهم مثل نمروذ مكر بإبراهيم، وفرعون مكر بموسى واليهود مكروا بعيسى فيه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {فلله المكر جميعاً} ، أي: أن مكر جميع الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته؛ لأنه تعالى هو الخالق لجميع أعمال العباد، فالمكر لا يضرّ إلا بإذنه ولا يؤثر إلا بتقديره، فيه أمان له صلى الله عليه وسلم من مكرهم، فكأنه قيل: إذا كان حدوث المكر من الله تعالى وتأثيره في الممكور به من الله وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى لا من أحد من المخلوقين، وذهب بعض المفسرين إلى أنّ المعنى: فلله جزاء المكر، وذلك أنهم لما مكروا بالمؤمنين بيّن الله تعالى أنه يجازيهم على مكرهم. قال الواحدي: والأوّل أظهر القولين بدليل قوله تعالى:
{يعلم ما تكسب كل نفس} ، أي: أنّ أكساب العباد معلومة لله تعالى، وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك، فلا قدرة لعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله فيجازيهم على أعمالهم، وفي ذلك وعيد وتهديد للكفار الماكرين، ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد بقوله تعالى: {وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار} ، أي: العاقبة المحمودة في الدار الآخرة ألهم أم للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالألف بعد الكاف على الإفراد والكاف مفتوحة والفاء مكسورة مخففة، والباقون بالألف بعد الفاء على الجمع، فالكاف مضمومة والفاء مفتوحة مشدّدة، فمن قرأ بالإفراد أراد الجنس كقوله تعالى: {إنّ الإنسان لفي خسر} (العصر، 2) ليوافق قراءة الجمع. وقال عطاء: المستهزؤون وهم خمسة والمقتسمون وهم ثمانية وعشرون. وقال ابن عباس: يريد أبا جهل. قال الرازي: والأوّل هو الصواب، أي: ليوافق قراءة الجمع كما مرّ. ولما تقدّم قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه} (الرعد، 7) عطف عليه بعد شرح ما استتبعه قوله تعالى:
{ويقول الذين كفروا لست مرسلاً} ، أي: لكونك لا تأتي بمقترحاتهم مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل يوماً: إنه قادر عليها، فكأنه قيل: فما أقول لهم؟ فقال تعالى: {قل} لهم {كفى بالله} الذي له الإحاطة الكاملة {شهيداً} ، أي: بليغ العلم في شهادته بالإطلاع على ما ظهر وما بطن {بيني وبينكم} يشهد بتأييد رسالتي، وتصحيح مقالتي بما أظهر لي من الآية، وأوضح من الدلالة بهذا الكتاب ويشهد بتكذيبهم بادعائكم القدرة على المعارضة، وترككم لها عجزاً، وهذا أعلى مراتب الشهادة؛ لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظنّ بأن الأمر كما شهد به، والمعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله، واختلف في قوله تعالى: {ومن عنده علم الكتاب} فروى العوفي عن ابن عباس أنهم علماء اليهود والنصارى، أي: أنّ كل من كان عالماً من اليهود بالتوراة، ومن النصارى بالإنجيل علم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم مرسل من عند الله لما يجد من الدلائل الدالة على نبوّته فيها شهد بذلك من شهد به وأنكره من أنكره منهم.n
والثاني:(2/166)
أنّ المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا، وهم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري. وقال الحسن ومجاهد والزجاج وسعيد بن جبير: {ومن عنده علم الكتاب} هو الله تعالى. قال الحسن: لا والله لا يعني إلا الله، والمعنى كفى بالله الذي يستحق العبادة، وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم، وهذا أظهر كما استظهره البقاعي، وإن كان عطف الصفة على الموصوف خلاف الأصل إذ يقال: شهد بهذا زيد الفقيه، لا زيد والفقيه؛ لأنه جائز في الجملة، وقيل: معناه: أن علم أنّ القرآن الذي جئتكم به معجز ظاهر وبرهان باهر لما فيه من الفصاحة والبلاغة والإخبار عن الغيوب وعن الأمم الماضية فمن علمه بهذه الصفة كان شهيداً بيني وبينكم والله أعلم بمراده. وما رواه البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ وتبعهما ابن عادل من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله» حديث موضوع.
سورة إبراهيم
عليه السلام مكية
إلا قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله} (إبراهيم، 28) الآيتين، وهي اثنتان وخمسون آية وعدد كلماتها وإحدى وثلاثون كلمة، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وأربعة وثلاثون حرفاً
{بسم الله الرحمن الرحيم} قوله تعالى:
{الر} تقدّم الكلام عليها أول يونس وهود. وقوله تعالى: {كتاب} خبر لمبتدأ محذوف، أي: هذا القرآن كتاب، أو الر، إن قلنا: إنها مبتدأ والجملة بعده صفة، ويجوز أن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة بعده وجاز الابتداء بالنكرة؛ لأنها موصوفة تقديراً، تقديره كتاب، أي: كتاب يعني عظيماً من بين الكتب السماوية {أنزلناه إليك} يا أشرف الخلق عند الله تعالى {لتخرج الناس} ، أي: عامة قومك وغيرهم بدعائك إياهم {من الظلمات} ، أي: الكفر وأنواع الضلالة {إلى النور} ، أي: الإيمان والهدى. قال الرازي: والآية دالة على أنّ طرق الكفر والبدع كثيرة وأنّ طريق الحق ليس إلا واحداً؛ لأنه تعالى قال: {لتخرج الناس من الظلمات} وهي صيغة جمع، وعبر عن الإيمان والهدى بالنور، وهو لفظ مفرد وذلك يدل على أنّ طرق الجهل والكفر كثيرة وأنّ طريق العلم والإيمان ليس إلا واحداً.
تنبيه: القائلون بأن معرفة الله تعالى لا يمكن تحصيلها إلا من تعليم الرسول، احتجوا بهذه الآية، وذلك يدلّ على أنّ معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم. وأجيب: بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كالمنبه وأمّا المعرفة فهي إنما تحصل من الدليل وقوله تعالى: {بإذن ربهم} متعلق بالإخراج، أي: بتوفيقه وتسهيله، ويبدل من إلى النور {إلى صراط} ، أي: طريق {العزيز} ، أي: الغالب {الحميد} ، أي: المحمود على كل حال المستحق لجميع المحامد، وفي قوله:
{الله} قراءتان، فقرأ نافع وابن عامر برفع الهاء وصلاً وابتداء على أنه مبتدأ خبره {الذي له ما في السموات وما في الأرض} ، أي: ملكااً وخلقاً، وقرأ الباقون بالجرّ على أنه بدل أو عطف بيان وما(2/167)
بعده صفة.
تنبيه: ذهب جماعة من المحققين إلى أنّ قولنا: الله جار مجرى الاسم العلم لذات الله سبحانه وتعالى، وذهب قوم آخرون إلى أنه لفظ مشتق. قال الرازي: والحق عندنا هو الأوّل؛ لأنّ الأمّة لما اجتمعت على أنّ قولنا: لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أنّ قولنا: الله جار مجرى الاسم العلم. وقد قال تعالى: {هل تعلم له سمياً} (مريم، 65) ، أي: هل تعلم من اسمه الله غير الله، وذلك يدل على قولنا: الله اسم لذاته المخصوصة، ولذا استشكل قراءة الجرّ إذ الترتيب الحسن أن يذكر الاسم، ثم يذكر عقبه الصفات كقوله تعالى: {هو الله الخالق البارئ المصور} (الحشر، 24) وأمّا الخالق الله فلا يحسن.
وأجيب عن ذلك بأنه لا يبعد أن تذكر الصفة أوّلاً، ثم يذكر الاسم ثم تذكر الصفة مرّة أخرى كما يقال: مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه، وهو بعينه نظير قوله تعالى: {صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض} والآية تفيد حصر ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره، وذلك ليدلّ على أنه لا مالك إلا الله، ولا حاكم إلا الله، وأنه تعالى خالق لأعمال العباد؛ لأنها حاصلة في السموات والأرض، فوجب القول بأنّ أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له، والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله، وإذا ثبت أنها مقدورة لله وجب وقوعها بقدرة الله، وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره، وذلك محال، ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال تعالى: {وويل للكافرين} ، أي: الذين تركوا عبادة من يستحق العبادة الذي له ما في السموات وما في الأرض، وعبدوا من لا يملك شيئاً البتة، بل هو مملوك لله تعالى؛ لأنه من جملة ما في السموات وما في الأرض، وويل مبتدأ، وجاز الابتداء به؛ لأنه دعاء كسلام عليكم وللكافرين خبره، وقوله تعالى: {من عذاب شديد} ، أي: يعذبهم في الآخرة متعلق بويل ولا يضر الفصل بالخبر، ثم وصفهم بقوله تعالى:
{الذين يستحبون} ، أي: يختارون {الحياة الدنيا على الآخرة} ، أي: يؤثرونها عليها {ويصدّون عن سبيل الله} ، أي: يمنعون الناس عن قبول دين الله {ويبغونها} ، أي: السبيل {عوجاً} ، أي: معوجة والأصل ويبغون لها زيغاً وميلاً، فحذف الجار، وأوصل الفعل إلى الضمير {أولئك} ، أي: الموصوفون بهذه الصفات {في ضلال بعيد} ، أي: عن الحق وإسناد البعد إلى الضلال إسناد مجازي؛ لأنّ البعيد هم الضلال بميلهم عن الباقي إلى الفاني. ثم ذكر ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين بقوله تعالى:
{وما أرسلنا من رسول} ، أي: في زمن من الأزمان {إلا بلسان} ، أي: لغة {قومه} أمّا بالنسبة إلى الرسول؛ فلأنه تعالى بين أنّ سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة، وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة البشر، وكان هذا الإنعام في حقك أكمل وأفضل، وأمّا بالنسبة إلى عامّة الخلق، فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولاً إلا بلسان أولئك القوم {ليبين لهم} ما أمروا به فيفهموه عنه بيسر وسرعة؛ لأنّ ذلك أسهل لفهم أسرار تلك الشريعة، والوقوف على حقائقها وأبعد عن الغلط والخطأ.
تنبيه: تمسك طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية بهذه الآية على أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يرسل لغير العرب من وجهين:
الأوّل: أن القرآن لما كان نازلاً بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب، وحينئذ لا يكون القرآن حجة إلا عليهم. الثاني: أنّ قوله تعالى:(2/168)
{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} (إبراهيم، 4) المراد بذلك اللسان لسان العرب، وذلك يدل على أنه مبعوث إلى العرب فقط.
وردّ عليهم بأنّ المراد بالقوم أهل دعوته والدليل على عموم الدعوة قوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (الأعراف، 158) بل إلى الثقلين؛ لأنّ التحدي كما وقع مع الإنس وقع مع الجنّ بدليل قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} (الإسراء، 88) . ثم بيّن سبحانه وتعالى أنّ الإضلال والهداية بمشيئته بقوله تعالى: {فيضل الله من يشاء} إضلاله {ويهدي من يشاء} هدايته، فإنه تعالى هو المضل الهادي، وليس على الرسل إلا التبليغ والبيان والله تعالى هو الهادي المضل يفعل ما يشاء {وهو العزيز} في ملكه، فلا رادّ له عن مشيئته {الحكيم} في صنعه فلا يهدي ولا يضل إلا لحكمة. ولما بين تعالى أنه إنما أرسل محمداً عليه الصلاة والسلام إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه في ذلك الإرسال وفي تلك البعثة أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء إلى أقوامهم، وكيفية معاملة أقوامهم لهم ليكون ذلك تصبيراً له صلى الله عليه وسلم على أذى قومه وإرشاداً له إلى كيفية مكالمتهم ومعاملتهم، فذكر تعالى على العادة المألوفة قصص بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فبدأ بذكر قصة موسى عليه السلام فقال:
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} ، أي: العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وانفجار العيون من الحجر وإظلال الجبل والمنّ والسلوى وسائر معجزاته {أن أخرج قومك} ، أي: بني إسرائيل {من الظلمات} ، أي: الكفر والضلال {إلى النور} ، أي: الإيمان والهدى.
تنبيه: يجوز أن تكون أن مصدرية، أي: بأن أخرج، والباء في بآياتنا للحال، وهذه للتعدية، ويجوز أن تكون مفسرة للرسالة بمعنى، أي: ويكون المعنى، أي: أخرج قومك من الظلمات، أي: قلنا له أخرج قومك كقوله تعالى: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا} (ص، 6) . {وذكرهم بأيام الله} قال ابن عباس: بنعم الله. وقال مقاتل: بوقائع الله في الأمم السالفة، يقال: فلان عالم بأيام العرب، أي: بوقائعهم، وفي المثل من سرّ يوماً يره. قال الرازي: معناه من رأى في يوم سروره بمصرع غيره رآه غيره في يوم آخر بمصرع نفسه، وقال تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس} (آل عمران، 140) والمعنى: عظهم بالترغيب، والترهيب، والوعد والوعيد، والترغيب والوعد أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمنوا بالرسل فيما سلف من الأيام، والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأمر الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل فيما سلف من الأيام مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب ليرغبوا في الوعد، فيصدّقوا ويحذروا من الوعيد، فيتركوا التكذيب، وقيل: بأيام الله في حق موسى أن يذكر قومه بأيام المحنة والبلاء حين كانوا تحت أيدي القبط يسومونهم سوء العذاب، فخلصهم الله من ذلك وجعلهم ملوكاً بعد أن كانوا مملوكين {إنّ في ذلك} ، أي: التذكير العظيم {لآيات} على وحدانية الله تعالى وعظمته {لكل صبار} ، أي: كثير الصبر على الطاعة وعن المعصية {شكور} ، أي: كثير الشكر للنعم، وإنما خص الصبور والشكور بالاعتبار بالآيات، وإن كان فيها عبرة للكل؛ لأنهم المنتفعون بها دون غيرهم فلهذا خصهم بالآيات، فكأنها ليست لغيرهم فهو كقوله تعالى: {هدى للمتقين} (البقرة، 3) فإنّ(2/169)
الانتفاع لا يمكن حصوله إلا لمن يكون صابراً شاكراً أما من لا يكون كذلك فلا ينتفع بها البتة. ولما أمر الله تعالى موسى أن يذكرهم بأيام الله حكى عنه أنه ذكرهم بها بقوله تعالى:
{وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم} وقوله: {إذ أنجاكم من آل فرعون} ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي: اذكروا إنعام الله عليكم في ذلك الوقت {يسومونكم سوء العذاب} بالاستعباد {ويذبحون} ، أي: تذبيحاً كثيراً {أبناءكم} ، أي: المولودين {ويستحيون} ، أي: يستبقون {نساءكم} أحياء وذلك كقول بعض الكهنة إنّ مولوداً يولد في بني إسرائيل يكون سبب زوال ملك فرعون.
فإن قيل: لم ذكر تعالى في سورة البقرة {يذبحون} بغير واو وذكره هنا مع الواو؟ أجيب: بأنها إنما حذفت في سورة البقرة؛ لأنها تفسير لقوله تعالى: {يسومونكم سوء العذاب} وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو، وهنا أدخل الواو فيه؛ لأنه نوع آخر لأنهم كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح فليس تفسيراً للعذاب {وفي ذلكم بلاء} ، أي: إنعام وابتلاء {من ربكم عظيم} لأنّ الابتلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعاً، ومنه قوله تعالى: {ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة} (الأنبياء، 35) . فإن قيل: تذبيح الأبناء فيه بلاء، وأمّا استحياء النساء فكيف فيه ابتلاء؟ أجيب: بأنهم كانوا يستحيونهن ويتركونهنّ تحت أيديهم كالإماء، فكان ذلك ابتلاء وقوله تعالى:
{وإذ} ، أي: واذكروا إذ {تأذن ربكم} فهو أيضاً من كلام موسى عليه السلام، وتأذن بمعنى أذن كتوعد وأوعد غير أنه أبلغ لما في التفعل من معنى التكلف والمبالغة {لئن شكرتم} .
يا بني اسرائيل نعمتي بالتوحيد والطاعة {لأزيدنكم} نعمة إلى نعمة، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم، فإن الشكر قيد الموجود وصيد المفقود، والشكر عبارة عن الإعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة، ثم قد يرتقي العبد عن تلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلاً له عن الالتفات إلى النعمة، ولاشك أن منبع السعادات وعنوان كل الخيرات محبة الله تعالى ومعرفته، وأما الزيادة في النعمة فهي على قسمين: روحانية وجسمانية، فالأولى هي أن الشاكر يكون أبداً في مطالعة أقسام نعمة الله تعالى، وأنواع فضله وكرمه، وأما الثانية: فلأن الاستقراء دل على أنّ كل من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر كان وصول نعم الله إليه أكثر نسأل الله تعالى القيام بواجب شكر النعمة حتى يزيدنا من فضله وكرمه وإحسانه، ويفعل ذلك بأهلينا وأحبابنا. ثم إنه تعالى لما ذكر ما يستحقه الشاكر ذكر ما يستحقه مقابله بقوله تعالى: {ولئن كفرتم} ، أي: جحدتم النعمة بالكفر والمعصية لأعذبنكم دل عليه {إن عذابي لشديد} ، أي: لمن كفر نعمتي ولا يشكرها، ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد، ولما بيّن موسى أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا والآخرة، والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد وحصول الآفات في الدنيا والآخرة بين بعده أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر، وصاحب الكفران، وأما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران فلا جرم قال تعالى:
{وقال موسى إن تكفروا أنتم} يا بني اسرائيل {ومن في الأرض} وأكده بقوله تعالى: {جميعاً} ، أي: من الثقلين فإنما ضرر ذلك يعود على أنفسكم(2/170)
وحرمتموها الخير كله {فإن الله لغني} عن جميع خلقه فلا يزداد بشكر الشاكرين ولا ينقص بكفر الكافرين {حميد} ، أي: محمود في جميع أفعاله؛ لأنه فيها متفضل عادل وقوله تعالى:
{ألم يأتكم} يا بني اسرائيل {نبأ} ، أي: خبر {الذين من قبلكم قوم نوح} وكانوا ملء الأرض {و} نبأ {عاد} قوم هود وكانوا أشد الناس أبداناً {و} نبأ {ثمود} قوم صالح وكانوا أقوى الناس على نحت الصخور وبناء القصور يحتمل أن يكون من كلام موسى، أو كلام مبتدأ من الله تعالى لقوم محمد صلى الله عليه وسلم وهو استفهام تقرير وقوله تعالى: {والذين من بعدهم} ، أي: بعد هؤلاء الأمم الثلاثة {لايعلمهم إلا الله} فيه قولان؛ الأول أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله تعالى؛ لأن المذكور في القرآن جملة، فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل، والقول الثاني: إنّ المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلاً كذبوا رسلاً لم نعرفهم أصلاً ولا يعلمهم إلا الله، ولذلك كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون يعني أنهم يدّعون علم الأنساب إلى آدم عليه السلام، وقد نفى الله علمها عن العباد. وعن ابن عباس أنه قال بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وقروناً بين ذلك كثيراً وكلاً ضربنا له الأمثال وكلاً تبرنا تتبيراً} (الفرقان: 38، 39) وقوله تعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} (غافر، 78) . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في انتسابه لا يجاوز معدّ بن عدنان بن أدر وقال: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق» . قال الرازي: والقول الثاني أقرب. ولما {جاءتهم} ، أي: هؤلاء الأقوام الذين تقدم ذكرهم {رسلهم بالبينات} ، أي: الدلائل الواضحات والمعجزات الباهرات أتوا بأمور أوّلها ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله تعالى: {فردّوا} ، أي: الأمم {أيديهم في أفواههم} وفي ذلك احتمالات: الأول: أن الكفار ردّوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظاً مما جاءت به الرسل كقوله تعالى: {عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} (آل عمران، 119) .
والثاني: أنهم لما سمعوا كلام الأنبياء عجبوا منه وضحكوا على سبيل السخرية، فعند ذلك ردّوا أيديهم في أفواههم كما يفعل ذلك من غلبه الضحك، فيضع يده على فيه.
والثالث: أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن كفوا عن هذا الكلام، واسكتوا عن ذكر هذا الحديث.
والرابع: أنهم أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم الكفر كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله تعالى: {وقالوا إنَّا كفرنا بما أرسلتم به} أي: على زعمكم أي: أن هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق هذا هو الأمر الثاني الذي أتوا به، وقيل: الضمير في ردوا راجع للرسل عليهم السلام، وفيه وجهان:
أحدهما أنّ الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوا وليقطعوا الكلام.
والثاني: أنّ الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم، على أفواه أنفسهم فإنّ من ذكر كلاماً عند قوم وأنكروه وخافهم، فذلك المتكلم ربما وضع يد نفسه على فم نفسه، وغرضه أن يعرّفهم أنه لا يعود إلى ذلك الكلام البتة، والأمر الثالث: قولهم: {وإنا لفي شك مما} ، أي: شيء {تدعوننا} أيها الرسل {إليه} ، أي: من الدين {مريب} ، أي: موجب الريبة، أي: موقع في الريبة والشبهة والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر الذي(2/171)
يشك فيه. فإن قيل: إنهم قالوا أولاً: إنّا كفرنا بما أرسلتم به، فكيف يقولون ثانياً (وإنا لفي شك) والشك دون الكفر؟ أجيب: بأنهم لما صرحوا بكفرهم بالرسل كلهم حصل لهم شبه توجب الشك لهم فقالوا: إن لم ندع الجزم واليقين في كفرنا فلا أقلّ من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم. ولما قال هؤلاء الكفار للرسل ذلك.
{قالت} لهم {رسلهم} مجيبين {أفي الله شك} ، أي: هل تشكون في الله؟ وهو استفهام انكار، أي: لا شك في توحيده للدلائل الظاهرة عليه منها قوله تعالى: {فاطر} ، أي: خالق {السموات والأرض} ، أي: وما فيهما من الأنفس والأرواح والأرزاق، وقرأ أبو عمرو رسلهم هنا وفيما مر في {جاءتهم رسلهم} بإسكان السين، والباقون بالرفع. ولما أقاموا الدليل على وجود الله تعالى وصفوه بكمال الرحمة بقولهم: {يدعوكم} ، أي: إلى الإيمان ببعثنا وقولهم: {ليغفر لكم} اللام متعلقة بيدعو، أي: لأجل غفران ذنوبكم كقوله:
*دعوت لما نالني مسورا
... فلبى فلبى يدي مسور
ويجوز أن تكون معدية كقوله: دعوتك لزيد، والتقدير: يدعوكم إلى غفران ذنوبكم وقوله: {من ذنوبكم} قال السيوطي: من زائدة فإنّ الإسلام يغفر به ما قبله، أو تبعيضية لإخراج حقوق العباد اه. أي: والمغفور لهم ما بينهم وبين الله تعالى. قال الرازي: والعاقل لا يجوز له المصير إلى كلمة من كلام الله تعالى بأنها زائدة من غير ضرورة اه.
وقال في «الكشاف» : ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين كقوله: {واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم} (نوح: 3، 4) {يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم} (الأحقاف، 32) . وقال في خطاب المؤمنين: {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم} (الصف: 11، 12)
وغيرذلك مما يوقفك عليه الاستقراء، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، وأن لا يسوّى بين الفريقين في المعاد اه. قال الرازي: وأما قول «الكشاف» فهو من باب الظلمات؛ لأنّ هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب، وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسداً. {ويؤخركم} ، أي: ولا يفعل بكم فعل من تعهدون من الملوك في المعاجلة في الإهلاك لمن خالفهم بل يؤخركم. {إلى أجل مسمى} ، أي: إلى وقت قد سماه وبين مقداره يبلغكموه إن أنتم آمنتم به، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت إن أنتم ما آمنتم. فإن قيل: أليس قال تعالى: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} (الأعراف، 34)
فكيف قال هنا: {ويؤخركم إلى أجل مسمى} (إبراهيم، 10)
أجيب: بأنّ الأجل على قسمين: معلق ومبرم.Y
{قالوا} ، أي: الأمم مجيبين للرسل. {إن} ، أي: ما {أنتم} أيها الرسل {إلا بشر مثلنا} ، أي: لا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوّة دوننا ولو أرسل الله تعالى إلى البشر رسلاً لجعلهم من جنس، أي: من البشر في زعم القائلين أفضل، وقول «الكشاف» : وهم الملائكة جار على مذهبه. {تريدون أن تصدّونا عما كان يعبد آباؤنا} ، أي: ما تريدون بقولكم هذا إلا صدّنا عن آلهتنا التي كان آباؤنا يعبدونها {فأتونا بسلطان مبين} ، أي: بحجة ظاهرة على صدقكم. ولما حكى الله تعالى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوّة حكى عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جوابهم عنها بقوله تعالى:
{قالت لهم رسلهم} مجيبين لهم {إن} ، أي: ما {نحن(2/172)
إلا بشر مثلكم} كما قلتم، فسلموا أنّ الأمر كذلك لكنهم بينوا أنّ التماثل في البشرية لا يمنع من اختصاص بعض بمنصب النبوّة بقولهم {ولكنّ الله يمنّ} أي: يتفضل {على من يشاء من عباده} بالنبوّة والرسالة فيصطفي من يشاء من عباده لهذا المنصب العظيم الشريف، كما قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام، 124)
. {وما كان} ، أي: ما صح واستقام {لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله} ، أي: إلا بأمره؛ لأنا عبيد مربوبون فليس إلينا الاتيان بالآيات، ولا تستبد به استطاعتنا حتى نأتيكم بما اقترحتموه، وإنما هو أمر متعلق بمشيئة الله تعالى فله أن يخص كل نبيّ بنوع من الآيات. {وعلى الله فليتوكل} بأمر حتم {المؤمنون} ، أي: يثقوا به فلا نخاف من تخويفكم ولا نلتفت إلى تهديدكم فإن توكلنا على الله، واعتمادنا على فضل الله، فإن الروح متى كانت مشرفة بالمعارف الإلهية مشرقة بأضواء علم الغيب قلما تبالي بالأحوال الجسمانية، وقلما تقيم لها وزناً في حالتي السراء والضراء فلهذا توكلوا على الله، وعوّلوا على فضله، وقطعوا أطماعهم عمن سواه، وعمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل وقصدوا به أنفسهم قصداً أوّلياً ألا ترى إلى قولهم:
{وما لنا أن لا نتوكل على الله} ، أي: أيّ عذر لنا في أن لا نتوكل عليه {وقد هدانا سبلنا} ، أي: وقد عرّفنا طريق النجاة وبيّن لنا الرشد، فإنّ من فاز بشرف العبودية ووصل إلى مقام الإخلاص والمكاشفة يقبح عليه أن يرجع في أمر من الأمور إلى غير الحق وفي هذه الآية دلالة على أنه تعالى يعصم أولياءه، والمخلصين في عبوديته عن كيد أعدائهم ومكرهم. وقرأ أبو عمرو بسكون الباء والباقون بالرفع، وكذلك لرسلهم سكن أبو عمرو السين ورفعها الباقون، ثم قالوا: {ولنصبرنّ على ما آذيتمونا} فإنّ الصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات، والحق لا بدّ وأن يصير غالباً قاهراً، والباطل لا بدّ وأن يصير مغلوباً مقهوراً ثم قالوا: {وعلى الله فليتوكل المتوكلون} . فإن قيل:، أي: فرق بين التوكلين؟ أجيب: بأنّ الأوّل لاستحداث التوكل والثاني طلب دوامه،، أي: فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم المسبب عن إيمانهم. ولما حكى الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام أنهم اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه والاعتماد على حفظه وحياطته حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة بقوله تعالى:
{وقال الذين كفروا لرسلهم} مستهينين لمن قصروا التجاءهم عليه. {لنخرجنكم من أرضنا} ، أي: التي لنا الآن الغلبة عليها. {أو لتعودنّ في ملتنا} ، أي: حلفوا ليكونن أحد الأمرين إمّا إخراجكم أيها الرسل، وإمّا عودكم إلى ملتنا، أي: ديننا. فإن قيل: قد يفهم هذا بظاهره أنهم كانوا على ملتهم قبل ذلك؟ أجيب: بأنّ العود هنا بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب كثرة فاشية، لا تكاد تسمعهم يستعملون صار ولكن عاد يقولون ما عدت أراه، عاد لا يكلمني، ما عاد لفلان مال. وقد أجمعت الأمّة على أنّ الرسل من أوّل الأمر إنما نشؤوا على التوحيد لا يعرفون غيره ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ولمن آمن معه فغلبوا الجماعات على الواحد، وقيل: {أو لتعودنّ في ملتنا} (الأعراف، 88)
إلى ما كنتم عليه قبل ادعاء الرسالة من السكوت عند ذكر معايبه وعدم التعرّض له بالطعن والقدح. ولما ذكر الكفار هذا الكلام قال تعالى: {فأوحى إليهم} ، أي: الرسل {ربهم} وقوله تعالى: {لنهلكنّ الظالمين} ، أي: الكافرين حكاية تقتضي إضمار(2/173)
القول أو أجرى الايحاء مجرى القول؛ لأنه ضرب منه.
{ولنسكننكم الأرض} ، أي: أرضهم {من بعدهم} ، أي: بعد هلاكهم ونظيره قوله تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها} (الأعراف، 137)
وقوله تعالى: {وأورثكم أرضهم وديارهم} (الأحزاب، 27)
. قال الزمخشري: وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم «من آذى جاره ورثه الله داره» . قال: ولقد عاينت هذا في مدّة قريبة كان لي خال يظلمه عظيم القرية التي أنا فيها ويؤذيني فيه فمات ذلك العظيم، وملكني الله ضيعته، فنظرت يوماً إلى أبناء خالي يتردّدون، منها ويأمرون وينهون فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثتهم به وسجدنا شكراً لله تعالى. {ذلك} ، أي: النصر وإيراث الأرض {لمن خاف مقامي} ، أي: موقفي وهو موقف الحساب؛ لأنّ ذلك الموقف موقف الله الذي يوقف فيه عباده يوم القيامة ونظيره {وأمّا من خاف مقام ربه} (النازعات، 40)
وقوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرخمن، 46)
وقيل: {ذلك لمن خاف مقامي} (إبراهيم، 14) ، أي: خافني، فالمقام مقحم مثل ما يقال: سلام على المجلس العالي والمراد السلام على فلان {وخاف وعيد} قال ابن عباس: ما أوعدت من العذاب، وهذا يدل على أنّ الخوف من الله غير الخوف من وعيده؛ لأنّ العطف يقتضي المغايرة، وفي تفسير قوله تعالى:
{واستفتحوا} قولان: أحدهما: طلب الفتح، أي: واستنصروا الله تعالى على أعدائهم وهو كقوله تعالى: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح} (الأنفال، 19)
والثاني: الفتح الحكم والقضاء، أي: واستحكموا الله وسألوه القضاء بينهم، وهو مأخوذ من الفتاحة، وهي الحكومة كقوله تعالى: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} (الأعراف، 89)
. فعلى القول الأول المستفتح هم الرسل؛ لأنهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم. قال نوح: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} (نوح، 26)
وقال موسى: {ربنا اطمس على أموالهم} (يونس، 88)
وقال لوط: {انصرني على القوم المفسدين} (العنكبوت، 30)
. وعلى القول الثاني: قال الرازي: فالأولى أن يكون المستفتح هم الأمم وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين، فعذبنا، ومنه قول كفار {قريش: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} (الأنفال، 32)
. وكقول آخرين: {ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} (العنكبوت، 29)
. {وخاب} ، أي: خسر وهلك {كل جبار} ، أي: متكبر عن طاعة الله، وقيل: هو الذي لا يرى فوقه أحداً، وقيل: هو المتعظم في نفسه المتكبر على أقرانه، واختلفوا في قوله تعالى: {عنيد} فقال مجاهد: معاند للحق ومجانبه. وقال ابن عباس: هو المعرض عن الحق. وقال مقاتل: هو المتكبر. وقال قتادة: هو الذي يأبى أن يقول لا إله إلا الله، وقيل: هو المعجب بما عنده. ولما حكم تعالى على الكافر بالخيبة، ووصفه بكونه جباراً عنيداً وصف كيفية عذابه بأمور: الأوّل: قوله تعالى:
{من ورائه} ، أي: أمامه {جهنم} ، أي: هو صائر إليها. قال أبو عبيدة: هو من الأضداد وقال الشاعر:
*عسى الكرب الذي أمسيت فيه
... يكون وراءه فرج قريب
ويقال أيضاً: الموت وراء كل أحد. وقال تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً} (الكهف، 79) ، أي: أمامهم. وقال ثعلب: هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك أم قدامك، فيصح إطلاق لفظ الوراء على خلف وقدّام. وقال ابن الأنباري: وراء بمعنى بعد. قال الشاعر: وليس وراء الله للخلق مهرب.
ومعنى الآية على هذا: أن الكافر بعد الخيبة يدخل جهنم.
الأمر الثاني: ما ذكره تعالى بقوله:(2/174)
{ويسقى} ، أي: في جهنم {من ماء صديد} وهو ما يسيل من جوف أهل النار مختلطاً بالقيح والدم جعل ذلك شراب أهل النار. وقال محمد بن كعب: هو ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر. فإن قيل: علام عطف {ويسقى} ؟ أجيب: بأنه عطف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى من ماء صديد.
{يتجرّعه} ، أي: يتكلف أن يبتلعه مرّة بعد مرّة لمرارته وحرارته ونتنه {ولا يكاد يسيغه} ، أي: ولا يقدر على ابتلاعه. قال الزمخشري: دخل كاد للمبالغة يعني ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة؟ كقوله تعالى: {لم يكد يراها} (النو، 40) ، أي: لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها؟ فإن قيل: كيف الجمع على هذا الوجه بين {يتجرّعه} و {لا يكاد يسيغه} ؟ أجيب بجوابين: أحدهما: أنّ المعنى ولا يسيغ جميعه كأنه يتجرّع البعض وما أساغ الجميع. والثاني: إنّ الدليل الذي ذكر إنما دل على وصول ذلك الشراب إلى جوف ذلك الكافر؛ لأنّ ذلك ليس بإساغة؛ لأنّ الإساغة في اللغة إجراء الشراب في الحلق واستطابة المشروب، والكافر يتجرّع ذلك الشراب على كراهية ولا يسيغه، أي: لا يستطيبه ولا يشربه شرباً بمرة واحدة، وعلى هذين الوجهين يصح حمل لا يكاد على نفي المقاربة.
الأمر الثالث: ما ذكره تعالى بقوله تعالى: {ويأتيه الموت} ، أي: أسبابه المقتضية له من أنواع العذاب {من كل مكان} ، أي: من سائر الجهات، وقيل: من كل مكان من جسده حتى أصول شعره وإبهام رجله. {وما هو بميت} فيستريح. وقال ابن جريج: تتعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكان من جوفه فتنفعه الحياة.
الأمر الرابع: ما ذكره تعالى بقوله تعالى: {ومن ورائه} ، أي: ومن بين يديه بعد ذلك العذاب {عذاب غليظ} ، أي: شديد كل وقت يستقبله أشدّ مما قبله، وقيل: هو الخلود في النار، وقيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد. ولما ذكر تعالى أنواع عذابهم بين بعده أنّ سائر أعمالهم تصير باطلة ضائعة، وذلك هو الخسران الشديد بقوله تعالى:
{س14ش18/ش23 مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا? بِرَبِّهِمْ? أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ? s يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا? عَلَى شَىْءٍ? ذالِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَا?رْضَ بِالْحَقِّ? إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَبَرَزُوا? لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَا?ؤُا? لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُو?ا? إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ? قَالُوا? لَوْ هَدَ?ـانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ? سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ ا?مْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ? وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِ? أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى? فَ تَلُومُونِى وَلُومُو?ا? أَنفُسَكُمْ? مَّآ أَنَا? بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ? إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ? إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَءَامَنُوا? وَعَمِلُوا? الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ا?نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ? تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}
{مثل} ، أي: صفة {الذين كفروا بربهم أعمالهم} ، أي: الصالحة كصدقة وصلة رحم وفك أسير، وإقراء ضيف، وبر والد في عدم الانتفاع بها {كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف} ، أي: شديد هبوب الريح، فجعلته هباء منثوراً لا يقدر عليه كما قال تعالى: {لا يقدرون} ، أي: الكفار يوم الجزاء {مما كسبوا} ، أي: عملوا في الدنيا {على شيء} ، أي: لا يجدون لهم ثواباً لفقد شرطه وهو الإيمان. وقرأ نافع (الرياح) بالجمع، والباقون بالإفراد. {ذلك} إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون {هو الضلال البعيد} ، أي: الخسران الكبير لأنّ أعمالهم ضلت وهلكت فلا يرجى عودها.
تنبيه: في ارتفاع قوله تعالى: {مثل} أوجه: أحدها: وهو مذهب سيبويه أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا، وتكون الجملة من قوله تعالى: {أعمالهم كرماد} مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم؟ فقيل أعمالهم كرماد.
والثاني: وهو مذهب الفراء التقدير: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد، فحذف المضاف اعتماداً على ذكره بعد المضاف إليه، وهو قوله تعالى: {أعمالهم} ومثله قوله تعالى: {ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة} (الزمر، 60)
المعنى: ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودّة.
الثالث: أن يكون التقدير: صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد كقوله: صفة(2/175)
زيد عرضه مصون وماله مبذول.
الرابع: أن تكون أعمالهم بدلاً من قوله: {مثل الذين كفروا} ، والتقدير مثل أعمالهم وقوله تعالى: {كرماد} هو الخبر. وقيل: غير ذلك. وقوله تعالى:
{ألم تر} ، أي: تنظر خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به أمّته، وقيل: لكل واحد من الكفرة على الالتفات. {أنّ الله خلق السموات} على عظمها وارتفاعها {والأرض} على تباعد أقطارها واتساعها، وقوله تعالى: {بالحق} ، أي: بالحكمة، والوجه الذي يحق أن تخلق عليه متعلق بخلق. وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الخاء وكسر اللام، ورفع القاف، وخفض الأرض. والباقون بغير ألف بعد الخاء، وفتح اللام والقاف، ونصب الأرض. {إن يشأ يذهبكم} أيها الناس {ويأت} بدلكم {بخلق جديد} أطوع منكم، رتب ذلك على كونه خالق السموات والأرض استدلالاً به عليه، فإن من خلق أصولهم وما يتوقف عليه تخليقهم قدر أن يبدلهم بخلق آخر، ولم يمتنع عليه كما قال تعالى:
{وما ذلك على الله بعزيز} ، أي: بممتنع، فإنه تعالى قادر بذاته، ولا اختصاص له بمقدور دون مقدور، ومن هذا شأنه كان حقيقاً أن يؤمن به، ويعبد رجاء ثوابه وخوفاً من عقابه يوم الجزاء. ولما ذكر تعالى أصناف عذاب هؤلاء الكفار، وذكر عقبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة ذكر كيفية مجادلتهم عند تمسك أتباعهم بهم وكيفية افتضاحهم عندهم بقوله تعالى:
{وبرزوا} ، أي: الخلائق من قبورهم {لله جميعاً} والتعبير فيه وفيما يأتي بالماضي، وإن كان معناه الاستقبال لتحقق وقوعه؛ لأنّ كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو حق وصدق وكائن لا محالة، فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود، ونظيره: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} (الأعراف، 44)
تنبيه: البروز في اللغة الظهور بعد الاستتار، وهو في حق الله تعالى محال، فلا بدّ من تأويله وهو من وجهين:
الأوّل: أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش، ويظنون أنّ ذلك خاف على الله تعالى، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عن أنفسهم، وعلموا أنّ الله تعالى لا تخفى عليه خافية.
الثاني: أنهم خرجوا من قبورهم، فبرزوا لحساب الله تعالى وحكمه. ثم حكى الله تعالى؟ عنهم أنّ الضعفاء يقولون للرؤوساء هل تقدرون على دفع عذاب الله تعالى عنا بقوله تعالى: {فقال الضعفاء} ، أي: الأتباع جمع ضعيف يريد به ضعفاء الرأي {للذين استكبروا} ، أي: المتبوعين الذين طلبوا الكبر، وادّعوه فاستغووهم به حتى تكبروا على الرسل، وقوله تعالى: {إنا كنا لكم تبعاً} يصح أن يكون مصدراً نعت به للمبالغة، أو على إضمار مضاف وأن يكون جمع تابع، أي: تابعين لكم في تكذيب الرسل، فكنتم سبب ضلالنا، وقد جرت عادة الأكابر بالدفع عن أتباعهم المساعدين لهم على أباطيلهم {فهل أنتم} ، أي: في هذا اليوم {مغنون} ، أي: دافعون {عنا من عذاب الله} ، أي: من انتقامه {من شيء} فإن قيل: فما الفرق بين من في عذاب الله وبين من في شيء؟ أجيب: بأنّ الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو من بعض عذاب الله؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معاً بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله، وعند هذا حكى الله تعالى عن الذين استكبروا أنهم قالوا: {لو هدانا الله} ، أي: الذي له صفات الكمال {لهديناكم} ، أي: لو أرشدنا الله تعالى لارشدناكم، ودعوناكم إلى الهدى، ولكنه لم يهدنا، فضللنا(2/176)
وكنتم لنا تبعاً فأضللناكم، ولما كان الموجب لقولهم هذا الجزع قالوا: {سواء علينا} ، أي: نحن وأنتم {أجزعنا أم صبرنا} ، أي: مستو علينا الجزع والصبر، والجزع أبلغ من الحزن؛ لأنه يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه {ما لنا من محيص} ، أي: منجى ومهرب مما نحن فيه من العقاب.
تنبيه: يحتمل أن يكون هذا من كلام المتبوعين، وأن يكون كلام الفريقين، ويؤيد الثاني ما روي أنهم يقولون في النار: تعالوا نجزع فيجزعون خمسمئة عام فلا ينفعهم الجزع، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون خمسمئة عام فلا ينفعهم الصبر، فعند ذلك يقولون ذلك. وقال محمد بن كعب القرظي: بلغني أنّ أهل النار استغاثوا بالخزنة كما قال الله تعالى: {وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب} (غافر، 49)
فردّت الخزنة عليهم: {أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى} (غافر، 50)
فردّت الخزنة عليهم: {ادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} (غافر، 50)
فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا: {يا مالك ليقض علينا ربك} (الزخرف، 77)
سألوا الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ثلاثمائة وستون يوماً واليوم {كألف سنة مما تعدون} (الحج، 47)
ثم يجيبهم بقوله: {إنكم ما كثون} . فلما أيسوا مما عنده، قال بعضهم لبعض ذلك. ولما ذكر تعالى المناظرة التي وقعت بين الرؤوساء والأتباع من كفرة الإنس أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وبين أتباعه بقوله تعالى:
{وقال الشيطان} الذي هو أوّل المتبوعين في الضلال ورأس المضلين والمستكبرين {لما قضي الأمر} ، أي: أحكم وفرغ منه، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه وتوبيخه، فيقوم فيهم خطيباً. قال مقاتل: يوضع له منبر من نار، فيجتمع أهل النار إليه يلومونه، فيقول لهم ما أخبر الله تعالى بقوله: {إنّ الله وعدكم وعد الحق} ، أي: بالبعث والجزاء على الأعمال فصدقكم {ووعدتكم} أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب {فأخلفتكم} ، أي: الوعد، فلم أقل شيئاً إلا كان زيفاً، فاتبعتموني مع كوني عدوّكم، وتركتم ربكم وهو وليكم.
تنبيه: في الآية إضمار من وجهين: الأوّل: أنّ التقدير: إنّ الله وعدكم الحق فصدقكم كما تقدّم تقريره، ووعدتكم فأخلفتكم، وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد لأنهم كانوا يشاهدونها، وليس وراء العيان بيان؛ ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف، فدل ذلك على الصدق في وعد الله تعالى.
الثاني: أنّ قوله: {ووعدتكم فأخلفتكم} الوعد يقتضي مفعولاً ثانياً، وحذف هذا للعلم به، والتقدير: ووعدتكم أن لا جنة ولا نار، ولا حشر ولا حساب كما تقرّر، ولما بين غروره بين سهولة اغترارهم زيادة في تنديمهم فقال: {وما كان لي عليكم من سلطان} ، أي: سلطان، فمن مزيدة، أي: قوّة وقدرة أقهركم على الكفر والمعاصي، وألجئكم على متابعتي وقوله: {إلا أن دعوتكم} استثناء منقطع، قال النحويون: لأنّ الدعاء ليس من جنس السلطان، فمعناه: لكن دعوتكم {فاستجبتم لي} محكمين الشهوات؛ لأنّ النفس تدعو إلى هذه الأحوال الدنيوية، ولا يتصور كيفية السعادات الأخروية والكمالات النفسانية والله يدعو إليها يرغب فيها كما قال: {والآخرة خير وأبقى} .
قال الرازي: وعندي أنه يمكن أن يقال كلمة إلا ههنا استثناء حقيقي، لأن قدرة الإنسان على حمل الغير(2/177)
على عمل من الأعمال تارة تكون بالقهر والقسر، وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه، فهذا نوع من أنواع التسليط اه. ثم قال لهم: {فلا تلوموني} ، أي: لأنه ما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة {ولوموا أنفسكم} ؛ لأنكم سمعتم دلائل الله تعالى وجاءتكم الرسل، فكان من الواجب عليكم أن لا تلتفتوا إليّ، ولا تسمعوا قولي، فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم بكم أولى بإجابتي ومتابعتي من غير حجة ولا دليل.
فإن قيل: لم قال الشيطان: {فلا تلوموني} وهو ملوم بسبب إقدامه على تلك الحالة والوسوسة الباطلة؟ أجيب: بأنه أراد لا تلوموني على فعلكم ولوموا أنفسكم عليه؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله تعالى لكم. ثم قال تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال: {ما أنا بمصرخكم} ، أي: بمغيثكم فيما يخصكم من العذاب، فأزيل صراخكم منه. {وما أنتم بمصرخي} ، أي: بمغيثيّ فيما يخصني منه. وقرأ ما عدا حمزة بفتح الياء مع التشديد، وقرأ حمزة بكسر الياء مع التشديد على الأصل في إلتقاء الساكنين؛ لأنّ ياء الإعراب ساكنة، وياء المتكلم أصلها السكون، فلما التقيا كسرت لالتقاء الساكنين.I
قال البيضاوي: وهو أصل مرفوض في مثله لما فيه من اجتماع ياءين وثلاث كسرات مع حركة ياء الإضافة اه. فقوله: أصل مرفوض، أي: متروك عند النحاة، وإلا فهو قراءة متواترة عند القراء، فيجب المصير إليها؛ لأنها وردت من رب العالمين على لسان سيد المرسلين.
وقول الفراء: ولعلها من وهم القراء، فإنه قلّ من سلم منهم من الوهم ممنوع، فقد قال أبو حيان: هي قراءة متواترة نقلها السلف، واقتفى آثارهم فيها الخلف، فلا يجوز أن يقال فيها: إنها خطأ أو قبيحة أو رديئة، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنها لغة لكن قلّ استعمالها، ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع، ونص على أنها صواب أبو عمرو بن العلاء، لما سئل عنها، والقاسم بن معن من روؤساء الكوفيين. قال الله تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال: {إني كفرت بما أشركتموني من قبل} ، أي: كفرت اليوم باشراككم إياي من قبل هذا اليوم، أي: في الدنيا كقوله تعالى: {ويوم القيامة يكفرون بشرككم} (فاطر، 14)
ومعنى كفره بإشراكهم إياه تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله تعالى: {إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم} (الممتحنة، 4)
. وروى البغوي بسنده عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة «يقول: عيسى ذلك النبيّ الأمّي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي من أطيب ريح شمها أحد حتى آتي ربي فيشفعني، ويجعل فيّ نوراً من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكفار قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون: ما هو غير الشيطان هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم قم أنت فاشفع لنا فإنك أضللتنا، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد، ثم يعظم لهبهم ويقول عند ذلك: {إن الله وعدكم وعد الحق} الآية» .
قال في «الكشاف» : وقوله {إن الظالمين} ، أي: الكافرين {لهم عذاب أليم} ، أي: مؤلم من كلام الله تعالى، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس، وإنما حكى الله تعالى ما سيقوله في ذلك الوقت؛ ليكون لطفاً للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لا بدّ لهم من الوصول إليه، وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان(2/178)
ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم. ولما بالغ سبحانه وتعالى في شرح حال الأشقياء من الوجوه الكثيرة شرح أحوال السعداء، وما أعد لهم من الثواب العظيم والأجر الجزيل، وذلك أنّ الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فالمنفعة الخالصة إليها الإشارة بقوله تعالى:
{وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار} وكونها دائمة أشير إليها بقوله تعالى: {خالدين فيها} وهو حال مقدرة، والتعظيم حصل لهم من وجهين: أحدهما: قوله تعالى: {بإذن ربهم} ؛ لأنّ تلك المنافع إنما كانت تفضلاً من الله تعالى وإنعاماً. والثاني: قوله تعالى: {تحيتهم فيها سلام} ؛ لأنّ بعضهم يحيى بعضاً بهذه الكلمة والملائكة يحيونهم بها كما قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم} (الرعد: 23، 24)
والرب يحييهم أيضاً بهذه التحية كما قال تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} (يس، 58)
ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما دخلوا الجنة سلموا من جميع آفات الدنيا وحسراتها وفنون آلامها وأسقامها وأنواع همومها وغمومها؛ لأنّ السلام مشتق من السلامة. ولما شرح سبحانه تعالى أحوال الأشقياء، وأحوال السعداء ذكر مثلاً يبين الحال في حكم هذين القسمين بقوله تعالى:
{ألم تر} ، أي: تنظر، والخطاب يحتمل أن يكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم ويدخل معه غيره، وأن يكون لكل فرد من الناس، أي: ألم تر أيها الإنسان {كيف ضرب الله} ، أي: المحيط بكل شيء علماً وقدرة {مثلاً} سيره بحيث يعم نفعه، والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأوّل، ثم بينه بقوله تعالى: {كلمة طيبة} قال ابن عباس وأكثر المفسرين: هي لا إله إلا الله. {كشجرة طيبة} قال ابن مسعود وأنس: هي النخلة. وعن ابن عباس: هي شجرة في الجنة. وعن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «إنّ الله تعالى ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي؟ قال عبد الله: فوقع الناس في شجر البوادي وكنت صبياً فوقع في قلبي أنها النخلة، فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقولها وأنا صغير القوم» . وروي: فمنعني مكان عمر فاستحييت فقال له عمر: يا بنيّ لو كنت قلتها لكانت أحب إليّ من حمر النعم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا إنها النخلة» . قيل: الحكمة في تشبيه الإنسان بالنخلة من بين سائر الأشجار أنّ النخلة أشبه به من حيث إنها إذا قطع رأسها يبست وسائر الأشجار يتشعب من جوانبها بعد قطع رأسها، وأنها تشبه الإنسان بحيث أنها لا تحمل إلا باللقاح؛ لأنها خلقت من فضلة طينة آدم عليه السلام ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «أكرموا عمتكم قيل: ومن عمتنا؟ قال: النخلة» . {أصلها ثابت} ، أي: في الأرض {وفرعها} ، أي: غصنها {في السماء} ، أي: في جهة العلو والصعود ولم يرد المظلة كقولك في الجبل: طويل في السماء تريد ارتفاعه وشموخه. {تؤتي} ، أي: تعطي. {أكلها} ، أي: ثمرها
{كل حين بإذن ربها} ، أي: بإرادته، والحين في اللغة الوقت يطلق على القليل والكثير، واختلفوا في مقدار هذا، فقال مجاهد: الحين هنا سنة كاملة؛ لأنّ النخلة تثمر في كل سنة مرّة. وقال قتادة: ستة أشهر يعني من حين طلعها إلى وقت صرامها. وقال الربيع: كل حين يعني كل غدوة وعشية؛ لأنّ ثمر النخل يؤكل
ليلاً ونهاراً وصيفاً وشتاء، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والخلال والبسر والمنصف والرطب، وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى(2/179)
حين الطري الرطب، فأكلها دائم في كل وقت.
قال العلماء: ووجه الحكمة في تمثيل كلمة الإخلاص بالشجرة؛ لأنّ الإيمان ثابت في قلب المؤمن كثبوت أصل هذه الشجرة في الأرض، وعمله يصعد إلى السماء كما قال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (فاطر، 10)
فكذلك فرع هذه عال في السماء، وتنال بركته وثوابه كل وقت، والمؤمن كلما قال: لا إله إلا الله، صعدت إلى السماء، وجاءه بركتها وخيرها وثوابها ومنفعتها؛ ولأنّ الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء عرق راسخ وأصل قائم، وفرع عال، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء تصديق القلب، وقول اللسان، وعمل الأبدان، ثم نبه تعالى على عظم هذا المثل ليقبل على تدبره ليعلم المراد منه فيلزم فقال: {ويضرب الله} ، أي: الذي له الإحاطة الكاملة {الأمثال للناس لعلهم يتذكرون} ، أي: يتعظون، فإنّ في ضرب الأمثال زيادة إفهام، وتذكير وتصوير للمعاني العقلية، فيحصل الفهم التامّ والوصول إلى المطلوب. ولما ذكر مثل حال السعداء أتبعه بمثل حال الأعداء فقال:
{ومثل كلمة خبيثة} هي كلمة الكفر {كشجرة خبيثة} هي الحنظل وقيل: الثوم، وقيل: الكشوث بمثلثة في آخره. قال الجوهري: نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض قال الشاعر:
*هي الكشوث لا أصل ولا ورق
... ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر
وقيل شجرة الشوك {اجتثت} ، أي: استؤصلت {من فوق الأرض} ، أي: عروقها قريبة منه {ما لها من قرار} ، أي: أصل ولا عرق، فكذلك الكفر بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوّة. وعن عبادة أنه قيل لبعض العلماء: ما تقول في {كلمة خبيثة} ؟ فقال: ما أعلم لها في الأرض مستقراً ولا في السماء مصعداً إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها يوم القيامة. ولما وصف الله سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة في الآية المتقدّمة أخبر بقوله تعالى:
{يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} أنه تعالى يثبتهم بها {في الحياة الدنيا} ، أي: في القبر، وقيل: قبل الموت {وفي الآخرة} ، أي: يوم القيامة عند البعث والحساب، وقيل: في القبر على القول الثاني. ولما وصف الكلمة الخبيثة في الآية المتقدّمة أخبر بقوله تعالى: {ويضلّ الله الظالمين} ، أي: الكفار أنه تعالى لا يهديهم للجواب الصواب {ويفعل الله ما يشاء} ، أي: إن شاء هدى، وإن شاء أضلّ لا اعتراض عليه. وروي عن البراء بن عازب انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله فذلك قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت} » . وروي عن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ العبد إذا وضع في القبر وتولى عنه أصحابه يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وسلم فأمّا المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله. فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيراهما جميعاً» قال قتادة: ذكر لنا أنه يفسح له في قبره ثم رجع إلى حديث أنس. قال: «وأمّا المنافق أو الكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيه. فيقال: ما دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير(2/180)
الثقلين» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شهدنا جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغنا من دفنها وانصرف الناس قال: «إنه الآن يسمع خفق نعالكم أتاه منكر ونكير أعينهما مثل قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي البقر، وأصواتهما مثل الرعد فيجلسانه فيسألانه ما كان يعبد ومن نبيه؟ فإن كان ممن يعبد الله تعالى قال: كنت أعبد الله ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه فذلك قوله
تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} فيقال له: على اليقين حييت وعليه مت وعليه تبعث، ثم يفتح له باب إلى الجنة ويوسع له في حفرته، وإن كان من أهل الشك قال: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فيقال له: على الشك حييت وعليه مت وعليه تبعث، ثم يفتح له باب إلى النار ويسلط عليه عقارب وتنانين لو نفخ أحدهم في الدنيا ما أنبتت شيئاً، فتنهشه وتؤمر الأرض فتنضم عليه حتى تختلف أضلاعه» . فنسأل الله الثبات لنا ولوالدينا ولأحبابنا في الدنيا والآخرة إنه كريم جواد. ثم إنه تعالى عاد إلى وصف الكافرين فقال:
{ألم تر} ، أي: تنظر، وفي المخاطب ما تقدّم {إلى الذين بدّلوا} والتبديل جعل الشيء مكان غيره {نعمة الله} ، أي: التي أسبغها عليهم من كلمة التوحيد ومن جميع النعم الدنيوية وتيسير الرزق وغير ذلك بأن جعلوا مكان شكرها {كفراً} وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان، وأعلاهم همماً في الوفاء وأبعدهم عن الجفاء {وأحلوا} ، أي: أنزلوا {قومهم} ، أي: الذين تابعوهم في الكفر بإضلالهم إياهم {دار البوار} ، أي: الهلاك مع إدعائهم أنهم أذب الناس عن الجار فضلاً عن الأهل. روى البخاري في التفسير أنهم كفار أهل مكة، وقوله تعالى:
{جهنم} عطف بيان {يصلونها} ، أي: يدخلونها {وبئس القرار} ، أي: المقر هي.
{وجعلوا لله} ، أي: الذين يعلمون أنه لا شريك له في خلقهم ولا رزقهم؛ لأنّ له الكمال كله {أنداداً} ، أي: شركاء، وقوله تعالى: {ليضلوا عن سبيله} ، أي: دين الإسلام، فيه قراءتان: قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من ضلّ، يضلّ والباقون بضم الياء من أضل يضل، وليس الضلال ولا الإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض. ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأنواع الثلاثة من الأعمال القبيحة قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل} ، أي: تهديداً لهم، فإنهم لا يشكون في قولك وإن عاندوا {تمتعوا} بدنياكم قليلاً {فإن مصيركم} ، أي: مرجعكم {إلى النار} في الآخرة، ولما أمر الله تعالى الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا، أمر المؤمنين بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال بقوله تعالى:
{قل لعبادي} فوصفهم بأشرف أوصافهم، وأضافهم إلى ضميره الشريف تحبباً لهم فيه، ثم أتبع هذا الوصف ما يناسبه من إذعانهم لسيدهم بقوله تعالى: {الذين آمنوا} ، أي: أوجدوا هذا الوصف {يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم} فيه وجهان: أحدهما: يصح أن يكون جواباً بالأمر محذوف تقديره قل لعبادي الذين آمنوا: أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. والثاني: يصح أن يكون هو أمراً مقولاً محذوفاً منه اللام، أي: ليقيموا ليصح تعلق القول بهما، وإنما حسن ذلك هاهنا ولم يحسن في قوله:(2/181)
*محمد تفد نفسك كل نفس
... إذا ما خفت من شيء تبالا
أي تبالى به، أي: تكثرت به لدلالة قل عليه: {سراً وعلانية} ، أي: ينفقون أموالهم في حال السر والعلانية، وقيل: المراد بالسر صدقة التطوع، وبالعلانية إخراج الزكاة الواجبة.
تنبيه: في انتصاب سرّاً وعلانية وجوه: أحدها: أن يكون على الحال، أي: ذوي سر وعلانية بمعنى مسرّين ومعلنين. والثاني: على الظرف، أي: وقت سر وعلانية. وثالثها: على المصدر، أي: إنفاق سر وإنفاق علانية. ولما أمرهم الله تعالى بإقامة الصلاة والإنفاق أشار إلى عدم التهاون بذلك بقوله عز وجل: {من قبل أن يأتي يوم} ، أي: عظيم جدّاً ليس كشيء من الأيام التي تعرفونها {لا بيع فيه} ، أي: فيشتري المقصر ما يتدارك به تقصيره، أو يفدي به نفسه {ولا خلال} ، أي: مخالة، أي: صداقة تنفع في ذلك اليوم.
قال مقاتل: إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة، فكأنه تعالى يقول: أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا يحصل فيه مبايعة ولا مخالة، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة: {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} (البقرة، 254)
. فإن قيل: كيف نفى الله تعالى المخالة في هاتين الآيتين مع أنه تعالى أثبتها في قوله تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين} (الزخرف، 67)
أجيب: بأن الآية الدالة على نفي المخالة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس، والآية الدالة على حصول المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى. ولما طال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، وكانت العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله تعالى بذاته وصفاته، وفي حصول الشقاوة فقدان ذلك ختم تعالى أحوال الفريقين بقوله تعالى:
{الله} ، أي: الملك الأعلى المحيط بكل شيء، ثم اتبعه بالدلائل الدالة على وجوده وكمال علمه وقدرته، وذكر هنا عشرة أنواع من الدلائل: أوّلها: قوله تعالى: {الذي خلق السموات} وثانيها: قوله تعالى: {والأرض} وهما أكبر خلقاً منكم وأعظم شأناً. وثالثها قوله تعالى: {وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم} تعيشون به وهو يشمل المطعوم والملبوس.
تنبيه: الله مبتدأ، وخبره الذي خلق، ورزقاً مفعول لأخرج، ومن الثمرات بيان له حال منه، ويصح أن يكون المراد بالسماء هنا السحاب اشتقاقاً من السمو والارتفاع، وأن يكون الجرم المعهود فينزل من السماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض، وقد ذكرت ذلك في سورة البقرة، وفي غيرها، ورابعها قوله تعالى: {وسخر لكم الفلك} ، أي: السفن {لتجري في البحر} ، أي: بالركوب والحمل {بأمره} ، أي: بمشيئته وإرادته، وخامسها: قوله تعالى: {وسخر لكم الأنهار} ، أي: ذللها لكم تجرونها حيث شئتم؛ لأنّ ماء البحر لا ينتفع به في سقي الزروع والثمرات ولا في الشراب فكان ذلك نعمة من الله تعالى، وسادسها وسابعها: قوله تعالى:
{وسخر لكم الشمس والقمر} حال كونهما {دائبين} ، أي: جاريين في فلكهما لا يفتران في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إنارة الظلمة، وإصلاح النبات والحيوان إلى آخر الدهر، وهو انقضاء عمر الدنيا وذهابها، والشمس سلطانها النهار، وبها تعرف فصول السنة، وهي أفضل من القمر لكثرة نفعها، والقمر سلطانه الليل، وبه يعرف انقضاء(2/182)
الشهور، وكل ذلك بتسخير الله تعالى وإنعامه، وثامنها وتاسعها: قوله تعالى: {وسخر لكم الليل والنهار} يتعاقبان فيكم بالضياء والظلمة، والزيادة والنقصان، وذلك من نعم الله تعالى على عباده حيث جعل لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليبتغوا فيه من فضله. وعاشرها: قوله تعالى:
{وآتاكم من كل ما سألتموه} ، أي: مما أنتم محتاجون إليه على حسب مصالحكم، فأنتم سألتموه بالقوّة. ولما ذكر سبحانه وتعالى بعض ما أنعم به على عباده بين أنّ العبد عاجز عن حصرها وعدّها بقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} ، أي: لا تحيطوا بها ولا تطيقوا عدّها وبلوغ آخرها هذا إذا أرادوا أن يعدّوها على الإجمال، وأمّا على التفصيل فلا يقدر عليه ولا يعلمه إلا الله تعالى. {إنّ الإنسان} ، أي: الكافر، وقال ابن عباس: يريد أبا جهل. {لظلوم} ، أي: كثير الظلم لنفسه {كفار} ، أي: كفور لنعم ربه، وقيل: ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع. فإن قيل: لم قال تعالى هنا {إنّ الإنسان لظلوم كفار} وفي النحل: {إنّ الله لغفور رحيم} (النحل، 18)
أجيب: بأنه تعالى يقول للعبد: إذاحصلت لك النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها فحصل لك عند أخذها وصفان، وهما كونك ظلوماً كفاراً، ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفوراً رحيماً، والمقصود كأنه يقول: إن كنت ظلوماً فأنا غفور وإن كنت كفاراً فأنا رحيم أعلم عجزك وتقصيرك فلا أقابل تقصيرك، إلا بالتوقير ولا أجازي جزاءك إلا بالوفاء، ونسأل الله حسن والعاقبة والرحمة. ولما بين الله تعالى بالدلائل المتقدّمة لأن لا معبود إلا الله سبحانه وتعالى وأنه لا تجوز عبادة غير الله البتة، حكي عن إبراهيم عليه السلام مبالغة في إنكاره عبادة الأوثان بقوله تعالى:
{وإذ} ، أي: واذكر لهم مذكراً بأيام الله خبر إبراهيم إذ {قال إبراهيم رب} ، أي: المحسن إليّ بإجابة دعائي {اجعل هذا البلد} ، أي: مكة {آمناً} ، أي: ذا أمن، وقد أجاب الله تعالى دعاءه، فجعله حرماً لا يسفك فيه دم إنسان، ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه. فإن قيل:، أي: فرق بين قوله: {اجعل هذا بلداً آمناً} (البقرة، 126)
وبين قوله: {اجعل هذا البلد آمناً} (إبراهيم، 35)
بأنّ المسؤول في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني: أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها، وهي الخوف ويجعل لها تلك الصفة، وهي الأمن كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمناً.
فإن قيل: كيف أجاب الله تعالى دعاءه مع أنّ جماعة من الجبابرة قد أغاروا عليها وأخافوا أهلها؟ أجيب: بجوابين: أحدهما: أنّ إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب، وهذا موجود بحمد الله تعالى فلم يقدر أحد على إخراب مكة. فإن قيل: يرد على هذا ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» ؟ أجيب: بأنّ قوله تعالى: {اجعل هذا البلد} (إبراهيم، 35)
يعني إلى قرب يوم القيامة وخراب الدنيا فهو عام مخصوص بقصة ذي السويقتين، فلا تعارض بين النصين، والجواب الثاني: أنّ المراد جعل أهلها آمنين كقوله تعالى: {واسأل القرية} (يوسف: 82) ، أي: أهلها وهذا الجواب عليه أكثر المفسرين، وعلى هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله تعالى بقوله: {ويتخطف الناس من حولهم} (العنكبوت، 67)
وأهل مكة آمنون من ذلك حتى أنّ(2/183)
من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وماله، وحتى أنّ الوحوش إذا كانت خارجة الحرم استوحشت، وإذا كانت داخلة الحرم استأنست؛ لعلمها أنه لا يهجيها أحد في الحرم، وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها {واجنبني} ، أي: بعدني {وبنيّ أن} ، أي: عن أن {نعبد الأصنام} ، أي: اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها.
فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون فما الفائدة في قوله: {واجنبني} عن عبادة الأصنام؟ أجيب: بأنه عليه الصلاة والسلام إنما سأل ذلك هضماً لنفسه، وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب، وفي ذلك دليل على أنّ عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحفظه إياهم. فإن قيل: كان كفار قريش من أبنائه مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام فكيف أجيب دعاؤه؟ أجيب: بأنّ المراد من كان موجوداً حال الدعاء، ولا شبهة أنّ دعوته كانت مجابة فيهم، أو أنّ هذا الدعاء مخصوص بالمؤمنين من أولاده، والدليل عليه أنه قال عليه السلام في آخر الآية: {فمن تبعني فإنه مني} (إبراهيم، 36)
وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، ونظيره قوله تعالى: {إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} (هود، 46) ، والصنم المنحوت على خلقة البشر وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهو وثن، قاله الطبري. ولذا لما سئل ابن عيينة كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال: ما عبد أحد من بني إسماعيل صنماً، واحتج بقوله تعالى: {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام} (إبراهيم، 35)
وإنما كانت أنصاب الحجارة لكل قوم قالوا: البيت حجر فحينما نصبنا حجراً فهو بمنزلة البيت فكانوا يدورون بذلك الحجر، أي: يطوفون به أسابيع تشبيهاً بالكعبة، ويسمونه الدوّار بضم الدال مشدّدة، وقد تفتح، قال الجوهري: دوّار بالضم صنم وقد تفتح فاستحب أن يقال طاف بالبيت، ولا يقال دار بالبيت. قال الرازي: وهذا الجواب ليس بقوي؛ لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله، والحجر كالصنم في ذلك. ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم أنه قال:
{رب إنهن} ، أي: الأصنام {أضللن كثيراً من الناس} بعبادتهم لها.
تنبيه: اتفق كل الفرق على أن قوله: أضللن مجاز؛ لأنها جمادات، والجماد لايفعل شيئاً البتة إلا أنه لما حصل عند عبادتها أضيف إليها كما تقول: فتنتهم الدنيا وغرّتهم، أي: افتتنوا بها واغتروا بسببها ثم قال: {فمن تبعني} ، أي: على التوحيد {فإنه مني} ، أي: فإنه جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه وقربه مني {ومن عصاني} ، أي: في غير الدين {فإنك غفور رحيم} وهذا صريح في طلب الرحمة والمغفرة لأولئك العصاة، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثبت حصولها في حق محمد صلى الله عليه وسلم لأنه مأمور بالإقتداء به كما قال تعالى: {واتبع ملة إبراهيم} (النساء، 125)
وقيل: إنّ هذا الدعاء كان قبل أن يعلم إبراهيم أنّ الله لايغفر الشرك، وقيل: إنك قادر أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام، وقيل: المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب، فلا يمهلهم حتى يتوبوا، قال الرازي: واعلم أنّ هذه الأوجه ضعيفة، وارتضى ما تقرّر أولاً.
تنبيه: حكى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب من الله تعالى سبعة أمور: الأوّل: طلب من الله تعالى نعمة الأمان، وهو (رب اجعل هذا البلد آمناً) المطلوب الثاني: أن يرزقه الله تعالى التوحيد ويصونه عن الشرك وهو قوله: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} المطلوب(2/184)
الثالث قوله:
{ربنا إني أسكنت من ذريتي} (إبراهيم، 37) ، أي: بعض ذريتي أو ذرّية من ذريتي، فحذف المفعول على هذا القول، وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم {بواد} هو وادي مكة المشرفة لكونه في فضاء منخفض بين جبال تجري فيه السيول {غير ذي زرع} ، أي: لايكون فيه من الزرع قط، فإنه حجري لا ينبت كقوله تعالى: {قرآناً عربياً غير ذي عوج} (الزمر، 28)
بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج {عند بيتك المحرم} ، أي: الذي حرمت التعرض له، والتهاون به، وجعلت ما حوله حرماً لمكانه؛ أو لأنه لم يزل ممنعاً عزيزاً يهابه كل جبار كالشيء المحرّم الذي حقه أن يجتنب؛ أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه؛ أو لأنه حرّم على الطوفان، أي: منع منه كما سمي عتيقاً؛ لأنه أعتق منه فلم يستول عليه، أو لأنه أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل، أو لأنه حرم موضع البيت حين خلق السموات والأرض، وحفه بسبعة أملاك، وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم فرفع إلى السماء السادسة، وروي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل، فقالت سارة: كنت أريد أن يهب الله لي ولداً من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي، وغارت عليهما، وقالت لإبراهيم: بعدهما مني وناشدته بالله أن يخرجهما من عندها، فنقلهما إلى مكة وإسماعيل رضيع حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هناك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفل إبراهيم منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل وقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولاشيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وهو لا يلتفت إليها فقالت له آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم قالت: إذاً لايضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لايرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه وقال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي} (إبراهيم، 37)
حتى بلغ (يشكرون) وجعلت أم إسماعيل ترضعه وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يلتوي، أو قال: يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى من أحد، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرّات قال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه، تريد نفسها ثم تسمعت، فسمعت أيضاً فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم «يرحم الله أمّ إسماعيل لو تركت زمزم أو قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً» قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وأنّ الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية يأتيه السيل فيأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كذا، فنزلوا في أسفل مكة، فنظروا طائراً: فقالوا إننّهذا الطائر ليدور على الماء(2/185)
لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم قال ابن عباس: قالت ذلك أمّ إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم فشب الغلام وتعلم العربية منهم، وألفهم وأعجبهم حتى شب، فلما أدرك زوّجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوّج إسماعيل وتقدّم تمام هذه القصة في سورة البقرة.
ثم قال: {ربنا ليقيموا الصلاة} اللام لام كي متعلقة بأسكنت، أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي المقفر الذي لا شيء فيه إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرّم، ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبرّكين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستعبدين بجوارك الكريم متقرّبين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين الرحمة التي آثرت بها سكان حرمك، وتكرير النداء وتوسطه للإشعار بأنهما المقصود بالذات من إسكانهم هناك، والمقصود من الدعاء توفيقهم لها {فاجعل أفئدة} ، أي: قلوباً محترقة بالأشواق {من الناس} ومن للتبعيض، والمعنى: واجعل أفئدة بعض الناس {تهوي} ، أي: تميل {إليهم} ويدلّ عليه ما روي عن مجاهد لو قال: أفئدة الناس لزحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند. وقال سعيد بن جبير: لو قال أفئدة الناس لحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: {أفئدة من الناس} فهم المسلمون. وقال ابن عباس: لو قال: أفئدة الناس لحنت إليه فارس والروم والناس كلهم. ولما دعا لهم بالدين دعا لهم بالرزق فقال: {وارزقهم من الثمرات} ولم يقل: وارزقهم الثمرات، وذلك يدل على أنّ المطلوب بالدعاء إيصال بعض الثمرات إليهم، ويحتمل أن يكون المراد بإيصال بعض الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات كما قال تعالى: {يجبى إليه ثمرات كل شيء} (القصص، 57)
حتى توجد فيه الفواكه الصيفية والربيعية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجب، وأن يكون المراد عمارة القرى بالقرب منها لتحصل تلك الثمار. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت الطائف من أرض فلسطين، فلما قال إبراهيم ذلك رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقاً للحرم. {لعلهم يشكرون} يدلّ على أنّ المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرّغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات، فإنّ إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرّغوا لإقامة الطاعات وأداء الواجبات. ولما طلب عليه السلام من الله تعالى تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهاية الأمور في المستقبل، فإنه تعالى هو العالم بها والمحيط بأسرارها فقال: {ربنا إنك تعلم ما نخفي} ، أي: نسر {وما نعلن} وهذا هو المطلوب الرابع: والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا، قيل: ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسماعيل، وما نعلن من البكاء، وقيل: ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قال، ت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا. واختلف في قوله تعالى: {وما يخفى على(2/186)
الله من شيء في الأرض ولا في السماء} فقيل: من تتمة قول إبراهيم عليه السلام يعني: وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في، أي: مكان، والأكثرون على أنه قول الله تعالى تصديقاً لإبراهيم فيما قال، كقوله تعالى: {وكذلك يفعلون} (النمل، 34)
ولفظة من تفيد الاستغراق، كأنه قيل وما يخفى عليه شيء ما. ولما تم إبراهيم عليه السلام ما دعا به أتبعه الحمد على ما رزقه من النعم بقوله تعالى:
{الحمد لله} ، أي: المستجمع لصفات الكمال {الذي وهب لي} ، أي: أعطاني {على الكبر} ، أي: وهب لي وأنا كبير آيس من الولد، قيد الهبة بحال الكبر استعظاماً للنعمة وإظهاراً لما فيه من المعجزة {إسماعيل وإسحاق} ومقدار ذلك السنّ غير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات، فقال ابن عباس: ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مئة واثنتي عشرة سنة.
فإن قيل: إنّ إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء عندما أسكن إسماعيل وأمّه في ذلك الوادي، وفي ذلك الوقت ما ولد إسحاق، فكيف يمكنه أن يقول ذلك؟ أجيب: بأن هذا يقتضي أنّ إبراهيم إنما ذكر هذا الكلام في زمن آخر لا عقب ما تقدّم من الدعاء. قال الرازي: ويمكن أيضاً أن يقال: إنه عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسماعيل وظهور إسحاق، وإن كان ظاهر الروايات بخلافه انتهى. تنبيه: قوله (على الكبر) بمعنى مع كقوله:
*إني على ما ترين من كبري
... أعلم من حيث يؤكل الكتف
وهو في موضع الحال. ولما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإفصاح والتصريح قال: {إنّ ربي} ، أي: المحسن إليّ {لسميع الدعاء} ، أي: لمجيبه. فإن قيل: الله تعالى يسمع كل دعاء أجابه أو لم يجبه؟ أجيب: بأن هذا من قولك: سمع الملك كلامي إذا اعتدّ به وقبله، ومنه سمع الله لمن حمده. المطلوب الخامس: قوله: {رب اجعلني مقيم الصلاة} ، أي: معدّلاً لها مواظباً عليها.
تنبيه: في الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنّ قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام} (إبراهيم، 35)
يدل على أنّ ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله تعالى. وقوله: {رب اجعلني مقيم الصلاة} يدل على أنّ فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله تعالى، وذلك تصريح بأنّ إبراهيم عليه السلام كان مصراً على أنّ الكل من الله تعالى، وقوله تعالى: {ومن ذرّيتي} عطف على المنصوب في اجعلني، أي: واجعل بعض ذريتي كذلك؛ لأن كلمة من في قوله (ومن ذرّيتي) للتبعيض، وأما ذكر هذا التبعيض، فلأنه علم بإعلام الله تعالى أنه يكون في ذرّيته جمع من الكفار وذلك قوله تعالى: {ولا ينال عهدي الظالمين} (البقرة، 124)
. المطلوب السادس: أنه عليه السلام لما دعا الله تعالى في المطالب المذكورة دعا الله تعالى في أن يقبل دعاءه فقال: {ربنا وتقبل دعاء} . قال ابن عباس: يريد عبادتي بدليل قوله تعالى: {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله} (مريم، 48)
. وقيل: دعائي المذكور المطلوب السابع قوله:
{ربنا} ، أي: أيها المالك لأمورنا المدبر لنا {اغفر لي} فإن قيل: إنّ طلب المغفرة إنما يكون بعد سابقة ذنب أجيب: بأن المقصود من ذلك الالتجاء إلى الله تعالى، وقطع الطمع إلا من فضله وكرمه ورحمته، ثم أشرك معه أقرب الناس إليه وأحقهم بشكره فقال: {ولوالديّ} فإن قيل: كيف جاز أن يستغفر لوالديه وكانا(2/187)
كافرين؟ أجيب بوجوه: الأول: أنّ المنع منه لا يعلم إلا بتوقيف، فلعله لم يجد منه منعاً وظنّ كونه جائزاً، الثاني: أراد بوالديه آدم وحواء، الثالث: كان ذلك بشرط الإسلام، وقال بعضهم: كانت أمّه مؤمنة ولذلك خص أباه بالذكر في قوله: {فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه} (التوبة، 114)
. ثم دعا لمن تبعه في الدين من ذريته وغيرهم بقوله {وللمؤمنين} ، أي: العريقين في هذا الوصف {يوم يقوم} ، أي: يبدو ويظهر {الحساب} وقيل: أراد يوم يقوم الناس فيه للحساب، فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهوماً عند السامع، وهذا دعاء للمؤمنين بالمغفرة، والله تعالى لا يردّ دعاء خليله إبراهيم عليه السلام، وفيه بشارة عظيمة للمؤمنين بالمغفرة، فنسأل الله تعالى أن يغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولأحبابنا ولمن نظر في هذا التفسير، ودعا لمن كان سبباً فيه بالمغفرة. ولما بيّن تعالى دلائل التوحيد، ثم حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله تعالى أن يصونه عن الشرك، وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة عقبه بقوله تعالى مخاطبة لنبيه صلى الله عليه وسلم
{ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} ؛ لأنّ الغفلة معنى يمنع الإنسان عن الوقوف على حقائق الأمور، وقيل: حقيقة الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ، وهذا في حق الله تعالى محال، والمقصود من ذلك التنبيه على أنه ينتقم للمظلوم من الظالم، ففيه وعيد وتهديد للظالم، وإعلام له بأنه لا يعامله معاملة الغافل عنه بل ينتقم ولا يتركه مغفلاً عنه، وعن سفيان بن عيينة فيه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم، فقيل له: من قال هذا؟ فغضب، وقال: إنما قاله من علمه.
فإن قيل: كيف يليق به صلى الله عليه وسلم أن يحسب الله موصوفاً بالغفلة وهو أعلم الناس به؟ أجيب: بوجوه: الأوّل: أنّ المراد به التثبت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً كقوله: {لا تدع مع الله إلهاً آخر} (القصص، 88)
. والثاني: أنّ المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم. والثالث: أنّ المراد ولا تحسبنه معاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. والرابع: أن يكون هذا الكلام وإن كان خطاباً مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الظاهر إلا أنه يكون في الحقيقة خطاباً مع الأمّة. ثم بيّن تعالى أنه {إنما يؤخرهم} ، أي: عذابهم {ليوم} موصوف بخمس صفات الصفة الأولى: قوله تعالى: {تشخص فيه الأبصار} ، أي: أبصارهم لا تقرّ مكانها من هول ما ترى في ذلك اليوم. الصفة الثانية: قوله تعالى:
{مهطعين} ، أي: مسرعين إلى الداعي أو مقبلين بأبصارهم لا يطرقون هيبة وخوفاً. وقيل: المهطع الخاضع الذليل الساكن. الصفة الثالثة: قوله تعالى: {مقنعي رؤوسهم} ، أي: رافعيها إذ الإقناع: رفع الرأس إلى فوق، فأهل الموقف من صفتهم أنهم رافعو رؤوسهم إلى السماء، وهذا بخلاف المعتاد؛ لأنّ من يتوقع البلاء يطرق بصره إلى الأرض. وقال الحسن: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. الصفة الرابعة: قوله تعالى: {لا يرتدّ إليهم طرفهم} ، أي: بل تثبت عيونهم شاخصة لا يطرفون بعيونهم، ولكن عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان قد شغلهم ما بين أيديهم. الصفة الخامسة: قوله تعالى: {وأفئدتهم} ، أي: قلوبهم {هؤاء} ، أي: خالية من العقل لفرط الحيرة(2/188)
والدهشة. وقال قتادة: خرجت قلوبهم عن صدورهم، فصارت في حناجرهم، فلا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أماكنها.
تنبيه: اختلفوا في وقت حصول هذه الصفات، فقيل: إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقب وصف ذلك بأنه يقوم الحساب، وقيل: إنها تحصل عندما يتميز فريق عن فريق، فالسعداء يذهبون إلى الجنة والأشقياء إلى النار. وقيل: يحصل عند إجابة الداعي والقيام من القبور. قال الرازي: والأوّل أولى.
{وأنذر الناس} يا محمد، أي: خوّفهم يوم القيامة وهو قوله تعالى: {يوم يأتيهم العذاب} ، أي: الذي تقدّم ذكره، وهو شخوص أبصارهم وكونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم. {فيقول الذين ظلموا} ، أي: كفروا {ربنا أخرنا} ، أي: بأن تردّنا إلى الدنيا {إلى أجل قريب} إلى أمد واحد من الزمان قريب {نجب دعوتك} ، أي: بالتوحيد ونتدارك ما فرّطنا فيه {ونتبع الرسل} فيما يدعوننا إليه، فيقال لهم توبيخاً: {أو لم تكونوا أقسمتم} ، أي: حلفتم {من قبل} في الدنيا {ما لكم} وأكد النفي بقوله: {من زوال} ، أي: ما لكم عنها انتقال ولا بعث ولا نشور كما قال في آية أخرى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} (النمل، 38)
وكانوا يقولون: لا زوال لنا من هذه الحياة إلى حياة أخرى، ومن هذه الدار إلى دار المجازاة، لا أنهم كانوا ينكرون أن يزولوا عن حياة إلى موت، أو عن شباب إلى هرم، أو عن غنى إلى فقر، ثم إنه تعالى زادهم توبيخاً آخر بقوله تعالى:
{وسكنتم} في الدنيا {في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} بالكفر من الأمم السابقة {وتبين لكم كيف فعلنا بهم} ، أي: وظهر لكم بما تشاهدون في منازلهم من آثار ما نزل بهم، وما تواتر عندكم من أخبارهم {وضربنا} ، أي: وبينا {لكم الأمثال} في القرآن أنّ عاقبتهم عادت إلى الوبال والخزي والنكال، مما يعلم به أنه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل، وذلك في كتاب الله تعالى كثير. ولما ذكر تعالى صفة عقابهم أتبعه بذكر كيفية مكرهم بقوله تعالى:
{وقد مكروا مكرهم} ، أي: الشديد العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم، واختلف في عود الضمير في مكروا على وجوه: الأوّل: أن يعود إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ لأنّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور. والثاني: إلى قوم محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: {وأنذر} ، أي: يا محمد الناس وقد مكر قومك مكرهم، وذلك المكر هو الذي ذكر الله تعالى في قوله: {إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} (الأنفال، 30)
. {وعند الله مكرهم} ، أي: ومكتوب عند الله فعلهم، فهو مجازيهم عليه بمكر عو أعظم منه.
وقيل: إنّ مكرهم لا يزيل أمر محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال.k
وقد حكي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الآية قول آخر وهو أنها نزلت في نمروذ الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه فقال نمروذ: إن كان ما يقوله إبراهيم حقاً فلا أنتهي حتى أصعد إلى السماء، فأعلم ما فيها، ثم أمر نمروذ صاحبه فاتخذ لنفسه تابوتاً، وجعل له باباً من أعلاه وباباً من أسفله، وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور، وكان قد جوّعها، ورفع فوق الجوانب الأربع من التابوت عصياً أربعة وعلق على كل واحدة منها قطعة لحم، ثم إنه جلس مع صاحبه في ذلك التابوت، فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جوّ(2/189)
الهواء، فطارت يوماً حتى أبعدت في الهواء، فقال نمروذ لصاحبه: افتح الباب الأسفل، وانظر إلى الأرض كيف تراها؟ ففعل فقال: أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان قال: فطارت النسور، يوماً آخر وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران، فقال نمروذ لصاحبه: افتح الباب الأعلى، ففتح فإذا السماء كهيئتها، وفتح الباب الأسفل، فإذا الأرض سوداء مظلمة، ونودي أيها الطاغي أين تريد؟ قال عكرمة: كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب، فرمى بسهم فعاد إليه السهم ملطخاً بالدم بدم سمكة قذفت نفسها من بحر في الهواء، وقيل: طائر أصابه السهم فقال: كفيت إله السماء، فنكس تلك العصيّ التي علق عليها اللحوم، فتسفلت النسور، وهبطت إلى الأرض، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنسور، ففزعت وظنت أن قد حدث في السماء حدث وأن القيامة قد قامت، فكادت تزول عن أماكنها فذلك قوله تعالى: {وإن كان مكرهم} ، أي: من القوّة والضخامة {لتزول منه الجبال} قال الرازي: ولا حاجة في تأويل الآية إلى هذا، فإنه لم يجيء فيه خبر صحيح معتمد انتهى. والمراد بالجبال هنا قيل: حقيقتها وقيل شرائع الإسلام المشبهة بها في القرار والثبات. وقرأ الكسائيّ بفتح اللام الأولى ورفع الأخيرة، والباقون بكسر الأولى وفتح الثانية، والتقدير على القراءة الأولى: وإن كان بحيث أنه تزول منه
الجبال، وقيل: أن نافية واللام لتأكيد النفي.
{فلا تحسبنّ الله} الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد منه أمّته {مخلف وعده رسله} من النصر وإعلاء الكلمة، وإظهار الدين كما قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا} (غافر، 51)
. وقال تعالى: {كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي} (المجادلة، 21)
. فإن قيل: هلا قال مخلف رسله وعده ولم قدّم المفعول الثاني على الأوّل؟ أجيب: بأنه تعالى قدّم ذلك ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله تعالى: {إنّ الله لا يخلف الميعاد} (آل عمران، 9)
ثم قال: رسله ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، فكيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته؟ {إنّ الله} ، أي: ذو الجلال والإكرام {عزيز} ، أي: غالب يقدر ولا يقدر عليه {ذو انتقام} ، أي: ممن عصاه وقوله تعالى:
{س14ش48/ش52 يَوْمَ تُبَدَّلُ ا?رْضُ غَيْرَ ا?رْضِ وَالسَّمَاوَاتُ? وَبَرَزُوا? لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَـ?ـ?ِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ا?صْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ? إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَاذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا? بِهِ? وَلِيَعْلَمُو?ا? أَنَّمَا هُوَ اله وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا? ا?لْبَابِ}
بدل من يوم يأتيهم، أو ظرف للانتقام، والمعنى: يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير هذه المعروفة، وقوله تعالى: {والسموات} عطف على الأرض وتقديره والسموات غير السموات، والتبديل التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك بدلت الدراهم دنانير، ومنه {بدلناهم جلوداً غيرها} (النساء، 56)
{وبدلناهم بجنتيهم جنتين} (سبأ، 16)
. وفي الأوصاف كقولك: بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل آخر، ومنه قوله تعالى: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} (الفرقان، 70)
والآية محتملة لكل واحد من هذين المفهومين، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هي تلك الأرض، وإنما تغير أوصافها، وأنشد:
*وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعلم*
فتتبدّل أوصافها فتسير عن الأرض جبالها، وتفجر بحارها، وتستوي فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، وتبدل السماء بانتثار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاقها وكونها أبواباً، ويدلّ لذلك قوله صلى الله عليه وسلم «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء(2/190)
كقرصة النقاء ليس فيها علم لأحد» أخرجاه في الصحيحين، العفراء بالعين المهملة، وهي البيضاء إلى حمرة، ولهذا شبهها بقرصة النقاء، وهو الجير الأبيض الجيد الفائق المائل إلى الحمرة. كأن النار ميلت بياض وجهه إلى الحمرة، وقوله: ليس فيها علم لأحد يعني: ليس فيها علامة لأحد لتبديل هيئتها وصفتها وزوال جبالها وجميع بنائها، فلا يبقى فيها أثر يستدلّ به. وعن ابن مسعود أنه قال: تبدل الأرض بأرض كالفضة البيضاء نقية لم يسفك فيها دم، ولم تعمل عليها خطيئة. وقال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه: الأرض من فضة والسماء من ذهب. وقال محمد بن كعب وسعيد بن جبير: تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه. وعن الضحاك أيضاً: من فضة كالصحائف. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فأين يكون الناس يومئذٍ يا رسول الله؟ فقال: «على الصراط» . أخرجه مسلم. وروى ثوبان أنّ حبراً من اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أين تكون الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض؟ قال: «هم في الظلمة دون الجسر» . قال الرازي: واعلم أنه لا يبعد أن يقال: المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض
جهنم والسموات الجنة، والدليل عليه قوله تعالى: {كلا إنّ كتاب الأبرار لفي عليين} (المصطففين، 18)
. وقوله تعالى: {كلا إنّ كتاب الفجار لفي سجين} (المصطففين، 7)
. {وبرزوا} ، أي: خرجوا من قبورهم {لله} ، أي: لحكمه والوقوف بين يديه تعالى للحساب {الواحد} ، أي: الذي لا شريك له {القهار} ، أي: الذي لا يدافعه شيء عن مراده كما قال تعالى: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} (غافر، 16)
. ولما وصف نفسه سبحانه وتعالى بكونه قهاراً بين عجزهم وذلتهم بقوله تعالى:
{وترى} يا محمد، أي: تبصر {المجرمين} ، أي: الكافرين {يومئذٍ} ، أي: يوم القيامة، ثم ذكر تعالى من صفات عجزهم وذلتهم أموراً: الصفة الأولى: قوله تعالى: {مقرّنين} ، أي: مشدودين {في الأصفاد} جمع صفد وهو القيد. قال الكلبي: كل كافر مع شيطان في غل. وقال عطاء: وهو معنى قوله تعالى: {وإذا النفوس زوجت} (التكوير، 7) ، أي: قرنت فتقرن نفوس المؤمنين الحور العين، ونفوس الكافرين بقرنائهم من الشياطين، وقيل: هو قرن بعض، الكفار ببعض فتضم تلك النفوس الشقية والأرواح الكدرة الظلمانية بعضها إلى بعض لكونها متشاكلة متجانسة، وتنادى ظلمة كل واحدة منها إلى الأخرى. وقال ابن زيد: قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال.
الصفة الثانية: قوله تعالى: {سرابيلهم} ، أي: قمصهم جمع سربال وهو القميص {من قطران} وهو شيء يتحالب من شجر يسمى الأبهل، فيطبخ وتطلى به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحرارته وحدته، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف، ومن شأنه أنه يتسارع فيه اشتعال النار، وهو أسود اللون منتن الريح، فتطلى به جلود أهل النار حتى يصير ذلك الطلاء كالسرابيل، فيحصل بسببها أربعة أنواع من العذاب: لذع القطران، وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح، وأيضاً التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين.
الصفة الثالثة قوله تعالى: {وتغشى} ، أي: تعلو {وجوههم النار} ونظيره قوله تعالى: {أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب} (الزمر، 24)
. وقوله تعالى: {يوم يسحبون في النار على وجوههم} (القمر، 48)
. ولما كان موضع العلم والجهل هو القلب، وموضع الكفر والوهم هو(2/191)
الرأس، وأثر هذه الأحوال يظهر في الوجه فلهذا خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيها فقال في القلب: {نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة} (الهمزة: 6، 7)
. وقال في الوجه: {وتغشى وجوههم النار} (إبراهيم، 50)
. وقوله تعالى:
{ليجزي الله} متعلق ببرزوا {كل نفس ما كسبت} ، أي: من خير أو شرّ وهذا أولى من قول الواحدي: المراد منه أنفس الكفار؛ لأنّ ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان. ولما كان حساب كل نفس جديراً بأن يستعظم قال: {إنّ الله سريع الحساب} ، أي: لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى، ولا شأن عن شأن قوله تعالى:
{هذا} إشارة إلى القرآن الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، نزل منزلة الحاضر وقيل: إلى السورة {بلاغ} ، أي: كان غاية الكفاية في الإيصال {للناس} والموعظة لهم، وقوله تعالى: {ولينذروا} ، أي: وليخوّفوا {به} عطف على محذوف ذلك المحذوف متعلق ببلاغ تقديره، أي: لينصحوا ولينذروا، وقيل: الواو مزيدة، ولينذروا متعلق ببلاغ {وليعلموا} ، أي: بما فيه من الحجج على وحدانية الله تعالى. {أَنما هو} ، أي: الله {إله واحد} فيستدلوا بذلك على أنّ الله واحد لا شريك له {وليذكر} بإدغام التاء في الأصل في الذال، أي: يتعظّ {أولو الألباب} ، أي: أصحاب العقول الصافية من الأكدار، والأفهام الصحيحة، فإنه موعظة لمن اتعظ. تنبيه: ذكر سبحانه وتعالى لهذا البلاغ ثلاث فوائد مستفادة من قوله تعالى: {ولينذروا به} وتالييه والحكمة في إنزال الكتب تكميل الرسل للناس، واستكمالهم القوّة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد، واستصلاح القوّة العملية التي هي التدرع بلباس التقوى، جعلنا الله تعالى من الفائزين بها بمحمد وآله، وفعل ذلك بوالدينا وأحبابنا.
وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل من عبد الأصنام وعدد من لم يعبد» حديث موضوع. قال العلامة ابن جماعة في «شرح منظومة ابن فرج» التي أولها غرامي صحيح فرع من غرائب الجويني يكفر واضع الحديث، أي: والمشهور عدم تكفيره.
سورة الحجر
مكية
وهي تسع وتسعون آية وستمائة وأربع وخمسون كلمة، وعدد حروفها ألفان وسبعمائة وستون حرفاً
{بسم الله} الملك الواحد القهار {الرحمن} الذي أسبغ نعمه على سائر بريته، فعجزت عن وصفه الأفكار {الرحيم} الذي خص أهل ولايته بنجاتهم من النار، وقوله تعالى:
{الر} ذكر فيه الفتح والإمالة أوّل يونس. وقيل: معناه: أنا الله أرى، وقدّمنا الكلام على أوائل السور في أوّل سورة البقرة، وقوله تعالى: {تلك} إشارة إلى آيات هذه السورة، أي: هذه الآيات {آيات الكتاب} ، أي: القرآن، والإضافة بمعنى من، وقوله تعالى: {وقرآن مبين} ، أي: مظهر للحق من الباطل عطف بزيادة صفة. وقيل: المراد بالكتاب هو السورة، وكذا القرآن، وقيل: المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، وبالقرآن هذا الكتاب. ثم بيّن سبحانه وتعالى حال الكفار يوم القيامة بقوله تعالى:
{ربما يودّ} ،(2/192)
أي: يتمنى {الذين كفروا} إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين في ذلك اليوم {لو كانوا مسلمين} وقيل: حين يعاينوا حال المسلمين عند نزول النصر وحلول الموت، ورب للتكثير، فإنه يكثر منهم تمنى ذلك. وقيل: للتقليل، فإنّ الأهوال تدهشهم، فلا يفيقون حتى يتمنوا ذلك إلا في أحيان قليلة. فإن قيل: لم دخلت رب على المضارع وقد أبوا دخولها إلا على الماضي؟ أجيب: بأنّ المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحقيقه، فكأنه قيل: ربما ودّ. وقرأ عاصم ونافع بتخفيف باء ربما، والباقون بالتشديد. قال أبو حاتم: أهل الحجاز يخففون ربما، وقيس وبكر يثقلونها، ولما تمادوا في طغيانهم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
{ذرهم} ، أي: دعهم عن النهي عما هم عليه والصدّ عنه بالتذكرة والنصيحة، وخلهم {يأكلوا ويتمتعوا} بدنياهم وتنفيذ شهواتهم، والتمتع التلذذ، وهو طلب اللذة حالاً بعد حال كالتقرب في أنه طلب القرب حالاً بعد حال. {ويلههم الأمل} ، أي: ويشغلهم توقعهم لطول الأعمار، واستقامة الأحوال عن أخذ حظهم من السعادة، وعن الاستعداد للمعاد. وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي برفع الهاء والميم، والباقون بكسر الهاء ورفع الميم. وأمّا الوقف فالجميع بكسر الهاء، والكلام على الهاء الثانية، وأمّا الهاء الأولى فمكسورة للجميع وقفاً ووصلاً. ولما كان هذا أمراً لا يشتغل به إلا أحمق تسبب عنه التهديد بقوله تعالى: {فسوف يعلمون} ، أي: ما يحل بهم بعدما فسحنا لهم في زمن التمتع من سوء صنيعهم، وهذا قبل الأمر بالقتال. تنبيه: في الآية دليل على أنّ إيثار التلذذ والتنعم في الدنيا يؤدّي إلى طول الأمل وليس ذلك من أخلاق المؤمنين. وعن بعضهم: التمتع في الدنيا من أخلاق الهالكين والأخبار في ذم الأمل كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم «يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان الحرص على المال والحرص على العمر» . وعن علي رضي الله تعالى عنه: إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى، فإنّ طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصدّ عن الحق. ولما هددهم تعالى بآية التمتع وإلهاء الأمل أتبعه بما يؤكد الزجر. بقوله تعالى:
{وما أهلكنا من قرية} ، أي: من القرى، والمراد أهلها ومن مزيدة {إلا ولها كتاب معلوم} ، أي: أجل مضروب محدود مكتوب في اللوح المحفوظ لهلاكها. تنبيه: المستثنى جملة واقعة صفة لقرية والأصل أن لا تدخلها الواو، كقوله تعالى: {إلا لها منذرون} (الشعراء، 208)
وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب. فائدة: رسم كتاب هنا بإثبات الألف. ثم بيّن تعالى الآية السابقة بقوله تعالى:
{ما تسبق} وأكد الاستغراق بقوله تعالى: {من أمة} وقيل: من مزيدة كقولك: ما جاءني من أحد، أي: أحد وبيّن أنّ المراد بالكتاب الأجل بقوله تعالى: {أجلها} ، أي: الذي قدّرناه لها. {وما يستأخرون} ، أي: عنه. تنبيه: أنث الأمة أولاً ثم ذكرها آخراً حملاً على اللفظ الأوّل وعلى المعنى في الثاني. قال البقاعي: وإنما ذكره لئلا يصرفوه إلى خطابه صلى الله عليه وسلم تعنتاً وفي الآية دليل على أنّ كل من مات أو قتل فإنما مات بأجله وإن من قال بجواز أن يموت قبل أجله مخطئ. ولما بالغ تعالى في تهديد الكفار ذكر(2/193)
شبههم في إنكار نبوّته صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
{وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر} ، أي: القرآن في زعمه {إنك لمجنون} إنما نسبوه إلى الجنون إما لأنهم كانوا يستبعدون كونه رسولاً حقاً من عند الله لأنّ الرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره فربما قال به جنون، وإما لأنه عليه الصلاة والسلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون ويدل عليه قوله تعالى: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة} (الأعراف، 184)
ثم أتبعوه ما زعموا أنه دليل على قولهم فقالوا:
{لو ما} ، أي: هلا {تأتينا بالملائكة} ، أي: يشهدون لك بأنك رسول من عند الله حقاً. {إن كنت من الصادقين} في إدعائك للرسالة وأنّ هذا القرآن من عند الله ولما كان في قولهم أمران أجاب الله تعالى عن قولهم الثاني لأنه أقرب بقوله تعالى:
{وما ننزل الملائكة إلا بالحق} ، أي: إلا تنزلاً ملتبساً بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن نأتيكم بهم عياناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبيّ صلى الله عليه وسلم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار ومثله قوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} (الحجر، 85)
وقيل الحق الوحي أو العذاب. وقرأ شعبة بضم التاء مع فتح الزاي ورفع الملائكة وحفص وحمزة والكسائي بنونين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة وكسر الزاي ونصب الملائكة والباقون بالتاء مفتوحة مع فتح الزاي ورفع الملائكة وشدّد التاء البزي في الوصل، وأما الزاي فهي مشدّدة للجميع من يفتح ومن يكسر {وما كانوا} ، أي: الكفار {إذاً} ، أي: إذ تأتيهم الملائكة {منظرين} ، أي: لزوال الإمهال عنهم فيعذبوا في الحال إن لم يؤمنوا ويصدّقوا وكان حينئذ يفوت ما قضينا به من تأخيرهم وإخراج من أردنا إيمانه من أصلابهم ثم أجاب تعالى عن الأوّل بقوله تعالى مؤكذاً لتكذيبهم:
{إنا نحن} بما لنا من العظمة والقدرة {نزلّنا} ، أي: بالتدريج على لسان جبريل عليه السلام {الذكر} ، أي: القرآن {وإنا له لحافظون} ، أي: من التبديل والتحريف والزيادة والنقصان، ونظيره قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (النساء، 82)
فالقرآن العظيم محفوظ من هذه الأشياء كلها لا يقدر أحد من جميع الخلق من الجن والإنس أن يزيد فيه أو ينقص منه كلمة واحدة أو حرفاً واحداً وهذا مختص بالقرآن العظيم بخلاف سائر الكتب المنزلة فإنه قد دخل على بعضها التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، فإن قيل: فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد الله تعالى بحفظه وما حفظه الله تعالى فلا خوف عليه؟ أجيب: بأن جمعهم القرآن في المصحف كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه تعالى لما أراد حفظه قيضهم لذلك، قال أصحابنا: وفي هذه الآية دلالة قوية على كون البسملة آية من أول كل سورة لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصوناً من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصوناً عن التغيير ولما كان محفوظاً عن الزيادة ولو جاز أن يظنّ بالصحابة أنهم زادوا جاز أيضاً أن يظن بهم النقصان وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة، وقيل: الضمير في له راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: وإنا لمحمد لحافظون ممن أراد به سوءاً فهو كقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (المائدة، 67)
. ولما أساء الكفار عليه صلى الله عليه وسلم في الأول وخاطبوه(2/194)
بالسفاهة وقالوا: {إنك لمجنون} (الحجر، 6)
. وكان عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء قال سبحانه وتعالى تسلية له على وجه رادّ عليهم:
{ولقد أرسلنا من قبلك} ، أي: رسلاً فحذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه وقوله تعالى: {في شيع} أي: فرق {الأوّلين} من باب إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله تعالى: {حق اليقين} (الواقعة، 95)
سموا شيعاً لمتابعة بعضهم بعضاً في الأحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة المجتمعة المتفقة كلمتهم على مذهب وطريقة. وقال الفراء: الشيعة هم الأتباع وشيعة الرجل أتباعه، وقيل: الشيعة من يتقوى بهم الإنسان.
{وما يأتيهم} عبر بالمضارع على حكاية الحال الماضية، فإن ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال، والأصل وما كان يأتيهم {من رسول} ، أي: على، أي: وجه كان {إلا كانوا به} جبلة وطبعاً {يستهزؤون} كاستهزاء قومك بك فصبروا فاصبر كما صبروا.
{كذلك} ، أي: مثل ادخالنا التكذيب في قلوب هؤلاء المستهزئين بالرسل {نسلكه} ، أي: ندخله {في قلوب المجرمين} ، أي: كفار مكة المستهزئين.
{لا يؤمنون به} ، أي: بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: بالقرآن. وفي الآية دليل على أنّ الله تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط والرمح في المطعون، ومنه قوله تعالى: {ما سلككم في سقر} (الدثر، 42)
وقيل: الضمير في نسلكه يعود للذكر كما أنّ الضمير في به يعود إليه وجملة لا يؤمنون به حال من ذلك الضمير والمعنى على هذا مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذباً به غير مؤمن به قال البيضاوي: وهذا الاستدلال ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب الضمائر توافقها في المرجوع إليه اه. وما أعدت الضمير عليه في ذلك هو ما قاله ابن الخازن، وجرى عليه الجلال السيوطي وقوله تعالى: {وقد خلت سنة الأولين} ، أي: سنة الله فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم أنبياءهم وعيد شديد لكفار مكة بأنه ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية المكذبة، وقال الزجاج: قد مضت سنة الله في أن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم.I
قال الرازي: وهذا أليق بظاهر اللفظ. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام تاء التأنيث في السين والباقون بالإظهار وقوله تعالى:
{ولو فتحنا عليهم باباً من السماء} الآية هو المراد في سورة الأنعام في قوله تعالى: {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس} (الأنعام، 7)
الآية، أي: الذين يقولون لو ما تأتينا بالملائكة فلو أنزلنا الملائكة {فظلوا فيه} ، أي: فظلت الملائكة {يعرجون} ، أي: يصعدون في الباب وهم يرونها عياناً.
{لقالوا} ، أي: من عتوّهم في الكفر {إنما سكرت أبصارنا} ، أي: سدت عن الأبصار بالسحر من السكر ويدل عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف أو حيرت من السكر يدل عليه قراءة الباقين بالتشديد. {بل نحن قوم مسحورون} ، أي: قد سحرنا محمد بذلك، أي: كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات كانشقاق القمر وما جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجنّ والإنس أن يأتوا بمثله. وقيل: الضمير في يعرجون للمشركين، أي: فظل المشركون يصعدون في ذلك الباب فينظرون في ملكوت السموات وما فيها من العجائب لما آمنوا لعنادهم وكفرهم وقالوا: إنما سحرنا. وقرأ الكسائي بإدغام لام بل في النون والباقون بالإظهار. ولما أجاب الله تعالى عن شبهة منكري(2/195)
النبوّة والقول بالنبوّة مفرع على القول بالتوحيد ودلائل التوحيد منها سماوية ومنها أرضية بدأ منها بذكر الدلائل السماوية فقال مفتتحاً بحرف التوقع:
{ولقد جعلنا} بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة. {في السماء بروجاً} قال الليث: البروج واحدها برج من بروج الفلك، والبروج هي النجوم الكبار مأخوذة من الظهور يقال: تبرجت المرأة إذا ظهرت وأراد بها المنازل التي تنزلها الشمس والقمر والكواكب السيارة وهي اثنا عشر برجاً الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت وهي منازل الكواكب السبعة السيارة المريخ وله الحمل والعقرب، والزهرة ولها الثور والميزان، وعطارد وله الجوزاء والسنبلة، والقمر وله السرطان، والشمس ولها الأسد، والمشتري وله القوس والحوت، وزحل وله الجدي والدلو. وهذه البروج مقسومة على ثلاثمائة وستين درجة لكل برج منها ثلاثون درجة تقطعها الشمس في كل سنة مرّة وبها تتم دورة الفلك ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يوماً. قال ابن عباس في هذه الآية: يريد بروج الشمس والقمر يعني منازلهما وقال عطية: هي قصور في السماء عليها الحرس. وقال مجاهد: هي النجوم العظام. قال أبو إسحاق: يريد نجوم هذه البروج. وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالإدغام. {وزيناها} ، أي: السماء بالشمس والقمر والنجوم والأشكال والهيئات البهية {للناظرين} ، أي: المعتبرين المستدلين بها على توحيد خالقها ومبدعها وهو الله الذي أوجد كل شيء وخلقه وصوّره.
{وحفظناها من كل شيطان رجيم} ، أي: مرجوم وقيل: ملعون. قال ابن عباس: كانت الشياطين لا يحجبون عن السموات وكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الله لغيوب من الملائكة فيلقونها على الكهنة فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ولما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب، فلما منعوا تلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال: لقد حدث في الأرض حدث فبعثهم ينظرون فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن فقالوا: والله هذا حدث وقوله تعالى: {إلا من استرق السمع} بدل من كل شيطان رجيم. وقيل استثناء منقطع، أي: لكن من استرق السمع واستراق السمع اختلاسه. قال ابن عباس: يريد الخطفة اليسيرة وذلك أنّ الشياطين يركب بعضهم بعضاً إلى السماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة فيرمون بالكواكب كما قال تعالى: {فأتبعه شهاب مبين} وهو شعلة من نار ساطعة وقد يطلق على الكواكب لما فيها من البريق يشبه شهاب النار فلا يخطئ أحداً فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه أو جنبه أو يده حيث يشاء الله. ومنهم من يخبله فيصير غولاً فيضل الناس في البوادي. روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قضي الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العليّ الكبير، فيسمعها مسترقو السمع» ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض. ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدّد بين أصابعه(2/196)
فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها إلى لسان الساحر أو الكاهن، وربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مئة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا فيصدّق بتلك الكلمة التي سمعها من السماء. فإن قيل: إذا جاز أن يسمع الشيطان أخبار الغيوب من الملائكة خرج الإخبار عن
المغيبات عن كونه معجزاً دليلاً على الصدق لأنّ كل غيب يخبر عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم قام فيه الاحتمال وحينئذٍ يخرج عن كونه معجزاً دليلاً على الصدق. أجيب: بأنا أثبتنا كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً بسائر المعجزات ثم بعد العلم بنبوّته نقطع بأنّ الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيب معجزاً، ولما شرح الله تعالى الدلائل السماوية في تقرير التوحيد أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي أنواع؛ النوع الأوّل: قوله تعالى:
{والأرض مددناها} قال ابن عباس: بسطناها على وجه الماء. قال البغوي: يقال إنها مسيرة خمسمائة سنة في مثلها دحيت من تحت الكعبة. فإن قيل: فهل يدل ذلك على أنها بسيطة أو كرة عظيمة على ما يقوله أرباب الهيئة؟ أجيب: بأن ليس في الآية دلالة على شيء من ذلك، لأنّ الأرض على تقدير كونها كرة فهي في غاية العظمة والكرة العظيمة ترى كالسطح المستوي، وتقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة، وسيأتي زيادة على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة والنازعات. النوع الثاني: قوله تعالى: {وألقينا فيها رواسي} ، أي: جبالاً ثوابت واحدها راس والجمع راسية وجمع الجمع رواسي. وهو كقوله تعالى: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} (النحل، 15)
قال ابن عباس: لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال لكي لا تميد بأهلها، وقيل: إنّ الله تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال. النوع الثالث: قوله تعالى: {وأنبتنا فيها} واختلف في عود ضمير فيها فقيل: يعود إلى الأرض لأنّ أنواع النبات المنتفع به يكون في الأرض وقيل: إلى الجبال لأنها أقرب مذكور ولقوله تعالى: {من كل شيء موزون} وإنما يوزن ما يتولد من الجبال والأولى عوده لهما، واختلفوا في المراد بالموزون فقال ابن عباس:، أي: معلوم. وقال مجاهد:، أي: مقدار معين تقتضيه حكمته. وقال الحسن: أعني به الشيء الموزون كالذهب والفضة والرصاص والحديد ونحو ذلك مما يستخرج من المعادن والأولى أنه جميع ما ينبت في الأرض والجبال، لأنّ ذلك نوعان أحدهما يستخرج من المعادن وجميع ذلك موزون. والثاني النبات فبعضه موزون وبعضه بالكيل وهو يرجع إلى الوزن لأنّ الصاع والمدّ مقدران بالوزن.
{وجعلنا لكم فيها} ، أي: إنعاماً منا وتفضلاً عليكم {معايش} وهي بياء صريحة من غير مدّ جمع معيشة وهو ما يعيش به الإنسان مدّة حياته في الدنيا من المطاعم والملابس والمعادن وغيرها. {و} جعلنا لكم {من لستم له برازقين} من العبيد والأنعام والدواب والطير فإنكم تنتفعون بها ولستم لها برازقين لأنّ رزق جميع الخلق على الله تعالى وبعض الجهال يظنون في أكثر الأمر أنهم هم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد،(2/197)
وذلك خطأ فإنّ الله هو الرزاق يرزق المخدوم والخادم والمملوك والمالك لأنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة وأعطى القوة الغاذية والهاضمة وإلا لم يحصل لأحد رزق. فإن قيل: صيغة من مختصة بمن يعقل؟ أجيب: بأنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقاً على الله تعالى حيث قال: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها} (هود: 6)
{والأرض مددناها} قال ابن عباس: بسطناها على وجه الماء. قال البغوي: يقال إنها مسيرة خمسمائة سنة في مثلها دحيت من تحت الكعبة. فإن قيل: فهل يدل ذلك على أنها بسيطة أو كرة عظيمة على ما يقوله أرباب الهيئة؟ أجيب: بأن ليس في الآية دلالة على شيء من ذلك، لأنّ الأرض على تقدير كونها كرة فهي في غاية العظمة والكرة العظيمة ترى كالسطح المستوي، وتقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة، وسيأتي زيادة على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة والنازعات. النوع الثاني: قوله تعالى: {وألقينا فيها رواسي} ، أي: جبالاً ثوابت واحدها راس والجمع راسية وجمع الجمع رواسي. وهو كقوله تعالى: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} (النحل، 15)
قال ابن عباس: لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال لكي لا تميد بأهلها، وقيل: إنّ الله تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال. النوع الثالث: قوله تعالى: {وأنبتنا فيها} واختلف في عود ضمير فيها فقيل: يعود إلى الأرض لأنّ أنواع النبات المنتفع به يكون في الأرض وقيل: إلى الجبال لأنها أقرب مذكور ولقوله تعالى: {من كل شيء موزون} وإنما يوزن ما يتولد من الجبال والأولى عوده لهما، واختلفوا في المراد بالموزون فقال ابن عباس:، أي: معلوم. وقال مجاهد:، أي: مقدار معين تقتضيه حكمته. وقال الحسن: أعني به الشيء الموزون كالذهب والفضة والرصاص والحديد ونحو ذلك مما يستخرج من المعادن والأولى أنه جميع ما ينبت في الأرض والجبال، لأنّ ذلك نوعان أحدهما يستخرج من المعادن وجميع ذلك موزون. والثاني النبات فبعضه موزون وبعضه بالكيل وهو يرجع إلى الوزن لأنّ الصاع والمدّ مقدران بالوزن.
{وجعلنا لكم فيها} ، أي: إنعاماً منا وتفضلاً عليكم {معايش} وهي بياء صريحة من غير مدّ جمع معيشة وهو ما يعيش به الإنسان مدّة حياته في الدنيا من المطاعم والملابس والمعادن وغيرها. {و} جعلنا لكم {من لستم له برازقين} من العبيد والأنعام والدواب والطير فإنكم تنتفعون بها ولستم لها برازقين لأنّ رزق جميع الخلق على الله تعالى وبعض الجهال يظنون في أكثر الأمر أنهم هم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد، وذلك خطأ فإنّ الله هو الرزاق يرزق المخدوم والخادم والمملوك والمالك لأنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة وأعطى القوة الغاذية والهاضمة وإلا لم يحصل لأحد رزق. فإن قيل: صيغة من مختصة بمن يعقل؟ أجيب: بأنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقاً على الله تعالى حيث قال: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها} (هود: 6)
فغلب من يعقل على غيره. حكي أنّ الماء قد قلّ في بعض الأودية والجبال واشتدّ الحرّ قال بعضهم: فرأيت بعض تلك الوحوش رفعت رؤوسها إلى السماء عند اشتداد عطشها قال: فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت وامتلأت الأودية. تنبيه: قيل لا يجوز أن يكون و {من لستم له برازقين} (الحجر، 20)
مجروراً عطفاً على الضمير لا يقال: أخذت منك وزيد إلا بإعادة الخافض كما في قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} (الأحزاب، 7)
والراجح الجواز كما قرئ قوله تعالى: {تساءلون به والأرحام} (النساء، 1)
بالخفض في القراءات السبع وهذا أعظم دليل.
ولما بين سبحانه وتعالى أنه أنبت لهم كل شيء موزون وجعل لهم معايش أشعر بذكر ما هو السبب لذلك فقال تعالى: {وإن} ، أي: وما {من شيء} ، أي: مما ذكر وغيره من الأشياء الممكنة وهي لا نهاية لها. {إلا عندنا خزائنه} ، أي: قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه فضرب الخزائن مثلاً لاقتداره على كل مقدور. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عند جدّه قال: في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البحر والبرّ والخزائن جمع خزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه للحفظ. وقيل: أراد مفاتيح الخزائن، وقيل: المطر لأنه سبب الأرزاق لبني آدم والوحش والطير والدواب ومعنى عندنا، أي: في حكمه تعالى وتصرّفه وأمره وتدبيره {وما ننزله} من يفاع القدرة {إلا بقدر معلوم} ، أي: على حسب المصالح وقيل: إنّ لكل أرض حدّاً ومقداراً من المطر يقال: لا ينزل من السماء قطرة مطر إلا ومعها ملك يسوقها إلى حيث يشاء الله ولما أتم ما أراد من آيتي السماء والأرض وختمه بشمول قدرته لكل شيء أتبعه ما ينشأ عنهما مما هو بينهما مودعاً في خزائن قدرته بقوله تعالى:
{وأرسلنا الرياح} جمع ريح وهو جسم لطيف منبث في الجوّ سريع الممر {لواقح} ، أي: حوامل لأنها تحمل الماء إلى السحاب فهي لاقحة، يقال: ناقة لاقحة إذا حملت الولد. وقال ابن مسعود: يرسل الله تعالى الريح فتحمل الماء فتمجه في السحاب ثم تمرّ به فتدرّ كما تدر اللقحة ثم تمطر. وقال عبيد بن عمير: يبعث الله تعالى الريح المثيرة فتثير السحاب ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض فتجعله ركاماً ثم يبعث الله اللواقح تلقح الشجر. وعن ابن عباس قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبيّ صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وقال: «اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها ريحاً» . وعن عائشة رضي الله عنها «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الريح قال: اللهمّ إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به» . وقرأ حمزة بالإفراد والباقون بالجمع. {فأنزلنا} ، أي: بعظمتنا بسبب تلك السحاب التي حملتها الريح {من السماء} ، أي: الحقيقية أو جهتها أو السحاب لأنّ الأسباب المترقبة يسند الشيء تارة إلى القريب منها وتارة إلى البعيد {ماء} وهو جسم مائع سيال به حياة كل حيوان من شأنه الاغتذاء {فأسقيناكموه} ، أي: جعلناه لكم سقياً، يقال: سقيته ماء يشربه وأسقيته، أي:(2/198)
مكنته منه ليسقي به ماشيته ومن يريد، ونفى سبحانه وتعالى عن غيره ما أثبته أولاً لنفسه بقوله: {وما أنتم له} ، أي: لذلك الماء {بخازنين} ، أي: ليست خزائنه بأيديكم والخزن وضع الشيء في مكان مهيأ للحفظ فثبت أنّ القادر عليه واحد مختار ومن دلائل التوحيد الإحياء والإماتة كما قال تعالى:
{وإنا لنحن نحيي} ، أي: لنا هذه الصفة على وجه العظمة فنحيي بها من نشاء من الحيوان بروح البدن ومن الروح بالمعارف ومن النبات بالنمو وإن كان أحدهما حقيقة والآخر مجازاً لأنّ الجمع جائز {ونميت} ، أي: لنا هذه الصفة فنبرز بها من عظمتنا ما نشاء. {ونحن الوارثون} ، أي: الإرث التام إذا مات الخلائق الباقون بعد كل شيء كما كنا ولا شيء فليس لأحد تصرّف بإماتة ولا إحياء، فثبت بذلك الوحدانية والفعل بالاختيار فلما ثبت بهذا كمال قدرته وكانت آثار القدرة لا تكون محكمة إلا بالعلم قال تعالى:
{ولقد علمنا المستقدمين منكم} وهو من قضينا بموته أولاً من لدن آدم فيكون في موته كأنه يسارع إلى التقدّم إليه وإن كان هو وكل من أهله مجتهداً بالعلاج في تأخيره {ولقد علمنا المستأخرين} ، أي: الذين نمدّ في أعمارهم فنؤخر موتهم حتى يكونوا كأنهم يسابقون إلى ذلك وإن عالجوا الموت بشرب سم أو نحوه أو عالجه لهم غيرهم بضربهم بسيف أو غيره فعرف من ذلك قطعاً أن الفاعل واحد مختار. وقال ابن عباس: أراد بالمستقدمين الأموات وبالمستأخرين الأحياءز وقال عكرمة: المستقدمين من خلق الله تعالى والمستأخرين من لم يخلق. وقال الحسن: المستقدمين في الطاعة والخير والمستأخرين المستبطؤون عنه. وقيل: المستقدمين من القرون الأولى والمستأخرين أمّة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: المستقدمين في الصفوف والمستأخرين فيها وذلك أنّ النساء كنّ يخرجن إلى الجماعة فيقفن خلف الرجال فربما كان في الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى آخر صف الرجال ومن النساء من في قلبها ريبة فتتقدم إلى أوّل صف النساء لتقرب من الرجال فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «خير صفوف الرجال أوّلها وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أولها» . تنبيه: في سبب نزول هذه الآية قولان أحدهما: أنّ امرأة حسناء كانت تصلي خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم فكان بعضهم يستقدم حتى يكون في أوّل صف حتى لا يراها ويتأخر بعضهم حتى يكون آخر صف، فإذا ركع نظر من تحت إبطه فنزلت. والثاني: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حرّض على الصف الأوّل فازدحموا عليه، وقال قوم بيوتهم قاصية عن المسجد لنبيعنّ دورنا ولنشترين دوراً قريبة من المسجد حتى ندرك الصف المقدم فنزلت.
{وإنّ ربك هو يحشرهم} ، أي: المستقدمين والمستأخرين للجزاء وتوسط الضمير للدلالة على أنه القادر والمتولي لحشرهم لا غيره وتصدير الجملة بأنّ لتحقيق الوعد والتنبيه على أنّ ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكم كما صرّح به بقوله تعالى: {إنه حكيم} ، أي: باهر الحكمة متقن في أفعاله {عليم} وسع علمه كل شيء، ولما استدل سبحانه وتعالى بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدّمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب بقوله تعالى:
{ولقد خلقنا الإنسان} قال الرازي والمفسرون: أجمعوا على أنّ المراد منه آدم عليه السلام. ونقل(2/199)
في كتب الشيعة عن محمد بن علي الباقر أنه قال: قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر سمي إنساناً لظهوره وإدراك البصر إياه، وقيل: من النسيان لأنه عهد إليه فنسى. {من صلصال} ، أي: من الطين الشديد اليابس الذي لم تصبه نار، إذا نقرته سمعت له صلصلة، أي: صوتاً. وقال ابن عباس: هو الطين إذا نضب عنه الماء تشقق فإذا حرّك تقعقع. وقال مجاهد: هو الطين المنتن واختاره الكسائي وقال الفراء: هو طين خلط برمل فصار له صوت عند نقره. وقال الرازي: قال المفسرون: خلق الله تعالى آدم من طين فصوّره وتركه في الشمس أربعين سنة فصار صلصالاً لا يدري أحد ما يراد به ولم يروا شيئاً من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح. {من حمأ} ، أي: طين أسود منتن {مسنون} ، أي: مصوّر بصورة الآدمي. وقال ابن عباس: هو التراب المبتل المنتن. وقال مجاهد: هو المنتن المتغير. قال البغوي: وفي بعض الآثار إنّ الله تعالى خمر طينة آدم وتركه حتى صار متغير أسود ثم خلق منه آدم عليه السلام. قال ابن الخازن: والجمع بين هذه الأقوال على ما ذكره بعضهم أنّ الله تعالى لما أراد خلق آدم عليه السلام قبض قبضة من تراب الأرض وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب} (آل عمران، 59)
ثم إنّ ذلك التراب بله بالماء وحمأ حتى اسودّ وأنتن ريحه وتغير وإليه الإشارة بقوله تعالى: {من حمأ مسنون} ثم إنّ ذلك الطين الأسود المتغير صوّره الله صورة إنسان أجوف فلما جف ويبس كانت تدخل فيه الريح فيسمع له صلصلة وإليه الإشارة بقوله تعالى: {من صلصال كالفخار} (الرحمن، 14)
وهو الطين اليابس يفخر في الشمس ثم نفخ فيه الروح فكان بشراً سوياً. ولما ذكر سبحانه وتعالى خلق الإنسان ذكر ما خلقه قبل من الجان فقال تعالى:
{والجانّ} قال ابن عباس: هو أبو الجن كما أنّ آدم عليه السلام أبو البشر وإبليس أبو الشياطين وفي الجنّ مسلمون وكافرون ويأكلون ويشربون ويحيون ويموتون كبني آدم، وأما الشياطين فليس فيهم مسلمون ولا يموتون إلا إذا مات إبليس. وقال وهب: إنّ من الجنّ من يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين ومن الجنّ من هو بمنزلة الريح لا يتولدون ولا يأكلون ولا يشربون وهم الشياطين. قال ابن الخازن: والأصح أنّ الشياطين نوع من الجنّ لاشتراكهم في الاستتار سموا جناً لتواريهم واستتارهم عن الأعين، من قولهم جنّ الليل إذا ستر والشيطان هو العاتي المتمرّد الكافر، والجنّ منهم المؤمن ومنهم الكافر وانتصاب الجان بفعل يفسره. {خلقناه من قبل} ، أي: قبل خلق الإنسان {من نار السموم} ، أي: من ريح حارة تدخل مسام الإنسان فتقتله من قوّة حرارتها. قال الرازي: فالريح الحارة فيها نار وبها فيح كما ورد في الخبر أنها من فيح جهنم انتهى. ويقال: السموم بالنهار والحرور بالليل. وقال الكلبي: عن أبي صالح السموم نار لا دخان لها والصواعق تكون منها وهي نار تكون بين السماء وبين الحجاب فإذا أحدث الله تعالى أمراً خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به فالهدّة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب. وعن ابن عباس هذه السموم جزء من سبعين جزءاً من السموم التي خلق منها الجان، وتلا هذه الآية. وعن الضحاك عن ابن عباس كان إبليس من حي من الملائكة يقال لهم الجنّ خلقوا من نار السموم، وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن {من مارج من نار} (الرحمن، 15) ، وأمّا الملائكة فخلقوا(2/200)
من النور. ولما ذكر الله تعالى حدوث الإنسان الأوّل واستدل بذكره على وجود الإله القادر المختار ذكر بعده واقعته بقوله تعالى:
{وإذ} ، أي: واذكر يا أشرف الخلق قول ربك عز وجل إذ {قال ربك} ، أي: المحسن إليك بتشريف أبيك آدم عليه السلام لتشريفك {للملائكة إني خالق بشراً} ، أي: حيواناً كثيفاً يباشر ويلاقي والملائكة والجن لا يباشرون للطف أجسامهم عن أبشار البشر والبشرة ظاهر الجلد من كل حيوان وقوله تعالى: {من صلصال من حمأ مسنون} تقدّم تفسيره.
{فإذا سويته} ، أي: عدّلته وأتممته وهيأته لنفخ الروح فيه بالفعل {ونفخت فيه من روحي} ، أي: خلقت الحياة فيه وليس ثم نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل وأضاف الروح إليه تشريفاً كما يقال: بيت الله وهو ما يصير به الروح عالماً وأشرف منه ما يصير به العالم عاملاً خاشعاً وسيأتي الكلام على الروح إن شاء الله تعالى في سورة سبحان عند قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} (الإسراء، 85)
. {فقعوا} ، أي: أسقطوا {له} تعظيماً حال كونكم {ساجدين} وتقدّم في سورة البقرة الكلام على من المخاطب بالسجود وهل هو كل الملائكة أو ملائكة السموات أو ملائكة الأرض وهل هو سجود انحناء أو غيره.
{فسجد الملائكة} وقوله تعالى: {كلهم أجمعون} قال سيبويه: تأكيد بعد تأكيد. وسئل المبرد عن ذلك فقال: لو قال {فسجد الملائكة} احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال: {كلهم} زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ثم عند هذا بقي احتمال وهو أنهم سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد في وقت آخر، فلما قال: {أجمعون} ظهر أنّ الكل سجدوا دفعة واحدة. قال الزجاج: وقول سيبويه أجود لأنّ أجمعين معرفة فلا يكون حالاً وقوله تعالى:
{إلا إبليس} أجمعوا على أنّ إبليس كان مأموراً بالسجود لآدم واختلفوا في أنه هل كان من الملائكة أم لا وقد سبقت هذه المسألة على الاستقصاء في سورة البقرة وقوله تعالى: {أبى أن يكون مع الساجدين} أي: لآدم استئناف تقديره إنّ قائلاً قال: هل سجد فقيل أبى ذلك واستكبر عنه.
{قال} الله تعالى له: {يا إبليس ما لك ألا تكون} أي: أن تكون ولا مزيدة، أي: ما منعك أن تكون {مع الساجدين} لآدم {قال لم أكن لأسجد لبشر} جسماني كثيف واللام لتأكيد النفي، أي: لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد وأنا ملك روحاني لبشر. {خلقته من صلصال من حمأ مسنون} وهو أخس العناصر {وخلقتني من نار} وهي أشرفها استنقص آدم باعتبار النوع والأصل وقد سبق الجواب عنه في سورة الأعراف. تنبيه: قال بعض المتكلمين: إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس على لسان بعض رسله وضعف لأنّ إبليس قال في الله لجواب: {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال} فقوله: خلقته خطاب الحضور لا خطاب الغيبة وظاهره يقتضي أن الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة وأنّ إبليس تكلم مع الله بغير واسطة فكيف يعقل هذا مع أن مكالمة الله تعالى من غير واسطة من أعظم المناصب وأشرف المراتب فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة ورئيسهم؟ وأجيب: بأنّ مكالمة الله تعالى إنما تكون منصباً عالياً إذا كانت على سبيل الإكرام والإعظام فأمّا إذا كانت على سبيل الإهانة والإذلال فلا.
{س15ش34/ش44 قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى? إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى ?زَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى ا?رْضِ وَ?غْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِs عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَاذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِs مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ}
{قال} الله تعالى له {فاخرج منها} أي: من الجنة وقيل: من السموات وقيل: من زمرة الملائكة وقد تقدّم الكلام(2/201)
على ذلك أيضاً في سورة الأعراف. {فإنك رجيم} أي: مطرود من الخير والكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجر أو شيطان رجيم بالشهب وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته.
{وإن عليك اللعنة} أي: هذا الطرد والإبعاد {إلى يوم الدين} قال ابن عباس: يريد يوم الجزاء حيث يجازى العباد بأعمالهم مثل قوله تعالى: {مالك يوم الدين} (الفاتحة، 3)
. فإن قيل: كلمة إلى تفيد حصر انتهاء الغاية فهذا يفيد أنّ اللعنة لا تحصل إلا إلى يوم الدين وعند القيامة يزول اللعن؟ أجيب: بجوابين الأوّل: أنّ المراد التأبيد وذكر القيامة أبعد غاية ذكرها الناس في كلامهم كقوله تعالى: {ما دامت السموات والأرض} (هود، 107)
في التأبيد والثاني: أنه مذموم مدعو عليه باللعن في السموات والأرض إلى يوم القيامة من غير أن يعذب فإذا جاء اليوم عذب عذاباً يقترن اللعن معه فيصير اللعن حينئذٍ كالزائل بسبب أنّ شدّة العذاب تذهل عنه. ولما جعله رجيماً ملعوناً إلى يوم القيامة فكأنَّ قائلاً يقول فماذا قال؟ فقيل:
{قال رب} فاعترف بالعبودية والإحسان إليه {فأنظرني} أي: أخرني والإنظار تأخير المحتاج للنظر في أمره والفاء متعلقة بمحذوف دلّ عليه {فاخرج منها فإنك رجيم} . {إلى يوم يبعثون} أي: الناس أراد أن يجد فسحة في الإغواء ونجاة من الموت إذ لا موت بعد وقت البعث. {قال} الله تعالى مجيباً للأوّل دون الثاني بقوله تعالى: {فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} وهو المسمى فيه أجلك عند الله وهو النفخة الأولى وما يتبعها من موت كل مخلوق لم يكن في دار الخلد. فإن قيل: كيف أجابه الله تعالى إلى ذلك الإمهال؟ أجيب: بأنه إنما أجابه إلى ذلك زيادة في بلائه وشقائه وعذابه لا لإكرامه ورفع مرتبته. ولما أجيب لذلك كأنه قيل فماذا قال فقيل:
{قال رب} أي: أيها الموجد والمدبر لي وقوله: {بما أغويتني} أي: خيبتني من رحمتك الباء فيه للقسم وما مصدرية وجواب القسم {لأزينن} أي: أقسم بإغوائك إياي لأزينن {لهم في الأرض} حب الدنيا ومعاصيك كقوله: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين} (ص، 82)
إلا أنه في ذلك الموضع أقسم بعزة الله وهي من صفات الذات وهنا أقسم بإغواء الله، وهي من صفات الأفعال، والفقهاء قالوا: القسم بصفات الذات صحيح، واختلفوا في القسم بصفات الأفعال والراجح فيها الصحة. {ولأغوينهم} أي: بالإضلال عن الطريق الحميدة بإلقاء الوسوسة في قلوبهم ولأحملنهم. {أجمعين} على الغواية وقوله:
{إلا عبادك منهم المخلصين} قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بكسر اللام، أي: الذين أخلصوا دينك عن الشوائب وقرأه الباقون بفتحها، أي: الذين أخلصهم الله تعالى بالهداية وإنما استثنى إبليس المخلصين لأنه علم أنّ كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه. وقال الرازي: والذي حمله على هذا الاستثناء أنه لا يصير كاذباً في دعواه فلما احترز إبليس عن الكذب علمنا أنّ الكذب في غاية الخساسة. تنبيه: قال رويم: الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عنه عوضاً من الدارين ولا عوضاً من الملكين. وقال الجنيد: الإخلاص سر بين العبد وبين الله تعالى لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله. وذكر القشيري وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سألت جبريل عليه السلام عن الإخلاص ما هو؟ قال: سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو؟ قال: سرّ استودعته قلب(2/202)
من أحب من عبادي» . ولما ذكر إبليس أنه يغوي بني آدم إلا من عصمه الله بتوفيقه وتضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى الله تعالى وإلى إرادته.
{قال} تعالى {هذا} أي: الذي ذكرته من حال المستثنى والمستثنى منه {صراط} أي: طريق {عليّ مستقيم} أي: لا انحراف عنه لأني قضيت به وحكمت به عليك وعليهم ولو لم تقل أنت. ولما قال إبليس لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين أوهم هذا أنّ له سلطاناً على عباد الله غير المخلصين فبين تعالى كذبه أنه ليس له سلطان على أحد من عبيد الله سواء أكانوا مخلصين أو لم يكونوا مخلصين ومن اتبع منهم إبليس باختياره صار تبعاً له ولكن حصول تلك المتابعات أيضاً ليس لأجل إبليس وأوهم أن له على بعض عباد الله سلطاناً فبين تعالى كذبه وذكر تعالى أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلاً بقوله تعالى:
{إن عبادي} أي: المؤمنين كلهم {ليس لك} أي: بوجه من الوجوه {عليهم سلطان} أي: لتردّهم كلهم عما يرضيني ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عن إبليس: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} (إبراهيم، 22)
وقال تعالى في آية أخرى: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} (النحل: 99، 100)
. {إلا من اتبعك} أي: بتعمدٍ منه ورغبة من اتباعك {من الغاوين} أي: ومات من غير توبة فإني جعلت لك عليهم سلطاناً بالتزيين والإغواء وسئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية؟ فقال: معناه ليس لك عليهم سلطان تلقيهم في ذنب يضيق عنه عفوي. وقيل: إنّ الإضافة للتشريف فلا تشمل إلا الخلص فحينئذ يكون الاستثناء منقطعاً وفائدة سوقه بصورة الاستثناء على تقدير الانقطاع الترغيب في رتبة التشريف بالإضافة إليه والرجوع عن اتباع العدو إلى الإقبال عليه لأن ذوي الأنفس الأبية والهمم العلية ينافسون في ذلك المقام ويرونه كما هو الحق أعلى مرام.
{وإن جهنم لموعدهم} أي: الغاوين وهم إبليس ومن تبعه {أجمعين} ثم بين تعالى أنهم متفاوتون فيها بقوله تعالى:
{لها} أي: لجهنم {سبعة أبواب} أي: سبع طبقات قال عليّ رضي الله تعالى عنه: أتدرون كيف أبواب النار؟ هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى، أي: سبعة أبواب بعضها فوق بعض. وإنّ الله تعالى وضع الجنات على العرض ووضع النيران بعضها على بعض. قال ابن جريج: النار سبعة دركات أوّلها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية. تنبيه: تخصيص العدد لأنّ أهلها سبع فرق وقيل: جعلت سبعة على وفق الأعضاء السبعة من العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل، لأنها مصادر السيئات فكانت مواردها الأبواب السبعة، ولما كانت هي بعينها مصادر الحسنات بشرط النية والنية من أعمال القلب زادت الأعضاء واحداً فجعلت أبواب الجنان ثمانية قال تعالى: {لكل باب} أي: منها {منهم} أي: من الغاوين خاصة لا يشاركهم فيها مخلص {جزء} أي: نصيب. وقرأ شعبة بضم الزاي والباقون بالسكون {مقسوم} أي: معلوم فلكل دركة قوم يسكنونها. قال الضحاك: في الدرجة الأولى أهل التوحيد الذي أدخلوا النار يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون، وفي الثانية النصارى وفي الثالثة اليهود وفي الرابعة الصابئون، وفي(2/203)
الخامسة المجوس، وفي السادسة أهل الشرك، وفي السابعة المنافقون، فذلك قوله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} (النساء، 145)
. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمّتي أو قال على أمّة محمد» . ولما شرح تعالى أحوال أهل العقاب أتبعه بصفة أهل الثواب بقوله تعالى مؤكداً لإنكار المكذبين بالبعث:
{إن المتقين} أي: الذين اتقوا الشرك بالله تعالى كما قال جمهور الصحابة والتابعين وهو الصحيح لأنّ المتقي والآتي بالتقوى مرّة واحدة كما أنّ الضارب هو الآتي بالضرب مرّة واحدة والقاتل هو الآتي بالقتل مرّة واحدة فكما أنه ليس من شرط صدق الوصف بكونه ضارباً أو قاتلاً كونه آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى لأنّ الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتياً بالتقوى، لأنّ كل فرد من أفراد الماهية يجب كونه مشتملاً على تلك الماهية {في جنات} أي: بساتين. قال الرازي: أمّا الجنات فأربعة لقوله تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرحمن، 46)
ثم قال: {ومن دونهما جنتان} (الرحمن، 62)
فيكون المجموع أربعة. وقوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} (الرخمن، 46)
يؤكد ما قلناه لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه من الخوف من الله تعالى. وقوله تعالى: {ولمن خاف} يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرّة واحدة. وقوله تعالى: {وعيون} قال الرازي: يحتمل أن يكون المراد منها ما ذكره الله تعالى في قوله {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمرة لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} (محمد، 15)
. ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون منابع مغايرة لتلك الأنهار. فإن قيل: هل كان واحد من المتقين مختص بعيون أو تجري تلك العيون بعضها إلى بعض؟ أجيب: بأن كل واحد من الوجهين محتمل فيجوز أن يختص كل واحد بعين ينتفع هو بها، ومن يختص به من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجاتهم وعلى حسب شهواتهم ويحتمل أن يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم يطهرون عن الحقد والحسد. وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص برفع العين والباقون بالكسر وقرأ بكسر التنوين في الوصل أبو عمرو وابن ذكوان وعاصم وحمزة والباقون بالضم. ولما كان المنزل لا يحسن إلا بالسلامة والأنس قال تعالى:
{ادخلوها} أي: يقال لهم ذلك {بسلام} أي: سالمين من كل آفة مرحباً بكم {آمنين} من ذلك دائماً. ولما كان الأنس لا يكمل إلا بالجنس مع كمال المودة وصفاء القلوب عن الكدر. قال تعالى: {ونزعنا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة {ما في صدورهم من غلّ} أي: حقد كامن في القلب ويطلق على الشحناء والعداوة والحسد والبغضاء فكل هذه الخصال المذمومة داخلة في الغل لأنها كامنة في القلب. يروى أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص بعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نقيت قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد حالة كونهم {إخواناً} أي: متصافين حالة كونهم {على سرر} جمع سرير وهو مجلس رفيع موطأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يريد على سرر من ذهب مكالة بالزبرجد والدرّ والياقوت والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية {متقابلين} لا يرى بعضهم قفا بعض فإن التقابل(2/204)
التواجه وهو نقيض التدابر ولا شك أنّ المواجهة أشرف الأحوال. وعند مجاهد رضي الله تعالى عنه تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين. تنبيه: ليس المراد الإخوة في النسب بل المراد الإخوة في المودّة والمخالطة كما قال تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلا المتقين} (الزخرف، 67)
. وعن الجنيد أنه قال: ما أحلى الاجتماع مع الأصحاب وما أمرّ الاجتماع مع الأضداد. وقوله تعالى:
{لا يمسهم فيها نصب} أي: إعياء وتعب وجهد ومشقة استئناف أو حال بعد حال أو حال من الضمير في متقابلين وقوله تعالى: {وما هم منها بمخرجين} المراد به كونه خلوداً بلا زوال وبقاء بلا فناء وكمالاً بلا نقصان وفوزاً بلا حرمان. ولما ذكر تعالى أحوال المتقين وأحوال غيرهم أتبع ذلك بقوله تعالى:
{نبئ} أي: خبر يا أفضل الخلق {عبادي} إخباراً جليلاً {أني أنا} أي: وحدي {الغفور} أي: للمؤمنين {الرحيم} بهم وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من عبادي وأني والباقون بالسكون. وأمّا الهمزة في نبئ فلم يبدلها إلا حمزة في الوقف فقط، وكذا الهمزة من نبئهم ونقل عن حمزة كسر الهاء في الوقف.
{وأنّ عذابي} أي: وحدي للعصاة {هو العذاب الأليم} أي: المؤلم. تنبيه: في هذه الآية لطائف: الأولى أنه سبحانه وتعالى أضاف العباد إلى نفسه وهذا تشريف عظيم ألا ترى أنه قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} (الإسراء، 1)
. الثانية: أنه تعالى لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيدات بألفاظ ثلاث أوّلها: قوله تعالى: {أني} . ثانيها: قوله: {أنا} . ثالثها: إدخال حرف الألف واللام على قوله تعالى: {الغفور الرحيم} . ولما ذكر العذاب لم يقل أني أنا المعذب، وما وصف نفسه بذلك، بل قال: {وأن عذابي هو العذاب الأليم} . الثالثة: أنه أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ إليهم هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة. والرابعة: أنه لما قال: {نبئ عبادي} كان معناه نبئ كل من كان معترفاً بعبوديتي وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع كذلك يدخل فيه المؤمن العاصي وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة فأمسك منها عنده تسعة وتسعين، وأرسل في خلقه رحمة فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة. ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار» . وعن عبادة رضي الله تعالى عنه قال بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله ما تورع من حرام، ولو يعلم قدر عذابه لجمع نفسه إلى قتلها» . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه مرّ بنفر من أصحابه وهم يضحكون فقال: «أتضحكون وقد ذكر الجنة والنار نبى أيديكم فنزل {بنئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} » . ولما بالغ تعالى في تقرير النبوّة ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد، ثم ذكر تعالى عقبه أحوال القيامة ووصف الأشقياء والسعداء أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليكون سماعها مرغباً في العبادة الموجبة للفوز بدرجات الأولياء ومحذراً عن المعصية الموجبة لاستحقاق دركات الأشقياء وافتتح من ذلك بقصة إبراهيم عليه السلام. فقال تعالى:
{ونبئهم} أي: خبّر يا سيد المرسلين عبادي(2/205)
{عن ضيف إبراهيم} وهم ملائكة اثنا عشر أو عشرة أو ثلاثة منهم جبريل عليه السلام. فإن قيل: الضيف هو المنضم إلى غيره لطلب القرى؟ أجيب: بأنّ هؤلاء سموا بهذا الاسم لأنهم على صورة الضيف فهو من دلالة التضمن وقيل أيضاً: إنّ من يدخل دار إنسان ويلتجئ إليه يسمى ضيفاً وإن لم يأكل.
{إذ دخلوا عليه} أي: إبراهيم وكان يكنى أبا الضيفان كان لقصره أربعة أبواب لكي لا يفوته أحد {فقالوا سلاما} أي: نسلم عليك سلاماً أو سلمت سلاماً {قال} إبراهيم عليه السلام بلسان الحال أو المقال {إنا} أي: أنا ومن عندي {منكم وجلون} أي: خائفون وكان خوفهم لامتناعهم من الأكل أو لأنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت والوجل اضطراب النفس لتوقع ما تكره.
{قالوا لا توجل} أي: لا تخف {إنا} رسل ربك {نبشرك بغلام} أي: ولد ذكر في غاية القوّة ليس كأولاد الشيوخ ضعيفاً. وقرأ حمزة بفتح النون وسكون الباء وضم الشين مخففة والباقون بضم النون وفتح الباء وكسر الشين مشدّدة {عليم} أي: ذي علم كثير هو إسحاق عليه السلام كما ذكر في هود وتقدّم ذكر القصة هناك بأسرها {قال} إبراهيم عليه السلام
{أبشرتموني} أي: بالولد وقوله: {على أن مسني الكبر} حال، أي: مع مسه إياي. فإن قيل: كيف قال {فبم} أي: فبأيّ شيء {تبشرون} أي: بينوا لي ذلك بياناً شافياً مع أنهم قد بينوا ما بشروا به وما فائدة هذا الاستفهام؟ أجيب: بأنه أراد أن يعرف أنّ الله تعالى هل يعطيه الولد مع بقائه على صفة الشيخوخة أو يقلبه شاباً ثم يعطيه الولد، والسبب في هذا الاستفهام أنّ العادة جارية بأنه لا يحصل في حالة الشيخوخة التامّة، وإنما يحصل في حال الشباب أو أنه استفهام تعجب ويدل لذلك قولهم:
{قالوا بشرناك بالحق} قال ابن عباس: يريدون بما قضاه الله تعالى والمعنى أنّ الله تعالى قضى أن يخرج من صلب إبراهيم إسحاق ويخرج من صلب إسحاق ذرية مثل ما أخرج من صلب آدم وقولهم: {فلا تكن} أي: بسبب تبشيرنا {من القانطين} أي: الآيسين، نهي لإبراهيم عليه السلام عن القنوط ونهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كونه فاعلاً للمنهي عنه، كما في قوله تعالى: {ولا تطع الكافرين والمنافقين} (الأحزاب، 1)
ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه
{قال ومن يقنط} أي: ييأس من هذا اليأس. {من رحمة ربه} أي: الذي لم يزل إحسانه عليه {إلا الضالون} أي: المخطئون طريق الاعتقاد الصحيح في ربهم من تمام القدرة وأنه لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر النون والباقون بفتحها ولما تحقق عليه السلام البشرى ورأى إتيانهم مختفين على غير الصفة التي يأتي عليها الملك للوحي وكان هو وغيره من العارفين بالله عالمين بأنه ما ينزل الملك إلا بالحق كان ذلك سبباً لأن يسألهم عن أمرهم ليزول وجله كله ولذلك
{قال} عليه السلام {فما} بفاء السبب {خطبكم} أي: شأنكم. قال أبو حيان: والخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد اه. وقال الرماني: إنه الأمر الجليل. {أيها المرسلون} فإنكم ما جئتم إلا لأمر عظيم يكون فصلاً بين هالك وناج.
{قالوا إنا أرسلنا} أي: أرسلنا العزيز الحكيم الذي أنت أعرف الناس في هذا الزمان به {إلى} إهلاك {قوم} أي: ذوي منعة {مجرمين} أي: كافرين وهم قوم لوط وقوله تعالى:
{إلا آل لوط}(2/206)
فيه وجهان أحدهما: أنه استثناء متصل على أنه مستثنى من الضمير المستكن في مجرمين بمعنى أجرموا كلهم إلا آل لوط فإنهم لم يجرموا، ويكون معنى قوله تعالى: {إنا لمنجوهم أجمعين} أي: لإيمانهم استئناف إخبار بنجاتهم لكونهم لم يجرموا أو يكون الإرسال حينئذ شاملاً للمجرمين ولآل لوط لا هلاك أولئك وإنجاء هؤلاء. والثاني: أنه استثناء منقطع لأنّ آل لوط لم يندرجوا في المجرمين البتة فيكون قوله تعالى: {إنا لمنجوهم أجمعين} جرى مجرى خبر لكن في اتصاله بآل لوط لأن المعنى لكن آل لوط منجوهم وقرأ حمزة والكسائي بسكون النون وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون وتشديد الجيم وقوله تعالى:
{إلا امرأته} استثناء من آل لوط أو من ضميرهم على الأوّل وعلى الثاني لا يكون إلا من ضميرهم لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل {إنا لمنجوهم} اعتراضاً وقوله تعالى:
{قدّرنا} قرأ شعبة بتخفيف الدال والباقون بالتشديد {إنها لمن الغابرين} أي: من الباقين في العذاب لكفرها.
تنبيه: معنى التقدير في اللغة جعل الشيء على مقدار غيره يقال: قدر هذا الشيء لهذا، أي: اجعله على مقداره وقدّر الله تعالى الأقوات، أي: جعلها على مقدار الكفاية ويفسر التقدير بالقضاء فيقال: قضى الله تعالى عليه وقدره عليه، أي: جعله على مقدار ما يكفي في الخير والشر وقيل: معنى قدّرنا كتبنا. وقال الزجاج: دبرنا. فإن قيل: لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عز وجلّ؟ أجيب: بأنهم إنما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى كما تقول خاصة الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا والمدبر والآمر هو الملك لا هم وإنما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك فكذا هنا. ولما بشر الملائكة عليهم السلام إبراهيم عليه السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون بعذاب قوم مجرمين ذهبوا بعد إبراهيم عليه السلام إلى لوط وآله وهذه هي القصة الثانية المذكورة في هذه السورة قال تعالى:
{فلما جاء آل لوط المرسلون} ههنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط واحدة منهما مع المدّ والقصر. وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية وإبدالها حرف مدّ والباقون بتحقيق الهمزتين وكذا {وجاء أهل المدينة} (الحجر، 67)
{قال} لهم {إنكم قوم منكرون} لأنهم دخلوا عليه هجماً فاستنكرهم وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه، ولأجل أنهم كانوا شباباً مرداً حسان الوجوه فخاف أن يهجم قومه عليهم بسبب طلبهم فقال هذه الكلمة. وقيل: إنّ النكرة ضدّ المعرفة فقوله عليه السلام {إنكم قوم منكرون} أي: لا أعرفكم ولا أعرف أنكم من أي الأقوام أنتم، ولأيّ غرض دخلتم عليّ فعند ذلك.
{قالوا} أي: الملائكة {بل جئناك بما} أي: بالعذاب الذي {كانوا} أي: قومك {فيه يمترون} أي: يشكون في نزوله بهم والجاهل يوصف بالشك وإن كان مكذباً من جهة ما يعرض له منه من حيث أنه لا يرجع إلى نفسه فيما هو عليه ثم أكدوا ما ذكروه بقولهم: {وأتيناك بالحق} أي: باليقين الذي لا يشك فيه ثم أكدوا هذا التأكيد بقولهم:
{وإنا لصادقون} أي: فيما أخبرناك به {فأسر بأهلك} أي: فاذهب بهم في الليل {بقطع من الليل} أي: في طائفة من الليل وقيل: هي آخره، قال الشاعر:
*افتحي الباب وانظري في النجوم ... كم علينا من قطع ليل بهيم(2/207)
كأنه طال عليه الليل فخاطب ضجيعته بذلك أو كان يحب طول الليل للوصال. وقرأ نافع وابن كثير بوصل همزة فأسر بعد الفاء من السرى، والباقون بالقطع وهما بمعنى. {واتبع أدبارهم} أي: وكن على آثار أهلك وسر خلفهم وتطلع على أحوالهم {ولا يلتفت منكم أحد} أي: لئلا يرى أليم ما نزل بهم من البلاء، وقيل: جعل ترك الإلتفات علامة لمن ينجو من آل لوط {وامضوا حيث تؤمرون} أي: إلى المكان الذي أمركم الله بالمضيّ إليه، قال ابن عباس: هو الشأم. وقال الفضيل: حيث يقول لكم جبريل وذلك أن جبريل أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط، وقيل: إلى الأردن، وقيل: إلى مصر. تنبيه: حيث ههنا على بابها من كونها ظرف مكان مبهم ولإبهامها تعدى إليها الفعل من غير واسطة.
{وقضينا} أي: وأوحينا {إليه} ولما ضمن قضينا معنى الإيحاء تعدى بإلى ومثله {وقضينا إلى بني إسرائيل} (الإسراء، 4)
وقوله تعالى: {ذلك الأمر} مبهم تفسيره {أن دابر هؤلاء مقطوع} أي: مستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد وقوله تعالى: {مصبحين} حال من هؤلاء أو من الضمير في مقطوع وجمعه للحمل على المعنى فإن دابر هؤلاء في معنى مدبري هؤلاء، أي: يتم استئصالهم في الصباح.
{وجاء أهل المدينة} أي: مدينة من مدائن قوم لوط وهي سذوم بسين مهملة وذال معجمة وأخطأ من قال بمهملة {يستبشرون} أي: بأضياف لوط طمعاً فيهم وليس في الآية دليل على المكان الذي جاؤوه إلا أن القضية تدل على أنهم جاؤوا دار لوط. وقيل: إن الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم حتى وصل إلى قوم لوط. وقيل: امرأة لوط أخبرتهم بذلك. قال الرازي: وبالجملة فالقوم قالوا نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح وجهاً ولا أحسن شكلاً منهم فذهبوا إلى دار لوط طلباً منهم لأولئك المرد والاستبشار إظهار السرور ولما وصلوا إليه.
{قال} لهم لوط: {إن هؤلاء ضيفي} أي: وحق على الرجل إكرام الضيف {فلا تفضحون} فيهم يقال: فضحه إذا أظهر من أمره ما يلزم به العار وإذا قصد الضيف بسوء كان ذلك إهانة لصاحب المحل ثم أكد ذلك بقوله:
{واتقوا} أي: خافوا {الله} في أمرهم {ولا تخزون} أي: ولا تخجلوني فيهم بقصدكم إياهم بفعل الفاحشة من الخزاية وهي الحياء أو لا تذلوني بسببهم من الخزي وهو الهوان.
{قالوا} أي: قومه في جواب قوله لهم {أو لم ننهك عن العالمين} أي: عن أن تضيف أحداً من العالمين، وقيل: أو لم ننهك أن تدخل الغرباء المدينة فإنا نطلب منهم الفاحشة، وقيل: أو لم ننهك أن تمنع بيننا وبينهم فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد وكان لوط عليه السلام يمنعهم عنهم بقدر وسعه
ثم {قال} لهم: {هؤلاء بناتي} أي: نساء القوم لأن كل أمة أولاد نبيها رجالهم بنوه ونساؤهم بناته فكأنه قال لهم: هؤلاء بناتي فانكحوهنّ وخلوا بني فلا تتعرّضوا لهم {إن كنتم فاعلين} أي: ما أقول لكم أو قضاء الشهوة والكلام في ذلك قد مرّ بالاستقصاء في سورة هود وقرأ نافع بفتح ياء بناتي والباقون بسكونها قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على لسان ملائكته:
{لعمرك} أي: وحياتك وما أقسم بحياة أحد غيره وذلك يدل على أنه أكرم الخلق على الله تعالى {إنهم لفي سكرتهم} أي: شدّة غفلتهم التي أزالت عقولهم {يعمهون} أي: يتحيرون الخطاب للوط عليه السلام قالت له الملائكة ذلك، أي:(2/208)
فكيف يعقلون قولك ويلتفتون إلى نصيحتك. تنبيه: لعمرك مبتدأ محذوف الخبر وجوباً وإنهم وما حيزه جواب القسم تقديره: لعمرك قسمي أو يميني إنهم والعمر والعمر بالفتح والضم واحد وهو البقاء إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإيثار الأخف فيه وذلك لأنّ الحلف كثير الدور على ألسنتهم بلعمري ولعمرك. {فأخذتهم الصيحة} أي: صيحة هائلة مهلكة وهل هي صيحة جبريل عليه السلام. قال الرازي: ليس في الآية دليل على ذلك فإن ثبت بدليل قوي قيل به وإلا ليس في الآية دليل إلا أنهم جاءتهم صيحة عظيمة مهلكة وقوله تعالى: {مشرقين} أي: داخلين في وقت الشروق وهو بزوغ الشمس حال من مفعول أخذتهم ثم بين سبحانه وتعالى ما تسبب عن الصيحة معقباً لها بقوله تعالى:
{فجعلنا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة {عاليها} أي: مدائنهم {سافلها} بأن رفعها جبريل عليه السلام إلى السماء وأسقطها مقلوبة إلى الأرض {وأمطرنا عليهم} أي: أهل المدائن التي قلبت المدائن لأجلهم {حجارة من سجيل} أي: طين طبخ بالنار. تنبيه: دلت الآية الكريمة على أنّ الله تعالى عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب أحدها الصيحة الهائلة المنكرة وثانيها: أنه جعل عاليها سافلها، وثالثها: أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل، وتقدّمت الإشارة إلى ذلك في سورة هود.
{إنّ في ذلك} أي: المذكور من هذه الأنواع {لآيات} أي: دلالات على وحدانية الله تعالى {للمتوسمين} أي: للناظرين المعتبرين جمع متوسم وهو الناظر في السمة حتى يعرف حقيقة الشيء وسمته.
{وإنها} أي: هذه المدائن {لبسبيل} أي: طريق قريش إلى الشأم {مقيم} أي: لم يندرس بل يشاهدون ذلك ويرون أثره أفلا يعتبرون. ثم قال سبحانه وتعالى مشيراً إلى زيادة الحث على الاعتبار بالتأكيد
{إنّ في ذلك} أي: هذا الأمر العظيم {لآية} أي: علامة عظيمة في الدلالة على وحدانيته تعالى {للمؤمنين} أي: كل من آمن بالله وصدّق الأنبياء والرسل عرف أنّ ذلك إنما كان لأجل أنّ الله تعالى انتقم لأنبيائه من أولئك الجهال، أمّا الذين لا يؤمنون بالله فإنهم يحملونه على حوادث العالم ووقائعه، ثم ذكر تعالى القصة الثالثة وهي قصة شعيب عليه السلام بقوله تعالى:
{وإن} مخففة من الثقيلة، أي: وإنه {كان} أي: جبلة وطبعاً {أصحاب الأيكة} وهم قوم شعيب عليه السلام وقد ذكر الله تعالى قصتهم في سورة الشعراء والأيكة الشجر المتكاثف وقيل الشجر الملتف وقال ابن عباس: هي شجر المقل. وقال الكلبي: الأيكة الغيضة، أي: غيضة شجر بقرب مدين. {لظالمين} أي: عريقين في الظلم بتكذيبهم شعيباً عليه السلام.
{فانتقمنا منهم} أي: بسبب ذلك قال المفسرون: اشتدّ الحرّ فيهم أياماً ثم اضطرم عليهم المكان ناراً فهلكوا عن آخرهم وقوله تعالى: {وإنهما} فيه قولان: الأوّل: أن المراد قرى قوم لوط والأيكة. والقول الثاني: أنّ الضمير للأيكة ومدين، لأنّ شعيباً كان مبعوثاً إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء ضميرهما {لبإمامٍ} أي: طريق {مبين} أي: واضح والإمام اسم لما يؤتم به. قال الفراء: إنما جعل الطريق إماماً لأنه يؤم ويتبع وقال ابن قتيبة: لأنّ المسافر يأتم به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده ثم ذكر تعالى القصة الرابعة وهي قصة صالح عليه السلام بقوله(2/209)
تعالى:
{ولقد كذب أصحاب الحجر} وهم ثمود قوم صالح عليه السلام وديارهم بين المدينة الشريفة والشام {المرسلين} أي: كلهم بتكذيب رسولهم كما كذب هؤلاء المرسلين بتكذيبك لأنّ الرسل يشهد بعضهم لبعض بالصدق فمن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع وهم في إثبات الرسالة بالمعجزة على حد سواء ثم أتبع ذلك قوله تعالى: {وآتيناهم} أي: بما لنا من العظمة والقدرة على يد رسولهم صالح عليه السلام {آياتنا} أي: آيات الكتاب المنزل على نبيهم أو معجزات كالناقة وكان فيها آيات كثيرة كخروجها من الصخرة وعظيم خلقها وقرب ولادتها وغزارة لبنها وإنما أضاف الآيات إليهم وإن كانت لنبيهم صالح عليه السلام لأنه مرسل من ربهم إليهم بهذه الآيات {فكانوا عنها} أي: الآيات {معرضين} أي: تاركيها غير ملتفتين إليها لا يتفكرون فيها ثم أخبر تعالى عنهم أنهم كانوا مثل هؤلاء في الأمن من العذاب والغفلة عما يراد بهم مع أنهم كانوا أشدّ منهم فقال تعالى:
{وكانوا ينحتون} والنحت قلع جزء بعد جزء من الجسم على سبيل المسح {من الجبال} أي: التي تقدّم أنا جعلناها رواسي. {بيوتاً آمنين} عليها من الإنهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها لا كبيوتكم التي لا بقاء لها على أدنى درجة. وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص برفع الباء والباقون بكسرها. {فأخذتهم الصيحة} أي: صيحة العذاب {مصبحين} أي: وقت الصبح.
{فما أغنى} أي: ما دفع {عنهم} الضرّ والبلاء {ما كانوا يكسبون} أي: يعملون من بناء البيوت الوثيقة واستكثار الأموال والعدد. وعن جابر رضي الله تعالى عنه مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لنا: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين حذراً أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء ثم زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته فأسرع حتى خلفها» . ولما ذكر تعالى هذه القصص تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه إذا سمع أنّ الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياء الله بمثل هذه المعاملات سهل تحمل تلك السفاهة قال تعالى:
{وما خلقنا السموات والأرض} أي: على ما لها من العلوّ والسعة والأرض على ما لها من المنافع والغرائب {وما بينهما} من هؤلاء المشركين المكذبين وعذابهم ومن المياه والرياح والسحاب المسبب عنه النبات وغير ذلك {إلا بالحق} أي: إلا خلقاً ملتبساً بالحق فيتفكر فيه من وفقه الله تعالى ليعلم النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى {وإن الساعة} أي: القيامة {لآتية} لا محالة فيجازي الله تعالى كل أحد بعمله ثم إنه تعالى لما صبره على أذى قومه رغبّه بعد ذلك في الصفح عن سيئاتهم بقوله تعالى:
{فاصفح الصفح الجميل} أي: أعرض عنهم إعراضاً لا جزع فيه ولا تعجل بالإنتقام منهم وهذا منسوخ بآية السيف. قال الرازي: وهو بعيد لأنّ المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن والصفو والصفح فكيف يصير منسوخاً اه. والأوّل جرى عليه البغوي وجماعة من المفسرين ثم علل تعالى هذا الأمر بقوله:
{إنّ ربك} أي: المحسن إليك الآمر لك بهذا {هو} أي: وحده {الخلاّق} أي: المتكرر منه هذا الفعل {العليم} أي: البالغ العلم بكل المعلومات فليست أقوالهم وأفعالهم إلا منه سبحانه وتعالى لأنه خالقها وقد علمت أنه لا يضيع مثقال ذرة فاعتمد عليه في أخذ حقك فإنه نعم المولى ونعم النصير. ولما صبره الله تعالى على أذى قومه وأمره أن يصفح(2/210)
الصفح الجميل، أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خص الله تعالى أفضل خلقه بها بقوله تعالى:
{ولقد آتيناك} يا أفضل الخلق بما لنا من العظمة والقدرة، كما آتينا صالحاً ما تقدّم {سبعاً} يكون كل سبع منها كفيلاً بإغلاق باب أبواب من النيران السبعة وهي أم القرآن الجامعة لجميع معاني القرآن التي أمرنا بإعادتها في كل ركعة زيادة في حفظها وتبرّكاً بلفظها وتذكراً لمعانيها وتخصيصاً لها عن بقية الذكر الذي تكفلنا بحفظه، والسبب في وقوع هذا الاسم على الفاتحة لأنها سبع آيات وهذا ما عليه أكثر المفسرين. روي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الفاتحة وقال: «هي السبع المثاني» . رواه أبو هريرة، وقيل: المراد سبع سور وهي الطوال. واختلف في السابعة فقيل: الأنفال وبراءة لأنهما في حكم سورة ولذلك لم يفصل بينهما بآية البسملة، وقيل: الحواميم السبع، وقيل: سبع صحائف وهي الأسباع وقوله تعالى: {من المثاني} صفة للسبع وهو جمع واحده مثناة والمثناة كل شيء يثنى، أي: يجعل اثنين من قولك: ثنيت الشيء ثنيا، أي: عطفته وضممت إليه آخر ومنه يقال لركبتي الدابة ومرفقيها مثاني، لأنها تثنى بالفخذ والعضد ومثاني الوادي معاطفه. أما تسمية الفاتحة بالمثاني فلوجوه: الأوّل: أنها تثنى في كل صلاة بمعنى أنها تقرأ في كل ركعة. الثاني: أنها تثنى بما بعدها فيما يقرأ معها. الثالث: أنها قسمت قسمين اثنين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» والحديث مشهور، وقد ذكرته في وجه تسميتها صلاة عند ذكرها. الرابع: أنها قسمان اثنان ثناء ودعاء وأيضاً النصف الأوّل منها حق الربوبية وهو الثناء، والنصف الثاني حق العبودية وهو الدعاء. الخامس: أنّ كلماتها مثناة مثل {الرحمن الرحيم} ، {إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} . وأما السور والأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك، ولما فيها من الثناء كأنها تثنى على الله تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى. تنبيه:
من في {من المثاني} إما للبيان أو للتبعيض، إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال وللبيان إن أردت الأسباع. قال الزمخشريّ: ويجوز أن تكون كتب الله كلها مثاني لأنها تثنى عليه لما فيها من المواعظ المكرّرة ويكون القرآن بعضها، وقوله تعالى: {والقرآن العظيم} أي: الجامع لجميع معاني الكتب السماوية المتكفل بخيري الدارين مع زيادات لا تحصى فيه أوجه أحدها: أنه من عطف بعض الصفات على بعض، أي: الجامع بين هذين النعتين. الثاني: أنه من عطف العامّ على الخاص إذ المراد بالسبع إما الفاتحة وإما الطوال، فكأنه ذكر مرّتين بجهة الخصوص ثم باندراجه في العموم. الثالث: أنّ الواو مقحمة. ولما عرف سبحانه وتعالى رسوله عظيم نعمه عليه فيما يتعلق بالدين وهو أنه آتاه سبعاً من المثاني والقرآن العظيم نهاه عن الرغبة في الدنيا بقوله تعالى:
{لا تمدّنّ عينيك} أي: لا تشغل سرّك وخاطرك بالالتفات {إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} أي: أصنافاً من الكفار والزوج في اللغة الصنف وقد أوتيت القرآن العظيم الذي فيه غنى عن كل شيء. قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: من أوتي القرآن فرأى أنّ أحداً أوتي في الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغّر عظيماً وعظّم صغيراً. وتأوّل سفيان بن عيينة هذه الآية بقول النبيّ صلى الله(2/211)
عليه وسلم «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» ، أي: لم يستغن. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: {لا تمدّنّ عينيك} أي: لا تتمنّ ما فضلنا به أحداً من متاع الدنيا، وقيل: أتت من بعض البلاد سبع قوافل ليهود قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في طاعة الله تعالى فقال الله تعالى: لقد أعطيتكم سبع آيات هنّ خير من هذه القوافل السبع. وقرّر الواحدي هذا المعنى فقال: إنما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه وإدامة النظر إلى الشيء تدل على استحسانه وتمنيه. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا. روي أنه نظر إلى نعم بني المصطلق وقد عوست في أبوالها وأبعارها وهو أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها إذا تركت من العمل أيام الربيع فتكثر شحومها ولحومها وهي أحسن ما تكون. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» . وقوله تعالى: {ولا تحزن عليهم} نهي له عن الالتفات إليهم إن لم يؤمنوا فيخلصوا أنفسهم من النار. ولما نهاه سبحانه وتعالى عن الالتفات إلى أولئك الأغنياء من الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين بقوله تعالى:
{واخفض جناحك} أي: ألن جانبك {للمؤمنين} أي: العريقين في هذا الوصف واصبر نفسك معهم وارفق بهم. ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالزهد في الدنيا والتواضع للمؤمنين أمره بتبليغ ما أرسل به إليهم بقوله تعالى: {وقل إني أنا النذير} من عذاب الله أن ينزل عليكم إن لم تؤمنوا. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون {المبين} أي: البين الإنذار وقوله تعالى: {كما أنزلنا} أي: العذاب {على المقتسمين} قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى سموا بذلك لأنهم آمنوا ببعض القرآن وكفروا ببعضه فما وافق كتبهم آمنوا به وما خالف كتبهم كفروا به. وقال عكرمة: إنهم اقتسموا سور القرآن فقال واحد: هذه السورة لي. وقال آخر: هذه السورة لي، وإنما فعلوا ذلك استهزاء به. وقال مجاهد: أنهم اقتسموا كتبهم فآمن بعضهم ببعضها وكفر بعضهم ببعضها. وقال قتادة: أراد بالمقتسمين كفار قريش قال: سموا بذلك لأنّ أقوالهم تقسمت في القرآن فقال بعضهم: إنه سحر وزعم بعضهم أنه كهانة وزعم بعضهم أنه أساطير الأوّلين. وقال ابن السائب: سموا بالمقتسمين لأنهم اقتسموا طرق مكة، وذلك أنّ الوليد بن المغيرة بعث رهطاً من أهل مكة قيل: ستة عشر، وقيل: أربعين. وقال: انطلقوا فتفرّقوا على طرق مكة حيث يمر بكم أهل الموسم فإذا سألوكم عن محمد فليقل بعضكم: إنه مجنون وليقل بعضكم: إنه كاهن وليقل بعضكم: إنه ساحر وليقل بعضكم: إنه شاعر فذهبوا وقعدوا على طرق مكة يقولون ذلك لمن يمرّ بهم من حجاج العرب وقعد الوليد بن المغيرة على باب المسجد الحرام نصبوه حكماً فإذا جاؤوا سألوا عما قال أولئك فيقول: صدقوا فأهلكهم الله تعالى يوم بدر.
وقوله تعالى: {الذين جعلوا القرآن عضين} نعت للمقتسمين وقال ابن عباس: هم اليهود والنصارى جزؤوا القرآن أجزاء فآمنوا بما وافق التوراة والإنجيل وكفروا بالباقي. وقال مجاهد: قسموا كتاب الله ففرقوه وبدّدوه، وقيل: كانوا يستهزؤون به(2/212)
فيقول بعضهم: سورة البقرة لي، ويقول بعضهم: سورة آل عمران لي. وقيل: اقتسموا القرآن فقال بعضهم: سحر. وقال بعضهم: شعر. وقال بعضهم: كذب. وقال بعضهم: أساطير الأوّلين. وقيل: هم أهل الكتاب آمنوا ببعض كتبهم وكفروا ببعض على أنّ القرآن ما يقرؤونه من كتبهم فيكون ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم وقولهم سحر وشعر وأساطير الأوّلين بأنّ غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم.l
تنبيه: عضين جمع عضة وهي الفرقة والعضين الفرق وتقدّم معنى جعلهم القرآن كذلك وقيل: العضة السحر بلغة قريش يقولون هو عاضه وهي عاضهة. وفي الحديث: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة» ، أي: الساحرة والمستسحرة وقيل: هو من العضه وهو الكذب والبهتان، يقال: عضهه عضها وعضيهة، أي: رماه بالبهتان وقيل: جمع عضو مأخوذ من قولهم: عضيت الشيء أعضيه إذا فرقته وجعلته أجزاء وذلك أنهم جعلوا القرآن أعضاء مفرقة فقال بعضهم: سحر. وقال بعضهم: أساطير الأوّلين. ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه على أنه يسأل هؤلاء المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين بقوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} فيكون الضمير عائداً على المقتسمين لأنه الأقرب ويحتمل أن يعود على جميع المكلفين لأنّ ذكرهم تقدّم في قوله تعالى: {وقل إني أنا النذير المبين} (الحجر، 89)
أي: لجميع الخلق قال جماعة من المفسرين: يسألون عن لا إله إلا الله. وقال أبو العالية: يسألون عما كانوا يعبدون وما أجابوا به المرسلين. فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين} وبين قوله تعالى: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} (الرحمن، 39)
أجيب: بأنّ النفي ينصرف إلى بعض الأوقات والاثبات إلى وقت آخر لأنّ يوم القيامة يوم طويل وفيه مواقف يسألون في بعضها ولا يسألون في بعض آخر. ونظيره قوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون} (المرسلات، 35)
. وقال في آية أخرى: {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} (الزمر، 31)
ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
{فاصدع} أي: اجهر بعلو وشدّة فارقاً بين الحق والباطل. وقرأ حمزة والكسائي بإشمام الصاد الساكنة قبل الدال والباقون بالصاد الخالصة. {بما} أي: بسبب ما {تؤمر} به. أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بإظهار الدعوة. روي عن عبد الله بن عبيدة قال: كان مستخفياً حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه. {وأعرض} أي: إعراض من لا يبالي {عن المشركين} بالصفح الجميل عن الأذى والاجتهاد في الدعاء ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة. قال بعض المفسرين كالبغوي: وهذا منسوخ بآية القتال، قال الرازي: وهو ضعيف لأنّ معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم فلا يكون منسوخاً. ولما كان هذا الصدع في غاية الشدّة عليه صلى الله عليه وسلم لكثرة ما يلقى عليه من الأذى خفف عنه سبحانه وتعالى بقوله معللاً له:
{إنا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة {كفيناك المستهزئين} أي: شرّ الذين هم عريقون في الاستهزاء وهم خمسة نفر من رؤوساء قريش الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث، ووصف سبحانه وتعالى هؤلاء بقوله تعالى:
{الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر} وقيل: ليس بصفة بل مبتدأ ولتضمنه معنى الشرط دخلت الفاء في خبره(2/213)
وهو {فسوف يعلمون} أي: عاقبة أمرهم في الدارين. ولما ذكر سبحانه وتعالى أنّ قومه يسفهون عليه ولا سيما أولئك المقتسمون قال له تعالى:
{ولقد نعلم} أي: نحقق وقوع علمنا {أنك} أي: على ما لم من الحلم وسعة البطان {يضيق صدرك} أي: يوجد ضيقه ويتجدد {بما يقولون} أي: من الاستهزاء والتكذيب بك وبالقرآن لأنّ الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك فعند هذا قال تعالى:
{فسبح} ملتبساً {بحمد ربك} أي: نزهه عن صفات النقص. وقال الضحاك: قل سبحان الله وبحمده. وقال ابن عباس: فصلّ بأمر ربك. {وكن من الساجدين} أي: من المصلين. روي أنه صلى الله عليه وسلم «كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» . وقدّمت معناه في سورة البقرة. تنبيه: اختلف الناس كيف صار الإقبال على الطاعات سبباً لزوال ضيق القلب والحزن فقال العارفون المحققون: إذا اشتغل الإنسان بهذه الأنواع من العبادات يتنوّر باطنه ويشرق عليه وينفسح وينشرح صدره فعند ذلك يعرف قدر الدنيا وحقارتها فلا يلتفت إليها. وقال بعض الحكماء: إذا نزل بالإنسان بعض المكاره ففزع إلى الطاعات فكأنه يقول: يا رب يجب عليّ عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكروهات فأنا عبدك بين يديك فافعل بي ما تشاء {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} قال ابن عباس: يريد الموت، وسمى الموت يقيناً لأنه أمر متيقن وهذا مثل قوله تعالى في سورة مريم: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} (مريم، 31)
. وروى البغوي بسنده عن ابن جبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أوحى الله إليّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين ولكن أوحى إليّ أن {سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} » . فإن قيل: أي: فائدة لهذا التوقيت مع أنّ كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟ أجيب: بأنّ المراد منه واعبد ربك في جميع زمان حياتك فلا تخل لحظة من لحظات الدنيا بهذه العبادات. وعن عمر رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً وعليه إهاب كبش قد تنطق به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب ولقد رأيت عليه حلة شراها أو قال شريت له بمائتي درهم فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون» . وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم. حديث موضوع.
سورة النحل
مكية
إلا قوله تعالى: {وإن عاقبتم} إلى آخر السورة وحكى الأصم عن بعضهم أنها كلها مدنية وقال آخرون: من أوّلها إلى قوله: {كن فيكون} مدني وما سواه مكي. وعن قتادة بالعكس، وتسمى سورة النعم والمقصود من هذه السورة الدلالة على أنه تعالى تام القدرة والعلم فاعل بالاختيار منزه عن شوائب النقص وأدل ما فيها على هذا المعنى أمر النحل، لما ذكر من شأنها في دقة الفهم في ترتيب(2/214)
بيوتها ورحبها وسائر أمرها من اختلاف ألوان ما يخرج منها من أعسالها وجعله شفاء مع أكلها من الثمار النافعة والضارة وغير ذلك من الأمور ووسمها بالنعم واضح وهي مائة وثمانية وعشرون آية وألفان وثمانمائة وأربعون كلمة وعدد حروفها سبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أحرف.
{بسم الله} أي: المحيط بدائرة الكمال فما شاء فعل {الرحمن} أي: الذي عمت نعمته جليل خلقه وحقيره صغيره وكبيره. {الرحيم} أي: الذي خص من شاء بنعمته النجاة مما يسخطه بما يراه وقوله تعالى:
{أتى أمر الله} فيه وجهان أحدهما أنه ماض لفظاً مستقبل معنى إذ المراد به يوم القيامة وإنما أبرزه في صورة ما وقع وانقضى تحقيقاً له ولصدق المخبر به. والثاني: أنه على بابه والمراد مقدّماته وأوائله وهو نصر رسوله صلى الله عليه وسلم أي: جاء أمر الله ودنا وقرب فإنه يقال في الكلام المعتاد أنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع. يقال لمن طلب الإعانة وقرب حصولها: جاءك الغوث، أي: أتى أمر الله وعداً {فلا تستعجلوه} وقوعاً قبل مجيئه فإنه واقع لا محالة روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى» . قال ابن عباس: كان مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة. ولما مرّ جبريل بأهل السموات مبعوثاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا: الله أكبر قامت الساعة. وروي أنه لما نزلت {اقتربت الساعة} قال (القمر، 1)
قال الكفار بعضهم لبعض: إنّ هذا، أي: محمداً صلى الله عليه وسلم يزعم أنّ القيامة قد اقتربت فأمسكوا عن بعض ما تقولون حتى ننظر ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا: ما نرى شيئاً فنزل {اقترب للناس حسابهم} (الأنبياء، 1)
فاشفقوا وانتظروا فلما امتدّت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوّفنا به فنزل {أتى أمر الله} فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم وظنوا أنها قد أتت حقيقة فنزل {فلا تستعجلوه} فاطمأنوا فكأن الكفار قالوا: سلمنا لك يا محمد إلا أنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله تعالى فتخلصنا من هذا العذاب المحكوم به فأجابهم الله تعالى بقوله تعالى: {سبحانه} أي: تنزيهاً له {وتعالى عما يشركون} أي: تبرأ سبحانه وتعالى بالأوصاف الحميدة عن أن يكون له شريك في ملكه. وقرأ حمزة والكسائي أتى بالإمالة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح. وقرأ حمزة والكسائي عما يشركون في الموضعين بالتاء على وفق قوله فلا تسعجلوه والباقون بالياء على الغيبة على تلوين الخطاب أو على أنّ الخطاب للمؤمنين أو لهم ولغيرهم. ولما أجاب سبحانه وتعالى الكفار عن شبهتهم بقوله تنزيهاً لنفسه عما يشركون وكان الكفار قالوا: هب أنّ الله تعالى قضى على بعض عبيده بالشرّ وعلى آخرين بالخير ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأمور التي لا يعلمها إلا الله تعالى؟ وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله تعالى وأحكامه في ملكه وملكوته فأجابهم الله تعالى بقوله:
{ينزل الملائكة} قال ابن عباس: يريد بالملائكة جبريل وحده. قال الواحدي: يسمى الواحد بالجمع إذا كان ذلك الواحد رئيساً. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الزاي والباقون بتشديدها والمراد {بالروح} الوحي أو القرآن فإنّ القلوب تحيا به من موت الجهالات وقوله تعالى: {من أمره} أي: بإرادته حال من الروح {على من يشاء من عباده} وهم الأنبياء {أن أنذروا} أي: خوّفوا الكافرين بالعذاب وأعلموهم {أنه}(2/215)
أي: الشأن {لا إله إلا أنا} أي: لا إله غيري وقوله تعالى: {فاتقون} أي: خافوني رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود. تنبيه: في قوله تعالى: {أن أنذروا} ثلاثة أوجه أحدها: أنها المفسرة لأنّ الوحي فيه ضرب من القول والإنزال بالروح عبارة عن الوحي قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} (الشورى، 52)
. الثاني: أنها المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف. الثالث: أنها المصدرية التي من شأنها نصب المضارع ووصلت بالأمر كقولهم: كتبت إليه بأن قم والآية تدل على أنّ نزول الوحي بواسطة الملائكة وأنّ النبوّة عطاءة. ولما وحد سبحانه وتعالى نفسه ذكر الآيات الدالة على وحدانيته من حيث أنها تدلّ على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه على وفق الحكمة والمصلحة بقوله تعالى:
{خلق السموات} أي: التي هي السقف المظل {والأرض} أي: التي هي البساط المقل. {بالحق} أي: أوجدهما على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة قدرها وخصصها بحكمته {تعالى} أي: تعالياً فات الوصف {عما يشركون} به من الأصنام. ولما كان خلق السموات والأرض غيباً لتقدّمه وكان خلق الإنسان على هذه الصفة شهادة فتكون أقوى في الدلالة على وحدانيته تعالى قال تعالى: {خلق الإنسان} أي: هذا النوع {من نطفة} أي: آدم عليه السلام من مطلق الماء ومن تفرع منه بعد زوجه حوّاء من ماء مقيد بالدفق إلى أن صيره قوياً شديداً {فإذا هو خصيم} أي: شديد الخصومة {مبين} أي: بينها. روي أنّ أبيّ بن خلف الجمحي وكان ينكر البعث جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فقال: تزعم يا محمد أنّ الله يحيي هذا العظم بعدما قد رمّ فنزلت هذه الآية، ونزل فيه أيضاً قوله تعالى: {قال من يحيي العظام وهي رميم} (يس، 78)
. قال الخازن في تفسيره: والصحيح أنّ الآية عامة في كل ما يقع فيه الخصومة في الدنيا ويوم القيامة وحملها على العموم أولى. ولما كان أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي بعد الإنسان سائر الحيوانات وأشرفها الأنعام ذكرها بقوله تعالى:
{والأنعام} أي: الأزواج الثمانية الضأن، والمعز، والإبل، والبقر، ونصبه بفعل يفسره {خلقها} . قال الواحدي: تم الكلام عند قوله: {والأنعام خلقها} ثم ابتدأ فقال: {لكم فيها دفء} أي: ما يدفأ به من اللباس والأكسية ونحوها المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار. قال: ويجوز أيضاً أن يكون تمام الكلام عند قوله: {والأنعام خلقها لكم} ثم ابتدأ فقال تعالى: {فيها دفء} . قال الرازي: قال صاحب النظم: وأحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله تعالى: {خلقها} والدليل عليه أنه عطف عليه {ولكم فيها جمال} والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال. ولما ذكر تعالى الأنعام ذكر لها أنواعاً من المنافع الأوّل: قوله تعالى: {لكم فيها دفء} . والنوع الثاني: قوله تعالى: {ومنافع} أي: ولكم فيها منافع من نسلها ودرها وركوبها والحمل عليها وسائر ما ينتفع به من الأنعام وإنما عير تعالى عن ذلك بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على الوصف الأعم لأنّ الدر والنسل قد ينتفع به في الأكل وقد ينتفع به في البيع بالنقود وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات، فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل. النوع الثالث: قوله تعالى: {ومنها تأكلون} فإن قيل: تقديم الظرف يفيد الحصر لأنّ تقديم(2/216)
الظرف موذن بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها. أجيب: بأنّ الأكل من هذه الأنعام هو الذي يعتمده الناس في معايشهم، وأمّا الأكل من غيرها كالدجاج والبط والأوز وصيد البرّ والبحر فليس بمعتد به في الأغلب، وأكله يجري مجرى التفكه به فخرج ومنها تأكلون مخرج الغالب في الأكل من هذه الأنعام. فإن قيل: منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللباس فلم قدّمت منفعة اللباس عليه؟ أجيب: بأنّ منفعة اللباس أكثر من منفعة الأكل فلهذا قدّمت على منفعة الأكل.
{ولكم فيها جمال} أي: زينة {حين تريحون} أي: تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشيّ {وحين تسرحون} أي: تخرجونها بالغداة إلى المرعى، فإن الأفنية تتزين بها في الوقتين وتجل أهلها في أعين الناظرين إليها. فإن قيل: لم قدّمت الإراحة على التسريح؟ أجيب: بأنّ الجمال في الإراحة أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها فيفرح أهلها بها بخلاف تسريحها إلى المرعى فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع ثم تأخذ في التفرق والانتشار للمرعى في البرية فليس في التسريح تجمل كما في الإراحة.
النوع الرابع: قوله تعالى: {وتحمل أثقالكم} جمع ثقل وهو متاع المسافر. {إلى بلد} أي: غير بلدكم أردتم السفر إليه {لم تكونوا بالغيه} أي: غير واصلين إليه على غير الإبل {إلا بشق الأنفس} أي: إلا بكلفة ومشقة والشق بكسر الشين نصف الشي، أي: لم تكونوا بالغيه إلا بنقصان قوّة النفس وذهاب نصفها. وقال ابن عباس: يريد من مكة إلى اليمن وإلى الشأم وإلى مصر قال الواحدي: والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير إبل شق عليكم. وخص ابن عباس هذه البلاد لأنّ متاجر أهل مكة كانت إلى هذه البلاد. فإن قيل: المراد من قوله تعالى: {والأنعام خلقها لكم} الإبل فقط بدليل أنه وصفها إلى آخر الآية بقوله: {وتحمل أثقالكم إلى بلد} وهذا الوصف لا يليق إلا بالإبل؟ أجيب: بأنّ المقصود من هذه الآيات تعديد منافع الأنعام فبعض تلك المنافع حاصل في الكل وبعضها مختص بالبعض والدليل عليه أن قوله: {ولكم فيها جمال} حاصل في البقر والغنم، مثل حصوله في الإبل. تنبيه: احتج منكرو كرامات الأولياء بهذه الآية فإنها تدل على أنّ الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد إلى بلد إلا بشق الأنفس وحمل الأثقال على الإبل ومثبتوا الكرامات يقولون: إنّ الأولياء قد ينتقلون من بلد إلى بلد آخر بعيد في ليلة واحدة من غير تعب وتحمل مشقة، وكان ذلك على خلاف هذه الآية فيكون باطلاً وإذا بطل القول بالكرامات في هذه الصورة بطل القول بها في سائر الصور إذ لا قائل بالفرق، وأجاب المثبتون بأنا نخصص عموم هذه الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرامات {إنّ ربكم} أي: الموجد لكم والمحسن إليكم {لرؤوف} أي: بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بما يرضيه. وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة والباقون بالمدّ. {رحيم} أي: بليغ الرحمة بسبب وبغير سبب.
وقوله تعالى: {والخيل} أي: الصاهلة وهو اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والرهط. {والبغال} أي: المتولدة بينها وبين الحمير {والحمير} الناهقة عطف على الأنعام، أي: وخلق هذه الحيوانات {لتركبوها} أي: لأجل أن تركبوها وفي نصب قوله تعالى: {وزينة} أوجه أحدها: أنه مفعول من أجله وإنما وصل الفعل إلى(2/217)
الأوّل باللام في قوله تعالى: {لتركبوها} وإلى هذا بنفسه لاختلاف شرطه في الأوّل وهو عدم اتحاد الفاعل فإنّ الخالق هو الله تعالى والراكب المخاطبون بخلاف الثاني. الثاني: أنها منصوبة على الحال وصاحب الحال إمّا مفعول خلقها وإمّا مفعول لتركبوها فهو مصدر أقيم مقام الحال. الثالث: أن ينتصب بتقدير فعل قدّره الزمخشري بقوله وخلقها زينة وقدّره ابن عطية وغيره بقولهم: وجعلها زينة. الرابع: أنها مصدر لفعل محذوف، أي: وتتزينون بها زينة.
وتنبيه: احتج القائلون وهم ابن عباس والحاكم وأبو حنيفة ومالك بتحريم لحوم الخيل بهذه الآية، قالوا: منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلو كان أكل لحم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر وحيث لم يذكره تعالى علمنا أنه يحرم أكله لأنّ الله تعالى خص الأنعام بالأكل حيث قال تعالى: {ومنها تأكلون} (النحل، 5)
وخص هذه بالركوب فقال: {لتركبوها} فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل واحتج القائلون بإباحة أكل اللحم من الخيل وهم سعيد بن جبير وعطاء وشريح والحسن والشافعي بما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنهما قالت: «نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ونحن بالمدينة» . وبما روي عن جابر رضي الله عنه «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل» . وفي رواية: «أكلنا في زمن خيبر الخيل وحمر الوحش ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي» هذه رواية البخاري ومسلم. وفي رواية أبي داود قال: «ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير وكنا قد أصابنا مخمصة فنهانا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل» .
وأجابوا عن هذه الآية بأن ذكر الركوب والزينة لا يدل على أنّ منفعتها مختصة بذلك وإنما خص هاتين المنفعتين بالذكر لأنهما معظم المقصود ولهذا سكت عن حمل الأثقال على الخيل مع قوله تعالى في الأنعام: {وتحمل أثقالكم} (النحل، 70)
ولم يلزم من ذلك تحريم الأثقال على الخيل. وقال الواحدي: لو دلت هذه الآية على تحريم أكل هذا الحيوان لكان تحريم أكلها معلوماً في مكة لأجل أنّ هذه السورة مكية ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامّة المفسرين والمحدّثين أنّ لحوم الحمر الأهلية حرمت عام خيبر، أي: وذلك في المدينة باطلاً لأنّ التحريم لما كان حاصلاً قبل هذا اليوم لم يكن لتخصيص هذا التحريم بهذه السنة فائدة، قال الرازي: وهذا جواب حسن متين. وقال ابن الخازن: والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أنّ السنة مبينة للكتاب. ولما كان نص الآية يقتضي أنّ الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة وكان الأكل مسكوتاً عنه ودار الأمر فيه على الإباحة والتحريم فوردت السنة بإباحة لحوم الخيل وتحريم لحوم البغال والحمير، أخذنا به جمعاً بين النصين. ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الأنواع من الحيوان ذكر باقيها على سبيل الإجمال بقوله تعالى: {ويخلق ما لا تعلمون} وذلك لأنّ أنواعها وأصنافها وأقسامها كثيرة خارجة عن الحدّ والإحصاء ولو خاض الإنسان في شرح عجائب أحوالها لكان المذكور بعد كتبه المجلدات الكثيرة كالقطرة في البحر فكان أحسن الأحوال ذكرها على سبيل الإجمال كما ذكر الله تعالى في هذه الآية. وروى عطاء(2/218)
ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال: إنّ عن يمين العرش نهراً من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة يدخل فيه جبريل كل يوم ويغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل نفضة تقع من ريشه تقع كذا وكذا ألف ملك يدخل كل يوم منهم سبعون ألفاً البيت المعمور وفي الكعبة أيضاً سبعون ألفاً لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة سبحان من له هذا الملك العظيم، قال تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} (المدثر/ 31) .
وفسر قتادة الآية بالسوس في النبات والدود في الفواكه وفسرها بعضهم بما أعدّ الله تعالى لأهل الجنة في الجنة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولما شرح الله تعالى دلائل التوحيد قال تعالى:
{وعلى الله} أي: الذي له الإحاطة بكل شيء {قصد السبيل} أي: بيان الطريق المستقيم إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحها إزاحة للعذر وإزالة للعلة ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة والمراد بالسبيل الجنس ولذلك أضاف إليها القصد. وقال: {ومنها} أي: السبيل {جائر} أي: حائد عن الاستقامة. فإن قيل: هذه الآية تدلّ على أنّ الله تعالى يجب عليه الإرشاد والهداية إلى الدين وإزاحة العلل والأعذار كما قال به المعتزلة لأنه تعالى قال: {وعلى الله قصد السبيل} . وكلمة على للوجوب. قال تعالى: {ولله على الناس حج البيت} (آل عمران، 97)
أجيب: بأنّ المراد على الله تعالى بحسب الفضل والكرم أن يبين الدين الحق والمذهب الصحيح. فإن قيل: لم غير أسلوب الكلام حيث قال في الأوّل: {وعلى الله قصد السبيل} . وفي الثاني: {ومنها جائر} دون وعليه جائر؟ أجيب: بأنّ المقصود بيان سبيله وتقسيم السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. ثم قال تعالى: {ولو شاء} هدايتكم {لهداكم} إلى قصد السبيل {أجمعين} فتهتدون إليه باختيار منكم. قال الرازي: وهذا يدلّ على أنّ الله تعالى ما شاء هداية الكفار وما أراد منهم الإيمان لأنّ كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره. ولما ذكر تعالى نعمه على عباده بخلق الحيوانات لأجل الانتفاع والزينة عقبه بذكر إنزال المطر لأنه من أعظم النعم على عباده فقال:
{هو} أي: لا غيره مما تدعى فيه الإلهية {الذي أنزل} أي: بقدرته الباهرة {من السماء} إمّا من نفسها أو من غيرها أو من جهتها أو من السحاب كما هو مشاهد {ماء} أي: واحداً تحسونه بالذوق والبصر {لكم منه} أي: من ذلك الماء {شراب} أي: تشربونه وقد بيّن تعالى في آية أخرى أنّ هذه النعمة جليلة فقال: {وجعلنا من الماء كل شيء حيّ} (الأنبياء، 30)
. فإن قيل: ظاهر هذا أنّ شرابنا ليس إلا من المطر؟ أجيب: بأنه تعالى لم ينف أن يشرب من غيره وبتقدير الحصر لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر سكن هناك بدليل قوله في سورة المؤمنون: {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض} (المؤمنون، 18)
. {ومنه} أي: من الماء {شجر} أي: ينبت بسببه والشجر هنا كل نبات من الأرض حتى الكلأ وفي الحديث: «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت» يعني الكلأ. فإن قيل: قال المفسرون: في قوله تعالى: {والنجم والشجر يسجدان} (الرحمن، 6)
المراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق ومن الشجر ما له ساق؟ أجيب: بأن عطف الجنس على النوع وبالضدّ مشهور وأيضاً فلفظ الشجر يشعر بالاختلاط يقال: تشاجر القوم إذا اختلط(2/219)
أصوات بعضهم ببعض وتشاجرت الرياح إذا اختلطت وقال تعالى: {حتى يحكموك فيما شجر بينهم} (النساء، 65)
ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ. فوجب إطلاق لفظ الشجر عليه ويصح أن يكون المراد بالشجر هنا ما له ساق لأنّ الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وحينئذٍ فإطلاق الشجر على الكلأ مجاز. {فيه} أي: الشجر {تسيمون} أي: ترعون مواشيكم يقال: أسمت الماشية إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت. قال الزجاج: أخذ ذلك من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر في الأرض برعيها علامات وقال غيره: لأنها تعلم الإرسال في المرعى.
ولما ذكر تعالى الحيوانات تفصيلاً وإجمالاً ذكر الثمار تفصيلاً وإجمالاً بقوله تعالى: {ينبت} أي: الله {لكم به} أي: بذلك الماء {الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات} فبدأ بذكر الزرع وهو الحبّ الذي يقتات به كالحنطة والشعير والأرز لأن به قوام البدن بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن وبارك فيه وثلث بذكر النخيل لأنّ ثمرها غذاء وفاكهة وختم بذكر الأعناب لأنه شبيه النخيل في المنفعة من التفكه والتغذية ثم ذكر تعالى سائر الثمار إجمالاً لينبه بذلك على عظيم قدرته وجزيل نعمته على عباده لأنّ الحبة الواحدةتقع في الطين فإذا مضى عليها مقدار معين من الوقت نفذ في داخل تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ونداوتها فتنفتح الحبة فينشق أعلاها وأسفلها فيخرج من أعلى تلك الحبة شجرة صاعدة من داخل الأرض إلى الهواء ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في قعر الأرض وهذه الغائصة هي المسماة بعروق الشجرة ثم إن تلك الشجرة لا تزال تزداد وتنمو وتقوى ثم تخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار ثم إنّ تلك الثمرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع مثل العنب، فإنّ قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان ولحمه وماؤه حاران رطبان لطيفان وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إنّ في ذلك لآية} بينة على أنّ فاعل ذلك تام القدرة يقدر على الإعادة وأنه مختار يفعل ذلك في الوقت الذي يريده وإنما تحصل معرفة ذلك {لقوم يتفكرون} فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته فيؤمنون.
ثم ذكر سبحانه وتعالى أشياء تدلّ على أنه الفاعل المختار بقوله تعالى: {وسخر لكم} أي: أيها الناس لإصلاح أحوالكم {الليل} للسكنى {والنهار} للمعاش. ثم ذكر آية النهار فقال: {والشمس} أي: لمنافع اختصاصها ثم آية الليل فقال: {والقمر} لأمور علقها به {والنجوم} أي: الآيات نصبها لها. ثم نبه على تغيرها بقوله تعالى: {مسخرات} أي: بأنواع التغير لما خلقها له على أوضاع دبرها {بأمره} أي: بإرادته سبباً لصلاحكم وصلاح ما به قوامكم دلالة على وحدانيته تعالى وفعله بالاختيار ولو شاء تعالى لأقام أسباباً غيرها أو أغنى عن الأسباب. وقرأ ابن عامر برفع الأربع وهي الشمس والقمر والنجوم ومسخرات على الابتداء والخبر ووافقه حفص في الاثنين الأخيرين والنجوم مسخرات لا غير والباقون بالنصب عطفاً على ما قبله في الثلاثة الأول وفي الرابع وهو مسخرات على الحال. ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الأشياء وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم ذلك بقوله: {إنّ في ذلك} أي: التسخير العظيم {لآيات} أي: دلالات متعدّدة كثيرة عظيمة(2/220)
{لقوم يعقلون} أي: يتدبرون فيعلمون أنّ جميع الخلق تحت قدره وقدرته وتسخيره لما أراده منهم.
وقوله تعالى: {وما ذرأ} أي: خلق {لكم في الأرض} عطف على الليل، أي: وسخر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان ونبات. وقيل: إنه في موضع نصب بفعل محذوف، أي: وخلق هكذا قدّره أبو البقاء وكأنه استبعد تسلط سخر على ذلك فقدّر فعلاً لائقاً. وقوله تعالى: {مختلفاً} حل منه. وقوله تعالى: {ألوانه} أي: في الخلقة والهيئة والكيفية فاعل به {إنّ في ذلك لآية لقوم يذّكّرون} أي: يتعظون. تنبيه: ختم تعالى الآية الأولى بالتفكر لأنّ ما فيها يحتاج إلى تأمّل ونظر، وختم الثانية بالعقل لأنّ مدار ما تقدّم عليه وختم الثالثة بالتذكر لأنه نتيجة ما تقدّم وجمع الآيات في الثانية دون الأولى والثالثة لأن ما نيط بها أكثر ولذلك ذكر معها العقل. ولما استدل سبحانه وتعالى على إثبات الإله أولاً بأجرام السموات والأرض وثانياً ببدن الإنسان وثالثاً بعجائب خلقة الحيوان ورابعاً بعجائب النبات ذكر خامساً عجائب العناصر وبدأ بالاستدلال بعنصر الماء بقوله تعالى:
وهو أي: لا غيره. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها {الذي سخر البحر} أي: ذلله وهيأه لعيش ما فيه من الحيوان وتكوّن الجواهر وغير ذلك قال علماء الهيئة: ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة في الماء فذاك هو البحر المحيط وجعل في هذا الربع المسكون سبعة أبحر قال تعالى: {والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر} (لقمان، 27)
والبحر الذي سخره الله تعالى للناس هو هذه البحار فمن تسخيرها للخلق ما مر ومنه جعلها بحيث يتمكن الناس من الانتفاع بها بالركوب وبالغوص وبغير ذلك فمنافع البحار كثيرة وذكر سبحانه وتعالى منها هنا ثلاثة منافع الأولى قوله تعالى: {لتأكلوا منه} أي: بالاصطياد وغيره من لحوم الأسماك. {لحماً طرياً} لا تجد أنعم منه ولا ألين وهو أرطب اللحوم فيسرع إليه الفساد فيبادر إلى أكله عذباً ففي ذلك دلالة على كمال قدرته تعالى وذلك أن السمك لو كان كله مالحاً لما عرف به من قدرة الله تعالى ما يعرف بالطري لأنه لما خرج من البحر الملح اللحم الطري في غاية العذوبة علم أنه يخلق الله وقدرته لا بحسب الطبع وعلم بذلك أنّ الله تعالى قادر على إخراج الضدّ من الضدّ. المنفعة الثانية: قوله تعالى: {وتستخرجوا منه} أي: بجهدكم في الغوص وما يتبعه {حلية} أي: اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} (الرحمن، 22)
. {تلبسونها} أي: نساؤكم وهنّ بعضكم فكأن اللابس أنتم ولأنّ زينة النساء بالحلي إنما هو لأجل الرجال فكان ذلك زينة لهم. المنفعة الثالثة: قوله تعالى: {وترى الفلك} أي: السفن {مواخر} أي: تمخر الماء، أي: تشقه بجريها {فيه} أي: مقبلة ومدبرة وذلك أنك ترى سفينتين إحداهما تقبل والأخرى تدبر بريح واحدة. وقال مجاهد: تمخر الريح السفن يعني أنها إذا جرت يسمع لها صوت. وقال الحسن: مواخر يعني مملوءة متاعاً. وقوله تعالى: {ولتبتغوا} أي: لتطلبوا عطف على تأكلوا وما بينهما إعتراض. وقيل: عطف على محذوف تقديره: لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا {من فضله} أي: من سعة رزقه بركوبها للتجارة وللوصول إلى البلدن الشاسعة {ولعلكم تشكرون} الله على هذه النعم التي أنتم عاجزون عنها لولا تسخيره.
ثم إنه تعالى ذكر بعض النعم التي خلقها الله تعالى في الأرض بقوله تعالى: {وألقى(2/221)
في الأرض رواسي} أي: جبالاً ثوابت {أن تميد} أي: كراهة أن تميل وتضطرب {بكم} وقيل: لئلا تميل بكم والأوّل قدره البصريون والثاني قدّره الكوفيون، وقد تقدّم مثل ذلك في قوله تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا} (النساء، 176)
. روي أن الله تعالى خلق الأرض فجعلت تمور فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت وقوله تعالى: {وأنهاراً} عطف على رواسي لأنّ الإلقاء بمعنى الخلق والجعل. ألا ترى أنه تعالى قال في آية أخرى: {وجعل فيها رواسي من فوقها} (فصلت، 10)
. وقال تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} (طه، 39)
. وذكر تعالى الأنهار بعد الجبال لأن معظم عيون الأنهار وأصولها تكون من الجبال. {و} جعل لكم فيها {سبلاً} أي: طرقاً مختلفة تسلكون فيها في أسفاركم والتردّد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان {لعلكم تهتدون} أي: بتلك السبل إلى مقاصدكم وإلى معرفة الله تعالى فلا تضلون.
{و} جعل لكم فيها {علامات} أي: من الجبال وغيرها جمع علامة تهتدون بها في أسفاركم. ولما كانت الدلالة بالنجم أنفع الدلالات وأوضحها براً وبحراً ليلاً ونهاراً نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم لئلا يظنّ أن المخاطب مخصوص والأمر لا يتعدّاه فقال تعالى: {وبالنجم} أي: الجنس {هم} أي: أهل الأرض كلهم وأولى الناس بذلك المخاطبون وهم قريش ثم العرب كلها لفرط معرفتهم بالنجوم. {يهتدون} وقدّم الجارّ تنبيهاً على أن الدلالة بغيره بالنسبة إليه سافلة، وقيل: المراد بالنجم الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي. وقيل: الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم. ولما ذكر سبحانه وتعالى من عجائب قدرته وبديع خلقه ما ذكر على الترتيب الأحسن والنظم الأكمل وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدّمة كلها دالة على كمال قدرة الله ووحدانيته، وأنه تعالى المنفرد بخلقها جميعها قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام العاجزة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تقدر على شيء.
{أفمن يخلق} أي: هذه الأشياء الموجودة وغيرها {كمن لا يخلق} شيئاً من ذلك بل على إيجاد شيء ما فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادة من لا يستحق العبادة وترك عبادة من يستحقها وهو الله تعالى. فإن قيل: ذلك إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق فكان حق الإلزام أن يقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ أجيب: بأنهم لما جعلوا غير الله مثل الله تعالى في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهاً بها فانكر عليهم ذلك بقوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} . فإن قيل: من لا يخلق إن أريد به جميع ما عبد من دون الله كان ورود من واضحاً لأنّ العاقل يغلب على غيره فيعبر عن الجميع بمن ولو جيء أيضاً بما لجاز وإن أريد به الأصنام فلم جيء بمن الذي هو لأولي العلم؟ أجيب: بأنهم سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولي العلم ألا ترى إلى قوله تعالى على أثره: {والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون} (النحل، 20)
وإلى قول الشاعر:
*بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي ... فقلت ومثلي بالبكاء جدير(2/222)
*أسرب القطا هل من يعير جناحه ... لعلي إلى من قد هويت أطير
*وكل قطاة لا تعير جناحها ... تعيش بذل والجناح قصير
فأوقع من على سرب لما عامله معاملة العقلاء، وقيل: للمشاكلة بينه وبين من يخلق، وقيل: المعنى أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده كقوله تعالى: {ألهم أرجل يمشون بها} (الأعراف، 195)
يعني أنّ الآلهة حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب، لأن هؤلاء أحياء وهم أموات فكيف تصح لهم العبادة إلا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا. ولما كان هذا القدر ظاهراً غير خافٍ على أحد فلا يحتاج فيه إلى تدقيق الفكر والنظر بل مجرّد التذكر فيه كفاية لمن فهم وعقل. ختم تعالى ذلك بقوله تعالى: {أفلا تذكرون} بما تشاهدونه من ذلك ولو من بعض الوجوه فتؤمنون. تنبيه: احتج أهل السنة بهذه الآية على أنّ العبد غير خالق لأفعال نفسه لأنه تعالى ميز نفسه عن الأشياء التي يعبدونها بصفة الخالقية لأنّ الغرض من قوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} بيان تميزه عن هذه الأشياء بصفة الخالقية وأنه إنما استحق الإلهية والعبودية لكونه تعالى خالقاً وهذا يقتضي أنّ العبد لو كان خالقاً لشيء لوجب كونه إلهاً معبوداً، ولما كان ذلك باطلاً علمنا أنّ العبد لا يقدر على الخلق والإيجاد، ولما كانت المقدورات لا تحصى وأكثرها نعم على العباد مذكرة لهم بخالقهم قال ممتناً عليهم بإحسانه من غير سبب منهم.
{وإن تعدّوا} كلكم {نعمت الله} أي: إنعام الملك الأعظم الذي لا رب غيره عليكم من صحة البدن وعافية الجسم وإعطاء النظر الصحيح والعقل السليم وبطش اليدين ومشى الرجلين إلى غير ذلك مما أنعم به عليكم وما خلق لكم مما تحتاجون إليه من أمر الدنيا حتى لو رام أحدكم معرفة أدنى نعمة من هذه النعم لعجز عنها وعن معرفتها وحصرها فإن نتبعها يفوت الحصر. {لا تحصوها} أي: لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم مع كثرتها وإعراضكم جملة عن شكرها والعبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعات والعبادات وبالغ في شكر نعم الله تعالى فإنه يكون مقصراً لأنّ نعم الله كثيرة وأقسامها عظيمة وعقل الخلق قاصر عن الإحاطة بمبادئها فضلاً عن غاياتها لكن الطريق إلى ذلك أن يشكر الله تعالى على جميع نعمه مفصلها ومجملها. {إنّ الله لغفور} أي: لتقصيركم في القيام بشكرها يعني النعمة كما يجب عليكم {رحيم} بكم فوسع عليكم النعم ولم يقطعها عنكم بسبب التقصير والمعاصي.
وقوله تعالى: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} فيه وجهان: الأوّل: أنّ الكفار مع كفرهم كانوا ليسرون أشياء وهو ما كانوا يمكرون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وما يعلنون، أي: وما يظهرون من أذاه صلى الله عليه وسلم فأخبر الله تعالى بأنه عالم بكل أحوالهم سرها وعلانيتها لا يخفى عليه خافية وإن دقت وخفيت. والوجه الثاني: أنه تعالى لما ذكر الأصنام وذكر عجزها في الآية المتقدّمة ذكر في هذه الآية أنّ الإله الذي يستحق العبادة يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات سرها وجهرها وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تستحق العبادة. ثم وصف تعالى هذه الأصنام بصفات الأولى مذكورة في قوله تعالى:
{والذين تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} أي: الأصنام وتعتقدون(2/223)
أنها آلهة وقرأ عاصم بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب {لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون} أي: يصوّرون من الحجارة وغيرها. فإن قيل: قوله تعالى في الآية المتقدّمة {أفمن يخلق كمن لا يخلق} يدلّ على أنّ هذه الأصنام لا تخلق شيئاً وهم يخلقون وهذا هو المعنى المذكور في تلك الآية المذكورة فما فائدة هذا التكرار؟ أجيب: بأنّ فائدته أنّ المعنى المذكور في الآية المتقدّمة أنهم لا يخلقون شيئاً فقط والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون كغيرهم فكان هذا زيادة في المعنى وهو فائدة التكرار فكأنه تعالى بدأ بشرح نقصهم في ذواتهم وصفاتهم فبين أولاً أنها لا تخلق شيئاً، ثم بيّن ثانياً أنها كما لا تخلق غيرها فهي مخلوقة كغيرها.
الصفة الثانية قوله تعالى: {أموات} أي: جمادات لا روح لها {غير أحياء} إذ الإله الذي يستحق أن يعبد هو الحي الذي لا يموت. فإن قيل: علم من قوله: أموات أنها غير أحياء فما الفائدة في ذكره؟ أجيب: بأنّ من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطف التي ينشئها الله تعالى حيواناً وأجساد الحيوانات التي تبعث بعد موتها وأمّا الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة وذلك أعرق في موتها. وقيل: ذكر للتأكيد لأنّ الكلام مع الكفار الذي يعبدون الأوثان وهم في نهاية الجهالة والضلالة ومن تكلم مع الجاهل الغبي فقد يعبر عن المعنى الواحد بالعبارات الكثيرة وغرضه الإعلام بكون المخاطب في غاية الغباوة في أنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة. الصفة الثالثة قوله تعالى: {وما يشعرون} أي: الأصنام {أيان} أي: وقت {يبعثون} أي: وما تعلم هؤلاء الآلهة متي تبعث الأحياء تهكماً بحالها لأنّ شعور الجماد محال فكيف بشعور ما لا يعلمه حيّ إلا الحيّ القيوم سبحانه وتعالى. وقيل: الضمير راجع للأصنام. قال ابن عباس: إنّ الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار، وقيل: المراد بقوله تعالى: {والذين تدعون من دون الله} الملائكة وكان ناس من الكفار يعبدونهم فقال الله تعالى: إنهم أموات، أي: لا بد لهم من الموت غير أحياء، أي: باقية حياتهم وما يشعرون، أي: لا علم لهم بوقت بعثهم. ولما زيف سبحانه وتعالى طريقة عبدة الأصنام وبيّن فساد مذهبهم قال تعالى:
{إلهكم} أي: أيها الخلق جميعاً المعبود بحق {إله} أي: متصف بالإلهية على الإطلاق بالنسبة إلى كل أوان وكل زمان وكل مكان {واحد} لا يقبل التعدّد الذي هو مثال النقص بوجه من الوجوه لأنّ التعدّد يستلزم إمكان التمانع المستلزم للعجز المستلزم للبعد عن رتبة الإلهية. {فالذين} أي: فتسبب عن هذا أنّ الذين {لا يؤمنون بالآخرة} أي: دار الجزاء ومحل إظهار الحكم الذي هو ثمرة الملك والعدل الذي هو مدار العظمة {قلوبهم منكرة} أي: جاحدة للوحدانية {وهم} أي: والحال أنهم بسبب إنكار ذلك {مستكبرون} أي: متكبرون عن الإيمان بها {لا جرم} أي: حقاً {أن الله يعلم} علماً غيبياً وشاهدياً {ما يسرون} أي: ما يخفون مطلقاً أو بالنسبة إلى بعض الناس {وما يعلنون} أي: يظهرون فيجاز يهم ذلك. ولما كان في ذلك معنى التهديد علل ذلك بقوله تعالى: {إنه} أي: العالم بالسر والعلن {لا يحب المستكبرين} أي: على خلقه فما بالك بالمستكبرين على التوحيد واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومعنى عدم محبتهم أنه يعاقبهم.(2/224)
وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: يا رسول الله، إنّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً؟ قال: إنّ الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمص الناس» ومعنى بطر الحق أنه يستكبر عند سماع الحق فلا يقبله ومعنى غمص الناس استنقاصهم وازدراؤهم. ولما بالغ سبحانه وتعالى في دلائل التوحيد وأورد الدلائل القاهرة في إبطال مذاهب عبدة الأصنام قال تعالى عاطفاً على قلوبهم منكرة: {وإذا قيل لهم} أي: لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وقوله تعالى: {ما} استفهامية و {ذا} موصولة، أي: ما الذي {أنزل ربكم} على محمد صلى الله عليه وسلم واختلف في قائل هذا القول فقيل: كلام بعضهم لبعض، وقيل: قول المسلمين لهم، وقيل: قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم {قالوا} مكابرين في إنزال القرآن هو {أساطير} أي: آكاذيب {الأوّلين} مع عجزهم بعد تحديهم عن معارضتهم أقصر سورة منه مع علمهم بأنهم أفصح الناس وأنه لا يكون من أحد من الناس متقدّم أو متأخر قول إلا قالوا أبلغ منه. فإن قيل: هذا كلام متناقض لأنه لا يكون منزلاً من ربهم وأساطير؟ أجيب: بأنهم قالوه على سبيل السخرية كقوله: {إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} (الشعراء، 27)
واللام في قوله تعالى: {ليحملوا} لام العاقبة كما في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزناً} (القصص، 80)
وذلك لما وصفوا القرآن بكونه أساطير الأوّلين كان عاقبتهم بذلك أن يحملوا {أوزارهم} أي: ذنوب أنفسهم وإنما قال تعالى: {كاملة} لئلا يتوهم أنه يكفر عنهم شيء بسبب البلايا التي أصابتهم في الدنيا وأعمال البرّ التي عملوها في الدنيا بل يعاقبون بكل أوزارهم {يوم القيامة} الذي لا شك فيه ولا محيص عن إتيانه. قال الرازي: وهذا يدل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً في حق الكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة {و} ليحملوا أيضاً {من} جنس {أوزار} الجهلة الضعفاء {الذين يضلونهم} وقوله تعالى: {بغير علم} حال من مفعول يضلونهم، أي: يضلون من يعلم أنهم ضلال أو من الفاعل وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل وإنما حصل للرؤوساء الذين أضلوا غيرهم وصدّوهم عن الإيمان مثل أوزار الأتباع لأنهم دعوهم إلى الضلال فاتبعوهم فاشتركوا في الإثم وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» أخرجه مسلم. ومعنى الآية والحديث أنّ الرئيس والكبير إذا سنّ سنة حسنة أو سيئة قبيحة فتبعه عليها جماعة فعملوا بها فإن الله تعالى يعطيهم ثوابه وعقابه حتى يكون ذلك الثواب والعقاب مساوياً لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع الذين عملوا بالسنة الحسنة أو القبيحة، وليس المراد بأن الله يوصل جميع الثواب أو العقاب الذي يستحقه(2/225)
الأتباع إلى الرؤوساء ويدل لذلك قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام، 164)
. وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم، 39)
. تنبيه: قال الواحدي: لفظة من في قوله تعالى: {ومن أوزار} ليست للتبعيض لأنها لو كانت كذلك لنقص عن الأتباع بعض الأوزار وقد قال صلى الله عليه وسلم «لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» لكنها للجنس كما قدّرت ذلك في الآية الكريمة، أي: ليحملوا من جنس أوزار الأتباع. وقيل: إنها للتبعيض وجرى عليه البيضاوي تبعاً للزمخشري. {ألا ساء} أي: بئس {ما يزرون} أي: يحملون حملهم هذا وفي هذا وعيد وتهديد لهم. فإن قيل: إنّ الله تعالى حكى هذه الشبهة عن القوم ولم يجب عنها بل اقتصر على محض الوعيد فما السبب في ذلك؟ أجيب: بأنّ السبب فيه أنه تعالى بيّن كون القرآن معجزاً بطريقين: الأوّل: أنه صلى الله عليه وسلم تحداهم أولاً بكل القرآن وثانياً بعشر سور وثالثاً بسورة فعجزواعن المعارضة وذلك يدل على كونه معجزاً الثاني: أنه تعالى حكى هذه الشبهة بعينها في آية أخرى وهي قوله تعالى: {اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً} (الفرقان، 50)
وأبطلها بقوله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض} (الفرقان، 6)
. ومعناه أنّ القرآن يشتمل على الإخبار بالغيوب، وذلك لا يتأتى إلا ممن يكون عالماً بأسرار السموات والأرض. ولما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين وتكرّر شرح هذين الطريقين مراراً كثيرة لا جرم اقتصر في هذه الآية على مجرّد الوعيد ولم يذكر ما يجري مجرى الجواب عن هذه الشبهة ثم إنه سبحانه وتعالى بالغ في وصف وعيد هؤلاء الكفار بقوله تعالى:
أي: ممن رأوا آثارهم في ديارهم {فأتى الله} أي: أمره {بنيانهم من القواعد} أي: من جهة العمد التي بنوا عليها مكرهم {فخرّ} أي: سقط {عليهم السقف من فوقهم} وصار سبب هلاكهم وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم. والباقون بكسر الهاء وضم الميم. وأمّا الوقف فحمزة بضم الهاء على أصله والباقون بالكسر. {وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} أي: من جهة لا تخطر ببالهم وهذا على سبيل التمثيل، أي: التشبيه والتخييل لإفساد ما أبرموه من المكر بالرسل فجعل الله هلاكهم فيما أبرموه كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فأتى البنيان من الأساطين بأن تضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا نحوه من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً، وقيل: هو نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح ببابل ليصعد إلى السماء قال ابن عباس: كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع. وقال كعب: كان طوله فرسخين فأهب الله تعالى الريح فألقت رأسه في البحر وخرّ عليهم الباقي وهم تحته قال البغوي: ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس يومئذ من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية فذلك قوله تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} أي: أتى أمره فخرب بنيانهم من أصلها فخرّ عليه وعلى قومه السقف، أي: أعلى البيوت من فوقهم فهلكوا. تنبيه: قال ابن الخازن في قول البغوي: وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية نظر لأنّ صالحاً عليه السلام كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية وكان أهل اليمن عرباً منهم جرهم الذين نشأ إسماعيل بينهم وتعلم منهم العربية وكان ببابل من العرب طائفة(2/226)
قديمة قبل إبراهيم عليه السلام انتهى. وقد يقال: إنه كان لسان أكثر الناس بالسريانية فلا ينافي ذلك. فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: {فخرّ عليهم السقف من فوقهم} والسقف من فوقهم؟ أجيب: بأنهم قد لا يكونون تحته فلما قال تعالى: {فخرّ عليهم السقف من فوقهم} دل
على أنهم كانوا تحته وحينئذٍ يفيد هذا الكلام بأنّ الأبنية قد تهدّمت وهم ماتوا تحتها. ولما ذكر الله تعالى حال أصحاب المكر في الدنيا ذكر حالهم في الآخرة بقوله عز وجلّ:
{
ثم يوم القيامة يخزيهم} أي: يذلهم ويهينهم بعذاب النار {ويقول} لهم الله تعالى على لسان الملائكة توبيخاً: {أين شركائي} أي: في زعمكم واعتقادكم {الذين كنتم تشاقون} أي: تخالفون المؤمنين {فيهم} أي: في شأنهم وقرأ نافع بكسر النون والباقون بفتحها {قال} أي: يقول {الذين أوتوا العلم} أي: من الأنبياء والمؤمنين وقال ابن عباس: يريد الملائكة {إنّ الخزي} أي: البلاء المذل {اليوم} أي: يوم الفصل الذي يكون للفائز فيه العاقبة المأمونة {والسوء} أي: كل ما يسوء {على الكافرين} أي: الغريقين في الكفر الذين تكبروا في غير موضع التكبر، وفائدة قولهم إظهار الشماتة، وزيادة الإهانة، وحكايته لتكون لطفاً لمن سمعه. تنبيه: في الآية دلالة على أن ماهية الخزي وماهية السوء في يوم القيامة مختصة بالكافرين وهذا ينفي حصول هذه الماهية في حق غيرهم ويؤكد هذا قول موسى عليه السلام: {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} (طه، 48)
ثم إنه تعالى وصف عذاب هؤلاء الكافرين من وجه آخر فقال سبحانه وتعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة} أي: يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه عليهم السلام. وقرأ حمزة في هذه الآية وفي الآية الآتية بالياء في الموضعين على التذكير لأن الملائكة ذكور والباقون بالتاء على التأنيث لأن لفظ الجمع مؤنث. {ظالمي أنفسهم} أي: بأن عرضوها للعذاب المخلد بكفرهم {فالقوا السلم} أي: استسلموا وانقادوا حين عاينوا الموت قائلين: {ماكنا نعمل من سوء} أي: شرك وعدوان فتقول لهم الملائكة: {بلى} أي: بل كنتم تعملون أعظم السوء ثم علل تكذيبهم بقوله تعالى: {إنّ الله عليم بما كنتم تعملون} أي: فلا فائدة لكم في إنكاركم فيجازيكم به.
ولمّا كان هذا الفعل مع العلم سبباً لدخول جهنم قال تعالى: {فادخلوا} أي: أيها الكفرة {أبواب جهنم} أي: أبواب طبقاتها ودركاتها {خالدين} أي: مقدّرين الخلود {فيها} أي: جهنم لا يخرجون منها وإنما قال تعالى ذلك لهم ليكون أعظم في الخزي والغم وفي ذلك دليل على أنّ الكفار بعضهم أشدّ عذاباً من بعض ثم قال تعالى: {فلبئس مثوى} أي: مأوى {المتكبرين} عن قبول التوحيد وسائر ما آتت به الرسل. ولمّا بيّن تعالى أحوال المكذبين ذكر أحوال الصدّيقين بقوله تعالى:
{وقيل للذين اتقوا} أي: خافوا عقاب الله {ماذا} أي: أيّ شيء {أنزل ربكم قالوا خيراً} أي: أنزل خيراً وذلك أنّ أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه فيقولون: ساحر شاعر كذاب مجنون ولو لم تلقه خيرلك فيقول السائل: أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة وألقاه فيدخل مكة فيرى أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيخبرونه بصدقه، وأنه نبيّ مبعوث(2/227)
من الله تعالى فذلك قوله تعالى: {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم} الآية فإن قيل: لم رفع الأول وهو قولهم أساطير الأوّلين ونصب الثاني وهو قولهم خيراً أجيب: بأنه ذكر ذلك للفصل بين جواب المقرّ وجواب الجاحد، وذلك أنهم لمّا سألوا الكفار عن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا أساطير الأولين وليس هو من الإنزال في شيء لأنهم لم يعتقدوا كونه منزلاً. ولمّا سألوا المؤمنين عن المنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يتلعثموا، وطابقوا الجواب عن السؤال بيناً مكشوفاً مفعولاً للإنزال، فقالوا: {خيراً} أي: أنزل خيراً، وتمّ الكلام عند قوله {خيراً} فهو وقف تامّ، ثم ابتدأ بقوله تعالى:
{للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة} أي: حياة طيّبة أو أنّ للذين أتوا بالأعمال الصالحات الحسنة لهم ثوابها حسنة مضاعفة من الواحدة إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة، أو أنه تعالى بيّن أنّ اعترافهم بذلك الإحسان في هذه الدنيا حسنة أي: جزاء لهم على إحسانهم {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرخمن، 60)
ولما كانت هذه الدار سريعة الزوال أخبر عن حالهم في الآخرة فقال: {ولدار الآخرة} أي: الجنة {خير} أي: ما أعدّ الله لهم في الجنة خير مما حصل لهم في الدنيا، ثم مدحها ومدحهم بقوله تعالى: {ولنعم دار المتقين} أي: دار الآخرة، فحذف لتقدّم ذكرها وقال الحسن: هي الدنيا لأنّ أهل التقوى يتزوّدون فيها للآخرة.
وقوله تعالى: {جنات} أي: بساتين {عدن} أي: إقامة خبر مبتدأ محذوف ويصح أن يكون المخصوص بالمدح {يدخلونها} أي: تلك الجنات حالة كونها {تجري من تحتها} أي: من تحت غرفها {الأنهار} ثم كأنّ سائلاً سأل عما فيها من الثمار وغيرها. فأجيب بأنّ {لهم فيها ما يشاؤون} أي: ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، مع زيادات غير ذلك، فهذه الآية تدل على حصول كل الخيرات والسعادات فهي أبلغ من قوله تعالى: {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين} (الزخرف، 71)
لأن هذين القسمين داخلان في قوله تعالى: {لهم فيها ما يشاؤون} مع أقسام أخرى وعلى أنّ الإنسان لا يجد كل ما يريده في الدنيا، لأنّ قوله: {لهم فيها ما يشاؤون} يفيد الحصر {كذلك} أي: مثل هذا الجزاء العظيم {يجزي الله} أي: الذي له الكمال كله {المتقين} أي: الراسخين في صفة التقوى، ثم حث تعالى على ملازمة التقوى بالتنبيه على أنّ العبرة بحال الموت فقال:
{الذين تتوفاهم الملائكة} أي: تقبض أرواحهم وقوله تعالى: {طيبين} كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة وذلك لأنه يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه، ويدخل فيه كونهم موصوفين بالأخلاق الفاضلة، مبّرئين عن الأخلاق المذمومة، ويدخل فيه كونهم مبرّئين عن العلائق الجسمانية، متوجهين إلى حضرة القدس، ويدخل فيه أنه طاب لهم قبض الأرواح، وأنها لم تقبض إلامع البشارة بالجنة، حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها، ومن هذا حاله لا يتألم بالموت، وأكثر المفسرين على أنّ هذا التوفي هو قبض الأرواح كما مرّ، وإن كان الحسن يقول: إنه وفاة الحشر. واستدل بقوله تعالى: {ادخلوا الجنة} لأنه لا يقال عند قبض الأرواح في الدنيا، ادخلوا الجنة. وأجاب الأكثرون بما سيأتي وأدغم أبو عمرو التاء في الطاء بخلاف عنه. ثم بيّن تعالى أنّ الملائكة {يقولون} لهم عند الموت {سلام عليكم} فتسلم عليهم أوتبلغهم السلام(2/228)
من الله تعالى، كما روي أنّ العبد المؤمن إذا أشرف على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولي الله، الله يقرأ عليك السلام ويبشرك بالجنة، ويقال لهم في الآخرة هذا جواب الأكثرين {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} أو إنهم لمّا بشروهم بالجنة صارت الجنة كأنها دارهم، وكأنهم فيها فيكون المراد بقولهم: ادخلوا الجنة، أي: هي خاصة لكم كأنكم فيها. ولما طعن الكفار في القرآن بقولهم: {أساطير الأوّلين} وذكر أنواع التهديد والوعيد ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيراً، عاد إلى بيان أنّ أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم وأقوالهم الباطلة إلا إذا جاءتهم الملائكة، وأتاهم أمر ربك فقال تعالى:
{هل ينظرون إلاأن تأتيهم الملائكة} لقبض أرواحهم. وقرأ حمزة والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وتقدّم توجيه ذلك {أو يأتي أمر ربك} أي: يوم القيامة وقيل: العذاب. وقيل: إنهم طلبوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينزل الله تعالى ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوّة فقال تعالى: {هل ينظرون} في التصديق بنبوّتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك. وعلى كلا التقديرين، فقد قال تعالى: {كذلك} أي: مثل ما {فعل} هؤلاء هذا الفعل البعيد الشنيع فعل {الذين من قبلهم} من الأمم السالفة، كذبوا رسلهم فأهلكوا {وما ظلمهم الله} باهلاكهم بغير ذنب. {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} بكفرهم وتكذيبهم للرسل فاستوجبوا ما نزل بهم {فأصابهم} أي: فتسب عن ظلمهم لأنفسهم أن أصابهم {سيئات} أي: عقوبات أو جزاء سيئات {ما عملوا وحاق} أي: نزل {بهم ما كانوا به يستهزؤون} تكبراً عن قبول الحق فحاق بهم جزاؤه، والحيق لا يستعمل إلا في الشر. وقرأ حاق حمزة بالإمالة والباقون بالفتح.
{وقال الذين أشركوا} للنبيّ صلى الله عليه وسلم استهزاء ومنعاً للبعثة والتكليف {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا} لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل وهو اعتقاد باطل، فلذلك استحقوا عليه الذم والوعيد ثم قالوا لهم: {ولا حرّمنا من دونه من شيء} أي: من السوائب والبحائر والحامي فهو راض به وبمشيئته وحينئذ فلا فائدة في مجيئك وفي إرسالك وهذا عين ما حكاه الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله} (الأنعام، 148)
الآية. قال الله تعالى: {كذلك فعل الذين من قبلهم} أي: من تقدّم هؤلاء من الكفار من الأمم الماضية كانوا على هذه الطريقة، وهذا الفعل الخبيث فإنكار بعثة الرسل كان قديماً في الأمم الخالية ففي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وكذا في قوله تعالى: {فهل على الرسل إلا البلاغ} أي: الإبلاغ. {المبين} أي: البين فليس عليهم هداية أحد إنما عليهم تبليغ ما أرسلوا به إلى من أرسلوا إليه.
ثم بين تعالى أنّ البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سبباً لهدى من أراد اهتداءه، وزيادة لضلال من أراد ضلاله، كالغذاء الصالح فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه ويضرّ المزاج المنحرف ويفنيه بقوله تعالى: {ولقد} أي: والله لقد {بعثنا} أي: بما لنا من العظمة التي من اعترض عليها قصم. {في كل أمّة} من الأمم الذين من قبلكم {رسولاً} أي: كما بعثنا فيكم محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً. {أن اعبدوا الله} أي: الملك(2/229)
الأعلى وحده. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة بكسر النون في الوصل والباقون بالضم. {واجتنبوا الطاغوت} أي: الأوثان أن تعبدوها {فمنهم من هدى الله} أي: وفقهم للإيمان بإرشاده {ومنهم من حقت} أي: وجبت {عليه الضلالة} أي: في علم الله تعالى فلم ينفعهم ولم يرد هداهم. تنبيه: في هذه الآية أبين دليل على أنّ الهادي والمضل هو الله تعالى لأنه المتصرف في عباده يهدي من يشاء ويضل من يشاء لا اعتراض عليه فيما حكم به لسابق علمه، ثم التفت سبحانه وتعالى إلى مخاطبتهم إشارة إلى أنه لم يبق بعد هذا الدليل القطعي في نظر البصيرة إلا الدليل المحسوس للبصر فقال تعالى: {فسيروا} أي: فإن كنتم أيها المخاطبون في شك من أخبار الرسل فسيروا {في الأرض} أي: جنسها {فانظروا} أي: إذا سرتم ومررتم بديار المكذبين وآثارهم، ثم أشار تعالى بالاستفهام إلى أن أحوالهم مما يجب أن يسأل عنه للاتعاظ به فقال: {كيف كان عاقبة} أي: آخر أمر {المكذبين} أي: من عاد ومن
بعدهم من الذين تلقيتم أخبارهم عمن قلدتموهم في الكفر من أسلافكم لعلكم تعتبرون. ولما كان من المحقق أنه ليس بعد الإيصال في الاستدلال إلى الأمر المحسوس إلا العناد أعرض عنهم ملتفتاً إلى الرؤوف بهم الشفيق عليهم محمد صلى الله عليه وسلم فقال مسلياً له:
{إن تحرص على هداهم} فتطلبه بغاية جدّك واجتهادك وقد أضلهم الله تعالى لا تقدر على ذلك ثم قال تعالى: {فإنّ الله لا يهدي من يضلّ} أي: من يرد ضلاله وهو معين لمن حقت عليه الضلالة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الدال، والباقون بضم الياء وفتح الدال على البناء المفعول. قال البيضاوي: وهو أبلغ. ثم قال تعالى: {وما لهم} أي: هؤلاء الذين أضلهم الله وجميع من يضله {من ناصرين} أي: وليس لهم أحد ينصرهم في الدنيا والآخرة عند مجازاتهم على الضلالة لينقذوهم مما يلحقهم عليه من الوبال كما فعل بالمكذبين ممن قبلهم.
ثم حكى الله عن هؤلاء القوم أنهم ينكرون الحشر والنشر بقوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} أي: غاية اجتهادهم فيها {لا يبعث الله من يموت} وذلك أنهم قالوا: إنّ الإنسان ليس هو إلا هذه البنية المخصوصة فإذا مات وتفرّقت أجزاؤه وبلى امتنع عوده بعينه؛ لأنّ الشيء إذا عدم فقد فني، ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه، فكذبهم الله تعالى في قولهم بقوله تعالى: {بلى} أي: يبعثهم بعد الموت فإنّ لفظة بلى إثبات لما بعد النفي والجواب عن شبهتهم أنّ الله تعالى خلق الإنسان وأوجده من العدم، ولم يكن شيئاً فالذي أوجده ولم يكن شيئاً قادر على إيجاده بعد إعدامه لأنّ النشأة الثانية أهون من الأولى، وقوله تعالى: {وعداً عليه حقاً} مصدران مؤكدان منصوبان بفعلهما المقدّر، أي: وعد ذلك وعداً وحقه حقاً.
{ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون} ذلك، أي: لا علم لهم يوصلهم لذلك لأنه من عالم الغيب، لا يمكن عقولهم الوصول إليه بغير إرشاد من الله تعالى ولا هم يقبلون أقوال الدعاة إليه الذين أيدهم الله بروح منه لتقيدهم بما يوصل إلى عقولهم أنها قاصرة على عالم الشهادة لا يمكنها الترقي منه إلى عالم الغيب بغير واسطة منه سبحانه وتعالى، فلذلك ترى الإنسان منهم يأبى ذلك استبعاداً وهو خصيم مبين.
وقوله تعالى: {ليبين لهم الذي(2/230)
يختلفون فيه} يتعلق بما دل عليه بلى، أي: يبعثهم ليبين لهم والضمير لمن يموت وهو عامّ للمؤمنين والكافرين والذي اختلفوا فيه هو الحق. {وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} في قولهم: {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} وقولهم: {لا يبعث الله من يموت} وقيل: يجوز أن يتعلق بقوله: {ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً} أي: بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وأنهم كانوا على الضلالة قبله مفترين على الله الكذب ثم بين سبحانه وتعالى تيسر الإعادة بقوله تعالى:
{إنما قولنا} أي: بما لنا من العظمة والقدرة {لشيء} إبداء وإعادة {إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} أي: يتسبب عن ذلك القول أنه يكون. تنبيه: قوله تعالى: {قولنا} مبتدأ و {أن نقول} خبره. فيكون وكن من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود،، أي: إذا أردنا حدوث شيء فليس إلا أن نقول له: أحدث فيحدث عقب ذلك من غير توقف. فإن قيل: قوله تعالى: {كن} إن كان خطاباً مع المعدوم فهو محال وإن كان خطاباً مع الموجود فكان أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال؟ أجيب: بأنّ هذا تمثيل لنفي الكلام والغايات وخطاب مع الخلق بما يعقلون ليس هو خطاب المعدوم لأنّ ما أراد فهو كائن على كل حال وعلى ما أراده من الإسراع ولو أراد تعالى خلق الدنيا والآخرة بما فيها من السموات والأرض في قدر لمح البصر لقدر على ذلك، ولكن خاطب تعالى العباد بما يعقلون، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تبارك وتعالى: يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له. أمّا شتمه إياي فيقول: إنّ لي ولداً. وأمّا تكذيبه فيقول: ليس يعيدني كما بدأني» . حديث وفي رواية: «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني، وليس أوّل الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأمّا شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً. وأنا الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحدٍ» . وقرأ ابن عامر والكسائي بفتح النون من يكون عطفاً على يقول أو جواباً للأمر والباقون بالرفع. ولما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة دل ذلك على أنهم تمادوا في الغي والجهالة والجهل والضلال، وفي مثل هذه الحالة لا يبعد إقدامهم على إيذاء المسلمين وإنزال العقوبة بهم، وحينئذٍ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا من تلك الديار والمساكن فبيّن تعالى حكم تلك الهجرة، وما لهؤلاء
المهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة بقوله تعالى:(2/231)
وقوله تعالى: {أفأمن الذين مكروا السيئات} فيه إضمار تقديره المكرات السيئات وهم كفار قريش مكروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبالقرآن في أذيتهم والمكر عبارة عن السعي بالفساد على سبيل الإخفاء ثم إنه تعالى ذكر في تهديدهم أربعة أمور الأوّل قوله تعالى: {أن يخسف الله بهم الأرض} كما خسف بقارون وأصحابه فإذا هم في بطنها لا يقدرون على نوع تقلب بمتابعة ولا غيرها. الثاني قوله تعالى: {أو يأتيهم العذاب} على غير تلك الحال {من حيث لا يشعرون} به فيأتيهم بغتة فيهلكهم كما فعل بقوم لوط عليه السلام. الثالث: قوله تعالى: {أو يأخذهم} أي: الله بعذابه {في} حالة {تقلبهم} ومشاعرهم حاضرة وقواهم مستجمعة وفي تفسير هذا التقلب وجوه أوّلها: أنه تعالى يأخذهم بالعقوبة في أسفارهم فإنه تعالى قادر على إهلاكهم في السفر كما أنه قادر على إهلاكهم في الحضر. {فما هم بمعجزين} أي: بفائتين العذاب بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله تعالى حيث كانوا. ثانيها: أنه تعالى يأخذهم بالليل والنهار وفي حال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم. وثالثها: أنّ الله تعالى يأخذهم في حال ما يتقلبون في قضايا أفكارهم فيحول الله بينهم وبين إتمام تلك الحيل وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى: {وقلبوا لك الأمور} (التوبة، 48)
فإنهم إذا قلبوها فقد تقلبوا فيها.
الأمر الرابع: قوله تعالى:
{أو يأخذهم على تخوّف} وفي تفسير التخوّف قولان؛ الأوّل: التخوّف تفعل من الخوف يقال: خفت الشيء وتخوّفته، والمعنى: أنه تعالى لا يأخذهم بالعذاب أوّلاً بل يخيفهم أوّلاً ثم يعذبهم بعده، وتلك الإخافة هو أنه تعالى يهلك قرية فتخاف التي تليها فيأتيهم العذاب. والثاني: التخوّف بمعنى التنقص، أي: أنه تعالى ينقص شيئاً بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوّفه إذا تنقصه. وروي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر: ما تقولون في هذه الآية؟ فسكتوا. فقال شيخ من هذيل: هذه لغتنا التخوّف التنقص. فقال عمر: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير:
تخوّف، أي: تنقص ـ الرحل، أي: رحل ناقته ـ منها تامكاً، أي: سناماً ـ قردا،(2/233)
أي: متراكماً أو مرتفعاً وهو بسكون الراء ـ كما تخوّف عود النبعة السفن
والنبعة بالضم واحدة النبع وهو شجر يتخذ منه السفن والسفن بفتح السين والفاء ما ينحت به الشيء وهو فاعل تخوّف ومفعوله عود. فقال عمر: عليكم بديوانكم. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم. ومعنى البيت أنّ رحل ناقته ينقص سنامها المتراكم أو المرتفع كما ينقص السفن عود النبعة. {فإنّ ربكم} أي: المحسن إليكم بإهلاك من يريد وإبقاء من يريد وقوله تعالى: {لرؤوف} قرأه أبو عمرو وشعبة وحمزة والكسائي بقصر الهمزة والباقون بالمدّ ومعناه بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بنوع وسيلة وكذا من قاطعه أتم مقاطعة وإليه أشار بقوله تعالى: {رحيم} أي: حيث لم يعاجلهم بالعذاب. ولما خوّف سبحانه وتعالى المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وتدبير أحوال الأرواح والأجسام ليظهر لهم أنه مع كمال هذه القدرة الباهرة والقوّة الغير المتناهية لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأجسام الأربعة بقوله تعالى:
{أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء} أي: من الأجرام التي لها ظل كشجر وجبل {تتفيؤ} أي: تتميل {ظلاله عن اليمين والشمائل} جمع شمال، أي: عن جانبي كل واحد منهما وشقيه. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب على نسق ما قبله والباقون بالياء على الغيبة إلى ما خلق استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبي الشيء، أي: ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له. وقال قتادة والضحاك: أمّا اليمين فأوّل النهار وأمّا الشمائل فآخره لأنّ الشمس وقت طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك تقع الظلال إلى الجانب الغربي فإذا انحدرت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي وقعت الظلال في الجانب الشرقي والظلال في أوّل النهار تبتدئ من يمين الفلك على الربع الغربي من الأرض ومن وقت انحدار الشمس من وسط الفلك تبتدئ من شمال الفلك واقعة على الربع الشرقي من الأرض. فإن قيل: ما السبب في ذكر اليمين بلفظ الواحد والشمائل بصيغة الجمع؟ أجيب: بأشياء الأوّل: أنه وحّد اليمين والمراد الجمع ولكنه اقتصر على الواحد كقوله تعالى: {ويولون الدبر} (القمر، 45)
الثاني: قال الفرّاء: كأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال وإذا جمع ذهب إلى كلها وذلك لأنّ قوله: {إلى ما خلق الله من شيء} لفظه واحد ومعناه الجمع على ما مرّ فيحتمل كلا الأمرين. الثالث: أنّ العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} (الأنعام، 1)
. وقوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} (البقرة، 7)
. تنبيه: الهمزة للاستفهام وهو استفهام إنكار، أي: قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم يتفكروا فيه ليظهر لهم كمال قدرته وقهره فيخافوا منه وما موصولة مبهمة بمعنى الذي ومن شيء بيان لها. فإن قيل: كيف بين الموصول وهو مبهم بشيء وهو مبهم بل أبهم مما قبله؟ أجيب: بأن شيئاً قد اتضح وظهر بوصفه بالجملة بعده وهو تتفيؤ ظلاله وقيل: الجملة بيان لما. وقوله تعالى: {سجداً لله} حال من الظلال جمع ساجد كشاهد وشهد، وراكع وركع. واختلف في المراد من السجود على قولين أحدهما: أنّ المراد منه(2/234)
الاستسلام والانقياد يقال: سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ويقال: اسجد للقرد في زمانه، أي: اخضع له وقال الشاعر:
* ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
أي متواضعة. والثاني: أنّ هذه الظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد فلما كانت الظلال يشبه شكلها شكل الساجدين أطلق الله تعالى عليها هذا اللفظ وكان الحسن يقول: أما ظلك فيسجد لربك وأمّا أنت فلا تسجد لربك بئسما صنعت. وعن مجاهد ظل الكافر يصلي وهو لا يصلي. وقيل: ظل كل شيء يسجد لله سواء أكان ذلك الشيء ساجداً أم لا. قال الرازي: والأوّل أقرب إلى الحقائق العقلية والثاني أقرب إلى الشبهات الظاهرة. وقوله تعالى: {وهم داخرون} أي: صاغرون حال أيضاً من الظلال فينتصب عنه حالان وقيل: حال من الضمير المستتر في سجداً فهي حال متداخلة. فإن قيل: الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنون؟ أجيب: أنه تعالى لما وصفها بالطاعة والدخور أشبهت العقلاء أو أن في جملة ذلك من يعقل فغلب. ولما حكم على الظلال بما يعم أصحابها من جماد وحيوان وكان الحيوان أشرف من الجماد رقي الحكم إليه بخصوصه، فقال:
{ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض} وقوله تعالى: {من دابة} يجوز أن يكون بياناً لما في السموات وما في الأرض جميعاً على أنّ في السموات خلقاً لله يدبون فيها كما تدب الأناسيّ في الأرض، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده، ويراد بما في السموات الخلق الذي يقال له الروح، وأن يكون بياناً لما في الأرض ويراد بما في السموات الملائكة وكرّر ذكرهم بقوله تعالى: {والملائكة} خصوصاً من بين الساجدين لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم ويجوز أن يراد بما في السموات ملائكتهنّ وبقوله تعالى: {والملائكة} ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم. فإن قيل: سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد؟ أجيب: بأنّ المراد بسجود المكلفين طاعتهم وعبادتهم وبسجود غيرهم انقياده لإرادة الله تعالى وأنه غير ممتنع عليه وكلا السجودين يجمعهما معنى الانقياد فلم يختلفا فلذلك جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد. فإن قيل: هلا جيء بمن دون ما تغليباً للعقلاء من الدواب على غيرهم؟ أجيب: بأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولاً للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة للعموم. {وهم} أي: الملائكة {لا يستكبرون} عن عبادته ثم علل تخصيصهم بقوله تعالى دلالة على أنهم كغيرهم في الوقوف بين الخوف والرجاء.
{يخافون ربهم} أي: الموجد لهم المدبر لأمورهم المحسن إليهم خوفاً مبتدأ {من فوقهم} إشارة إلى علو الخوف عليهم وغلبته لهم، أو أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم أو يخافونه وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى: {وهو القاهر فوق عباده} (الأنعام، 18)
. وقوله تعالى: {وإنا فوقهم قاهرون} (الأعراف، 127)
والجملة حال من الضمير في لا يستكبرون، أو بيان له أو تقرير لأنّ من خاف الله لا يستكبر عن عبادته. {ويفعلون ما يؤمرون} أي: من الطاعة والتدبير وفي ذلك دليل على أنّ الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي والوعد والوعيد كسائر المكلفين وأنهم بين الخوف والرجاء، كما مرّت الإشارة إليه وأنهم معصومون من الذنوب لأنّ قوله تعالى: {وهم لا يستكبرون} يدل(2/235)
على أنهم منقادون لخالقهم وأنهم ما خالفوا في أمر من الأمور كما قال تعالى: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} (الأنبياء، 27)
. ولما بيّن تعالى أنّ كل ما سوى الله تعالى سواء أكان من عالم الأرواح أم من عالم الأجساد فهو منقاد خاضع لجلال الله تعالى وكبريائه أتبعه بالنهي عن الشرك وبالأمر بأنّ كل ما سواه فهو ملكه وأنه غني عن الكل بقوله تعالى: {وقال الله} فعبّر لأجل تعظيم المقام بالاسم الأعظم الخاص {لا تتخذوا} أي: لا تكلفوا فطرتكم الأولى السليمة المجبولة على معرفة أنّ الإله واحد أن تأخذ في اعتقادها {إلهين اثنين} . فإن قيل: إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا: عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة لأنّ المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص. فأمّا رجل ورجلان وفرس وفرسان فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة إلى أن يقال رجل واحد ورجلان اثنان، فما وجه قوله تعالى: {إلهين اثنين} ؟ أجيب: بأجوبة أوّلها: قال الرازي: وهو الأقرب عندي أنّ الشيء إذا كان مستنكراً مستقبحاً فمن أراد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على ما فيه من القبح والقول بوجود إلهين مستقبح في العقول فإن أحداً من العقلاء لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجود والقدم وصفات الكمال فالمقصود من تكرار اثنين تأكيد التنفير عنه وتوقيف العقل على ما فيه من القبح. الثاني: أنّ قوله تعالى: {إلهين} لفظ واحد يدل على أمرين ثبوت الإله وثبوت التعدّد فإذا قيل: لا تتخذوا إلهين لم يعرف من هذا اللفظ أن النهي وقع عن إثبات الإلهين أو عن اثبات التعدّد أو عن مجموعهما فلما قال: لا تتخذوا إلهين اثنين ظهر أنّ قوله لا تتخذوا نهي عن إثبات التعدّد فقط. الثالث: في الآية تقديم وتأخير والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين. الرابع: أنّ الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنيّ به منهما والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد
إليه والعناية به. ألا ترى أنك لو قلت: إنما هو إله، ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية، ثم علل تعالى ذلك النهي بما اقتضاه السياق من الوحدانية فقال جل ذكره: {إنما هو} أي: الإله المفهوم من لفظ إلهين الذي لا يستحق غيره أن يطلق عليه هذا الضمير إلا مجازاً لأنه لا يطلق إطلاقاً حقيقياً إلا على من وجوده من ذاته.k
{إله} أي: مستحق هذا الوصف على الإطلاق {واحد} لا يمكن أن يثنى بوجه ولا أن يجزأ بغاية وغير غاية لغناه المطلق عن كل شيء واحتياج كل شيء إليه. ولما دلت الدلائل على أنه لا بدّ للعالم من إله وثبت أنّ القول بوجود إلهين محال، وثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الفرد الصمد، قال تعالى بعده: {فإياي فارهبون} أي: خافون دون غيري والرهبة مخافة مع حزن واضطراب وإنما نقل الكلام من الغيبة إلى خطاب الحضور وهو من طريقة الالتفات لأنه أبلغ في الترهيب من قوله فإياه فارهبوه، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم. ولما ثبت بالدليل الصحيح والبرهان الواضح أنّ إله العالم لا شريك له في الإلهية وجب أن يكون جميع المخلوقات عبيده وفي ملكه وتصرفه وتحت قهره وذلك قوله تعالى:
أي: الله وأعاد الضمير في قوله تعالى له(2/236)
على الله الاسم الأعظم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى. {ما في السموات والأرض} أي: ما تعبدونه وغيره فكيف يتصوّر أن يكون شيء من ذلك إلهاً، وهو ملكه مع كونه محتاجاً إلى الزمان والمكان وغيرهما. {وله الدين} أي: الطاعة وقوله تعالى: {واصباً} أي: دائماً حال من الدين والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل. قال ابن قتيبة: ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك لسبب في حال الحياة أو بالموت إلا الحق سبحانه وتعالى فإطاعته واجبة أبداً، ولأنه المنعم على عباده المالك لهم فكانت طاعته واجبة دائماً أبداً. وقوله تعالى: {أفغير الله} أي: الذي له العظمة كلها {تتقون} استفهام إنكار والمعنى: أنكم بعدما عرفتم أنّ إله العالم واحد وعرفتم أنّ كل ما سواه محتاج إليه في وقت دوامه وبقائه فبعد العلم بذلك كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله تعالى أو رهبة من غير الله تعالى ولما بيّن تعالى أنّ الواجب على العاقل أن لا يتقي غير الله بيّن أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى بقوله تعالى: {وما بكم من نعمة} أي: من نعمة الإسلام وصحة الأبدان وسعة في الأرزاق وكل ما أعطاكم من مال أو ولد أو جاه {فمن الله} هو المتفضل على عباده فيجب عليكم شكره على جميع إنعامه لأنّ الشكر إنما يجب على النعمة، فثبت بهذا أنّ العاقل يجب عليه أن لا يخاف، وأن لا يشكر إلا الله تعالى. تنبيه: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنّ الإيمان حصل بخلق الله فقالوا: الإيمان نعمة وكل نعمة فمن الله ينتج أنّ الإيمان من الله وأيضاً النعمة عبارة عن كل ما يكون منتفعاً به وأعظم الأشياء في النفع هو الإيمان فثبت أنّ الإيمان نعمة والمسلمون مطبقون على قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان والنعم إمّا دينية وإمّا دنيوية. أمّا النعم الدينية فهي إمّا معرفة الحق لذاته وإمّا معرفة الخير لأجل العمل به. والنعم الدنيوية إمّا
نفسانية وإمّا بدنية وإمّا خارجية، وكل واحد من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر. كما قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم، 34)
وقد مرّت الإشارة إلى ذلك عند ذكر هذه الآية. ولما كان إخلاصهم له مع ادعائهم ألوهية غيره أمراً مستبعداً عبر بأداة التراخي والبعد في قوله تعالى: {ثم إذا مسكم} أي: أصابكم أدنى مس {الضّرّ} بزوال نعمة مما أنعم به عليكم. وقال ابن عباس: يريد الأسقام والأمراض والحاجة. {فإليه} أي: لا إلى غيره {تجأرون} أي: ترفعون أصواتكم بالاستغاثة لما ركز في فطرتكم الأوّلية السليمة من أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
{ثم إذا كشف} سبحانه وتعالى {الضّرّ} أي: الذي مسكم {عنكم} ونبه على مسارعة الإنسان في الكفران فقال: {إذا فريق} أي: جماعة هم أهل فرقة وضلال {منكم} أي: أيها العباد {بربهم} الذي تفرّد بالإنعام عليهم {يشركون} أي: يوقعون الإشراك بعبادة غيره.
{ليكفروا بما آتيناهم} أي: من النعم. تنبيه: في هذه اللام وجهان: الأوّل: أنها لام كي فيكون المعنى على هذا أنهم إنما أشركوا بالله ليجحدوا نعمه عليهم في كشف الضر. الثاني: أنها لام العاقبة كما في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزناً} (القصص، 8)
والمعنى عاقبة أمرهم هو كفرهم بما آتيناهم من النعماء، وكشفنا عنهم الضر والبلاء. ثم إنه تعالى توعدهم بعد ذلك بقوله تعالى: {فتمتعوا} أي: باجتماعكم على عبادة الأصنام وهذا لفظه أمر والمراد منه التهديد كقوله تعالى:(2/237)
{قل آمنوا به أو لا تؤمنوا} (الإسراء، 107)
. وقوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف، 29)
. {فسوف تعلمون} عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب. ولما بين تعالى بالدلائل القاهرة فساد قول أهل الشرك والتشبيه شرح تفاصيل أقوالهم، وبين فسادها بأنواع الأوّل قوله تعالى:
{ويجعلون} أي: المشركون {لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم} من الحرث والأنعام بقولهم هذا لله وهذا لشركائنا. تنبيه: الضمير في قوله تعالى: {لما لا يعلمون} عائد على الأصنام، أي: أنّ الأصنام لا تعي شيئاً البتة لأنها جماد والجماد لا علم له. وقيل: عائد إلى المشركين، ومعنى لا يعلمونها أنهم يسمونها آلهة فيعتقدون فيها جهالات مثل أنها تنفعهم وتشفع لهم وليس الأمر كذلك. ثم أقسم سبحانه وتعالى بنفسه على نفسه أنه يسألهم يوم القيامة بقوله تعالى: {تالله لتسألنّ} سؤال توبيخ وفيه التفات من الغيبة إلى الحضور وهو من بديع الكلام وبليغه. {عما كنتم تفترون} على الله من أنه أمركم بذلك. تنبيه: في وقت السؤال احتمالان الأوّل: أنه يقع عند القرب من الموت. الثاني: أنه يقع في الآخرة. قال الرازي: وهذا أولى. النوع الثاني قوله تعالى: {ويجعلون لله البنات} ونظيره قوله تعالى: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً} كانت خزاعة وكنانة يقولون الملائكة بنات الله. قال الرازي: أظنّ أنّ العرب إنما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة لاستتارهم عن العيون، فأشبهوا النساء في الاستتار فأطلقوا عليهم البنات. قال ابن عادل: وهذا الذي ظنه ليس بشيء فإنّ الجنّ أيضاً مستترون عن العيون، ولم يطلقوا عليهم لفظ البنات. ولما حكى الله تعالى عنهم هذا القول، قال تعالى: {سبحانه} وفيه وجهان: الأوّل: أن يكون المراد تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه الثاني: تعجيب الخلق من هذا الأمر والجهل الصريح وهو وصف الملائكة بالأنوثة ثم نسبتها بالولدية إلى الله تعالى، قيل في التفسير: معناه معاذ الله وذلك مقارب للوجه الأوّل. ولما ذكر الله تعالى إلى ما جعلوا له مع الغنى المطلق بين ما نسبوا لأنفسهم مع لزوم الحاجة والضعف بقوله تعالى: {ولهم ما يشتهون} من البنين وقد يكونون أعداء أعدائهم. ثم إنه تعالى ذكر أنّ الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالولد البنت لنفسه فكيف
يثبته لله تعالى؟ فقال:
{وإذا بشر أحدهم بالأنثى} أي: أخبر بولادتها {ظل وجهه} أي: صار أو دام النهار كله {مسودًّا} من الكآبة والحياء من الناس واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام والتخجيل كما أنّ بياض الوجه وإشراقه كناية عن الفرح والسرور. {وهو كظيم} أي: مملوء غيظاً على المرأة ولا ذنب لها بوجه والبشارة في أصل اللغة الخبر الذي يغير البشرة من حزن أو سرور، ثم خص في عرف اللغة بالسرور ولا يكون إلا بالخبر الأوّل فالمراد بالبشارة هنا الإخبار كما مرّ. وقول الرازي: إنّ إطلاقه على الخير والشر داخل في التحقيق خلاف المشهور.
{يتوارى} أي: يستحي {من القوم} أي: من الرجال الذين هو فيهم {من سوء ما بشر به} خوفاً من التعيير وذلك أنّ العرب كانوا في الجاهلية إذا قرب ولادة زوجة أحدهم توارى عن القوم إلى أن يعلم ما ولد له فإن ولد له ذكر ابتهج وسرّ بذلك وظهر، وإن كانت أنثى حزن ولم يظهر أياماً متردّداً ماذا يفعل بذلك الولد {أيمسكه} أي: يتركه بغير قتل {على هون} هوان وذل {أم يدسه في التراب} وذكر الضمير في يمسكه ويدسه نظراً للفظ الولد أو(2/238)
لكون الأنثى ولداً كما علم مما مرّ. قال ابن ميلق: قال المفسرون: كانت المرأة إذا أدركها المخاض احتفرت حفرة وجلست على شفيرها فإن وضعت ذكراً أظهرته وظهر السرور على أهله، وإن وضعت أنثى استأذنت مستولدها فإن شاء أمسكها على هون وإن شاء أمرها بإلقائها في الحفرة وردّت التراب عليها وهي حية لتموت انتهى. وعن قيس بن عاصم أنه قال: يا رسول الله، إني واريت ثمان بنات في الجاهلية. فقال له صلى الله عليه وسلم «أعتق عن كل واحدة منهنّ رقبة. فقال: يا نبيّ الله إني ذو إبل. قال: إهد عن كل واحدة منهن هدياً» . وروي أنّ رجلاً قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام مذ قد أسلمت، فقد كانت لي في الجاهلية ابنة فأمرت امرأتي أن تزينها فأخرجتها فلما انتهيت إلى واد فيه بئر بعيدة القعر ألقيتها فيها فقالت: يا أبت قتلتني، فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء. فقال صلى الله عليه وسلم «ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار» ، وكانوا في الجاهلية مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفرة ويدفنها فيها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل ومنهم من يغرقها ومنهم من يذبحها وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية خوفاً من أن يطمع فيهنّ غير الأكفاء وتارة خوفاً من الفقر وكثرة العيال ولزوم النفقة. وكان الذي منهم يريد أن يحيي ابنته تركها حتى تكبر ثم يلبسها جبة من صوف أو شعر ويجعلها ترعى
الإبل والغنم في البادية. قال الله تعالى: {ألا ساء} أي: بئس {ما يحكمون} حكمهم هذا وذلك لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات فأوّلها: أنه يسود وجهه، وثانيها: أنه يختفي من القوم من شدّة نفرته عن البنت. وثالثها: أنّ الولد محبوب بحسب الطبيعة ثم إنه بسبب نفرته عنها يقدم على قتلها وذلك يدل على أنّ النفرة عن البنت والاستنكاف عنها قد بلغ مبلغاً لا يزاد عليه فكيف يليق بالعاقل أن يثبت ذلك لإله عالم مقدس عال عن مشابهة جميع المخلوقات، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى} (النجم: 21، 22)
ثم قال تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة} وهم الكفار {مثل السوء} أي: الصفة السوء بمعنى القبيحة وهي قتلهم البنات مع احتياجهم إليهنّ للنكاح {ولله المثل الأعلى} أي: الصفة العليا وهي أنه لا إله إلا هو، وأن له جميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء السرمدي وغير ذلك من الصفات التي وصف الله بها نفسه. وقال ابن عباس: مثل السوء النار والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله. فإن قيل: كيف جاء لله المثل الأعلى مع قوله تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال} (النحل، 74)
أجيب: بأنّ المثل الذي يضربه الله تعالى حق وصدق والذي يذكره غيره باطل. {وهو العزيز} الذي لا يمتنع عليه شيء فلا نظير له. {الحكيم} الذي لا يوقع شيئاً إلا في محله. ولما حكى الله تعالى عن القوم عظيم كفرهم وقبيح قولهم بين أنه تعالى يمهل هؤلاء الكفار ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً للفضل والرحمة والكرم بقوله تعالى:
أي: بسبب كفرهم ومعاصيهم {ما ترك عليها} أي: على الأرض وإنما أضمر ذكرها من غير ذكر لدلالة الناس والدابة عليها. {من دابة} أي: أنّ الله تعالى لو آخذ الناس بظلمهم لأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض. فإن قيل: اسم الناس جنس يشمل الكل(2/239)
فيدخل في ذلك الأنبياء فيدل على عدم عصمتهم؟ أجيب: بأنّ ذلك عام مخصوص بقوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} (فاطر، 32)
فالمذكور في هذه الآية، إما كل العصاة المستحقين العقاب أو الذين تقدّم ذكرهم من المشركين ومن الذين أثبتوا لله البنات، أو جميع الكفار بدليل قوله تعالى: {إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا} (الأنفال، 55)
. وقال قتادة: قد فعل الله تعالى ذلك في زمن نوح عليه السلام فأهلك جميع الدواب التي على وجه الأرض إلا من كان في السفينة مع نوح عليه السلام. روي أنّ أبا هريرة رضي الله تعالى عنه سمع رجلاً يقول: إنّ الظالم لا يضر إلا نفسه. فقال: بئسما قلت إنّ الحبارى تموت هزالاً من ظلم الظالم. وقال ابن مسعود: إنّ الجعل تعذب في حجرها بذنب ابن آدم، والجعل بضم الجيم وفتح العين دويبة قاله الجوهريّ. وقيل في معنى الآية: ولو يؤاخذ الله الآباء الظالمين بسبب ظلمهم لانقطع النسل، ولم توجد الأبناء ولم يبق في الأرض أحد. {ولكن يؤخرهم} أي: يمهلهم بفضله وكرمه وحلمه {إلى أجل مسمى} أي: إلى انتهاء آجالهم وانقضاء أعمارهم، {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة} عنه {ولا يستقدمون} أي: لا يؤخرون ساعة من الأجل الذي جعله الله تعالى لهم ولا ينتقصون منه. تنبيه: ههنا همزتان مفتوحتان من كلمتين فقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط إحدى الهمزتين مع المدّ والقصر. وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية وإبدالها حرف مدّ والباقون بتحقيق الهمزتين.
والنوع الثالث من الأقاويل الفاسدة التي كان يذكرها الكفار وحكاها الله تعالى عنهم قوله: {ويجعلون لله ما يكرهون} لأنفسهم من البنات وأراذل الأحوال والشركاء في الرياسة. ثم وصف الله تعالى جراءتهم مع ذلك بقوله تعالى: {وتصف} أي: وتقول {ألسنتهم الكذب} أي: مع ذلك مع أنه قول لا ينبغي أن يتخيله عاقل، ثم بيّنه بقوله تعالى: {أنّ لهم الحسنى} أي: عنده، أي: الجنة كقوله تعالى: {ولئن رجعت إلى ربي إنّ لي عنده للحسنى} ولا جهل أعظم ولا أحكم سوءاً من أن تقطع بأنّ من تجعل له ما تكره أن يجعل لك ما تحب فكأنه قيل ما لهم عنده؟ فقيل: {لا جرم} أي لا ظن ولا تردّد في {أن لهم النار} أي: هي جزاء الظالمين وقيل لا جرم بمعنى حقاً. {وأنهم مفرطون} أي: متركون فيها أو مقدّمون إليها وقرأ نافع بكسر الراء، أي: متجاوزون الحد والباقون بالفتح. فإن قيل: إنهم لم يقرّوا بالبعث فكيف يقولون إن لنا الحسنى عند الله؟ أجيب: بأنهم قالوا إن كان محمد صادقاً في البعث بعد الموت فإن لنا الجنة، وقيل إنه كان في العرب جمع يقرّون بالبعث والقيامة وأنهم كانوا يربطون البعير النفيس على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ويقولون إنّ ذلك الميت إذا حشر فإنه يحشر معه مركوبه، ثم بين تعالى أنّ مثل هذا الصنيع الذي يصدر من مشركي قريش قد صدر من سائر الأمم السابقين في حق الأنبياء المتقدّمين بقوله تعالى:
{تالله} أي: الملك الأعلى {لقد أرسلنا} أي: بما لنا من القدرة رسلاً من الماضين {إلى أمم من قبلك} كما أرسلنا إلى هؤلاء {فزين لهم الشيطان} أي: المحترق بالغضب المطرود باللعنة {أعمالهم} الخبيثة من الكفر والتكذيب كما زين لهؤلاء فضلوا كما ضلوا فأهلكناهم، وهذا يجري مجرى التسلية للنبيّ(2/240)
صلى الله عليه وسلم فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم والمزين في الحقيقة هو الله تعالى هذا مذهب أهل السنة وإنما جعل الشيطان آلة بالإلقاء للوسوسة في قلوبهم وليس له قدرة على أن يضلّ أحداً أو يهدي أحداً وإنما له الوسوسة فقط فمن أراد الله تعالى شقاوته سلطه الله عليه حتى يقبل وسوسته {فهو وليهم اليوم} أي: في الدنيا وإنما عبر باليوم عن زمانها، أي: فهو وليهم حين كان يزين لهم أو يوم القيامة على أنه حكاية حال ماضية أو آتية، أي: لا ولي لهم غيره وهو عاجز عن نصر نفسه فكيف ينصرهم. وقيل: الضمير لقريش، أي: زين الشيطان للكفرة المتقدّمين أعمالهم وهو وليّ هؤلاء القوم يغرّهم ويغريهم، وقيل: يجوز أن يقدّر مضاف، أي: فهو ولي أمثالهم والوليّ القرين والناصر فيكون نعتاً للناصر لهم على أبلغ الوجوه {ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم في الآخرة. ثم ذكر تعالى أنه مع هذا الوعيد الشديد قد أقام الحجة وأزاح العلة بقوله تعالى:
{وما أنزلنا} أي: بما لنا من العظمة من جهة العلوّ. {عليك} يا أشرف المرسلين {الكتاب} أي: القرآن {إلا لتبين لهم} أي: للناس {الذي اختلفوا فيه} من أمر الدين مثل التوحيد والشرك وإثبات المعاد ونفيه فإنه كان فيهم من ينكر البعث ومنهم من يؤمن به ومنهم عبد المطلب ومثل تحريم الحلال كالبحيرة والسائبة وتحليلهم أشياء محرّمة كالميتة. فإن قيل: اللام في لتبين لهم تدل على أنّ أفعال الله تعالى معللة بالأغراض كقوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس} (إبراهيم، 1)
. وقوله: {وما خلقت الجنّ والأنس إلا ليعبدون} (الذاريات، 56)
أجيب: بأنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل وجب صرفه إلى التأويل وقوله تعالى: {وهدى ورحمة} أي: وإكراماً بمحبة معطوفان على محل لتبين إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب ودخلت اللام على لتبين لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعل فاعل الفعل المعلل، ولما كان ذلك ربما شملهم وهم على ضلالهم نفاه بقوله تعالى: {لقوم يؤمنون} ونظيره قوله تعالى في أوّل البقرة: {هدى للمتقين} (البقرة، 2)
. وإنما خص المؤمنين بالذكر من حيث أنهم قبلوه وانتفعوا به كما في قوله تعالى: {إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات، 45)
لأنه إنما انتفع بإنذراه هذا القوم فقط. ولما انقضى الدليل على أنّ قلوبهم منكرة استكباراً وما يتعلق به، وختمه بما أحيا به القلوب في الإيمان والعلم بعد موتها بالكفر والجهل، وكان المقصود الأعظم من القرآن تقرير أصول أربعة: الإلهيات والنبوّات والمعاد وإثبات القضاء والقدر والفعل بالاختيار وكان أجلّ هذه المقاصد الإلهيات شرع في ذكر الوحدانية والقدرة والفعل بالاختيار المستلزم للقدرة على البعث على وجه غير المتقدّم ليعلم أنّ أدلة ذلك أكثر من أوراق الأشجار وأجلى من ضياء النهار فعطف على قوله: {والله يعلم ما تسرون وما تعلنون} (النحل، 19)
. قوله جامعاً في الدليل بين العالم العلوي والعالم السفلي.
{والله} أي: الذي له الأمر كله {أنزل من السماء} في الوقت الذي يريده {ماء} بالمطر والثلج والبرد {فأحيا به} أي: بذلك الماء {الأرض} بأنواع النبات {بعد موتها} أي: يبسها {إنّ في ذلك} المذكور {لآية} أي: دلالة واضحة على كمال قدرته تعالى {لقوم يسمعون} أي: سماع تدبر وإنصاف ونظر لأنّ سماع القلوب هو النافع لاسماع الآذان فمن سمع آيات القرآن بقلبه وتدبرها وتفكر فيها(2/241)
انتفع ومن لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لم يسمع فلم ينتفع بالآيات ومن الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات وهو قوله:
{وإنّ لكم في الأنعام لعبرة} أي: اعتباراً إذا تفكرتم فيها وعرفتم كمال قدرتنا وقوله تعالى: {نسقيكم مما في بطونه} استئناف بيان للعبرة وإنما ذكر لفظ الضمير لأنه لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع كالرهط والقوم ولا من اللبس والدلالة على قوّة المعنى لكونها سورة النعم وأنثه في سورة المؤمنون للمعنى فإنّ الأنعام اسم جمع ولذلك عدّه سيبويه في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال كقولهم: ثوب أكياش بياء تحتية وشين معجمة ضرب من الثياب يغزل مرتين ومن قال إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض فإنّ اللبن لبعضها دون جميعها. وقرأ نافع وابن عامر وشعبة بفتح النون تقول: سقيته حتى روي. قال تعالى: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} (الإنسان، 21)
. والباقون بضمها من قولك: اسقاه إذا جعل له شراباً كقوله تعالى: {وأسقيناكم ماءً فراتاً} (المرسلات، 27)
. ولما كان في موضع العبرة تخليص اللبن من غيره قدم قوله تعالى: {من بين فرث} وهو الثفل الذي نزل إلى الكرش فإذا خرج منه لم يسم فرثاً. {ودمٍ لبناً خالصاً} أي: صافياً خلقه الله وسطاً بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينهما بزرخ من قدرة الله لا يبغي عليه أحدهما بلون أو رائحة أو طعم.d
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا أكلت البهيمة العلف واستقرّ في كرشها طبخته فكان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً والكبد متسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقتسمها فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع ويبقى الفرث في الكرش فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل، وسئل شقيق عن الإخلاص فقال: تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم. {سائغاً للشاربين} أي: سهل المرور في الحلق. وقيل: لم يغص أحد باللبن قط. تنبيه: قال أهل التحقيق: اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر، وذلك لأنّ هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيراً آخر بقلب ذلك الدم لبناً ثم دبر تدبيراً آخر فأحدث من ذلك اللبن السمن والجبن فهذا الاستقرار يدلّ على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أنّ البعث والقيامة أمرممكن غير ممتنع وفي حدوث اللبن في الثدي واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقاً لتغذية الطفل مشتملة على حكمة عجيبة يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم المدبر وبيانه من وجوه: الأوّل أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثفل الغذاء فإذا تناول الإنسان غذاء أو شراباً انطبق ذلك المنفذ انطباقاً كلياً لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة، ويجذب ما صفي منه إلى الكبد ويبقى الثفل هناك فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ وينزل منه ذلك الثفل وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح فحصول(2/242)
الانطباق تارة
والانفتاح تارة أخرى بحسب الحاجة وبقدر المنفعة مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم. الثاني: عند تولد اللبن في الضرع يحدث الله تعالى في حلمة الثدي ثقباً صغيرة ومسامّ ضيقة وجعلها بحيث إذا اتصل المص والحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها ولما كانت تلك المسام ضيقة جدًّا كان لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة. وأمّا الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل فالحكمة في أحداث تلك الثقب الصغيرة والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أنها تكون كالمصفاة فكل ما كان لطيفاً خرج وكل ما كان كثيفاً احتبس في الداخل ولم يخرج فبهذا الطريق يصيراللبن خالصاً موافقاً لبدن الطفل سائغاً للشاربين. الثالث: أنه تعالى ألهم ذلك الطفل إلى المص فإنّ الأمّ كلما ألقت حلمة الثدي في فم الطفل فذلك الطفل في الحال يأخذ في المص، ولولا أنّ الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي.
وقوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب} متعلق بمحذوف تقديره: ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب، أي: من عصيرهما وحذف لدلالة نسقيكم عليه، وقوله تعالى: {تتخذون منه سكراً} بيان وكشف عن كنه الإسقاء. قال الواحدي: الأعناب عطف على الثمرات لا على النخيل لأنه يصير التقدير: ومن ثمرات الأعناب والعنب نفسه ثمرة وليس له ثمرة أخرى {ورزقاً حسناً} كالتمر والزبيب والدبس والخل. تنبيه: في تفسير السكر وجوه: الأوّل: هو الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو: رشد رشداً ورشداً. فإن قيل: الخمر محرمة فكيف ذكرها الله تعالى في معرض الأنعام؟ أجيب: عن ذلك بوجهين: أحدهما: أنّ هذه السورة مكية وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة، فكأنّ نزول هذه الآية كان في الوقت الذي كانت الخمرة فيه غير محرمة وممن قال بنسخها النخعي والشعبي. الثاني: أنّ الآية جامعة بين العتاب والمنة فالعتاب بالنسبة إلى السكر والمنة بالنسبة إلى رزقاً حسناً. الوجه الثاني: أنّ السكر هو النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر فإذا طبخ حتى يذهب ثلثاه، ثم يترك حتى يشتد فهو حلال عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلى حد السكر، ويحتج بهذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم «الخمر حرام لعينها» وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئاً غير الخمر وكل من أثبت هذه المغايرة قال: إنه النبيذ المطبوخ. الوجه الثالث: أنّ السكر هو الطعام قاله أبو عبيدة واحتج عليه بقول الشاعر:
* جعلت إعراض الكرام سكراً
أي تنقلب بإعراضهم بأن جعلتها نقلاً وتناولتها والنقل ما ينتقل به على الشراب. قال البغوي: وأولى الأقاويل أن قوله تعالى: {تتخذون منه سكراً} منسوخ انتهى. ويدل له قول الحسن: ذكر الله نعمته عليهم في الخمر قبل أن يحرّمها عليهم. وروي عن ابن عباس قال: السكر ما حرم من ثمرها، والرزق الحسن ما أحل من ثمرها. وروي عنه أيضاً السكر الحرام منه والرزق زبيبه وعنبه ومنافعه. ثم قال تعالى: {إنّ في ذلك} المذكور {لآية} أي: دلالة على قدرته تعالى: {لقوم يعقلون} أي: يستعملون عقولهم بالنظر والتأمّل في الآيات فيعلمون أنّ هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى فيحتج بحصولها على وجود الإله القادر(2/243)
الحكيم. ولما بيّن أنّ إخراج الألبان وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دليل قاطع وبرهان ساطع على أنّ لهذا العالم إلهاً قادراً مختاراً حكيماً. ذكر أنّ إخراج العسل الذي جعله الله تعالى شفاء للناس من دابة ضعيفة وهي النحل دليل قاطع. وبرهان ساطع على إثبات هذا المقصود بقوله تعالى:
{وأوحى ربك إلى النحل} وحي إلهام. قال الضحاك: ألهمها ولم يرسل إليها رسولاً والمراد من الإلهام أنه تعالى قدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر وبيانه من وجوه: الأوّل: ما ذكر الله بقول تعالى: {أن اتخذي} أي: بأن اتخذي ويجوز أن تكون مفسرة لأنّ في الإيحاء معنى القول: {من الجبال بيوتاً} تأوين إليها وإنما سمي ما تبنيه لتتعسل فيه بيتاً تشبيهاً ببيت الإنسان، فتبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرّد طبعها والعقلاء من البشر لا يمكنهم، مثل تلك البيوت إلا بآلات وأنظار دقيقة. الثاني: أنه ثبت في الهندسة أنّ تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدّسات كأن كانت مدورة أو مثلثة أو مربعة أو غير ذلك من الأشكال فإنه تبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة فاهتداء هذا الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة من الأعاجيب. الثالث: أنّ النحل يحصل بينها واحد كالرئيس للبقية وذلك الواحد يكون أعظم جثة من الباقي ويكون نافذ الحكم على تلك البقية وهم يخدمونه ويحملونه عند تعبه وذلك أيضاً من الأعاجيب.
الرابع: أنها إذا انفردت عن وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول وآلات الموسيقى فبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى أوكارها، وهذه أيضاً حالة عجيبة فلما امتاز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والكياسة كان ليس إلا على سبيل الإلهام وهو حالة شبيهة بالوحي، والوحي قد ورد في حق الأنبياء كقوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب} (الشورى 51)
وفي حق الأولياء قال تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين} (المائدة، 111)
وبمعنى الإلهام في حق البشر قال تعالى: {وأوحينا إلى أمّ موسى} . (القصص، 7)
وفي حق سائر الحيوانات خاص. قال الزجاج: يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلاً لأنّ الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها. وقال غيره: النحل يذكر ويؤنث وهي مؤنثة في لغة الحجاز، ولذلك أنثها الله تعالى وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء. {و} اتخذي {من الشجر} أي: الصالحة بيوتاً {و} اتخذي {مما يعرشون} أي: الناس فيبنون تلك الأماكن وذلك أنّ النحل منه وحشي وهو الذي يسكن الجبال والشجر والكهوف، ومنه أهليّ وهو الذي يأوي إلى البيوت وتربيه الناس عندهم وقد جرت العادة أنّ الناس يبنون للنحل الأماكن حتى يأوي إليها وذكر ذلك بحرف التبعيض لأنها لا تبنى في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش من الكرم أو سقف ولا في كل مكان منها. وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الراء والباقون بكسرها.
تنبيه: ظاهر قوله تعالى: {اتخذي} أمر، وقد اختلفوا فيه فمن الناس من يقول: لا بُعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول ولا بدع أن يتوجه عليها من الله أمر ونهي. وقال آخرون: بل المراد منه أنه تعالى خلق فيها(2/244)
غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله في سورة النمل، عند قوله تعالى: {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} . (النمل، 18)
ولما كان أهم شيء للحيوانات بعد الراحة من همّ المقيل أكل شيء، ثنى به فقال:
{ثم كلي من كل الثمرات} أي: من كل ثمرة يشتهيها مرّها وحلوها، وذكر ذلك بحرف التراخي إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسيره لها. تنبيه: لفظ من هذا للتبعيض أو لابتداء الغاية. ولما أذن لها في ذلك كله، وكان من المعلوم عادة أنّ تعاطيه لا يكون إلا بمشقة عظيمة في معاناة السير إليه نبه على خرقه العادة في تيسيره لها بقوله تعالى: {فاسلكي سبل ربك} أي: الطرق التي ألهمك الله تعالى أن تسلكيها وتدخلي فيها لأجل طلب الثمار وقوله تعالى: {ذللاً} جمع ذلول حال من السبل، أي: مسخرة لك فلا تعسر عليك وإن توعرت ولا تضلي عن العود وإن بعدت. وقيل: من الضمير في اسلكي، أي: منقادة لأربابها حتى أنهم ينقلونها من مكان إلى مكان آخر حيث شاؤوا وأرادوا لا تستعصي عليهم. وقوله تعالى: {يخرج من بطونها} فيه عدول عن خطاب النحل إلى خطاب الناس لأنه محل الإنعام عليهم والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم {شراب} أي: عسل {مختلف ألوانه} ما بين أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار ويستحيل في بطونها عسلاً بقدرة الله تعالى، ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب. وقال الرازي: إنه رأى في بعض كتب الطب أنّ العسل طل من السماء ينزل كالترنجبين فيقع على الأزهار وأوراق الشجر فتجمعه النحل فتأكل بعضه وتدّخر بعضه في بيوتها لأنفسها لتتغذى به فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير فذلك هو العسل وقال هذا القول أقرب إلى العقل لأنّ طبيعة الترنجبين تقرب من طبيعة العسل وأيضاً إنا نشاهد أنّ النحل يتغذى بالعسل وأجاب، عن قوله تعالى: {يخرج من بطونها شراب} إنّ كل تجويف داخل البدن يسمى بطناًفقوله: {يخرج من بطونها} أي: من أفواهها انتهى.
والأوّل كما قال ابن الخازن وغيره أظهر لأنا نشاهد أنّ العسل يوجد فيه طعم تلك الأزهار التي يأكلها النحل وكذا توجد لذتها وريحها وطعمها فيه أيضاً، ويعضد هذا قول بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم له: «أكلت مغافير؟ قال: لا، قالت: ما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل. قالت: جرست نحله العرفط» . والعرفط شجر الطلع له صبغ يقال له: المغافير كريه الرائحة، فمعنى جرست نحله العرفط أكلت ورعت من العرفط الذي له الرائحة الكريهة، فثبت بهذا أنه يوجد في طعم العسل ولونه وريحه طعم ما يأكله النحل ولونه وريحه لا ما قاله الأطباء من أنه طل لأنه لو كان طلاً لكان على لون واحد وقوله: كل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً خلاف الظاهر لأنّ لفظ البطن إذا أطلق لم يرد به إلا العضو المعروف بطن الإنسان وغيره. {فيه} أي: الشراب الذي يخرج من بطون النحل {شفاء للناس} من الأوجاع كما قال ابن عباس وابن مسعود، إمّا لبعضها كما دلّ عليه تنكير شفاء، وإمّا لكلها بضميمته إلى غيره إذ قل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل أو بدونه بنيته وبهذا سقط ما قيل إنه يضرّ بأصحاب الصفراء ويهيج الحرارة، ويضرّ بالشباب(2/245)
المحرورين ويعطش. قال ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور. وفي رواية عنه: عليكم بالشفاءين القرآن والعسل. وروى نافع أنّ ابن عمر ما كانت قرحة ولا شيء إلا لطخ الموضع بالعسل. ويقرأ {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ أخي يشتكي بطنه. فقال صلى الله عليه وسلم اسقه العسل فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فما نفع؟ فقال: اذهب فاسقه العسل فقد صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه، فشفاه الله، فبرأ، فكأنما نشط من عقال» فقوله صلى الله عليه وسلم «صدق الله وكذب بطن أخيك» يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم علم بنور الوحي الإلهي، أنّ العسل الذي أمره بشربه سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال قال: صدق الله يعني فيما وعده من أنّ فيه شفاء للناس، وكذب بطن أخيك، يعني باستعجالكم للشفاء في أوّل مرّة. وقال مجاهد: الضمير في {فيه شفاء للناس} راجع للقرآن، لأنّ فيه شفاء من أمراض الشرك، والجهالة والضلالة. وهو هدى ورحمة للناس وعلى هذا تمت قصة تولد العسل من النحل عند قوله تعالى: {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه} ثم ابتدأ وقال: {فيه شفاء للناس} أي: في هذا القرآن. قال الرازي: وهذا قول ضعيف، ويدل عليه وجهان: الأوّل أنّ الضمير في قوله تعالى: {فيه شفاء للناس} يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وما ذاك إلا قوله تعالى: {شراب مختلف ألوانه} . وأمّا الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق فهو غير مناسب. والثاني: حديث أبي سعيد الخدري المتقدّم. ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله تعالى: {إنّ في ذلك} أي: المذكور {لآية لقوم يتفكرون} أي: في اختصاص النحل بتلك الطعوم الرقيقة واللطائف الخفية مثل بناء البيوت المسدسة وغير ذلك فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا على وحدانيتنا وقدرتنا وقد كثر في هذه السورة إضافة الآيات إلى المخاطبين تارة بالإفراد وتارة بالجمع، ونوّعها تارة بالعقل وتارة بالفكر وتارة بالذكر وتارة بغيرها. ثم إنه تعالى لما أيقظهم من رقدتهم ونبههم على عظيم غفلتهم ثنى ببعض ما في أنفسهم من الأدلة على ذلك فقال:
{والله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {خلقكم} أي: أوجدكم من العدم وأخرجكم إلى الوجود ولم تكونوا شيئاً. {ثم يتوفاكم} أي: عند انقضاء آجالكم على اختلاف الإنسان فلا يقدر الصغير أن يؤخر ولا الكبير على أن يقدّم فمنكم من يموت على حال قوّته. {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} أي: أخسه من الهرم والخرف. قال بعض العلماء: عمر الإنسان له أربع مراتب سنّ الطفولية والنمو وهو أوّل العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة وهو غاية سنّ الشباب، وبلوغ الأشدّ ثم المرتبة الثانية سنّ الوقوف وهو من ثلاثة وثلاثين سنة إلى أربعين سنة وهو غاية القوّة وكمال العقل والمرتبة الثالثة سنّ الكهولة وهو من الأربعين إلى الستين وهذه المرتبة يشرع فيها الإنسان في النقص لكنه يكون نقصاً خفياً لا يظهر، ثم المرتبة الرابعة سنّ الشيخوخة والانحطاط من الستين إلى آخر العمر خمسة وستون سنة يتبين النقص ويكون الهرم والخرف.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أرذل العمر خمسة وسبعون سنة وقيل ثمانون سنة. وقال قتادة: تسعون سنة. وعن أنس رضي الله(2/246)
تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر وفتنة المحيا والممات» . وفي رواية عنه كان يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات» . {لكيلا يعلم بعد علم شيئاً} أي: ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في نقصان القوّة والعقل وسوء الفهم. تنبيه: هل ذلك عام في المسلم والكافر أو مختص بالكافر فيه قولان: أحدهما: أنه عامّ، والقول الثاني: أنه مختص إذ المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله تعالى، ولا يقال في حقه: إنه ردّ إلى أرذل العمر. قال الرازي: والدليل عليه قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} (التين: 5، 6)
فبين أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردّوا إلى أسفل السافلين. وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة. وقال في قوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} : هم الذين قرؤوا القرآن. وقال ابن عباس: قوله: {ثم رددناه أسفل سافلين} يريد الكافرين ثم استثنى المؤمنين فقال: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وهذا يؤيد ما مرّ. {إن الله عليم} بمقادير أعمارهم {قدير} يميت الشاب النشيط، ويبقي الهرم الفاني، وفي ذلك تنبيه على أن تفاوت آجال الناس ليس إلا بتقدير قادر حكيم، ركب أبنيتهم وعدّل أمزجتهم على قدر معلوم، ولو كان مقتضى الطباع كما يقول الطبائعيون لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ. ولما ذكر تعالى المفاوتة في الأعمار المنادية بإبطال الطبائع الموجبة للمسابقة إلى الاعتبار لأولي الأبصار للخوف كل لحظة من مصيبة الموت أتبعها بالمفاوتة في الأرزاق فقال:
{والله} أي: الذي له الأمر كله {فضل بعضكم} أيها الناس {على بعض في الرزق} فمنكم غني، ومنكم فقير، ومنكم مالك، ومنكم مملوك، كل ذلك بتقدير العزيز الحكيم، فيجعل الضعيف العاجز الجاهل أغنى من القوي المحتال العالم فنرى أكيس الناس وأكثرهم عقلاً يفني عمره في طلب القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك، ونرى أجلف الخلق وأقلهم عقلاً وفهماً تفتح له أبواب الدنيا فكل شيء خطر بباله، أو دار في خياله، فإنه يحصل له بسهولة ولو كان السبب في ذلك هو جهل الإنسان وعقله لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال فلما رأينا أنّ الأعقل أقل نصيباً وأنّ الأجهل الأخس أوفر نصيباً علمنا أنّ ذلك بسبب قسمة القسام كما قال تعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا} (الزخرف، 32)
فاتقوا الله وأجملوا في طلب الرزق وأقبلوا في جمع قلوبكم على ما ينفعكم من الاستبصار وأنشد سفيان بن عيينة يقول:
*كم من قويّ قويّ في تقلبه ... مهذب الرأي عنه الرزق منحرف
*ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط ... كأنه من خليج البحر يغترف
وحكي أنّ سليمان المهلبي أرسل إلى الخليل بن أحمد بمئة ألف درهم فردّها الخليل وكتب إليه هذه الأبيات:
*أبلغ سليمان أني عنه في سعة
... وفي غنى غير أني لست ذا مال
*شحي بنفسي أني لا أرى أحداً
... يموت جوعاً ولا يبقى على حال(2/247)
*فالعجز عن قدرها العجز ينقصه
... ولا يزيدك فيه حول محتال
*والفقر في النفس لا في المال تعرفه
... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
وقال الشافعي رحمه الله تعالى:
*ومن الدليل على القضاء وكونه
... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
تنبيه: هذا التفاوت ليس مختصاً بالمال بل هو حاصل في الذكاء والبلادة، والحسن والقبح، والعقل والحمق، والصحة والسقم، والاسم الحسن والاسم القبيح، وهذا بحر لا ساحل له. قال الرازي: وقد كنت مصاحباً لبعض الملوك في بعض الأسفار، وكان ذلك الملك كثير المال والجاه، فكانت الجنائب الكثيرة تقاد بين يديه، وما كان يمكنه ركوب واحد منها، وربما أحضرت الأطعمة الشهية والفواكه الكثيرة العطرة عنده، وما كان يمكنه أن يتناول شيئاً منها وكان من الفقراء من هو صحيح المزاج وقوي البنية كامل القوّة وما كان يجد ملء بطنه طعاماً فذلك الملك وإن كان يفضل هذا الفقير في المال إلا أنّ هذا الفقير كان يفضل ذلك الملك في الصحة والقوّة وهذا باب واسع إذا اعتبره الإنسان عظم تعجبه فيه، فنسأل الله تعالى أن يغنينا من فضله وأن يرضينا بما قسم لنا إنه كريم جواد.
ثم ضرب الله تعالى مثلاً للذين جعلوا لله شركاء بقوله تعالى: {فما الذين فضلوا} أي: في الرزق وهم الموالي {برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم} أي: بجاعلي ما رزقناهم من الأموال وغيرها بينهم وبين مماليكهم {فهم} أي: المماليك والموالي {فيه سواء} أي: شركاء يقول الله تعالى هم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقناهم سواء فكيف يجعلون بعض عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني، وقيل: معنى الآية أنّ الموالي والمماليك الله رازقهم جميعاً فهم في رزقه سواء فلا تحسبن الموالي يردّون أرزاقهم على مماليكهم من عند أنفسهم بل ذلك رزق الله أجراه على أيدي الموالي للماليك.
والمقصود منه بيان أنّ الرازق هو الله تعالى لجميع خلقه وأنّ الموالي والمماليك في ذلك الرزق سواء وأنّ المالك لا يرزق المملوك وإنما ذلك رزقي أجريته إليهم على أيديهم فالرازق للمالك والمملوك هو الله تعالى.
ولما قرّر سبحانه وتعالى هذه الدلائل وبينها وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق فعند هذا قال: {أفبنعمة الله} في تقرير هذه البيانات وإيضاح هذه البينات {يجحدون} أن يكفرون وفي ذلك إنكار على المشركين حيث جحدوا نعمته وعبدوا غيره وجعلوا له شركاء يضيفون إليهم بعض ما أنعم به عليهم فيسوّون بينهم وبينه في ذلك. وقرأ شعبة بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة ثم إنه تعالى ذكر نوعاً آخر من أحوال الناس ليستدلّ به على وجود الإله المختار الحكيم وتنبيهاً على إنعام الله تعالى على عبيده بمثل هذه النعم بقوله تعالى:
{والله} أي: الذي له تمام القدرة وكمال العلم {جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} أي: من جنسكم لتستأنسوا بها ولتكون أولادكم منكم فخلق حوّاء من ضلع آدم وسائر الناس من نطف الرجال والنساء فهو خطاب عام فتخصيصه بآدم وحوّاء فقط خلاف الدليل، والمعنى أنه تعالى خلق النساء لتتزوّج بهنّ الذكور ومعنى من أنفسكم كقوله تعالى: {فاقتلوا أنفسكم} (البقرة، 54)
{فسلموا على(2/248)
أنفسكم} (النور، 61)
أي: بعضكم بعضاً ونظيره قوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً} (الروم، 21)
. {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} والحفدة جمع حافد وهو المسرع بالخدمةالمسارع إلى الطاعة ومنه قول القانت: وإليك نسعى ونحفد، أي: نسرع إلى طاعتك هذا أصله في اللغة.
واختلف فيه أقوال المفسرين فقال ابن مسعود والنخعي: الحفدة أختان الرجل على بناته. وعن ابن مسعود أنهم أصهاره فهو بمعنى الأوّل وعلى هذا يكون معنى الآية وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوّجونهنّ فيحصل لكم بسببهنّ الأختان والأصهار. وقال الحسن وعكرمة والضحاك: هم الخدم. وقال مجاهد: هم الأعوان وكل من أعانك فهو حفيدك. وقال عطاء: هم ولد الرجل الذين يعينونه ويخدمونه. وقال الكلبي ومقاتل: البنون هم الصغار والحفدة كبار الأولاد الذين يعينون الرجل الذين ليسوا منه، أي: أولاد المرأة من الزوج الأوّل. قال الرازي: والأولى دخول الكل فيه لأنّ اللفظ محتمل للكل بحسب المعنى المشترك. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالحفدة البنون أنفسهم كأنه قيل: جعل لكم منهنّ أولاداً هم بنون وهم حافدون، أي: جامعون بين الأمرين انتهى. ومع هذا فالمشهور أنّ الحافد ولد الولد من الذكور والإناث.
فائدة: قال الأطباء وأهل الطبيعة: المني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الذكر ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكراً تاماً في الذكورة، وإذا انصب من الخصية اليسرى ثم انصب إلى الجانب الأيسر من الرحم كان الولد أنثى تاماً في الأنوثة، وإذا انصب إلى الخصية اليمنى وانصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم كان ذكراً في طبيعة الإناث، وإذا انصب إلى الخصية اليسرى ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان هذا الولد أنثى في طبيعة الذكور. وحاصل كلامهم أنّ الذكور الغالب عليهم الحرارة واليبوسة والغالب على الإناث البرودة والرطوبة، وهذه العلة ضعيفة فإنّ في النساء من مزاجها في غاية السخونة وفي الرجال من مزاجه في غاية البرودة فخالق الذكر والأنثى هو الإله القادر الحكيم. ولما ذكر تعالى إنعامه على عبيده بالمنكوح وما بينه فيه من المنافع والمصالح ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة فقال: {ورزقكم من الطيبات} سواء كانت من النبات وهي الثمار والحبوب والأشربة أو كانت من الحيوان والمراد بالطيب المستلذ أو الحلال ومن في من الطيبات للتبعيض لأنّ كل الطيبات في الجنة وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها واختلف في تفسير قوله تعالى: {أفباطل يؤمنون} فقال ابن عباس: يعني بالأصنام. وقال مقاتل: يعني بالشيطان، وقال عطاء: يصدّقون أنّ لي شريكاً وصاحبة وولداً. {وبنعمت الله هم يكفرون} أي: بأن يضيفوها إلى غير الله تعالى، ويتركون إضافتها إلى الله تعالى. وقيل: الباطل ما سوّل لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله ما أحل لهم من هذه الطيبات وتحريم الخبائث. فائدة: رسمت نعمت هنا بالتاء ووقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء والكسائي يقرأ بالإمالة. ولما شرح الله تعالى الدلائل على صحة التوحيد وأتبعها بذكر أقسام النعم العظيمة أتبعها بالرد على عبدة الأصنام فقال:
{ويعبدون من دون الله} أي: غيره {ما لا يملك لهم رزقاً}(2/249)
أي: تاركين عبادة من بيده جميع الأرزاق وهو ذو العلو المطلق الذي رزقهم من الطيبات ويعبدون غيره، ثم بين تعالى جهة الرزق بقوله تعالى: {من السموات والأرض} أمّا الرزق الذي يأتي من جانب السماء فالمطر، وأمّا الذي من جانب الأرض فالنبات والثمار التي تخرج منها، وقوله تعالى: {شيئاً} فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه منصوب على المصدر، أي: لا يملك لهم ملكاً، أي: شيئاً من الملك. والثاني: أنه بدل من رزقاً، أي: لا يملك لهم شيئاً. قال ابن عادل: وهذا غير مفيد إذ من المعلوم أنّ الرزق شيء من الأشياء ويؤيد ذلك أنّ البدل لا يأتي إلا لأحد معنيين البيان أو التأكيد، وهذا ليس فيه بيان لأنه أعمّ ولا تأكيد. الثالث: أنه منصوب على أنه اسم مصدر واسم المصدر يعمل عمل المصدر على خلاف في ذلك. ولما كان من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعة أن يتملك بطريق من الطرق نفى الله تعالى عنهم ذلك بقوله تعالى: {ولا يستطيعون} أي: وليس لهم نوع استطاعة أصلاً. فإن قيل: إنه تعالى قال: {ويعبدون من دون الله ما لا يملك} فعبر عن الأصنام بصيغة ما وهي لغير العاقل ثم جمع بالواو والنون. وقال: {ولا يستطيعون} وهو مختص بمن يعقل؟ أجيب: بأنه عبر عنها ثانياً اعتباراً باعتقادهم أنها آلهة.
وفي تفسير قوله تعالى: {فلا تضربوا لله الأمثال} وجهان: الأوّل: قال أكثر المفسرين: ولا تشبهوا الله بخلقه فإنه واحد لا مثل له ولا شبيه ولا شريك من خلقه لأنّ الخلق كلهم عبيده وفي ملكه، فكيف يشبه الخالق بالمخلوق، والرازق بالمرزوق، والقادر بالعاجز. الثاني: أنّ عبدة الأوثان كانوا يقولون أنّ إله العالم أجل وأعظم من أن يعبده الواحد منا، بل نحن نعبد الكواكب أو نعبد هؤلاء الأصنام، ثم إنّ الكواكب والأصنام عبيد الإله الأكبر الأعظم كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حفدة الملك، وأولئك الأكابر كانوا يخدمون الملك فكذا ههنا. {إنّ الله} أي: الذي له الأمر كله ولا أمر لغيره {يعلم} أي: خطأ ما أنتم عليه من ضرب الأمثال له. {وأنتم لا تعلمون} ذلك وقيل معناه: وأنتم لا تعلمون ما عليكم من العقاب العظيم بسبب عبادة هذه الأصنام ولو علمتموه لتركتم عبادتها. ولما ختم تعالى إبطال مذهب عبدة الأصنام بسبب العلم الذي هو مناط السداد عنهم، أكد ذلك بضرب مثل بقوله تعالى:
{ضرب الله} أي: الذي له كمال العلم وتمام القدرة. {مثلاً} بالأحرار والعبيد ثم أبدل من مثلاً {عبداً} وقيده بقوله تعالى: {مملوكاً} ليخرج الحرّ. لأنّ العبد يطلق على الحرّ بالنسبة إلى الله تعالى وقيده بقوله تعالى: {لا يقدر على شيء} ليخرج المكاتب ومن فيه شائبة حرّية وهذا مثل شركائهم ثم عطف على عبداً قوله: {ومن} أي: وحرًّا فهي نكرة موصوفة ليطابق عبداً {رزقناه منا رزقاً حسناً} أي: واسعاً طيباً {فهو ينفق منه} دائماً وهو معنى قوله تعالى: {سراً وجهراً} أي: يتصرف فيه كيف يشاء وهذا مثل الإله وله المثل الأعلى ثم بكتهم إنكاراً عليهم بقوله تعالى: {هل يستوون} أي: هذان الفريقان الممثل بهما لأن المراد الجنس فإذا كان لا يسوغ في عقل أن يسوّى بين مخلوقين أحدهما حرّ مقتدر والآخر مملوك عاجز، فكيف يسوّى بين حجر من صوّان أو غيره وبين الله تعالى الذي له القدرة التامّة على كل شيء، وقيل: ذلك تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق.(2/250)
تنبيه: جواب هل يستوون هو لا يستوون. وقوله تعالى: {الحمد لله} قال ابن عباس: الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد، وقيل المعنى: أن كل الحمد لله، وليس شيء من الحمد للأصنام لأنه لا نعمة لها على أحد لأنها جماد عاجز، أي: إنما الحمد لله لا لغيره فيجب على جميع العباد حمد الله لأنه تعالى أهل المحامد والثناء الحسن، فكأنهم قالوا: نحن نعلم ذلك فقيل: {بل أكثرهم} أي: الكفار {لا يعلمون} لكونهم يسوّونه غيره ومن نفى عنه أصل العلم الذي هو أعلى صفات الكمال. كان في عداد الأنعام فهم لذلك يشبهون به ما ذكر ويضربون له الأمثال الباطلة ويضيفون نعمه إلى غيره.
ثم إنه تعالى ضرب لعبدة الأوثان مثلاً آخر بقوله تعالى: {وضرب الله مثلاً} ثم أبدل منه {رجلين} ثم استأنف البيان لما أجمل فقال {أحدهما أبكم} وهو الذي ولد أخرس فكل أبكم أخرس وليس كل أخرس أبكم وروى ثعلب عن ابن الأعرابي: الأبكم الذي لا يسمع ولايبصر وصف الله تعالى هذا الرجل بصفة ثانية بقوله تعالى: {لايقدر على شيء} لأنه لايفهم ولاَيُفهم وفي ذلك إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل ثم وصفه الله تعالى بصفة ثالثة بقوله تعالى: {وهو} أي: ذلك الأبكم العاجز {كلّ على مولاه} أي: ثقيل على من ولي أمره ويعوله، قال أهل المعاني: أصله من الغلظ الذي هو نقيض الحدة يقال: كلّ السكين إذا غلظت شفرته فلم تقطع وكلَّ اللسان إذا غلظ فلم يقدر على الكلام وكل فلان عن الأمر إذا ثقل عليه فلم ينهض فيه ثم وصفه تعالى بصفة رابعة بقوله: {أينما يوجهه} أي: يرسله ويصرفه ذلك المولى {لا يأت بخير} لأنه عاجز لا يحسن ولا يفهم، قيل: هذا مثل شركائهم الذين هم عيال ووبال على عبدتهم ووبخهم الله تعالى بقوله: {هل يستوي هو} أي: هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع {ومن} أي: ورجل آخر على ضد صفته فهو ناطق قادر عالم فطن قوي خبير مبارك ميمون {يأمر} أي: ورجل آخر بماله من العلم والقدرة {بالعدل} أي: يبذل النصيحة لغيره {وهو} في نفسه ظاهراً وباطناً {على صراط} أي: طريق واضح {مستقيم} أي: عامل فيه بما يأمر به، قيل: هذا مثال المعبود بالحق الذي يكفي عابديه جميع المؤن وهو دال على كمال علمه وتمام قدرته، وقيل: المراد من هذا الأبكم عبد لعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان ذلك العبد يكره الإسلام وما كان فيه خير ومولاه وهو عثمان يأمر بالعدل وكان على الدين القويم والصراط المستقيم، وقيل: المراد كل عبد موصوف بهذه الصفات المذمومة وكل حر موصوف بتلك الصفات الحميدة وهذا القول كما قال الرازي أولى من الأول لأن وصفه تعالى إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على
الوثن وكذلك بالبكم وبالكلّ وبالتوجه في جهات المنافع وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم يمنع من حمله على الله تعالى وأيضاً المقصود تشبيه صورة بصورة في أمر من الأمور وذلك التشبيه لا يتم إلا عند كون إحدى الصورتين مغايرة للأخرى، وأمّا القول الثاني فضعيف أيضاً لأنّ المقصود إبانة التفرقة بين رجلين موصوفين بالصفات المذكورة وذلك غير مختص بشخص معين بل إذا حصل التفاوت في الصفات المذكورة فإنه يحصل المقصود.
ثم وصف سبحانه وتعالى نفسه بكمال العلم بقوله تعالى: {ولله} أي: لا لغيره {غيب السموات(2/251)
والأرض} وهو ما غاب فيهما عن العباد بأن لم يكن محسوساً ولم يدل عليه محسوس، وقيل: الغيب هنا هو قيام الساعة فإن علمه غائب عن أهل السموات والأرض ثم وصف سبحانه وتعالى كمال قدرته بقوله تعالى: {وما أمر الساعة} وهو الوقت الذي يكون فيه البعث {إلا كلمح البصر} أي: إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها، والمعنى: وما أمر قيام الساعة في السرعة والسهولة إلا كطرف العين والمراد منه تقدير كمال القدرة ومعنى قوله تعالى: {أو هو أقرب} إنّ لمح البصر عبارة عن انتقال الجسم المسمى بالطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها ولا شك أنّ الحدقة مؤلفة من أجزاء فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة تلك الأجزاء التي منها تألف الحدقة ولاشك أن تلك الأجزاء كثيرة والزمان الذي يحصل فيه لمح البصر مركب من آنات متعاقبة والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآنات فلذلك قال أو هو أقرب إلا أنه لما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا وأفكارنا هو لمح البصر لا جرم ذكره، ثم قال: {أو هو أقرب} تنبيهاً على ما مرّ ولا شبهة في أنه ليس المراد طريقة الشك فالمراد إذاً بل هو أقرب، وقال الزجاج: المراد به الإبهام على المخاطبين لا أنه تعالى يأتي بالساعة إمّا بقدر لمح البصر أو بما هو أسرع، وقيل معناه: إنّ قيام الساعة وإن تراخى فهو عند الله كالشيء الذي تقولون فيه هو كلمح البصر أو هو أقرب مبالغة كقوله تعالى: {وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} (الرحمن، 47)
. {إنّ الله} أي: الملك الأعظم {على كل شيء قدير} فيقدر على أن يحي الخلائق دفعة واحدة كما قدر على إحيائهم، فإنه تعالى مهما أراده كان في أسرع ما يكون ثم إنه تعالى عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار فعطف على قوله تعالى: {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً} قوله عز وجل:
{والله} أي: الذي له العظمة كلها {أخرجكم} بقدرته وعلمه {من بطون أمّهاتكم} حال كونكم عند الإخراج {لا تعلمون شيئاً} من الأشياء قلّ أو جلّ فالذي أخرجكم منها قادر على إخراجكم من بطون الأرض بلا فرق بل بطريق الأولى. وقرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة والباقون بضمها، وقرأ حمزة بكسر الميم والباقون بفتحها ثم عطف على أخرجكم قوله تعالى: {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} آلات لإزالة الجهل الذي وقعت الولادة عليه وفتق مواضعها وسوّاها وعدلها، وأنتم في البطون حيث لا تصل إليه يد ولا يتمكن من شق شيء منه بآلة فالذي قدر على ذلك في البطن إبداعاً قادر على إعادته في بطن الأرض، بل بطريق الأولى. قال البقاعيّ: ولعله تعالى جمعهما، أي: الأبصار والأفئدة دون السمع لأنّ التفاوت فيهما أكثر من التفاوت فيه بما لا يعلمه إلا الله، والأفئدة هي القلوب التي هيأها الله تعالى للفهم وإصلاح البدن بما أودعها من الحرارة اللطيفة للمعاني الدقيقة {لعلكم تشكرون} لتصيروا بمعارف القلوب التي وهبكموها إذا سمعتم المواعظ وأبصرتم الآيات في حال يرجى فيها شكركم لما أفاض عليكم من لطائف صنعه بأن تعرفوا ما له من العلم والقدرة فإنه إنما أنعم عليكم بهذه الحواس لتستعملوها في شكر من أنعم بها عليكم.
فإن قيل: عطف وجعل لكم السمع على أخرجكم يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخرين عن الإخراج من البطون مع أنّ(2/252)
الأمر ليس كذلك؟ أجيب: بأنّ حرف الواو لا يوجب الترتيب وأيضاً إذا حملنا السمع على الاستماع والأبصار على الرؤية زال السؤال ثم إنه تعالى ذكر دليلاً آخر على كمال قدررته وحكمته بقوله تعالى:
{ألم يروا إلى الطير مسخرات} أي: مذللات للطيران {في جوّ السماء} أي: في الهواء بين الخافقين مما لا يقدرون عليه بوجه من الوجوه مع مشاركتكم لها في السمع والبصر وزيادتكم عليها بالعقول فعلم قطعاً أنه تعالى خلق الطير خلقة معها يمكنه الطيران فيها وإلا لما أمكن ذلك لأنه تعالى أعطى الطير جناحاً يبسطه مرة ويكسره مرّة أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء، وخلق الجوّ خلقة لطيفة رقيقة يسهل خرقه والنفاذ فيه، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكناً ومع ذلك {ما يمسكهنّ} في الجوّ عن الوقوع {إلا الله} أي: الملك الأعظم فإنّ جسد الطير جسم ثقيل، والجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجوّ معلقاً من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجوّ هو الله تعالى. وقرأ ابن عامر وحمزة بالتاء على أنه خطاب العامّة والباقون بالياء على الغيبة {إنّ في ذلك} المذكور {لآيات} أي: دلالات {لقوم يؤمنون} وخصهم بذلك لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت هذه الآيات آيات لكل العقلاء.
ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من دلائل التوحيد بقوله تعالى: {والله} أي: الذي له الحكمة البالغة. {جعل لكم من بيوتكم} وأصل البيت المأوى ليلاً ثم اتسع فيه {سكناً} أي: موضعاً لتسكنوا فيه. تنبيه: البيوت التي يسكن الإنسان فيها على قسمين: أحدهما: البيوت المتخذة من الخشب والطين والآلات التي بها يمكن تسقيف البيوت، وإليها الإشارة بقوله تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكناً} وهذا القسم من البيوت لا يمكن نقلها، بل الإنسان ينتقل إليها. والقسم الثاني: القباب والخيام والفساطيط، وإليها الإشارة بقوله تعالى: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً} المتخذة من الأدم ويجوز أن يتناول المتخذة من الوبر والصوف والشعر فإنها من حيث أنها ثابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها {تستخفونها} أي: تتخذونها خفيفة يخف عليكم حملها ونقلها. {يوم ظعنكم} أي: وقت ترحالكم وعبر باليوم لأنّ الترحال في النهار {ويوم إقامتكم} أي: وقت الحضر أو وقت النزول وهذا القسم من البيوت يمكن نقلها وتحويلها من مكان إلى مكان. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح العين والباقون بالسكون، وأضاف قوله تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} إلى ضمير الأنعام لأنها من جملتها. قال المفسرون وأهل اللغة: الأصواف للضأن والأوبار للإبل والأشعار للمعز. {أثاثاً} أي: ما يلبس ويفرش {ومتاعاً} أي: ما يتجر به، وقيل: الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله في الغطاء والوطاء، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به واختلف في معنى قوله تعالى: {إلى حين} فقيل: إلى حين تبلى، وقيل: إلى حين الموت، وقيل: إلى حين بعد حين، وقيل: إلى يوم القيامة.
تنبيه: في نصب أثاثاً وجهان: أحدهما: أنه منصوب عطفاً على بيوتاً، أي: وجعل لكم من أصوافها أثاثاً. والثاني: أنه منصوب على الحال، واعلم أنّ الإنسان إمّا أن يكون مقيماً أو مسافراً والمسافر إمّا أن يكون غنياً يستصحب معه الخيام أولا فالقسم الأوّل أشار إليه بقوله تعالى: {جعل لكم من بيوتكم سكناً}(2/253)
وأشار إلى القسم الثاني بقوله تعالى: {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً} وأشار إلى القسم الثالث بقوله تعالى: {والله} أي: الذي له الجلال والإكرام {جعل لكم} أي: من غير حاجة منه تعالى {مما خلق} من شجر وجبال وأبنية وغيرها. وقوله تعالى: {ظلالاً} جمع ظل تتقون به شدّة الحرّ. وقوله تعالى: {وجعل لكم} مع غناه المطلق {من الجبال أكناناً} جمع كنّ موضع تسكنون فيه من الكهوف والبيوت المنحوتة فيها {وجعل لكم} أي: امتناناً منه عليكم {سرابيل} جمع سربال. قال الزجاج: كل ما لبسته فهو سربال من قميص أو درع أو جوشن أو غيره، أي: وسواء كان من صوف أو كتان أو قطن أو غير ذلك {تقيكم الحرّ} ولم يقل تعالى والبرد لتقدّمه في قوله تعالى: {فيها دفء} (النحل، 5)
. وقيل: إنه اكتفى بأحد المتقابلين. وقيل: كان المخاطبون بهذا الكلام العرب وبلادهم حارّة فكان حاجتهم إلى ما يدفع الحرّ فوق حاجتهم إلى ما يدفع البرد كما قال تعالى: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} وسائر أنواع الثياب أشرف إلا أنه تعالى ذكر ذلك النوع لأنه كان الفهم بها أشدّ واعتيادهم للبسها أكثر، ولما كانت السرابيل نوعاً واحداً لم يكرّر لفظ جعل فقال: {وسرابيل} أي: دروعاً من حديد وغيرها {تقيكم بأسكم} أي: حربكم، أي: في الطعن والضرب فيها. ولما عدّد الله تعالى أنواع نعمه قال: {كذلك} أي: كإتمام هذه النعمة المتقدّمة {يتمّ نعمته عليكم} في الدنيا والدين بالبيان والهداية لطريق النجاة والمنافع والتنبيه على دقائق ذلك {لعلكم} يا أهل مكة {تسلمون} أي: تخلصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الأنعامات أحد سواه، وقيل: تسلمون من الجراح بلبس الدروع.
{فإن تولوا} فلم يقبلوا منك وآثروا لذات الدنيا ومتابعة الآباء والمعاداة في الكفر {فإنما عليك} يا أفضل الخلق {البلاغ المبين} هذا جواب الشرط وفي الحقيقة جواب الشرط محذوف، أي: فقد تمهد عذرك بعد ما أدّيت ما وجب عليك من التبليغ فذكر سبب العذر وهو البلاع ليدل على المسبب وذلك لأنّ تبلغيه سبب في عذره فأقيم السبب مقام المسبب وهذا قبل الأمر بالقتال، ثم إنه تعالى ذمّهم بأنهم
{يعرفون نعمة الله} أي: الملك الأعظم التي تقدّم عدّ بعضها في هذه السورة وغيرها {ثم ينكرونها} بعبادتهم غير المنعم بها، وقال السدي: نعمة الله يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أنكروه وكذبوه. وقيل: نعمة الله هي الإسلام وهو من أعظم النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده، ثم إنّ كفار مكة أنكروه وجحدوه، واختلف في معنى قوله تعالى: {وأكثرهم الكافرون} مع أنهم كلهم كانوا كافرين على وجوه؛ الأوّل: إنما قال تعالى: {وأكثرهم} لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجة، ممن لم يبلغ حدّ التكليف أو كان ناقص العقل فأراد بالأكثر البالغين الأصحاء. الثاني: أن يكون المراد بالكافر الجاحد المعاند وكان فيهم من لم يكن معانداً بل كان جاهلاً بصدق الرسول وما ظهر له كونه نبياً حقاً من عند الله. الثالث: أنه ذكر الأكثر والمراد الجميع لأنّ أكثر الشيء يقوم مقام الكل، فذكر الأكثر كذكر الجميع، وهذا كقوله تعالى: {الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} (الزمر، 29)
ولما بين تعالى من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وذكر أيضاً من حالهم أن أكثرهم كافرون أتبعه بالوعيد فذكر حال يوم القيامة بقوله تعالى: {ويوم} أي: وخوّفهم(2/254)
يوم أو واذكر لهم يوم {نبعث} بعد البعث {من كل أمّة شهيداً} هو نبيها كما قال تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} (النساء، 41)
يشهد نبيها لها وعليها يوم القيامة ليحكم تعالى بقوله إجراء للأمر على ما يتعارفون وإن كان تعالى غنياً عن شهيد. وقوله تعالى: {ثم لا يؤذن للذين كفروا} فيه وجوه: أحدها: لا يؤذن لهم في الاعتذار كقوله تعالى: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات، 36)
. ثانيها: لا يؤذن لهم في كثرة الكلام. ثالثها: لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا وإلى التكليف. رابعها: لا يؤذن لهم في حال شهادة الشهود بل يسكت أهل الجمع كلهم ليشهد الشهود. فإن قيل: ما معنى ثم ههنا؟ أجيب: بأنّ معناها أنهم يمتحنون، أي: يبتلون بغير شهادة الأنبياء عليهم السلام بما هو أطمّ منها وأنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة {ولا هم يستعتبون} أي: لا تزال عتباهم وهي ما يعتبون عليها ويلامون، يقال: استعتبت فلاناً بمعنى اعتبته، أي: أزلت عتباه.
{وإذا رأى الذين ظلموا} أي: ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي {العذاب} أي: عذاب جهنم بعد الموقف وشهادة الشهداء {فلا يخفف عنهم} ذلك العذاب {ولا هم ينظرون} أي: لا يمهلون. ولما بين تعالى حاصل أمرهم في البعث وما بعده وكان من أهمّ المهمّ أمرهم في الموقف مع شركائهم الذين كانوا يرجونهم عطف على ذلك بقوله تعالى:
{وإذا رأى} أي: بالعين يوم القيامة {الذين أشركوا شركاءهم} أي: الآلهة التي كانوا يدعونها شركاء من الشياطين وغيرها {قالوا ربنا} أي: يا من أحسن إلينا وربانا {هؤلاء شركاؤنا} أضافوهم إلى أنفسهم لأنه لا حقيقة لشركتهم سوى تسميتهم لها الموجبة لضرّهم ثم بينوا المراد بقولهم: {الذين كنا ندعوا} أي: نعبدهم {من دونك} ليقرّبونا إليك فأكرمنا لأجلهم جرياً على مناهجهم في الدنيا في الجهل والغباوة فخاف شركاؤهم من عواقب هذا القول والإقرار عليه سطوات الغضب {فألقوا} أي: الشركاء {إليهم} أي: المشركين {القول} أي: بادروا به حتى كان إسراعهم إليه إسراع شيء ثقيل يلقى من علو وأكدوا قولهم فقالوا: {إنكم لكاذبون} في جعلنا شركاء أو أنكم عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أهواءكم كقوله تعالى: {كلا سيكفرون بعبادتهم} (مريم، 82)
ولا يبعد أن تنطق الأصنام بذلك يومئذ في أنهم حملوهم على الكفر وألزموهم إياه كقوله: {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي} (إبراهيم، 22)
. {وألقوا} أي: الشركاء {إلى الله} أي: الملك الأعلى {يومئذٍ} أي: يوم القيامة {السلم} أي: الاستسلام بحكمه بعد الاستكبار في الدنيا {وضلّ} أي: غاب {عنهم} أي: الكفار {ما كانوا يفترون} أي: من أنّ آلهتهم تشفع لهم. ولما ذكر تعالى وعيد الذين كفروا أتبعه بوعيد من ضمّ إلى كفره صد الغير عن سبيل الله بقوله تعالى:
{الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله} أي: ضموا مع كفرهم أنهم منعوا الناس عن الدخول في الإيمان بالله وبرسوله {زدناهم عذاباً} لصدّهم {فوق العذاب} المستحق بكفرهم {بما كانوا يفسدون} أي: بكونهم مفسدين بصدّهم، وقيل: زدناهم عذاباً بحيات وعقارب كأمثال البخت يستغيثون بالهرب منها إلى النار ومنهم من ذكر أنّ لكل عقرب ستمائة نقرة في كل نقرة ثلاثمائة قلة من سم، وقيل: عقارب لها أنياب كالنخل الطوال ثم كرّر سبحانه(2/255)
وتعالى التحذير من ذلك اليوم على وجه يزيد على ما أفهمته الآية السابقة وهو أنّ الشهادة تقع على الأمم لا لهم وتكون بحضرتهم فقال:
{ويوم} أي: وخوفهم أو واذكر لهم يوم {نبعث} أي: بمالنا من القدرة {في كل أمّة} من الأمم والأمّة عبارة عن القرن والجماعة {شهيداً عليهم} قال ابن عباس: يريد الأنبياء قال المفسرون: كل نبيّ شاهد على أمّته وهو أعدل شاهد عليها {من أنفسهم} أي: منهم لأنّ كل نبيّ إنما بعث من قومه الذين بعث إليهم ليشهدوا عليهم بما فعلوا من كفر وإيمان وطاعة وعصيان {وجئنا} بما لنا من العظمة {بك} يا خير المرسلين {شهيداً على هؤلاء} أي: الذين بعثناك إليهم وهم أهل الأرض وأكثرهم ليس من قومه صلى الله عليه وسلم ولذلك لم تقيد بعثته بشيء، وقال أبو بكر الأصم: المراد بذلك الشهيد هوأنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى أنها تشد عليه وهو الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان، قال: والدليل عليه ماقاله في صفة الشهيد أنه من أنفسهم وهذه الأعضاء لا شك أنها من أنفسهم، ورد بأنه تعالى قال: {شهيداً عليهم} يجب أن يكون غيرهم، وأيضاً قال {من كل أمّة} فيجب أن يكون ذلك الشهيد من الأمّة وآحاد هذه الأعضاء لا يصح وصفها بأنها من الأمّة، ثم بيّن تعالى أنه أزاح علتهم فيما كلفوا به فلا حجة لهم ولا معذرة بقوله تعالى: {ونزلنا} أي: بعظمتنا بحسب التدريج والتنجيم {عليك} ياخير خلق الله {الكتاب} أي: القرآن الجامع للهدى {تبياناً} أي: بياناً بليغاً {لكل شيء} فإن قيل: كيف كان القرآن تبياناً لكل شيء؟ أجيب: بأن المعنى من كل شيء من أمور الدين حيث كان نصاً على بعضها وإحالة على السنة حيث أمر فيه بإتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم وطاعته. وقد قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى} (النجم، 3)
وحثاً على الاجماع في قوله تعالى: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} (النساء، 115)
وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمّته اتباع أصحابه والاقتداء بآثارهم وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤوا طرق القياس والاجتهاد فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مسندة إلى تبيان الكتاب فمن ثم كان تبياناً لكل شيء {وهدى} أي: من الضلالة {ورحمة} لمن آمن به وصدّقه {وبشرى} بالجنة {للمسلمين} أي: الموحدين خاصة ولما استقصى سبحانه وتعالى في شرح الوعد والوعيد والرغبة والترهيب أتبعه بقوله:
{إنّ الله} أي: الملك المستجمع لصفات الكمال {يأمر بالعدل} قال ابن عباس: في بعض الروايات العدل شهادة أن لا إله إلا الله {والإحسان} أداء الفرائض، وقال في رواية أخرى: العدل خلع الأنداد والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وأن تحبّ للناس ما تحبّ لنفسك فإن كان مؤمناً أحببت له أن يزداد إيماناً وإن كان كافراً أحببت له أن يكون أخاك في الإسلام، وقال في رواية ثالثة: العدل هو التوحيد والإحسان هو الإخلاص فيه وقال آخرون: يعني بالعدل في الأفعال والإحسان في الأقوال فلا تفعل إلا ما هو عدل ولا تقل إلا ما هو إحسان وأصل العدل المساواة في كل شيء من غير زيادة ولا نقصان فالعدل هو المساواة في المكافأة إن خيراً فخير وإن شراً فشر والإحسان أن تقابل الخير بأكثر منه والشرّ بأن تعفو عنه، وعن الشعبي قال عيسى بن مريم: إنما الإحسان أن تحسن(2/256)
إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك. وقيل: العدل الإنصاف، والإنصاف أعدل من الاعتراف للمنعم بإنعامه، والإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، وعن محمد بن كعب القرظي قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: صف لي العدل؟ فقلت: بخ سألت عن أمر جسيم كن لصغير الناس أبا ولكبيرهم ابناً وللمثل منهم أخاً وللنساء كذلك. {وإيتاء} أي: ومن الإحسان إيتاء {ذي القربى} أي: القرابة القربى والبعدى فيندب أن تصلهم من فضل ما رزقك الله فإن لم يكن لك فضل فدعاء حسن وتودّد. وروى أبو سلمة عن أبيه أنّ رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، إنّ أهل هذا البيت ليكونون تجاراً فتنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم» .
ولما أمر تعالى بالمكارم نهى عن المساوئ بقوله تعالى: {وينهى عن الفحشاء} قال ابن عباس:، أي: الزنا، فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها. وقال غيره: الفحشاء ما قبح من القول والفعل فيدخل فيه الزنا وغيره من جميع الأقوال والأفعال المذمومة جميعها. {والمنكر} قال ابن عباس: يعني الشرك والكفر. وقال غيره: المنكر ما لا يعرف في شريعة أو سنة. {والبغي} هو الاستيلاء على الناس والتجبر عليهم قيل: إنّ أعجل المعاصي عقاباً البغي، ولو أنّ جبلين بغى أحدهما على الآخر لدك الباغي. ونص تعالى على البغي مع دخوله في المنكر اهتماماً به، كما بدأ بالفحشاء لذلك. وقال ابن قتيبة في هذه الآية: العدل استواء السرّ والعلانية والإحسان أن تكون سريرته خيراً من علانيته والفحشاء والمنكر والبغي أن تكون علانيته أحسن من سريرته. وقال بعض العلماء: إنّ الله تعالى ذكر من المأمورات ثلاثة أشياء، ومن المنهيات ثلاثة أشياء، فذكر العدل وهو الإنصاف والمساواة في الأقوال والأفعال، وذكر في مقابلته الفحشاء وهو ما قبح من الأقوال والأفعال، وذكر الإحسان وهو أن يعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه، وذكر في مقابلته المنكر وهو أن ينكر إحسان من أحسن إليه، وذكر إيتاء ذي القربى، والمراد به صلة القرابة والتودّد إليهم والشفقة عليهم وذكر في مقابلته البغي وهو أن يتكبر عليهم أو يظلمهم حقوقهم. ولما كان هذا المذكور من أبلغ المواعظ نبه عليه بقوله تعالى: {يعظكم} أي: يأمركم بما يرقق قلوبكم من مصاحبة الثلاثة الأول وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ومجانبة الثلاثة الأخيرة وهي الفحشاء والمنكر والبغي. {لعلكم تذكرون} أي: لكي تتعظوا فتعملوا بما فيه رضا الله تعالى. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون
بالتشديد وفيه ادغام التاء في الأصل في الذال. وروى البيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن مسعود أنه قال: أعظم آية في كتاب الله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحيّ
القيوم} (البقرة، 255)
وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في النحل: {إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان} وأكثر آية في كتاب الله تفويضاً: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: 2، 3)
وأشدّ آية في كتاب الله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} (الزمر، 53)
الآية. وقال أهل المعاني: لما قال الله تعالى في الآية الأولى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} بيّن في هذه الآية المأمور به والمنهي عنه على سبيل الإجمال فما من شيء يحتاج(2/257)
إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى به أو يترك إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية.
وعن قتادة: ليس من خلق حسن كان من أهل الجاهلية يعملون به ويعظونه ويخشونه إلا أمر الله تعالى به وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه. وعن عكرمة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة {إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان} إلى آخر الآية. فقال له: يا ابن أخي أعد عليّ فأعادها عليه؟ فقال الوليد: والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، ولما تقرّرت هذه الجمل التي جمعت بجمعها المأمورات والمنهيات ما تضيق عنه الدفاتر والصدور، وشهد لها المعاندون من بلغاء العرب أنها بلغت من البلاغة مبلغاً يحصل به غاية السرور. ذكر بعض تلك الأقسام وبدأ بما هو مع جمعه أهمّ وهو الوفاء بالعهد بقوله تعالى: {وأوفوا} أي: أوقعوا الوفاء الذي لا وفاء في الحقيقة غيره {بعهد الله} أي: الملك الأعلى الذي عاهدكم عليه بأدلة العقل من التوحيد والبيع والإيمان وغيرها من أصول الدين وفروعه {إذا عاهدتم} بتقلبكم له بإذعانكم لامتثاله {ولا تنقضوا الأيمان} واحترز عن لغو اليمين بقوله تعالى: {بعد توكيدها} أي: تشديدها فتحنثوا فيها، وفي ذلك دليل على أن المراد بالعهد غير اليمين لأنه أعم منه. وقرأ أبو عمرو بادغام الدال في التاء بخلاف عنه. {و} الحال أنكم {قد جعلتم الله} أي: الذي له العظمة كلها {عليكم كفيلاً} أي: شاهداً ورقيباً. وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالادغام. وعن جابر رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم كان من أسلم بايع على الإسلام فقال تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها} فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام. {إنّ الله} أي: الذي له الإحاطة الكاملة {يعلم ما تفعلون} من وفاء العهد ونقضه. ثم ضرب الله تعالى
لنقض العهد مثلاً فقال:
{ولا تكونوا} أي: في نقض العهد {كالتي نقضت غزلها} أي: ما غزلته فهو مصدر بمعنى المفعول {من بعد قوّة} أي: إبرام وإحكام، وقوله تعالى: {أنكاثاً} جمع نكث وهو ما ينقض من الغزل والحبل. قال مقاتل: هذه إمرأة من قريش يقال لها: رائطة، وقيل: ريطة وتلقب بجعواء وكان خرقاء حمقاء لها وسوسة اتخذت مغزلاً قدر ذراع وصنارة مثل إصبع وفلكة عظيمة على قدرها فكانت تغزل من الصوف والشعر والوبر هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهنّ فينقضن ما غزلن وكان هذا دأبها. وقال السدّي: كانت امرأة بمكة تسمى خرقاء مكة تغزل فإذا برمت غزلها نقضته. وقال مجاهد: نقضت حبلها بعد إبرامها إياه. وقال قتادة: لو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم ما أحمق هذه، وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده. وقال في قوله تعالى: {تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم} خيانة وغدراً انتهى. والدخل ما يدخل في الشيء على سبيل الفساد، وقيل: الدخل والدغل أن يظهر الرجل الوفاء بالعهد ويبطن نقضه وإنما كانوا يفعلون ذلك {أن} أي: بسبب أن {تكون} أو مخافة أن تكون، وتكون يجوز أن تكون تامّة فتكون {أمّة} أي: جماعة فاعلها وأن تكون ناقصة فتكون أمّة اسمها و {هي} مبتدأ و {أربى} أي: أكثر {من أمّة}(2/258)
خبره، والجملة في محل نصب على الحال على الوجه الأوّل وفي موضع الخبر على الثاني، وأربى مأخوذ من ربا الشيء يربو إذا زاد، وهذه الزيادة قد تكون في العدد وفي القوّة وفي الشرف. قال مجاهد: وكانوا يحالفون الحلفاء ثم يجدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأوّلين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز فنهاهم الله تعالى عن ذلك {إنما يبلوكم الله} الذي له الملك كله، أي: يختبركم {به} أي: يعاملكم معاملة المختبر ليظهر للناس تمسككم بالوفاء وانخلاعكم عنه اعتماداً على كثرة أنصاركم وقلة أنصار من نقضتم عهده من المؤمنين أو غيرهم مع قدرته سبحانه وتعالى على ما يريد فيوشك
أن يعاقب
بالمخالفة فيضعف القويّ ويقلل الكثير ويكثر القليل. {وليبينن لكم} أي: إذا تجلى لفصل القضاء {يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} أي: إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب، فاحذروا يوم العرض على مالك السموات والأرض، وأنّ من نوقش الحساب يهلك.
{ولو شاء الله} أي: الملك الأعلى الذي لا أثر لأحد معه أن يجعلكم أمّة واحدة لا خلاف بينكم في أصول الدين ولا فروعه {لجعلكم أمّة واحدة} أي: متفقة على أمر واحد وهو دين الإسلام {ولكن} لم يشأ ذلك بل شاء اختلافكم فهو تعالى: {يضلّ من يشاء} عدلاً منه تعالى لأنه تامّ الملك، ولو كان الذي أضله على أحسن الحالات {ويهدي} بفضله {من يشاء} ولو كان على أخس الحالات والأحوال فبذلك تكونون مختلفين لا يسئل عما يفعل سبحانه وتعالى {ولتسئلنّ عما كنتم تعملون} في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بعدله تعالى. ولما حذر سبحانه وتعالى عن نقض العهد والأيمان مطلقاً قال تعالى:
{ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً} أي: فساداً ومكراً وخديعة {بينكم} وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الأيمان وإلا لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أقدموا عليها فلهذا المعنى قال المفسرون: المراد نهي الذين بايعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن نقض العهد لأنّ قوله تعالى: {فتزلَّ} أي: فيكون ذلك سبباً لأن تزل {قدم} هي في غاية العظمة {بعد ثبوتها} أي: عن مركزها التي كانت به من دين أو دنيا فلا يصير لها قرار فتسقط عن مرتبتها لا يليق بنقض عهد قبله وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان به وبشرائعه. تنبيه: فتزل منصوب بإضمار أن على جواب النهي وزلل القدم مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية أو سقط في ورطة بعد سلامة أو محنة بعد نعمة {وتذوقوا السوء} أي: العذاب في الدنيا {بما} أي: بسبب ما {صددتم} أي: أنفسكم ومنعتم بأيمانكم التي قد أردتم بها الإفساد وخفاء الحق. {عن سبيل الله} أي: دينه وذلك أنّ من نقض العهد سهل على غيره طرق نقض العهد فيستن به {ولكم} مع ذلك {عذاب عظيم} أي: ثابت غير منفك إذا متم على ذلك ثم أكد سبحانه وتعالى هذا التحذير بقوله تعالى:
{ولا تشتروا} أي: ولا تكلفوا أنفسكم لجاجاً وتركاً للنظر أن تأخذوا وتستبدلوا. {بعهد الله} الذي له الكمال كله {ثمناً قليلاً} أي: من حطام الدنيا وإن كنتم ترونه كثيراً ثم علل قلته بقوله تعالى: {إنما عند الله}(2/259)
أي: الذي له الجلال والإكرام من ثواب الدارين {هو خير لكم} ولا يعدل عن الخير إلى غيره إلا لجوج ناقص العقل، ثم شرط علم خيريته لكونهم من ذوي العلم بقوله تعالى: {إن كنتم تعلمون} أي: إن كنتم من أهل العلم والتمييز فتعلمون فضل ما بين العوضين ثم بين ذلك بقوله تعالى:
{ما عندكم} أي: من متاع الدنيا ولذاتها {ينفد} أي: يفنى فصاحبه منغص العيش أشدّ ما يكون به اغتباطاً بانقطاعه {وما عند الله} أي: الذي له الأمر كله من ثواب الآخرة ونعيم الجنة {باق} أي: دائم. روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب دنياه أضرّ بآخرته، ومن أحب آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى» . وقرأ ابن كثير باقي في الوقف بالياء، والباقون بغير ياء. وأمّا في الوصل فالجميع بالتنوين. {وليجزينّ الذين صبروا} على الوفاء بما يرضيه من الأوامر والنواهي في السرّاء والضرّاء. {أجرهم} أي: ثواب صبرهم {بأحسن ما كانوا يعملون} أي: بجزاء أحسن من أعمالهم أو يجزيهم على أحسن أعمالهم وذلك لأنّ المؤمن قد يأتي بالمباحات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شكّ أنّ الواجبات والمندوبات مما يثاب على فعلها لا على فعل المباحات.
وقرأ ابن كثير وعاصم بالنون قبل الجيم، أي: ولنجزين نحن والباقون بالياء، أي: وليجزين الله. ثم إنه تعالى رغب المؤمنين في الإيمان بكل ما كان من شرائع الإسلام بقوله تعالى:
{من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن} إذ لا اعتداد بأعمال الكفار في استحقاق الثواب وإنما المتوقع عليها تخفيف العذاب. فإن قيل: من عمل صالحاً يفيد العموم فما فائدة من ذكر أو أنثى؟ أجيب: بأنه ذكر دفعاً للتخصيص بأحد الفريقين. واختلف في قوله تعالى: {فلنحيينه حياة طيبة} فقال سعيد بن جبير وعطاء: هي الررزق الحلال. وقال مقاتل: هي العيش في الطاعة. وقال الحسن: هي القناعة لأنّ عيش المؤمن في الدنيا وإن كان فقيراً أطيب من عيش الكافر وإن كان غنياً، لأنّ المؤمن لما علم أنّ رزقه من عند الله تعالى وذلك بتقديره وتدبيره تعالى. وعرف أنّ الله تعالى محسن كريم حكيم يضع الأشياء في محلها فكان المؤمن راضياً بقضاء الله وبما قدّره له ورزقه إياه، وعرف أنّ مصلحته في ذلك القدر الذي رزقه فاستراحت نفسه من الكدر والحرص فطاب عيشه بذلك، وأمّا الكافر والجاهل بهذه الأصول فدائم الحرص على طلب الرزق فيكون أبداً في حزن وتعب وعناء وحرص في الدنيا ولا يناله من الرزق إلا ما قدّر له فظهر بهذا أن عيش المؤمن القنوع أطيب من غيره. وقال السدّي: الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر لأنّ المؤمن يستريح بالموت من كدّ الدنيا وتعبها. وقال مجاهد وقتادة: هي الجنة لأنها حياة بلا موت، وغنى بلا فقر، وصحة بلا سقم، وملك بلا هلك، وسعادة بلا شقاوة. فأثبت بهذا أنّ الحياة الطيبة لا تكون إلا في الجنة، ولا مانع من أنّ المؤمن الكامل يحصل جميع ذلك ثم إنّ الله تعالى ختم الآية بقوله تعالى: {ولنجزينهم أجرهم} أي: في الدنيا والآخرة {بأحسن ما كانوا يعملون} أي: من الطاعة وقد سبق تفسيره. ولما قال تعالى: {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} أرشد به إلى العمل الذي به تخلص أعماله من الوسواس بقوله تعالى:
{فإذا قرأت القرآن} أي: أردت قراءته {فاستعذ} أي: إن شئت جهراً وإن شئت سرًّا. قال الشافعي رضي الله(2/260)
تعالى عنه: والإسرار أولى في الصلاة. وفي قول يجهر كما يفعل خارج الصلاة. {بالله} أي: سل الذي له الكمال كله أن يعيذك {من الشيطان} أي: المحترق باللعنة {الرجيم} أي: المطرود عن الرحمة من أن يصدّك بوساوسه عن اتباعه ويدخل في ذلك جميع المردة من الشياطين لأنّ لهم قدرة على إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم بإقدار الله تعالى على ذلك. وقيل: المراد إبليس خاصة والاستعاذة بالله تعالى هي الاعتصام به، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من أمّته وظاهر الآية وجوب الاستعاذة، وإليه ذهب عطاء سواء كانت القراءة في الصلاة أم في غيرها، واتفق سائر الفقهاء على أنها سنة في الصلاة وغيرها والصارف لهذا الأمر عن الوجوب أحاديث كثيرة منها القراءة بدون ذكر تعوّذ كحديث البخاري وغيره عن أبي سعيد بن العلاء رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما منعك أن تجيبني؟ قال: كنت أصلي. قال ألم يقل الله: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} (الأنفال، 24)
ثم قال: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن {الحمد لله رب العالمين} » . وفي رواية الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم نادى أبيّاً وأنه قال له: «كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال: أبيّ: فقرأت {الحمد لله رب العالمين} حتى أتيت إلى آخرها» ، وظاهر الآية يدل على أنّ الاستعاذة بعد القراءة وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو قول أبي هريرة وإليه ذهب مالك وداود الظاهريّ. قالوا: لأنّ قارئ القرآن يستحق ثواباً عظيماً وربما حصل الوسواس في قلب القارئ هل حصل له ذلك الثواب أو لا، فإذا استعاذ بعد القرءاة اندفعت تلك الوساوس وبقي الثواب مخلصاً والذي ذهب إليه الأكثرون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة وفقهاء الأمصار أنّ الاستعاذة مقدّمة على القراءة قالوا: ومعنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله وتبعتهم على ذلك فلهذا قدّرت ذلك في الآية الكريمة، ومثل ذلك قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} (المائدة، 6)
ومثله من الكلام إذا أكلت فسمّ،، أي: إذا أردت أن تأكل فقل: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا سافرت فتأهب، أي: إذا أردت السفر فتأهب، وأيضاً الوسوسة إنما تحصل في أثناء القراءة فتقديم الاستعاذة على القراءة لتذهب الوسوسة عنه أولى من تأخيرها عن وقت الحاجة إليها. ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من الشيطان، وكان ذلك يوهم أنّ للشيطان قدرة على التصرّف في إتيان الإنسان أزال الله تعالى ذلك الوهم وبيّن أنه لا قدرة له ألبتة إلا على الوسوسة بقوله تعالى:
{إنه ليس له سلطان} أي: بحيث لا يقدر المسلط عليه على الانفكاك عنه. {على الذين آمنوا} أي: بتوفيق ربهم لهم. {وعلى ربهم} وحده {يتوكلون} أي: على أوليائه المؤمنين به والمتوكلين عليه، فإنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته. وعن سفيان الثوريّ قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم، ثم وصل تعالى بذلك ما أفهمه من أنّ له سلطاناً على غيرهم بقوله:
{إنما سلطانه} أي: الذي يتمكن به غاية التمكن بإمكان الله تعالى له: {على الذين يتولونه} أي: يجيبونه ويطيعونه {والذين هم به} أي: بالله تعالى {مشركون} وقيل الضمير راجع إلى الشيطان والمعنى هم بسببه مشركون بالله. ولما كان المشركون إذا(2/261)
نزلت آية فيها شدّة ثم نزلت آية ناسخة لها يقولون إن محمداً يستهزئ بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً ما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه نزل.
{وإذا بدّلنا} أي: بقدرتنا بالنسخ {آية} سهلة كالعدّة بأربعة شهور وعشر وقتال الواحد من المسلمين لاثنين من الكفار، أو شاقة كتحريم الخمر وإيجاب الصلوات الخمس فجعلناها {مكان آية} شاقة كالعدّة بحول ومصابرة عشرة من الكفار أو سهلة كالآيات المتضمنة لإباحة الخمر والتبديل رفع الشيء ووضع غيره مكانه {والله} أي: الذي له الإحاطة الشاملة {أعلم بما ينزل} من المصالح بحسب الأوقات والأحوال بنسخ أو غيره {قالوا} أي: الكفار {إنما أنت} يا محمد {مفتر} أي: متقوّل على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وهو جواب إذا. {والله أعلم بما ينزل} اعتراض، والمعنى: والله أعلم بما ينزل من الناسخ والمنسوخ والتغليظ والتخفيف، أي: هو أعلم بجميع ذلك ومصالح العباد، وهذا توبيخ للكفار على قولهم إنما أنت مفتر، أي: إذا كان هو أعلم بما ينزل فما لهم ينسبون محمداً إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ {بل أكثرهم} وهم الذين يستمرّون على الكفر {لا يعلمون} حكمة فائدة النسخ والتبديل ولا يميزون الخطأ من الصواب، فإن الله تعالى أعلم بمصالح العباد كما أنّ الطبيب يأمر المريض بشربة ثم بعد مدّة ينهاه عنها، ويأمره بغيرها بضدّ تلك الشربة، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالردّ عليهم بقوله تعالى:
{قل} لمن واجهك بذلك منهم {نزّله} أي: القرآن بحسب التدريج لأجل أتباع المصالح بإحاطة علم المتكلم به {روح القدس} أي: جبريل عليه السلام وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر كما يقال: حاتم الجود، وزيد الخير، والمراد الروح المقدّس، وحاتم الجواد، وزيد الخير. والمقدّس المطهر من المآثم {من ربك بالحق} أي: متلبساً بالحكمة {ليثبت الذين آمنوا} أي: ليثبت بالقرآن قلوب الذين آمنوا فيزدادوا إيماناً ويقيناً {وهدى} أي: بياناً واضحاً {وبشرى للمسلمين} أي: المنقادين لحكمك. فإن قيل: ظاهر الآية أن القرآن لا ينسخ بالسنة لقوله تعالى: {وإذا بدّلنا آية مكان آية} إذ متقضاه أنّ الآية لا تنسخ إلا بأخرى؟ أجيب: بأنّ هذه الآية دلت على أنه تعالى يبدّل آية بآية ولا دلالة فيها على أنه لا يبدّل آية إلا بآية، وأيضاً فجبريل عليه السلام ينزل بالسنة كما ينزل بالآية. ولما كان المشركون يقولون: إن محمداً إنما يتعلم هذه القصص وهذه الأخبار من إنسان آخر وهو آدمي مثله وليس هو من عند الله كما يزعم نزل قوله تعالى:
{ولقد نعلم} أي: علماً مستمرّاً {أنهم يقولون إنما يعلّمه بشر} واختلف في البشر الذي قال المشركون إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يتعلم منه فقيل: هو عبد لبني عامر بن لؤيّ يقال له: يعيش كان يقرأ الكتب، وقيل: عداس غلام عتبة بن ربيعة، وقيل: عبد لبني الحضرمي صاحب كتب، وكان اسمه خيراً فكانت قريش تقول: عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة وخديجة تعلّم محمداً، وقيل: كان بمكة نصراني أعجميّ اللسان اسمه بلعام، ويقال: ابن ميسرة يتكلم بالرومية، وقيل: سلمان الفارسي، وبالجملة فلا فائدة في تعداد هذه الأسماء والحاصل أنّ القوم اتهموه بأنه يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يظهرها من نفسه، ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه فأجاب(2/262)
الله تعالى عنه تكذيباً لهم فيما رموا به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب بقوله تعالى: {لسان الذي يلحدون} أي: يميلون إليه أو يشيرون {إليه} أي: أنه يعلمه {أعجميّ} أي: لا يعرف لغة العرب وهو مع ذلك الكن في التأدية غير مبين {وهذا} أي: القرآن {لسان عربيّ مبين} أي: ذو بيان وفصاحة فكيف يعلمه أعجميّ. وروي أنّ الرجل الذي كانوا يشيرون إليه أسلم وحسن إسلامه.
{إنّ الذين لا يؤمنون} أي: لا يصدقون كل تصديق معترفين {بآيات الله} أي: الذي له العظمة كلها {لا يهديهم الله} أي: لا يرشدهم ولا يوفقهم للإيمان {ولهم عذاب أليم} أي: مؤلم في الآخرة. ثم أخبر الله تعالى أنّ الكفار المفترون بقوله تعالى:
{إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله} أي: القرآن بقولهم: هذا من قول البشر {وأولئك} أي: البعداء البغضاء {هم الكاذبون} أي: الكاملون في الكذب لأنّ تكذيب آيات الله أعظم من الكذب أولئك هم الذين عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين. ولما ذكر تعالى الذين لا يؤمنون مطلقاً أتبعهم صنفاً منهم هم أشدّ كفراً بقوله تعالى:
{من} أي: أيّ مخلوق وقع له أنه {كفر بالله} أي: الذي له صفات الكمال بأن قال أو عمل ما يدل على الكفر {من بعد إيمانه} بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم {إلا من أكره} أي: على التلفظ بالكفر فتلفظ به {وقلبه مطمئن بالإيمان} فلا شيء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب. روي أنّ قريشاً أكرهوا عماراً وأباه ياسراً وأمّه سمية على الارتداد فربطوا سمية بين بعيرين وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت وقتل ياسر وهما أوّل قتيل في الإسلام، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرهاً وهو كاره بقلبه فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه كفر فقال صلى الله عليه وسلم «كلا إنّ عماراً امتلأ إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه ويقول: ما لك إن عادوا لك فقل لهم مثل ما قلت» . تنبيه: في الآية دليل على إباحة التلفظ بالكفر وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازاً للدين كما فعله أبواه. ولما روي أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله. قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنت أيضاً، فخلاه. وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ فقال: رسول الله. قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنا أصمّ. فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه فقتله، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له» . واختلف الأئمة في وقوع الطلاق بالإكراه فقال الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى: لا يقع طلاق المكره. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: يقع. واستدل الشافعي بقوله تعالى: {لا إكراه في الدين} (البقرة، 256)
ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته لأنّ ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره، أي: لا أثر له ولا عبرة به. وقال عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . وقال أيضاً: «لا طلاق في إغلاق» ، أي: إكراه. وتمسك أبو حنيفة بقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحلّ له} (البقرة، 23)
وهذا قد طلقها. وأجيب بأنّ الآية مخصوصة بغير ذلك جمعاً بين الأدلة. {ولكن من شرح بالكفر صدراً} أي: فتحه ووسعه لقبول الكفر واختاره ورضي به {فعليهم غضب} أي: غضب لم تبين جهة عظمه لكونه {من الله}(2/263)
أي: الملك الأعظم {ولهم} أي: بظواهرهم وبواطنهم {عذاب عظيم} في الآخرة لارتدادهم على أعقابهم.
{ذلك} أي: الوعيد العظيم {بأنهم} أي: بسبب أنهم {استحبوا} أي: أحبوا حباً عظيماً {الحياة الدنيا} الكائنة الحاضرة الفانية فآثروها {على الآخرة} الباقية الفاخرة لأنهم رأوا ما فيه المؤمنون من الضيق والكافرون من السعة {وأنّ الله} أي: الذي له الغنى المطلق {لا يهدي القوم الكافرين} أي: لا يرشدهم إلى الإيمان ولا يوفقهم للعمل.
{أولئك} أي: البعداء البغضاء {الذين طبع الله} أي: الملك الذي لا أمر لأحد معه {على قلوبهم} أي: ختم عليها واستوثق. ولما كان التفاوت في السمع نادراً وحده بقوله تعالى: {وسمعهم} أو بمعنى أسماعهم ليناسب قوله تعالى: {وأبصارهم} فصاروا بعدم انتفاعهم بهذه المشاعر كأنهم لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون {وأولئك} أي: الأباعد من كل خير {هم الغافلون} عما يراد بهم من العذاب في الآخرة.
{لا جرم} أي: لا شك {أنهم في الآخرة هم الخاسرون} أي: أكمل الناس خسارة لأنّ الله تعالى وصفهم بست صفات الأولى: أنهم استوجبوا غضب الله تعالى. الثانية: أنهم استوجبوا العذاب الأليم. الثالثة: أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة. الرابعة: أنّ الله تعالى حرمهم من الهداية. الخامسة: أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم. السادسة: أنه جعلهم من الغافلين عن العذاب الشديد يوم القيامة إذ كل واحدة من هذه الصفات من أعظم الأحوال المانعة من الفوز بالخيرات والسعادات ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان في الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعته سعادات الآخرة فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة عظم خسرانه، فلهذا السبب حكم تعالى عليهم بالخسران. ولما ذكر تعالى حال من كفر بالله من بعد إيمانه، وحال من أكره على الكفر ذكر بعده حال من هاجر من بعد ما فتن بقوله تعالى:
{ثم إنّ ربك} أي: المحسن إليك {للذين هاجروا} إلى المدينة الشريفة بالولاية والنصر وقوله تعالى: {من بعد ما فتنوا} قرأ ابن عامر بفتح الفاء والتاء على استناد الفعل إلى الفاعل والباقون بضم الفاء وكسر التاء على فعل ما لم يسمّ فاعله وجه القراءة الأولى أنه عاد الضمير على المؤمنين، فالمعنى: فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول ظاهراً، وأنهم لما صبروا على عذاب المشركين فكأنهم فتنوا أنفسهم وإن عاد على المشركين فهو ظاهر، أي: فتنوا المؤمنين لأنّ أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم أقوياء المشركين على الردّة والرجوع عن الإيمان فبيّن تعالى أنهم هاجروا {ثم جاهدوا وصبروا} على الطاعة {إنّ ربك من بعدها} أي: الفتنة {لغفور} أي: بليغ الإكرام {رحيم} فهو يغفر لهم ويرحمهم. تنبيه: حذف خبر إنّ الأولى لدلالة خبر الثانية عليه أو مقدّر بما مرّ.
{يوم} أي: اذكر يوم {تأتي كل نفس} أي: وإن عظم جرمها {تجادل} ، أي: تحاجج {عن نفسها} أي: لا يهمها غيرها وهو يوم القيامة. فإن قيل: ما معنى النفس المضافة إلى النفس؟ أجيب: بأنه يقال لعين الشيء وذاته نفسه وفي نقيضه غيره، والنفس الجملة كما هي فالنفس الأولى هي الجملة والثانية عينها وذاتها فكأنه قيل: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره كلٌ يقول: نفسي نفسي، ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها(2/264)
كقولهم: هؤلاء الذين أضلونا وما كنا مشركين. {وتوفى كل نفس} صالحة أو غير صالحة {ما عملت} أي: جزاءه من جنسه {وهم لا يظلمون} أي: شيئاً. ولما هدّد تعالى الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هدّدهم أيضاً بآفات الدنيا وهي الوقوع في الجوع والخوف بقوله تعالى:
{وضرب الله} أي: المحيط بكل شيء {مثلاً} ويبدل منه {قرية} هي مكة والمراد أهلها {كانت آمنة} أي: ذات أمن ويأمن بها أهلها في زمن الخوف، قال تعالى: {أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم} (العنكبوت، 67)
والأمن في مكة كان كذلك، لأنّ العرب كان يغير بعضهم على بعض دون أهل مكة فإنهم كانوا أهل حرم الله والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم. {مطمئنة} أي: قارة بأهلها لا يحتاجون فيها إلى نجعة وانتقال، بسبب زيادة الأمن بكثرة العدد وقوّة المدد وكف الله تعالى الناس عنها ووجود ما يحتاج إليه أهلها. فإن قيل: الاطمئنان هو الأمن فيلزم التكرار؟ أجيب: بأنّ قوله تعالى: {آمنة} إشارة إلى الأمن وقوله تعالى: {مطمئنة} أي: لا يحتاجون فيها إلى نجعة كما مرّ، وقيل: أشار تعالى بذلك إلى الصحة لأنّ هواء ذلك البلد كان ملائماً لأمزجتهم فلذلك اطمأنوا إليه واستقرّوا. قالت العقلاء: ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية. {يأتيها} أي: على سبيل التجدّد والاستمرار {رزقها رغداً} أي: واسعاً طيباً {من كل مكان} برّ وبحر بتيسير الله تعالى. ولما كانت السعة تجر إلى البطر غالباً نبه تعالى على ذلك بقوله تعالى: {فكفرت بأنعم الله} أي: الذي له الكمال كله وأنعم جمع نعمة. قال الزمخشري: على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع. وقال قطرب: هي جمع نعم والنعم النعمة، يقال: هذه أيام نعم وطعم فلا تصوموا، وقيل: جمع نعماء مثل بأساء وأبؤس. فإن قيل: الأنعم جمع قلة فكأنّ تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من نعم الله فعذبها الله تعالى فلم لم يقل تعالى: كفروا بنعم عظيمة فاستوجبوا العذاب؟ أجيب: بأنّ المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى فإن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب فبكفران النعم الكثيرة أولى وبأنّ الله تعالى أنعم عليهم بالنعمة العظيمة وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به وبالغوا في إيذائه. {فأذاقها الله} أي: المحيط بكل شيء {لباس الجوع} بعد رغد العيش سبع سنين وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جهدوا وأكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب الميتة، وقيل: إنّ القرية غير مكة لأنها ضربت مثلاً لمكة ومثل مكة
يكون غير مكة. {والخوف} بسرايا النبيّ صلى الله عليه وسلم تنبيه: استعير الذوق لإدراك أثر الضرر واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والحوف وأوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له كقول كثير عزة:
*غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً ... غلقت لضحكته رقاب المال
فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبه صون الرداء لما يلقى عليه وأضاف إليه الغمر الذي هو وصف المعروف والنوال لا وصف الرداء نظراً إلى المستعار له ولو نظر إلى المستعار لقال: ضافي الرداء، أي: سابغه ومعنى البيت إذا ضحك المسؤول ضحكة أيقن السائل بذلك التبسم استرقاق رقاب ماله وأنه يعطي بلا خلاف وقد ينظر إلى المستعار له كقوله:(2/265)
*ينازعني ردائي عبد عمرو ... رويدك يا أخا عمرو بن بكر
*لي الشطر الذي ملكت يميني ... ودونك فاعتجر منه بشطر
استعار الدراء للسيف ثم قال: فاعتجر نظراً إلى المستعار ولو نظر إلى المستعار منه لقال تعالى في الآية: وكساهم لباس الجوع والخوف ولقال كثير: ضافى الرداء إذا تبسم ضاحكاً وهذا نهاية ما يقال في الاستعارة، وقال ابن عطية: لما باشرهم ذلك صار كاللباس وهذا كقول الأعشى:
*إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تثنت عليه فكانت لباسا
ومثله قوله تعالى: {هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ} (البقرة، 187)
ومثله قول الشاعر:
*وقد لبست بعد الزبير مجاشع ... لباس التي حاضت ولم تغسل الدما
كأنَّ العار لما باشرهم ولصق بهم كأنهم نسوة وقوله تعالى: {فأذاقها} نظير قوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان، 49)
ونظير قول الشاعر: دون ما جنيت فاحس وذق.
وقوله تعالى: {بما كانوا يصنعون} يجوز أن تكون ما مصدرية، أي: بسبب صنعهم أو بمعنى الذي والعائد محذوف، أي: بسبب الذي كانوا يصنعونه والواو في يصنعون عائد على أهل البلد، وقيل: قرية نظير قوله تعالى: {أو هم قائلون} (الأعراف، 4)
بعد قوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها} (الأعراف، 4)
. ولما ذكر الله تعالى المثل ذكر الممثل له فقال تعالى:
{ولقد جاءهم} أي: أهل هذه القرية {رسول منهم} من نسبهم يعرفونه بأصله ونسبه وهو محمد صلى الله عليه وسلم {فكذبوه فأخذهم العذاب} قال ابن عباس: يعني الجوع الذي كان بمكة، وقيل: القتل الذي كان يوم بدر {وهم ظالمون} أي: في حال تلبسهم بالظلم كقوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} (النساء، 97)
نعوذ بالله من مفاجأة النقمة والموت على الغفلة. وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار دال قد عند الجيم والباقون بالادغام ثم قال تعالى:
{فكلوا} أي: أيها المؤمنون {مما رزقكم الله} قال ابن عباس: يريد من الغنائم. وقال الكلبي: إنّ رؤوساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا: عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان، وكانت الميرة قد قطعت عنهم فأذن في الحمل إليهم فحمل الطعام إليهم فقال الله تعالى: {كلوا مما رزقكم الله} . وقال الرازي: والقول ما قال ابن عباس يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية {إنما حرم عليكم الميتة} يعني أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا مما رزقكم الله. {حلالاً طيباً} وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهي الميتة والدم. ولما أمرهم تعالى بأكل الحلال أمرهم بشكر النعمة بقوله تعالى: {واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون} أي: تطيعون. تنبيه: رسمت نعمت بالتاء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالهاء والباقون بالتاء والكسائي يقف بالإمالة.
وتقدّم تفسير قوله تعالى: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فإنّ الله غفور رحيم} في سورة البقرة فلا إفادة في تفسير ذلك. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة فمن اضطر في الوصل بكسر النون والباقون بالضمّ. تنبيه: حصر المحرمات في هذه الأشياء الأربعة مذكور أيضاً في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعم يطعمه} (الأنعام، 145)
الآية. وفي سورة المائدة في قوله تعالى: {أحلت(2/266)
لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم} (المائدة، 41)
وأجمعوا على أنّ المراد بقوله تعالى: {إلا ما يتلى عليكم} هو قوله تعالى في سورة البقرة: {حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله} (البقرة، 173)
وقوله تعالى في المائدة: {والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم} (المائدة، 3)
فهذه الأشياء داخلة في الميتة. ثم قال تعالى: {وما ذبح على النصب} (المائدة، 3)
وهو أحد الأشياء الداخلة تحت قوله تعالى: {وما أهل به لغير الله} (البقرة، 173)
فثبت أنّ هذه السور الأربعة دالة على حصر المحرمات في هذه الأربعة سورتان مكيتان وسورتان مدنيتان، فإنّ سورة البقرة مدنية وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله بالمدينة، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربعة إلا ما خصه الإجماع والدلائل العقلية القاطعة كان في محل أن يخشى عليه، لأنّ هذه السورة دلت على أنّ حصر المحرمات في هذه الأربعة كان مشروعاً ثابتاً في أوّل زمان مكة وآخره، وأوّل زمان المدينة وأنه تعالى أعاد هذا البيان في هذه السور الأربعة قطعاً للأعذار وإزالة للشبهة. ولما حصر تعالى المحرمات في هذه الأربع بالغ في تأكيد ذلك الحصر وزيف طريقة الكفار وفي الزيادة على هذه الأربعة تارة وفي النقصان عنها أخرى بقوله تعالى:
{ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} لما لم يحله الله ولم يحرمه فإنهم كانوا يحرّمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وكانوا يقولون: {ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا} (الأنعام، 193)
فقد زادوا في المحرمات وزادوا أيضاً في المحللات لأنهم حللوا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فبيّن تعالى أنّ المحرمات هي هذه الأربعة وبين أن الأشياء التي يقولون هذا حلال وهذا حرام كذب وافتراء على الله تعالى. تنبيه: في انتصاب الكذب وجهان؛ أحدهما: قال الكسائي: ما مصدرية والتقدير ولا تقولوا لأجل وصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام نظيره أن يقال: لا تقولوا لكذا وكذا كذا وكذا. فإن قيل: حمل الآية على هذا يؤدّي إلى التكرار لأنّ قوله تعالى: {لتفتروا على الله الكذب} عين ذلك؟ أجيب: بأنّ قوله تعالى: {لما تصف ألسنتكم الكذب} ليس فيه بيان أنه كذب على الله فأعاده ليحصل فيه هذا البيان الزائد. ونظيره في القرآن كثير، وهو أنه تعالى يذكر كلاماً ويعيده بعينه مع فائدة زائدة. الثاني: أن تكون ما موصولة والتقدير: ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام، وحذف لفظ فيه لكونه معلوماً، وقيل: اللام في لتفتروا لام العاقبة كما في قوله تعالى: {ليكون لهم عدوًّا وحزناً} (القصص، 8)
. فإن قيل: ما معنى وصف ألسنتكم الكذب؟ أجيب: بأنّ ذلك من فصيح الكلام وبليغه جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه وإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصورته بصورته، كقولهم: وجهها يصف الجمال، أي: هي جميلة، وعينها تصف السحر، أي: هي ساحرة فلما أرادوا المبالغة في وصف الوجه بالجمال ووصف العين بالسحر عبروا بذلك.
ثم إنه تعالى أوعد المفترين بقوله تعالى: {إنّ الذين يفترون على الله} أي: الذي له الملك كله {الكذب} منكم ومن غيركم {لا يفلحون} أي: لا يفوزون بخير لأن المفتري يفتري لتحصيل مطلوب فنفى الله تعالى عنه الفلاح، لأنه الفوز بالخير والنجاح. ثم بين(2/267)
تعالى أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم عن قريب بقوله تعالى:
{متاع قليل} أي: منفعة قليلة تنقطع عن قرب لفنائه وإن امتدّ ألف عام {ولهم} بعده {عذاب أليم} أي: مؤلم في الآخرة. ولما بين تعالى ما يحل ويحرم لأهل الإسلام أتبعه ببيان ما يخص اليهودية من المحرمات بقوله تعالى:
{وعلى الذين هادوا} أي: اليهود {حرّمنا} عليهم عقوبة لهم بعداوتهم وكذبهم على ربهم {ما قصصنا عليك} يا أجل المرسلين {من قبل} أي: في سورة الأنعام وهو قوله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر} (الأنعام، 164)
الآية. {وما ظلمناهم} أي: بتحريم ذلك عليهم {ولكن كانوا} أي: دائماً طبعاً لهم وخلقاً مستمرًّا {أنفسهم} خاصة {يظلمون} بالبغي والكفر فضيقنا عليهم معاملة بالعدل وعاملناكم أنتم حيث ظلمتم بالفضل فاشكروا النعمة واحذروا غوائل النقمة. ولما بيّن تعالى هذه النعمة الدنيوية عطف عليها نعمة هي أكبر منها جدًّا استجلاباً لكل ظالم، وبين عظمتها بحرف التراخي فقال تعالى:
{ثم إن ربك} أي: المحسن إليك {للذين عملوا السوء} وهو يتناول كل ما لا ينبغي فعله فيشمل الكفر وسائر المعاصي {بجهالة} أي: بسببها أو ملتبسين بها ليعمّ الجهل بالله وبقضائه وعدم التدبر في العواقب، فكل من عمل سوءاً إنما يفعله بالجهالة، أما الكفر فلأن أحداً لا يرضى به مع العلم بكونه كفراً لأنه لو لم يعتقد كونه حقاً فإنه لا يختاره ولا يرتضيه، وأما المعصية فلأن العالم لم تصدر منه المعصية ما لم تصر الشهوة غالبة للعقل، فثبت أنّ كل من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة. {ثم تابوا من بعد ذلك} أي: الذنب ولو كان عظيماً واقتصروا على ما أذن فيه خالقهم {وأصلحوا} بالاستمرار على ذلك {إن ربك} أي: المحسن إليك بتسهيل دينك وتيسيره {من بعدها} أي: التوبة {لغفور} أي: بليغ الستر لما عملوا من السوء {رحيم} أي: بليغ الرحمة محسن بالإكرام فضلاً منه ونعمة. ولما دعاهم الله تعالى إلى مكارم الأخلاق ونهاهم عن مساوئها بقبوله لمن أقبل إليه وكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام رئيس الموحدين لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة ووصفه بتسع صفات. الصفة الأولى: قوله تعالى:
{إن إبراهيم كان أمّة} أي: لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا متفرّقة في أشخاص كثيرة كقول القائل:
وليس لله، أي: من الله ـ بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
أي أن يجمع صفاتهم في شخص واحد. وقال مجاهد: كان مؤمناً وحده والناس كلهم كانوا كفاراً فلهذا المعنى كان وحده أمّة واحدة. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل: «يبعثه الله امّة واحدة» . وعن شهر بن حوشب لم تبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله تعالى بهم عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم فإنه كان وحده، وقيل: أمّة فعلة بمعنى مفعول كالدخلة والنخبة من أمّه إذا قصده واقتدى به، فإنّ الناس كانوا يؤمونه للاستفادة ويقتدون بسيره كقوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماماً} (البقرة، 124)
. وقرأ هشام أن إبراهام وملة إبراهام بالألف بعد الهاء فيهما. وقرأ الباقون بالياء فيهما. الصفة الثانية: قوله تعالى: {قانتاً لله} أي: مطيعاً له قائماً بأوامره. الصفة الثالثة: قوله تعالى: {حنيفاً} أي: مائلاً عن الباطل، قال ابن عباس: إنه أوّل من اختتن، وأقام(2/268)
مناسك الحج، وضحى وهذه السنة الحنيفية. الصفة الرابعة: قوله تعالى: {ولم يك من المشركين} أي: أنه عليه الصلاة والسلام كان من الموحدين في الصغر والكبر، وقد أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله: {لا أحب الآفلين} (الأنعام، 76)
ثم كسر تلك الأصنام حتى آل الأمر إلى أنّ القوم ألقوه في النار وذلك دليل إثبات الصانع مع ملك زمانه، وهو قوله: {ربي الذي يحيي ويميت} (البقرة، 258)
. ثم طلب من الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى ليحصل له زيادة الطمأنينة. قال الرازي: ومن وقف على علم القرآن علم أنّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان غريقاً في بحر علم التوحيد. الصفة الخامسة: قوله تعالى:
{شاكراً لأنعمه} فإن قيل: لفظ الأنعم جمع قلة ونعمة الله تعالى على إبراهيم عليه السلام كانت كثيرة فلم قال: {شاكراً لأنعمه} ؟ أجيب: بأنه ذكر القلة للتنبيه على أنه كان لا يخل بشكر القليلة فكيف بالكثيرة. وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يتغدّى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداءه فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أنّ بهم جذاماً فقال لهم: الآن وجبت مؤاكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم بهذا البلاء. الصفة السادسة: قوله تعالى: {اجتباه} أي: اصطفاه للنبوّة واختاره لخلقه. الصفة السابعة: قوله تعالى: {وهداه إلى صراط مستقيم} أي: وهداه إلى دين الإسلام لأنه الصراط المستقيم، والدين القويم، ونظيره قوله تعالى: {وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} (الأنعام، 153)
. الصفة الثامنة: قوله تعالى:
{وآتيناه في الدنيا حسنة} قال قتادة: حببه للناس حتى أنّ أرباب الملل يتولونه ويثنون عليه، وأمّا المسلمون واليهود والنصارى فظاهر، وأمّا كفار قريش وسائر العرب فلا فخر لهم إلا به وتحقيق القول أنّ الله تعالى أجاب دعاءه في قوله: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء، 84)
وقال آخرون: هو قول المصلي منا كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. وقيل: أولاداً أبراراً على الكبر. الصفة التاسعة: قوله تعالى: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} في الجنة. فإن قيل: لم لم يقل تعالى في أعلى مقامات الصالحين؟ أجيب: بأنه تعالى حكى عنه أنه قال: {رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين} (الشعراء، 83)
فقال تعالى هنا: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} تنبيهاً على أنه تعالى أجاب دعاءه ثم إنّ كونه من الصالحين لا ينفي أن يكون في أعلى مقامات الصالحين، فإنّ الله تعالى بيّن ذلك في آية أخرى، وهي قوله تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء} (الأنعام، 83)
. ولما وصف الله تعالى إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات العالية الشريفة أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في أتباعه مشيراً إلى علو مرتبته بحرف التراخي بقوله تعالى:
{ثم أوحينا إليك} يا أشرف الرسل. وقيل: أتي بثم للتراخي، أي: لتراخي أيامه عن أيام إبراهيم عليهما أفضل الصلاة والسلام. {أن اتّبع ملة إيراهيم} في التوحيد والدعوة إليه بالرفق وإيراد الدلائل مرّة بعد أخرى والمجادلة مع كل أحد على حسب فهمه، ولا بعد في أن يفهم ذلك الهجرة أيضاً. وقيل: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مأموراً بشريعة إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلا ما نسخ منها وما لم ينسخ صار شرعاً له وقوله تعالى: {حنيفاً} حال من النبيّ صلى الله عليه وسلم ويصح أن يكون حالاً من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى: {وما كان من المشركين} كرّره(2/269)
ردًّا على من زعم من اليهود والنصارى أنهم على دينه، وقوله سبحانه وتعالى:
{إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} فيه قولان: الأوّل: روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة وقال تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً واحداً وهو يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئاً من أعمالكم، فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله تعالى فيه من الخلق، وهو يوم السبت فجعل عليهم السبت وشدّد عليهم فيه، ثم جاء عيسى عليه السلام أيضاً بالجمعة فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم، أي: اليهود بعد عيدنا فاتخذوا الأحد. وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أن الله تعالى كتب يوم الجمعة على من كان قبلكم فاختلفوا فيه وهدانا الله له فهم لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد» . فإن قيل: هل في العقل وجه يدل على أنّ الجمعة أفضل من السبت والأحد فإن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام وبدأ تعالى بالخلق والتكوين في يوم الأحد وتمم في يوم الجمعة فكان يوم السبت يوم الفراغ فقالت اليهود: نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال فعينوا يوم السبت لهذا المعنى. وقالت النصارى: مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد فنجعل هذا اليوم عيدنا فهذان الوجهان معقولان لنا فما وجه جعل يوم الجمعة عيداً؟ أجيب: بأنّ يوم الجمعة هو يوم التمام والكمال وحصول التمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسرور فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من هذا الوجه. القول الثاني: اختلافهم في السبت هو أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرّموه تارة وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة. {وإن ربك} أي: المحسن إليك بطواعية أصحابك لك، {ليحكم بينهم} أي: هؤلاء المختلفين {يوم القيامة} وهو يوم اجتماع جميع الخلائق {فيما كانوا فيه يختلفون} فيحكم للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب. ولما أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم باتباع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بين الشيءالذي
أمره بمتابعته فيه بقوله تعالى: {ادع} أي: كل من تمكن دعوته ممن بعثت إليه {إلى سبيل ربك} أي: المحسن إليك بتسهيل السبيل الذي تدعو إليه واتساعه وهو الإسلام الذي هو الملة الحنيفية {بالحكمة} أي: المعاملة المحكمة وهو الدليل الواضح المزيل للشبهة {والموعظة الحسنة} أي: بالدعاء إلى الله تعالى بالترغيب والترهيب بالخطابات المتقنة والعبارات النافعة. والأولى لدعوى خواص الأمة الطالبين للحقائق والثانية لدعوى عوامهم {وجادلهم} أي: وجادل معانديهم {بالتي} أي: بالمجادلة التي {هي أحسن} كالدعاء إلى الله تعالى بآياته والدعاء إلى حججه بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير غلظ ولا تعسف فإن ذلك أنفع في تسكين لهبهم، وتبيين شبههم، وقيل: المراد بالحكمة القرآن، أي: ادعهم بالقرآن والموعظة الحسنة الرفق واللين في الدعوة، وفي الأمر بالمجادلة التي هي أحسن الإعراض عن أذاهم وعدم التقصير في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق وعلى هذا القول قال بعض علماء التفسير: هذا منسوخ بآية السيف، وقيل: إنّ الناس خلقوا وجبلوا على ثلاثة أقسام: القسم الأوّل: العلماء الكاملون وهم أصحاب العلوم الصحيحة والبصائر الشافية الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها فهؤلاء(2/270)
هم المشار إليهم بقوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} أي: ادعهم بالدلائل القطعية اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها وينفعوا الناس وهم خواص العلماء من الصحابة وغيرهم. القسم الثاني: أصحاب الفطرة السليمة والخلقة الأصلية وهم غالب الناس الذين لم يبلغوا حد الكمال ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان فهم أوسط الأقسام وهم المشار إليهم بقوله تعالى: {والموعظة الحسنة} أي: ادع هؤلاء بالموعظة الحسنة. القسم الثالث: أصحاب جدال وخصام ومعاندة وهؤلاء هم المشار إليهم بقوله تعالى: {وجادلهم بالتي أحسن} أي: حتى ينقادوا إلى الحق ويرجعوا إليه.
{إن ربك} المحسن إليك بالتخفيف عنك {هو أعلم} أي: من كل من يتوهم فيه علم {بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} أي: فهو سبحانه وتعالى أعلم بالفريقين فمن كان فيه خير كفاه الوعظ والنصيحة اليسيرة ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل وكأنك تضرب في حديد بارد فما عليك إلا البلاغ والدعوة، وأمّا حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فليس ذلك إليك، وهذا قبل الأمر بالقتال. وذكر في قوله تعالى:
{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} أقوال: أحدها: وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء وأبي بن كعب والشعبي: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما رأى عمه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وأذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه، وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أما أنها لو أكلته لم تدخل النار أبداً، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئاً من جسده النار، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه نظر إلى شيء لم ينظر إلى شي قط أوجع لقلبه منه فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم رحمة الله عليك فإني ما علمتك إلا فعالاً للخيرات، وصولاً للرحم، ولولا حزن من بعدك عليك لسرّني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى، أما والله لئن ظفرني الله بهم لأمثلنّ بسبعين منهم مكانك فنزلت، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أراد وكفر عن يمينه» . وقال المسلمون أيضاً: لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون والمثلة السيئة حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به إلا حنظلة بن الراهب فإنّ أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان فتركوا حنظلة لذلك فقال المسلمون حين رأوا ذلك: لئن ظفرنا عليهم لنزيدّن عليهم يعني على صنيعهم ولنمثلنّ بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد.
القول الثاني: أنّ هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد حتى كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبتدؤوا بالقتال وهو قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} (البقرة، 19)
وفي هذه الآية أمر الله تعالى أن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا. القول الثالث: أنّ المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم وهذا قول مجاهد والنخعي وابن سيرين. قال الرازي: وحمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله، وهو غاية البعد بل الأصوب عندي أن يقال: إنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بدعوة الخلق إلى الدين الحق بإحدى الطرق الثلاثة وهي: الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالطريق الأحسن، ثم إنّ تلك(2/271)
الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم والحكم عليهم بالكفر والضلالة وذلك مما يشوّش قلوبهم ويوحش صدورهم ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة وبالضرب ثانياً وبالشتم ثالثاً.
ثم إنّ ذلك الداعي المحق إذا سمع تلك السفاهات لا بدّ وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.
فإن قيل: فهل تقدحون فيما روي أنه عليه الصلاة والسلام ترك العزم على ترك المثلة وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية؟ أجيب: بأنه لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية لأنّ تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى. تنبيه: أمر الله تعالى برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية، ورتب ذلك على أربع مراتب المرتبة الأولى: قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} أي: إن رغبتم في استيفاء القصاص فاقنعوا بالمثل، ولا تزيدوا عليه فإنّ استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله تعالى ورحمته، وفي قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} دليل على أنّ الأولى له أن لا يفعل كما أنك إذا قلت للمريض: إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح كان معناه: أنّ الأولى بك أن لا تأكله فذكر تعالى بطريق الرمز، والتعريض أنّ الأولى تركه. المرتبة الثانية: الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله تعالى: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} وهذا تصريح بأنّ الأولى ترك ذلك الانتقام لأنّ الرحمة أفضل من القسوة والانتفاع أفضل من الانتقام. وقرأ لهو قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون برفعها. المرتبة الثالثة: هو الأمر الجازم بالترك وهو قوله تعالى:
{واصبر} لأنه في المرتبة الثانية ذكر أنّ الترك خير وأولى وفي هذه المرتبة الثالثة: صرّح بالأمر بالصبر في هذا المقام. ولما كان الصبر في هذا المقام شديداً شاقاً ذكر بعده ما يفيد سهولته بقوله تعالى: {وما صبرك إلا بالله} أي: الملك الأعظم الذي شرع لك هذا الشرع الأقوم فذلك بتوفيقه ومعونته وهذا هو السبب الكلي الأصلي. ثم ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب بقوله سبحانه وتعالى: {ولا تحزن عليهم} أي: في شدّة كفرهم فتبالغ في الحرص الباخع للنفس {ولا تك في ضيق} ولو قل كما لوّح إليه بتنوين التحقير {مما يمكرون} أي: من استمرار مكرهم بك {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (الحجر، 99)
وكأنك به وقد أتى فاصبر فإنّ الله معزك ومظهر دينك. وقرأ ابن كثير بكسر الضاد والباقون بنصبها. تنبيه: هذا من الكلام المقلوب لأنّ الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة فكان المعنى: ولا يكن الضيق فيك إلا أنّ الفائدة في قوله تعالى: {ولا تك في ضيق} هو أنّ الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب وصار كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى. المرتبة الرابعة: قوله تعالى:
{إنّ الله} أي: الجامع لصفات الكمال بلطفه وعونه {مع الذين اتقوا} أي: وجد منهم الخوف من الله تعالى واجتنبوا المعاصي {والذين هم محسنون} في أعمالهم والشفقة على خلقه، وهذا يجري مجرى(2/272)
التهديد لأنّ في المرتبة الأولى رغبة في ترك الانتقام على سبيل الرمز، وفي الثانية عدل عن الرمز إلى التصريح وهو قوله تعالى: {ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} . وفي المرتبة الثالثة: أمر بالصبر على سبيل الجزم، وفي هذه المرتبة الرابعة: كأنه ذكر الوعيد على فعل الانتقام فقال: {إن الله مع الذين اتقوا} أي: عن استيفاء الزيادة والذين هم محسنون أي: في ترك أصل الانتقام فكأنه تعالى قال: إن أردت أن أكون معك فكن من المتقين ومن المحسنين وهذه المعية بالرحمة والفضل والتربية وفي قوله تعالى: {اتقوا} إشارة إلى التعظيم لأمر الله، وفي قوله: {والذين هم محسنون} إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى قيل لهرم بن حبان عند قرب وفاته أوص فقال: إنّ الوصية في المال ولا مال لي ولكن أوصيكم بخواتيم سورة النحل. تنبيه: قال بعضهم: إنّ قوله تعالى: {وإن عاقبتم} إلى {لهو خير للصابرين} منسوخ بآية السيف. قال الرازي: وهذا في غاية البعد، لأنّ المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوى إلى الله تعالى وترك التعدّي وطلب الزيادة ولا تعلق لهذه الأشياء بآية السيف. وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله تعالى بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلته كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية» . حديث موضوع. قال الرازي: في آخر هذه السورة يقول مصنف الكتاب: الحق عزيز، والطريق بعيد، والمركب ضعيف، والقرب بعد، والوصل هجر، والحقائق مصونة، والمعالي في غيب الغيب مكنونة، والأسرار فيما وراء أقفال العزة مخزونة، وبيد الخلق القيل والقال، والكمال ليس إلا لله تعالى ذي الإكرام والجلال.
سورة الإسراء
وتسمى سبحان وبني إسرائيل مكية
إلا {وإن كادوا} الآيات الثمان مائة وعشر آيات أو إحدى عشرة وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة وعدد حروفها ستة آلاف وأربعمائة وستون حرفاً.
{بسم الله} الملك المالك لجميع الأمر {الرحمن} لكل ما أوجده بما رباه {الرحيم} لمن خصه بالتزام العمل بما يرضاه. وقوله تعالى:
{سبحان} اسم بمعنى التسبيح الذي هو التنزيه وقد يستعمل علماً له فيقطع عن الإضافة ويمنع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون قال الأعشى في مدحه عامر بن الطفيل:
*قد قلت لما جاءني فخره
... سبحان من علقمة الفاخر
أي: العجب منه إذ يفخر والعرب تقول سبحان من كذا إذا تعجبوا منه الشاهد في سبحان حيث جعله علماً على التنزيه فمنعه الصرف وعلقمة المذكور صحابيّ قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شيخ فأسلم وبايع واستعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حوران فمات بها {الذي أسرى بعبده} هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف عباده على الإطلاق وأحقهم بالإضافة إليه. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي أسرى بالإمالة محضة وورش بين بين(2/273)
والباقون بالفتح وقوله تعالى: {ليلاً} نصب على الظرف والإسراء سير الليل.
وفائدة ذكره الإشارة بتنكيره إلى تقليل مدّته فكان هذا الأمر الجليل في جزء يسير من الليل وإلى أنه عليه الصلاة والسلام لم يحتج في الإسراء والعروج إلى سدرة المنتهى وسماع الكلام من العليّ الأعلى إلى رياضة بصيام ولا غيره بل كان مهيأ لذلك متأهلاً له فأقامه تعالى من الفرش إلى العرش {من المسجد الحرام} أي: بعينه وهو الذي يدل عليه ظاهر لفظ القرآن. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق» وقيل كان نائماً في الحطيم، وقيل في بيت أمّ هانئ بنت أبي طالب قال البقاعي: وهو قول الجمهور، والمراد بالمسجد حينئذ الحرم لأنه فناء المسجد. {إلى المسجد الأقصى} أي: بيت المقدس الذي هو بعيد المسافة حينئذٍ وأبعد المسجدين الأعظمين مطلقاً من مكة المشرّفة بينهما أربعون ليلة فصلى بالأنبياء كلهم إبراهيم وموسى ومن سواهما على جميعهم أفضل الصلاة والسلام ورأى من آياتنا الكبرى ما قدرنا له كما سيأتي في حديث المعراج، ورجع بين أظهركم إلى المسجد الأقرب منكم في ذلك الجزء اليسير من الليل، وأنتم تضربون أكباد الإبل في هذه المسافة شهراً ذهاباً وشهراً إياباً.
ثم وصفه تعالى بما يقتضي تعظيمه، وأنه أهل للقصد بقوله تعالى: {الذي باركنا حوله} أي: بما لنا من العظمة بالمياه والأشجار. وقال مجاهد: سماه مباركاً لأنه مقرّ الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي ومنه يحشر الناس يوم القيامة وموطن العبادات ومعدن الفواكه والأرزاق والبركات، وبارك تعالى حوله لأجله فما ظنك به نفسه فهو أبلغ من باركنا فيه، ثم منه إلى السموات العلا إلى سدرة المنتهى إلى ما لم ينله بشر غيره صلى الله عليه وسلم قال البقاعي: ولعل حذف ذكر المعراج من القرآن هنا لقصور أفهامهم عن إدراك أدلته، لو أنكروه بخلاف الإسراء فإنه أقام دليله عليهم بما شاهدوه من الأمارات التي وصفها لهم وهم قاطعون بأنه صلى الله عليه وسلم لم يرها قبل ذلك فلما بان صدقه بما ذكر من الأمارات أخبر بعد ذلك من أراد الله تعالى بالمعراج.
ثم ذكر سبحانه وتعالى الغرض من الإسراء بقوله تعالى: {لنريه} بعينه وقلبه {من آياتنا} أي: عجائب قدرتنا السماوية والأرضية كما أرينا أباه الخليل عليه السلام ملكوت السموات والأرض. {إنه} أي: الله {هو السميع} لجميع الأقوال {البصير} أي: العالم بأحوال عباده فيكرم ويقرّب من شاء منهم وقيل: إنه أي: هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء هو أي: خاصة السميع أي: أذناً وقلباً بالإجابة لنا والإذعان لأوامرانا البصير بصراً وبصيرة بدليل ما أخبر به من الآيات وصدقه من الدلالات حتى نعت ما سألوه عنه من بيت المقدس ومن أمر عيرهم وغيرهما مما هو مشهور في قصة الإسراء. واختلف هل أسري بروحه أو بجسده صلى الله عليه وسلم فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تقول ما فقدت جسد النبيّ صلى الله عليه وسلم ولكن أسري بروحه، والأكثرون على أنه أسري بجسده في اليقظة وتواترت الأخبار الصحيحة على ذلك منها قوله صلى الله عليه وسلم «أوتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس(2/274)
فربطت الدابة بالحلقة التي تربط فيها الأنبياء ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، قال جبريل عليه السلام: أصبت الفطرة. قال صلى الله عليه وسلم ثم عرج بي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: من معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى فرحبا بي ودعوا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه
ففتح لنا فإذا أنا بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه. ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل. فقيل: من معك؟ قال: محمد. فقيل: قد أرسل إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم فإذا هو مستند إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها. قال صلى الله عليه وسلم فأوحى إلى عبده ما أوحى وفرض عليّ في كل يوم وليلة خمسين صلاة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال: ما فرض ربك على أمّتك؟ قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. قال: فرجعت إلى ربي فقلت له: أي: رب خفف عن أمّتي فحط عني خمساً فرجعت إلى موسى فقال: ما فعلت؟ فقلت: قد حط عني خمساً. قال: إنّ أمّتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، لأنّ أمّتك لا تطيق ذلك. قال: فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ويحط عني خمساً خمساً حتى قال: يا محمد، هي خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة
عشر فتلك
خمسون صلاة ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب فإن عملها كتبت سيئة واحدة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمّتك فإن أمّتك لا تطيق فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت» رواه الشيخان. وروي أنه قال بعد ذلك: «ولكن أرضى وأسلم فلما جاوزت نادى مناد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك» .
وروي أنه لما(2/275)
وصل إلى سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: «ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع إليّ البيت المعمور ثم أوتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فاخترت اللبن فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمّتك قال: ثم فرضت عليّ الصلاة خمسين صلاة يوم فرضت فمررت على موسى وساق الحديث» . ومنها ما رواه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأيت ربي عز وجل» . قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس. قال: والشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم.
ومنها ما رواه قتادة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم عن ليلة الإسراء به قال: «بينا أنا في الحطيم وربما قال في الحجر، مضطجع ومنهم من قال: بين النائم واليقظان، وذكر بين رجلين وأتيت بطشت من ذهب مملوءة حكمة وإيماناً فشق من النحر إلى مراق البطن واستخرج قلبي فغسل ثم حشي ثم أعيد» ، وقال سعيد وهشام: ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيماناً وحكمة «ثم أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته وساق بقية الحديث» .
ومنها ما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً في بيت أمّ هانئ بعد صلاة العشاء فأسري به، ورجع من ليلته، وقص القصة على أمّ هانئ. وقال: «مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أمّ هانئ بثوبه فقال: ما لك؟ قالت: أخشى أن يكذبك الناس وقومك إن أخبرتهم. قال: وإن كذبوني فخرج إليهم» . وروي أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، فكان بذي طوى قال: «يا جبريل إنّ قومي لا يصدّقوني. قال: يصدّقك أبو بكر الصدّيق» . قال ابن عباس وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما كانت ليلة أسري بي فأصبحت بمكة قطعت بأمري وعرفت أنّ الناس يكذبوني» . فروي «أنه عليه الصلاة والسلام قعد معتزلاً حزيناً فمرّ به أبو جهل فجلس إليه فقال كالمستهزئ: هل استفدت من شيء؟ قال: نعم، أسري بي الليلة. قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم. فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤيّ هلموا فانفضت إليه المجالس فجاؤوا حتى جلسوا إليهما قال: حدّث قومك بما حدّثتني. قال: نعم، إني قد أسري بي الليلة. قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس. قالوا: ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال: نعم فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً وارتدّ ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه. فقالوا له: هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس. قال: أو قد قال؟ قالوا: نعم. قال: إن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: تصدّقه على ذلك؟ قال: إني لأصدّقه على أبعد من ذلك أصدّقه على خبر السماء في غدوة أو روحة فسمي الصدّيق. قال: وفي القوم من كان يأتي المسجد الأقصى، فقالوا: فهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد الأقصى قال: نعم. قال: فذهبت أنعت وأنعت فما زلت أنعت حتى التبس عليّ. قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل، فنعت المسجد وأنا أنظر إليه فقال القوم: أما النعت فو الله لقد أصاب ثم
قالوا: يا(2/276)
محمد أخبرنا عن عيرنا فهي أهمّ إلينا هل لقيت منها شيئاً قال: نعم مررت على عير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيراً لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته وشربته ثم وضعته كما كان فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه. قالوا هذه آية قال: ومررت بعير بني فلان وفلان وفلان راكبان قعوداً لهما فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان فانكسرت يده فاسألوهما عن ذلك. قالوا: وهذه آية. قالوا: فأخبرنا عن عيرنا متى تجيء قال: مررت بها بالتنعيم قالوا: فما عدّتها وما حملها وما أحمالها ومن فيها. فقال: هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا: وهذه آية، ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون: والله لقد قص محمد شيئاً وبينه حتى أتوا كداء فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه إذ قال قائل منهم: هذه الشمس والله قد أشرقت فقال آخر: والله وهذه العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يؤمنوا وقالوا ما هذا إلا سحر مبين» والأورق من الإبل الذي في لونه بياض إلى سواد وهو أطيب الإبل لحماً قاله الجوهري.
ومنها ما روي عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذرّ يحدث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم، وجاء بطشت من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغها في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي وعرج بي إلى السماء فلما جئنا إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح. قال: ومن هذا؟ قال جبريل. قال: هل معك أحد؟ قال: نعم معي محمد. قال: فأرسل إليه؟ قال: نعم ففتح، قال: فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبيّ الصالح. قال: قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة التي عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار وإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، ثم عرج بي جبريل حتى أتى إلى السماء الثانية فقال لخازنها: افتح، فقال له خازنها: مثل ما قال خازن السماء الدنيا. فقال أنس بن مالك فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم ولم يبين كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة. قال: فلما مرّ جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بإدريس فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبيّ الصالح. قال: فقلت: من هذا؟ قال: إنه إدريس. قال: ثم مررت بموسى فقال: مرحباً بالنبيّ الصالح والأخ الصالح. قال: قلت: من هذا؟ قال: هذا موسى فقال: ثم مررت بعيسى فقال: مرحباً بالنبيّ الصالح والأخ الصالح. قال: فقلت من هذا؟ قال: عيسى، ثم مررت بإبراهيم فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبيّ الصالح. قال: فقلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم. قال ابن شهاب: أخبرني ابن حزم أنّ ابن عباس كان يقول كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صرير الأقلام» .
وروى معمر عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم «أتى بالبراق ليلة أسري به مسرجاً ملجماً فاستصعب عليه فقال جبريل أبمحمد تفعل هذا فماركبك أحد أكرم على الله منه فارفض عرقاً وقال ابن زيد(2/277)
عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهيت إلى بيت المقدس قال جبريل بأصبعه فخرق بها حجراً وشد به البراق وفي رواية أنه جاء جبريل بالبراق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له يامحمد اركب فركبه صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل وطار به البراق في الهواء فاخترق به الجو فعطش صلى الله عليه وسلم واحتاج إلى الشراب فأتاه جبريل باناءين إناء من لبن وإناء من خمر وذلك قبل تحريم الخمر فعرضهما عليه فتناول اللبن فقال له جبريل عليه السلام أصبت الفطرة أصاب الله تعالى بك أمّتك ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتأوّل اللبن بالعلم فلما وصل إلى السماء الدنيا استفتح إلى أن قال ثم عرج بي إلى سدرة المنتهى وأخبره جبريل أن أعمال بني آدم تنتهي إلى تلك السدرة وأنها مقر الأرواح فهي نهاية لما ينزل مما فوقها ونهاية لما يعرج إليها مما هو دونها وبها مقام جبريل عليه السلام فنزل صلى الله عليه وسلم عن البراق وجيء إليه بالرفرف وهو نظير المحفة عندنا فقعد عليه وسلمه جبريل إلى الملك النازل بالرفرف فسأله الصحبة ليأنس به فقال له: لا أقدر لو خطوت خطوة لاحترقت فما منا إلا له مقام معلوم وما أسرى الله بك يا محمد إلا ليريك من آياته فلا تغفل، فودّعه وانصرف مع ذلك الملك والرفرف، والملك يمشي به إلى أن ظهر لمستوى سمع فيه صرير الأقلام في الألواح وهي تكتب ما يجريه الله تعالى في خلقه وما تنسخه الملائكة من أعمال عباده قال تعالى: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية، 29)
ثم زج بي في النور زجة فأفرده الملك الذي كان معه وتأخر عنه فلم يره معه فعلم أن الرفرف ما تدلى إلا لكون البراق له مكان لا يتعدّاه كجبريل، لما بلغ إلى المكان الذي لا يتعدّاه وقف وكذلك الرفرف لما وصل إلى مقام لا يتعدّاه زج به في النور فغمره النور من جميع نواحيه وأعطي علماً آخر لم يكن يعلمه قبل ذلك عن وحي من حيث لا يدري وجهته» :
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد رأيتني وأنا في الحجر وقريش تسألني عن مسراي: فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط فرفعه الله إليّ لأنظر إليه فما سألوني عن شيء إلا أنبئتهم به وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا بموسى قائم يصلي فإذا رجل جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم يعني به نفسه صلى الله عليه وسلم فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت قال قائل: يا محمد هذا مالك خازن النار فسلم عليه فالتفت إليه فبدأني بالسلام» . وعن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لما كذبني قريش قمت إلى الحجر فجلّى الله لي بيت المقدس» وذكر الحديث. وعن أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتيت موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره» .
فإن قيل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى يصلي في قبره وكيف تصلي الأنبياء بعد الموت وهم في دار الآخرة؟ أجيب: بأن صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم السلام ببيت المقدس يحتمل أن الله تعالى جمعهم له ليصلي بهم ويعرفوا فضله وتقدّمه عليهم، ثم إن الله تعالى أراه إياهم في السموات على مراتبهم ليعرف هو مراتبهم وفضلهم، وأما مروره بموسى وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر(2/278)
فيحتمل أنه كان بعد رجوعه من المعراج، وأما حكم صلاة الأنبياء وهم في الدار الآخرة فهم في حكم الشهداء بل هم أفضل منهم، وقد قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء} (آل عمران، 169)
فالأنبياء بعد الموت أولى، وأمّا حكم صلاتهم فيحتمل أنها بالذكر والدعاء وذلك من أعمال الآخرة. قال تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهمّ} (يونس، 10)
وورد في الحديث أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، ويحتمل أن الله تعالى خصهم بخصائص في الآخرة كما خصهم في الدنيا بخصائص لم يخص بها غيرهم. منها أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه رآهم يلبون ويحجون فكذلك الصلاة والله أعلم بحقائق الأمور.
وروي عن شريك بن عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك يقول: «ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاء ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم: أيهم هو. قال أوسطهم: هو خيرهم فقال آخرهم: خذوا خيرهم» وساق حديث المعراج بقصته. قال: «فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان قال: ما هذان يا جبريل؟ قال: هذان النيل والفرات عنصرهما ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه نهر من لؤلؤ وزبرجد فضرب يده فإذا هو مسك أذفر. قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هو الكوثر الذي خبأ لك ربك» وذكر في آخر حديثه أنه صلى الله عليه وسلم قال في آخر الحديث: «ثم علا بي حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار ورب العزة فتدلى فكان منه كقاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه» وذكرت عائشة أنّ الذي دنا فتدلى جبريل عليه السلام وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة النجم.
فإن قيل: قوله تعالى: {لنريه من آياتنا} (الإسراء، 1)
يدلّ على أنه تعالى ما أراه إلا بعض الآيات لأنّ كلمة من تفيد التبعيض وقال في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض} (الأنعام، 75)
أي: ملكهما فيلزم أن يكون معراج إبراهيم أفضل من معراج محمد عليهما الصلاة والسلام؟ أجيب: بأنه لما أضيفت تلك الآيات إلى الله تعالى دلّ على أنها أفضل مما رآه إبراهيم. تنبيه: قال النووي في شرح مسلم قد جاء في رواية شريك في حديثه أوهام أنكر عليه العلماء فيها منها قوله وذلك قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه وإنّ الإسراء أقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهراً. وقال الطبراني: كان ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، وقال الزهري: كان بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمس سنين قال ابن إسحق أسرى به صلى الله عليه وسلم وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل وقيل كان الإسراء في رجب ويقال في رمضان قال النووي وأشبه الأقوال قول الزهري وابن إسحق ومما يدل على أنه أسري بجسده صلى الله عليه وسلم قوله تعالى {أسرى بعبده} ولفظ العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أتيت بالبراق» وهو اسم للدابة وهي التي ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به واشتقاقه من البرق لسرعته أو لشدة صفائه وبياضه ولمعانه وتلألؤ نوره والحلقة بإسكان اللام ويجوز فتحها والمراد بربط البراق بالحلقة الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب وأنّ ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى وقوله جاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فيه اختصار(2/279)
والتقدير قال لي اختر فاخترت اللبن وقول جبريل اخترت الفطرة يعني فطرة الإسلام وجعل اللبن علامة الفطرة الصحيحة السليمة لكونه سهلاً طيباً سائغاً للشاربين وإنه سليم العاقبة بخلاف الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع الشرّ وقوله: ثم عرج بي حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فيه بيان الأدب لمن استأذن أن يقول أنا فلان، ولا يقول أنا فقط فإنه مكروه، وفيه أن للسماء أبواباً وبوّابين عليها حرساً وقول بوّاب السماء وقد أرسل إليه وفي الرواية الأخرى، وقد بعث إليه معناه للاستواء وصعود السماء وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة فإنّ ذلك لا يخفى عليه إلى هذه المدّة، وقوله فإذا أنا بآدم وذكر جماعة من الأنبياء فيه استحباب لقاء أهل الفضل والصلاح بالبشر والترحيب والكلام الحسن وإن كان الزائر أفضل من المزور وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه، إذا أمن عليه من الإعجاب وغيره من أسباب الفتنة وقوله فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور فيه دليل على جواز الاستناد إلى القبلة وتحويل ظهره إليها.
وقوله ذهب بي إلى السدرة المنتهى هكذا وقع في هذه الرواية بالألف واللام وفي باقي الروايات إلى سدرة المنتهى. قال ابن عباس وغيره من المفسرين: سميت بذلك لأنّ علم الملائكة ينتهي إليها ولم يجاوزها أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن مسعود: سميت بذلك لكونه ينتهي إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله عز وجل. وقوله وإذا ثمرها مثل القلال هو بكسر القاف جمع قلة بضمها وهي الجرّة الكبيرة التي تسع قربتين أو أكثر وقوله فرجعت إلى ربي. قال النووي: معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته منه أولاً فناجيته فيه ثانياً وقوله فلم أزل أرجع بين موسى وبين ربي معناه ربي موضع مناجاة ربي. وقوله ففرض على أمتي خمسين صلاة إلى قوله فوضع عني خمساً وفي رواية شطرها وفي رواية عشراً ليس بين هذه الروايات منافاة لأنّ المراد بالشطر الجزء وهو الخمس وليس المراد منه التنصيف وأمّا رواية العشر فهو رواية شريك ورواية الخمس رواية قتادة وهو أثبت من شريك والمراد حط عني خمساً إلى آخره، ثم قال: هي خمس وهنّ خمسون يعني خمسين في الأجر والثواب لأنّ الحسنة بعشر أمثالها، واحتج العلماء بهذا الحديث على جواز نسخ الشيء قبل فعله وفي الحديث أنه شق صدره ليلة المعراج وقد شق صدره أيضاً في صغره وهو عند حليمة التي كانت ترضعه فالمراد بالشق الثاني زيادة التطهير لما يراد به من الكرامة ليلة المعراج وقوله: أتيت بطشت من ذهب قد يتوهم أنه يجوز استعمال الذهب لنا وليس الأمر كذلك لأنّ هذا الفعل من فعل الملائكة وهم مباح لهم استعمال الذهب، أو لعل هذا كان قبل تحريمه. وقوله ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغها في صدري قد يقال الحكمة والإيمان من المعاني والإفراغ صفة الأجسام فما معنى ذلك أجيب بأنه يحتمل أنه جعل في الطشت شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما تسمى إيماناً وحكمة لكونه سبباً لها، وهذا من أحسن المجاز. وقوله في صفة آدم: فإذا رجل عن
يمينه أسودة وعن يساره أسودة هو جمع سواد وقد فسره في الحديث بأنه نسم بنيه يعني أرواح بنيه.
فإن قيل: أرواح المؤمنين في السماء وأمّا أرواح الكفار فتحت(2/280)
الأرض السفلى فكيف تكون في السماء؟ أجيب: بأنه يحتمل أنّ أرواح الكفار تعرض على آدم عليه السلام وهو في السماء فوافق وقت عرضها على آدم مرور النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبر بما رأى.
وقوله: إذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى، ففيه شفقة الوالد على أولاده وسروره وفرحه بحسن حال المؤمن منهم وحزنه على حال الكافر منهم وقوله في إدريس مرحباً بالأخ الصالح والنبيّ الصالح، قد اتفق المؤرخون أنه هو أخنوخ جدّ نوح فيكون جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كما أنّ إبراهيم جدّه فكان ينبغي أن يقول بالنبيّ الصالح والابن الصالح كما قال آدم وإبراهيم؟ وأجيب: بأنه قيل إنّ إدريس المذكور هنا هو إلياس وهو من ذرية إبراهيم فليس هو جدّ نوح قاله القاضي عياض. وقال النووي: ليس في هذا الحديث ما يمنع كون إدريس أباً لنبينا صلى الله عليه وسلم وأنّ قوله: الأخ الصالح يحتمل أن يكون قاله تلطفاً وتأدّباً وهو أخ وإن كان ابناً لأنّ الأنبياء إخوة والمؤمنون إخوة انتهى. وإنما أطلت في بيان ذلك لأنّ الكلام مع الأحبة يحلو ولولا خوف الملل ما اقتصرت على ذلك. فقد قال بعض المفسرين لا أعلم في الكتاب العزيز سورة تضمنت من خصائصه التي فضل بها كافة الأنبياء ما تضمنته هذه السورة ولكن في هذا القدر كفاية لأولي الألباب. ولما ثبت بهذه الخارقة ما أخبر به صلى الله عليه وسلم عن نفسه المقدّسة من عظيم القدرة وما جاءه صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات في هذا الوقت اليسير أتبعه ما منح في السير من مصر إلى الأرض المقدّسة من الآيات في مدد طوال موسى عليه الصلاة والسلام الذي كان أعظم الأنبياء بركة على هذه الأمّة ليلة الإسراء لما أرشد النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه من مراجعة الله تعالى في
تخفيف
الصلاة حتى رجعت من خمسين إلى خمس مع أجر خمسين فقال: {وآتينا} أي: بعظمتنا {موسى الكتاب} أي: التوراة {وجعلناه} أي: الكتاب بما لنا من العظمة {هدى لبني إسرائيل} بالحمل على العدل في التوحيد والأحكام وأسرينا بموسى عليه السلام وبقومه من مصر إلى بلاد المسجد الأقصى، فأقاموا سائرين إليها أربعين سنة ولم يصلوا ومات كل من خرج إلا المتقين الموفين بالعهد فقد بان الفضل بين الإسراءين كما بان الفضل بين الكتابين، فذكر الإسراء أوّلاً دليل على حذف مثله أوّلاً فالآية من الاحتباك ثم نبه على أنّ المراد من ذلك كلمة التوحيد اعتقاداً وعبادة بقوله تعالى: {أنّ لا} أي: لئلا {يتخذوا} على قراءة أبي عمرو بالياء على الغيبة، وقرأ غيره بالتاء على أن لا تتخذوا كقولك كتبت إليه أن أفعل كذا. {من دوني وكيلاً} أي: ربا تكلون إليه أموركم، وذلك هو التوحيد فلا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا نعمة أعظم من أن يصير المرء غريقاً في بحر التوحيد وأن لا يعوّل في أمر من الأمور إلا على الله تعالى، فإن نطق نطق بذكر الله، وإن تفكر تفكر في دلائل تنزيه الله وإن طلب طلب من الله، فيكون كله لله وبالله وإلى الله. وقوله تعالى:
{ذرية} نصب على الاختصاص في قراءة أبي عمرو وعلى النداء عند الباقين أي: يا ذرّية {من حملنا} أي: في السفينة بعظمتنا على ظهر ذلك الماء الذي طبق ما تحت أديم السماء ونبه تعالى على شرفهم وتمام نعمتهم بقوله تعالى: {مع نوح} ففي ذلك تذكير بإنعام الله تعالى(2/281)
عليهم وإنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة. قال قتادة: الناس كلهم من ذرّية نوح لأنه كان معه في السفينة ثلاث بنين سام وحام ويافث، فالناس كلهم من ذرّية أولئك. قال البقاعي: لأنّ الصحيح أنّ من كان معه من غير ذرّيته ماتوا ولم يعقبوا ولم يقل ذرّية نوح ليعلم أنهم عقب أولاده المؤمنين لتكون تلك منة أخرى.
ثم إنه تعالى أثنى على نوح حثاً على الاقتداء به في التوحيد كما اقتدى به آباؤهم في ذلك بقوله تعالى: {إنه كان عبداً شكوراً} أي: مبالغاً في الشكر الذي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه لما خلق له. روي أنه عليه الصلاة السلام كان إذا أكل قال: «الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء أجاعني» وفي رواية «أنه يسمي إذا أكل ويحمد إذا فرغ، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني. وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني. وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حداني ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه» . وفي رواية أنه كان يقول: «الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى منفعته في جسدي وأخرج عني أذاه» . وفي رواية: أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من مرّ به فإن وجده محتاجاً آثره به. ولما ذكر تعالى إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم، وبأنه جعل التوراة هدى لهم بين أنهم ما اهتدوا بهداه بل وقعوا في الفساد بقوله تعالى:
{وقضينا} أي: أوحينا {إلى بني إسرائيل} أي: إلى بني عبدنا يعقوب عليه السلام الذي كان أطوع أهل زمانه وحياً مقطوعاً مثبوتاً {في الكتاب} أي: التوراة التي قد أوصلناها إليهم على لسان موسى عليه السلام وقيل: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، وقوله تعالى: {لتفسدنّ} جواب قسم محذوف ويجوز أن يجري القضاء المثبوت مجرى القسم فيكون لتفسدنّ جواباً له كأنه قال: وأقسمنا لتفسدنّ {في الأرض} أي: أرض الشام قاله السيوطي. وقال الرازي: أرض مصر ويوافق الأوّل قول البقاعي أي: المقدّسة التي كأنها لشرفها هي الأرض. {مرّتين} أي: إفسادتين. قال في «الكشاف» : أولاهما قتل زكريا عليه السلام وحبس أرميا حين أنذرهم بسخط الله تعالى، والأخرى قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى بن مريم. وقال البيضاوي: الأولى مخالفة أحكام التوراة وقتل شعيا أو قتل أرميا. وثانيتهما قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم السلام. {ولتعلنّ} أي: بما صرتم إليه من البطر لنسيان المنعم {علوّاً كبيراً} بالظلم والتمرّد لأنه يقال لكل متجبر قد علا وتعظم {فإذا جاء وعد أولاهما} أي: أولى مرّتي الفساد وهو الوقت الذي جدّدنا لهم الانتقام فيه {بعثنا عليكم عباداً لنا} أي: لا يدان لكم بهم كما قال تعالى: {أولي بأس شديد} أي: أصحاب قوّة في الحرب. واختلف فيهم فقال في «الكشاف» : سنحاريب وجنوده، وقيل بختنصر. وقال ابن عباس: جالوت قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخرّبوا المساجد وسبوا منهم سبعين ألفاً. وقال البيضاوي: عباداً لنا بختنصر عامل لهراسف على بابل وجنوده، وقيل: جالوت الحزري وهو بحاء فزاي: مفتوحتين فراء نسبة إلى الحزر وهو ضيق العين وصغرها، وهو الذي قتله داود أو جيل من الناس. وذكر الرازي في ذلك قولين: الأوّل: أنّ الله تعالى سلط عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب(2/282)
بالبقية إلى أرض نفسه، فبقوا هناك في الذل. الثاني: أنّ الله تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل
في قلوب المجوس، فلما كثرت المعاصي فيهم أزال الله ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية قال: أفسدوا المرّة الأولى، فأرسل الله عليهم جالوت فقتلهم وأفسدوا المرّة الثانية فقتلوا يحيى بن زكريا فبعث الله عليهم بختنصر. وعن ابن مسعود قال: كان أوّل الفساد من قتل زكريا فبعث الله عليهم ملك القبط. وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: الأولى قتل زكريا والأخرى قتل يحيى. قاله الرازي. واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط الله عليهم أقواماً فقتلوهم وأفنوهم.
ثم قال الله تعالى: {فجاسوا} أي: تردّدوا لطلبكم {خلال الديار} أي: وسطها للقتل والغارة. قال البيضاوي: فقتلوا كبارهم وسبوا صغارهم وحرّقوا التوراة وخرّبوا المسجد، والمعتزلة لما منعوا تسليط الله الكافر على ذلك أولوا البعث بالتخلية انتهى. وفي ذلك تعريض بالزمخشري فإنه قال في «كشافه» : فإن قلت كيف جاز أن يبعث الله تعالى الكفرة على ذلك ويسلطهم عليه. قلت: معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم على أنّ الله عز وجل أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه فهو كقوله تعالى: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون} (الأنعام، 129)
. {وكان} أي: ذلك البعث ووعد العقاب به {وعداً مفعولاً} أي: قضاء كائناً لازماً لا شك في وقوعه ولا بدّ أن يفعل.
{ثم رددنا لكم الكرّة} أي: الدولة والغلبة {عليهم} حتى تبتم عن ذنوبكم ورجعتم عن الفساد في زمن داود بقتله جالوت وذلك بعد مائة سنة {وأمددناكم بأموال} تستعينون بها على قتال عدوّكم {وبنين} تتقوّون بهم {وجعلناكم أكثر} من عدوّكم {نفيراً} أي: عشيرة تنفر معكم عند إرادة القتال وغيره من المهمات والنفير من ينفر مع الرجل من قومه وقيل: جمع نفر، وهم المجتمعون للذهاب إلى العدوّ. ولما حكى الله تعالى عنهم أنهم لما عصوا سلط الله عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة، وأعاد عليهم الدولة فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا الله فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصرّوا على المعصية فقد أساؤوا على أنفسهم وقد تقرّر في العقول أنّ الإحسان إلى النفس حسن مطلوب وأنّ الإساءة إليها قبيحة فلهذا المعنى قال تعالى:
{إن أحسنتم} أي: بفعل الطاعة على حسب الأمر في الكتاب الداعي إلى العدل والإحسان {أحسنتم لأنفسكم} أي: لأنّ ثوابها لها {وإن أسأتم} بارتكاب المحرّمات والإفساد {فلها} أي: الإساءة لأنّ وبالها عليها. قال النحويون: وإنما قال: {وإن أسأتم فلها} للتقابل، والمعنى فإليها أو فعليها كما مرّ مع أنّ حروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض كقوله تعالى: {يومئذٍ تحدّث أخبارها بأن ربك أوحى لها} (الزلزلة: 4، 5)
أي: إليها. تنبيه: قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله غالبة على غضبه بدليل أنه تعالى لما حكى عنهم الإحسان ذكره مرّتين فقال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرّة واحدة فقال تعالى: {وإن أسأتم فلها} ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك ثم قال:
{فإذا جاء وعد الآخرة} أي: ثانية في(2/283)
الإفساد وهو الوقت الذي حدّدنا له الانتقام فيه. {ليسوءوا} أي: بعثنا عليكم عباداً لنا ليسوءوا {وجوهكم} أي: بجعل آثار الإساءة بائنة فيها وحذف متعلق اللام لدلالة الأوّل عليه. وقرأ الكسائي بعد اللام بنون مفتوحة على التوحيد والضمير فيه لله والباقون بالياء مفتوحة، وأمّا الهمزة التي بعد الواو والتي بعد السين فقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص بضم الهمزة ومدّها والباقون بفتح الهمزة ولا مدّ وقوله تعالى: {وليدخلوا المسجد} عطف على ليسوءوا والمراد بالمسجد الأقصى الذي سقناكم إليه من مصر في تلك المدد الطوال وأعطيناكم بلاده بالتدريج وجعلناه محل عزكم وأمنكم ثم جعلناه محلاً لإكرام أشرف خلقنا بالإسراء إليه وجمع أرواح النبيين كلهم فيه وصلاته بهم، وهذا تعريض بتهديد لقريش بأنهم إن لم يرجعوا بدل الله أمنهم في الحرم خوفاً وعزهم ذلاً، وأدخل عليهم جنوداً لا قبل لهم بها، وقد فعل ذلك عام الفتح لكنه فعل إكرام لا إهانة ببركة هذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم {كما دخلوه} أي: الأعداء {أوّل مرّة} بالسيف ويقهروا جميع جنودكم دفعة واحدة {وليتبروا} أي: يهلكوا ويدمروا مع التقطيع والتفريق {ما علوا} أي: عليه من ذلك وقيل ما مصدرية أي: مدّة علوهم {تتبيراً} أي: إهلاكاً. قال الزجاج: وكل شيء جعلته مكسراً مفتتاً فقد تبرته ومنه قيل تبر الزجاج، وتبر الذهب لمكسره، ومنه قوله تعالى: {إنّ هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} (الأعراف، 139)
. قال الرازي: وهذه المرّة الأخيرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى عليهما السلام. قال البيضاوي: وذلك بأن سلط عليهم الفرس مرّة أخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه حردون، وقيل جردوس، قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم جمع قربان فوجد فيه دماً يغلي فسألهم عنه فقالوا: دم قربان لم يقبل منا فقال: ما صدقتموني فقتل عليه ألوفاً منهم فلم يهدأ الدم، ثم قال إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحداً فقالوا إنه دم يحيى فقال لمثل هذا ينتقم ربكم منكم، ثم قال: يا يحيى أي: خطاباً لدمه قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله قبل أن لا يبقى أحد منهم فهدأ أي: سكن.l
وقال الواحدي: فبعث الله تعالى عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه فسبى بني إسرائيل وخرب بيت المقدس. قال الرازي: أقوال التواريخ تشهد أنّ بختنصر كان قبل وقت عيسى ويحيى وزكريا بسنين متطاولة، ومعلوم أنّ الملك الذي انتقم من اليهود ملك الروم يقال له قسطنطين الملك والله أعلم بأحوالهم ولا يتعلق غرض من أغراض تفسير القرآن بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام انتهى. ولما انقضى ذلك كان كأنه قيل هل بقي لهم نصرة على عدوّهم؟ فقال تعالى:
يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم فترد الدولة إليكم ثم بعد أن أطمعهم فزعهم بقوله تعالى: {وإن عدتم} أي: إلى المعصية {عدنا} أي: إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرّة أخرى. قال القفال: إنما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا لقوله تعالى في سورة الأعراف خبراً عن بني إسرائيل: {وإذ تأذن ربك ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامةمن يسومهم سوء العذاب} (الأعراف، 167)
. ثم قال وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل فعاد الله تعالى عليهم بالتعذيب على أيدي(2/284)
العرب فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء ثم الباقي منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان ثم قال تعالى {وجعلنا} أي: بعد ذلك بعظمتنا {جهنم} أي: التي تلقى داخلها بالتجهيم والكراهة {للكافرين} وذكر الوصف الظاهر موضع الضمير لبيان تعلق الحكم به على سبيل الرسوخ سواء في ذلك هم وغيرهم وقوله تعالى {حصيرا} يحتمل أن يكون فعيلاً بمعنى الفاعل أي: جعلنا جهنم حاصراً لهم ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول أي: جعلناها موضعاً محصوراً لهم والمعنى أنّ عذاب الدنيا وإن كان شديداً قوياً إلا أنه قد ينقلب بعض الناس عنه والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص منه إمّا بالموت وإمّا بطريق آخر، وأمّا عذاب الآخرة فإنه يكون حاصراً للإنسان محيطاً به لا رجاء في الخلاص عنه فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطاً بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبداً. ولما بين سبحانه وتعالى كتاب موسى عليه السلام الذي أنزل عليه فيما بين مصر وبيت المقدس في تلك المدّة المتطاولة وجعله هدى لبني إسرائيل صادق الوعد والوعيد بين تعالى كتاب محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه منه في سبب مسيره إليه في ذلك، ووصفه بثلاثة أنواع من الصفات الأولى قوله تعالى:
{إنّ هذا القرآن} أي: الجامع لكل حق والفارق بين كل ملتبس {يهدي للتي} أي: إلى الطريق التي {هي أقوم} أي: أصوب من كل طريق فقوله تعالى: {للتي هي أقوم} نعت لموصوف محذوف كما تقرّر ويصح أن يقدّر الملة والشريعة أي: يهدي إلى الملة والشريعة التي هي أقوم الملل والشرائع ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن كقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} (المؤمنون، 96)
وقيل إلى الكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله. تنبيه: لفظ افعل قد جاء بمعنى الفاعل كقولنا الله أكبر أي: الله الكبير وكقولنا الأشج والناقص أعدلا بني مروان، فأقوم يحتمل أن يكون كذلك وأن يبقى على ظاهره. الصفة الثانية قوله تعالى: {ويبشر المؤمنين} أي: الراسخين في هذا الوصف ولهذا قيدهم بياناً لهم بقوله: {الذين} أي: يصدّقون إيمانهم بأنهم {يعملون} أي: على سبيل التجديد والاستمرار والبناء على العلم {الصالحات} من التقوى والإحسان {أنّ لهم أجراً كبيراً} هو الجنة والنظر إلى وجه الله تعالى. وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وسكون الباء الموحدة وضم الشين مخففة والباقون بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشدّدة. فإن قيل: قال هنا {أجراً كبيراً} وفي الكهف {أجراً حسناً} (الكهف، 2)
أجيب: بوقوع ذلك لموافقة الفواصل قبل وبعد في كل منهما. الصفة الثالثة قوله تعالى:
{وأنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا} أي: أحضرنا وهيأنا {لهم عذاباً أليماً} وهو النار في الآخرة وهو عطف على أنّ لهم أجراً كبيراً، والمعنى أنه تعالى بشر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم، نظيره قولك بشرت زيداً بأنه سيعطى وبأنّ عدوّه سيمنع. فإن قيل: كيف يليق لفظ البشارة بالعذاب؟ أجيب: بأنّ هذا مذكور على سبيل التهكم أو أنه من باب إطلاق أحد الضدّين على الآخر كقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى، 40)
أو على يبشر بإضمار يخبر. فإن قيل: هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود(2/285)
وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة؟ أجيب: بأنّ أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين وبأنّ بعضهم قال: {لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات} (آل الأعراف، 24)
فهم بذلك صاروا كالمنكرين للآخرة. ولما بين سبحانه وتعالى أنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، والإنسان قد يقدم على ما لا فائدة فيه بينه بقوله تعالى:
{ويدع الإنسان بالشرّ} عند ضجره على نفسه وأهله وماله {دعاءه} أي: مثل دعائه {بالخير} ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. روي أنه صلى الله عليه وسلم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً فأقبل يئنّ في الليل فقالت له: ما لك؟ فبكى وشكا فرحمته فأرخت كتافه فهرب، فلما أصبح النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا به فأعلم بشأنه فقال صلى الله عليه وسلم «اللهمّ اقطع يدها فرفعت سودة يدها تتوقع أن يقطع الله تعالى يدها، فندم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضبون فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له وقيل المراد النضر بن الحرث حيث قال: اللهمّ انصر خيرالحزبين اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك إلى آخره فأجاب الله تعالى دعاءه وضربت رقبته يوم بدر صبراً. وكان بعضهم يقول: {ائتنا بعذاب الله} (العنكبوت، 29)
وآخرون يقولون: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} (يونس، 48)
وإنما فعلوا ذلك للجهل ولاعتقاد أنّ محمداً كاذب فيما يقول، وقيل المراد أنّ الإنسان قد يبالغ في الدعاء طالباً لشيء قد يعتقد أنّ خيره فيه مع أنّ ذلك الشيء منبع لشرّه وضرره وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء وإنما يقدّم على مثل هذا العمل لكونه عجولاً مغترّاً بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها، كما قال تعالى: {وكان الإنسان} أي: الجنس {عجولاً} أي: يسارع إلى كل ما يخطر بباله ولا ينظر إلى عاقبته وقيل المراد آدم عليه السلام لما انتهى الروح إلى سرّته ذهب لينهض فسقط. تنبيه: حذفت واو ويدع أي: التي هي لام الفعل خطأ في جميع المصاحف ولا موجب لحذفها لفظاً في العربية لكنها لما كانت لا تظهر في اللفظ حذفت في الخط، ونظيره قوله تعالى: {سندع الزبانية} (العلق، 18)
و {سوف يؤت الله المؤمنين} (النساء، 146)
و {يوم يناد المنادي} (ق، 41)
{فما تغن النذر} (القمر، 5)
. قال الفراء: ولو كان ذلك بالواو والياء لكان صواباً. وقال الرازي: أقول هذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قد عظم هذا القرآن المجيد عن التحريف والتغيير فإنّ إثبات الواو والياء في أكثر ألفاظ القرآن وعدم إثباتها في هذه المواضع المعدودة يدل على أنّ هذا القرآن نقل كما سمع وأن أحداً لم يتصرف فيه بمقدار فهمه وقوّة عقله. ولما بيّن تعالى ما أوصل من نعم الدين وهو القرآن أتبعه بما وصل إليهم من نعم الدنيا فقال:
{وجعلنا الليل والنهار آيتين} دالتين على تمام العلم وشمول القدرة آية الليل كالآيات المتشابهة وآية النهار كالمحكمة فكما أنّ المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يتيسر الانتفاع به إلا بهاتين الآيتين {فمحونا} أي: بعظمتنا الباهرة {آية الليل} أي: طمسنا نورها بالظلام ليسكنوا فيه فجعلناها لا يبصر فيها المرئيات كما لا يبصر الكتاب إذا محي. {وجعلنا} مما لنا من القدرة. {آية النهار مبصرة} أي: مبصراً فيها بالضوء فلا تزال هذه الدار الناقصة في تنقل من نور إلى ظلمة ومن الظلمة إلى النور كما أن الإنسان بعجلته التي يدعو إليها طبعه وتأنيه الداعي إليه عقله من انتقال من نقصان إلى كمال ومن كمال إلى(2/286)
نقصان، كما أن القمر الذي هو أنقص من الشمس كذلك. قال ابن عباس: جعل الله نور الشمس سبعين جزءاً ونور القمر كذلك فمحى من نور القمر تسعة وستين جزءاً فجعلها مع نور الشمس. وحكي أن الله تعالى أمر جبريل فأمر بجناحه على وجه القمر ثلاث مرّات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور. وسأل ابن ذكوان علياً رضي الله عنه عن السواد الذي في القمر قال هو أثر المحو. تنبيه: المراد من الآيتين بعض الليل والنهار فالإضافة للبيان أي: أنه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا، أمّا الدين فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير له مع كونهما متعاقبين على الدوام وهو من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودين بذاتهما بل لا بدّ لهما من فاعل يدبرهما ويقدّرهما بالمقادير المخصوصة، وأمّا في الدنيا فلأن مصالح الدنيا لا تتم إلا بالليل والنهار فلولا الليل ما حصل السكون والراحة ولولا النهار لما حصل الكسب والتصرّف وقيل الليل والنهار ظرفان والتقدير وجعلنا آيتين في الليل والنهار والمراد بالآيتين على هذا إمّا الشمس والقمر وإمّا تكوير هذا على هذا وهذا على هذا ثم ذكر تعالى بعض المنافع المرتب على ذلك بقوله تعالى: {لتبتغوا}
أي: تطلبوا طلباً شديداً {فضلاًمن ربكم} أي: المحسن إليكم فيهما بضياء هذا تارة ونور هذا أخرى {ولتعلموا} بفصل هذا عن هذا {عدد السنين والحساب} لأن الحساب يبنى على أربع مراتب الساعات والأيام والشهور والسنين، والعدد للسنين والحساب لما دون السنين وهي الشهور والأيام والساعات وبعد هذه المراتب الأربعة لا يحصل إلا التكرار كأنهم رتبوا العدد على أربع مراتب الآحاد والعشرات والمئات والألوف وليس بعدها إلا التكرار. ولما ذكر تعالى أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ومن وجه آخر نعمتان عظيمتان من الله تعالى على أهل الدنيا، وقد ذكر تعالى في آيات كثيرة منافعهما كقوله تعالى: {وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً} (النبأء: 10، 11)
. وكقوله تعالى: {جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} (القصص، 73)
وشرح تعالى حالهما وفصل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق، ومن وجوه النعم العظيمة على الخلق، كان ذلك تفصيلاً نافعاً وتبياناً كاملاً فلا جرم، قال تعالى: {وكل شيء} أي: لكم إليه حاجة في مصالح دينكم ودنياكم {فصلناه تفصيلاً} أي: بيناه تبييناً، وهو كقوله تعالى: {ما فرّطنا في الكتاب من شيء} (الأنعام، 38)
وكقوله تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء} (النحل، 89)
وقوله: {تدمّر كل شيء بأمر ربها} (الأحقاف، 25)
. وإنما ذكر تعالى تفصيلاً لأجل توكيد الكلام وتقريره، فكأنه قال: فصلناه حقاً. ولما بين تعالى أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدنيا والدين مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما كان منعماً عليهم بوجود النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فإنه يكون مسؤولاً عن أعماله وأقواله كما قال تعالى:
{وكل إنسان ألزمناه} أي: بعظمتنا {طائره} أي: عمله الذي قدرناه عليه من خير وشرّ، لأن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى عمل شرّ اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه وإذا طار فهو يطير متيامناً أو متياسراً(2/287)
أو صاعداً إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة فلما كثر ذلك منهم سموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه فقوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} (الإسراء، 13)
أي: وكل إنسان ألزمناه عمله {في عنقه} الذي هو محل التزين بالقلادة ونحوها ومحل الشين بالغل ونحوه فإن كان عمله خيراً كان كالقلادة والحلي في العنق وهذا مما يزينه وإن كان عمله شرّاً كان كالغل في عنقه وهو مما يشينه وقال مجاهد ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، قال الرازي: والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والفهم والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك المقدار وإن كان ينحرف عنه بل لا بدّ وأن يصل إليه ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية فتلك الأشياء المقدرة كأنها تطير إليه وتصير إليه فلهذا المعنى لا يبعد أن يعبر عن تلك الأحوال المقدّرة بلفظ الطائر فقوله تعالى {ألزمناه طائره في عنقه} (الإسراء، 13)
كناية عن كل ما قدّره الله ومعنى في عنقه حصوله له فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» انتهى ملخصاً. ثم قال تعالى:
{ونخرج له يوم القيامة كتاباً} أي: مكتوباً فيه عمله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. قال الحسن: بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك، فأمّا الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأمّا الذي عن شمالك فيحفظ لك سيئاتك، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة، وقوله تعالى: {يلقاه منشوراً} صفتان لكتاباً وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف على البناء للمفعول من لقيته كذا أي: استقلبته به والباقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف، وأمال الألف بعد القاف حمزة والكسائي محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح ثم إنه إذا لقي كتابه يوم القيامة يوم العرض قيل له: {اقرأ كتابك} أي: بنفسك {كفى بنفسك اليوم} الذي تكشف فيه الستور وتظهر جميع الأمور {عليك حسيباً} أي: حساباً بليغاً فإنك تعطى القدرة على قراءته أمياً كنت أو قارئاً ولا ترى فيه زيادة ولا نقصاناً ولا تقدر أن تنكر منه حرفاً وإن أنكره لسانك شهدت عليك أركانك فيا لها من قدرة باهرة وقوّة قاهرة ونصفة ظاهرة. قال الحسن: عدل والله في حقك من جعلك حسيب نفسك. وقال السدي: يقول الكافر يومئذٍ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} فإن قيل: قد قال تعالى: {وكفى بنا حاسبين} فكيف الجمع في ذلك؟ أجيب: بأنّ المراد بالحسيب هنا الشهيد أي: كفى بشخصك اليوم شاهداً عليك أو أنّ القيامة مواقف مختلفة ففي موقف يكل الله تعالى حسابهم إلى أنفسهم وعلمه محيط بهم وفي آخر يحاسبهم هو. وقوله تعالى:
{من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} لأنّ ثواب اهتدائه له لا ينجي غيره {ومن ضل فإنما يضل عليها} أي: إثمه عليها فلا يضرّ في ضلاله سواه، كما قال الكلبي دلالة على أنّ العبد متمكن(2/288)
من الخير والشرّ وإنه غير مجبور على عمل بعينه أصلاً لأنّ قوله تعالى: {من اهتدى} إلى آخره إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكن منه كيف شاء وأراد، أمّا المجبور على أحد الطرفين الممنوع عن الطرف الثاني فهذا لا يليق به، هذا مذهب أهل السنة والجماعة فاتبعه ترشد ثم إنه تعالى أعاد تقرير أنّ كل أحد مختص بأثر عمل نفسه بقوله تعالى: {ولا تزر} أي: نفس {وازرة} أي: آثمة أي: لا تحمل {وزر} نفس {أخرى} بل إنما تحمل وزرها فقط. فإن قيل: ورد أنّ المظلوم يأخذ من حسنات الظالم فإذا لم يوف يؤخذ من سيئات المظلوم وتطرح على الظالم؟ أجيب: بأنّ ذلك بسببه فهو كفعله. فإن قيل: قد ورد أن الميت ببكاء أهله؟ أجيب: بأنّ ذلك محمول على ما إذا أوصى بذلك وكان ذلك الفعل كقول طرفة بن العبد:
*إذا مت فانعيني بما أنا أهله
... وشقي عليّ الجيب يا ابنة معبد
وعليه حمل الجمهور الأخبار الواردة بتعذيب الميت على ذلك. فإن قيل: ذنب الميت فيما إذا أوصى أو أمر بذلك فلا يختلف عذابه بامتثالهم وعدمه؟ أجيب: بأنّ الذنب على السبب يعظم بوجود المسبب وشاهده «من سن سنة سيئة» الخ وقال الشيخ أبو حامد: إنّ ما ذكر محمول على الكافر وغيره من أهل الذنوب. ثم قال تعالى:
{وما كنا} أي: على ما لنا من القدرة {معذبين} أحداً {حتى نبعث رسولاً} يبين له ما يجب عليه فمن بلغته دعوته فخالف أمره واستكبر عن اتباعه عذبناه بما يستحقه وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء الكرام عليهم السلام في جميع الأمم قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمّة رسولاً} (النحل، 36)
. وقال تعالى: {وإن من أمّة إلا خلا فيها نذير} (فاطر، 24)
فإنّ دعوتهم إلى الله تعالى قد انتشرت وعمت الأقطار واشتهرت. فإن قيل: الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسول لأنّ معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله تعالى وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستحقاقهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف، والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان؟ أجيب: بأنّ بعثة الرسول من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة لئلا يقولوا: {إنا كنا عن هذا غافلين} (الأعراف، 172) ، فهلا بعثت إلينا رسولاً ينبهنا على النظر في أدلة العقل، وفي الآية دليل على أن لا وجوب قبل الشرع.
فائدة: في حكم أهل الفترتين بين نوح وإدريس وبين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثة عشر قسماً؛ ستة سعداء وأربعة أشقياء وثلاثة تحت المشيئة، فأمّا السعداء فقسم وحّد الله تعالى بنور وجده في قلبه كقس بن ساعدة فإنه كان يقول إذا سئل هل لهذا العالم إله؟ قال: البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام يدل على المسير. وقسم وحد الله تعالى بما تجلى لقلبه من النور الذي لا يقدر على دفعه، وقسم ألقى في نفسه واطلع من كشفه على منزلة محمد صلى الله عليه وسلم فآمن من به في عالم الغيب، وقسم اتبع ملة حق ممن تقدمة، وقسم طالع في كتب الأنبياء فعرف شرف محمد صلى الله عليه وسلم فآمن به وقسم آمن بنبيه الذي أرسل إليه وأدرك رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وآمن به فله أجران. وأما الأشقياء فقسم عطل لا عن نظر بل عن تقليد، وقسم عطل بعدما أثبت لا عن استقصاء بنظر، وقسم أشرك عن(2/289)
تقليد محض، وقسم علم الحق وعانده، وأما الذي تحت المشيئة فقسم عطل فلم يقر بوجوده عن نظر قاصر لضعف في مزاجه، وقسم أشرك عن نظر أخطأ فيه، وقسم عطل بعدما أثبت لا عن نظر بلغ فيه أقصى القوّة هكذا قسم محيي الدين بن عربي في الباب العاشر من الفتوحات المكية نقل ذلك عن شيخ وقته الشيخ عبد الوهاب الشعراني، ونقل عن السيوطي أنّ أبوي النبيّ صلى الله عليه وسلم لم تبلغهما الدعوة والله تعالى يقول: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} وحكم من لم تبلغه الدعوة أنه يموت ناجياً ولا يعذب ويدخل الجنة. قال: وهذا مذهب لا خلاف فيه بين المحققين من أئمتنا الشافعية في الفقه والأشاعرة في الأصول، ونص على ذلك الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، وتبعه على ذلك الأصحاب، قال السيوطي: وقد ورد في الحديث أن الله تعالى أحيا أبويه حتى آمنا به، وعلى ذلك جماعة من الحفاظ منهم الخطيب البغدادي وأبو القاسم بن عساكر وأبو حفص بن شاهين والسهيلي والقرطبي والطبري وابن المنير وابن سيد الناس وابن ناصر الدين
الدمشقي والصفدي وغيرهم والأولى لنا الإمساك عن ذلك فإنّ الله تعالى لم يكلفنا بذلك ونكل الأمر في ذلك إلى الله تعالى، ونقول كما قال النووي لما سئل عن طائفة ابن عربي {تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون} (البقرة، 134)
. ولما أشار تعالى إلى عذاب المخالفين قرّر أسبابه وعرف أنها بقدره وأن قدره لا يمنع حقوق العذاب بقوله تعالى:
{وإذا أردنا} أن نحيي قرية الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة ألقينا في قلوب أهلها امتثال أو أمرنا والتقييد باتباع رسلنا وإذا أردنا {أن نهلك قرية} في الزمن المستقبل {أمرنا} أي: بما لنا من القدرة التامّة الشاملة {مترفيها} أي: منعميها الذين لهم الأمر والنهي قال الأكثرون: أمرهم الله تعالى بالطاعة والخير على لسان رسله {ففسقوا فيها} أي: خرجوا عن طاعة الله ورسوله. وقال صاحب «الكشاف» : ظاهر اللفظ يدل على أنه تعالى يأمرهم بالفسق فيفسقون إلا أنّ هذا مجاز، ومعناه أنه يفتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا. قال: والدليل على أنّ ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه أن المأمور به إنما حذف لأنّ قوله ففسقوا يدل عليه يقال أمرته فقام وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام وقراءة فكذا هنا لما قال: {أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني وخالفني فإنّ هذا كلام لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة لأنّا نقول: إنّ المعصية منافية للأمر ومناقضة له فيكون كونها مأموراً بها مخالفاً فلهذه الضرورة تركنا هذا الظاهر انتهى.
قال الرازي: ولقائل أن يقول كما أنّ قوله أمرته فعصاني يدل على أنّ المأمور به شيء غير المعصية من حيث إنّ المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك قوله أمرته ففسق يدل على أنّ المأمور به غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان به فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به كما أنّ كونه معصية ينافي كونها مأموراً بها فوجب أن يدل هذا اللفظ على أنّ المأمور به ليس بفسق وهذا الكلام في غاية الظهور ولم أدر لم أصرّ صاحب «الكشاف» على قوله مع ظهور فساده فثبت أنّ الحق ما ذكر الكل وهو أن المعنى(2/290)
أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك الأمر عناداً وأقدموا على الفسق {فحق عليها القول} أي: الذي توعدناهم به على لسان رسولنا {فدمرناها تدميراً} أي: أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريب ديارهم، وخص المترفين بالذكر لأنّ غيرهم يتبعهم ولأنهم أسرع إلى الحماقة وأقدر على الفجور، وقيل معناه كثرنا وروى الطبراني وغيره حديثاً: «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» أي: كثيرة النتاج. والسكة بكسر السين وتشديد الكاف الطريقة المصطفة من النخل، والمأبورة الملقحة قال ذلك الجوهري. وروي أنّ رجلاً من المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أرى أمرك هذا حقيراً؟ فقال صلى الله عليه وسلم «إنه سيأمر» أي: سيكثر وسيكبر. وعن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول: «لا إلى إلا الله ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بين إصبعيه الإبهام والتي تليها. قالت زينب قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث» أي: الشرّ. وويل يقال لمن وقع في مهلكة أو أشرف أن يقع فيها. وقوله تعالى:
{وكم أهلكنا} أي: بما لنا من العظمة وبين مدلول كم بقوله تعالى: {من القرون} أي: المكذبين {من بعد نوح} كعاد وثمود من الأمم الماضية يخوّف به الكفار أي: كفار مكة قال عبد الله بن أبي أوفى: القرن عشرون ومائة سنة. وقيل: مائة سنة. روي عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بشر المازني أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال: «سيعيش هذا الغلام قرناً» . قال محمد بن القاسم: ما زلنا نعدّ له حتى تمت له مائة سنة، ثم مات. وقال الكلبي: القرن ثمانون سنة وقيل أربعون. ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{وكفى بربك} أي: المحسن إليك {بذنوب عباده خبيراً بصيراً} أي: عالماً ببواطنها وظواهرها فكم من إنسان كنتم ترونه من أكابر الصالحين ثم استقرّت عاقبته على خلاف ذلك وكم من شخص ترونه مجتهداً في العبادة فإذا خلا بارز ربه بالعظائم، وتقديم الخبر لتقديم متعلقه. ولما قرّر أنه سبحانه وتعالى عالم ببواطن عباده وظواهرهم قسمهم إلى قسمين الأوّل: قوله تعالى:
{من كان يريد العاجلة} أي: الدنيا مقصوراً عليها همه {عجلنا له فيها} أي: العاجلة بأن نفيض عليه من منافعها {ما نشاء} أي: من البسط والتقتير {لمن نريد} أي: أن نفعل به ذلك فقيد تعالى الأمر بقيدين أحدهما تقييد المعجل بإرادته ومشيئته. والثاني: تقييد المعجل له بإرادته وهكذا الحال ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه وكثير منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة. تنبيه: لمن نريد بدل بعض من كل من الضمير في له بإعادة العامل تقديره لمن نريد تعجيله له ويقال إنّ الآية في المنافقين كانوا يراؤون المسلمين ويقرؤون معهم ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في الغنائم ونحوها وهذا هو المناسب لقوله تعالى: {ثم جعلنا له جهنم يصلاها} أي: في الآخرة {مذموماً} أي: مفعولاً به الذم {مدحوراً} أي: مدفوعاً مطروداً مبعداً وإن ذكره البيضاوي بصيغة قيل. ثم ذكر تعالى القسم الثاني وشرط فيه ثلاثة شروط: الأوّل: قوله تعالى:
{ومن أراد الآخرة} أي: أراد بعمله ثواب الآخرة فإنه إن لم ينو(2/291)
ذلك لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (النجم، 39)
. وقوله صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات» . الثاني: قوله تعالى: {وسعى لها سعيها} وذلك يقتضي أن يكون ذلك العمل من باب القرب والطاعات وكثير من الضلال يتقرّبون بعبادة الأوثان ولهم فيها تأويلات، أحدها أنهم يقولون إله العالم أجل وأعظم من أن يقدر الواحد منا على إظهار عبوديته وخدمته ولكن غاية قدرتنا أن نشتغل بعبادة بعض المقرّبين من عباد الله بأن يشتغل بعبادة كوكب أو ملك من الملائكة ثم إن الملك أو الكوكب يشتغل بعبادة الله تعالى فهؤلاء يتقرّبون إلى الله تعالى بهذا الطريق وهذه طريقة فاسدة فلا جرم أنه لم ينتفع بها. ثانيها أنهم قالوا اتخذنا هذه التماثيل على صورة الأنبياء والأولياء والمراد من عبادتها أن تصير تلك الأنبياء والأولياء شفعاء لنا عند الله وهذا الطريق أيضاً فاسد فلا جرم لم ينتفع بها. ثالثها: أنه نقل عن أهل الهند أنهم يتقرّبون إلى الله بقتل أنفسهم تارة أخرى أنفسهم أخرى وهذه الطريقة أيضاً فاسدة فلا جرم لم ينتفع بها. وكذا القول في جميع الفرق المبطلين الذين يتقرّبون إلى الله تعالى بمذاهبهم الباطلة.
الثالث: قوله تعالى: {وهو مؤمن} لأنّ الشرط في كون أعمال البرّ مقتضية للثواب هو الإيمان فإن لم يوجد لم يحصل المشروط، وعن بعض المتقدّمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب، وتلا هذه الآية. ثم إنه تعالى أخبر عند وجود هذه الشروط بقوله تعالى: {فأولئك} أي: العالو الرتبة لجمعهم الشرائط الثلاثة {كان سعيهم مشكوراً} أي: مقبولاً مثاباً عليه بالتضعيف وبعضهم يفتح له أبواب الدنيا مع ذلك كداود وسليمان عليهما السلام ويستعمله فيها بما فيه مرضاة الله تعالى وبعضهم يزويها عنه كرامة له لا هواناً به فربما كان الفقر خيراً له وأعون على مراده، فالحاصل أنها إن وجدت عند الولي لم تشرفه وإن عدمت عنه لم تحقره، وإنما التشريف وغيره عند الله تعالى بالأعمال.
تنبيه: كل من أتى بفعل إما أن يقصد به تحصيل خيرات الدنيا، وإمّا أن يقصد به خيرات الآخرة، وإمّا أن يقصد به مجموعهما، وإمّا أن لا يقصد به واحداً منهما. فإن قصد به تحصيل الدنيا فقط أو تحصيل الآخرة فقط فالله ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية. وأمّا القسم الثالث فيقسم إلى ثلاثة أقسام: إمّا أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً أو يكون الطلبان متعادلين، فإن كان طلب الآخرة راجحاً فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى؟ فيه رأيان:
أحدهما أنه غير مقبول لقوله صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الله تعالى أنه قال: «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه» . وأيضاً طلب رضوان الله إمّا أن يكون سبباً مستقلاً لكونه باعثاً لهم على ذلك الفعل وداعياً إليه، وإمّا أن لا يكون، فإن كان الأوّل امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدعاء لأنّ الحكم إذا أسند لسبب تام كامل امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه، وإن كان الثاني فيكون الداعي إلى ذلك الفعل هو المجموع، وذلك المجموع ليس هو طلب رضوان الله لأنّ المجموع الحاصل من الشيء ومن غيره يجب أن يكون مغايراً لطلب رضوان الله فوجب أن لا يكون مقبولاً.
الرأي الثاني: أنه مقبول لأنّ طلب الآخرة لما كان راجحاً على(2/292)
طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل فبقي القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فوجب كونه مقبولاً، وأمّا إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين أو كان طلب الدنيا راجحاً فقد اتفقوا على أنه غير مقبول إلا أنه على كل حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكلية عن طلب الآخرة.
وأمّا القسم الرابع وهو الإقدام على الفعل من غير داع فهذا مبنّي على أنّ صدور الفعل من القادر هل يتوقف على حصول الداعي أم لا فالذين يقولون إنه يتوقف على حصول الداعي قالوا هذا القسم ممتنع الحصول والذين قالوا لا يتوقف قالوا هذا الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث. ثم إنه تعالى قال:
{كلاًّ} أي: من الفريقين مريد الدنيا ومريد الآخرة {نمدّ} أي: بالعطاء ثم أبدل من كلاً قوله تعالى {هؤلاء} أي: الذين طلبوا الدنيا نمدّ {وهؤلاء} أي: الذين طلبوا الآخرة نمدّ {من عطاء ربك} أي: المحسن إليك إن ضيق على مؤمن فبالحماية من الدنيا الفانية التي إنما هي لعب ولهو وإن وسع فبالاستعمال فيها على حسب ما يرضيه {وما كان عطاء ربك} أي: الموجد لك المدبر لأمرك {محظوراً} أي: ممنوعاً في الدنيا عن مؤمن ولا كافر بل هو ملء السهل والجبل من الذهب والفضة والحديد والنحاس والجواهر والثمار وأقوات الناس والبهائم وغير ذلك مما لا يحصيه إلا الله تعالى حتى لو اجتمع كل الناس على جمعه ليلاً ونهاراً ولم يكن لهم شغل سوى ذلك لأعياهم ولم يقدروا عليه فسبحان الجواد المعطي المانع ثم إنه تعالى أمر بالنظر في عطائه هذا على وجه مرغب في الآخرة مزهد في الدنيا بقوله تعالى:
{انظر} أي: أيها الإنسان أو يا محمد {كيف فضلنا بعضهم على بعض} فأوسعنا على مؤمن وقترنا على مؤمن آخر وأوسعنا على كافر وقترنا على كافر آخر وبين سبحانه وتعالى وجه الحكمة في التفاوت في سورة الزخرف بقوله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} (الزخرف، 32)
الآية. وقال تعالى في آخر سورة الأنعام: {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} (الأنعام، 65)
. تنبيه: كيفَ: نصب إمّا على التشبيه بالظرف وإما على الحال وهي معلقة لانظر بمعنى فكر أو أبصر. ولما نبه تعالى على أن ما نراه من التفضيل إنما هو بمحض قدرته أخبر أنّ ما بعد الموت كذلك بقوله تعالى: {وللآخرة أكبر} أي: أعظم {درجاتٍ وأكبر تفضيلاً} من درجات الدنيا ومن تفضيلها فإنّ نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا فإن كان الإنسان تشتدّ رغبته في طلب فضيلة الدنيا فبأن تقوى رغبته في طلب الآخرة أحرى لأنها دار المقامة. روي أنّ قوماً من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله تعالى عنه فخرج الأذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمرو: إنما أوتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة. ولما بيّن تعالى أنّ الناس فريقان منهم من يريد بعمله الدنيا فقط وهم أهل العذاب ومنهم من يريد طاعة الله وهم أهل الثواب، ثم شرط في ذلك ثلاثة شروط فصل تلك المجملات وبدأ أولاً بشرح حقيقة الإيمان وأشرف أجزاء الإيمان هو التوحيد ونفي الشريك والأضداد بقوله تعالى:
{لا تجعل مع الله}(2/293)
أي: الذي له جميع صفات الكمال {إلها آخر} قيل الخطاب مع النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، والأولى أنه للإنسان فيكون خطاباً عامّاً لكل من يصلح أن يخاطب به. {فتقعد} أي: فيتسبب عن ذلك أن تقعد أي: تصير في الدنيا قبل الآخرة {مذموماً مخذولاً} لأنّ المشرك كاذب والكاذب يستوجب الذمّ والخذلان ولأنه قد ثبت بالدليل أنه لا إله ولا مدبر إلا الله تعالى فحينئذ تكون جميع النعم حاصلة من الله تعالى فمن أشرك بالله فقد أضاف بعض تلك النعم إلى غير الله فاستحق الذمّ والخذلان. تنبيه: قال الواحدي: قوله تعالى: {فتقعد} ()
انتصب لأنه وقع بعد الفاء جواباً للنهي وانتصابه بإضمار أن كقولك لا تنقطع عنا فنجفوك والتقدير لا يكن منك انقطاع فيحصل أن نجفوك فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدّمة بحرف الفاء وإنما سماه النحويون جواباً لكونه مشابهاً للجزاء وأنّ الثاني مسبب عن الأوّل كما تقرّر. ولما ذكر تعالى ما هو الركن الأعظم في الإيمان أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائعه وذلك أنواع الأوّل أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى ويتحرّز عن عبادة غيره وهذا هو المراد من قوله تعالى:
{وقضى} أي: أمر {ربك} أي: المحسن إليك وقوله تعالى: {أن لا تعبدواً} أي: أنت وجميع أهل دعوتك وهم جميع الناس {إلا إياه} فيه وجوب عبادة الله تعالى والمنع من عبادة غيره لأنّ العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن له الإنعام والإفضال على عباده ولا منعم إلا الله تعالى فكان هو المستحق للعبادة لا غيره.
تنبيه: روى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: كان الأصل ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين بالصاد فقرئ وقضى ربك ثم قال: ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأنّ خلاف قضاء الله ممتنع وهذا القول كما قاله الرازي بعيد جدّاً إذ لو فتح هذا الباب لارتفع الأمان عن القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا شك أنه طعن عظيم في الدين ويندفع ما قاله بما فسر قضى به. ولما أمر تعالى بعبادة نفسه أتبعه بالأمر ببر الوالدين بقوله تعالى: {وبالوالدين} أي: وأحسنوا أي: وأوقعوا الإحسان بهما. {إحساناً} أي: بأن تبروهما ليكون الله معكم فإنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
تنبيهان: أحدهما المناسبة بين الأمر بعبادة الله تعالى والأمر ببر الوالدين من وجوه الأوّل أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق الله تعالى وإيجاده والسبب الظاهر هو الأبوان فأمر الله تعالى بتعظيم السبب الحقيقي ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري. الثاني: أنّ الموجود إمّا قديم وإمّا محدث ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الموجود القديم بالتعظيم والعبودية ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم «التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وأحق الخلق بالشفقة الأبوان لكثرة إنعامهما على الإنسان» فقوله تعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى. وقوله تعالى: {بالوالدين إحساناً} إشارة إلى الشفقة على خلق الله. الثالث: أنّ الاشتغال بشكر المنعم واجب ثم المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى وقد يكون بعض المخلوقين منعماً عليك وشكره أيضاً واجب لقوله صلى الله عليه وسلم «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» ، وليس لأحد(2/294)
من الخلائق نعمة على الإنسان مثل الأبوين لأن الولد قطعة من الوالدين قال صلى الله عليه وسلم «فاطمة بضعة مني» وأيضاً شفقة الوالدين على الولد عظيمة وإيصال الخير إلى الولد منهما أمر طبيعي واحترازهما عن إيصال الضرر إليه أمر طبيعي أيضاً فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة بل هي أكبر من كل نعمة تصل من الإنسان إلى الإنسان وأيضاً حال ما يكون الإنسان في غاية الضعف ونهاية العجز يكون إنعام الأبوين في ذلك الوقت واصلاً إلى الولد، وإذا وقع الإنعام على هذا الوجه كان موقعه عظيماً وأيضاً فإيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض فكان الإنعام فيه أتم وأكمل فثبت بهذه الوجوه أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد، فلهذا بدأ الله بشكر نعمة الخالق وهو قوله تعالى: {وقضى ربك
أن لا تعبدوا إلا إياه} ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين وهو قوله تعالى: {وبالوالدين إحساناً} . فإن قيل: الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لأنفسهماً فلزم منه دخول الولد في الوجود ودخوله في عالم الآفات والمخالفات فأي: إنعام للأبوين على الولد، حتى أنّ بعض المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة وقيل لأبي العلاء المعري ماذا نكتب على قبرك فقال: اكتبوا على قبري: هذا جناية أبي علي وما جنيت على أحد. وقال في ترك التزوج والولد:
*وتركت فيهم نعمة العدم التي
... فيهم لقد سبقت نعيم العاجل
*ولو أنهم ولدوا لعانوا شدّة
... ترمي بهم في موبقات الآجل
وقيل لإسكندر: أستاذك أعظم منة عليك أم والدك؟ فقال: أستاذي أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد عند تعليمي فأوقعني في نور العلم، وأمّا الوالد فإن طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد. ومن الكلمات المأثورة المشهورة خير الآباء من علمك. أجيب: بأنه وإن كان في أوّل الأمر طلب لذة الوقاع إلا أنّ الاهتمام بإيصال الخيرات إليه ودفع الآفات عنه من أوّل دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يصل إليه من جهات الخيرات والمبرات فسقطت تلك الشبهات.
التنبيه الثاني: أن لفظ الآية يدل على معان كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين منها أنه تعالى قال في الآية المتقدمة: {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً} ثم أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة وجعل من جملتها البر بالوالدين، وذلك يدل على أنّ هذه الطاعة من أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة، ومنها أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى وثلث ببر الوالدين، وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة منها أنه تعالى لم يقل وإحساناً بالوالدين بل قال {وبالوالدين إحساناً} فتقديم ذكرهما يدل على شدّة الاهتمام بهما. ومنها أنه تعالى قال: {إحساناً} بلفظ التنكير، والتنكير يدل على التعظيم أي: إحساناً عظيماً كاملاً لأنّ إحسانهما إليك(2/295)
قد بلغ الغاية العظيمة فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ثم على جميع التقديرات لا تحصل المكافأة لأن إنعامهما عليك على سبيل الابتداء. وفي الأمثال المشهورة أنّ البادئ بالبرّ لا يكافأ.
ولما كان سبحانه وتعالى عليماً بما في الطباع من ملال الولد لهما عند أخذهما في السنّ قال تعالى: {إما} مؤكداً بإدخال ما على إن الشرطية لزيادة التقرير للمعنى اهتماماً بشأن الوالدين {يبلغن عندك الكبر} أي: كأن يضطرا إليك في حالة الضعف والعجز فلا يكون لهما كافل غيرك فيصيرا عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أوّله {أحدهما أو كلاهما} . وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الغين وكسر النون فالألف ضمير الوالدين لتقدّم ذكرهما وأحدهما بدل منه أو كلاهما عطف عليه فاعلاً أو بدلاً. فإن قيل: هلا كان كلاهما توكيداً لا بدلاً أجيب: بأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيد الاثنين فوجب أن يكون مثله. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون أحدهما بدلاً وكلاهما توكيداً ويكون ذلك عطفاً للتوكيد على البدل؟ أجيب: بأنّ العطف يقتضي المشاركة فجعل أحدهما بدلاً والآخر توكيداً خلاف الأصل، وقرأ الباقون بغير ألف وفتح النون والإعراب على هذا ظاهر، وجميع القرّاء يشدّدون النون.
ثم أنه تعالى أمر الإنسان في حق والديه بخمسة أشياء: الأوّل منها قوله تعالى: {فلا تقل لهما أفّ} أي: لا تتضجر منهما قال الزجاج: أف معناه النتن وهذا قول مجاهد لأنه قال معنى قوله {فلا تقل لهما أف} أي: لا تتقذرهما كما أنهما كانا لا يتقذران منك حين كنت تخرأ وتبول.
وفي رواية أخرى عن مجاهد إذا وجدت منهما رائحة توذيك {فلا تقل لهما أفّ} فلقد بالغ سبحانه وتعالى بالوصية بهما حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده ونظمهما في سلك القضاء بهما معاً ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخِّص في أدنى كلمة تنفلت من التضجر مع موجبات الضجر ومقتضياته ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في الاستطاعة وقد قال صلى الله عليه وسلم «إياكم وعقوق الوالدين فإنّ الجنة يوجد ريحها مع مسيرة ألف عام، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زانٍ، ولا جارّ إزاره خيلاء، إن الكبرياء لله رب العالمين» . وسئل الفضيل بن عياض عن برّ الوالدين فقال: لا يقوم إلى خدمتهما عن كسل. وقرأ نافع وحفص بالتنوين في الفاء مع الكسر وابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين، والباقون بكسر الفاء من غير تنوين.
الثاني قوله تعالى: {ولا تنهرهما} أي: لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره. قال تعالى: {وأمّا السائل فلا تنهر} (الضحى، 10)
. فإن قيل: المنع من التأفيف يدل على المنع من الانتهار بالأولى فما فائدة ذكره؟ أجيب: بأن المراد بالمنع من التأفيف المنع من إظهار الضجر بالقليل والكثير والمراد من منع الانتهار المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الردّ عليهما والتكذيب لهما.
الثالث قوله تعالى: {وقل لهما قولاً كريماً} أي: حسناً جميلاً طيباً ليناً كما يقتضيه حسن الأدب معهما. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو أن يقول يا أبتاه يا أمّاه. وسئل سعيد بن المسيب رضي الله عنه عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ. وعن عطاء أنه قال: هو أن يتكلم معهما بشرط أن لا يرفع إليهما بصره(2/296)
ولا يشتد إليهما نظره وذلك أنّ هذين الفعلين ينافيان القول الكريم. فإن قيل: إبراهيم الخليل عليه السلام قال لأبيه: {إني أراك وقومك في ضلال مبين} مع أنه عليه السلام من أعظم الناس أدباً وحلماً وكرماً؟ أجيب: بأن حق الله تعالى مقدّم على حق الأبوين فإقدام إبراهيم عليه السلام على ذلك الإيذاء إنما كان تقديماً لحق الله تعالى. والرابع قوله تعالى:
{واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة} أي: لا من أجل الامتثال للأمر وخوف العار فقط بل من أجل الرحمة لهما بأن لا تزال تذكر نفسك بالأوامر والنواهي وبما تقدّم لهما من الإحسان إليك والمقصود المبالغة في التواضع وهذه استعارة بليغة. قال القفال: وفي تقريره وجهان:
الأوّل أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه فلهذا صار خفض الجناح كناية عن جنس التربية فكأنه قال للولد أكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك، كما فعلا ذلك بك حال صغرك.
والثاني أنّ الطائر إذا أراد الطيران نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع وإذا أراد ترك الطيران خفض جناحيه ولم يرفع فجعل خفض الجناح كناية عن التواضع واللين. فإن قيل: كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له؟ أجيب: بوجهين: الأوّل: أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال حاتم الجود فكما أنّ المراد هناك حاتم الجواد فكذا هنا المراد اخفض لهما جناحك الذليل، الثاني: أنّ مدار الاستعارة على الخيلان فهنا تخيل للذل جناحاً خفيضاً كما جعل لبيد للشمال يداً وللقرة زماماً في قوله:
*وغداة ريح قد كشفت وقرة
... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فأثبت للشمال يداً وللقرة زماماً ووضع زمامها في يد الشمال فكذا هنا ومن ظريف ما حكي أنّ أبا تمام لما نظم قوله:
*لا تسقني ماء الملام فإنني
... صبّ قد استعذبت ماء بكائي
جاءه رجل بقصعة وقال له: اعطني شيئاً من ماء الملام فقال له: حتى تأتيني بريشة من جناح الذل يريد أنّ هذا مجازاً استعاره لذلك وقال بعضهم:
*راشوا جناحي ثم بلوه بالندى
... فلم أستطع من حبهم أن أطيرا
الخامس قوله تعالى: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً} أي: لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله أن يرحمهما برحمته الباقية واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك هذا إذا كانا مسلمين، فإن كانا كافرين فإنّ الدعاء لهما بالرحمة منسوخ بقوله تعالى: {ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} (التوبة، 113)
بل يدعو الله تعالى لهما بالهداية والإرشاد فإذا هداهما فقد رحمهما. وسئل بعضهم عن برّ الوالدين فقال: لا ترفع صوتك عليهما ولا تنظر إليهما شزراً ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن، وأن تترحم عليهما ما عاشا. وتدعو لهما إذا ماتا وتقوم بخدمة أودّائهما من بعدهما لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أبرّ البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه» .
تنبيه: قد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها ما روي عن أبي هريرة أنه قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحسن الناس بصحبتي؟ فقال: أمّك ثم أمّك ثم أبوك ثم أبوك ثم أدناك فأدناك» .(2/297)
ومنها عنه أيضاً أنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أرغم الله أنفه أرغم الله أنفه أرغم الله أنفه. قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة» . ومنها ما روي عنه أيضاً أنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه» . ومنها ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد. فقال: أحيّ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد» . ومنها ما رواه الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين» . ومنها ما «روي عن أبي الدرداء أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ إن شئت أو ضيِّع» . ومنها ما «روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها قلت: ثم أيّ؟ قال: برّ الوالدين. قلت: ثم أيّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله» . وسئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت فقال: ذلك واصل إليه ولا شيء أنفع لهم من الاستغفار ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الوالدين. ولقد كرّر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز الوصية بالوالدين. ومنها ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» . ومنها ما روي عن سعيد بن المسيب أنّ البارّ بوالديه لا يموت ميتة سوء. ومنها ما «روي أنّ رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ أبويّ بلغا من الكبر أنى ألى منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما قال: لا فإنهما
كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما» . ومنها ما رواه أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ، ورغم أنف رجل أتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك أبويه الكبر فلم يدخلاه الجنة» . ومنها ما روي «أنّ رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أباه وأنه يأخذ ماله فدعاه فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال: إنه كان ضعيفاً وأنا قويّ وفقيراً وأنا غنيّ فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي واليوم أنا ضعيف وهو قويّ وأنا فقير وهو غنيّ ويبخل عليّ بماله فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما من حجر ولا مدر يسمع بهذا إلا بكى ثم قال للولد: أنت ومالك لأبيك» . وشكا إليه آخر سوء خلق أمّه فقال: «لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر قال: إنها سيئة الخلق قال: لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين قال: إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها واظمأت لك نهارها قال: لقد جازيتها. قال: ما فعلت؟ قال: حججت بها على عنقي. قال: ما جزيتها» . وعن ابن عمر أنه رأى رجلاً في الطواف يحمل أمّه ويقول:
*أنا لها مطية لا تذعر
... إذا الركائب نفرت لا تنفر
*ما حملت وأرضعتني أكثر
... الله ربي ذو الجلال الأكبر
تظنني جزيتها يا ابن عمر قال: لا، والله ولا زفرة واحدة. ولما كان ما ذكر في حق الوالدين عسراً جدّا يحذر من التهاون به أشار بقوله تعالى:
{ربكم} أي: المحسن إليكم في الحقيقة فإنه هو الذي عطف عليكم من يربيكم وهو الذي أعانهم على ذلك {أعلم} أي: من كل أحد {بما في نفوسكم}(2/298)
من قصد البرّ بهما وغيره، فلا يظهر أحدكم غير ما يبطن فإنّ ذلك لا ينفعه ولا ينجيه إلا أن يحمل نفسه على ما يكون سبباً لرحمتهما {إن تكونوا صالحين} أي: متقين محسنين في نفس الأمر والصلاح استقامة الفعل على ما يدعو الدليل إليه. وأشار تعالى إلى أنه لا يكون ذلك إلا بمعالجة النفس وترجيعها كرة بعد كرّة بقوله تعالى: {فإنه كان للأوابين} أي: الرجاعين إلى الخير مرّة إثر مرّة بعد جماح أنفسهم عنه {غفوراً} أي: بالغ الستر بمن وقع منه تقصير فرجع عنه فإنه مغفور له. ولما حث تعالى على الإحسان للوالدين بالخصوص عمّ بالأمر بالإحسان لكل ذي قرابة ورَحِمٍ وغيره بقوله تعالى:
{وآت ذا القربى} من جهة الأب والأمّ وإن بعد {حقه} والخطاب لكل أحد أن يؤتي أقاربه حقوقهم من صلة الرحم والمودّة والزيارة وحسن المعاشرة والمعاضدة ونحو ذلك. وقيل إن كانوا محتاجين ومحاويج وهو موسر لزمه الإنفاق عليهم عند الإمام أبي حنيفة وقال الشافعيّ: لا يلزم إلا نفقة الوالد على ولده والولد على والده فقط، وقيل المراد بالقرابة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم {و} آت {المسكين} حقه وإن لم يكن قريباً {و} آت {ابن السبيل} وهو المسافر المنقطع عن ماله ليكون متقياً محسناً.
ولما رغب تعالى في البذل وكانت النفس قلما يكون فعلها قواماً بين الإفراط والتفريط أتبع ذلك بقوله تعالى: {ولا تبذر} بتفريق المال سرفاً وهو بذله فيما لا ينبغي وقد كانت الجاهلية تبذر أموالها في الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها فأمر الله تعالى بالنفقة في وجوهها مما يقرب منه ويزلف إليه وفي قوله تعالى: {تبذيراً} تنبيه على أنّ الارتفاع نحو ساحة التبذير أولى من الهبوط إلى مضيق الشح والتقتير والتبذير بسط اليد في المال على حسب الهوى. وقد سئل ابن مسعود عن التبذير فقال: إنفاق المال في غير حقه، وأمّا الجود فهو اتباع أمر الله تعالى في حقوق المال. وعن مجاهد لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيراً ولو أنفق مدّا في باطل كان تبذيراً وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه لا خير في السرف فقال: لا سرف في الخير. وعن عبد الله بن عمر قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسعد وهو يتوضأ فقال: «ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أوفي الوضوء سرف؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار» . ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين بقوله تعالى:
{إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين} أي: على طريقتهم أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف أو هم قرناؤهم وهم في النار على سبيل التوعد، ثم إنه تعالى بين صفة الشيطان بقوله تعالى: {وكان الشيطان} أي: هذا الجنس البعيد من كل خير المحترق بكل شرّ {لربه} أي: الذي أحسن إليه بإيجاده وتربيته {كفوراً} أي: ستوراً لما يقدر على ستره من آياته الظاهرة ونعمته الباهرة مع الحجة فلا ينبغي أن يطاع لأنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله.
قال بعض العلماء: خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة ثم كانوا ينفقونها في الخيلاء والتفاخر وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدّوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أفعالهم في هذا الباب(2/299)
وقوله تعالى: {وإمّا تعرضنّ عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} نزل في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب وكانوا يسألون النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك لانتظار رزق من الله يرجوه أن يأتيه فيعطيه {فقل لهم} أي: في حالة الإعراض {قولاً ميسوراً} أي: ذا يسر يشرح صدروهم ويبسط رجاءهم لأنّ ذلك أقرب إلى طريق المتقين المحسنين. قال أبو حيان: روي أنه عليه الصلاة والسلام كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل يقول: «يرزقنا الله تعالى وإياكم من فضله» انتهى. وقد وقع هذا الابتغاء موضع الفقد لأنّ فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبباً للابتغاء والابتغاء مسبباً عنه فوضع المسبب موضع السبب، ثم أمر تعالى نبيَّه بما وصف له عباده المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان بقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (الفرقان، 67)
. فقال تعالى: {ولا تجعل يدك} أي: بالبخل {مغلولة} أي: كأنها بالمنع مشدودة بالغل {إلى عنقك} أي: لا تستطيع مدّها أي: لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، والمعنى لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط {ولا تبسطها} بالبذل {كل البسط} فتبذر بحيث لا يبقى في يدك شيء. ذكر الحكماء في كتب الأخلاق أنّ لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان والخلق الفاضل هو العدل والوسط، فالبخل إفراط في الإمساك والتبذير إفراط في الإنفاق وهما مذمومان والمعتدل هو الوسط. وعن جابر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيّ فقال: يا رسول الله إنّ أمي تستكسيك درعاً أي: قميصاً ولم يكن لرسول. الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه فقال للصبيّ: «من ساعة إلى ساعة» . هذا متعلق بمحذوف، أي: أخر سؤالك من ساعة ليس لنا فيها درع إلى ساعة يظهر لنا فيها درع فعد إلينا فذهب إلى أمّه فقالت له: قل له إنّ أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزع قميصه فأعطاه وقعد عرياناً أي: في إزار ونحوه فأذن بلال بالصلاة فانتظره فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عرياناً. فأنزل الله تعالى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} » . فتعطي جميع ما عندك.
تنبيه: ما ذكرته عن جابر تبعاً «للكشاف» والبيضاوي والرازي وغيرهم قال الوليّ العراقي: لم أقف عليه وكذا قال الحافظ ابن حجر وقد يقال من حفظ حجة على من لم يحفظ.
{فتقعد} أي: توجد كالمقعد {ملوماً} أي: بليغ الرسوخ فيما يلام بسببه عند الله لأنّ ذلك مما نهى الله عنه عند نفسك وعند الناس لأنه يلوم نفسه وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المال بالكلية. {محسوراً} أي: منقطعاً بك لذهاب ما تقوى به. قال القفال: شبه حال من أنفق كل ماله بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته لأنّ ذلك المقدار من المال كأنه مطية تحمل الإنسان إلى آخر الشهر والسنة، كما أنّ ذلك البعير يحمله ويبلغه إلى آخر المنزل فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطريق عاجزاً متحيراً فكذلك الإنسان إذا أنفق مقدار ما يحتاج إليه في مدّة شهر في أقل منه بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً ومن فعل ذلك لحقه اللوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب(2/300)
سوء تدبيره وترك الحرم في مهمات معاشه ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{إن ربك} أي: المحسن إليك {يبسط الرزق} أي: بوسعه {لمن يشاء} البسط دون غيره {ويقدر} أي: يضيقه سواء قبض يده أم بسطها لأنّ الرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ورفع درجاته على مقدار الصلاح في الصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض، لأنّ ذلك هو الصلاح قال تعالى: {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء} (الشورى، 27)
. {إنه كان بعباده خبيراً} أي: بالغ الخبر {بصيراً} أي: بالغ البصر بما يكون من كل من القبض والبسط لهم مصلحة ومفسدة فالتفاوت في أنه ربى العباد ليس لأجل بخل بل لأجل رعاية مصلحة لا يعلم بها العبد فسبحان المتصرف في عباده كيف يشاء. ولما أتم سبحانه وتعالى الوصية بالأصول وما يتبع ذلك أوصى بالفروع بقوله تعالى:
{ولا تقتلوا أولادكم} فذكرهم بلفظ الولد الذي هو داعية إلى الحنو والعطف {خشية إملاق} أي: فقر متوقع لم يقع بعد ثم وصل بذلك استئنافاً بقوله تعالى: {نحن نرزقهم وإياكم} مقدّماً ضمير الأولاد لكون الإملاق مترقباً من الإنفاق عليهم ثم علل تعالى ذلك بما هو أعم منه فقال تعالى: {إن قتلهم} أي: مطلقاً لهذا أو لغيره {كان خطأ} أي: إثماً {كبيراً} أي: عظيماً وقرأ ابن كثير بفتح الطاء ومدّ بعدها مدّاً متصلاً، وقرأ ابن ذكوان بفتح الخاء والطاء ولا مدّ بعد الطاء والباقون بكسر الخاء وسكون الطاء. قال الرمانيّ: الخطء بكسر ثم سكون لا يكون إلا تعمداً إلى خلاف الصواب والخطأ أي: محركاً قد يكون من غير تعمد.
وإنما وجب بر الأولاد لأمور: أحدها أنهم في غاية الضعف ولا كافل لهم غير الوالدين وإنما وجب برّ الوالدين مكافأة لما صدر منهما من أنواع البر إلى الولد. الثاني أنّ امتناع الآباء من البرّ بالأولاد يقتضي خراب العالم.
الثالث: أنّ قرابة الولادة قرابة الجزئية والبعضية وهي من أعظم الموجبات للمحبة فلو لم تحصل المحبة دل ذلك على غلظ شديد في الروح وقسوة في القلب، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة فرغب الله تعالى في الإحسان إلى الأولاد إزالة لهذه الخصلة الذميمة وعبر تعالى بالأولاد ليشمل الإناث، فإنّ العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على النهب والغارة عليهم وأيضاً كانوا يخافون أنهنّ بعد كبرهنّ تفقد أكفاؤهنّ فيحتاجون إلى إنكاحهنّ من غير أكفاء وفي ذلك عار شديد فنهاهم الله تعالى عن ذلك فإنّ الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولداً وهذا المعنى وصف مشترك بين الذكور والإناث وأما ما يخاف من الفقر في البنات فقد يخاف مثله في الذكور في حال الصغر وقد يخاف أيضاً في العاجزين من البنين، وكما أنه سبحانه وتعالى يفتح أبواب الرزق على الذكور فكذلك على الإناث. ولما كان في قتل الأولاد حظ من البخل وفي فعل الزنا داع من الإسراف أتبعه به فقال تعالى:
{ولا تقربوا الزنا} أدنى قرب ولو بفعل شيء من مقدماته وإنما أتى تعالى بالقربان تعظيماً له لما فيه من المفاسد الجارّة إلى الفتن بالقتل وتضييع النسب والتسبب في إيجاد نفس بالباطل وغير ذلك ثم علل تعالى النهي عن ذلك بقوله تعالى مؤكداً إبلاغاً في التنفير عنه لما للنفس من شدّة الداعية إليه. {إنه كان فاحشة} أي: فعله ظاهرة القبح زائدته وقد نهاكم الله تعالى عن(2/301)
الفحشاء في قوله تعالى: {إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء} (النحل، 90)
الآية. {وساء} أي: وبئس الزنا {سبيلاً} أي: طريقاً طريقه ثم نهى سبحانه وتعالى عن القتل مطلقاً عن التقييد بالأولاد بغير حق بقوله تعالى:
{ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله} أي: بالإسلام والعهد {إلا بالحق} وهو المبيح للقتل، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم إمرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ رجل كفر بالله بعد إيمانه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفساً بغير حق» . ومثل انتقال المسلم من دين الإسلام إلى دين الكفر انتقال كافر من دين إلى دين آخر سواء كان ذلك الدين يقرّ عليه أم لا، ومن ذلك قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} (التوبة، 29)
وقوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا} (المائدة، 33)
. واختلف الفقهاء في أشياء غير ذلك منها أنّ تارك الصلاة كسلاً هل يقتل فعند الشافعيّ يقتل بشروط معلومة، وعند أبي حنيفة لا يقتل التارك كالزاني. ومنها أنّ عمل اللواط هل يوجب القتل فعند الشافعيّ يوجب قتل الفاعل كالزاني، وعند أبي حنيفة لا يوجبه. ومنها أنّ الساحر إذا قال قتلت فلاناً بسحري عمداً هل يوجب القتل فعند الشافعيّ يوجبه وعند أبي حنيفة لا يوجبه. ومنها أنّ القتل بالمثقل هل يوجب القصاص فعند الشافعيّ يوجب وعند أبي حنيفة لا يوجب. ومنها الامتناع من أداء الزكاة هل يوجب القتل اختلفوا فيه في زمان أبي بكر رضي الله عنه.
ومنها أنّ إتيان البهيمة هل يوجب القتل فعند أكثر الفقهاء لا يوجب وعند قوم يوجبه ولكل ممن ذكر أدلة يستدل بها رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ثم قال تعالى: {ومن قتل مظلوماً} أي: بأي: ظلم كان من غير أن يرتكب ما يبيح قتله {فقد جعلنا لوليه} أي: سواء كان قريباً أم بعيداً {سلطاناً} أي: أمراً متسلطاً به. وقوله تعالى: {فلا يسرف في القتل} قرأ حمزة والكسائيّ بالتاء على الخطاب أي: أيها الوليّ والباقون بالياء على الغيبة أي: الوليّ وفسر الإسراف بوجوه الأول: أن يقتل القاتل وغير القاتل وذلك أنّ أولياء المقتول كانوا إذا قتل واحد من قبيلة شريفة قتلوا خلقاً من القبيلة الدنيئة فنهى الله تعالى عنه وحكم بقتل القاتل وحده. الثاني: أنّ الإسراف هو أن لا يرضى بقتل القاتل فإنّ الجاهلية كانوا يقصدون أشرف القبائل ثم يقتلون منهم قوماً معينين ويتركون القاتل. الثالث: أنّ الإسراف هو أن لا يكتفي بقتل القاتل بل يقتله ثم يمثل به ويقطع أعضاءه، قال القفال: ولا يبعد حمله على الكل لأنّ حمله على هذه المعاني مشترك في كونها إسرافاً. واختلف في رجوع الهاء إلى ماذا في قوله تعالى: {إنه كان منصوراً} فقال مجاهد: راجعة إلى المقتول في قوله تعالى: {ومن قتل مظلوماً} أي: أنّ المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله، وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله. وقال قتادة: راجعة لوليّ المقتول، أي: أنه منصور على القاتل باستيفاء القصاص أو الدية فليكتف بهذا القدر ولا يطمع في الزيادة، وقيل راجعة إلى القاتل الظالم أي: أن القاتل يكتفي منه باستيفاء القصاص ولا يطلب منه زيادة لأنه منصور من عند الله تعالى في تحريم طلب الزيادة منه أو أنه إذا عوقب في الدنيا بأزيد مما فعل نصر في الآخرة. وقيل راجعة إلى الدم وقيل إلى الحق.
ولما ذكر تعالى النهي عن إتلاف النفوس أتبعه بالنهي(2/302)
عن إتلاف الأموال لأنّ أعز الأشياء بعد النفوس الأموال وأحق الناس بالنهي عن إتلاف أموالهم هو اليتيم لأنه لصغره وضعفه وكمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله، فلهذا السبب خصهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم بقوله تعالى:
{ولا تقربوا مال اليتيم} عبر بالقربان الذي هو قبل الأخذ تعظيماً للمقام فهو أبلغ من قوله تعالى: {ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً} (النساء، 6)
. وفي تفسير قوله تعالى: {إلا بالتي هي أحسن} وجهان الأوّل إلا بالتصرف الذي ينميه ويكثره. الثاني: روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: إذا أحتاج أكل بالمعروف وإذا أيسر قضاه، فإن لم يوسر فلا شيء عليه، والوليّ تبقى ولايته على اليتيم. {حتى يبلغ أشدّه} وهو إيناس الرشد منه بعد بلوغه كما بين تعالى ذلك في آية أخرى وهي قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} (النساء، 6)
. ولما نهى سبحانه وتعالى عن ثلاثة أشياء وهي الزنا والقتل وأكل مال اليتيم أتبعها بثلاثة أوامر الأوّل قوله تعالى: {وأوفوا بالعهد} أي: إذا عاهدتم الله تعالى على فعل المأمورات وترك المنهيات أو الناس على فعل أو قول جائز وفي تفسير قوله تعالى: {إن العهد كان مسؤولاً} وجوه الأوّل: أن يراد أنّ صاحب العهد كان مسؤولاً فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله تعالى: {واسأل القرية} (يوسف، 82)
. ثانيها: {أنّ العهد كان مسؤولاً} أي: مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي. ثالثها: أن يكون هذا تخييلاً كأن يقال للعهد لم نكثت وهلا أوفى بك تبكيتاً للناكث كما يقال للموؤدة {بأي ذنب قتلت} (التكوير، 9)
. وكقوله تعالى لعيسى عليه السلام: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين} (المائدة، 116)
والمخاطبة لعيسى عليه السلام والإنكار على غيره، الأمر الثاني: قوله تعالى:
{وأوفوا الكيل إذا كلتم} أي: لغيركم فإن كلتم لأنفسكم فلا جناح عليكم إن نقصتم عن حقكم ولم تفوا الكيل. الأمر الثالث: قوله تعالى: {وزنوا} أي: وزناً متلبساً {بالقسطاس} أي: ميزان العدل الذي هو أقوم الموازين وزاد في تأكيد معناه فقال: {المستقيم} دون شيء من الحيف.
تنبيه: القسطاس رومي عرب ولا يقدح ذلك في عربية القرآن لأنّ الأعجمي إذا استعملته العرب وأجرته مجرى كلامهم في الإعراب والتعريف والتنكير ونحوها صار عربياً وقرأ حفص والكسائي وحمزة بكسر القاف والباقون بضمها. {ذلك} أي: الأمر العالي الرتبة الذي أخبرناكم به من الإيفاء بالتمام والكمال {خير} لكم في الدارين الدنيا والآخرة من التطفيف بالكيل أو الوزن من حيث أن الإنسان يتخلص بواسطته عن الذكر القبيح في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة وإن تراءى لكم أن التطفيف خير {وأحسن تأويلاً} أي: عاقبة في الدارين، أما في الدنيا فلأنه اشتهر بالاحتراز عن التطفيف عول الناس عليه ومالت القلوب إليه وحصل له الاستغناء في الزمان القليل وكم رأينا من الفقراء من اشتهروا عند الناس بالأمانة والاحتراز عن الخيانة انقلبت القلوب عليهم وحصلت الأموال الكثيرة لهم، وأمّا في الآخرة فالفوز بالثواب العظيم والخلاص من العقاب الأليم والتأويل وهو تفعيل من الأول وهو الرجوع أو أفعل التفضيل هنا لاستعمال النصفة بإرخاء العنان أي: على تقدير أن يكون في كل منهما خير فهذا المعنى الذي ذكرناه أزيد خيراً والعاقل لا يرضى لنفسه بالدون.
ولما شرح(2/303)
الله تعالى الأوامر الثلاثة عاد إلى ذكر النواهي فنهى عن ثلاثة أشياء أوّلها قوله تعالى:
{ولا تقف} أي: لا تتبع أيها الإنسان {ما ليس لك به علم} من قول أو فعل وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوماً وهو قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة، واختلف المفسرون فيها فقال ابن عباس: لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك. وقال قتادة: لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر وعلمت ولم تعلم. وقيل المراد النهي عن القذف، وقيل المراد النهي عن الكذب. وقيل المراد نهي المشركين عن اعتقاداتهم وتقليد أسلافهم لأنّ الله تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتباع الهوى فقال تعالى: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظنّ وما تهوى الأنفس} (النجم، 23)
. وقيل القفو هو البهت وأصله من القفا كأنه يقال خلفه وهو في معنى الغيبة. قال صلى الله عليه وسلم «من قفا مؤمناً بما ليس فيه حبسه الله تعالى في ردغة الخبال» وراه الطبراني وغيره وردغة بسكون الدال وفتحها عصارة أهل النار. وقال الكميت:
*ولا أرمي البريء بغير ذنب
... ولا اقفو الحواصن إن قفينا
ببناء قفينا للمفعول والحواصن النساء العفائف واللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقييد. تنبيه: يقال قفوت أثر فلان أقفوا إذا اتبعت أثره، وسميت قافية الشعر قافية لأنّ البيت يقفو البيت وسميت القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقفاء الناس أو آثار أقدامهم ويستدلون بها على أحوال الناس. وقال تعالى: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا} (الحديد، 27)
وسمي القفا قفاً لأنه مؤخر بدن الإنسان فإن مشى يتبعه ويقفوه. فإن قيل: إنّ هذه الآية تدلّ على منع القياس فإنه لا يفيد إلا الظنّ والظنّ مغاير للعلم؟ أجيب: بأن ذلك عام دخله التخصيص فإنّ الحكم في الدين بمجردّ الظنّ جائز بإجماع الأمة وبأنّ المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند سواء كان قطعياً أم ظنياً واستعماله بهذا المعنى شائع ذائع وقد استعمل في مسائل كثيرة منها أنّ العمل بالفتوى عمل بالظنّ، ومنها أنّ العمل بالشهادة عمل بالظنّ، ومنها الاجتهاد في طلب القبلة ولا يفيد إلا الظنّ، ومنها قيم المتلفات وإرش الجنايات لا سبيل إليهما إلا بالظنّ، ومنها الفصد والحجامة وسائر المعالجات تبنى على الظنّ، ومنها بعث الحكمين في الشقاق. قال تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} (النساء 35)
وحصول ذلك الشقاق مظنون لا معلوم، ومنها الحكم على الشخص المعين بكونه مؤمناً مظنون وينبني على هذا الظنّ أحكام كثيرة مثل حصول التوارث ومثل الدفن في مقابر المسلمين، ومنها الاعتماد على صدق الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وبناء الأمر على تلك الظنون. وقال صلى الله عليه وسلم «نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» . وذلك تصريح بأنّ الظنّ معتبر فبطل قول من يقول أنه لا يجوز بناء الأمر على الظنّ، ثم علل تعالى النهي مخوّفاً بقوله تعالى: {إن السمع والبصر} وهما طريقا الإدراك {والفؤاد} الذي هو آلة الإدراك، ثم عوّل تعالى الأمر بقوله تعالى: {كل أولئك} أي: هذه الأشياء العظيمة العالية المنافع البديعة التكوين. تنبيه: أولاء وجميع أسماء(2/304)
الإشارة يشار بها للعاقل وغيره كقول الشاعر:
*ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى
... والعيش بعد أولئك الأيام
يجوز في ذم فتح الميم وكسرها وضمها وقوله بعد منزلة اللوى أي: بعد مفارقتها والإضافة في منزلة اللوى للبيان وهو ممدود ولكن قصره هنا للضرورة والعيش عطف على المنازل والأيام صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان له {كان عنه} أي: بوعد لا خلف فيه {مسؤولاً} بسؤال يخصه.
تنبيه: ظاهر الآية يدل على أنّ الجوارح مسؤولة وفيه وجوه الأوّل: أنّ معناه أنّ صاحب السمع والبصر والفؤاد هو المسؤول لأنّ السؤال لا يصح إلا ممن كان عاقلاً وهذه الجوارح ليست كذلك بل العاقل الفاهم هو الإنسان كقوله تعالى: {واسأل القرية} (يوسف، 82)
أي: أهلها والمعنى أنه يقال للإنسان لم سمعت ما لم يحل سماعه ولم نظرت ما لم يحل نظره ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه.
الثاني: أنّ تقدير الآية أنّ أولئك الأقوام كلهم مسؤولون عن السمع والبصر والفؤاد فيقال لهم استعملتم السمع فيماذا أفي الطاعة أم في المعصية؟ وكذا القول في بقية الأعضاء وذلك لأنّ الحواس آلات النفس والنفس كالأمير لها والمستعمل لها في مصالحها فإن استعملها في الخيرات استوجب الثواب، وإن استعملها في المعاصي استحق العقاب.
الثالث: أن الله تعالى يخلق الحياة في الأعضاء ثم أنها تسأل لقوله تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} (النور، 24)
فكذلك لا يبعد أن يخلق العقل والحياة والنطق في هذه الأعضاء ثم أنها تسأل روى عن شكل بن حميد قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبيّ الله علمني تعويذاً أتعوذ به فأخذ بيدي ثم قال: «قل أعوذ بك من شرّ سمعي وشر بصري وشرّ لساني وشرّ قلبي وشرّ منيي» قال: فحفظتها، قال سعد: المني ماؤه.
النهي الثاني: قوله تعالى:
{ولا تمش في الأرض} أي: جنسها {مرحاً} أي: ذا مرح وهو شدّة الفرح والمراد من الآية النهي عن أن يمشي الإنسان مشياً يدل على الكبرياء والعظمة. قال الزجاج: ولا تمش في الأرض مختالاً فخوراً، ونظيره قوله تعالى في سورة الفرقان: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} (الفرقان، 63)
وقال تعالى في سورة لقمان: {واقصد في مشيك واغضض من صوتك} (لقمان، 19)
وقال تعالى فيها: {ولا تمش في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحب كل مختال فخور} (لقمان، 18)
. ثم علل تعالى النهي عن ذلك بقوله تعالى: {إنك لن تخرق الأرض} أي: تثقبها حتى تبلغ آخرها بكبرك {ولن تبلغ الجبال طولاً} أي: بتطاولك وهو تهكم بالمختال لأنّ الاختيال حماقة مجردة لا تفيد شيئاً ليس في التذلل وفي ذلك إشارة إلى أنّ العبد ضعيف لا يقدر على خرق أرض ولا وصول إلى جبال فهو محاط به من فوقه ومن تحته بنوعين من الجمادات وهو أضعف منهما بكثير والضعيف المحصور لا يليق به التكبر فكأنه قيل له تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله محصور بين حجارة وتراب فلا تفعل فعل المقتدر القوي وقيل ذكر ذلك لأن من مشى خيلاء يمشي مرّة على عقبيه ومرّة على صدور قدميه فقيل له إنك لن تثقب الأرض إن مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولا إن مشيت على صدور قدميك. قال عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا مشى تكفأ تكفأ كأنما ينحط من صبب» . وروى(2/305)
أبو هريرة رضي الله عنه قال: «ما رأيت أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنّ الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا وإنه غير مكترث» . وقوله تعالى: {كل ذلك} إشارة إلى ما نهى عنه مما تقدّم فإنّ الذي تقدّم منهيات ومأمورات وجملة ذلك من قوله تعالى: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر} (الإسراء، 22)
إلى هنا خمسة وعشرون وها أنا أسردها لك تسهيلاً عليك. فأوّلها: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر} (الإسراء، 22)
. وثانيها وثالثها: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} لاشتماله على تكليفين الأمر بعبادة الله تعالى والنهي عن عبادة غيره. ورابعها: {وبالوالدين إحساناً} . خامسها: {فلا تقل لهما أف} . سادسها: {ولا تنهرهما} . سابعها: {وقل لهما قولاً كريماً} ثامنها: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} . تاسعها: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} . عاشرها: {وآت ذا القربى حقه} . حادي عشرها: {والمسكين} . ثاني عشرها: {وابن السبيل} . ثالث عشرها: {ولا تبذر تبذيراً} . رابع عشرها: {فقل لهم قولاً ميسوراً} . خامس عشرها: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} . سادس عشرها: {ولا تبسطها كل البسط} . سابع عشرها: {ولا تقتلوا أولادكم} . ثامن عشرها: {ولا تقتلوا النفس} . تاسع عشرها: {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً} . عشروها: {فلا يسرف في القتل} حادي عشريها: {وأوفوا بالعهد} ثاني عشريها: {وأوفوا الكيل} . ثالث عشريها: {وزنوا بالقسطاس المستقيم} . رابع عشريها: {ولا تقف ما ليس لك به علم} . خامس عشريها: {ولا تمش في الأرض مرحا} . فكل هذه تكليفات بعضها أوامر وبعضها نواه فالمنهي عنه هو الذي الذي قال تعالى فيه: {كان سيئه عند ربك مكروهاً} أي: يبغضه والعاقل لا يفعل ما يكرهه المحسن إليه. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة وبالتاء منونة منصوبة وقرأ الباقون بضم الهمزة والهاء مضمومة من غير تنوين.
والمعنى على هذا ظاهر، أي: إن سيئ تلك الأقسام يكون مكروهاً، وأمّا القراءة الأولى فسيئة خبر كان وأنث حملاً على معنى كل ثم قال مكروهاً حملاً على لفظها. وقال الزمخشري: إن السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والاسم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنثيه ولا فرق بين سيئة وسيأ ألا ترى أنك تقول الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة فلا فرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث، وفي نصب مكروهاً أوجه أحدها: أنه خبر ثان لكان. الثاني: أنه بدل من سيئة وضعف بأن البدل بالمشتق قليل. الثالث: أنه حال من الضمير المستتر في عند ربك لوقوعه صفة لسيئه. الرابع: أنه نعت لسيئه وإنما ذكّرَ وصف سيئه لأن تأنيثه وتأنيث موصوفه مجازي، وردّ بأن ذلك إنما يجوز حيث أسند إلى المؤنث المجازي، أما إذا أسند إلى ضميره فلا نحو الشمس طالعة فلا يجوز طالع.
وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى الأحكام المتقدّمة في الأوامر والنواهي {مما أوحى إليك} يا أشرف الخلق {ربك} أي: المحسن إليك {من الحكمة} التي هي معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، وإنما سميت هذه الأمور حكمة لوجوه الأول: أنّ حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد، وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة فالآتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان، بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعياً إلى دين الرحمن. الثاني: أنّ هذه الأحكام المذكورة في هذه(2/306)
الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال فكانت محكمة، وحكمة من هذا الاعتبار. الثالث: أنّ الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، كما مرّت الإشارة إليه، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب عليها ولا ينحرف عنها فثبت أنّ الأشياء المذكورة من هذه الآيات عين الحكمة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام وجعل سبحانه وتعالى فاتحتها قوله تعالى: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر} وخاتمتها قوله تعالى: {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر} تنبيهاً على أنّ التوحيد مبدأ الأمور ومنتهاه، وأنّ من قصد بفعل أو ترك غيره ضاع سعيه وأنه رأس الحكمة وملاكها ورتب عليه ما هو عائدة الشرك في قوله تعالى أوّلاً: {ولا تجعل مع الله} ، أي: في الدنيا، وثانياً ما هو نتيجته في العقبى فقال: {فتلقى} أي: فيفعل بك في الآخرة في الحشر {في جهنم} من الإسراع فيه وعدم القدرة على التدارك فعل من ألقى من عال حال كونك. {ملوماً} أي: تلوم نفسك {مدحوراً} أي: مبعداً من رحمة الله. تنبيه: ذكره سبحانه وتعالى في الآية الأولى بقوله تعالى: {مذموماً مخذولاً} وفي هذه الآية {ملوماً مدحوراً} والفرق بين الذم واللوم هو أن يذكر له أنّ الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر فهذا
معنى كونه مذموماً ثم يقال له فعلت هذا الفعل القبيح وما الذي حملك عليه فهذا هو اللوم فأوّل الأمر يصير مذموماً وآخره يصير ملوماً، والفرق بين المخذول والمدحور هو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال تخاذلت أعضاؤه، أي: ضعفت والمدحور هو المطرود والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه وكونه مدحوراً عبارة عن إهانته فيصير أوّل الأمر مخذولاً وآخره مدحوراً. وقوله تعالى:
{فأصفاكم ربكم بالبنين} خطاب للذين قالوا الملائكة بنات الله والهمزة للإنكار، أي: أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون، ولم يجعل فيهم نصيباً لنفسه {واتخذ من الملائكة إناثاً} أي: بنات لنفسه وهذا خلاف ما عليه معقولكم وعادتكم، فإنّ العبيد لا يستأثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوائب ويكون أردؤها وأدونها للسادات {إنكم لتقولون قولاً عظيماً} بإضافة الأولاد إليه لأن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركباً من الأبعاض والأجزاء وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجود لذاته، وأيضاً فبتقدير ثبوت الولد فقد جعلوا أشرف القسمين لأنفسهم وأخس القسمين لله تعالى وهذا جهل عظيم، وأيضاً جعلوا الملائكة الذين هم من أشرف خلق الله الذين منهم من يقدر على حمل الأرض وقلب أسفلها على أعلاها إناثاً في غاية الرخاوة.
ولما كان في هذا من البيان ما لا يخفى على إنسان ولم يرجعوا أشار إلى أنّ لهم مثل هذا الإعراض عن أمثال هذا البيان فقال تعالى:
{ولقد صرّفنا} أي: بينا بياناً عظيماً بأنواع طرق البيان من العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام في قوالب الوعد والوعيد والأمر والنهي والمحكم والمتشابه إلى غير ذلك {في هذا القرآن} أي: في مواضع منه من الأمثال كما قال تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل(2/307)
مثل} (الروم، 58)
قيل لفظة في زائدة كما في قوله تعالى: {وأصلح لي في ذريتي} (الأحقاف، 15)
. ورد بأنّ في لا تزاد وما ذكر متأوّل كما يأتي إن شاء الله تعالى في الأحقاف والتصريف لغة صرف الشيء من جهة إلى أخرى ثم صار كناية عن التبيين قاله أبو حيان. وقوله تعالى: {ليذكروا} متعلق بصرفنا وقرأ حمزة والكسائي بسكون الذال ورفع الكاف من غير تشديد من الذكر الذي هو بمعنى التذكر والباقون بفتح الذال والكاف مع تشديدهما. {وما يزيدهم} أي: التصريف {إلا نفوراً} أي: تباعداً عن الحق وقلة طمأنينة إليه، وعن سفيان كان إذا قرأها قال: زادني ذلك لك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً. ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{قل} أي: لهؤلاء المشركين ولا تيأس من رجوع بعضهم. {لو كان معه آلهة كما تقولون} من هذه الأقوال التي لو قالها أعظمكم في حق أدناكم وهو يريد بها حقيقتها لصار ضحكة للعباد {إذا لابتغوا} أي: طلبوا طلباً عظيماً {إلى ذي العرش} أي: صاحب السرير الأعظم المحيط الذي من ناله كان منفرداً بالتدبير {سبيلاً} أي: طريقاً سالكاً يتوصلون به إليه ليقهروه ويزيلوا ملكه كما ترون فعل ملوك الدنيا بعضهم مع بعض أو ليتخذوا عنده يداً يقربهم إليه، وقرأ ابن كثير وحفص بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب وأدغم أبو عمرو الشين من العرش في السين بخلاف عنه.
ثم نزه سبحانه وتعالى نفسه فقال عز من قائل:
{سبحانه} أي: تنزه التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص {وتعالى} أي: علا أعلى العلوّ بصفات الكمال {عما يقولون} أي: من هذه النقائص التي لا يرضاها لنفسه أحد من عقلاء خلقه {علوّاً} أي: تعالياً {كبيراً} أي: متباعداً غاية البعد عما يقولون فإنه تعالى في أعلى مراتب الوجود وهو كونه واجب الوجوب والبقاء لذاته.
تنبيه: جعل العلوّ مصدر التعالي ومصدره تعالياً كما قدّرته فهو المراد ونظيره قوله تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً} (نوح، 17)
. فإن قيل: ما الفائدة في وصف ذلك العلو بالكبير؟ أجيب: بأنّ المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد منافاة بلغت في القوّة والكمال إلى حيث لا تعقل الزيادة عليها لأنّ المنافاة بين الواجب لذاته وبين الممكن لذاته وبين القديم والمحدث وبين الغني والمحتاج منافاة لا تعقل الزيادة عليها فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبير. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة، ثم استأنف تعالى بيان عظمة هذا التنزيه مقروناً بالوصف بالكمال فقال:
{تسبح} أي: توقع التنزيه الأعظم {له} أي: الإله الأعظم الذي تقدّم وصفه بالجلال والإكرام خاصة {السموات السبع والأرض} أي: السبع {ومن فيهنّ} أي: من ذوي العقول {وإن} أي: وما وأغرق في النفي فقال: {من شيء} أي: ذي عقل أو غيره {إلا يسبح بحمده} أي: يقول سبحان الله العظيم وبحمده، أو يقول سبحان الله وبحمده. وقال ابن عباس: وإنّ من شيء حيّ إلا يسبح بحمده. وقال قتادة: يعني الحيوانات والناميات. وقال عكرمة: الشجرة تسبح والإسطوانة تسبح وعن المقداد بن عدي: التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح والورقة تسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت التسبيح والماء يسبح ما دام جارياً فإذا ركد ترك التسبيح والثوب يسبح ما دام جديداً فإذا وسخ ترك التسبيح. وقال السيوطي:(2/308)
في جواب سؤال عن ذلك:
*قد خصصت آية الأسرى بمتصف
... وصف الحياة كرطب الزرع والشجر
*فيابس مات لا تسبيح منه كذا
... وما زال عن موضع كالقطع للحجر
وقال إبراهيم النخعي: وإنّ من شيء جماد وحيّ إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف، وقال مجاهد: كل الأشياء تسبح لله تعالى حيواناً كانت أو جماداً وتسبيحها سبحان الله وبحمده يدل على ذلك ماروي عن ابن مسعود كنا نعدّ الآيات بركة وأنتم تعدّونها تخويفاً كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلَّ الماء فقال صلى الله عليه وسلم «اطلبوا فضلة من ماء فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل فأدخل يده صلى الله عليه وسلم في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من الله فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يأكل» . وعن جابر بن سمرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ بمكة حجراً كان يسلم عليّ ليالي بعثت إني لأعرفه الآن» . وعن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع فلما اتخذ له المنبر تحوّل إليه فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه وفي رواية فنزل فاحتضنه وساره بشيء ففي هذه الأحاديث دليل على أنّ الجماد يتكلم وأنه يسبح.
وقال بعض أهل المعاني: تسبيح السموات والأرض والجمادات والحيوانات سوى العقلاء بلسان الحال حيث تدلّ على الصانع وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك ويصير لها بمنزلة التسبيح. قال البغوي: والأول أصح وهو المنقول عن السلف. وقال ابن الخازن: القول الأول أصح لما دلت عليه الأحاديث وأنه منقول عن السلف. قال البغوي: واعلم أنّ لله تعالى علماً في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن يوكل علمه إليه {ولكن لا تفقهون} أي: لا تفهمون {تسبيحهم} أي: لأنه ليس بلغتكم {إنه كان حليماً غفوراً} . ولما ذكر سبحانه وتعالى إثبات الإلهية أتبعه بذكر تقرير النبوّة بقوله تعالى:
{وإذا قرأت القرآن} أي: الذي لا يدانيه واعظ ولا يساويه مفهم وهو تبيان لكل شيء {جعلنا} أي: بما لنا من العظمة {بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً} أي: يحجب قلوبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم والانتفاع به. قال قتادة: هو الأكنة فالمستور بمعنى الساتر كقوله تعالى: {كان وعده مأتياً} (مريم، 61)
مفعول بمعنى فاعل وقيل: مستوراً عن أعين الناس فلا يرونه وفسره بعضهم بالحجاب عن الأعين الظاهرة كما روي عن سعيد بن جبير أنه لما نزلت {تبت يدا أبي لهب} (المسد، 1)
جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه فلم تره فقالت لأبي بكر: أين صاحبك؟ لقد بلغني أنه هجاني. فقال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله فرجعت وهي تقول: قد كنت جئت بهذا الحجر لأرض به رأسه فقال أبو بكر: ما رأتك يا رسول الله؟ قال: «لا ما يزل ملك بيني وبينها يسترني» .
{وجعلنا} أي: بما لنا من العظمة {على قلوبهم أكنة} أي: أغطية كراهية {أن يفقهوه} أي: يفهموه أي: يفهموا القرآن حق فهمه {وفي آذانهم وقراً} أي: شيئاً ثقيلاً يمنع سماعهم، وعن أسماء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ومعه أبو بكر إذ أقبلت امرأة أبي لهب ومعها فهر تريد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تقول: مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا. فقال أبو بكر: يا رسول الله معها(2/309)
فهر أخشاها عليك، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فجاءت وما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إني رأيت قريشاً قد علمت أني ابنة سيدها وإنّ صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا ورب الكعبة ورب هذا البيت ما هجاك. وروى ابن عباس أنّ أبا سفيان والنضر بن الحارث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبيّ صلى الله عليه وسلم ويسمعون حديثه فقال النضر يوماً: ما أرى ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه يتحرّكان بشيء. وقال أبو سفيان: إني لا أرى بعض ما يقوله إلا حقاً. وقال أبو جهل: هو مجنون. وقال أبو لهب: هو كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى: هو شاعر، فنزلت هذه الآية. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاث آيات وهي في سورة الإسراء: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً} (الإسراء، 46)
. وفي سورة النحل {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم} (النحل، 108)
وفي حم الجاثية {أفرأيت من أتخذ إلهه هواه} (الجاثية، 23)
إلى آخر الآية، فكان الله تعالى يحجبه ببركة هذه الآيات عن عيون المشركين {وإذا ذكرت ربك} أي: المحسن إليك وإليهم {في القرآن وحده} أي: مع الإعراض عن آلهتهم كأن قلت وأنت تتلو القرآن لا إله إلا الله.
تنبيه: في نصب وحده وجهان أحدهما أنه منصوب على الحال وإن كان معرفة لفظاً في قوّة النكرة إذ هو في معنى منفرداً. والثاني: أنه منصوب على الظرف. {ولّوا على أدبارهم نفوراً} أي: هرباً من استماع التوحيد. تنبيه: في نفوراً وجهان أحدهما مصدر من غير اللفظ مؤكد لأنّ التولي والنفور بمعنى والثاني أنه حال من فاعل ولوا وهو حينئذٍ جمع نافر كقاعد وقعود وشاهد وشهود والضمير في ولوا يعود إلى الكفار وقيل يعود إلى الشيطان وإن لم يجر لهم ذكر. قال المفسرون: إنّ القوم كانوا عند استماع القرآن على أقسام منهم من كان يلهو عند استماعه. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه ويساره إخوان من ولد قصيّ يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار، ومنهم من كان إذا سمع من القرآن ما فيه ذكر الله تعالى بقوا مبهوتين لا يفهمون منه شيئاً ومنهم من إذا سمع آيات فيها ذكر الله تعالى وذم المشركين ولوا نفوراً وتركوا ذلك المجلس. ولما كانوا ربما ادّعوا السمع والفهم فشككوا بعض من لم يرسخ إيمانه أتبعه تعالى بقوله تعالى:
{نحن أعلم} أي: من كل عالم {بما يستمعون} أي: يبالغون في الإصغاء والميل لقصد السمع {به} من الآذان والقلوب أو بسببه ولأجله من الهزء بك وبالقرآن {إذ يستمعون} أي: يصغون بجهدهم {إليك} أي: إلى قراءتك {وإذ} أي: حين {هم} ذو {نجوى} أي: يتناجون بأن يرفع كل منهم بصره إلى صاحبه بعد إعراضهم عن الاستماع ثم ذكر تعالى ظرف النجوى بقوله تعالى: {إذ} وهو بدل من إذ قبله {يقول الظالمون} وقولهم {إن} أي: ما {تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} أي: مخدوعاً مغلوباً على عقله. وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر علياً أن يتخذ طعاماً ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل ذلك ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال:
قولوا لا إله إلا الله حتى تطيعكم العرب وتدين لكم العجم» فأبوا عليه ذلك وكانوا عند استماعهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم القرآن والدعوى إلى الله تعالى يقولون: {إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} .(2/310)
فإن قيل: أنهم لم يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يصح أن يقولوا {إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} أجيب: بأنّ معناه إن اتبعتموه فقد اتبعتم رجلاً مسحوراً. وقرأ ابو عمرو وابن ذكوان وعاصم وحمزة بكسر التنوين في الوصل والباقون بالضم ثم قال تعالى:
{انظر كيف ضربوا} أي: هؤلاء الضُّلال {لك الأمثال} التي هي أبعد شيء من صفتك من قولهم كاهن وساحر وشاعر ومعلم ومجنون. {فضلوا} عن الحق في جميع ذلك {فلا} أي: فتسبب عن ذلك أنهم لا {يستطيعون سبيلاً} أي: وصولاً إلى طريق الحق. ولما جرت عادة القرآن بإثبات التوحيد والنبوّة والمعاد وقدم الدلالة على الأوّلين وختم بإثبات جهلهم في النبوّة مع ظهورها أتبع ذلك أمراً جلياً في ضلالهم عن السبيل في أمر المعاد وقرّره غاية التقرير، وحرّه أتم تحرير. قال تعالى معجباً منهم:
{وقالوا} أي: المشركون المنكرون للتوحيد والنبوّة والبعث مع اعترافهم بأنا ابتدأنا خلقهم ومشاهدتهم في كل وقت إنا نحيي الأرض بعد موتها وقولهم: {أئذا} استفهام إنكاري كأنهم على ثقة من عدم ما ينكرونه والعامل في إذا فعل من لفظ مبعوثون لا هو فإن ما بعد إنّ لا يعمل فيما قبلها فالمعنى أنبعث إذا {كنا} أي: بجملة أجسامنا كوناً لازماً {عظاماً ورفاتاً} أي: حطاماً مكسراً مفتتاً أو غباراً. وقال الفراء: هو التراب وهو قول مجاهد ويؤيده أنه قد يكرر في القرآن تراباً وعظاماً. ويقال للتبن الرفات لأنه دقاق الزرع. {أئنا لمبعوثون} حال كوننا مخلوقين {خلقاً جديداً} .
تنبيه: تقرير شبهة هؤلاء الضلال هي أنّ الإنسان جفت أعضاؤه وتناثرت وتفرقت في جوانب العالم واختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء العالم فالأجزاء المائية مختلطة بمياه العالم والأجزاء الترابية مختلطة بالتراب، والأجزاء الهوائية مختلطة بالهواء فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرّة أخرى وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرّة أخرى هذا تقرير شبهتهم؟ أجيب: عنها بأنها لا تتم إلا بالقدح في كمال علم الله تعالى وفي كمال قدرته فإنه تعالى قادر على كل الممكنات فهو قادر على إعادة التأليف والتركيب والحياة والعقل إلى تلك الأجزاء بأعيانها فمن سلم كمال علم الله تعالى وكمال قدرته زالت عنه هذه الشبهة بالكلية. ولما كان كأنه قيل فماذا يقال لهم في الجواب؟ فقال:
{قل} لهم يا أشرف الخلق لا تكونوا رفاتاً بل {كونوا} أصلب من التراب {حجارة} أي: هي في غاية اليبس {أو حديداً} أي: زائداً على يبس الحجارة لشدّة اتصال الأجزاء. تنبيه: ليس المراد به أمر إلزام بل المراد لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة وذلك كقول القائل أتطمع فيّ وأنا فلان فيقول كن من شئت كن ابن الخليفة فسأطلب منك حقي.
{أو خلقاً} غير ذلك {مما يكبر} أي: يعظم عظمة كبيرة {في صدوركم} أي: مما يكبر عندكم عن قبول الحياة لكونه أبعد شيء منها فإنّ الله تعالى قادر على إعادة الحياة إليها. وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأكثر المفسرين: أنه الموت فإنه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت، أي: لو كنتم الموت بعينه لأميتنكم ولأبعثنكم، وقيل السموات والأرض والجبال لأنها من أعظم المخلوقات {فسيقولون} تمادياً في الاستهزاء {من يعيدنا} إذا كنا كذلك {قل الذي فطركم} أي: ابتدأ خلقكم {أوّل مرّة} ولم تكونوا شيئاً يعيدكم بالقدرة التي ابتدأكم بها فكما لم تعجز تلك(2/311)
عن البداءة فهي لا تعجز عن الإعادة {فسينغضون} أي: يحركون {إليك رؤوسهم} تعجباً واستهزاء كأنهم في شدة جهلهم على غاية البصيرة من العلم بما يقولون والنغض والإنغاض تحريك بارتفاع وانخفاض {ويقولون} استهزاء {متى هو} أي: البعث والقيامة. قال الرازي: واعلم أنّ هذا السؤال فاسد لأنهم حكموا بامتناع الحشر والنشر بناء على الشبهة التي تقدمت ثم إنّ الله تعالى بيَّن بالبرهان الباهر كونه ممكناً في نفسه فقولهم متى هو كلام لا تعلق له بالمبحث فإنه لما ثبت بالدليل العقلي كونه ممكن الوجود في نفسه وجب الاعتراف بإمكانه فأما أنه متى يوجد فذلك لا يمكن إثباته من طريق العقل بل إنما يمكن إثباته بالدليل السمعي فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعين عرف وإلا فلا سبيل إلى معرفته لأنه تعالى بين في القرآن انه لا يطلع احداً من الخلق على وقته المعين فقال تعالى: {إنّ الله عنده علم الساعة} (لقمان، 34)
وقال: {إنما علمها عند ربي} (الأعراف، 187)
. وقال تعالى: {إنّ الساعة آتية اكاد أخفيها} (طه، 15)
فلا جرم. قال تعالى: {قل عسى أن يكون قريباً} قال المفسرون: عسى من الله واجب ومعناه أنه قريب إذ كل آت قريب وأمال متى وعسى حمزة والكسائي إمالة محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح وقوله تعالى:
{يوم يدعوكم} بدل من قريباً والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم، أي: بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال تعالى: {يوم ينادي المنادي من مكان قريب} (ق، 41)
. روي أنّ إسرافيل ينادي أيها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرّقة عودي كما كنتِ. {فتستجيبون} أي: تجيبون والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه وهي الإجابة إلا أنّ الاستجابة تقتضي طلب الموافقة فهي آكد من الإجابة واختلف في معنى قوله تعالى: {بحمده} فقال ابن عباس: بأمره. وقال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون سبحانك اللهمّ وبحمدك فيحمدونه حين لا ينفعهم الحمد. وقال قتادة: بمعرفته وطاعته. وقال أهل المعاني: تستجيبون بحمده، أي: تستجيبون حامدين كما تقول جاء بغضبه، أي: جاء غضبان وركب الأمير بسيفه، أي: وسيفه معه. وقال الزمخشريّ: بحمده حال منهم، أي: حامدين وهي مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر يعني أنك تحمل عليه وتقسر عليه قسراً حتى إنك تلين لين المستميح الراغب فيه الحامد عليه {وتظنون أن} أي: ما {لبثتم إلا قليلاً} أي: مع استجابتكم وطول لبثكم وشدّة ما ترون من الهول فعندها تستقصرون مدّة لبثكم في الدنيا وتحسبونها يوماً أو بعض يوم. وعن قتادة تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة وقال الحسن: معناه تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا ولم تكن وبالآخرة ولم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدّة اللبث في الدنيا وقيل المراد استقلال مدّة لبثهم في برزخ القيامة لأنه لما كان عاقبة أمرهم الدخول في النار استقصروا لبثهم في برزخ القيامة. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند التاء المثناة والباقون بالإدغام. ولما ذكر تعالى الحجة اليقينية في صحة المعاد وهو قوله تعالى: {قل الذي فطركم أوّل مرّة} قال تعالى:
{وقل} يا محمد {لعبادي} أي: المؤمنين لأنّ لفظ العباد في أكثر(2/312)
آيات القرآن مختص بالمؤمنين قال تعالى: {فبشر عبادي الذين يستمعون القول} (الزمر: 17، 18)
. وقال تعالى: {فادخلي في عبادي} (لبفجر، 29)
. وقال تعالى: {عيناً يشرب بها عباد الله} (الإنسان، 6)
. {يقولوا} للكفار الذين كانوا يؤذونهم الكلمة {التي هي أحسن} ولا يكافؤهم على سفههم بل يقولون يهديكم الله وكان هذا قبل الأذن بالقتال وقيل نزلت في عمر بن الخطاب شتمه بعض الكفار فأمره الله تعالى بالعفو وقيل أمرالمؤمنين بأن يقولوا ويفعلوا الخلة التي هي أحسن وقيل الأحسن قول لا إلى إلا الله، ثم علل بقوله تعالى: {إن الشيطان} أي: البعيد عن الرحمة المحترق باللعنة {ينزغ بينهم} أي: يفسد ويغري بعضهم على بعض ويوسوس لهم لتقع بينهم المشارّة والمشاقة وأصل النزغ الطعن وهم غير معصومين فيوشك أن يأتوا بما لا يناسب الحال. ثم علل تعالى هذه العلة بقوله تعالى: {إنّ الشيطان كان} أي: في قديم الزمان وأصل الطبع كوناً هو مجبول عليه {للإنسان عدوًّا} أي: بليغ العداوة {مبيناً} أي: بين العداوة، ثم فسر تعالى التي هي أحسن مما علمهم ربهم من النصفة بقوله تعالى:
{ربكم أعلم بكم} فعلم أنّ قوله تعالى: {إن الشيطان} إلى آخره جملة اعتراضية بين المفسر والمفسر وسكن أبو عمرو الميم وأخفاها عند الباء بخلاف عنه وكذا أعلم بمن ثم استأنف تعالى: {إن يشأ} أي: رحمتكم {يرحمكم} أي: بهدايتكم {أو إن يشأ} تعذيبكم {يعذبكم} أي: بإضلالكم فلا تحتقروا أيها المؤمنون المشركين فتقطعوا بأنهم من أهل النار فتعيروهم بذلك، فإنه يجرّ إلى غيظ القلوب فلا فائدة لأنّ الخاتمة مجهولة ولا تتجاوزوا فيهم ما أمركم الله به من قول وفعل. ثم رقى الله الخطاب إلى أعلى الخلق، ورأس أهل الشرع ليكون من دونه أولى بالمعنى منه فقال تعالى: {وما أرسلناك} أي: مع ما لنا من العظمة الغنية عن كل شيء {عليهم وكيلا} أي: حفيظاً وكفيلاً تقسرهم على ما يرضي الله، وإنما أرسلناك على حسب ما نأمرك به بشيراً ونذيراً فدارهم ومر أصحابك بمداراتهم، وقد مرّ أنّ هذا قبل الإذن بالقتال. ولما أمرهم بأن ينسبوا الأعلمية بهم إليه تعالى أخبر بما هو أعم من ذلك قاصراً الخطاب على أعلم خلقه بقوله تعالى:
{وربك} أي: المحسن إليك بأن جعلك أكمل الخلق {أعلم بمن في السموات والأرض} فعلمه غير مقصور عليكم بل متعلق بجميع الموجودات والمعدومات، ومتعلق بجميع ذات الأرضين والسموات، فيعلم تعالى حال كل أحد، ويعلم ما يليق به من المفاسد والمصالح، ويعلم اختلاف صورهم وأديانهم وأخلاقهم وأحوالهم وجميع ما هم عليه سبحانه وتعالى، لا تخفى عليه خافية، فيفضل بعض الناس على بعض على حسب إحاطة علمه وشمول قدرته، وبعض النبيين على بعض كما قال تعالى: {ولقد فضلنا} بما لنا من العظمة {بعض النبيين} سواء كانوا رسلاً أم لا {على بعض} بعد أن جعلنا لكل فضلاً لتقوى كل منهم وإحسانه، فخصصنا كلاً منهم بفضيلة كموسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة، ومحمد صلى الله عليه وسلم بالإسراء، فلا ينكر أحد من العرب، أو بني إسرائيل أو غيرهم، تفضيلنا لهذا النبي الكريم، الذي صدرنا السورة بتفضيله على جميع الخلائق، فإذا نفعل ما نشاء بما لنا من القدرة التامة والعلم الشامل. وقرأ نافع بالهمزة والباقون بالياء، وورش على أصله يمد على الهمزة ويوسط ويقصر. {وآتينا} موسى التوراة(2/313)
و {داود زبوراً} وعيسى الإنجيل، فلم يبعد أيضاً أن نؤتي محمداً صلى الله عليه وسلم القرآن، ولم يبعد أن نفضله على جميع الخلق. فإن قيل: ما السبب في تخصيص داود عليه السلام بالذكر هنا؟ أجيب: بأوجه الأول أنه تعالى ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض، ثم قال: {وآتينا داود زبوراً} يعني أنّ داود أوتي ملكاً عظيماً، ثم إنه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك، وذكر ما آتاه من الكتاب تنبيهاً على أنّ الفضل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدين لا بالمال. الثاني: أنه تعالى كتب في الزبور أنّ محمداً خاتم الأنبياء، وأنّ أمّة محمد خير الأمم قال تعالى: {ولقدكتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون} (الأنبياء، 105)
وهم محمد صلى الله عليه وسلم وأمّته.
فإن قيل: هلا عرفه كقوله: {ولقد كتبنا في الزبور} ؟ أجيب: بأنّ التنكير هنا يدل على تعظيم حاله؛ لأنّ الزبور عبارة عن المزبور، فكان معناه الكتاب، وكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً، ويجوز أنّ يكون زبوراً علماً، فإذا دخلت عليه أل كقوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور} كانت للمح الأصل كعباس، والعباس وفضل والفضل الثالث أنّ كفار قريش ماكانوا أهل نظر وجدل بل كانوا يرجعون إلى اليهود في إستخراج الشبهات واليهود كانوا يقولون أنّه لا نبيّ بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة فنقض الله عليهم كلامهم بإنزال الزبور على داود.
وروى البخاري في التفسير عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه لتسرج فكان يقرأ قبل أن يفرغ» ، أي: القرآن قال البقاعي: ومن أعظم المناسبات لتخصيص داود عليه السلام وزبوره بالذكر هنا، ذكر البعث الذي هذا مقامه فيه صريحاً، وكذا ذكر النار مع خلو التوراة عن ذلك. أمّا البعث فلا ذكر له فيها أصلاً، وأمّا النار فلم يذكر شيء مما يدل عليها إلا الجحيم في موضع واحد، وأمّا الزبور فذكر فيه النار والهاوية والجحيم في غير موضع انتهى. وقرأ حمزة بضم الزاي والباقون بالفتح، واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
{قل ادعوا الذين زعمتم} أنهم آلهة {من دونه} أي: من سواه كالملائكة وعزير والمسيح. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي بضم اللام من قل وكسرها عاصم وحمزة كل هذا في حال الوصل، وأما الابتداء فالجميع ابتدؤوا بهمزة مضمومة {فلا يملكون كشف الضر} أي: البؤس الذي من شأنه أن يمرض الجسم كله {عنكم} حتى لا يدعوا شيئاً منه {ولا تحويلاً} له إلى غيركم. فقال ابن عباس: إنها نزلت في الذين عبدوا المسيح وعزيراً والملائكة والشمس والقمر والنجوم، وقيل: إنّ قوماً عبدوا نفراًمن الجنّ فأسلم النفر من الجن وبقي أولئك القوم متمسكين بعبادتهم فنزلت فيهم هذه الآية. وقيل إنّ المشركين أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف، فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعوا لهم فنزل {قل} للمشركين {ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه} (الأنعام، 94)
وليس المراد الأصنام لأنه تعالى قال في وصفهم:
{أولئك الذين يدعون} أي: يدعونهم الكفار ويتألهونهم {يبتغون} أي: يطلبون طلباً عظيماً {إلى ربهم} أي: المحسن إليهم {الوسيلة} أي: المنزلة والدرجة والقربة لأعمالهم الصالحة، وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتة. وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم وحمزة والكسائي بضم(2/314)
الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم. تنبيه: أولئك مبتدأ وخبره يبتغون ويكون الموصول نعتاً أو بياناً أو بدلاً، والمراد باسم الإشارة الأنبياء أو الملائكة الذين عبدوا من دون الله والمراد بالواو والعباد لهم، ويكون العائد على الذين محذوفاً أو المعنى أولئك الأنبياء الذين يدعونهم المشركون لكشف ضرّهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة {أيهم أقرب} أي: يتسابقون بالأعمال مسابقة من يطلب كل منهم أن يكون إليه أقرب ولديه أفضل {ويرجون رحمته} رغبة فيما عنده {ويخافون عذابه} فهم كغيرهم موصوفون بالعجز والحاجة فكيف يدعونهم آلهة، وقيل معناه أن الكفار ينظرون أيهم أقرب إلى الله تعالى فيتوسلون به. ثم علل خوفهم بأمر عامّ بقوله تعالى: {أنّ عذاب ربك} أي: المحسن إليك برفع انتقام الاستئصال منه عن أمّتك {كان} أي: كوناً لازماً {محذوراً} جديراً بأن يحذر لكل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل، فضلاً عن غيرهم لما شوهد من إهلاكه للقرون الماضية ولما قال تعالى: {إنّ عذاب ربك كان محذوراً} بين بقوله تعالى:
{وإن} أي: وما {من قرية إلا ونحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً} إنَّ كل قرية، أي: أهلها لابد وأن يرجع حالهم إلى أحد أمرين: إما الإهلاك بالموت والإستئصال، وإمّا العذاب بالقتل وأنواع البلاء. وقال مقاتل: أمّا الصالحة فبالموت وأمّا الطالحة فبالعذاب. وقال عبد الله بن مسعود: إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله تعالى في هلاكها. {كان ذلك} أي: الأمر العظيم {في الكتاب} أي: اللوح المحفوظ {مسطوراً} أي: مكتوباً. قال عبادة بن الصامت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أول ما خلق الله القلم فقال اكتب فقال وما أكتب قال: القدر ما كان وما هو كائن إلى أبد الأبد» أخرجه الترمذي. ولما كان كفار قريش قد تكرر اقتراحهم للآيات وكان صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على إيمان كل أحد يحب أن الله تعالى يجيبهم إلى مقترحهم طمعاً في إيمانهم فأجاب الله تعالى بقوله:
{وما منعنا} أي: على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ولا يمنعها مانع {أن نرسل بالآيات} أي: التي اقترحوها كما حكى الله تعالى عنهم ذلك في قولهم {فأتنا بآية كما أرسل الأوّلون} (الأنبياء، 5)
وقال آخرون {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} (الإسراء، 90)
الآيات. وقال سعيد بن جبير: أنهم قالوا إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء منهم من سخرت له الريح ومنهم من أحيا الموتى فأتنا بشيء من هذه المعجزات فكان كأنه لا آيات عندهم سوى ذلك {إلا} علمنا في عالم الشهادة بما وقع من {أن كذب بها} أي: المقترحات {الأولون} وعلمنا في عالم الغيب أنّ هؤلاء مثل الأوّلين أن الشقّي منهم لا يؤمن بالمقترحات كما لم يؤمن بغيرها وأنه يقول فيها ما قال في غيرها من أنها سحر ونحو ذلك، والسعيد لا يحتاج في إيمانه إليها فكم أجبنا أمّة إلى مقترحها فما زاد ذلك أهل الضلالة منهم إلا كفراً فأخذناهم لأنّ سنتنا جرت أنَّا لا نمهل بعد الإجابة إلى المقترحات من كذب بها. قال ابن عباس: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا تلك الأراضي فطلب صلى الله عليه وسلم ذلك من الله تعالى فأوحى الله تعالى إليه إن شئت فعلت ذلك لكن بشرط إن لم يؤمنوا أهلكتهم فقال صلى الله(2/315)
عليه وسلم «لا أريد ذلك» فتفضل الله تعالى برحمته هذه الأمة وتشريفها على الأمم السالفة بعدم استئصالها لما يخرج من أصلاب كفرتها من خلص عباده، فلهذا السبب ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم فقال جلّ ذكره: {بل الساعة موعدها والساعة أدهى وأمرّ} (القمر، 46)
. ثم ذكر تعالى من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت إليهم فأهلكوا ما ذكره تعالى بقوله تعالى: {آتينا ثمود الناقة} حالة كونها {مبصرة} أي: مضيئة بينة جديرة بأن يستبصر بها كل من شاهدها فيستدل بها على صدق قول ذلك النبيّ {فظلموا بها} أي: ظلموا أنفسهم بتكذيبها. وقال ابن قتيبة: جحدوا بأنها من الله تعالى فأهلكناهم فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى، وخص تعالى هذه الآية بالذكر لأنّ آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم. ثم قال تعالى: {وما نرسل بالآيات} أي: المقترحات وغيرها {إلا تخويفاً} للمرسل إليهم بها فإن خافوا نجوا وإلا هلكوا بعذاب الاستئصال من كذب بالآيات المقترحات وبعذاب الآخرة من كذب بغيرها كالمعجزات وآيات القرآن فأمر من بعث إليهم مؤخراً إلى يوم القيامة.
فإن قيل: المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدل بها على صدق المدّعى فكيف حصل المقصود من إظهارها في التخويف؟ أجيب: بأنه لما كان هو الحامل والغالب على التصديق فكأنه هو المقصود ولما طلب القوم من النبي صلى الله عليه وسلم تلك الآيات المقترحات وأجاب الله تعالى بأنّ إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سبباً لجراءة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له لو كنت رسولاً حقاً من عند الله لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء، فعند هذا قوى الله تعالى قلبه وبين له أنه ينصره ويؤيده فقال تعالى:
{و} اذكر يا أشرف الخلق {إذ قلنا لك إن ربك} أي: المتفضل بالإحسان إليك بالرفق لأمتّك {أحاط بالناس} علماً وقدرة فهم في قبضته وقدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته فلا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره، وهو حافظك ومانعك منهم فلا تهتم باقتراحهم، وامض فيما أمرك به من تبليغ الرسالة فهو ينصرك ويقوّيك على ذلك كما وعدك بقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (المائدة، 67)
وقيل: إن المراد بالناس أهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم. روي أنه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه كان يدعو ويقول: «اللهمّ إني أسألك عهدك ووعدك ثم خرج وعليه الدرع يحرّض الناس ويقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} (القمر، 45)
» وكان صلى الله عليه وسلم يقول حين ورد بدراً: «والله كأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض ويقول هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان» فتسامعت قريش بما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم عطف تعالى على {وما نرسل بالآيات} قوله تعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك} أي: التي شاهدتها ليلة الإسراء {إلا فتنة} أي: امتحاناً واختباراً {للناس} لأنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر لهم قصة الإسراء كذبوه وكفر به كثير ممن كان قد آمن به وازداد المخلصون إيماناً فلهذا السبب كانت امتحاناً.
وروى البخاري في التفسير عن ابن عباس أنه قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وتقدم(2/316)
أنه قول الأكثر فمنهم سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وما قاله بعضهم من أن الرؤيا تدل على أنها رؤيا منام ضعيف إذ لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة يقال رأيته بعيني رؤية ورؤيا. فائدة: قال بعض العلماء: كانت إسراآته صلى الله عليه وسلم أربعاً وثلاثين مرّة واحدة بجسده والباقي بروحه رؤيا رآها قال ومما يدل على أنّ الإسراء ليلة فرض الصلاة كانت بالجسم ما ورد في بعض طرق الحديث أنه صلى الله عليه وسلم استوحش لما زج به في النور ولم ير معه أحداً إذ الأرواح لا توصف بالوحشة ولا بالاستيحاش قال: ومما يدلك على أنّ الإسراء كان بجسمه ما وقع له من العطش فإنّ الأرواح المجردة لا تعطش، ولما كان صلى الله عليه وسلم قد وصل الجحيم وأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ شجرة الزقوم تنبت في أصل الجحيم وكان ذلك في غاية الغرابة ضمها إلى الإسراء في ذلك بقوله تعالى: {والشجرة الملعونة في القرآن} لأنّ فيها امتحاناً أيضاً بل قال بعض المفسرين هي على التقديم والتأخير والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. واختلف في هذه الشجرة فالأكثرون قالوا: إنها شجرة الزقوم المذكورة في قوله تعالى: {إنّ شجرة الزقوم طعام الأثيم} (الدخان: 43، 44)
فكانت الفتنة في ذكر هذه الشجرة من وجهين الأول أنّ أبا جهل قال: زعم صاحبكم أنّ نار جهنم تحرق الحجارة حيث قال: {وقودها الناس والحجارة} (البقرة، 24)
ثم يقول في النار شجرة والنار تأكل الشجر فكيف يولد فيها الشجر. والثاني: قال ابن الزبعري: ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا منه فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجراً {إنا جعلناها فتنة للظالمين} (الصافات، 43)
الآيات {وما قدروا الله حق قدره} (الأنعام، 91)
من قال ذلك فإن الله تعالى قادر على أن يجعل الشجرة من جنس لا تأكله النار فهذا وبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فيذهب الوسخ وبقيت سالمة لا تعمل فيها النار، وترى النعامة تبلع الجمر وتبلع الحديد الحمر بإحماء النار فلا يضرها ثم أقرب من ذلك أنه تعالى جعل في الشجر ناراً فما تحرقه قال تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً} (يس، 80)
. فإن قيل: ليس في القرآن لعن هذه الشجرة؟ أجيب: عن ذلك بوجوه الأوّل المراد لعن الكفار الذين يأكلونها لأنّ الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن على الحقيقة، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. الثاني: أنّ العرب تقول لكل طعام ضار إنه ملعون. الثالث: أنّ اللعن في اللغة الإبعاد ولما كانت هذه الشجرة مبعدة عن صفات الخير سميت ملعونة، وقيل إنّ الشجرة الملعونة في القرآن هي اليهود لقوله تعالى: {لعن الذين كفروا} (المائدة، 78)
الآية. وقيل: هي الشيطان. وقيل أبو جهل. وعن ابن عباس هي الكشوث التي تتلوى بالشجر تجعل في الشراب.
ولما ذكر سبحانه وتعالى أنه يرسل بالآيات تخويفاً قال هنا أيضاً: {ونخوّفهم فما يزيدهم} أي: الكافرين والتخويف بالقرآن. {إلا طغياناً كبيراً} أي: تجاوز للحد هو في غاية العظم فبتقدير أن يظهر الله تعالى لهم المعجزات التي اقترحوها لم يزدادوا بها إلا تمادياً في الجهل والعناد فاقتضت الحكمة أن لا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات فإنهم قد خوّفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر، وخوّفوا بعذاب الآخرة وشجرة الزقوم فما أثر فيهم فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال(2/317)
ما يقترحون من الآيات. ولما نازع القوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين الكبر والحسد، أمّا الكبر فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد، وأمّا الحسد فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوّة فبيّن تعالى أنّ هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج عن الإيمان والدخول في الكفر بقوله تعالى:
{وإذ} أي: واذكر إذ {قلنا} بما لنا من العظمة التي لا ينقض مرادها {للملائكة} حين خلقنا أباك آدم وفضلناه {اسجدوا لآدم} أي: امتثالاً لأمري {فسجدوا إلا إبليس} أي: أبى أن يسجد لكونه ممن حقت عليه الكلمة ولم ينفعه ما يعلمه من قدرة الله وعظمته وذلك معنى قوله تعالى: {قال} أي: منكراً متكبراً {أأسجد} أي: خضوعاً {لمن خلقت} حال كون أصله {طيناً} فكفر بنسبته لنا إلى الجور متخيلاً أنه أفضل من آدم عليه السلام من حيث أن الفروع ترجع إلى الأصول وأن النار التي هي أصله أكرم من الطين الذي هو أصل آدم وذهب عنه أن الطين أنفع من النار وعلى تقدير التنزل فالجواهر كلها من جنس واحد والله تعالى هو الذي أوجدها من العدم يفضل بعضها على بعض بما يحدث فيها من الأعراض. وقد ذكر الله تعالى هذه القصة في سبع سور وهي البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص والكلام المستقصى فيها قد تقدّم في البقرة ولعل هذه القصة إنما كررت تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه فكأنه تعالى يقول ألا ترى أن أول الأنبياء هو آدم عليه السلام ثم أنه كان في محنة شديدة من إبليس وأنّ الكبر والحسد كل منهما بلية عظيمة ومحنة عظيمة للخلق وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفاً ولم يدخل ورش وابن كثير بينهما ألفاً ولورش أيضاً إبدال الثانية ألفاً، وإذا وقف حمزة سهل الثانية كقراءة ابن كثير وقرأ هشام بالتحقيق في الثانية والتسهيل وإدخال ألف بينهما. وقرأ الباقون بتحقيقهما بلا إدخال. ولما أخبر تعالى بتكبره كان كأنه قيل أن هذه الوقاحة عظيمة واجتراء على الجناب الأعلى فهل كان منه غير ذلك قيل:
{قال أرأيتك} أي: أخبرني وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ولورش وجه ثان وهو أن يبدلها ألفاً وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق. {هذا الذي كرّمت عليّ} لم كرّمته عليّ مع ضعفه وقويّ فكأنه قيل لقد أتى بالغاية في إساءة الأدب فما كان بعد هذا فقيل: قال مقسماً لأجل استبعاد أن يجترئ أحد هذه الجراءة على الملك الأعلى: {لئن أخرتن} أي: أيها الملك الأعلى تأخيراً ممتدًّا. {إلى يوم القيامة} حياً متمكناً وجواب القسم الموطأ له باللام. {لأحتنكنّ} أي: بالإغواء {ذريته} أي: لاستولين عليهم استيلاء من جعل في حنك الدابة الأسفل حبلاً يقودها به فلا تأبى عليه. وقرأ نافع وأبو عمرو بزيادة ياء بعد النون في أخرتني عند الوصل وحذفها في الوقف، وأثبتها ابن كثير وصلاً ووقفاً وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً اتباعاً للرسم.
ولما علم أنه لا يقدر على الجميع قال: {إلا قليلاً} وهم أولياؤك الذين حفظتهم مني كما قال تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} (الحجر، 42)
. فإن قيل: كيف ظنّ إبليس هذا الظنّ الصادق بذرية آدم؟ أجيب: بأوجه الأوّل: أنه سمع الملائكة يقولون {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}(2/318)
فعرف هذه الأحوال. الثاني: أنه وسوس إلى آدم ولم يجد له عزماً فقال الظاهر أن أولاده يكونون مثله في ضعف العزم. الثالث: أنه عرف أنه مركب من قوّة بهيمية شهوية وقوّة وهمية شيطانية وقوّة عقلية ملكية، وقوّة سبعية غضبية، وعرف أن بعض تلك القوى تكون هي المستولية في بعض أوّل الخلقة ثم إن القوّة العقلية إنما تكمل في آخر الأمر ومن كان كذلك كان ما ذكره إبليس لازماً له ثم كأنه قيل لقد أطال عدوّ الله الاجتراء فما قال له ربه بعد ذلك فقيل:
{قال} ممدّا له {اذهب} أي: امض لما قصدته وهو طرد وتخلية بينه وبين ما سوّلت له نفسه، وتقدّم في الحجر أنه إنما يؤخر إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم ينفخ في الصور لا أنه يؤخر إلى يوم القيامة كما طلب، وقرأ أبو عمرو وخلاد والكسائيّ بادغام الباء الموحدة في الفاء، وأظهرها الباقون.
ولما حكم تعالى بشقاوته وشقاوة من أراد طاعته له تسبب عنه قوله تعالى: {فمن تبعك منهم} أي: أولاد آدم عليه السلام {فإن جهنم} أي: الطبقة النارية التي تتجهم داخلها {جزاؤكم} أي: جزاؤك وجزاء أتباعك تجزون ذلك {جزاء موفوراً} أي: مكملاً وافياً بما تستحقون على أعمالكم الخبيثة. ولما طلب إبليس اللعين من الله تعالى الإمهال إلى يوم القيامة لأجل أن يحتنك ذرية آدم ذكر الله تعالى له أشياء الأوّل اذهب، أي: امض كما مرّ فإني أمهلتك هذه المدّة وليس من الذهاب الذي هو ضدّ المجيء. الثاني: قوله تعالى: {واستفزز} أي: استخف {من استطعت منهم} أن تستفزه وهم الذين سلطناك عليهم {بصوتك} قال ابن عباس: معناه بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية الله تعالى فهو من جند إبليس، وقيل أراد بصوتك الغناء واللهو واللعب. الثالث: قوله تعالى: {وأجلب} أي: صح {عليهم} من الجلبة وهي الصياح {بخيلك ورجلك} .
واختلفوا في الخيل والرجل على أقوال الأوّل: روى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال: كل راكب أو راجل في معصية الله تعالى وعلى هذا فخيله ورجله كل من شاركه في الدعاء إلى المعصية. الثاني: يحتمل أن يكون لإبليس جيش من الشياطين بعضهم راكب وبعضهم راجل. الثالث: أن المراد منه ضرب المثل كما يقال للرجل المجد في الأمر جدّ بالخيل والرجل. قال الرازي: وهذا أقرب. وقال الزمخشري: هو كلام ورد مورد التمثيل مثل في تسلطه على من يغويه بمغوار وقع على قوم فصوّت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقلهم عن مراكزهم وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم والخيل تقع على الفرسان قال صلى الله عليه وسلم «يا خيل الله اركبي» وقد تقع على الأفراس خاصة. وقرأ حفص عن عاصم بكسر الجيم وسكنها الباقون جمع راجل كصاحب وصحب وراكب وركب ورجل بالكسر والضم لغتان مثل حدث وحدث وهو مفرد أريد به الجمع. الرابع قوله تعالى: {وشاركهم في الأموال والأولاد} أمّا المشاركة في الأموال فقال مجاهد: هو كل ما أصيب من حرام أو أنفق في حرام. وقال قتادة: هو جعلهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقال الضحاك: هو ما يذبحونه لآلهتهم. وقال عكرمة: هو تبتيكهم آذان الأنعام وقيل هو جعلهم من أموالهم شيئاً لغير الله، كقولهم: {هذا لله} {وهذا لشركائنا} (الأنعام، 136)
ولا منافاة بين جميع هذه الأقوال. وأمّا المشاركة في الأولاد فقال عطاء عن ابن عباس: هو تسمية الأولاد بعبد شمس وعبد العزى(2/319)
وعبد الحرث وعبد الدار ونحوها وقال الحسن: هو أنهم هوّدوا أولادهم ونصروهم ومجسوهم وروي عن جعفر بن محمد أنّ الشيطان يعقد ذكره على ذكر الرجل فإذا لم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها، كما ينزل الرجل ويقال في جميع هذه الأقوال أيضاً ما تقدّم.
وروي أنّ رجلاً قال لابن عباس: إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار قال ذلك من وطء الجنّ.
وفي الآثار أنّ إبليس لمّا خرج إلى الأرض قال: يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فسلطني عليه وعلى ذرّيته. قال: أنت مسلط. قال: لا أستطيعه إلا بك فزدني قال: {استفزز من استطعت منهم بصوتك} . قال: آدم: يا رب سلطت إبليس عليّ وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك. قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظونه. قال: زدني. قال: الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها. قال: زدني. قال: التوبة مفروضة ما دام الروح في الجسد. فقال: زدني. فقال: {يا عبادي الذين أسرفوا} (الزمر، 53)
الآية.
وفي الخبر أنّ إبليس قال: يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتباً فما قرآني؟ قال: الشعر. قال: فما كتابي؟ قال: الوشم. قال: ومن رسولي؟ قال: الكهنة. قال: فما طعامي؟ قال: ما لم يذكر عليه اسمي. قال: فما شرابي؟ قال: كل مسكر. قال: وأين مسكني؟ قال: الحمامات. وقال: وأين مجلسي؟ قال: الأسواق. قال: وما حبائلي؟ قال: النساء. قال: وما أذاني؟ قال: المزمار. الخامس قوله تعالى: {وعدهم} أي: من المواعيد الباطلة ما يستخفهم ويغرّهم من ذلك وعدهم بأن لا جنة ولا نار ومن ذلك شفاعة الآلهة والكرامة على الله تعالى بالأنساب الشريفة وتسويف التوبة وإيثار العاجل على الآجل ونحو ذلك. وقوله تعالى: {وما يعدهم الشيطان} من باب الالتفات وإقامة الظاهر مقام الضمير ولو جرى على سنن الكلام الأوّل لقال وما تعدهم بالتاء من فوق.
وقوله تعالى: {إلا غروراً} فيه أوجه أحدها: أنه نعت مصدر محذوف وهو نفسه مصدر والأصل إلا وعداً غروراًز الثاني: أنه مفعول من أجله، أي: ما يعدهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغرور. الثالث: أنه مفعول به على الاتساع، أي: ما يعدهم إلا الغرور نفسه والغرور تزيين الباطل بما يظنّ أنه حق. فإن قيل: كيف ذكر الله تعالى هذه الأشياء لإبليس وهو يقول إنّ الله لا يأمر بالفحشاء؟ أجيب: بأنّ هذا على طريق التهديد كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} (فصلت، 40)
. وكقول القائل: اعمل ما شئت فسوف ترى، وكما يقال اجهد جهدك فسوف ترى ما ينزل بك. ولما قال الله تعالى له افعل ما تقدر عليه قال تعالى:
{إنّ عبادي} أي: الذين أهلتهم للإضافة إليّ فقاموا بحق عبوديتي بالتقوى والإحسان {ليس لك عليهم سلطان} أي: فلا تقدر أن تغويهم وتحملهم على ذنب لا يغفر فإني وفقتهم للتوكل عليّ فكفيتهم أمرك {وكفى بربك} أي: الموجد لك {وكيلاً} ، أي: حافظاً لهم منك. ولما ذكر تعالى أنه الوكيل الذي لا كافي غيره أتبعه بعض أفعاله الدالة على ذلك بقوله تعالى:
{ربكم} أي: المتصرف فيكم هو {الذي يزجي} أي: يجري {لكم الفلك} ومنها التي حملكم فيها مع أبيكم نوح عليه الصلاة والسلام {في البحر لتبتغوا} أي: لتطلبوا {من فضله} الربح وأنواع الأمتعة التي لا تكون عندكم ثم إنه تعالى علل ذلك بقوله عز وجل: {إنه} أي: فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه {كان} أي: أزلاً وأبداً {بكم رحيماً} حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من أسبابه. تنبيه: الخطاب(2/320)
في قوله ربكم وفي قوله إنه كان بكم عام في حق الكل والمراد من الرحمة منافع الدنيا ومصالحها وأمّا قوله تعالى:
{وإذا مسكم الضرّ} أي: الشدة {في البحر} خطاب للكفار بدليل قوله تعالى {ضلّ} أي: غاب عن ذكركم وخواطركم {من تدعون} أي: تعبدون من الآلهة {إلا إياه} وحده فأخلصتم له الدعاء علماً منكم أنه لا ينجيكم سواه {فلما نجاكم} من الغرق وأوصلكم بالتدريج {إلى البرّ أعرضتم} عن الإخلاص له ورجعتم إلى الإشراك {وكان الإنسان} أي: هذا النوع {كفوراً} أي: جحوداً للنعم بسبب أنه عند الشدّة يتمسك بفضله ورحمته وعند الرخاء والراحة يعرض عنه ويتمسك بغيره، وقوله تعالى: {أفأمنتم} الهمزة فيه للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم من البحر فأمنتم بعد خروجكم منه {أن نخسف بكم جانب البرّ} فنغيبكم في، أي: جانب كان منه لأنّ قدرتنا على التغيبين في الماء والتراب على السواء فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله تعالى في جميع الجوانب {أو} أمنتم أن {نرسل عليكم} من جهة الفوق شيئاً من أمرنا {حاصباً} أي: نمطر عليكم حجارة من السماء كما أمطرناها على قوم لوط قال الله تعالى: {إنا أرسلنا عليهم حاصباً} (القمر، 34)
وقيل الحاصب الريح {ثم لا تجدوا لكم} أيها الناس {وكيلاً} ينجيكم من ذلك ولا من غيره كما لم تجدوا في البحر وكيلاً غيره.
{أم أمنتم} أي: جاوزت بكم الغباوة حدّها فلم تجوّزوا ذلك {أن نعيدكم فيه} أي: البحر الذي يضطرّكم إلى ذلك فنقسركم عليه وإن كرهتم {تارة أخرى} بأسباب تضطرّكم إلى أن ترجعوا فتركبوه {فنرسل عليكم قاصفاً من الريح} أي: ريحاً شديدة لا تمرّ بشيء إلا قصفته فتكسر فلككم {فنغرقكم} في البحر الذي أعدناكم فيه بقدرتنا {بما كفرتم} أي: بسبب إشراككم وكفرانكم نعمة الانجاء {ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً} أي: مطالباً يطالبنا بما فعلنا بكم. تنبيه: تارة بمعنى مرّة وكرّة فهي مصدر وتجمع على تير وتارات. قال الشاعر:
*وإنسان عيني يحسر الماء تارة
... فيبدو وتارات يجم فيغرق
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أن نخسف أو نرسل أن نعيدكم فنرسل فنغرقكم جميع هذه الخمسة بنون العظمة والباقون بياء الغيبة والقراءة الأولى على سبيل الالتفات من الغائب في قوله تعالى: {ربكم} إلى آخره. والقراءة الثانية على سنن ما تقدّم من الغيبة. ثم إنّ الله تعالى ذكر نعمة أخرى رفيعة جليلة على الإنسان وذكر فيها أربعة أنواع: النوع الأول: قوله تعالى:
{ولقد كرّمنا} أي: بعظمتنا تكريماً عظيماً {بني آدم} وحذف متعلق التكريم فلذا اختلف المفسرون فيه فقال ابن عباس: كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم فإنه يأكل بيده. وعن الرشيد أنه حضر طعاماً عنده فدعاه بالملاعق وعنده أبو يوسف فقال له: جاء في تفسير جدّك ابن عباس {ولقد كرّمنا بني آدم} جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فأحضرت الملاعق فردّها وأكل بأصابعه. وروي عن ابن عباس أنه قال: بالعقل. وقال الضحاك: بالنطق والتمييز. وقيل على سائر الطين بالنموّ، وعلى النامي بالحياة وعلى سائر الحيوان بالنطق. وقال عطاء: بتعديل القامة وامتدادها والدواب منكسة على وجوهها. قال بعضهم: وينبغي أن يشترط مع هذا شرط وهو طول القامة مع استكمال القوّة(2/321)
العقلية والحسية والحركية وإلا فالأشجار أطول قامة من الإنسان قيل الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقيل بأن سخر لهم سائر الأشياء وقيل بأنّ منهم خير أمّة أخرجت للناس. وقيل بحسن الصورة. قال تعالى: {وصوّركم فأحسن صوركم} (غافر، 64)
. ولما ذكر الله تعالى خلقة الإنسان وهي {ولقد خلقنا الإنسان} (الحجر، 26)
الآية قال: {فتبارك الله أحسن الخالقين} (المؤمنون، 14)
. قال الرازي: فإن شئت فتأمّل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان وهي العين فخلق الحدقة سوداء ثم أحاط بذلك السواد بياض العين، ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين، ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة ثم خلق فوق ذلك البياض سواد الشعر. وليكن هذا المثال الواحد أنموذجاً لك في هذا الباب انتهى.
واستدل أيضاً لشرف الإنسان بأنّ الموجود إمّا أن يكون أزلياً وأبدياً وهو الله تعالى وإمّا أن لا يكون لا أزلياً ولا أبدياً وهو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن والنبات والحيوان وهذا أحسن الأقسام وإمّا أن يكون أزلياً ولا يكون أبدياً وهذا ممتنع الوجود لأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه، وإمّا أن لا يكون أزلياً ولكنه يكون أبدياً وهو الإنسان والملك ولا شك أنّ هذا القسم أشرف من الثاني والثالث وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر المخلوقات. النوع الثاني: قوله تعالى: {وحملناهم في البرّ} على الدوابّ وغيرها {و} في {البحر} على السفن وغيرها، من حملته حملاً إذا جعلت له ما يركبه أو حملناهم فيهما حتى لم نخسف بهم الأرض ولم نغرقهم في الماء.
النوع الثالث: قوله تعالى: {ورزقناهم من الطيبات} أي: المستلذات من الثمرات والأقوات، وذلك لأنّ الأغذية إمّا حيوانية وإمّا نباتية وكلا القسمين فإنّ الإنسان إنما يتغذى بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامّة والطبخ الكامل والنضج البالغ وذلك مما لا يحصل إلا للإنسان.
النوع الرابع: قوله تعالى: {وفضلناهم} في أنفسهم بإحسان الشكل وفي صفاتهم بالعلم المنتج لسعادة الدارين {على كثير ممن خلقنا} أي: بعظمتنا التي خلقناهم بها. وأكد الفعل بالمصدر إشارة إلى إعراقهم في الفضيلة فقال تعالى: {تفضيلاً} . تنبيه: ظاهر الآية يدل على فضلهم على كثير من خلقه لا على الكل. وقال قوم: فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة. وهو قول ابن عباس واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في بسيطه. وقال الكلبي: فضلوا على جميع الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم. وقال قوم: فضلوا على جميع الخلق وعلى جميع الملائكة كلهم وقد يوضع الأكثر موضع الكل كقوله تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} إلى قوله تعالى: {وأكثرهم كاذبون} (الشعراء: 221، 223)
أي: كلهم.
وروى جابر يرفعه قال: «لما خلق الله تعالى آدم وذرّيته قالت الملائكة: يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة. فقال تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه روحي كمن قلت له كن فكان» . والأولى كما قاله بعض المفسرين كالبغوي وابن عادل أن يقال عوامّ الملائكة أفضل من عوام المؤمنين، وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة. قال تعالى: {إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} (البينة، 7)
. وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى(2/322)
عنه قال: المؤمن أكرم على الله من الملائكة عنده. رواه البغوي ورواه الواحدي في بسيطه. فإن قيل: قال تعالى في أوّل الآية: {ولقد كرّمنا بني آدم} وقال في آخرها: {وفضلناهم} فلا بدّ من الفرق بين التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار؟ أجيب: بأنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية كالعقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم أنه سبحانه وتعالى عرّضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة. ولما ذكر تعالى أنواع كرامات الإنسان في الدنيا شرح أحوال درجاته في الآخرة بقوله تعالى:
{يوم} أي: اذكر يوم {ندعو} أي: بتلك العظمة {كل أناس} أي: منكم {بإمامهم} الإمام في اللغة كل من ائتمّ به قوم كانوا على هدى أو ضلالة فالنبيّ إمام أمّته والخليفة إمام رعيته والقرآن إمام المسلمين، وإمام القوم هو الذي يقتدون به في الصلاة. وذكروا في تفسير الإمام هنا أقوالاً أحدها إمامهم نبيهم. روي ذلك مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «فينادى يوم القيامة يا أمّة إبراهيم يا أمّة موسى يا أمّة عيسى يا أمّة محمد صلى الله عليه وسلم فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم ثم ينادى الأتباع يا أتباع ثمود يا أتباع فرعون يا أتباع فلان وفلان من رؤوساء الضلال وأكابر الكفر» . الثاني: أنّ إمامهم كتابهم الذي أنزل عليهم فينادى في القيامة يا أهل القرآن، يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل. الثالث: إمامهم كتاب أعمالهم قال تعالى: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} (يس 12)
فسمى الله تعالى هذا الكتاب إماماً. قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أنّ الإمام جمع أمّ وأنّ الناس يدعون يوم القيامة بأمّهاتهم دون آبائهم وان الحكمة فيه رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا تفتضح أولاد الزنا. قال: وليت شعري أيهما أبدع البدع؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته. قال ابن عادل: وهو معذور لأن أمّا لا يجمع على إمام هذا قول من لا يعرف الصناعة ولا لغة العرب. {فمن أوتي} أي: من المدعوّين {كتابه} أي: كتاب عمله {بيمينه} وهم السعداء أولو البصائر في الدنيا {فأولئك يقرؤون كتابهم} ابتهاجاً وتبجحاً بما يرون فيه من الحسنات {ولا يظلمون} بنقص حسنة ما من ظالم ما {فتيلاً} أي: شيئاً في غاية القلة والحقارة بل يزدادون بحسب إخلاص النيات وطهارة الأخلاق وزكاة الأعمال.
تنبيه: الفتيل القشرة التي في شق النواة تسمى بذلك لأنه إذا رام الإنسان إخراجه انفتل وهذا مثل يضرب للشيء الحقير التافه ومثله القطمير وهو الغلالة التي في ظهر النواة، والنقير وهي النقرة التي في ظهر النواة. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: الفتيل هو الوسخ الذي يفتله الإنسان بين سبابته وإبهامه. فإن قيل: لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم مع أن أهل الشمال يقرؤونه؟ أجيب: بأن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملاً على المهلكات العظيمة والقبائح الكاملة فيستولي الخوف على قلوبهم ويثقل لسانهم فيعجزون عن القراءة الكاملة وأمّا اصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرؤون كتابهم على أحسن الوجوه ثم لا يقنعون بقراءتهم وحدهم بل يقول القارئ لأهل المحشر: {هاؤم اقرؤوا كتابيه} (الحاقة، 19)
جعلنا الله تعالى وجميع أحبابنا منهم. ثم قال الله تعالى:
{ومن كان} منهم {في هذه}(2/323)
أي: الدار {أعمى} أي: ضالاً يعمل في الأفعال فعل الأعمى في أخذ الأعيان لا يهتدي إلى أخذ ما ينفعه وترك ما يضرّه ولا يميز بين حسن وقبيح {فهو في الآخرة أعمى} أي: أشدّ عمى مما كان عليه في هذه الدار لا ينجح له قصد ولا يهتدي لصواب ولم يقل تعالى أشدّ عمى كما يقال في الخلق اللازمة لحالة واحدة مثل العور والحمرة والسواد ونحوها لأن هذا مراد به عمى القلب الذي من شأنه التزايد والحدوث في كل لحظة شيئاً بعد شيء. {وأضلّ سبيلاً} لأنّ هذه الدار دار الاكتساب والترقي في الأسباب، وأمّا تلك فليس فيها شيء من ذلك. وقال عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية فقال: اقرؤوا ما قبلها فقرؤوا: {ربكم الذي يزجي لكم الفلك} إلى قوله: {تفضيلاً} . فقال ابن عباس: من كان أعمى في هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في الآخرة التي لم يعاين ولم ير أعمى وأضلّ سبيلاً، وعلى هذا فالإشارة في قوله هذه إلى النعم المذكورة في الآيات المتقدّمة، وحمل بعضهم العمى الثاني على عمى العين والبصر كما قال تعالى: {ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} (الحجر، 126)
. وقال تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً} (الإسراء، 97)
وهذا العمى زيادة في عقوبتهم. ولما عدّد تعالى في الآيات المتقدّمة أقسام نعمه على خلقه وأتبعها بذكر درجات الخلق في الآخرة وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء عن الاغترار بوسواس أرباب الضلال والانخداع بكلماتهم المشتملة على المكر والتلبيس فقال تعالى:
{وإن كادوا} أي: قاربوا في هذه الحياة الدنيا لعماهم في أنفسهم عن عصمة الله تعالى لك. ولما كانت إن هذه هي المخففة من الثقيلة أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية بقوله تعالى: {ليفتنونك} أي: ليخالطونك مخالطة تميلك إلى جهة قصدهم لكثرة خداعهم.
واختلف في سبب نزول هذه الآية فروى عطاء عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال قال: وما هنّ قالوا أن لا نجبي في الصلاة بفتح الجيم والباء الموحدة المشدّدة، أي: لا ننحني فيها ولا نكسر أصنامنا إلا بأيدينا، وأن لا تمنعنا من اللات والعزى سنة من غير أن نعبدها فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود» . وأمّا أن تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأمّا الطاغية يعني اللات والعزى فإني غير ممتعكم بها، وفي رواية وحرّم وادينا كما حرّمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجبهم فقالوا: يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فصاح عليهم عمر وقال: أما ترون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمسك عن الكلام كراهة لما تذكرونه فأنزل الله تعالى هذه الآية» .
وقال سعيد بن جبير: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود فمنعه قريش وقالوا: لا ندعك حتى تلمّ بآلهتنا وتمسها فحدّث صلى الله عليه وسلم نفسه ما عليّ أن أفعل ذلك والله يعلم أني لها لكاره بعد أن يدعوني(2/324)
حتى استلم الحجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي أنّ قريشاً قالوا له: اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت: {وإن كادوا ليفتنونك} . {عن الذي أوحينا إليك} من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا {لتفتري} أي: لتقول {علينا غيره} أي: ما لم نقله {وإذاً} أي: لو ملت إلى ما دعوك إليه {لاتخذوك} أي: بغاية الرغبة {خليلاً} أي: لوالوك وصافوك وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم وراض بشركهم ومن يكن خليل الكفار لم يكن خليل الله تعالى، ولكنك أبصرت رشدك فلزمت أمر الله واستمروا على عماهم إتماماً لتفضيلنا لك على كل مخلوق.
{ولولا أن ثبتناك} أي: على الحق بعصمتنا إياك {لقد كدت} أي: قاربت {تركن} أي: تميل {إليهم} أي: إلى الأعداء {شيئاً} أي: ركونا {قليلاً} لمحبتك في هدايتهم وحرصك على منفعتهم ولكنا عصمناك فمنعناك أن تقرب من الركون فضلاً من أن تركن إليهم لأنّ كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره تقول لولا زيد لهلك عمرو ومعناه أنّ وجود زيد منع من حصول الهلاك لعمرو فكذلك ههنا قوله تعالى: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم} معناه لولا حصل تثبيت الله لمحمد صلى الله عليه وسلم فكان تثبيت الله مانعاً من حصول قرب الركون وهذا صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما همّ بإجابتهم مع قوّة الداعي إليها ودليل على أنّ العصمة بتوفيق الله وحفظه.
{إذاً} أي: لو قاربت الركون الموصوف إليهم {لأذقناك ضعف} عذاب {الحياة وضعف} عذاب {الممات} أي: مثلي ما يعذب غيرك في الدنيا والآخرة وكان أصل الكلام عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ثم أضيفت كما يضاف موصوفها وقيل المراد بضعف الحياة عذاب الآخرة وضعف الممات عذاب القبر، والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعمة الله تعالى في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ونظيره قوله تعالى: {يا نساء النبيّ من يأت منكنّ بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} (الأحزاب، 30)
وقيل الضعف من أسماء العذاب {ثم لا تجد لك} أي: وإن كنت أعظم الخلق وأعلاهم مرتبة وهمة {علينا نصيراً} أي: مانعاً يمنعك من عذابنا. واختلفوا في سبب نزول قوله تعالى:
{وإن} أي: وإن هم {كادوا} أي: الأعداء {ليستفزونك} أي: ليزعجونك بمعاداتهم {من الأرض ليخرجوك منها} فقال ابن عباس: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم، فقالوا: يا أبا القاسم إنّ الأنبياء إنما بعثوا بالشأم وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم فلو خرجت إلى الشام آمنا بك وأتبعناك، وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله فالله يمنعك منهم فعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أميال من المدينة وقيل بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشام فيدخلون في دين الله فنزلت هذه الآية فرجع وهذا قول الكلبيّ وعلى هذا فالآية مدنية والمراد بالأرض أرض المدينة.
وقال قتادة ومجاهد: الأرض أرض مكة والآية مكية، همّ المشركون أن يخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكفهم الله تعالى عنه حتى أمره(2/325)
بالهجرة فخرج بنفسه. قال ابن عادل تبعاً للرازي: وهذا أليق بالآية لأنّ ما قبلها خبر عن أهل مكة والسورة مكية وهذا اختيار الزجاج وكثير في التنزيل ذكر الأرض والمراد منها مكان مخصوص كقوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} (المائدة، 33)
أي: من مواضعهم. وقوله تعالى حكاية عن أخي يوسف: {فلن أبرح الأرض} (يوسف، 80)
يعني الأرض التي كان قصدها لطلب الميرة. فإن قيل: قال تعالى: {وكأين من قرية هي أشدّ قوّة من قريتك التي أخرجتك} (محمد، 13)
يعني أهل مكة فالمراد أهلها، فذكر تعالى أنهم أخرجوه، وقال تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها} فكيف الجمع بينهما على القول الثاني؟ أجيب: بأنهم هموا بإخراجه وهو صلى الله عليه وسلم ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله تعالى وحينئذٍ فلا تناقض {وإذاً} أي: وإذا أخرجوك {لا يلبثون خلفك} أي: بعد إخراجك لو أخرجوك {إلا} زمناً {قليلاً} وقد كان كذلك على القول الثاني، فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته، وعلى القول الأوّل قتل منهم بني قريظة وأجلى بني النضير بقليل. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشعبة بفتح الخاء وسكون اللام والباقون بكسر الخاء وفتح اللام وبعدها ألف، قال الشاعر:
عفت الديار، أي: اندرست ـ خلافهم، أي: خلفهم.
*فكأنما بسط الشواطب بينهنّ حصيرا
الشواطب النساء اللاتي يشققن الجريد ليعملن منه الحصير والشطب والشواطب سعف النخل الأخضر يصف دروس ديار الأحبة بعدهم وأنها غير منكوسة كأنما بسط فيها سعف النخل. ولما أخبره بذلك أعلمه أنه سنة في جميع الرسل بقوله تعالى:
{سنة} أي: كسنة أو سننا بك سنة {من قد أرسلنا قبلك} أي: في الأزمان الماضية كلها {من رسلنا} أنا نهلك كل أمّة أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم، والسنة لله وإضافتها إلى الرسل لأنها من أجلهم ويدل عليه قوله تعالى: {ولا تجد لسنتنا تحويلاً} (الإسراء، 77)
أي: تغييرا. ولما قرّر تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم الآلهيات والمعاد والنبوّات أردفها بذكر الأمر بالطاعة وأشرف الطاعة بعد الإيمان الصلاة فلذلك قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{أقم الصلاة} بفعل جميع أركانها وشرائطها بحيث تصير كأنها قائمة بنفسها فإنها لب العبادة لما فيها من المناجاة والإعراض عن كل غير، وفناء عن كل سوى، بما أشرق من أنوار الحضرة التي قد اضمحل إليها كل فان، وفي ذلك إشارة عظيمة إلى أنّ الصلاة أعظم ناصر على الأعداء الذين يريدون بمكرهم استفزاز الأولياء ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ثم عين له الأوقات بقوله تعالى: {لدلوك الشمس} في هذه اللام قولان أحدهما أنها بمعنى بعد، أي: بعد دلوك الشمس ومثله قول متمم:
*فلما تقرّقنا كأني ومالكاً
... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
والثاني أنها على بابها لأنها إنما تجب بزوال الشمس والدلوك مصدر دلكت الشمس وفيه أقوال أحدها: أنه الزوال وهو قول ابن عباس وابن عمر وجابر وأكثر التابعين ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم «أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر» وقول أهل اللغة معنى الدلوك في كلام العرب الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة. والثاني أنه(2/326)
الغروب وهو قول ابن مسعود ونقله الواحدي في «البسيط» عن عليّ رضي الله عنه، وبه قال إبراهيم النخعي والضحاك والسدي وهو اختيار الفراء وكما يقال للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة يقال لها أيضاً إذا غربت دالكة لأنها في الحالين زائلة. قال الأزهري: والثالث أنه من الزوال إلى الغروب وقال في «القاموس» دلكت الشمس غربت أو اصفرّت أو مالت أو زالت عن كبد السماء فحينئذ في هذه اللفظة دلالة على الظهر والعصر والمغرب من استمعال المشترك في معانيه أمّا في الظهر والمغرب فواضح لما مرّ وأمّا العصر فلأنّ أول وقتها أوّل أخذ الشمس في الاصفرار وأدل دليل على ذلك أنه تعالى غيا الإقامة لوقت العشاء بقوله تعالى: {إلى غسق الليل} أي: ظلمته وهو وقت صلاة عشاء الآخرة والغاية أيضاً هنا داخلة لما سيأتي وقد أجمعوا على أنّ المراد من قوله تعالى: {وقرآن الفجر} أي: صلاة الصبح وهو منصوب قيل على الإغراء، أي: وعليك بقرآن الفجر ورد أسماء الأفعال لا تعمل مضمرة. وقال الفراء: أنه منصوب بالعطف على الصلاة في قوله تعالى: {أقم الصلاة} والتقدير أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر وحينئذٍ تدخل الصلوات الخمس في هذه الآية. قال ابن عادل كالرازي: وحمل كلام الله تعالى على ما يكون أكثر فائدة أولى انتهى.
وسميت صلاة الصبح قرآناً لاشتمالها عليه وإن كانت بقية الصلوات أيضاً مشتملة عليه لأنه يطوّل فيها في القراءة ما لا يطوّل في غيرها فالمقصود من قوله تعالى: {وقرآن الفجر} الحث على طول القراءة فيها أكثر من غيرها لأنّ التخصيص بالذكر يدل على كونه أكمل من غيره. ولما كان القيام عن المنام يشق علل مرغباً مظهراً غير مضمر لأنّ المقام مقام تعظيم فقال:
{إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً} أي: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل، وأوّل ديوان النهار. قال الرازي: ثم أنّ ملائكة الليل إذا صعدت قالت: يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك وتقول ملائكة النهار ربنا إننا أتينا عبادك وهم يصلون فيقول الله تعالى لملائكته: اشهدوا بأني قد غفرت لهم. وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً} » وهذا يدل على أنّ التغليس أولى من التنوير لأنّ الإنسان إذا شرع فيها من أوّل الوقت ففي ذلك الوقت ظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرة ثم امتدّت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار، وأمّا إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التنوير فهناك لم يبق أحد من ملائكة الليل فلا يحصل المعنى المذكور فقوله: {كان مشهوداً} يدل على أنّ التغليس أفضل، وأيضاً الإنسان إذا شرع في صلاة الصبح من أوّل هذا الوقت فكانت الظلمة القوية في العالم فإذا امتدّت القراءة ففي أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء والظلمة مناسبة للموت والعدم، والضوء مناسب للحياة والوجود، فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة ومن العدم إلى الوجود ومن السكون إلى الحركة، وهذه الحالة
العجيبة(2/327)
تشهد العقول بأنه لا يقدر على هذا التقليب إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة فحينئذ يستنير العقل بنور هذه المعرفة ويتخلص من مرض قلبه، فإن أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب وهي حب الدنيا والحرص والحسد والتفاخر والتكاثر وهذه الدنيا مثل دار المرضى إذا كانت مملوءة من المرضى والأنبياء كالأطباء الحاذقين والمريض ربما كان قد يقوى مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية وربما كان المريض جاهلاً فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمر لأنّ الطبيب إذا كان مشفقاً حاذقاً فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه وإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وفي تخفيفه فلما كان مرض الدنيا مستولياً على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوى إلى معرفة الله سبحانه وتعالى وخدمته وطاعته وهذا علاج شاق على النفوس وقل من يقبله وينقاد له لا جرم أنّ الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض فحملوا الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أوّل وقت القيام من النوم لأنه مما ينفع في إزالة هذا المرض.
ثم حث سبحانه وتعالى على التهجد لأفضليته وارشديته بقوله عز من قائل:
{س17ش79/ش82 وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ? نَافِلَةً لَّكَ عَسَى? أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا * وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا * وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ? إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا * وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ? وَيَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِs خَسَارًا}
{ومن الليل} أي: وعليك أو وقم بعض الليل {فتهجد به} أي: واترك الهجود للصلاة يقال هجد وتهجد نام ليلاً وهجد وتهجد سهر فهو من الأضداد ومنه قيل لصلاة الليل التهجد قاله في الصحاح. والضمير في به لمطلق القرآن والمراد من الآية قيام الليل لصلاة النافلة فلا يحصل التهجد إلا بصلاة نفل بعد نوم، وكانت فريضة على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى أمّته في الابتداء بقوله تعالى: {يا أيها المزمّل قم الليل إلا قليلاً} (المزمل: 1، 2)
ثم نسخ بما في آخرها، ثم نسخ بما في الصلوات الخمس وبقي قيام الليل على الاستحباب بقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر منه} (المزمل، 20)
وبقي الوجوب في حقه صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: {نافلة لك} أي: زيادة لك مختصة بك. وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث هنّ عليّ فريضة وهنّ سنة لكم الوتر والسواك وقيام الليل» والصحيح أنه نسخ في حقه أيضاً ودليل النسخ رواه مسلم وقد وردت أحاديث كثيرة في قيام الليل منها ما روي «عن المغيرة بن شعبة أنه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه فقيل له: أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً» . ومنها ما روي عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: لأرمقنّ صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة فتوسدت عتبته أو فسطاطه فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين ثم ركعتين طويلتين ثم ركعتين طويلتين، ثم ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة، فلهذا قيل: إنه أكثر الوتر وهو أحد قولي الشافعيّ والمرجح عنده أن أكثره إحدى عشرة ركعة، لما رواه أبو سلمة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.، أي: وتراً يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهنّ وطولهنّ ثم يصلي ثلاثاً قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال: «يا عائشة إن عيني تنام ولا ينام قلبي» . ومنها ما روي عن أنس بن مالك قال: «ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصلياً إلا رأيناه وما نشاء(2/328)
أن نراه نائماً إلا رأيناه» وفي رواية غيره قال: وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئاً ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئاً ثم قال تعالى: {عسى أن يبعثك ربك} أي: المحسن إليك {مقاماً محموداً} أتفق المفسرون على أنّ كلمة عسى من الله واجب. قال أهل المعاني: لأن لفظة عسى تفيد الأطماع
ومن أطمع إنساناً في شيء ثم حرمه كان عاراً والله أكرم من أن يطمع أحدنا في شيء ثم لا يعطيه ذلك.
وأمّا المقام المحمود فقال الواحدي: أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: «هو المقام الذي أشفع فيه لأمّتي» . وقال حذيفة: يجمع الناس في صعيد واحد فلا تتكلم نفس فأوّل مدعو محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: «لبيك وسعديك والشر ليس إليك، والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت» . فقال هذا هو المراد من قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} .
ويدل للأوّل أحاديث؛ منها ما روي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكل نبيّ دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعتي لأمتي وهي نائلة منكم إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئاً» . ومنها ما روي عن جابر أنه قال: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته. حلت له شفاعتي يوم القيامة» . ومنها ما روي عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نهي عنها ولكن ائتوا نوحاً أوّل نبيّ بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحاً فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب بسؤال ربه بغير علم ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتون إبراهيم فيقول لست هناكم ويذكر ثلاث كذبات كذبهنّ ولكن ائتوا موسى عبداً آتاه الله التوراة وكلمه وقربه نجياً. قال: فيأتون موسى فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب قتله النفس ولكن ائتوا عيسى عبد الله وكلمته قال: فيأتون عيسى فيقول لست هناكم ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر قال: فيأتوني فاستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيته وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني فيقول: ارفع رأسك يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه. قال: فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء يعلمنيه قال ثم أشفع فيحدّ لي حدّاً فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ثم أعود فأقع ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول ارفع يا محمد وقل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه قال: فأرفع
رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه قال: ثم أشفع فيحد لي حدّاً فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة قال: فلا أدري في الثالثة أو الرابعة فأقول: يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن، أي: وجب عليه الخلود» . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: مقاماً محموداً يحمدك فيه الأولون والآخرون وتشرف(2/329)
فيه على جميع الخلائق سل فتعطى واشفع فتشفع ليس أحد إلا تحت لوائك والأخبار في الشفاعة كثيرة وفي هذا القدر كفاية لأولي البصائر جعلنا الله تعالى وجميع أحبابنا من أهلها الداخلين تحت شفاعة سيد الأنبياء والمرسلين آمين. واختلف أهل التفسير في قوله تعالى:
{وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق} فقال ابن عباس والحسن: أدخلني مدخل صدق المدينة وأخرجني مخرج صدق مكة، نزل حين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة. وقال الضحاك: أخرجني مخرج صدق من مكة آمنا من المشركين وأدخلني مدخل صدق ظاهراً عليها بالفتح. وقال مجاهد: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوّة مدخل صدق وأخرجني من الدنيا وقد قمت بما وجب عليّ من حقها مخرج صدق. وقيل إدخاله الغار وإخراجه منه سالماً. وقيل: أدخلني مدخل صدق الجنة وأخرجني مخرج صدق من مكة. وقيل: أدخلني في القبر مدخل صدق إدخالاً مرضياً وأخرجني منه عند البعث مخرج صدق إخراجاً ملقى بالكرامة. والجامع لهذه الأقوال ما جرى عليه البقاعي في تفسيره بقوله في كل مقام تريد إدخالي فيه حسيّ ومعنويّ دنيا وأخرى مدخل صدق يستحق الداخل فيه أن يقال له أنت صادق في قولك وفعلك فإنّ ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً. وأخرجني من كل ما تخرجني منه مخرج صدق انتهى. والمراد من المدخل والمخرج الإدخال والإخراج ومعنى إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق مدحهما، كأنه سأل الله تعالى إدخالاً حسناً وإخراجاً حسناً لا يرى فيهما ما يكره. ثم سأل الله تعالى أن يرزقه التقوية بالحجة وبالقهر والقدرة فقال: {واجعل لي من لدنك} أي: عندك {سلطاناً نصيراً} أي: حجة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني وقد أجاب الله تعالى دعاءه وأعلمه أنه يعصمه من الناس بقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (المائدة، 67)
. وقال تعالى: {فإن حزب الله هم الغالبون} (المائدة، 56)
. وقال تعالى: {ليظهره على الدين كله} (التوبة، 33)
وقال تعالى: {ليستخلفنهم في الأرض} (النور، 55)
. ووعده تعالى ليظهره على الدين ووعده تعالى لينزعن ملك فارس والروم فيجعله له. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه استعمل عتاب بن أسيد على أهل مكة وقال: «انطلق فقد استعملتك على أهل الله» فكان شديداً على المرائين المنافقين ليناً على المؤمنين، وقال: والله لا أعلم متخلفاً يتخلف عن الصلاة إلا منافقاً فقال: أهل مكة يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابياً جافياً فقال صلى الله عليه وسلم «إني رأيت فيما يرى النائم كأنّ عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالاً شديداً حتى فتح له فدخلها» فأعز الله تعالى الإسلام لنصرته المسلمين على من يريد ظلمهم فذلك السلطان النصير، ثم أمره الله تعالى أن يخبر بالإجابة بقوله تعالى:
{وقل} أي: لأوليائك وأعدائك {جاء الحق} وهو ما أمرني به ربي وأنزله إليّ {وزهق} أي: اضمحل وبطل وهلك {الباطل} وهو كل ما يخالف الحق ثم علل زهوقه بقوله تعالى: {إنّ الباطل} أي: وإن ارتفعت له دولة وصولة {كان} في نفسه بجبلته وطبعه {زهوقاً} أي: لا يبقى بل يزول على أسرع الوجوه وقت وأسرع رجوع قضاء قضاه الله تعالى من الأزل ـ قوله على أسرع الوجوه وقت الخ هكذا في جميع النسخ ولعله على أسرع الوجوه كل وقت ويرجع اه.
روى البخاري في التفسير عن ابن مسعود قال: «دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وحول(2/330)
الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً صنم كل قوم بحيالهم فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل} فجعل الصنم ينكب لوجهه» حديث وعن ابن عباس كانت لقبائل العرب أصنام يحجون إليها ويخرون لها فشكى البيت إلى الله تعالى فقال:، أي: رب إلى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك فأوحى الله تعالى إلى البيت أني سأحدث لك نوبة جديدة فاملؤك خدوداً سجداً يدفون إليك دفيف النسور ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها لهم عجيج حولك بالتلبية.
ولما نزلت هذه الآية يوم الفتح جاء جبريل عليه السلام وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم خذ مخصرتك ثم ألقها فجعل يأتي صنماً صنماً وهو ينكت بالمخصرة في عينه ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل} فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعاً وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان قوارير صفر فقال: «يا علي الزم به» فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد ورمى به فكسره فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون: ما رأينا رجلاً أسحر من محمد. قال الزمخشري: وشكاية البيت والوحي إليه تخييل وتمثيل ولما بين سبحانه وتعالى الآلهيات والنبوّات والحشر والنشر والبعث وإثبات القضاء والقدر ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ونبه على ما فيها من الأسرار وكان القرآن هو الجامع لجميع ذلك أتبعه ببيان كونه شفاء ورحمة بقوله تعالى:
{وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} أي: ما هو شفاء في تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمريض. تنبيه: في من هذه ثلاثة أوجه أحدها: أنه لبيان الجنس قاله الزمخشريّ والبيضاويّ وابن عطية وأبو البقاء ورد عليهم أبو حيان بأنّ التي للبيان لا بدّ أن تتقدّمها عليه ما تبينه لا أن تتقدّم عليه وهنا قد وجد تقديمها عليه. الثاني: أنها للتبعيض وأنكره الحوفي لأنه يلزم أن لا يكون بعضه شفاء. وأجاب أبو البقاء بأنّ منه ما يشفي من المرض وهذا قد وجد بدليل رقية بعض الصحابة سيد الحيّ الذي لدغ بالفاتحة فشفي من المرض فيكون التبعيض بالنسبة للأمراض الجسمانية وإلا فهو كله شفاء للأبدان وللقلوب من الاعتقادات وغيرها. الثالث: أنها لابتداء الغاية وهو كما قال ابن عادل واضح. {و} من العجيب أنّ هذا الشفاء {لا يزيد الظالمين} وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه بإعراضهم هما يجب قبوله {إلا خسارا} أي: نقصاناً لأنه إذا جاءهم وقامت به الحجة عليهم أعرضوا عنه فكان إعراضهم ذلك زيادة في كفرهم كما أن قبول المؤمنين له وإقبالهم على تدبره زيادة في إيمانهم، وفي الدارمي عن قتادة قال: ما جالس أحد القرآن فقام عنه إلا بزيادة أو نقصان ثم قرأ هذه الآية، ثم إنه تعالى ذكر السبب الأصلي في وقوع هؤلاء الكافرين الجاهلين الضالين في أودية الضلال ومقامات الخزي والنكال وهو حب الدنيا والرغبة في المال والجاه واعتقادهم أنّ ذلك إنما يحصل بسبب جدّهم واجتهادهم فقال تعالى:
{وإذا أنعمنا} أي: بما لنا من العظمة {على الإنسان} أي: هذا النوع هؤلاء وغيرهم وقال ابن عباس: إنّ الإنسان ههنا هو الوليد بن المغيرة. قال الرازي: وهذا بعيد بل المراد، أي: نوعُ الإنسان إذا أنعمنا عليه {أعرض} أي: عن ذكرنا ودعائنا إذ شأن نوع الإنسان أنه إذا فاز بمقصوده ووصل إلى مطلوبه اغتر وصار غافلاً عن عبودية الله متمرّداً عن طاعة الله كما قال تعالى: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} (العلق: 6/ 7) .
{ونأى} عن ذكر الله(2/331)
{بجانبه} أي: لوى عطفيه وبعد نفسه كأنه مستغني بأمره ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار لأنه من عادة المستكبرين ومعنى النأي في اللغة البعد والإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه. وقرأ ابن ذكوان بألف ممدودة بعد النون وتأخير الهمزة مثل جاء وفي هذه القراءة تخريجان أحدهما من نأى ينوء، أي: نهض. والثاني: أنه مقلوب من نأى فيكونان بمعنى. قال ابن عادل: ولكن متى أمكن عدم القلب فهو أولى. وقرأ الباقون بالهمزة بعد النون وألف بعد همزة وآمال الألف بعد الهمزة السوسيّ وشعبة وخلاد محضة بخلاف عن السوسي وأمالها ورش بين بين وأمال الهمزة والنون محضة خلف والكسائيّ وفتح الباقون. {وإذا مسه الشرّ} أي: هذا النوع وإن قل {كان يؤساً} أي: شديد اليأس عما عهده من رحمة ربه والحاصل أنه إن فاز بالنعمة والدولة اغتر بها ونسي ذكر الله وإن بقي في الحرمان عن الدنيا استولى عليه الأسف والحزن ولم يتفرغ لذكر الله فهذا المسكين محروم أبداً عن ذكر الله تعالى ونظيره قوله تعالى: {فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأمّا إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن} (الفجر: 15، 16)
وكذلك {إنّ الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشرّ جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً} (المعارج: 19، 20، 21)
إلا من حفظه الله وشرّفه بالإضافة إليه فليس للشيطان عليه سلطان ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{قل كل} من الشاكر والكافر {يعمل على شاكلته} أي: طريقته التي تشاكل روحه وتشاكل ما طبعناه عليه من خير أو شرّ {فربكم} أي: فتسبب عن ذلك أنّ الذي خلقكم وصوّركم {أعلم} من كل أحد {بمن هو} منكم {أهدى سبيلاً} أي: أوضح طريقاً واتباعاً للحق فيشكر ويصبر احتساباً فيعطيه الثواب ومن هو منكم أضلّ سبيلاً فيجعل له العقاب لأنه يعلم ما طبعهم عليه في أصل الخلقة وغيره تعالى إنما يعلم أمور الناس في طرائقهم بالتجربة وقد روى الإمام أحمد لكن بسند منقطع عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا وإذا سمعتم برجل تغير عن طبعه فلا تصدقوا فإنه يصير إلى ما جبل عليه» . واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
{ويسئلونك} أي: تعنتا وامتحانا {عن الروح} فعن عبد الله بن مسعود قال بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوكأ على عسيب معه فمرَّ بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض اسألوه عن الروح وقال بعضهم: لا تسألوه لا يجيء بشيء تكرهونه فقال بعضهم: لنسألنّ فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت فقلت أنه يوحى إليه فقمت فلما انجلى عنه قال: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} قال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه. وقال ابن عباس: إنّ قريشاً اجتمعوا فقالوا: إنّ محمداً نشأ فينا بالصدق والأمانة وما اتهمناه بكذب وقد ادّعى ما ادّعى فابعثوا نفراً إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود: سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبيّ وإن أجاب عن اثنين فهو نبيّ فسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأوّل ما كان أمرهم فإنه كان لهم حديث عجيب. وعن رجل بلغ مشرق الأرض(2/332)
ومغربها وعن الروح فسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أخبركم بما سألتم غداً ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي. قال مجاهد: اثنى عشر ليلة وقيل خمسة عشر يوماً وقيل أربعين يوماً وأهل مكة يقولون وعدنا محمد غداً وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء حتى حزن صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف: 23، 24)
. ونزل في الفتية: {أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً} (الكهف، 9)
. ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب {ويسألونك عن ذي القرنين} (الكهف: 83)
ونزل في الروح: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} . وقول الرازي: ومن الناس من طعن في هذه الرواية من وجوه، وذكر من جملة ذلك كيف يليق به أن يقول إني لا أعرف هذه المسألة مع أنها من المسائل المشهورة المذكورة مع جمهور الخلق غير لائق لأنّ ذلك علامة على نبوّته. قال الزمخشري: فبيّن لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة فندموا على سؤالهم انتهى. واختلفوا في الروح الذي وقع السؤال عنه، فروى عن ابن عباس أنه جبريل عليه السلام وهو قول الحسن وقتادة، وروي عن علي أنه قال: ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بكلها. وقال مجاهد: خلق على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس وليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام. وقال سعيد بن جبير: لم يخلق الله تعالى خلقاً أعظم من الروح غير العرش، لو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيهنّ بلقمة واحدة لفعل، صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين يقوم يوم القيامة على يمين العرش وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى عند الحجب السبعين وأقرب إلى الله تعالى وهو ممن يشفع لأهل التوحيد ولولا أنّ بينه وبين الملائكة ستراً من نور لاحترق أهل السموات من نوره. وقيل الروح هو القرآن وقيل المراد منه عيسى فإنه روح الله تعالى وكلمته ومعناه أنه ليس كما تقوله اليهود ولا كما تقوله النصارى. وقال بعضهم: هو الروح المركب في الخلق الذي يحيا به الإنسان. قال البغوي: وهو الأصح وتكلم فيه قوم فقال بعضهم: هو الدم ألا ترى أنّ الحيوان إذا مات لا يفوت منه إلا الدم. وقال قوم: هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس. وقال قوم: عرض. وقال قوم: هو جسم لطيف. وقال بعضهم: الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء ألا ترى أنه إذا كان موجوداً يكون الإنسان موصوفاً بجميع هذه الصفات وإذا خرج ذهب الكل. قال البغوي: وأولى الأقاويل أن
يوكل علمه إلى الله عز وجل، وهو قول أهل السنة. قال عبد الله بن بريدة: إنّ الله تعالى لم يطلع على الروح ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً بدليل قوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} أي: في جنب علم الله تعالى:
تنبيه: اختلف في المخاطب بقوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} ()
فقيل هو النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل اليهود فإنهم يقولون: أوتينا التوراة وفيها العلم الكبير وقيل عام. روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا: نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه فقال: «نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً» . فقالوا: ما أعجب شأنك ساعة تقول {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً(2/333)
كثيراً} (البقرة، 269)
وساعة تقول: هذا فنزلت. {ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه} (لقمان، 27)
الآية قال الزمخشري: وليس ما قالوا بلازم لأنّ القلة والكثرة يدوران مع الإضافة فيوصف الشيء بالقلة مضافاً إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافاً إلى ما تحته، فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله فهي قليلة. وقيل: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم معنى الروح ولكن لم يخبر به لأن ترك أخباره كان علماً لنبوّته. قال البغوي: والأوّل أصح أنّ الله استأثره بعلمه انتهى. وعن أبي يزيد لقد مضى النبيّ صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح. وقال الرازي: قوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوه أنّ الروح قديمة أو حادثة فقال: بل هي حادثة، وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده، ثم احتج على إحداث الروح بقوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} بمعنى أنّ الروح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم تحصل المعارف والعلوم فهي لا تزال تكون في التغير من حال إلى حال، وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغير والتبدّل من أمارات الحدوث. فقوله: {قل الروح من أمر ربي} يدل على أنهم سألوه أنّ الروح هل هي حادثة أو قديمة فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله تعالى وتكوينه وهو المراد من قوله تعالى: {قل الروح من أمر ربي} . ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال، وهو المراد بقوله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} فهذا ما نقوله في هذا الباب انتهى. وهو نص لطيف. ولما بيّن سبحانه وتعالى أنهم ما آتاهم من العلم إلا قليلاً بيّن أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل أيضاً لقدر عليه بقوله تعالى:
{ولئن شئنا} أي: ومشيئتنا لا يتعاظمها شيء واللام موطئة للقسم وأجاب عن القسم بما أغنى عن جواب الشرط فقال: {لنذهبنّ} أي: بما لنا من العظمة ذهاباً محققاً {بالذي أوحينا إليك} بأن نمحو حفظه من القلوب وكتابته من الكتب وهذا وإن كان امراً مخالفاً للعادة إلا أنه تعالى قادر عليه. {ثم} أي: بعد الذهاب به {لا تجد لك به علينا وكيلاً} أي: لا تجد من تتوكل عليه في ردّ شيء منه وإعادته مسطوراً محفوظاً. وقوله تعالى:
{إلا رحمة من ربك} استثناء متصل لأنه مندرج في قوله وكيلاً. والمعنى إلا أن يرحمك ربك فيردّه عليك أو منقطع فتقدر لكن عند البصريين أو بل رحمة من ربك عند الكوفيين. والمعنى ولكن رحمة من ربك أو بل رحمة من ربك بتركه غير مذهوب به وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن. قال الرازي: وهذا تنبيه على أنّ لله تعالى على جميع العلماء نوعين من المنة أحدهما: تسهيل ذلك العلم عليهم. والثاني: إبقاء حفظه عليهم فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين النعمتين وعن القيام بشكرهما وهما منة من الله تعالى عليه بحفظ العلم ورسوخه في صدره ومنته عليه في بقاء المحفوظ. فإن قيل: كيف يذهب القرآن وهو كلام الله تعالى؟ أجيب: بأنّ المراد محو ما في المصاحف وإذهاب ما في الصدور. قال عبد الله بن مسعود: اقرؤوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع قيل هذه المصاحف ترفع فكيف ما في صدور الناس قال: يسري عليه ليلاً فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئاً ولا يجدون في المصاحف شيئاً ثم يفيضون في الشعر.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل(2/334)
له دويّ تحت العرش كدويّ النحل فيقول الرب ما لك؟ فيقول: يا رب أتلى ولا يعمل بي. وفي رواية لابن مسعود أوّل ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة وليصلين قوم ولا دين لهم وأنّ هذا القرآن تصبحون يوماً وما فيكم منه شيء فقال رجل: كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا وتعلمه أبناؤنا ويعلمه أبناؤنا أبناؤهم؟ فقال: يسري عليه ليلاً فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب وقوله تعالى: {إن فضله كان} أي: ولم يزل {عليك كبيراً} فيه قولان أحدهما المراد منه أنّ فضله كان عليك كبيراً بسبب إبقاء العلم والقرآن عليك. ثانيهما أنّ المراد أنّ فضله كان عليك كبيراً بسبب أنه جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود، وقد أنعم عليك أيضاً بإبقاء العلم والقرآن عليك.
ونزل حين قال الكفار للنبيّ صلى الله عليه وسلم لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن. {قل} أي: لهؤلاء البعداء {لئن اجتمعت الأنس} الذين تعرفونهم وتعرفون ما أوتوا من البلاغة والحكمة والذين لا تعرفونهم {والجنّ} الذين يأتون كهانهم ويعلمونهم ببعض المغيبات عنهم وغيرهم وترك الملائكة لأنهم لا عهد لهم بشيء من التصدي ولأنهم كانوا وسائط {على أن يأتوا بمثل هذا القرآن} في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى {لا يأتون بمثله} أي: لا يقدرون على ذلك فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله.
تنبيه: في قوله تعالى: لا يأتون بمثله قولان أظهرهما أنه جواب للقسم الموطأ له باللام والثاني: أنه جواب لشرط واعتذروا عن رفعه بأنّ الشرط ماض فهو كقوله:
وإن أتاه خليل، أي: فقير ـ يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
لأنّ الشرط وقع ماضياً وناقشه أبو حيان بأنّ هذا ليس مذهب سيبويه ولا الكوفيين والمبرد لأنّ مذهب سيبويه في مثله أنّ النية به التقديم ومذهب الكوفيين والمبرد أنه على حذف الفاء وهذا مذهب ثالث قال به بعض الناس: {ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً} أي: معيناً بضم أقوى ما فيه إلى أقوى ما في صاحبه. تنبيه: قد تقدّم في سورة البقرة أنّ الله تعالى قال: {فأتوا بسورة من مثله} (البقرة، 23)
وقدّمنا الكلام على ذلك وفي وجه كون القرآن معجزاً قولان أحدهما: أنه معجز في نفسه. والثاني: أنه ليس في نفسه معجزاً إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإتيان بمعارضته وكانت الدواعي متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضاً للعادة فيكون معجزاً والقول الأوّل أظهر.
{ولقد صرّفنا} أي: بينا بوجوه مختلفة زيادة في التقرير والبيان {للناس في هذا القرآن من كل مثل} أي: من كل معنى هو كالمثل في غرابته ووقوعه متوقعاً في الأنفس. وقيل معناه من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد والقصص وغيرها. وقيل صفة لمحذوف، أي: مثلاً من جنس كل مثل ليتعظوا {فأبى أكثر الناس} وهم من هم في صورة الناس ككفار قريش وقد سلبوا معانيهم {إلا كفوراً} أي: جحوداً. فإن قيل: كيف جاز {فأبى أكثر الناس إلا كفوراً} ولم يجز ضربت إلا زيداً؟ أجيب: بأنّ أبى متأول بالنفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفوراً.
ولما تبين بالدليل إعجاز القرآن على وفق دعوى محمد(2/335)
صلى الله عليه وسلم ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح الآيات فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة وذكروا من ذلك ستة أنواع من المعجزات أوّلها:
{وقالوا} أي: كفار قريش ومن والاهم {لن نؤمن لك حتى تفجر} أي: تفجيراً عظيماً {لنا من الأرض ينبوعاً} أي: عيناً غزيرة الماء من شأنها أن تنبع بالماء ولا ينضب ماؤها. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة والباقون بضم التاء وفتح الياء وكسر الجيم المشدّدة ثانيها قولهم:
{أو تكون لك} أنت وحدك {جنة من نخيل وعنب} أي: وأشجار عنب عبر عنه بالثمرة لأنّ الانتفاع منه بغيرها قليل {فتفجّر الأنهار} الجارية {خلالها} أي: وسطها {تفجيراً} أي: تشقيقاً والفجر شق الظلام عن عمود الصبح والفجور شق جلباب الحياء بما يخرج إلى الفساد ثالثها قولهم:
{أو تسقط السماء} أي: نفسها {كما زعمت} فيما تتوعدنا به {علينا كسفاً} أي: قطعاً جمع كسفة وهي القطعة. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بنصب السين مثل قطعة وقطع وسدرة وسدر، والباقون بسكونها مثل دمنة ودمن وسدرة وسدر وهو نصب على الحال في القراءتين جميعاً كأنه قيل أو تسقط السماء علينا مقطعة. رابعها: قولهم: {أو تأتي} معك {بالله} أي: الملك الأعظم {والملائكة قبيلاً} أي: عياناً ومقابلة ننظر إليه لا يخفى علينا شيء منه. وقال الضحاك: هو جمع قبيلة، أي: أصناف الملائكة قبيلة قبيلة. قال ابن هانئ كفيلاً، أي: يكفلون بما تقول. خامسها: قولهم:
{أو يكون لك} أي: خاصاً بك {بيت من زخرف} أي: ذهب كامل الحسن والزينة. سادسها: قولهم: {أو ترقى} أي: تصعد {في السماء} درجة درجة ونحن ننظر إليك صاعداً {ولن نؤمن} أي: نصدق مذعنين {لرقيك} أي: أصلاً {حتى تنزل} وحققوا معنى كونه من السماء بقولهم {علينا كتاباً} ومعنى كونه في رق أو نحوه بقولهم {نقرؤه} يأمرنا فيه بأتباعك. روى عكرمة عن ابن عباس أنّ عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا البحتري بن هشام وعبد الله بن أمية وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام والعاص بن وائل ونبهانا ومنبهاً ابني الحجاج اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك يكلمونك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظنّ أنهم بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليم لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم أنّ رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعيبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيا تراه قد غلب عليك لا تستطيع ردّه بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجنّ الرئي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ولا للشرف عليكم ولا للملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليّ كتاباً(2/336)
وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردّوه إليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم
الله بيني وبينكم. فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق بلاداً وأشدّ عيشاً منا فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت ويبسط لنا بلادنا ويفجر فيها أنهاراً كأنهار الشأم والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدّقوك صدّقناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به وإن تقبلوه فهو حظكم وإن تردّوه أصبر لأمر الله. قالوا: فإن لم تفعل فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدّقك وسله أن يجعل لك جناناً وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك فإنا نقوم بالأسواق ونلتمس المعاش كما تلتمسه فقال صلى الله عليه وسلم ما بعثت بهذا ولكنّ الله بعثني بشيراً ونذيراً. قالوا: فأسقط السماء كما زعمت إنّ ربك إن شاء فعل؟ فقال: ذاك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم. فقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً، فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أمية وهو ابن عاتكة بنت عبد المطلب، وقال له: عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك أن تجعل ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ترقى به، وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدّقك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً لما رأى من مباعدتهم فأنزل الله هذه الآية» وفيها إشارة إلى أنه ليس من شرط كونه نبياً صادقاً تواتر المعجزات الكثيرة وتواليها إذ لو فتح هذا الباب لزم أن لا ينتهي الأمر فيه إلى مقطع وكلما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمعجز اقترحوا عليه بمعجز آخر ولا ينتهي الأمر فيه إلى حدّ ينقطع عنه عناد المعاندين
وتعنت الجاهلين
مع أنه صلى الله عليه وسلم أعطى من الآيات والمعجزات ما أغنى عن هذا كله مثل القرآن وانشقاق القمر وتفجير العيون من بين الأصابع وما أشبه ذلك.
ولما تمّ تعنتهم وكان لسان الحال طالباً من الله تعالى الجواب عنه أمر الله تعالى بجوابهم بقوله تعالى: {قل} أي: لهؤلاء البعداء والأشقياء: {سبحان ربي} أي: تعجباً من اقتراحاتهم وتنزيهاً لله من أن يأتي أو يتحكم عليه أو يشاركه أحد في القدرة. وقرأ ابن كثير وابن عامر بصيغة الماضي والباقون قل بصيغة الأمر و {هل كنت إلا بشراً} لا يقدر على غير ما يقدر عليه البشر {رسولاً} كما كان من قبلي من الرسل وكانوا لا يؤتون قومهم إلا بما يظهره الله تعالى على أيديهم بما يلائم حال قومهم ولم يكن أمر الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله حتى يتخيروها.
هذا هو الجواب المجمل، وأمّا التفصيلي فقد ذكر في آيات أخر كقوله تعالى: {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم} (الأنعام، 7)
{ولو فتحنا عليهم باباً} (الحجر، 14)
ونحو ذلك. ولما أمر بما تضمن أنه كإخوانه من الرسل في كونه بشراً أتبعه قوله عطفاً على فأبى أو وقالوا:
{وما منع الناس} أي: قريشاً ومن قال بقولهم لما لهم من الاضطراب {أن يؤمنوا} أي: لم يبق لهم مانع من الإيمان والجملة مفعول(2/337)
منع {إذ جاءهم الهدى} أي: الدليل القاطع على الإيمان وهو القرآن وغيره من الأدلة. وقرأ أبو عمرو وهشام بإدغام ذال إذ عند الجيم والباقون بالإظهار وأمال الألف بعد الجيم حمزة وابن ذكوان محضة وإذا وقف حمزة على جاءهم سهل الهمزة مع المدّ والقصر. {إلا أن قالوا} فاعل منع أن قالوا، أي: منكرين عليه غاية الإنكار متعجبين متهكمين {أبعث الله بشراً رسولاً} لأنّ الكفار كانوا يقولون: لن نؤمن لك لأنك بشر، ولو بعث الله تعالى رسولاً إلى الخلق لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة فأجابهم الله تعالى بقوله: {قل} أي: لهؤلاء المطرودين عن الرحمة {لو كان في الأرض ملائكة يمشون} عليها كالآدميين {مطمئنين} أي: مستوطنين فيها كالبشر {لنزلنا عليهم} مرّة بعد مرّة كما فعلنا في تنزيل جبريل عليه السلام على الأنبياء من البشر وحقق الأمر بقوله تعالى: {من السماء ملكاً رسولاً} يعلمهم الخير ويهديهم المراشد لتمكنهم من التلقي منه لمشاكلتهم له بخلاف البشر كما هو مقتضى الحكمة لأنّ رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم إذ الشيء عن شكله أفهم وبه آنس وإليه أحنّ وله آلف إلا من فضله الله تعالى بتغلب روحه على نفسه، وبتغلب عقله على شهوته فأقدره بذلك على التلقي من الملك كالمرسلين ثم أجابهم الله تعالى جواباً آخر بقوله عز وجلّ:
{قل كفى بالله} أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً. وأمال الألف حمزة والكسائي محضة وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح {شهيداً بيني وبينكم} على أني رسوله إليكم ليظهر المعجزات على وفق دعواهم وإني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنكم عاندتم ومن يشهد الله على صدقه فهو صادق فعند ذلك قول القائل بأنّ الرسول يجب أن يكون ملكاً لا إنساناً تحكم فاسد لا يلتفت إليه. تنبيه: شهيداً نصب على الحال أو التمييز، ثم إنه تعالى ذكر ما هو كالتهديد والوعيد بقوله تعالى: {إنه كان بعباده خبيراً بصيراً} يعلم ظواهرهم وبواطنهم، ويعلم من قلوبهم أنهم لا ينكرون هذا إلا لمحض الحسد وحب الرياسة والاستنكاف من الانقياد للحق. ولما تقدّم أنه تعالى أعلم بالمهتدي والضال عطف عليه قوله تعالى:
{ومن يهد الله} بأن يخلق الهداية في قلبه {فهو المهتدى} لا يمكن أحد غيره أن يضله. تنبيه: أثبت نافع وأبو عمرو الياء بعد الدال مع الوصل دون الوقف وحذفها الباقون وقفاً ووصلاً. {ومن يضلل فلن تجد لهم} أي: الضالين {أولياء} يهدونهم {من دونه} ولا ينفعونهم بشيء أراد الله تعالى غيره. ولما كان يوم القيامة يظهر الله فيه لكل أحد ما كان يعمله نبه على ذلك بقوله تعالى: {ونحشرهم} بنون العظمة، أي: نجمعهم بكره {يوم القيامة} الذي هو محط الحكمة {على وجوههم} مسحوبين عليها إهانة لهم فيها كما لم يذلوها بالسجود لنا. قال تعالى: {يوم يسحبون في النار على وجوههم} (القمر، 48)
أي: يمشون عليها. روى أبو هريرة قيل: يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم قال: «إنّ الذي يمشيهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» . قال حكماء الإسلام: إنّ الكفار أرواحهم شديدة التعلق بالدنيا ولذاتها وليس لها تعلق بعالم الأنوار وحضرة الإله سبحانه وتعالى، فلما كانت وجوه قلوبهم وأرواحهم متوجهة إلى الدنيا لا جرم كان حشرهم على وجوههم، وأمّا قوله تعالى: {عمياً وبكماً وصماً} فقد استشكله شخص على ابن عباس(2/338)
فقال: أليس قد قال الله تعالى: {ورأى المجرمون النار} (الكهف، 53)
وقال تعالى: {سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} (الفرقان، 12)
وقال تعالى: {دعوا هنالك ثبوراً} (الفرقان، 13)
وقال تعالى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} (النحل، 111)
. وقال تعالى حكاية عن الكفار: {والله ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام، 23)
. فثبت بهذه الآيات أنهم يرون ويسمعون ويتكلمون فكيف قال تعالى هنا: {عمياً وبكماً وصماً} ؟ أجاب ابن عباس وتلامذته عنه من وجوه الأوّل: قال ابن عباس عمياً لا يرون شيئاً يسرّهم صماً لا يسمعون شيئاً يسرّهم بكما لا ينطقون بحجة الثاني قال في رواية عطاء عمياً عن النظر، أي: عما جعله الله تعالى لأوليائه وبكماً عن مخاطبة الله تعالى ومخاطبة الملائكة المقرّبين صماً عن ثناء الله تعالى عليهم. الثالث: قال مقاتل: إنه حين يقال لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون يصيرون عمياً بكماً صماً، أمّا قبل ذلك فهم يرون ويسمعون وينطقون. الرابع: أنهم يكونون رائين سامعين ناطقين في الموقف ولولا ذلك لما قدروا أن يطالعوا كتبهم ولا أن يسمعوا لإلزام حجة الله تعالى عليهم إلا أنهم إذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار جعلهم الله تعالى عمياً بكماً صماً. قال الرازي: والجواب الأول أولى لأنّ الآيات السابقة تدل على أنهم في النار يبصرون ويسمعون ويصيحون. ثم بيّن تعالى مكانهم بقوله عز وجلّ: {مأواهم جهنم} تسعر عليهم {كلما خبت} أي: أخذ لهبها في السكون عند أكلها لحومهم وجلودهم {زدناهم سعيراً} توقد بإعادة الجلود واللحوم ملتهبة مسعرة كانهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جزاهم الله تعالى بأن لا يزالوا على الإعادة والإفناء. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر بإظهار تاء التأنيث عند الزاي وأدغمها الباقون. ثم بين علة تعذيبهم ليرجع منهم من قضى بسعادته بقوله تعالى:
{ذلك} أي: العذاب العظيم {جزاؤهم بأنهم} أي: أهل الضلالة {كفروا بآياتنا} القرآنية وغيرها وكانوا كل يوم يزدادون كفراً وهم عازمون على الدوام على ذلك ما بقوا {وقالوا} إنكاراً لقدرتنا {أئذا كنا عظاماً ورفاتاً} ممزقين في الأرض ثم كرّروا الإنكار كأنهم على ثقة من أمرهم هذا الذي بطلانه أوضح من الشمس بقولهم {أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً} فنحن نريهم جزاء على هذا الإنكار المكرّر الخلق الجديد في جلودهم ولحومهم مكرّراً كل لحظة، قال تعالى: {كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب} (النسلء، 56)
. ثم أتبعه بقاطع في بيان جهلهم بقوله تعالى:
{أو لم يروا} أي: يعلموا بعيون بصائرهم على ما هو كالرؤية بعيون أبصارهم لما قام عليه من الدلائل بصحته من الشواهد الجلائل {أنّ الله الذي خلق السموات} جمعها لما دل على ذلك من الحسن، ولما لم تكن الأرض مثل ذلك أفردها مريداً الجنس الصالح للجميع بقوله تعالى: {والأرض} على كبر أجرامها وعظم أحكامها، وقوله تعالى: {قادر على أن يخلق مثلهم} فيه قولان الأوّل: المعنى قادر على أن يخلقهم ثانياً، فعبر عن خلقهم ثانياً بلفظة المثل كما يقوله المتكلمون أنّ الإعادة مثل الابتداء. الثاني: أنّ المراد قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحدونه ويقرّون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة وعلى هذا فهو كقوله تعالى: {ويأت بخلق جديد} (إبراهيم، 19)
. وقوله تعالى: {ويستبدل قوماً غيركم} (التوبة، 39)
. قال الواحدي: والقول هو الأوّل لأنه أشبه بما قبله.
ولما بيّن الله تعالى بالدليل المذكور أنّ البعث والقيام أمر ممكن(2/339)
الوجود في نفسه أردفه ببيان أن لوقوعه في الوجود وقتاً معلوماً عند الله وهو قوله تعالى: {وجعل لهم أجلاً لا ريب} أي: لا شك {فيه} وهو الموت أو القيامة {فأبى الظالمون إلا كفوراً} أي: بعد هذه الدلائل الظاهرة أبوا إلا الكفر والجحود. ولما قال الكفار: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدتهم لتكثر أموالهم ويتسع عيشهم، بيّن تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم بقوله تعالى:
{قل} أي: لهؤلاء المتعنتين {لو أنتم} أي: دون غيركم {تملكون خزائن} عبر بصيغة منتهى الجموع لأنّ المقام جدير بالمبالغة {رحمة ربي} أي: خزائن رزقه وسائر نعمه وذلك غير متناه. {إذاً لأمسكتم} أي: لوقع منكم الإمساك عن الإنفاق في بعض الوجوه التي تحتاجونها {خشية} أي: مخافة عاقبة {الإنفاق} أي: الموصل إلى الفقر فكان المعنى أنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على الشح والدناءة وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشح. وقول البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ: أنتم مرفوع بفعل يفسره ما بعده. قال الزمخشريّ: تقديره لو تملكون جرى فيه على مذهب الكوفيين من أن لو يليها الفعل مضمراً كما يليها ظاهراً والبصريون يمنعون إيلاء لها مضمراً إلا في شذوذ كقول حاتم لو ذات سوار لطمتني، وأصل هذا المثل أنّ امرأة عطلاء من الحلي والهيئة لطمت حاتماً على نحر الناقة وقالت له بقسوة إنما أردناك بفصدها والفصد عندهم أن يقطع عرق من عروق ثم يجمع دمها فيشوى وقيل أصله أنّ المرأة المذكوة لطمت رجلاً فقال: لو ذات سوار لطمتني لاحتملتها فصار مثلاً يضرب لكريم يلطمه الدني، ثم استدل على صحة هذا المفروض بالشاهد من مضمون قولهم {وكان} أي: جبلة وطبعاً {الإنسان} أي: الذي من شأنه الأنس بنفسه فهو لذلك لا يعقل الأمور حق عقلها {قتوراً} أي: بخيلاً. تنبيه: فتح الياء في ربي نافع وأبو عمرو، وسكنها الباقون وهم على مراتبهم في المدّ. فإن قيل: قد يوجد في جنس الإنسان من هو جواد كريم؟ أجيب: من وجوه الأوّل: أن الأصل في الإنسان البخل لأنه خلق محتاجاً والمحتاج لا بدّ وأن يحبس ما به يدفع الحاجة وأن يمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود به لأسباب من خارج فثبت أن الأصل في الإنسان البخل. الثاني: أنّ الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وليخرج عن عهدة الواجب فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض فهو في الحقيقة بخيل. الثالث: أنّ المراد بهذا الإنسان المعهود
السابق وهم الذين قالوا: {لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} . ولما قدم سبحانه وتعالى أن أكثر الناس جحدوا الآيات لكونه تعالى حكم بضلالهم ومن حكم بضلاله لا يمكن هداه شرع يسلي نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بما أتفق لمن قبله من الأنبياء بقوله تعالى:
{ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} أي: واضحات
واختلف في هذه الآيات فقال ابن عباس والضحاك هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وقال مجاهد وعطاء: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص من الثمرات. وقال البقاعي: وهي كما في التوراة: العصا ثم الدم ثم الضفادع ثم القمل ثم موت البهائم ثم البرد الكبار التي أنزلها(2/340)
الله تعالى مع النار المضطرمة فكانت تهلك كل ما مرّت عليه من نبات وحيوان ثم الجراد ثم الظلمة ثم موت الأبكار من الآدميين وجميع الحيوان ثم قال: وقد نظمتها ليهون حفظها فقلت:
*عصا قمل موت البهائم ظلمة
... جراد دم ثم الضفادع والبرد
*وموت بكور الآدميّ وغيره
... من الحيّ آتاه الذي عز وانفرد
قال: وكأنه عدّ اليد مع العصا آية، ولم تفرد اليد لأنه ليس فيها ضرر عليهم اه. وقال البيضاويّ: هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفجار الماء من الحجر وانفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل وذكر محمد بن كعب القرظي الطمس والبحر بدل السنين ونقص من الثمرات. وقال: كان الرجل منهم مع أهله في فراشه وقد صارا حجرين والمرأة منهم قائمة تخبز وقد صارت حجراً. وقال بعضهم: هي آيات الكتاب وهي أحكام يدل عليها. ما روي عن صفوان «أن يهودياً قال لصاحبه: تعال نسأل هذا النبيّ فقال الآخر: لا تقل نبيّ، فإنه لو سمع صارت له أربعة أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} فقال لا تشركوا بالله شيئاً ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقلته ولا تسرفوا ولا تقذفوا المحصنة ولا تفروا من الزخف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبلوا يده، وقالوا: نشهد أنك نبيّ. قال: فما منعكم أن تتبعوني؟ قالوا: إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبيّ وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود» .
وقال الرازيّ: علم أنه تعالى ذكر في القرآن أشياء كثيرة من معجزات موسى عليه السلام، أحدها: أنه تعالى أزال العقدة من لسانه، قيل في التفسير ذهب أعجم وجاء فصيحاً. ثانيها: انقلاب العصا حية. ثالثها: تلقف الحية حبالهم وعصيهم مع كثرتها. رابعها: اليد البيضاء. وخمسة أخرى وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعاشر شق البحر وهو قوله تعالى: {وإذ فرقنا بكم البحر} (البقرة، 50)
والحادي عشر الحجر، وهو قوله تعالى: {أن اضرب بعصاك الحجر} ، (الأعراف، 160)
والثاني عشر: إظلال الجبل، وهو قوله تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة} . (الأعراف، 171)
والثالث عشر: إنزال المنّ والسلوى عليه وعلى قومه. والرابع عشر والخامس عشر: قوله تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات} (الأعراف، 130)
والسادس عشر: الطمس على أموالهم حجارة من النخل والدقيق والأطعمة والدراهم والدنانير. روي أنّ عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب عن قوله تعالى: {تسع آيات بينات} ()
فذكر محمد بن كعب في جملة التسع حل عقدة اللسان والطمس. فقال عمر بن عبد العزيز: هكذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال: يا غلام أخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا بيض مكسور نصفين وجوز مكسور وفوم وعدس وحمص كلها حجارة، وقوله تعالى: {فاسأل} ، أي: يا أعظم خلقنا {بني إسرائيل} يجوز أن يكون الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره. وقرأ ابن كثير والكسائيّ بفتح السين ولا همزة بعدها، والباقون بسكون السين وهمزة مفتوحة بعدها ويجوز أن يكون الخطاب له خاصة وأمره بالسؤال لهم ليتبين له كذبهم مع قومهم، أي: فاسأل بني إسرائيل عامّة الذين نبهوا قريشاً على السؤال عن الروح كما في بعض الروايات، وعن أهل الكهف وذي(2/341)
القرنين وعن حديث موسى عليه السلام والمؤمنين منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه {إذ} ، أي: عن ذلك حين {جاءهم} ، أي: جاء آباءهم فوقع له من التكذيب بعد إظهار المعجزات الباهرات ما وقع لك {فقال} ، أي: فذهب إلى فرعون فأمره بإرسالهم معه فأبى فأظهر له الآيات واحدة بعد أخرى فتسبب عن ذلك صدق ما يقتضيه الحال وهو أن قال: {له فرعون} عتوًّا واستكباراً {إني لآظنك يا موسى مسحوراً} ، أي: مخدوعاً مغلوباً على عقلك فكل ما ينشأ عنك فهو من آثار السحر وهذا كما قالت قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم {إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} . (الإسراء، 47)
وقال في موضع آخر ساحر وأنهم ربما أطلقوا اسم المفعول مريدين اسم الفاعل مبالغة لأنه كالمخبر عن الفعل وفي الأمر بسؤال اليهود تنبيه على ضلالهم ولما لم يؤمن فرعون على تواتر تلك الآيات وعظمها فكأنه قيل فما قال موسى عليه السلام؟ فقيل:
{قال} لفرعون {لقد علمت} بفتح التاء قراءة غير الكسائيّ وقرأ الكسائيّ بضمها على إخباره عن نفسه. {وما أنزل هؤلاء} ، أي: الآيات {إلا رب السموات والأرض} ، أي: خالقهما ومدبرهما حال كون هذه الآيات {بصائر} ، أي: بينات يبصر بها صدقي، وأمّا السحر فإنه لا يخفى أنه خيال لا حقيقة له ولكنك تعاند. تنبيه: قوله تعالى: هؤلاء الكلام عليه من جهة الهمزتين كالكلام على هؤلاء إن كنتم في البقرة وقد تقدّم الكلام على ذلك.
ثم حكى الله تعالى أن موسى قال لفرعون: {وإني} ، أي: وإن ظننتني يا فرعون مسحوراً {لأظنك يا فرعون مثبوراً} ، أي: ملعوناً مطروداً ممنوعاً من الخير فاسد العقل فعارضه موسى بذلك وشتان بين الظنين فإن ظنّ فرعون كذب صرف لعناده لرب العالمين لوضوح مكابرته للبصائر التي كشف عنها ربها الغطاء فهي أوضح من الشمس، وظنّ موسى عليه السلام قريب إلى الصحة واليقين من نظائر أماراته لأن هذه الآيات ظاهرة وهذه المعجزات قاهرة. ولا يرتاب العاقل أنها من عند الله وفي أنه تعالى أظهرها لأجل تصديقي وأنت منكرها فلا يحملنك على هذا الإنكار إلا الحسد والعناد والبغي والجهل وحب الدنيا ومن كان كذلك كانت عاقبته الدمار والثبور {فأراد} ، أي: فما تسبب عن هذا الذي هو موجب للإيمان في العادة إلاأن فرعون أراد {أن يستفزهم} ، أي: يستخف بموسى وبمن آمن معه ويخرجهم فيكونوا كالماء إذا سال من قولهم فز الجرح إذا سال. {من الأرض} بالنفي والقتل للتمكن منهم كما أراد هؤلاء أن يستفزوك منها مما هم عليه من الكفر والعناد. ثم أخذ تعالى يحذرهم سطواته بما فعل بمن كان قبلهم وأكثر منهم وأشدّ بقوله تعالى: {فأغرقناه} ، أي: فتسبب عن ذلك أن رددنا كيده في نحره كما قال تعالى: {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} (فاطر، 43)
. أراد فرعون أن يخرج موسى من أرض مصر لتتخلص له تلك البلاد والله تعالى أهلك فرعون وجعل تلك الأرض خالصة لموسى ولقومه فأدخله البحر حين أدخل بني إسرائيل فأنجاهم وأغرق آل فرعون {ومن معه جميعاً} كما جرت به سنة الله تعالى فيمن عاند بعد أن رأى الخوارق وكفر النعمة وأفرط في البغي بعد ظهور الحق فليحذر هؤلاء مثل ذلك ولا سيما إذا خرج رسولنا من بين أظهرهم ففي هذه الآية وأمثالها بشارة له صلى الله عليه وسلم في أنّ الله تعالى يسلك به في النصرة والتمكن سبيل إخوانه من الرسل عليهم الصلاة(2/342)
والسلام.
{وقلنا من بعده} ، أي: الإغراق {لبني إسرائيل} الذين كانوا تحت يده أذل من العبيد لتقواهم وإحسانهم {اسكنوا الأرض} ، أي: التي أراد أن يستفزكم منها {فإذا جاء} ، أي: مجيئاً محققاً {وعد الآخرة} ، أي: القيامة بعد أن سكنتم الأرض أحياء ودفنتم فيها أمواتاً {جئنا} ، أي: بما لنا من العظمة والقدرة {بكم} منها {لفيفاً} ، أي: بعثناكم وإياهم مختلطين لا حكم لأحد على آخر ولا دفع لأحد عن آخر على غير الحالة التي كانت في الدنيا ثم ميزنا بعضكم عن بعض، ثم عطف سبحانه وتعالى على قوله تعالى: {ولقد صرّفنا} قوله عز وجلّ:
{وبالحق} ، أي: من المعاني الثابتة التي لا مرية فيها لا بغيره {أنزلناه} نحن، أي: القرآن فهو ثابت لا يزول كما أنّ الباطل هو الذاهب الزائل وهذا القرآن الكريم مشتمل على أشياء لا تزول وذلك لأنه مشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام وعلى تعظيم الملائكة وتقرير نبوّة الأنبياء وإثبات الحشر والنشر والقيامة، وكل ذلك مما لا يقبل الزوال ويشتمل أيضاً على شريعة باقية لا يتطرّق إليها النقص والتغيير والتحريف وأيضاً هذا القرآن تكفل الله تعالى بحفظه عن تحريف الزائغين وتبديل الجاهلين كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر، 9)
. {وبالحق} لا بغيره {نزل} هو ووصل إليهم على لسانك بعد إنزاله عليك كما أنزلناه سواء غضاً طرياً محفوظاً لم يطرأ عليه طارئ فليس فيه من تحريف ولا تبديل كما وقع في كتاب اليهود الذين سألهم قومك ثم قال تعالى: {وما أرسلناك} يا أفضل الخلق بما لنا من العظمة {إلا مبشراً} للمطيع {ونذيراً} للعاصي من العقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار لا ما يقترحونه عليك من المعجزات فإن قبلوا الدين الحق انتفعوا به وإلا فليس عليك من كفرهم شيء، ثم إنّ الله تعالى أخبر أنّ الحكمة في إنزال القرآن مفرّقاً بقوله عز وجلّ:
{وقرآناً} ، أي: وفصلنا أو وأنزلنا قرآناً {فرقناه} ، أي: أنزلناه منجماً في أوقات متطاولة قال سعيد بن جبير نزل القرآن كله ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء السفلى، ثم فصل في السنين التي نزل فيها.
قال قتادة: كان بين أوّله وآخره عشرون سنة وقيل ثلاث وعشرون سنة والمعنى قطعناه آية آية وسورة سورة ولم ينزل جملة {لتقرأه على الناس} ، أي: عامّة {على مكث} ، أي: مهل وتؤدة ليفهموه {ونزلناه} من عندنا بما لنا من العظمة {تنزيلاً} بعضه إثر بعض مفرّقاً بحسب الوقائع لأنه أتقن في فصلها وأعون على الفهم لطول التأمّل لما نزل من نجومه في مدّة ما بين النجمين لغزارة ما فيه من المعاني ثم إن الله تعالى هدّدهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:
{قل} لهؤلاء المضلين {آمنوا به} ، أي: القرآن {أو لا تؤمنوا} فالإيمان به غير محتاج إليكم ولا موقوف عليكم لأنكم إن آمنتم به كان الحظ لكم وإلا لم تضروا إلا أنفسكم فاختاروا ما تريدون فإن إيمانكم بالقرآن لا يزيده كمالاً وامتناعكم منه لا يورثه نقصاناً وقوله تعالى: {إن الذين أوتوا العلم من قبله} ، أي: من قبل إنزاله ممن آمن به من بني إسرائيل تعليل له، أي: إن لم تؤمنوا به وأنتم أهل جاهلية وشرك فإنّ خيراً منكم وأفضل وهم العلماء الذين قرؤوا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع قد آمنوا به وصدّقوه وثبت عندهم أنه النبيّ العربيّ الموعود في كتبهم {إذا يتلى عليهم} ، أي: القرآن {يخرون للأذقان} منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام.(2/343)
قال الزجاج: الذقن مجمع اللحيين وكما يبتدئ الإنسان بالخرور إلى السجود فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن. وقيل: إنّ الأذقان كناية عن اللحى والإنسان إذا بالغ عند السجود في الخشوع والخضوع ربما مسح لحيته على التراب، فإنّ اللحية يبالغ في تنظيفها فإذا عفرها الإنسان بالتراب في حوض المبالغة فقد أتى بغاية التعظيم، وقيل: إنّ الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض في معرض السجود كالمغشي عليه فيكون حينئذ خروره على الذقن فقوله {يخرّون للأذقان} كناية عن غاية ولهه وخوفه وخشيته. فإن قيل: لم قال: {يخرّون للأذقان سجداً} ولم يقل يسجدون؟ أجيب: بأنّ المقصود من ذكر هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك حتى كأنهم يسقطون. فإن قيل: لم قال: {يخرّون للأذقان} ولم يقل على الأذقان؟ اجيب: بأن العرب تقول إذا خرّ الرجل فوقع لوجهه خرّ للذقن ثم بين أن ذلك ليس سقوطاً اضطرارياً من كل جهة بقوله تعالى: {سجداً} ، أي: يفعلون ذلك لما يعلمون من خيفته بما أوتوا من العلم السالف وما في قلوبهم من الإذعان والخشية للرحمن.
{ويقولون} ، أي: على وجه التجديد المستمرّ {سبحان ربنا} تنزيهاً له عن خلف الوعد {إن} ، أي: انه {كان} ، أي: كوناً لا ينفك {وعد ربنا} ، أي: المحسن إلينا بالإيمان وما تبعه من وجوه العرفان {لمفعولاً} ، أي: دون خلف ولا بدّ أن يأتي جميع ما وعد به في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال الفرقان عليه ومن الثواب والعقاب وهو تعريض بقريش حيث كانوا يستهزؤون بالوعيد في قولهم أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ونحوه مما في معناه الطعن في قدرة الله تعالى القادر على كل شيء وقوله تعالى:
{ويخرّون للأذقان يبكون} كرّره لاختلاف الحال والسبب فإنّ الأول للشك عند إنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله {ويزيدهم} ، أي: سماع القرآن خشوعاً، أي: خضوعاً وتواضعاً ولين قلب ورطوبة عين. ولما طالت الكلمات في المناظرة مع المشركين ومنكري النبوّات والجواب عن شبهاتهم أتبعها ببيان كيف يدعون الله ويطيعونه وكيف يذكرونه في وقت الاشتغال بأداء العبودية فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
{قل} لهم {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال ابن عباس: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ذات ليلة وهو ساجد يا الله يا رحمن فسمعها ابو جهل وهم لا يعرفون الرحمن. فقال: إنّ محمداً ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر مع الله تعالى يقال له الرحمن، فأنزل الله تعالى هذه الآية، أي: إن شئتم قولوا يا الله وإن شئتم قولوا يا رحمن» . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بالدعاء يقول: يا الله يا رحمن فسمعه أهل مكة فأقبلوا عليه فأنزل الله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} الآية» . وعن ابن عباس أنّ ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً في أوّل ما أنزل وكان الذين قد أسلموا من اليهود يسوءهم قلة ذلك لكثرته في التوراة كابن سلام وابن يامين وابن صوريا وغيرهم، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فنزل قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} ، فقال قريش: ما بال محمد كان يدعو إلها واحداً وهو الآن يدعو إلهين ما نعرف الرحمن(2/344)
إلا صاحب اليمامة فنزل {وهم بذكر الرحمن هم كافرون} (الأنبياء، 36) ، ونزل أيضاً قوله تعالى: {قالوا وما الرحمن} (الرحمن، 60) ، وفرح مؤمنو أهل الكتاب وهو قوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب} ، أي: مشركي قريش {من ينكر بعضه} (الرعد، 36)
. وعن ابن عباس «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: {قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن} إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمان من السرقة، فإنّ رجلاً من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعه فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجد الباب مردوداً فوضع الكارة ففعل ذلك ثلاث مرّات فضحك صاحب الدار فقال: إني أحصن بيتي» . فإن قيل: إذا قال الرجل ادع زيداً أو عمراً فهم منه كون زيد مغايراً لعمرو فيوهم كون الله تعالى غير الرحمن وحينئذ تقوى شبهة أبي جهل لعنه الله تعالى؟ أجيب: بأنّ الدعاء هنا بمعنى التسمية لا بمعنى النداء والتسمية تتعدّى إلى مفعولين يقال دعوته زيداً ثم يترك أحدهما استغناء عنه فيقال دعوت زيداً والله والرحمن المراد بهما الاسم لا المسمى وأو للتخيير فمعنى الآية ادعوا باسم الله أو ادعوا باسم الرحمن، أي: اذكروه بهذا الاسم أو اذكروه بذلك الاسم فقوله ادعوا الله ينبه على ملزم في كرمه بحكم الوعد من إفاضة الرحمة والكرم، وأيضاً تخصيص هذين الاسمين بالذكر يدل على على أنهما أشرف من سائر الأسماء وتقديم اسم الله على اسم الرحمن يدل على أنّ قولنا الله أعظم الأسماء وتقدّم الكلام على ذلك في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم والتنوين في قوله تعالى: {أياً مّا تدعوا} عوض عن المضاف إليه وما صلة للأبهام المؤكد والمعنى أياً تدعوا فهو حسن فوضع موضعه قوله تعالى: {فله الأسماء الحسنى} لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان لأنهما منها ومعنى كونها أحسن الأسماء أنها مستقلة بمعاني التمجيد والتقديس والتعظيم وقد قدّمنا ذكر الأسماء الحسنى في الأعراف عند قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} (الأعراف، 180)
وبعض الأحاديث الواردة في فضلها فليراجع، ووقف حمزة والكسائيّ على الألف بعد الياء ووقف الباقون على الألف بعد الميم، واختلف في تفسير ونزول قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} فروى ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله تعالى إليه {ولا تجهر بصلاتك} فيسمعه المشركون فيسبوا الله تعالى عدواً بغير علم {ولا تخافت بها} فلا تسمع أصحابك {وابتغ بين ذلك سبيلاً} وروي «أنه صلى الله عليه وسلم طاف بالليل على دور الصحابة فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يخفي صوته بالقراءة في صلاته وكان عمر يرفع صوته، فلما جاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لم تخفي صوتك فقال: أناجي ربي وقد علم حاجتي، وقال لعمر: لم ترفع صوتك؟ فقال: أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفع صوته قليلاً وعمر أن يخفض صوته قليلاً» . وقيل معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلاً، بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار، وقيل إنّ المراد بالصلاة الدعاء، وهذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها وأبي هريرة ومجاهد، قالت عائشة: هي الدعاء. وروي هذا مرفوعاً أنّ(2/345)
النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: «إنما ذلك في الدعاء والمسألة» . قال عبد الله بن شدّاد كان أعراب من بني تميم إذا سلم النبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا: اللهمّ ارزقنا مالاً وولداً يجهرون فأنزل الله تعالى هذه، والمخافتة خفض الصوت والسكون يقال: صوت خفيت، أي: خفيض، ويقال للرجل إذا مات قد خفت، أي: انقطع كلامه وخفت الزرع إذا ذبل والمستحب من ذلك التوسط وهو أن يسمع نفسه كما روي عن ابن مسعود أنه قال: من لم يخافت لم يسمع أذنيه وقد مدح الله تعالى المؤمنين بقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك
قواماً} (الفرقان، 67)
وأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال عز من قائل: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} (الإسراء، 29)
وبعضهم قال الآية منسوخة بقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية} (الأعراف، 55)
. قال الرازي: وهو بعيد. ولما أمر الله تعالى أنه لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى علم كيفية التحميد بقوله تعالى:
{وقل الحمد لله} ، أي: الملك الأعظم ثم ذكر سبحانه وتعالى من صفات التنزيه والجلال وهي السلوب ثلاثة أنواع الأوّل قوله تعالى: {الذي لم يتخذ} ، أي: لكونه محيطاً بالصفات الحسنى {ولداً} والسبب فيه وجوه الأوّل أنّ الولد هو الشيء المتولد من جزء من أجزاء ذلك الشيء فكل من له ولد فهو مركب من الأجزاء والمركب محدث والمحدث محتاج والمحتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد. الثاني: أنّ كل من له ولد فإنه يمسك جميع النعم لولده فإذا لم يكن له ولد أفاض تلك النعم على عبيده. الثالث: أنّ الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه وفنائه فلو كان له ولد لكان منقضياً ومن كان كذلك لم يقدر على كمال الإنعام في كل الأوقات، فوجب أن لا يستحق الحمد على الإطلاق. النوع الثاني: من الصفات السلبية قوله تعالى: {ولم يكن له} بوجه من الوجوه {شريك في الملك} والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك لم يعرف حينئذ أنّ هذه النعم والمنافع حصلت منه أو من شريكه فلا يعرف كونه مستحقاً للحمد والشكر. النوع الثالث قوله تعالى: {ولم يكن له وليّ من الذل} ، أي: ولم يواله من أجل مذلة به يدفعها بموالاته والسبب في اعتباره أنه لو جاز عليه وليّ يلي أمره كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد ومستحقاً لأقسام الشكر فنفي عنه أن يكون له ما يشاركه من جنسه ومن غير جنسه اختياراً أو اضطراراً أو ما يعاونه ويقويه ورتب الحمد عليه للدلالة على أنه الذي يستحق جنس الحمد لأنه كامل الذات المنفرد
بالإيجاد
المنعم على الإطلاق وما عداه ناقص مملوك نعمة أو منعم عليه ولذلك عطف عليه قوله تعالى: {وكبره تكبيراً} ، أي: وعظمه تعظيماً على نفي اتخاذ الولد والشريك والذل وكل ما لا يليق به وترتيب الحمد على ذلك للدلالة على أنه المستحق لجميع المحامد لكمال ذاته وتفرّده في صفاته.
روى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «آية العز {الحمد لله الذين لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك} إلى آخر السورة» . وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوّل من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدونه في السراء والضراء» . وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده» . وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه(2/346)
وسلم «إنّ أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله» . وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أحب الكلام إلى الله تعالى أربع لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهنّ بدأت» . أخرجه مسلم. وروي أنّ قول العبد الله أكبر خير له من الدنيا وما فيها. وعن عمرو بن شعيب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه وقل الحمد لله الآية، يقال أفصح الصبيّ في منطقه فهم ما يقول. وعن عبد الله بن كعب قال: افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة. وأمّا ما رواه البيضاويّ تبعاً للزمخشريّ وتبعهما ابن عادل أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين كان له قنطار في الجنة والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية» فحديث موضوع.
سورة الكهف
مكية
إلا {واصبر نفسك} الآية وهي مائة وعشر آيات وألف وخمسمائة وسبع وسبعون كلمة وعدد حروفها ستة آلاف وثلاثمائة وستون حرفاً.
{بسم الله} الذي لا كفء له ولا شريك {الرحمن} الذي أقام عباده على أوضح الطرق بإنزال هذا الكتاب {الرحيم} بتفضيل من اختصه بالصواب وهو قوله تعالى:
{الحمد لله} تقدّم الكلام عليه مستقصى في أوّل الفاتحة: {الذي أنزل على عبده الكتاب} ، أي: القرآن رتب تعالى استحقاق الحمد على إنزاله تنبيهاً على أنه أعظم إنعامه وخص رسوله صلى الله عليه وسلم بالذكر لأن إنزال القرآن نعمة عليه على الخصوص وعلى سائر الناس على العموم، أمّا كونه نعمة عليه فلأنّ الله تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علوم التوحيد والتنزيه. وصفات الجلال والإكرام وأسرار أحوال الملائكة والأنبياء وأحوال القضاء والقدر وتعلق أحوال العالم السفليّ بأحوال العالم العلويّ، وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا، وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب، وكيفية ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات، ولا شكّ أنّ ذلك من أعظم النعم. وأمّا كون هذا الكتاب نعمة علينا فلأنه مشتمل على التكاليف والأحكام والوعد والوعيد والعقاب. وبالجملة فهو كتاب كامل في أقصى الدرجات فكل أحد ينتفع به بمقدار طاقته وفهمه فوجب عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمّته أن يحمدوه على هذه النعم الجزيلة. وقال تعالى: {على عبده} لما في كل من الوصف بالعبودية والإضافة إليه سبحانه وتعالى من الإعلام بتشريفه وإشارة إلى أنه الذي أسرى به إلى حضرات مجده ليريه من آياته. ثم إنه تعالى وصف الكتاب بوصفين الأوّل قوله تعالى: {ولم يجعل له} ، أي: فيه {عوجاً} ، أي: اختلافاً وتناقضاً كما قال تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} (النساء 84) والجملة حال من الكتاب.
الوصف الثاني: قوله تعالى: {قيماً} قال ابن عباس: يريد مستقيما، أي: معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط. قال الرازي: وهذا عندي مشكل لأنه لا معنى لنفي الإعوجاج إلا حصول الاستقامة فتفسير القيم بالمستقيم(2/347)
يوجب التكرار بل الحق أنّ المراد من كونه قيما كونه سبباً لهداية الخلق وأنه يجري مجرى من يكون قيماً للأطفال فالأرواح البشرية كالأطفال والقرآن كالقيم المشفق القائم بمصالحهم وقال قبل ذلك أنّ الشيء يجب أن يكون كاملاً في ذاته ثم يكون مكملاً لغيره، ويجب أن يكون تامّاً في ذاته ثم يكون فوق التمام بأن يفيض عنه كمال الغير فقوله تعالى: {ولم يجعل له عوجاً} إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته وقوله: {قيماً} إشارة إلى كونه مكملاً لغيره. ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة في صفة الكتاب: {لا ريب فيه هدى للمتقين} (البقرة، 2) فقوله: {لا ريب فيه} إشارة إلى كونه في نفسه بالغاً في الصحة وعدم الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه، وقوله: {هدى للمتقين} إشارة إلى كونه سبباً لهداية الخلق ولكمال حالهم فقوله تعالى: {ولم يجعل له عوجاً} قائم مقام قوله تعالى: {لا ريب فيه} قوله تعالى: {قيماً} قائم مقام قوله تعالى: {هدى للمتقين} .
واختلف النحويون في نصب قوله تعالى: {قيماً} على أوجه: الأوّل قال في «الكشاف» : لا يجوز جعله حالاً من الكتاب لأنّ قوله تعالى: {ولم يجعل له عوجاً} معطوف على قوله تعالى: {أنزل} فهو داخل في حيز الصلة وأنه لا يجوز. قال: ولما بطل هذا وجب أن ينتصب بمضمر والتقدير ولم يجعل له عوجاً جعله قيماً لأنه تعالى إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة. قال: فإن قلت فما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الآخر؟ قلت: فائدته التأكيد ورب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح.
الوجه الثاني: أنه حال ثانية والجملة المنفية قبله حال أيضاً كما مرّ وتعدّد الحال الذي حال واحد جائز، والتقدير أنزله غير جاعل له عوجاً قيماً. الوجه الثالث: أنه حال أيضاً ولكنه بدل من الجملة قبله لأنها حال وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز. ولما ذكر تعالى أنه أنزل على عبده هذا الكتاب الموصوف بما ذكر أردفه ببيان ما لأجله أنزله بقوله عز وجلّ: {لينذر} ، أي: يخوّف الكتاب الكافرين {بأساً} ، أي: عذاباً {شديداً من لدنه} ، أي: صادراً من عنده، وقرأ شعبة بإسكان الدال وكسر النون والهاء وصلة الهاء بياء والباقون بضم الدال وسكون النون وضم الهاء، وابن كثير على أصله بضم الهاء في الوصل بواو. {ويبشر المؤمنين} ، أي: الراسخين في هذا الوصف، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء التحتية وسكون الموحدة، وضم الشين مخففة والباقون بضم التحتية وفتح الموحدة وكسر الشين مشدّدة. {الذين يعملون الصالحات} وهي ما أمر به خالصاً له وذانك الشيئان مفتاح الإيمان. {أنّ لهم} ، أي: بسبب أعمالهم {أجراً حسناً} هو الجنة حال كونهم.
{ماكثين فيه أبداً} بلا انقطاع أصلاً فإنّ الأبد زمان لا آخر له، وقوله تعالى: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً} معطوف على قوله تعالى: {لينذر بأساً شديداً من لدنه} والمعطوف يجب كونه مغايراً للمعطوف عليه، فالأوّل عام في حق كل كافر، والثاني خاص بمن أثبت لله ولداً. وعادة القرآن جارية بأنه إذاذكر قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها تنبيهاً على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي كقوله تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة، 98) فكذا ههنا هذا العطف يدل على أنّ أقبح أنواع الكفر إثبات الولد لله تعالى.
تنبيه: الذين أثبتوا لله ولداً ثلاث طوائف الأولى:(2/348)
كفار العرب الذين قالوا الملائكة بنات الله. الثانية: النصارى الذين قالوا المسيح ابن الله. الثالثة: اليهود الذين قالوا عزير ابن الله. ثم إنه تعالى أنكر على القائلين ذلك من وجهين الأوّل: قوله تعالى: {ما لهم به} ، أي: القول. {من علم} ، أي: أصلاً لأنه مما لا يمكن أن يتعلق العلم به لأنه لا وجود له ولا يمكن وجوده، ثم قرّر تعالى هذا المعنى وأكده بقوله: {ولا لآبائهم} الذين يغتبطون بتقليدهم في الدين حتى في هذا الذي لا يتخيله عاقل ولو أخطؤوا في تصرف دنيوي لم يتبعوهم فيه. فإن قيل: اتخاذ الله ولداً محال في نفسه فكيف قيل ما لهم به من علم؟ أجيب: بأن انتفاء العلم بالشيء قد يكن للجهل بالطريق الموصل إليه وقد لا يكون لأنه في نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به، ونظيره قوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به} (المؤمنين، 117) . الوجه الثاني: {كبرت} ، أي: مقالتهم {كلمة} ، أي: ما أكبرها من كلمة وصور فظاظة اجترائهم على النطق بهابقوله تعالى: {تخرج من أفواههم} ، أي: لم يكفهم خطورها في أنفسهم وتردّدها في صدورهم حتى تلفظوا بها وكان صدورهم بها على وجه التكرير كما يشير إليه التعبير بالمضارع. تنبيه: سميت هذه كلمة كما يسمون القصيدة كلمة. ثم بين تعالى ما أفهمه الكلام من أنه كما أنهم لا علم لهم بذلك لا علم لأحد به أصلاً لأنه لا وجود له فقال تعالى: {إن} ، أي: ما {يقولون إلا كذباً} ، أي: قولاً لا حقيقة له بوجه من الوجوه. ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على إيمان قومه شفقة عليهم وغيرة على المقام الإلهي الذي ملأ قلبه تعظيماً خفض عليه سبحانه وتعالى بقوله تعالى:
{فلعلك باخع} ، أي: قاتل {نفسك} من شدّة الغمّ والوجد وأشار تعالى إلى شدّة نفرتهم وسرعة مفارقتهم وعظيم مباعدتهم بقوله عز من قائل: {على آثارهم} ، أي: حين تولوا عن التوحيد وعن إجابتك {إن لم يؤمنوا بهذا الحديث} ، أي: القرآن المتجدّد تنزيله على حسب التدريج {أسفاً} منك على ذلك والأسف شدّة الحزن والغضب. فإن قيل: ذلك يدل على حدوث القرآن؟ أجيب: بأنه محمول على الألفاظ وهي حادثة. ثم بين سبحانه وتعالى علة إرشاده إلى الإعراض عنهم بغير ما يقدر عليه من التبليغ للبشارة والنذارة بأنهم لم يخرجوا عن مراده تعالى، وأنّ الإيمان لا يقدر على إدخاله قلوبهم غيره بقوله عز وجل:
{إنّا} ، أي: إنا لا نفعل ذلك لأنا {جعلنا ما على الأرض} من الحيوان والنبات والشجر والأنهار والمعادن وغير ذلك. وقال بعضهم: بل المراد الناس فهم زينة الأرض، وبالجملة فليس في الأرض إلا المواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات الشامل للشجر والحيوان وأشرف أنواع الحيوان الإنسان. {زينة لها} ، أي: الأرض قيل المراد أهلها، أي: زينة لأهلها. قال الرازي: ولا يمتنع أن يكون ما تحسن به الأرض زينة لها كما جعل الله السماء مزينة بالكواكب. ولما أخبر تعالى بزينتها أخبر تعالى بعلته بقوله تعالى: {لنبلوهم} ، أي: نعاملهم معاملة المختبر {أيهم أحسن عملاً} بإخلاص الخدمة لربه فيصير ما كنا نعلمه منهم ظاهراً فإنّ الله تعالى يعلم السرّ وأخفى، لتقام به عليهم الحجة على ما يتعارفونه بينهم بأن من أظهر موافقة الأمر فيما نال من الزينة حاز المثوبة ومن اجترأ على مخالفة الأمر بما آتاه منها استحق العقوبة فكأنه تعالى يقول: يا محمد إني خلقت الأرض وزينتها وأخرجت منها أنواع المنافع(2/349)
والمصالح والمقصود من خلقها بما فيها من المنافع ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ثم إنهم يكفرون ويتمرّدون ومع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم فأنت أيضاً يا محمد لا ينبغي أن تنتهي في الحزن بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدين الحق. ثم إنه تعالى لما بين أنه إنما زين الأرض لأجل الامتحان والابتلاء لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعماً بها أبداً، زهد فيها بقوله تعالى:
{وإنا لجاعلون ما عليها} من جميع تلك الزينة لا يصعب علينا شيء منه {صعيداً} ، أي: فتاتاً {جزراً} ، أي: يابساً لا ينبت ونظيره قوله تعالى: {كل من عليها فان} (الرحمن، 26) . وقوله تعالى: {فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} (طه: 106، 107) . وتخصيص الإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أنّ سائر الآيات على أنّ الأرض أيضاً لا تبقى كما قال تعالى: {يوم تبدّل الأرض غير الأرض} (إبراهيم، 84) . ولما أنّ القوم تعجبوا في قصة أصحاب الكهف وسألوها النبيّ صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتحان قال تعالى:
{أم حسبت} ، أي: ظننت على ما لك من العقل الرزين والرأي الرصين {أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً} على ما لزم من تهويل السائلين من الكفرة من اليهود والعرب والواقع أنهم كانوا من العجائب ليسوا بعجب بالنسبة إلى كثرة آياتنا فإنّ من كان قادراً على تخليق السموات والأرض كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدّة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم والكهف الغار الواسع في الجبل، واختلف في الرقيم فقيل هو اسم كلبهم قال أمية بن أبي الصلت:
وليس بها إلا الرقيم مجاورا
وصيدهم؛ وهو بكسر الصاد مفعول مجاورا، أي: فناءهم. والقوم في الكهف هجد؛، أي: نوّم، وقيل هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم وقصصهم جعل على باب الكهف. قال البغويّ: وهذا أظهر الأقاويل. وقيل: إنّ الناس رقموا حديثهم نقراً في الجبل وقيل هو الوادي الذي فيه الكهف، وقيل الجبل وقيل قريتهم، وقيل أصحاب الرقيم قوم آخرون غير أصحاب الكهف كانوا ثلاثة يطلبون الكلأ أو نحوه لأهلهم فأخذهم المطر فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة وسدّت عليهم بابه فقال أحدهم: اذكروا ايكم عمل حسنة لعلّ الله يرحمنا ببركته فقال واحد: استعملت أجراء ذات يوم فجاء رجل منهم وسط النهار وعمل في بقيته مثل عملهم فأعطيته مثل أجرهم فغضب أحدهم وترك أجره فوضعته في جانب البيت فمرّ بي بقر فاشتريت فصيلة والفصيلة ولد الناقة إذا انفصل عن أمّه فبلغت ما شاء الله فرجع إليّ بعد حين شيخاً ضعيفاً لا أعرفه وقال: إنّ لي عندك حقاً وذكره حتى عرفته فدفعتها إليه جميعاً اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا فانصدع عنهم الجبل حتى رأوا الضوء والصدع الشق والصداع وجع الرأس. وقال آخر: كان في فضل وأصاب الناس شدّة فجاءتني امرأة تطلب مني معروفاً فقلت: والله ما هو دون نفسك فأبت وعادت ثم رجعت ثلاثاً ثم ذكرت ذلك لزوجها فقال: أجيبي له وأعيني عيالك فأتت وسلمت إليّ نفسها فلما كشفتها وهممت بها ارتعدت فقلت لها: ما لك؟ فقالت: أخاف الله تعالى: فقلت لها: خفتيه في الشدّة ولم أخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ملتمسها اللهمّ إن كنت فعلته لوجهك(2/350)
فافرج عنا فانصدع حتى تعارفوا. وقال الثالث: كان لي أبوان هرمان وكان لي غنم وكنت أطعمهما وأسقيهما ثم أرجع إلى غنمي فحبسني ذات يوم غيم فلم أرجع حتى أمسيت فأتيت أهلي وأخذت محلبي فحلبت فيه ومضيت إليهما قوجدتهما نائمين فشقّ عليّ أنّ أوقظهما فوقفت حابساً محلبي على يديّ حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما اللهمّ إن كنت فعلت ذلك لوجهك الكريم فافرج عنا ففرج
الله عنهم فخرجوا وقد رفع ذلك النعمان بن بشير وقد قدّمنا سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله تعالى: {ويسألونك عن الروح} (الإسراء، 85) .
وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحاً فقال: كان النضر بن الحرث من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث رستم واسفنديار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلساً ذكر فيه الله تعالى وحذر قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام وقال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فهلموا فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه ثم يحدّثهم عن ملوك فارس ثم قال: إنّ قريشاً بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفته فإنهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار اليهود عن أحوال محمد فقال لهم اليهود سلوه عن ثلاثة؛ عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل فإن حديثهم عجيب. وعن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها. وسلوه عن الروح وما هي فإن أخبركم فهو نبيّ وإلا فهو متقول، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد وأخبراهم بما قالته اليهود، فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أخبركم بما سألتم عنه غداً» ، ولم يستئن فانصرفوا عنه فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون خمس عشرة ليلة لم ينزل عليه وحي وشق عليه ذلك ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله بسورة أهل الكهف وفيها معاتبة الله تعالى إياه على جراءته عليهم وفيها خبر أولئك الفتية وخبر الرجل الطوّاف ثم بدأ بالفتية فقال:
{إذ} ، أي: واذكر إذ {أوى الفتية} وهم أصحاب الكهف المسؤول عنهم جميع فتى وهو الشاب الكامل والشباب أقبل إلى الحق وأهدى للسبيل من الشيوخ {إلى الكهف} خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار واختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن إسحاق بن يسار: مرج اهل الانجيل وكثرت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعبادة الله وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له ذقيانوس عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه وكان ينزل قرى الروم فلا يترك في قرية نزلها أحد إلا فتنه عن دينه حتى يعبد الأصنام أو يقتله ثم نزل مدينة أهل الكهف وهي أفسوس فلما نزل بها كبر على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه واتخذ شرطاً من الكفار وأمرهم أن يتبعوهم في أماكنهم ويخرجوهم إليه فيخيروهم بين القتل وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن(2/351)
يعبد غير الله تعالى فيقتل فلما رأى ذلك أهل الشدّة في الإيمان جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل فيقتلون ويقطعون ثم جعل ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها وعلى كل باب من أبوابها حتى عظمت الفتنة فلما رأى ذلك الفتية حزنوا حزناً شديداً فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والدعاء والتسبيح وكانوا من أشراف المدينة ومن أشراف الروم وكانوا ثمانية نفر بكوا وتضرّعوا إلى الله تعالى وجعلوا يقولون ربنا اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وارفع عنهم هذا البلاء حتى يعلنوا عبادتك فبينما هم على ذلك وقد دخلوا مصلى لهم أدركهم الشرط فوجدوهم سجوداً على وجوههم يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى فقالوا لهم: ما خلفكم عن أمر الملك انطلقوا إليه ثم خرجوا فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس فقالوا: نجمع الناس للذبح لآلهتك وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يستهزؤون بك ويعصون أمرك فلما سمع ذلك بعث إليهم فأتى بهم تفيض
أعينهم من الدمع معفرة وجوههم في التراب فقال لهم:
ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلوا أنفسكم بأسوة سراة أهل مدينتكم؟ اختاروا إمّا إن تذبحوا لآلهتنا وإمّا أن أقتلكم فقال له كبيرهم: واسمه مكسلمينا إنّ لنا إلهاً ملء السموات والأرض عظمته لن ندعو من دونه إلهاً أبداً له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصاً ابداً إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير، وأمّا الطواغيت فلن نعبدها أبداً، اصنع ما بدا لك وقال أصحابه مثل ما قال، فلما قالوا ذلك أمر الملك بنزع لباسهم، وحلية كانت عليهم من الذهب والفضة، وقال: سأفرغ لكم وأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعي أن أعجل لكم ذلك إلا أني أراكم شباباً حديثة أسنانكم فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تذكرون فيه وترجعون إلى عقولكم ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده وانطلق إلى مدينة أخرى قريبة منهم لبعض أموره فلما رأى الفتية خروجه بادروا قدومه وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم فائتمروا بينهم أن يأخذ كل واحد منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدّقوا منها ويتزوّدوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة فمكثوا فيه ويعبدوا الله تعالى حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما يشاء فلما قال ذلك بعضهم لبعض عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فاخذ نفقة فتصدق منها وانطلقوا بما بقي معهم واتبعهم كلب كان لهم حتى إذا أتوا ذلك الكهف فلبثوا فيه.
وقال كعب الأحبار: مرّوا بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مراراً فقال لهم الكلب ما تريدون مني لا تخشوا جنايتي أنا أحب أحباب الله عز وجل فناموا حتى أحرسكم.
وقال ابن عباس: هربوا ليلاً من دقيانوس وكانوا سبعة، فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعه كلبه فخرجوا من البلد إلى الكهف وهو قريب من البلد قال ابن اسحق فلبثوا فيه ليس لهم عمل غير الصلاة والصيام والتسبيح والتمجيد ابتغاء وجه الله تعالى وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له تمليخا فكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سراً وكان من أجملهم وأجلدهم وكان إذا دخل المدينة يضع ثياباً كانت عليه حساناً ويأخذ ثياباً كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ثم ياخذ وَرِقه وينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاماً وشراباً(2/352)
ويتجسس لهم الخبر هل ذكروا أصحابه بشيء ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا في ذلك ما شاء الله أن يلبثوا ثم قدم دقيانوس المدينة وأمر عظماء أهلها أن يذبحوا للطواغيت ففزع من ذلك أهل الإيمان وكان تمليخا يشتري لأصحابه طعامهم فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل أخبرهم أنّ الجبار قد دخل المدينة وأنهم قد ذكروا والتمسوا من عظماء المدينة ففزعوا ووقعوا سجوداً يدعون ويتضرعون ويتعوذون من الفتنة ثم إن تمليخا قال لهم: يا إخوتاه ارفعوا رؤوسكم واطعموا وتوكلوا على ربكم، فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع فطعموا ذلك مع غروب الشمس ثم جعلوا يتحدثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضاً فينما هم كذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم فلما كان الغد تفقدهم دقيانوس فالتمسهم فلم يجدهم فقال لبعض عظمائه وعظماء المدينة لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، لقد كانوا ظنوا أن بي غضباً عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري ما كنت لأجهل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي.
فقال عظماء المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة، فقد كنت أجلت لهم أجلاً ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ولكنهم لم يتوبوا فلما قالوا ذلك غضب غضباً شديداً ثم أرسل إلى آبائهم فأتي بهم فسألهم وقال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني فقالوا له: أمّا نحن فلم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثم انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى بنجلوس فلما قالوا ذلك خلا سبيلهم وجعل ما يدري ما يصنع بالفتية، فألقى الله تعالى في قلبه أن يسدّ باب الكهف عليهم واراد الله تعالى أن يكرمهم بذلك ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم وأن يبين لهم {أنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور} (الحج، 7) ، قوله بنجلوس هكذا في النسخ والذي في حياة الحيوان منحلوس اه. فأمر دقيانوس بالكهف أن يسدّ عليهم وقال: دعوهم كما هم في الكهف يموتون جوعاً وعطشاً ويكون كهفهم الذي اختاروه قبراً لهم وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال، ثم إنّ رجلين مؤمنين في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وخبرهم في لوحين من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان وقالا: لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من يفتح عليهم خبرهم حين يقرأ الكتاب ففعلا ذلك وبنيا عليه وبقي دقيانوس ما بقي ثم مات وقومه وقرون بعده كثيرة. وقد حكى الله تعالى عنهم أنهم لما أووا إلى الكهف {فقالوا} ، أي: عقب استقرارهم فيه {ربنا آتنا من لدنك} ، أي: من عندك {رحمة} توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من عدوّك {وهيئ لنا من أمرنا} ، أي: من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار {رشداً} الرشد والرشد والرشاد نقيض الضلال وفي تفسير اللفظ وجهان الأوّل أنّ
التقدير هيئ لنا أمراً ذا رشد، أي: حتى نصير بسبببه راشدين مهتدين. الثاني: اجعل أمرنا رشداً كله كقولك رأيت منك رشداً. ولما أجابهم سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بقوله تعالى:
{فضربنا} ، أي: عقب هذا القول(2/353)
وبسببه {على آذانهم} حجاباً يمنع السماع، أي: أنمناهم نومة لا تنبههم الأصوات الموقظة فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة. ثم بين تعالى أنه إنما ضرب على آذانهم {في الكهف} ، أي: المعهود وهو ظرف مكان وقوله تعالى: {سنين} ظرف زمان وقوله تعالى: {عدداً} ، أي: ذوات عدد يحتمل التكثير والتقليل فإنّ مدّة لبثهم كبعض يوم عنده كقوله تعالى: {لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} (الأنفاق، 35) . وقال الزجاج: إذا قل الشيء فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى أن يعدّ وإذا كثر أحتاج إلى أن يعدّ {ثم بعثناهم} ، أي: أيقظناهم من ذلك النوم {لنعلم} ، أي: علم مشاهدة وقد سبق نظير هذه الآية في القرآن كثيراً منها ما سبق في سورة البقرة {إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} (البقرة، 143)
. وفي آل عمران: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} (آل عمران، 142)
وقد نبهنا على ذلك في محله {أيّ الحزبين} ، أي: الفريقين المختلفين في مدّة لبثهم {أحصى لما لبثوا أمداً} واختلفوا في الحزبين المختلفين فقال عطاء عن ابن عباس: المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك وأصحاب الكهف. وقال مجاهد: الحزبان من الفتية أصحاب الكهف لما تيقظوا اختلفوا في أنهم كم لبثوا ويدل له قوله تعالى: {قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} (الكهف، 19)
فالحزبان هما هذان وكان الذين {قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} هم الذين علموا أنّ لبثهم قد تطاول. وقال الفرّاء: إنّ طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدّة لبثهم. تنبيه: أحصى فعل ماض، أي: أيهم ضبط أمر أوقات لبثهم وأمّا من جعله أفعل تفضيل فقال في «الكشاف» : ليس بالوجه السديد وذلك أنّ بناءه من غير الثلاثي المجرّد ليس بقياس ونحو أعدى من الجرب وأفلس من ابن المذلق شاذ والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به. ثم قال الله تعالى:
{نحن} ، أي: بما لنا من العظمة والقدرة الباهرة {نقص عليك} يا أشرف الخلق {نبأهم} ، أي: خبرهم العظيم قصاً ملتبساً {بالحق} ، أي: الصدق {إنهم فتية} ، أي: شبان {آمنوا بربهم} ، أي: المحسن إليهم الذي تفرد بخلقهم ورزقهم، ثم وصفهم الله تعالى بقوله: {وزنادهم} بعد أن آمنوا {هدى} بما قذفناه في قلوبهم من المعارف {وربطنا على قلوبهم} ، أي: قويناها فصار ما فيها من القوى مجتمعاً غير مبدد فكانت حالهم في الجلوة حالهم في الخلوة. {إذ قاموا} ، أي: وقت قيامهم بين يدي الجبار دقيانوس من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام {فقالوا ربنا رب السموات والأرض} وذلك لأنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله تعالى هؤلاء الفتية حتى عصوا ذلك الجبار وأقروا بربوبية الله تعالى وصرحوا بالبراءة من الشرك والأنداد بقولهم: {لن ندعو من دونه إلهاً} لأنّ ما سواه عاجز والله {لقد قلنا إذاً} ، أي: إذا دعونا من دونه غيره {شططاً} ، أي: قولاً ذا بعد عن الحق جداً. وقال مجاهد: كانوا أبناء عظماء مدينتهم فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم هو أكبر القوم: إني لأجد في نفسي شيئاً ما أظن أنّ أحداً يجده قالوا: ما تجد؟ قال: أجد في نفسي أنّ ربي رب السموات والأرض. قالوا: نحن كذلك في أنفسنا فقاموا جميعاً فقالوا: {ربنا رب السموات والأرض} . وقال عطاء: قالوا ذلك عند قيامهم من النوم. قال الرازي: وهو بعيد(2/354)
لأنّ الله تعالى استأنف قصتهم بقوله تعالى: {نحن نقص عليك} . وقال عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتياناً مطوّقين مسورين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها وقد قذف الله تعالى في قلوب الفتية الإيمان، وكان أحدهم وزير الملك فآمنوا وأخفى كل واحد إيمانه فقالوا في أنفسهم: نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم فخرج شاب
منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك ثم خرج آخر فخرجوا كلهم جميعاً فاجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ما جمعكم وكل واحد يكتم صاحبه مخافة على نفسه ثم قالوا: ليخرج كل فتيين فيخلوا ثم يفشي كل واحد سرّه إلى صاحبه ففعلوا فإذا هم جميعاً على الإيمان، وإذا بكهف في الجبل قريب منهم فقال بعضهم لبعض:
{
هؤلاء قومنا} وإن كانوا أسنّ منا وأقوى وأجل في الدنيا {اتخذوا من دونه آلهة} أشركوهم معه تعالى لشبهة واهية {لولا} ، أي: هلا {يأتون عليهم بسلطان} ، أي: دليل {بين} ، أي: ظاهر مثل ما نأتي نحن على تقرير معبودنا بالأدلة الظاهرة فتسبب عن عجزهم عن دليل أنهم أظلم الظالمين فلذلك قالوا: {فمن أظلم} ، أي: لا أحد أظلم {ممن افترى} ، أي: تعمد {على الله} ، أي: الملك الأعظم {كذباً} بنسبة الشريك إليه تعالى. ثم قال بعض الفتية لبعض:
{وإذ} ، أي: وحين {اعتزلتموهم} ، أي: قومكم {وما يعبدون} ، أي: واعتزلتم معبودهم وقولهم: {إلا الله} يجوز أن يكون استثناء منه متصلاً على ما روي أنهم كانوا يقرّون بالخالق ويشركون معه كما كان أهل مكة، وأن يكون منقطعاً وقيل هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية بأنهم لم يعبدوا غير الله تعالى: {فأووا إلى الكهف} ، أي: الغار الذي في الجبل {ينشر} ، أي: يبسط {لكم} ويوسع عليكم {ربكم} ، أي: المحسن إليكم {من رحمته} ما يكفيكم به المهم من أمركم في الدارين {ويهيئ لكم من أمركم} ، أي: الذي من شأنه أن يهمكم {مرفقاً} ، أي: ما ترتفقون به وتنتفعون وجزمهم بذلك لخلوص نيتهم وقوّة وثوقهم بفضل الله. وقرأ نافع وابن عامر بفتح الميم وكسر الفاء والباقون بكسر الميم وفتح الفاء. قال الفراء: وهما لغتان واشتقاقهما من الارتفاق، وكان الكسائي لا يذكر في مرفق الإنسان الذي في اليد إلا كسر الميم وفتح الفاء، والفراء يجيزه في الأمر وفي اليد وقيل هما لغتان إلا أنّ الفتح أقيس والكسر أكثر والخطاب في قوله تعالى:
{وترى الشمس} للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد وليس المراد أنّ من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ولكن العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو ومعناه أنك لو رأيته على هذه الصورة {إذا طلعت تزاور} ، أي: تميل {عن كهفهم ذات اليمين} ، أي: نا حيته {وإذا غربت تقرضهم} ، أي: تعدل في سيرها عنهم {ذات الشمال} ، أي: فلا يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم لأنّ الله تعالى زواها عنهم. وقيل إنّ باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف وإذا غربت كانت على شماله. وقرأ السوسي بإمالة ألف ترى المنقلبة بعد الراء في الأصل بخلاف عنه، والباقون بالفتح في الوصل وهم على أصولهم في الوقف وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين، والباقون(2/355)
بالفتح، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وتزاور بتشديد الزاي وتخفيف الراء مضمومة، وابن عامر بسكون الزاي ولا ألف بعدها وتشديد الواو على وزن تحمرّ، والباقون وهم عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الزاي والواو ولا خلاف في ضم الراء.
ولما بين أنه تعالى حفظهم من حرّ الشمس بيّن أنه أنعشهم بروح الهواء وألطفهم بسعة الموضع في فضاء الغار فقال تعالى: {وهم في فجوة منه} ، أي: في وسط الكهف ومتسعه ينالهم برد الريح ونسيمها، ثم بيّن تعالى نتيجة هذا الأمر الغريب في النبأ العجيب بقوله تعالى: {ذلك} ، أي: المذكور العظيم {من آيات الله} ، أي: دلائل قدرته {من يهد الله} ، أي: الذي له الملك كله يخلق هذه الهداية في قلبه كأصحاب الكهف {فهو المهتد} في، أي: زمان كان فلن تجد له مضلاً مغويا ففي ذلك إشارة إلى أنّ أهل الكهف جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم فلطف بهم وأعانهم وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية والاختصاص بالآية العظيمة، وأنّ كل من سلك طريق المهتدين الراشدين فهو الذي أصاب الفلاح واهتدى إلى السعادة، وقرأ نافع وأبو عمرو بزيادة ياء بعد الدال في الوصل دون الوقف والباقون بحذفها وقفاً ووصلاً. {ومن يضلل} ، أي: يضله الله تعالى ولم يرشده كدقيانوس وأصحابه {فلن تجد له ولياً} ، أي: معيناً {مرشداً} ، أي: يرشده للحق، ثم إنه تعالى عطف على ما مضى بقية أمرهم بقوله تعالى:
{وتحسبهم} ، أي: لو رأيتهم أيها المخاطب {أيقاظاً} ، أي: منتبهين لأنّ أعينهم مفتحة للهواء لأنه يكون أبقى لها، جمع يقظ بكسر القاف {وهم رقود} ، أي: نيام جمع راقد قال الزجاج: لكثرة تقلبهم يظنّ أنهم أيقاظ والدليل عليه قوله تعالى: {ونقلبهم} ، أي: في ذلك حال نومهم تقلباً كثيراً بحسب ما ينفعهم كما يكون النائم {ذات} ، أي: في الجهة التي هي صاحبة {اليمين} منهم {وذات الشمال} لينال روح النسيم جميع أبدانهم ولا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث.
تنبيه: اختلف في مقدار مدّة التقليب، فعن أبي هريرة أنّ لهم في كل عام تقليبتين. وعن مجاهد يمكثون رقوداً على أيمانهم تسع سنين ثم ينقلبون على شمائلهم فيمكثون رقوداً تسع سنين وقيل لهم تقليبة واحدة يوم عاشوراء. قال الرازي: وهذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليها وما جاء فيه خبر صحيح فكيف يعرف انتهى. ولهذا قلت بحسب ما ينفعهم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فائدة تقلبهم لئلا تأكل الأرض لحومهم ولا ثيابهم اه. قال الرازي: وهذا أعجب من ذلك لأنه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم ثلاثمائة سنة وأكثر أفلا يقدر على حفظ أجسادهم من غير تقليب اه. وهذا ليس بعجيب لأنّ القدرة صالحة لذلك وأكثر بحسب العادة، وأمّا إمساك أرواحهم فهو خرق للعادة فلا يقاس عليه. {وكلبهم باسط ذراعيه} ، أي: يديه، أي: ملقيهما على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» .
وقال المفسرون: كان الكلب قد بسط ذراعيه وجعل وجهه عليهما. تنبيه: باسط اسم فاعل ماض وإنما عمل على حكاية الحال والكسائيّ يعمله ويستشهد بالآية الكريمة وأكثر المفسرين على أنّ الكلب من جنس الكلاب. وروي عن ابن جريج أنه كان أسداً(2/356)
ويسمى الأسد كلباً فإنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال: «اللهم سلط عليه كلباً من كلابك فافترسه الأسد» . وقال ابن عباس: كان كلباً أغزّ واسمه قطمير وعن عليّ اسمه ريان واختلف في قوله تعالى: {بالوصيد} فقال ابن عباس: هو باب الكهف وقيل العتبة. قال السدي: والكهف لا يكون له باب ولا عتبة، وإنما أراد موضع الباب والعتبة وقال الزجاج: الوصيد فناء البيت وفناء الدار، قال الشاعر:
*بأرض فضاء لا يسدّ وصيدها
... عليّ ومعروفي بها غير منكر
وقال مجاهد والضحاك: الوصيد الكهف. {لو اطلعت عليهم} بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين، أي: وهم على تلك الحالة {لوليت منهم} حال وقوع بصرك عليهم {فراراً} لما البسهم الله تعالى من الهيبة وجعل لهم من الجلالة تدبيراً منه لما أراد منهم حتى لا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله. {ولملئت منهم رعباً} ، أي: فزعاً، واختلف في ذلك الرعب كان لماذا؟ فقال الكلبيّ: لأنّ أعينهم مفتتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام، وقيل من وحشة الكلام وقيل لكثرة شعورهم وطول أظفارهم وتقلبهم من غير حس كالمستيقظ وقيل: إنّ الله تعالى منعهم بالرعب حتى لا يراهم أحد.
وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس قد منع ذلك من هو خير منك {لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً} ، فبعث معاوية ناساً فقال: اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم. وقرأ نافع وابن كثير بتشديد اللام بعد الميم، والباقون بتخفيفها والسوسي بإبدال الهمزة ياء على أصله وقفاً ووصلاً وحمزة في الوقف فقط. وقرأ ابن عامر والكسائي رعباً بضم العين والباقون بسكونها.
{وكذلك} ، أي: كما فعلنا بهم ما ذكرنا آية {بعثناهم} ، أي: أيقظناهم آية {ليتساءلوا بينهم} ، أي: ليسأل بعضهم بعضاً عن أحوالهم في نومهم ويقظتهم فيتعرّفوا حالهم وما صنع الله تعالى بهم فيزدادوا يقيناً على كمال قدرة الله تعالى وليستبصروا به أمر البعث ويشكروا ما أنعم الله به عليهم. {قال قائل منهم} مستفهماً من إخوانه: {كم لبثتم} نائمين في ذا الكهف من ليلة أو يوم؟ وهذا يدل على أنّ هذا القائل استشعر طول لبثهم مما رأى من هيئتهم أو بغير ذلك من الأمارات {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} لأنهم دخلوا الكهف طلوع الشمس وبعثوا آخر النهار فلما رأوا الشمس باقية قالوا: أو بعض يوم فلما نظروا إلى طول أظفارهم وشعورهم {قالوا ربكم أعلم بما لبثتم} فأحالوا العلم على الله تعالى قال ابن عباس القائل ذلك هو رئيسهم تمليخا رد علم ذلك إلى الله تعالى، وعلم أن مثل هذا التغيير لا يحصل إلا في الأيام الطويلة، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند المثناة والباقون بالإدغام، ثم لما علموا أنّ الأمر ملتبس عليهم لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم وقالوا: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه} ، أي: بفضتكم، وقرأ أبو عمرو وشعبة وحمزة بسكون الراء والباقون بكسرها والورق اسم للفضة سواء كانت مضروبة أم لا ويدل عليه ما روي أن غرفجة اتخذ(2/357)
أنفاً من ورق ويقال لها الرقة وفي الحديث «في الرقة ربع العشر» . {إلى المدينة} ، أي: التي خرجتم منها وهي مدينة طرسوس وهذه الآية تدل على أنّ السعي في إمساك الزاد أمر مهمّ مشروع وأنه لا يبطل التوكل على الله تعالى إذ حقيقة التوكل على الله تعالى تهيئة الأسباب واعتقاد أن لا مسبب للأسباب إلا الله تعالى، فحمل النفقة وما يصلح المسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتوكلين على الإنفاقات على ما في أوعية القوم من النفقات. ومنه قول عائشة رضي الله تعالى عنها لمن سألها عن محرم يشدّ عليه هميانه أوثق عليك نفقتك.
وما حكي عن بعض صعاليك العلماء أنه كان شديد الحب إلى أن يرزق حج بيت الله الحرام وعلم منه ذلك فكانت مياسير أهل بلده كلما عزم قوم على حج أتوه أن يحجوا به وألحوا عليه فيعتذر إليهم ويحمد إليهم بذلهم فإذا انفضوا عنه قال لمن عنده ما لهذا السفر إلا شيئان شدّ الهميان والتوكل على الرحمن {فلينظر أيها أزكى طعاماً} قال ابن عباس: يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوساً وفيهم قوم يخفون إيمانهم وقال مجاهد: كان ملكهم ظالماً فقولهم أيها أزكى طعاماً، أي: أيها أبعد عن الغصب وكل سبب حرام، وقيل: أيها أطيب وألذ وقيل أيها أرخص. قال الزجاج: قولهم أيها رفع بالابتداء وأزكى خبره وطعاماً تمييز ولا بدّ هنا من حذف، أي: أيّ أهلها أزكى، أي: أحل، وقيل لا حذف والضمير عائد على الأطعمة المدلول عليها من السياق. {فليأتكم} ذلك الأحد {برزق منه} لنأكل {وليتلطف} ، أي: وليكن في ستر وكتمان في دخول المدينة وشراء الأطعمة حتى لا يعرف {ولا يشعرنّ} ، أي: ولا يخبرنّ {بكم أحداً} من أهل المدينة.
{إنهم} ، أي: أهل المدينة {إن يظهروا} ، أي: يطلعوا عالين {عليكم يرجموكم} ، أي: يقتلوكم والرجم بمعنى القتل كثير في القرآن كقوله تعالى: {ولولا رهطك لرجمناك} (هود، 91)
وقوله: {لأرجمنك} (مريم، 46)
وقوله: {أن ترجمون} (الدخان، 20)
. وقال الزجاج:، أي: يقتلوكم بالرجم والرجم أخبث أنواع القتل. {أو يعيدوكم في ملتهم} إن لنتم لهم {ولن تفلحوا إذاً} ، أي: إن رجعتم إلى ملتهم {أبداً} بل تكونوا خاسرين. قال بعض العلماء: ولا خوف على المؤمن الفارّ بدينه أعظم من هذين الأمرين أحدهما ما فيه هلاك النفس وهو الرجم الذي هو أخبث أنواع القتل والآخر هلاك الدين. فإن قيل: أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر حتى أظهروا الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا {ولن تفلحوا إذاً أبداً} أجيب: بأنهم خافوا أنهم لو بقوا على الكفر مظهرين له فقد يميل بهم ذلك إلى الكفر الحقيقي فكان خوفهم بسبب هذا الاحتمال. فإن قيل: ما النكتة في العدول عن واحدكم إلى أحدكم وكل ذلك دال على الوحدة؟ أجيب: بأنّ النكتة فيه أنّ العرب إذا قالوا أحد القوم أرادوا به فرداً منهم وإذا قالوا واحد القوم أرادوا رئيسهم والمراد في القصة، أي: واحد كان والقرآن الكريم أنزل بلغتهم فراعى ما راعوا.
{س18ش21 وَكَذَالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُو?ا? أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ رَيْبَ فِيهَآ إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ? فَقَالُوا? ابْنُوا? عَلَيْهِم بُنْيَانًا? رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ? قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا? عَلَى? أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}
{وكذلك} ، أي: ومثل ما فعلنا بهم ذلك الأمر العظيم من الربط على قلوبهم والستر والحماية من الطالبين لهم والحفظ لأجسادهم على ممرّ الزمان وتعاقب الحدثان وغير ذلك {أعثرنا} ، أي: أطلعنا غيرهم {عليهم} يقال عثرت على كذا علمته وأصله أنّ من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه فعرفه فكان العثر سبباً لحصول العلم فأطلق السبب على السبب بقوله تعالى: {ليعلموا} متعلق بأعثرنا(2/358)
والضمير قيل يعود على مفعول أعثرنا المحذوف تقديره أعثرنا الناس وقيل يعود إلى أهل الكهف وهذا هو الظاهر {أنّ وعد الله} الذي له صفات الكمال بالبعث للروح والجثة معاً {حق} لأنّ قيامهم بعد نومهم يتقلبون نيفاً وثلاثمائة سنة مثل من مات ثم بعث.
قال بعض العارفين: علامة اليقظة بعد النوم علامة البعث بعد الموت.
ولما كان من الحق ما قد يداخله شك قال تعالى: {وأنّ} ، أي: وليعلموا أنّ {الساعة} ، أي: آتية {لا ريب} ، أي: لا شك {فيها} .
تنبيه: اختلف في السبب الذي عرف الناس واقعة أصحاب الكهف، فقال محمد بن إسحاق: إنّ ملك تلك البلاد رجل صالح يقال له تندوسيس، فلما ملك بقي في ملكه ثمانية وستين سنة فتحزب الناس في مملكته فكانوا أحزاباً؛ منهم من يؤمن بالله ويعلم أنّ الساعة حق، ومنهم من يكذب بها فكبر ذلك على الملك الصالح فبكى وتضرّع إلى الله تعالى وحزن حزناً شديداً لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون: لا حياة إلا الدنيا وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، وجعل الملك يرسل إلى من يظن فيهم خيراً وأنهم أئمة في الخلق فلم يقبلوا منه، وجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يخرجون الناس عن الحق وملة الحواريين، فلما رأى ذلك الملك دخل بيته وأغلق بابه عليه ولبس مسحاً وجعل تحته رماداً، فجلس عليه ودأب ليله ونهاره زماناً يتضرّع إلى الله تعالى ويبكي، أي: رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم، قوله يقال له تندوسيس الذي في حياة الحيوان يقال تاودوسيوس فليحرّر اه.
ثم إنّ الله تعالى الذي يكره هلكة عباده أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية وحجة عليهم ليعلموا أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، ويستجيب لعبده تندوسيس ويتم نعمته عليه، وأن يجمع من كان تبدّد من المؤمنين وألقى الله في نفس رجل من تلك البلد الذي فيه الكهف أن يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف، فيبني به حظيرة لغنمه فاستأجر غلامين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان تلك الحظيرة حتى إذا نزعا ما على فم الكهف وفتحا باب الكهف أذن الله تعالى ذو القدرة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهري الكهف فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون لها إذا أصبحوا من ليلتهم ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون لا يرى في وجوههم ولا في ألوانهم شيء يكرهونه كهيئتم حين رقدوا وهم يرون أنّ ملكهم دقيانوس في طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم ائتنا بما قال الناس في شأننا عشية أمس عند الجبار وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون وقد تخيل لهم أنهم قد ناموا أطول ما كانوا ينامون حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض كم لبثتم نياماً، قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم. قالوا ربكم أعلم بما لبثتم، وكل ذلك في أنفسهم يسير فقال لهم تمليخا: ألتمستم بالمدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحون للطواغيت أو يقتلكم فما شاء الله بعد ذلك فعل فقال لهم مسكلمينا: يا إخواتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدوّ الله ثم قالوا لتمليخا انطلق إلى المدينة فتسمع ما يقال لنا بها وما الذي يذكر عند دقيانوس وتلطف ولا تشعرنّ بك أحداً وابتع لنا طعاماً وائتنا به وزدنا على الطعام الذي جئتنا به فقد أصبحنا(2/359)
جياعاً ففعل تمليخا كما كان يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها وأخذ ورقاً من نفقتهم التي كانت معهم
التي ضربت بطابع دقيانوس وكانت كخفاف الربع فانطلق تمليخا خارجاً فلما مر بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مرّ ولم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفياً يصدّ عن الطريق متخوّفاً أن يراه أحد من أهلها فيعرفه ولا يشعر أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمئة سنة فلما أتى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان إذا كان أمر الإيمان ظاهراً فلما رأى عجب وجعل ينظر إليها مستخفياً وينظر يميناً وشمالاً ثم ترك الباب وتحوّل لباب آخر من أبوابها فرأى مثل ذلك، فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرفها ورأى ناساً كثيراً محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك فجعل يمشي ويتعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه، ويقول:
يا ليت شعري ما هذا أمّا عشية أمس فكان المسلمون يخبؤون هذه العلامة ويستخفون بها، وأما اليوم فإنها ظاهرة لعلي حالم ثم يرى أنه ليس بنائم فأخذ بكسائه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة، فجعل يمشي بين ظهري سوقها فيسمع ناساً يحلفون باسم عيسى بن مريم فزاده فرقاً ورأى أنه حيران فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدران المدينة ويقول في نفسه: والله ما أدري ما هذا عشية أمس فليس على وجه الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلا قتل، وأمّا اليوم فأسمع كل إنسان يذكر عيسى ولا يخاف ثم قال في نفسه: لعل هذه ليست المدينة التي أعرف، ووالله ما أعلم مدينة بقرب مدينتنا فقام كالحيران ثم لقي فتى فقال له: ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ فقال: اسمها أفسوس. فقال في نفسه: لعل بي مساً أو أمراً أذهب عقلي والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شرّ فأهلك ثم أنه أفاق فقال: والله لو عجلت الخروج من هذه المدينة قبل أن يفطن بي لكان أكيس فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلاً منهم فقال: بعني بهذا الورق طعاماً فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها فعجب منها ثم طرحها إلى رجل من أصحابه فنظر إليها ثم إلى آخر، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل ويتعجبون منها، ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض:
إنّ هذا أصاب كنزاً مخبأ في الأرض منذ زمان ودهر طويل فلما رآهم تمليخا يتشاورون من أجله فرق فرقاً شديداً، وجعل يرتعد ويظنّ أنهم فطنوا به وعرفوه وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه فقال لهم: وهو شديد الفرق أفضلوا عليّ قد أخذتم ورقي فأمسكوها، وأمّا طعامكم فليس لي حاجة به.
فقالوا: من أنت يا فتى؟ وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزاً من كنوز الأوّلين وأنت تريد أن تخفيه انطلق معنا وأرنا وشاركنا فيه نخف عليك ما وجدت وإنك إن لم تفعل نأت بك السلطان فنسلمك إليه فيقتلك، فلما سمع قولهم قال: ما وجدت شيئاً وقال قد وقعت في كل شيء أحذر منه قالوا: يا فتى إنك والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت فجعل تمليخا لا يدري ما يقول لهم وخاف حتى إنه لم يردّ إليهم جواباً، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه وطرحوه(2/360)
في عنقه وجعلوا يقودونه في سكك المدينة حتى سمع من فيها فقيل أخذ رجل عنده كنز واجتمع عليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم فجعلوا ينظرون إليه ويقولون: والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة وما رأيناه قط، وما نعرفه فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم، فلما اجتمع عليه أهل المدينة وكان متيقناً أنّ أباه وإخوته في المدينة وأنه من عظماء أهلها وأنهم سيأتونه إذا سمعوا به، فبينما هو قائم كالحيران ينظر متى يأتيه بعض أهله فيخلصه من بين أيديهم إذ اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أريوس واسم الآخر أسطيوس، فلما انطلقوا به إليهما ظنّ تمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار فجعل يلتفت يميناً وشمالاً وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون وجعل تمليخا يبكي ويرفع رأسه إلى السماء.
وقال: اللهمّ إله السماء وإله الأرض أفرغ اليوم عليّ صبراً وأولج معي روحاً منك تؤيدني بها عند هذا الجبار وجعل يقول في نفسه: فرّق ما بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ويا ليتهم يأتوني فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار فإنا كنا توافقنا على الإيمان بالله سبحانه وتعالى وأنّ لا نشرك به شيئاً ولا نفترق في حياة ولا موت، فلما انتهى به إلى الرجلين الصالحين ورأى أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء فأخذ أريوس وأسطيوس الورق فنظرا إليها وعجبا منها ثم قال أحدهما: أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ فقال تمليخا: ما وجدت كنزاً ولكن هذا ورق أبائي ونقش المدينة وضربها ولكن والله ما أدري ما شأني وما أقول لكم فقال أحدهما: ممن أنت؟ فقال تمليخا: أمّا أنا فكنت أرى أني من أهل هذه المدينة قالوا: فمن أبوك؟ ومن يعرفك بها؟ فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحداً يعرفه ولا أباه فقال له: أحدهما أنت رجل كذاب لا تأتينا بالحق فلم يدر تمليخا ما يقول لهم غير أنه نكس بصره إلى الأرض، فقال بعض من حوله: هذا رجل مجنون. وقال بعضهم: ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمداً حتى ينفلت منكم.
فقال له أحدهما ونظر إليه نظراً شديداً: أتظنّ انا نرسلك ونصدّقك بأن هذا مال أبيك ونقش هذه الورق وضربها أكثر من ثلاثمئة سنة، وأنت غلام شاب وتظنّ أنك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شيوخ وشمط كما ترى وحولك سراة هذه المدنية وولاة أمرها وخزائن هذه البلدة بأيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار وإني لأظنني سآمر بك فتعذب عذاباً شديداً ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته، فلما قال ذلك قال لهم تمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه فإن فعلتم صدّقتكم عما عندي فقالوا: سل لا نكتمك شيئاً.
قال: ما فعل الملك دقيانوس؟ قالوا: ليس نعرف اليوم على وجه الأرض ملكاً يسمى دقيانوس ولم يكن إلا ملكاً هلك منذ زمان ودهر طويل، وهلكت بعده قرون كثيرة. فقال تمليخا: إني إذا لحيران وما هو بمصدّقي أحد من الناس بما أقول لقد كنا فتية وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا فلما انتبهنا خرجت لأشتري طعاماً وأتجسس الأخبار فإذا أنا كما ترون فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس أريكم أصحابي فلما سمع أريوس ما يقول تمليخا قال: يا قوم لعلّ هذه آية من آيات الله تعالى جعلها الله تعالى لكم على يد هذا الغلام فانطلقوا بنا معه ليرينا أصحابه فانطلق معه أريوس وأسطيوس(2/361)
ومعهما جميع أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصخاب الكهف لينظروا إليهم فلما رأى الفتية أصحاب الكهف تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي فيه فظنوا أنه قد أخذ وذهب به إلى ملكهم دقيانوس فبينما هم يظنون ذلك ويتحققونه إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة عندهم فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليأتوا بهم فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض وأوصى بعضهم بعضاً.
وقالوا: انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا فإنه الآن بين يدي الجبار وهو ينتظرنا حتى نأتيه فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس على هذه الحالة إذا هم باريوس وأصحابه وقوف على باب الكهف فسبقهم تمليخا ودخل وهو يبكي فلما رأوه يبكي بكوا معه ثم سألوه عن خبره فقص عليهم الخبر كله فعرفوا أنهم كانوا نياماً بأمر الله تعالى ذلك الزمن الطويل، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقاً للبعث ويعلم الناس أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، ثم دخل على أثر تمليخا أريوس فرأى تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم من فضة فقام بباب الكهف ثم دعا رجالاً من عظماء أهل المدينة ففتح التابوت عندهم فوجد فيه لوحين من رصاص مكتوب فيهما مكسلمينا ومخشلمينا وتمليخا ومطرونس وكشطونس وبيرونس وبيطونس كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسدّ عليهم بالحجارة وإنا كتبنا أسماءهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم فلما قرؤوه عجبوا وحمدوا الله تعالى الذي أراهم آية البعث فيهم ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله تعالى وتسبيحه ثم دخلوا على الفتية الكهف فوجدوهم جلوساً مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فخرّ أريوس وأصحابه سجوداً وحمدوا الله تعالى الذي أراهم آية من آياته، ثم كلم بعضهم بعضاً وأنبأهم الفتية عن الذي لقوه من ملكهم دقيانوس ثم إنّ أريوس وأصحابه بعثوا بريداً إلى ملكهم الصالح تندوسيس أن عجل لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله تعالى على ملكك وجعلها آية للعالمين ليكون لهم نوراً وضياء وتصديقاً للبعث، فاعجل إلى فتية بعثهم الله تعالى وكان قد توفاهم منذ أكثر من ثلاثمئة سنة، فلما أتى الملك الخبر قام ورجع إليه عقله وذهب همه، فقال: أحمد الله ربّ السموات والأرض وأعبدك وأسبح لك تطوّلت عليّ ورحمتني فلم تطفئ النور الذي جعلته لآبائي وللعبد الصالح قسطيطينوس الملك فلما نبئ به أهل المدينة ركبوا
إليه وساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس فتلقاهم أهل المدينة وساروا معه نحو الكهف فلما صعد الجبل ورأى الفتية تندوسيس فرحوا به وخرّوا سجداً على وجوههم وقام تندوسيس قدّامهم ثم اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله تعالى ويحمدونه ثم قالوا له:
نستودعك الله السلام عليك ورحمة الله وبركاته وحفظك وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شر الإنس والجنّ، فبينما الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفى الله أنفسهم وقام الملك تندوسيس إليهم فجعل ثيابه عليهم، وأمر أن يجعل كل رجل منهم في تابوت من ذهب فلما أمسى ونام أتوه في المنام وقالوا له إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة ولكن خلقنا من تراب وإلى التراب نصير فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله تعالى منه فأمر الملك(2/362)
حينئذٍ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله تعالى حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم، وقيل إنّ تمليخا لما حمل إلى الملك الصالح قال له الملك: من أنت؟
قال: أنا رجل من أهل هذه المدينة وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواماً لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أنّ فتية فقدوا في الزمان الأوّل وأن أسماؤهم مكتوبة على لوح في خزانته فدعا باللوح فنظر في أسمائهم فإذا اسمه مكتوب في ذكر أسماء ألاخرين فقال تمليخا: هم أصحابي فلما سمع الملك ذلك ركب هو ومن معه من القوم فلما أتوا باب الكهف قال تمليخا: دعوني حتى أدخل على أصحابي وأبشرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم فدخل فبشرهم فقضبت روحه وأرواحهم وأغمي على الملك وأصحابه أثرهم فلم يهتدوا عليهم.
ثم وقع التنازع في أمرهم بين أهل المدينة كما قال تعالى: {إذ يتنازعون} ، أي: أهل المدينة {بينهم أمرهم} ، أي: أمر الفتية في البناء حولهم {فقالوا} ، أي: الكفار {ابنوا عليهم} ، أي: حولهم {بنياناً} يسترهم فإنهم كانوا على ديننا وقوله تعالى: {ربهم أعلم بهم} يجوز أن يكون من كلام الله تعالى وأن يكون من كلام المتنازعين فيهم {قال الذين غلبوا على أمرهم} ، أي: أمر الفتية وهم المؤمنون {لنتخذن عليهم} ، أي: حولهم {مسجداً} يصلى فيه وفعل ذلك على باب الكهف، وقيل: إنّ بعضهم قال: الأولى أن نسدّ باب الكهف عليهم لئلا يدخل أحد عليهم ولا يقف على أحوالهم إنسان. وقال الآخرون: بل الأولى أن نبني على باب الكهف مسجداً وهذا القول يدل على أنّ أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله ومعترفين بالعبادة والصلاة، وقيل: تنازعوا في مقدار مكثهم وقيل في عددهم وأسمائهم. تنبيه: بنياناً يجوز أن يكون مفعولاً به جمع بنيانة وأن يكون مصدراً. ولما ذكر أصحاب الكهف عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وقع الاختلاف في عددهم كما قال تعالى:
أي: الخائضون في قصتهم من أهل الكتاب والمؤمنين فقال بعض أهل الكتاب: {ثلاثة رابعهم كلبهم} ، أي: هم ثلاثة رجال ورابعهم كلبهم بانضمامه إليهم {ويقولون} ، أي: بعضهم {خمسة سادسهم كلبهم} فهذان القولان لنصارى نجران وقيل الأوّل قول اليهود والثاني قول النصارى. فإن قيل: لم جاءت سين الاستقبال في الأوّل دون الأخيرين؟ أجيب: بانّ في ذلك وجهين أن تدخل الأخيرين في حكم السين كما تقول قد أكرم وأنعم تريد معنى التوقع في الفعلين وأن تريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له. ولما كان قولهم ذلك بغير علم كان {رجماً بالغيب} ، أي: ظناً في الغيبة عنهم فهو راجع إلى القولين معاً ونصب على المفعول له، أي: لظنهم ذلك {ويقولون} ، أي: المؤمنون {سبعة وثامنهم كلبهم} قال أكثر المفسرين: هذا الأخير هو الحق ويدل عليه وجوه الأوّل أنه تعالى لما حكى قوله {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} قال بعده: {قل ربي أعلم بعدّتهم ما يعلمهم إلا قليل} وأتبع القولين الأوّلين بقوله تعالى: {رجماً بالغيب} وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أنّ الحال في الباقي بخلافه أن يكون المخصوص بالظنّ الباطل هو القولان الأوّلان، وأن يكون القول الثالث مخالفاً لهما في كونه رجماً بالغيب. الوجه الثاني: أنّ الواو في قوله تعالى: {وثامنهم} هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً من المعرفة في نحو(2/363)
قولك جاءني رجل ومعه آخر توكيد للصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أنّ اتصافه بها أمرثابت مستقرّ فكانت هذه الواو دالة على أنّ الذين كانوا في الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، وقول محمد بن إسحاق: إنهم كانوا ثمانية مردود فكأنّ الله تعالى حكى اختلافهم وتم الكلام عند قوله: {ويقولون سبعة} ثم حقق هذا القول بقوله تعالى: {وثامنهم كلبهم} والثامن لا يكون إلا بعد السبع وهذه الواو يسمونها واو الثمانية لأنّ العرب تعد فتقول واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة
وثمانية لأنّ العقد كان عندهم سبعة كما هو اليوم عندنا عشرة ونظير هذه الآية في ثلاث آيات وهو قوله تعالى: {والناهون عن المنكر} (التوبة، 112)
وقوله تعالى: {حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها} (الزمر، 71)
لأنّ ابواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة. وقوله تعالى: {ثيبات وأبكاراً} (التحريم، 5)
. قال القفال: وقولهم واو الثمانية ليس بشيء بدليل قوله تعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر} (الحشر، 23)
ولم يذكروا الواو في النعت الثامن اه. وقد يجاب بأنّ ذلك جرى على الغالب. الوجه الثالث: أنه تعالى قال: {ما يعلمهم إلا قليل} وهذا يقتضي أنه حصل العلم بعدّتهم لذلك القليل. وكان ابن عباس يقول: أنا من أولئك العدد القليل وكان يقول: إنهم سبعة وثامنهم كلبهم. وكان عليّ رضي الله تعالى عنه يقول: كانوا سبعة. وقال الرازي: وأسماؤهم تمليخا مكسلمينا مشلينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك وعن يساره مرنوش ودبرنوش وشاذنوش وكان الملك يستشير هؤلاء الستة ليتصرّفوا في مهماته، والسابع كشفططيوش وهو الراعي الذي وافقهم لما هربوا من ملكهم. وروي عن ابن عباس أنه قال: هم مكشلمينا وتمليخا ومرطونس ويدنونس ودونواقس وكقشططونس وهو الراعي واسم كلبهم قطمير واسم مدينتهم أفسوس.
تنبيه: في الآية حذف والتقدير سيقولون هم ثلاثة كما تقدّم تقديره فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه وقيل: الأقوال الثلاثة لأهل الكتاب والقليل منهم، أي: ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وأكثرهم على الظنّ. ثم إنه تعالى لما ذكر هذه القصة أتبعها بأن نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن شيئين عن المراء وعن الاستفتاء أمّا النهي عن المراء فبقوله تعالى: {فلا تمار} ، أي: تجادل {فيهم} ، أي: في شأن الفتية {إلا مراء} ، أي: جدالاً {ظاهراً} ، أي: غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما في القرآن من غير أن تكذبهم في تعيين ذلك العدد ونظيره قوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (العنكبوت، 46) ، وأمّا النهي عن الاستفتاء فقوله تعالى: {ولا تستفت فيهم} ، أي: ولا تسأل {منهم} ، أي: من أهل الكتاب اليهود {أحداً} عن قصتهم سؤال مسترشد لأنه لما ثبت أنه ليس عندهم علم في هذا الباب وجب المنع من استفتائهم وفيما أوحى إليك مندوحة عن غيره ولا سؤال متعنت تريد تفضيح المسؤول عنه وتزييف ما عنده فإنه يخل بمكارم الأخلاق. ولما سأل أهل مكة عن خبر أهل الكهف فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبركم به غداً ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً وفي رواية أخرى أربعين يوماً نزل:
{ولا تقولنّ لشيء} ، أي: لأجل شيء تعزم عليه {إني فاعل ذلك} الشيء {غداً} ، أي: فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد خاصة.
{إلا أن يشاء الله} الله إلا متلبساً بمشيئته بأن تقول إن شاء الله والسبب في ذلك أنّ الإنسان إذا قال سأفعل الفعل(2/364)
الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد ولم يبعد أيضاً إن بقي حياً أن يعيقه عن ذلك الفعل سائر العوائق فإذا لم يقل إن شاء الله صار كاذباً في ذلك الوعد والكذب منفر لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلهذا السبب وجب عليه أن يقول إن شاء الله حتى إذا تعذر عليه الوفاء بذلك الوعد لم يصر كاذباً ولم يحصل التنفير.
تنبيه: قال كثير من الفقهاء: إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم يقع عليه الطلاق لأنه لما علق وقوع الطلاق على مشيئته تعالى لم يقع عليه الطلاق إلا إذا علمنا حصول المشيئة ومشيئة الله تعالى غيب لا سبيل لنا إلى العلم بحصولها إلا إذا علمنا أن متعلق المشيئة وقع وهو الطلاق، وعلى هذا لا يعرف حصول المشيئة إلا إذا وقع الطلاق ولا يعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفت المشيئة فيتوقف العلم بكل واحد منهما على العلم بالآخر وهو دور فلهذا لا يقع الطلاق وقيل المراد إلا أن يشاء الله، أي: إلا أن يأذن لك الله تعالى في ذلك القول والمعنى أنه ليس لك أن تخبر عن نفسك بأنك تفعل الفعل الفلاني إلا أن يأذن لك الله تعالى في ذلك الإخبار، وقد احتج القائلون بأنّ المعدوم شيء بهذه الآية لأنّ الشيء الذي سيفعله غداً معدوم في الحال فوجب تسمية المعدوم بأنه شيء. وأجيب: بأنّ هذا الاستدلال لا يفيد إلا أنّ المعدوم يسمى بكونه شيئاً وعندنا أنّ السبب فيما سيصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال كما قال تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} (النحل، 1)
والمراد سيأتي أمر الله.
واختلف في معنى قوله تعالى: {واذكر ربك إذا نسيت} فقال ابن عباس ومجاهد والحسن: معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن وعند هذا اختلفوا فقال ابن عباس: لو لم يحصل التذكر إلا بعد مدّة طويلة ثم ذكر إن شاء الله كفى في رفع الحنث. وعن سعيد بن جبير بعد سنة أو شهر أو أسبوع أو يوم، وعن طاوس لا يقدر على الاستثناء إلا في مجلسه. وعن عطاء يستثنى على مقدار حلب ناقة غزيرة وعند عامّة الفقهاء أنه لا أثر له في الكلام ما لم يكن موصولاً واحتج ابن عباس بأنّ قوله إذا نسيت غير مختص بوقت غير معين بل هو متناول لكل الأوقات وظاهره أنّ الاستثناء لا يجب أن يكون متصلاً أمّا عامّة الفقهاء فقالوا: لو جوّزنا ذلك للزم أن لا يستقرّ شيء من العقود والإيمان يحكى أنّ المنصور بلغه أنّ أبا حنيفة خالف ابن عباس في الاستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال له الإمام أبو حنيفة: هذا يرجع عليك لأنك تأخذ البيعة بالإيمان أترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن المنصور كلامه ورضي الله عنه واستدلّ بأنّ الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعقد والعهد. قال تعالى: {أوفوا بالعقود} (المائدة، 1)
وقال تعالى: {وأوفوا بالعهد} (الإسراء، 34)
فإذا أتى بالعقد أو العهد وجب عليه الوفاء بمقتضاه لأجل هذه الآيات خالفنا الدليل فيما إذا كان الاستثناء متصلاً لأنّ الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد بدليل أنّ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً فهو جار مجرى بعض الكلمة الواحدة فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة، فإذا لم يكن متصلاً أفاد الالتزام التامّ فوجب الوفاء بذلك الملتزم، وقيل أنّ قوله تعالى: {واذكر ربك إذا نسيت} كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله. قال عكرمة: واذكر ربك إذا غضبت وقال وهب: مكتوب في الانجيل ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب. وقال(2/365)
الضحاك والسدي هذا في الصلاة المنسية. قال الرازيّ: وتعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القصة وجعله مستأنفاً يصير الكلام مبتدأ منقطعاً وذلك لا يجوز وفي قوله تعالى: {وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً} وجوه الأوّل: أن يكون قوله تعالى: {إلا أن يشاء الله} ليس يحسن تركه وذكره أولى من تركه وهو قوله: {لأقرب من هذا رشداً} والمراد منه ذكر هذه الجملة. الثاني: أنه لما وعدهم بشيء وقال معه إن شاء الله فيقول وعسى أن يهدين ربي لشيء أحسن وأكمل مما وعدتكم به. الثالث: أنّ قوله: {عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً} إشارة إلى قصة أصحاب الكهف،، أي: لعلّ الله يوفقني من البينات والدلائل على صحة نبوّتي وصدقي في ادعاء النبوّة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من قصة أصحاب الكهف، وقد فعل الله تعالى ذلك حين آتاه من قصص الأنبياء والأخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك. ثم شرع تعالى في آية هي آخر الآيات المذكورة في قصة أصحاب الكهف بقوله تعالى:
{ولبثوا في كهفهم} ، أي: نياماً {ثلاثمئة} ، أي: مدّة ثلاثمئة {سنين} قال بعضهم: وهذه السنون الثلاثمئة عند أهل الكتاب شمسية وتزيد القمرية عليها تسع سنين وقد ذكرت في قوله: {وازدادوا تسعاً} ، أي: تسع سنين لأنّ التفاوت بين الشمسة والقمرية في كل ما ئة سنة ثلاث سنين لأنّ السنة الشمسية تزيد على السنة القمرية عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة فالثلاثمئة سنة الشمسية ثلاثمئة وتسع قمرية قال الرازي: وهذا مشكل لأنه لا يصح بالحساب هذا القول ويمكن أن يقال لعلهم لما استكملوا ثلاثمئة سنة قرب أمرهم من الإنتباه ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين وقرأ حمزة والكسائي بغير تنوين في الوصل والباقون بالتنوين فسنين عطف بيان لثلاثمائة لأنه لما قال: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمئة} لم يعرف أنها أيام أو شهور أو سنون، فلما قال: {سنين} صار هذا بياناً لقوله ثلاثمئة فكان ذلك عطف بيان له وقيل هو على التقديم والتأخير، أي: لبثوا سنين ثلاثمئة. وأمّا وجه القراءة الأولى فهو أنّ الواجب في الإضافة أن يقال ثلاثمائة سنة إلا أنه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز، كقوله تعالى: {بالأخسرين أعمالاً} (الكهف، 103)
وحذف مميز تسع لدلالة ما تقدّم عليه إذ لا يقال عندي ثلاثمئة درهم وتسعة إلا وأنت تعني تسعة دراهم، ولو أردت ثياباً أو نحوها لم يجز لأنه ألغاز. ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم إذا نازعوه في مدّة لبثهم في الكهف بقوله تعالى:
{قل الله أعلم بما لبثوا} ، أي: فهو أعلم منكم وقد أخبر بمدّة لبثهم، وقيل إنّ أهل الكتاب قالوا إنّ المدّة من حين دخلوا الكهف إلى يومنا هذا وهو اجتماعهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثمئة سنين وازدادوا تسع سنين، فرد الله تعالى عليهم ذلك وقال: الله أعلم بما لبثوا يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلمه إلا الله {له غيب السموات والأرض} ، أي: ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فالغيب ما يغيب عن إدراكك والله عز ذكره لا يغيب عن إدراكه شيء فيكون عالماً بهذه الواقعة لا محالة وقوله تعالى: {أبصر به وأسمع} كلمة تذكر في التعجب، أي: ما أبصر الله تعالى بكل موجود وما أسمعه بكل بمسموع {ما لهم} ، أي: أهل السموات والأرض {من دونه} ، أي: الله {من وليّ} ، أي: ناصر {ولا يشرك في حكمه} ، أي: في(2/366)
قضائه {أحداً} منهم ولا يجعل له فيه مدخلاً لأنه غني بذاته عن كل أحد، وقيل الحكم هنا علم الغيب، أي: لا يشرك في علم غيبه أحداً. وقرأ ابن عامر بالمثناة فوق قبل الشين وبسكون الكاف على نهي كل أحد عن الإشراك، والباقون بالتحتية وضمّ الكاف.
تنبيه: احتج أصحابنا رحمهم الله تعالى بهذه القصة على صحة القول بالكرامة للأولياء وقد قدمنا معرفة الوليّ في سورة يونس عند قوله تعالى: {إلا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (يونس، 62)
فمما يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول، أمّا القرآن فالمعتمد فيه عندنا آيات الحجة الأولى قصة مريم عليها السلام وقد شرحناها في سورة آل عمران فلا نعيدها. الحجة الثانية: قصة أصحاب الكهف وبقاؤهم في النوم سالمين من الآفات مدّة ثلاثمئة سنة وتسع سنين، وأنّ الله تعالى كان يعصمهم من حرّ الشمس، ومن الناس من تمسك أيضاً في هذه المسألة بقوله تعالى: {قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك} (النمل، 40)
على أنه غير السيد سليمان والسيد جبريل.
وأما الأخبار فكثيرة منها ما أخرج في الصحيح عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة؛ عيسى بن مريم وصبيّ في زمن جريج وصبيّ آخر؛ وأمّا عيسى فقد عرفتموه، وأمّا جريج فكان رجلاً عابداً في بني إسرائيل وكانت له أمّ فكان يوماً يصلي إذ اشتاقت إليه أمّه فقالت: يا جريج فقال: يا رب أمّي وصلاتي الصلاة خير أم رؤيتها ثم يصلي فدعته ثانياً فقال: مثل ذلك حتى تم ثلاث مرّات وكان يصلي ويدعها فاشتدّ ذلك على أمّه فقالت: اللهمّ لا تمته حتى تريه المومسات. وكانت زانية في بني إسرائيل فقالت لهم: أنا أفتن جريجاً حتى يزني بي فأتته فلم تقدر على شيء، وكان هناك راع يأوي بالليل إلى صومعته فلما أعياها جريج راودّت الراعي على نفسها فأتاها فولدت ثم قالت: ولدي هذا من جريج، فأتاه بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه ثم نخس الغلام قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال بيده: يا غلام من أبوك؟ فقال: الراعي. فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني لك صومعتك من ذهب أو فضة فأبى عليهم وبناها كما كانت. وأمّا الصبيّ الآخر فإنّ امرأة كان معها صبيّ لها ترضعه إذ مرّ بها شاب جميل ذو شارة فقالت: اللهمّ اجعل ابني مثل هذا. فقال الصبيّ: اللهمّ لا تجعلني مثله، ثم مرّ بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت: اللهمّ لا تجعل ابني مثل هذه. فقال الصبيّ: اللهمّ اجعلني مثلها. فقالت له أمّه في ذلك، فقال: إنّ الراكب جبار من الجبابرة فكرهت أن أكون مثله وإنّ هذه قيل لها زنيت ولم تزن وقيل له سرقت ولم تسرق وهي تقول: حسبي الله فأحببت أن أكون مثلها» .
ومنها خبر الغار وهو مشهور في الصحيح عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدّت عليهم باب الغار» وقد ذكرت ذلك عند قوله تعالى: {كانوا من آياتنا عجباً} (الكهف، 9)
. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره» . ولم يفرق من شيء وشيء فيما يقسم به على الله تعالى. ومنها ما روي عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل(2/367)
يسوق بقرة قد حمل عليها التفتت البقرة، وقالت: إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس: سبحان الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت بهذا وأبو بكر وعمر» . ومنها ما روي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجل سمع رعداً أو صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال: فغدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له: ما اسمك؟ قال: فلان ابن فلان قلت: فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها؟ قال: ولم تسأل عن ذلك. قلت: لأني سمعت صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال: أمّا إذ قلت فإني أجعلها أثلاثاً فأجعل لنفسي ولأهلي ثلثاً وأجعل للمساكين وأبناء السبيل ثلثاً وأنفق عليها ثلثاً» .
وأمّا الآثار فكثيرة ايضاً ولنبدأ منها ببعض ما نقل أنه ظهر على يد الخلفاء الراشدين من الكرامات ثم ببعض ما ظهر على يد بعض الصحابة. أمّا أبو بكر رضي الله تعالى عنه فمن كراماته أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ونودي السلام عليك يا رسول الله، هذا أبو بكر بالباب فإذا بالباب قد فتح وإذا بهاتف يهتف من القبر أدخلوا الحبيب إلى الحبيب، وأمّا عمر رضي الله تعالى عنه فقد ظهرت أنواع كثيرة من كراماته النوع الأوّل ما روي أنه لما بعث جيشاً وأمرّ عليهم رجلاً يدعى سارية بن الحصين فبينما عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته وهو على المنبر يا سارية الجبل الجبل. قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كتبت تاريخ هذه الكلمة فلما قدم رسول ذلك الجيش فقال: يا أمير المؤمنين غدونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فهزمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل فأسندنا ظهرنا إلى الجبل فهزم الله تعالى الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة ببركة ذلك الصوت. قال الرازي: قلت سمعت بعض المذكرين قال: كان ذلك معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه قال لأبي بكر وعمر: «أنتما بمنزلة السمع والبصر» ، فلما كان عمر بمنزلة البصر لمحمد صلى الله عليه وسلم لا جرم قدر على أن يرى من ذلك البعد العظيم.
النوع الثاني: ما روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة فكان لا يجري حتى تلقى فيه جارية حسناء فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص إلى عمر فكتب عمر على خرقة أيها النيل إن كنت تجري بأمر الله فاجر وإن كنت إنما تجري بأمرك لا حاجة بنا إليك فألقيت تلك الخرقة في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك.
النوع الثالث: لما وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر بالدرّة على الأرض وقال: اسكني بأذن الله فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك الوقت.
النوع الرابع: وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خرقة يا نار اسكني بأذن الله فألقوها في النار فانطفأت في الحال.
النوع الخامس: ما روي أنّ رسول ملك الروم جاء إلى عمر وطلب داره فظنّ أن داره مثل قصور الملوك فقالوا ليس له ذلك وإنما هو في الصحراء يضرب اللبن فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر وضع درّته تحت رأسه ونام على التراب فتعجب الرسول من ذلك وقال أهل المشرق والمغرب يخافون هذا الإنسان وهو على هذه الصفة ثم قال في نفسه إن وجدته خالياً فاقتله وأخلص الناس منه فلما رفع السيف أخرج الله تعالى من الأرض أسدين فقصداه فخاف وألقى السيف من يده وانتبه عمر ولم ير شيئاً فسأله عن الحال فذكر له الواقعة وأسلم. قال الرازي: وأقول هذه(2/368)
الواقعة رويت بالآحاد وههنا ما هو معلوم بالتواتر وهو أنه مع بعده عن زينة الدنيا واحترازه عن التكلفات والتهويلات ساس الشرق والغرب وغلب الممالك والدول ولو نظرت في كتب التواريخ علمت أنه لم يتفق لأحد من أوّل عهد عمر إلى الآن ما تيسر له، فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات ولا شك أنّ هذا من أعظم الكرامات.
وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فأشياء كثيرة، منها ما روي عن أنس قال: سرت في الطريق فوقعت عيني على امرأة ثم دخلتُ على عثمان فقال: ما لي أراكم تدخلون عليّ وآثار الزنا ظاهرة عليكم فقلت أجاء الوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا ولكن فراسة صادقة، ومنها أنه لما طعن بالسيف فأوّل قطرة من دمه سقطت وقعت على المصحف على قوله تعالى: {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} (البقرة، 137)
. ومنها أنّ جهجاها الغفاري انتزع العصا من يد عثمان فكسرها على ركبته فوقعت الأكلة في ركبته.
وأما علي رضي الله تعالى عنه فأشياء كثيرة أيضاً، منها ما روي أنّ واحداً من محبيه سرق وكان عبداً أسود فأتي به إلى عليّ فقال: أسرقت؟ فقال: بلى. فقطع يده فانصرف من عند علي فلقيه سلمان الفارسي وابن الكواء. فقال ابن الكواء: من قطع يدك؟ فقال له: أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول. فقال له سلمان: قطع يدك وتمدحه. فقال: ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار، فسمع سلمان ذلك فأخبر به علياً فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل، ودعا بدعوات فسمعنا صوتاً من السماء: إرفع الرداء عن اليد فرفعناه فإذا اليد قد برئت.
وأما ما روي عن بعض الصحابة فشيء كثير، ونذكر منها شيئاً قليلاً، منها ما روى محمد بن المنكدر عن سفينة قال: ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها، وركبت لوحاً من ألواحها فطرحني اللوح في خيسة فيها أسد فخرج الأسد إليّ يريدني فقلت: يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فتقدّم الأسد إليّ ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودّعني ورجع.
ومنها ما روى ثابت عن أنس أنّ أسيد بن حضير ورجلاً آخر من الأنصار تحدّثا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما حتى ذهب من الليل زمان ثم خرجا من عنده وكانت الليلة شديدة الظلمة وكان في يد كل واحد منهما عصا فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها فلما افترقت بينهما الطريق أضاءت للآخر عصاه فمشى حتى بلغ منزله. ومنها ما روي أنه قيل لخالد بن الوليد أنّ في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلة فطاف بالعسكر فلقي رجلاً على فرس ومعه خمر فقال: ما هذا؟ قال: خل. فقال خالد: اللهم اجعله خلاً فذهب الرجل إلى أصحابه فقال: أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثله فلما فتحوا فإذا هو خل فقالوا: والله ما جئتنا إلا بخل فقال: والله هذا دعاء خالد. ومنها الواقعة المشهورة وهي أنّ خالد بن الوليد أكل كفاً من السم على اسم الله وما ضرّه.
ومنها ما روي أنّ ابن عمر كان في بعض أسفاره فلقي جماعة وقفوا على الطريق من خوف السبع فطرد السبع من طريقهم، ثم قال: إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء. ومنها ما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث العلاء الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر(2/369)
فدعا باسم الله الأعظم ومشوا على الماء. وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات متجاوزة عن الحدّ والحصر فمن أرادها طالعها.
وأما الدلائل العقلية على جواز الكرامات فمن وجوه: الأوّل: أنه صلى الله عليه وسلم قال حاكياً عن رب العزة: «من آذى لي ولياً فقد بارزته بالمحاربة» فجعل إيذاء الولي قائماً مقام إيذائه وتأكد هذا بالخبر المشهور أنه تعالى يقول يوم القيامة: «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، استسقيتك فما سقيتني، استطعمتك فما أطعمتني، فيقول: يا رب كيف أفعل هذا وأنت رب العالمين فيقول: إنّ عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي» . وكذا في السقي والإطعام فدلت هذه الأخبار على أنّ أولياء الله يبلغون هذه الدرجات العالية والمراتب الشريفة. فإذا جاز اتصال العبد إلى هذه الدرجات فأيّ بعد أن يعطيه الله تعالى كسرة خبز أو جرعة ماء أو يسخر له كلباً أو دودة.
الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال عن رب العزة: «ما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترض عليه، ولا يزال يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً وقلباً ولساناً ويداً ورجلاً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي» . وهذا الخبر يدل على أنه لم يبق في سمعهم نصيب لغير الله تعالى لما قال: أنا سمعه وأنا بصره، وهذا المقام أشرف من تسخير الحية والسبع، وإعطاء عنقود من العنب أو شربة من الماء فلما أوصل برحمته عبده إلى هذه الدرجات العالية فأي بعد في أن يعطيه رغيفاً واحداً أو شربة من الماء في مفازة.
الوجه الثالث: لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك إمّا لأجل أنّ الله تعالى ليس أهلاً لأن يفعل مثل هذا الفعل أو لأجل أنّ المؤمن ليس أهلاً لأن يعطيه الله هذه العطية والأوّل قدح في قدرة الله تعالى وهو كفر. والثاني باطل فإنّ معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته والمواظبة على ذكر تقديسه وتمجيده وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد في مفازة وتسخير حية أو أسد فإن إعطاءه المحبة والذكر والشكر من غير سؤال أولى من أن يعطيه شربة ماء في مفازة فأي بعد فيه.
واحتج المنكر للكرامات بوجوه: الأوّل: أنّ ظهور الفعل الخارق للعادة جعله الله تعالى دليلاً على النبوّة فلو حصل لغير النبيّ لبطلت هذه الدلالة.
الوجه الثاني: أنّ الله تعالى قال: {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس} (النحل، 7) .
والقول بأنّ الوليّ ينتقل من بلد إلى بلد بعيد لا على هذا الوجه طعن في هذه الآية وأيضاً أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصل من مكة إلى المدينة إلا في أيام كثيرة مع التعب الشديد فكيف يعقل أن يقال أنّ الوليّ ينتقل من بلد نفسه إلى الحج في اليوم الواحد.
الوجه الثالث: أنّ هذا الوليّ الذي يظهر عليه الكرامات إذا ادّعى على إنسان درهماً واحداً فهل يطلب بالبينة أم لا فإن طالبناه بها كان عبثاً لأنّ ظهور الكرامة عليه يدل على أنه لا يكذب ومع قيام الدليل القاطع كيف يطلب الدليل الظني وإن لم يطالب بها فقد تركنا قوله صلى الله عليه وسلم «البينة على المدّعي» .
فهذا يدل على أنّ القول بالكرامة باطل، وأجيب عن الأوّل بأنّ الناس اختلفوا هل يجوز للولي دعوى الولاية؟ فقال قوم من المحققين إنه لا يجوز فعلى هذا الفرق بين المعجزة والكرامة، أنّ المعجزة تكون مسبوقة بدعوى النبوّة والكرامة لا تكون مسبوقة(2/370)
بدعوى الولاية وعلى القول بالجواز الفرق بينهما أنّ النبيّ يدّعي المعجزة ويقطع بها والوليّ إذا ادّعى الكرامة لا يقطع بها لأنّ المعجز يجب ظهوره، والكرامة لا يجب ظهورها، وأجيب عن الثاني بأنّ قوله تعالى: {وتحمل أثقالكم} إلى آخره محمول على المعهود المتعارف، وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثنيات من ذلك العموم المتعارف، وأجيب عن الثالث بأنّ التمسك بالأمور النادرة لا يعول عليه في الشرع فلا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «البينة على المدّعي» . ومع هذا فصاحب الكرامة يجب عليه أن يكون خائفاً وجلاً ولهذا قال المحققون: أكثر ما حصل الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أشدّ أنواع البلاء.
والذي يدل على أنّ الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه: الأوّل: أنّ الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه وتعالى فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب والمحجوب عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور. الوجه الثاني: أنّ من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقاً للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه، ومن كان لعمله وقع عظيم في قلبه كان جاهلاً إذ لو عرف ربه لعلم أنّ كل طاعات الخلق في جنب جلاله تقصير وكل شكر في جنب آلائه ونعمائه قصور وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل.
وجدت في بعض الكتب أنه قرئ في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (فاطر، 10)
فقال: علامة أنّ الحق رفع عملك أن لا يبقى عندك مرتقى عملك في نظرك، فإن بقي عملك في نظرك فهو غير مرفوع وإن لم يبق عملك في نظرك فهو مرفوع مقبول. الوجه الثالث: أنّ صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتضرّع في حضرة الله تعالى، فإذا ترفع وتكبر وتجبر بسبب الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الكرامات فهذا طريق يؤدّي ثبوته إلى عدمه فكان مردوداً ولهذا المعنى لما ذكر صلى الله عليه وسلم مناقب نفسه وفضائلها كان يقول في آخر كل واحد منها ولا فخر، أي: لا أفخر بهذه الكرامات، وإنما أفخر بالمكرم والمعطي. الوجه الرابع: أنه تعالى وصف عباده المخلصين بقوله تعالى: {ويدعوننا رغباً} (الأنبياء، 90) ، أي: في ثوابنا {ورهباً} ، أي: من عذابنا. وقيل رغباً في وصالنا ورهباً من عقابنا. قال بعض المحققين: والأحسن أن يقال رغباً فينا ورهباً عنا، وفي هذا القدر كفاية لأولي الألباب، جعلنا الله تعالى وأحبابنا من أهل ولايته بمحمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحابته. ثم لما دل اشتمال القرآن على قصة أصحاب الكهف من حيث أنها من المغيبات بالإضافة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنه وحي معجز أمره أن يداوم درسه ويلازم أصحابه بقوله تعالى:
{واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك} ، أي: القرآن واتبع ما فيه واعمل بما فيه {لا مبدّل لكلماته} ، أي: لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره، وقال بعضهم: مقتضى هذا أن لا يتطرق النسخ إليه وأجاب بأنّ النسخ في الحقيقة ليس تبديلاً لأنّ المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلاً وهذا لا يحتاج إليه مع التفسير المذكور {ولن تجد من دونه} ، أي: الله {ملتحداً} ، أي: ملجأً في البيان والإرشاد وقيل إن لم تتبع(2/371)
القرآن. ونزل في عيينة بن حصن الفزاري لما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان الفارسي وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوص يشقه ثم ينسجه فقال له: أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، أي: كما قال قوم نوح: {أنؤمن لك وأتبعك الأرذلون} (الشعراء، 111)
فنحهم حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلساً واجعل لهم مجلساً.
{واصبر نفسك} ، أي: احبسها وثبتها {مع الذين يدعون ربهم} ونظير هذه الآية قد سبق في سورة الأنعام وهو قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه} (الأنعام، 52)
ففي تلك الاية نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن طردهم، وفي هذه الآية أمره بمجالستهم والمصابرة معهم وفي قوله تعالى: {بالغداة والعشيّ} وجوه الأوّل: أنهم مواظبون على هذا العمل في كل الأوقات كقول القائل ليس لفلان عمل بالغداة والعشيّ إلا شتم الناس. الثاني: المراد صلاة الفجر والعصر. الثالث: أنّ المراد الغداة وهو الوقت الذي ينتقل فيه الإنسان من النوم إلى اليقظة، وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة، والعشيّ هو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من الحياة إلى الموت ومن اليقظة إلى النوم، والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر لله تعالى عظيم الشكر لآلاء الله ونعمائه وقرأ ابن عامر بضم الغين المعجمة وسكون الدال وبعدها واو مفتوحة والباقون بفتح الغين والدال وألف بعدها والرسم في المصحف بالواو هنا وفي سورة الأنعام.
{يريدون} بعبادتهم {وجهه} تعالى، أي: رضاه وطاعته لا شيئاً من أعراض الدنيا {ولا تعد} ، أي: تنصرف {عيناك عنهم} إلى غيرهم وعبر بالعينين عن صاحبهما فنهى صلى الله عليه وسلم أن يصرف بصره ونفسه عنهم لأجل رغبته في مجالسة الأغنياء لعلهم يؤمنون وقوله تعالى: {تريد زينة الحياة الدنيا} في موضع الحال، أي: إنك إن فعلت ذلك لم يكن إقدامك عليه إلا لرغبتك في زينة الحياة الدنيا. ولما بالغ تعالى في أمره في مجالسة الفقراء من المسلمين بالغ في النهي عن الالتفات إلى أقوال الأغنياء والمتكبرين بقوله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا} ، أي: جعلنا قلبه غافلاً عن ذكرنا، أي: عيينة بن حصن وقيل أمية بن خلف {واتبع هواه} ، أي: في طلب الشهوات {وكان أمره فرطاً} ، أي: إسرافاً وباطلاً، وهذا يدل على أنّ أشرّ أحوال الإنسان أن يكون قلبه خالياً عن ذكر الحق ويكون مملوءاً من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق، لأنّ ذكر الله تعالى نور وذكر غيره ظلمة لأنّ الوجود طبيعة النور والعدم منبع الظلمة والحق تعالى واجب الوجود لذاته فكان النور الحق هو الله تعالى وما سواه فهو ممكن الوجود لذاته والإمكان طبيعة عدمية فكان منبع الظلمة فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله تعالى فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق وإذا توجه القلب إلى الخلق فقد حصل فيه الظلم والظلمة بل الظلمات فلهذا السبب إذا أعرض القلب عن الحق وأقبل على الخلق فهو الظلمة الخالصة التامّة والإعراض عن الحق هو المراد بقوله تعالى: {أغفلنا قلبه عن ذكرنا} والإقبال على الخلق هو المراد بقوله تعالى: {واتبع هواه} .
روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنت جالساً في عصابة من ضعفاء المهاجرين وأنّ بعضهم(2/372)
ليستتر ببعض من العري وقارئ يقرأ من القرآن فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «ما الذي كنتم تصنعون؟ قلنا: يا رسول الله كان واحد يقرأ من القرآن ونحن نسمع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعل من أمّتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم ثم جلس وسطنا وقال: أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التامّ يوم القيامة فتدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسمائة سنة» . ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يلتفت إلى أولئك الأغنياء الذين قالوا: إن طردت الفقراء آمنا بك. قال تعالى بعده:
{وقل الحق} ، أي: وقل لهؤلاء ولغيرهم هذا الذي جئتكم به في أمر أهل الكهف وغيرهم من هذا الوجه العربي المعرى عن العوج الظاهر الإعجاز الباهر الحجج الحق كائناً {من ربكم} المحسن إليكم في أمر أهل الكهف وغيرهم من صبر نفسي مع المؤمنين والإعراض عمن سواهم وغير ذلك لا ما قلتموه في أمرهم، ويجوز أن يكون الحق مبتدأ وخبره الجار بعده {فمن شاء} ، أي: منكم ومن غيركم {فليؤمن} بهذا الذي قصصناه فيهم وفي غيرهم فهو مقبول مرغوب فيه وإن كان فقيراً رث الهيئة ولم ينفع إلا نفسه {ومن شاء} منكم ومن غيركم {فليكفر} فهو أهل لأن يعرض عنه ولا يلتفت إليه وإن كان أغنى الناس وأحسنهم هيئة وإن تعاظمت هيئته وهذا لا يقتضي استقلال العبد بفعله كما تقول المعتزلة، فعن ابن عباس في معنى الآية من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر ونقل عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: هذه الصيغة تهديد ووعيد، أي: فهي كقوله تعالى: {اعملوا ما شئتم} (فصلت، 40)
فإن الله تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضرّ بكفر الكافرين بل نفع الإيمان يعود على المؤمن وضرر الكفر بعود على الكافر كما قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} (الإسراء، 7)
ولما هدد السامعين بما حاصله ليختار كل امرئ لنفسه ما يجده غداً عند الله أتبعه بذلك الوعيد والأفعال الباطلة، وبذكر الوعد على الإيمان والأعمال الصالحة، أمّا الوعيد فقوله تعالى: {إنا أعتدنا} ، أي: هيأنا بما لنا من العظمة والقدرة {للظالمين} ، أي: لمن أنف عن قبول الحق لأجل أنّ الذين قبلوه فقراء ومساكين وكذا كل من لم يؤمن {ناراً} وهي الجحيم ثم وصف الله تعالى تلك النار بصفتين؛ الأولى قوله تعالى: {أحاط بهم} كلهم {سرادقها} ، أي: فسطاطها شبه به ما يحيط بهم من النار وقيل هو الحجرة التي تكون حول الفسطاط وقيل حائط من نار والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرجة يتفرّجون بالنظر إلى ما وراءها من غير النار بل هي محيطة من كل الجوانب، وقيل هو دخان يغشاهم قبل دخولهم النار يحيط بهم كالسرداق حول الفسطاط. الصفة الثانية قوله تعالى: {وإن يستغيثوا} ، أي: يطلبوا الغوث {يغاثوا بماء} ووصف هذا الماء بصفتين؛ الأولى قوله تعالى: {كالمهل} وهو كما في حديث مرفوع دردي الزيت، وعن ابن مسعود أنه دخل بيت المال وأخرج نقاعة كانت فيه وأوقد عليها النار حتى تلألأت ثم قال: هذا هو المهل. وقال أبو عبيدة والأخفش: كل شيء أذبته من نحاس أو ذهب أو فضة فهو المهل. وقيل إنه الصديد والقيح وقيل إنه ضرب من القطران ثم يحتمل أن تكون هذه الاستغاثة لأنهم طلبوا ماء للشرب فيعطون هذا المهل قال تعالى: {تصلى ناراً حامية تسقى من عين آنية} (الغاشية: 4، 5)
ويحتمل أن يستغيثوا(2/373)
من حرّ جهنم فيطلبوا ما يصبونه على أنفسهم للتبريد فيعطون هذا الماء قال تعالى حكاية عنهم: {أفيضوا علينا من الماء} (الأعراف، 50)
. وقال تعالى في آية أخرى: {سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار} (إبراهيم، 50)
. فإذا استغاثوا من حرّ جهنم صب عليهم القطران الذي يعمّ كل أبدانهم كالقميص. والصفة الثانية للماء: قوله تعالى: {يشوي الوجوه} ، أي: إذا قرب إلى الفم ليشرب فكيف بالفم والجوف ثم وصل تعالى بذلك ذمّه فقال تعالى: {بئس الشراب} ، أي: ذلك الماء الذي هو كالمهل لأنّ المقصود من شرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في إحراق الإنسان مبلغاً عظيماً ثم عطف عليه ذمّ النار المعدّة لهم بقوله تعالى: {وساءت} ، أي: النار وقوله تعالى: {مرتفقاً} تمييز منقول من الفاعل، أي: قبح مرتفقها وهو مقابل لقوله تعالى الآتي في الجنة: {وحسنت مرتفقاً} وإلا فأي ارتفاق في النار. ولما ذكر تعالى وعيد المبطلين أردفه بوعد المحقين فقال تعالى:
{إنّ الذين آمنوا} ولما كان الإيمان هو الإذعان للأوامر عطف عليه ما يحقق ذلك بقوله تعالى: {وعملوا الصالحات} ثم عظم جزاءهم بقوله تعالى: {إنا لا نضيع} ، أي: بوجه من الوجوه {أجر من أحسن عملاً} وهذه الجملة خبر إن الذين وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر والمعنى أجرهم، أي: نثيبهم بما تضمنه.
{أولئك لهم جنات عدن} ، أي: إقامة فكأنه قيل فما لهم فيها فقيل: {تجري من تحتهم} ، أي: من تحت منازلهم {الأنهار} وذلك لأنّ أفضل المساكن ما كان تجري فيه الأنهار أو الماء فكأنه قيل ثم ماذا فقيل: {يحلون فيها} وبنى الفعل المجهول لأنّ المقصود وجود التحلية وهي لعزتها إنما يؤتى بها من الغيب فضلاً من الله تعالى.
ولما كانت نعم الله لا تحصى نوع منها قال تعالى مبعضاً: {من أساور} جمع إسورة كاحمرة جمع سوار كما يلبس ذلك ملوك الدنيا من جبابرة الكفرة في بعض الأقاليم كأهل فارس وقيل من زائدة، وقيل للابتداء ومن في قوله تعالى: {من ذهب} للبيان صفة لأساور وتنكيرها لتعظيم جنسها عن الإحاطة به. وقيل للتبعيض. ولما كان اللباس جزاء العمل فكان موجوداً عندهم أسند الفعل إليهم فقال: {ويلبسون ثياباً خضراً} لأنّ الخضرة أحسن الألوان وأكثرها طراوة ثم وصفها بقوله تعالى: {من سندس} وهو ما رقّ من الديباج {وإستبرق} وهو ما غلظ منه جمع بين النوعين للدلالة على أنّ فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وفي آية أخرى {بطائنها من إستبرق} (الرحمن، 54)
فيكون الغليظ بطانة للرقيق، ثم استأنف الوصف عن حال جلوسهم فيها بأنه جلوس الملوك المتمكنين من النعيم فقال تعالى: {متكئين فيها} ، أي: لأنهم في غاية الراحة {على الأرائك} جمع أريكة وهي السرير في الحجلة وهي بيت يزين بالثياب والستور للعروس ثم مدح هذا بقوله تعالى: {نعم الثواب} ، أي: الجزاء الجنة لو لم يكن لها وصف غير ما سمعتم فكيف ولها من الأوصاف ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: {وحسنت} ، أي: الجنة كلها وبين ذلك بقوله تعالى: {مرتفقاً} ، أي: مقرّاً ومرتفقاً ومجلساً ولما افتخر الكفار بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين بيّن الله تعالى أنّ ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنياً والغنيّ فقيراً وأمّا الذي يجب الافتخار به فطاعة الله تعالى وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبيّن ذلك بضرب هذا المثل المذكور(2/374)
بقوله تعالى:
{واضرب لهم} ، أي: لهؤلاء الأغنياء المتجبرين الذين يستكبرون على المؤمنين ويطلبون طردهم لضعفهم وفقرهم {مثلاً} لما آتاهم الله من زينة الحياة والدنيا واعتمدوا عليه وركنوا إليه ولم يشكروا من آتاهم إياه عليه بل أدّاهم إلى الافتخار والتكبر على من زوي ذلك عنه إكراماً له وصيانة عنه {رجلين} إلى آخر الآية. واختلف في سبب نزولها فقيل نزلت في رجلين من أهل مكة من بني مخزوم أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة وكان زوج أمّ سلمة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر كافر وهو الأسود بن عبد ياليل، وهما ابنا عبد الأسد بن عبد ياليل.
وقيل مثال لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وأصحابه شبههما برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس، وقال مقاتل: تمليخا والآخر كافر واسمه فطروس وقال وهب قطفر، وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة والصافات وكانت قصتهما على ما حكى عبد الله بن المبارك عن معمر عن عطاء الخراساني قال: كانا رجلين شركين لهما ثمانية آلاف دينار وقيل كانا أخوين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فاشترى أحدهما أرضاً بألف دينار فقال صاحبه: اللهمّ إنّ فلاناً قد اشترى أرضاً بألف دينار وإني مشتر منك أرضاً في الجنة بألف دينار فتصدّق بها، ثم إن صاحبه بنى داراً بألف دينار فقال صاحبه: اللهمّ إنّ فلاناً بنى داراً بألف دينار وإني اشتريت منك داراً في الجنة بألف دينار فتصدّق بها، ثم تزوّج صاحبه امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال هذا: اللهمّ إني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار فتصدّق بها ثم إنّ صاحبه اشترى خدماً ومتاعاً بألف دينار فقال هذا: اللهمّ إني أشتري خدماً ومتاعاً من الجنة بألف دينار فتصدّق بها، ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لو أتيت صاحبي لعل ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مرّ به في حشمه فقام إليه فنظر إليه الآخر فعرفه فقال له: فلان؟ قال: نعم. قال: ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجة بعدك فأتيت لتعينني بخير قال: فما فعل مالك وقد اقتسمنا مالاً وأخذت شطره فقص عليه قصته فقال: وإنك لمن المصدّقين بهذا إذهب
فلا أعطيك شيئاً فطرده. وروي أنه لما أتاه أخذ بيده فجعل يطوف به ويريه أموال نفسه فنزل فيهما {واضرب لهم مثلاً رجلين} ، أي: اذكر لهم خبر رجلين؛ {جعلنا لأحدهما جنتين} ، أي: بسانين يسر ما فيهما من الأشجار من يدخلهما {من أعناب} لأنها من أشجار البلاد الباردة وتصبر على الحر وهي فاكهة وقوت بالعنب والزبيب والخل وغيرها، ثم إنه تعالى وصف الجنتين بصفات الصفة الأولى قوله تعالى: {وحففناهما} ، أي: اطفناهما من جوانبهما {بنخل} لأنها من أشجار البلاد الحارّة، وتصبر على الحرور بما منعت عن الأعناب بعض أسباب العاهات وثمرها فاكهة بالبسر والرطب وقوت بالتمر والخلّ، فكان النخل كالأكليل من وراء العنب.
تنبيه: الحفاف الجانب وجمعه أحفة يقال: أحف به القوم، أي: أطافوا بجوانبه. الصفة الثانية قوله تعالى: {وجعلنا بينهما} ، أي: أرضي الجنتين {زرعاً} لبعد شمول الآفة للكل لأنّ زمان الزرع ومكانه غير زمان ثمار الشجر ومكانه وذلك هو العمدة في القوت فكانت الجنتان أرضاً جامعة لخير الفاكهة وأفضل الأقوات وعمارتهما متواصلة(2/375)
متشابكة لم يتوسطها ما يقطعهما ويفصل بينهما مع سعة الأطراف وتباعد الأكتاف وحسن الهيئات والأوصاف. الصفة الثالثة:
قوله تعالى: {كلتا} ، أي: كل واحدة من {الجنتين} المذكورتين {آتت أكلها} ، أي: ما يطلب منها ويؤكل من ثمر وحب كاملاً غير منسوب شيء منهما إلى نقص ولا رداءة وهو بمعنى {ولم تظلم} ، أي: ولم تنقص {منه شيئاً} يعهد في سائر البساتين فإن الثمار تتم في عام وتنقص في عام غالباً والظلم النقصان تقول الرجل ظلمني حقي أي نقصني.
تنبيه: كلا اسم مفرد معرفة يؤكد به مذكران معرفتان وكلتا اسم مفرد ومعرفة يؤكد به مؤنثان معرفتان وإنما إذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة كقولك جاءني كلا أخويك ورأيت كلا أخويك ومررت بكلا أخويك وجاءني كلتا أختيك ورأيت كلتا أختيك ومررت بكلتا أختيك. وإذا أضيفا إلى المضمر كانا في الرفع بالألف وفي الجرّ والنصب بالياء وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضاً فقوله تعالى: {آتت أكلها} حمل على اللفظ لأنّ كلتا لفظ مفرد ولو قيل آتتا على المعنى لجاز. الصفة الرابعة: قوله تعالى: {وفجرنا خلالهما نهراً} ، أي: وسطهما وبينهما ومنه قوله تعالى: {ولأوضعوا خلالكم} (التوبة، 47)
ومنه يقال خللت القوم، أي: دخلت القوم وذلك ليدوم شربهما ويستغنيا عن المطر عند القحط ويزيد بهاؤهما. الصفة الخامسة: قوله تعالى: {وكان له} ، أي: صاحب الجنتين {ثمر} ، أي: أنواع من المال سوى الجنتين قال ابن عباس: من ذهب وفضة وغير ذلك من أثمر ماله إذا كثر وعن مجاهد الذهب والفضة خاصة، أي: كان مع الجنتين أشياء من الأموال ليكون متمكناً من العمار بالأعوان والآلات وجميع ما يريد وقرأ أبو عمرو وثمر هنا وثمره الآتي بسكون الميم فيهما بعد ضم الثاء المثلثة، وقرأ عاصم بفتح المثلثة والميم فيهما والباقون بضم المثلثة والميم فيهما ذكر أهل اللغة أنّ الضم أنواع المال من الذهب والفضة وغيرهما وبالفتح حمل الشجر قال قطرب: وكان أبو عمرو بن العلاء يقول الثمر المال والولد وأنشد للحرث بن حلزة:
*ولقد رأيت معاشراً
... قد أثمروا مالاً وولدا
وقال النابغة:
*مهلاً فداء لك الأقوام كلهم
... وما أثمر من مال ومن ولد
{فقال} ، أي: هذا الكافر {لصاحبه} ، أي: المسلم المجعول مثلاً للفقراء المؤمنين {وهو} ، أي: صاحب الجنتين {يحاوره} ، أي: يراجعه الكلام من حار يحور إذا رجع افتخاراً عليه وتقبيحاً لحاله بالنسبة إليه والمسلم يحاوره بالوعظ وتقبيح الركون إلى الدنيا {أنا أكثر منك مالاً} لما ترى من جناتي وثماري، وقرأ نافع بمد الألف بعد النون والباقون بالقصر هذا في الوصل، وأمّا في الوقف فبالألف للجميع، وسكن قالون وأبو عمرو والكسائي هاء وهو وضمها الباقون ورقق ورش راء يحاوره {وأعز نفراً} ، أي: ناساً يقومون معي في المهمات وينفعون عند الضرورات لأنّ ذلك لازم لكثرة المال غالباً وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بمثل هذا ألسنتهم فإنّ ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه.
{ودخل جنته} بصاحبه يطوف به فيها ويفاخرهُ بها وأفرد الجنة لإرادة الجنس ودلالة ما أفاده الكلام من أنهما لاتصالهما كالجنة الواحدة وإشارة(2/376)
إلى أنه لا جنة له غيرها لأنه لا حظّ له في الآخرة {وهو} ، أي: والحال أنه {ظالم لنفسه} لاعتماده على ماله والإعراض عن ربه، ثم استأنف بيان ظلمه بقوله تعالى: {قال ما أظنّ أن تبيد} ، أي: تنعدم {هذه} ، أي: الجنة {أبداً} لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بجهله ثم زاد في الطغيان والبطر بقصر النظر على الحاضر فأنكر البعث بقوله:
{وما أظنّ الساعة قائمة} ، أي: كائنة استلذاذاً بما هو فيه وإخلاداً إليه واعتماداً عليه وقوله: {ولئن رددت إلى ربي} المحسن إليّ في هذه الدار في الساعة إقسام منه على أنه إن ردّ إلى ربه على سبيل الفرض والتقدير وعلى ما يزعم صاحبه أنّ الساعة قائمة {لأجدنّ خيراً منها} ، أي: من هذه الجنة {منقلباً} ، أي: مرجعاً لأنه لم يعطني الجنة في الدنيا إلا ليعطيني في الآخرة أفضل منها قال ذلك طمعاً وتمنياً على الله وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده، وأنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله وأنّ معه هذا الاستحقاق أينما توجه كقوله: أنّ لي عنده الحسنى لأوتين مالاً وولداً.
{قال له صاحبه} ، أي: المؤمن {وهو} ، أي: والحال أنّ ذلك الصاحب {يحاوره} ، أي: يراجعه منكراً عليه {أكفرت بالذي خلقك من تراب} ، أي: خلق أصلك آدم من تراب لأنّ خلق أصله سبب في خلقه فكان خلقه خلقاً له {ثم من نطفة} متولدة من أغذية أصلها تراب هي مادّتك القريبة {ثم سوّاك} ، أي: عدلك بعد أن أولدك وطورك في أطوار النشأة {رجلاً} ، أي: كملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال جعل كفره بالبعث كفراً بالله تعالى لأنّ منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى ولذلك ترتب الإنكار على خلقه إياه من التراب، فإنّ من قدر على بدء خلقه مرّة قدر على أن يعيده منه، ولما أنكر على صاحبه أخبر عن اعتقاده بما يضاد اعتقاد صاحبه، فقال مؤكداً لأجل إنكار صاحبه مستدركاً لأجل كفرانه.
{لكنا} أصله لكن أنا نقلت حركة الهمزة إلى النون وحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها كما قال القائل:
*وترمينني بالطرف، أي: أنت مذنب
... وتقلينني لكنّ إياك لا أقلي
أي لكن أنا لا أقليك. ولما كان سبحانه وتعالى لا شيء أظهر منه ولا شيء أبطن منه أشار إلى ذلك جميعاً بإضماره قبل الذكر فقال: {هو} ، أي: الظاهر أتم ظهور فلا يخفى أصلاً ويجوز أن يكون الضمير للذي خلقك {الله} ، أي: المحيط بصفات الكمال {ربي} وحده لم يحسن إليّ خلقاً ورزقاً أحد غيره وهذا اعتقادي في الماضي والحال. وقرأ ابن عامر بإثبات الألف بعد النون وقفاً ووصلاً لاتباع المرسوم والباقون بإثبات الألف بعد النون وقفاً وحذفها وصلاً. فإن قيل: قوله لكنا استدراك لماذا؟ أجيب: بأنه لقوله {أكفرت} فكأنه قال لأخيه: أكفرت بالله لكني مؤمن موحد، كما تقول زيد غائب لكن عمرو حاضر.
وذكر القفال في قول المؤمن: {ولا أشرك بربي} ، أي: المحسن إليّ في عبادتي {أحداً} وجوهاً أحدها: أني لا أرى الفقر والغنى إلا منه فأحمده إذا أعطى وأصبر إذا ابتلى، ولا أكفر عندما ينعم عليّ ولا أرى كثرة الأموال والأعوان من نفسي وذلك لأنّ الكافر لما اغتر بكثرة المال والجاه فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العز والغنى. وثانيها: لعل ذلك الكافر مع كونه منكراً للبعث كان عابد صنم فبيّن هذا(2/377)
المؤمن فساد قوله بإثبات الشركاء. وثالثها: أنّ هذا الكافر لما عجز الله تعالى عن البعث والحشر فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز، وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك ثم قال المؤمن للكافر:
{ولولا إذ} ، أي: وهلا حين {دخلت جنتك قلت} عند إعجابك بها ما يدل على تفويضك الأمر فيها وفي غيرها إلى الله تعالى وهو {ما شاء الله} ، أي: الأمر ما شاء الله أو ما شاء الله كائن على أنّ ما موصولة، أي: وأي شيء شاء الله كان على أنها شرطية والجواب محذوف، أي: إقراراً بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أهلكها، وقرأ ابن ذكوان وحمزة بالإمالة والباقون بالفتح وإذا وقف حمزة وهشام على شاء أبدل الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر، وأظهر إذ عند الدال نافع وابن كثير وعاصم والباقون بالإدغام وهلا قلت: {لا قوّة إلا بالله} اعترافاً بالعجز على نفسك والقدرة لله وأنّ ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها فبمعونة الله تعالى وإقداره أو لا يقوى أحد في بدنه ولا في غير ذلك إلا بالله. وفي الحديث «من أعطى خيراً من أهل أو مال فيقول عند ذلك ما شاء الله لا قوّة إلا بالله لم ير فيه مكروهاً» ثم إنّ المؤمن لما أعلم الكافر بالإيمان أجابه عن افتخاره بالمال والنفس فقال: {إن ترني أنا أقلّ منك مالاً وولداً} أي: من جهة المال والولد، ويحتمل أن يكون أنا فصلاً وأن يكون تأكيداً للمفعول الأوّل. وقرأ قالون وأبو عمرو بإثبات الياء وصلاً وحذفها وقفاً، وابن كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً وقوله تعالى:
{فعسى ربي} ، أي: المحسن إليّ {أن يؤتيني} من خزائن رزقه {خيراً من جنتك} إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة لإيماني جواب الشرط {ويرسل عليها} ، أي: جنتك {حسباناً} جمع حسبانة، أي: صواعق {من السماء فتصبح} بعد كونها قرّة للعين بما تهتز به من الأشجار والزروع {صعيداً زلقاً} ، أي: أرضاً ملساء باستئصال بنيانها وأشجارها فلا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم وقوله:
{أو يصبح ماؤها غوراً} ، أي: غائراً في الأرض لا تناله الأيدي والدلاء مصدر وصف به كالزلق {فلن تستطيع} أنت {له} ، أي: للماء الغائر {طلباً} يصير بحيث لا تقدر على ردّه إلى موضعه، ثم إنه أخبر الله تعالى أنه حقق ما قدّره هذا المؤمن فقال:
{وأحيط} ، أي: وقعت الإحاطة بالهلاك وبني للمفعول لأنّ النكد حاصل بإحاطة الهلاك من غير نظر إلى فاعل مخصوص والدلالة على سهولته {بثمره} ، أي: الرجل المشرك كله واستؤصل هالكاً ما في السهل منه وما في الجبل وما يصبر منه على البرد والحر وما لا يصبر. قال بعض المفسرين: إنّ الله تعالى أرسل عليها ناراً فأهلكتها وغار ماؤها {فأصبح يقلب كفيه} ندماً ويضرب أحداهما على الأخرى تحسراً فتقلب الكفين كناية عن الندم والتحسر لأنّ النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن كما يكنى عن ذلك بعض الكف والسقوط في اليد لأنه في معنى الندم فعدى تعديته كأنه قيل فأصبح يندم {على ما أنفق فيها} ، أي: في عمارتها ونمائها {وهي خاوية} ، أي: ساقطة {على عروشها} ، أي: دعائمها التي كانت تحتها فسقطت على الأرض وسقطت هي فوقها. وقوله تعالى: {ويقول} عطف على يقلب أو حال من ضميره {يا} للتنبيه {ليتني} تمنياً لرد ما فاته لحيرته وذهول عقله ودهشته وعدم اعتماده على الله تعالى من غير إشراك بالاعتماد على الفاني {لم أشرك بربي(2/378)
أحداً} كما قال له صاحبه فندم حيث لا ينفعه الندم على ما فرّط في الماضي لأجل ما فاته على الدنيا لا حرصاً على الإيمان لحصول الفوز في العقبى لقصور عقله ووقوفه مع المحسوسات المشاهدة. فإن قيل: إنّ هذا الكلام يوهم أن جنته إنما هلكت بشؤم شركه وليس مراداً لأنّ أنواع البلاء أكثرها إنما يقع للمؤمنين قال تعالى: {ولولا أن يكون الناس أمّة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون} (الزخرف، 33)
. وقال صلى الله عليه وسلم «خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» . وأيضاً لما قال: {يا ليتني لم أشرك بربي أحداً} فقد ندم على الشرك ورغب في التوحيد فوجب أن يصير مؤمناً فلم قال تعالى بعده:
{ولم تكن له فئة} ، أي: جماعة من نفره الذين اغتر بهم ولا من غيرهم {ينصرونه} مما وقع فيه {من دون الله} عند هلاكها {وما كان} هو {منتصراً} بنفسه بل ليس الأمر في ذلك إلا لله وحده. أجيب: عن الأوّل بأنه لما عظمت حسراته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا وكان معرضاً في عمره كله عن طلب الدين فلما ضاعت الدنيا بالكلية بقي محروماً من الدنيا والدين، وعن الثاني بأنه إنما ندم على الشرك لاعتقاده أنه لو كان موحداً غير مشرك لبقيت عليه جنته فهو إنما رغب في ذلك لأجل طلب الدنيا فلذلك لم يقبل الله توحيده. وقرأ حمزة والكسائي يكن بالتحتيتة على التذكير والباقون بالفوقية على التأنيث. ولما أنتج هذا المثل قطعاً أنه لا أمر لغير الله تعالى المرجو لنصر أوليائه بعد ذلهم ولإغنائهم بعد فقرهم ولإذلال أعدائهم بعد عزهم وكبرهم وإفقارهم بعد إغنائهم وحده وإن غيره إنما هو كالخيال لا حقيقة له، صرّح بذلك في قوله تعالى:
{هنالك} ، أي: في مثل هذه الشدائد العظيمة {الولاية لله} ، أي: الذي له الكمال كله، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الواو وأي الملك والباقون بفتحها، أي: النصرة وقوله تعالى: {الحق} قرأه أبو عمرو والكسائي برفع القاف على الاستئناف والقطع تعليلاً تنبيهاً على أنّ فزعهم في مثل هذه الأزمان إليه تعالى دون غيره برهان قاطع على أنه الحق وما سواه باطل وأنّ الفخر بالعرض الزائل من أجهل الجهل، وأنّ المؤمنين لا يصيبهم فقر ولا يسوغ طردهم لأجله وأنه يوشك أن يعود فقرهم غنى وضعفهم قوّة وقرأه الباقون بخفضها على الوصف، أي: الثابت الذي لا يحول يوماً ولا يزول ولا يغفل ساعة ولا ينام ولا ولاية لغيره بوجه {هو خير ثواباً} من ثواب غيره لو كان يثيب {وخير عقباً} ، أي: عاقبة للمؤمنين، وقرأ عاصم وحمزة بسكون القاف والباقون بضمها ونصب على التمييز.
ولما تمّ المثل لدنياهم الخاصة بهم التي أنظرتهم فكانت سبباً لشقاوتهم وهم يحسبون أنها عين إسعادهم ضرب لدار الدنيا العامّة لجميع الناس في قلة ثوابها وسرعة فنائها وأنّ من تكبر كان أخس منها فقال:
{واضرب} ، أي: صير {لهم} ، أي: لهؤلاء الكفار المغترّين بالعرض الفاني المفتخرين بكثرة ذكر الأموال والأولاد وعزة النفر. وقوله تعالى: {مثل الحياة الدنيا} مفعول أوّل ثم ذكر المثل بقوله تعالى: {كماء} وهو المفعول الثاني {أنزلناه} بعظمتنا وقدرتنا وقال تعالى: {من السماء} تنبيهاً على بليغ القدرة في إمساكه في العلو وإنزاله في وقت الحاجة {فاختلط} ، أي: فتعقب وتسبب عن إنزاله أنه اختلط {به نبات الأرض} ، أي: التف بسببه حتى(2/379)
خالط بعضه بعضاً من كثرته وتكاثفه كما قال تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} (الحج، 5)
. وقيل: اختلط ذلك الماء بالنبات حتى روى واهتز ونما وكان حق اللفظ على هذا التفسير فاختلط بنبات الأرض لكن لما كان كل من المختلطين موصوفاً بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته ثم إذا انقطع ذلك بالمطر مدّة جف ذلك النبات {فأصبح هشيماً} أي يابساً متفرّقة أجزاؤه {تذروه} ، أي: تنثره وتفرّقه {الرياح} فتذهب به والمعنى أنه تعالى شبه الدنيا بنبات حسن فيبس فتكسر ففرّقته الرياح حتى يصير عما قليل كأنه بقدرة الله تعالى لم يكن وقرأ حمزة والكسائي بالتوحيد والباقون بالجمع {وكان الله} ، أي: المختص بصفات الكمال {على كل شيء} من دون ذلك وغيره إنشاءً وإفناءً وإعادةً. {مقتدراً} أزلاً وأبداً بتكوينه اوّلا وتنميته وسطاً وإبطاله آخراً فأحوال الدنيا أيضاً كذلك تظهر أوّلاً في غاية الحسن والنضارة ثم تتزايد قليلاً قليلاً ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن ينتهي إلى الهلاك والفناء ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به.
تنبيه: قوله تعالى: {فأصبح} يجوز أن يكون على بابه فإنّ أكثر ما يطرق من الآفات صباحاً كقوله تعالى: {فأصبح يقلب كفيه} ويجوز أن يكون بمعنى صار من غير تقييد كقول القائل:
*أصبحت لا أحمل السلاح ولا
... أملك رأس البعير إن نفرا
ولما بيّن سبحانه وتعالى أنّ الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزوال والبوار والفناء بيّن بقوله تعالى:
{س18ش46/ش48 الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا? وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَ? * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى ا?رْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا? عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة?? بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا}
{المال والبنون زينة الحياة الدنيا} إدخال هذا الجزئيّ تحت هذا الكلي فينعقد به قياس بين الإنتاج وهو أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا ولما كانت زينة الحياة الدنيا سريعة الانقضاء والانقراض أنتج إنتاجاً بديهياً أنّ المال والبنون سريع الانقضاء والانقراض وما كان كذلك فإنه ينتج بالعقل أن لا يفتخر به أو يفرح بسببه أو يقيم له في نظره وزناً وهذا برهان ظاهر باهر على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال. ثم ذكر تعالى ما يدل على رجحان أولئك الفقراء على أولئك الكفار من الأغنياء فقال: {والباقيات الصالحات خير} ، أي: من الزينة الفانية لأنّ خيرات الدنيا منقرضة منقضية وخيرات الآخرة دائمة باقية والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي وهذا معلوم بالضرورة لا سيما وقد ثبت أنّ خيرات الدنيا حقيرة خسيسة وأنّ خيرات الآخرة رفيعة شريفة.
والمفسرون ذكروا في الباقيات الصالحات أقوالاً أحدها أنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وزاد بعضهم ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وللغزالي في تفسير وجه لطيف فقال: روي أنّ من قال: سبحان الله حصل له من الثواب عشر حسنات فإذا قال: الحمد لله صارت عشرين فإذا قال: ولا إله إلا الله صارت ثلاثين فإذا قال: والله أكبر صارت أربعين وتحقيق القول فيه أنّ مراتب الثواب أعظمها هو الاستغراق في معرفة الله تعالى وفي محبته فإذا قال: سبحان الله فقد عرف كونه تعالى منزهاً عن كل ما لا يليق به وكل ما لا ينبغي فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة فإذا قال مع ذلك الحمد لله فقد أقرّ بأنّ الحق سبحانه وتعالى مع كونه منزهاً عن كل ما لا ينبغي فهو المبتدئ لكل ما ينبغي ولإفاضة كل(2/380)
فقد تضاعفت درجات المعرفة فلا جرم قلنا بمضاعفة الثواب فإذا قال مع ذلك: لا إله إلا الله فقد أقر بأن الذي تنزه عن كل ما لا ينبغي وهو المبتدئ لكل ما ينبغي ليس في الوجود موجود هكذا إلا هو الواحد فقد صارت مراتب المعرفة ثلاثة فلا جرم صارت درجات الثواب ثلاثة فإذا قال العبد: والله أكبر فمعنى أنه أكبر أنه أعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة فلا جرم صارت درجات الثواب أربعة. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس» . وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هنّ يا رسول الله قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله» ، ثانيها أنها الصلاة الخمس، ثالثها أنها الطيب من القول، رابعها وهو أعمها، وأولاها أنها أعمال الخيرات التي تبقى ثمراتها أبد الآباد فيندرج في ذلك الصلاة وأعمال الحج وصيام رمضان وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله والكلام الطيب وغير ذلك من كل عمل وقول دعاك لمحبة الله تعالى ومعرفته وخدمته، وأما ما دعاك من قول أو عمل إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك لأن كل ما سوى الحق فهو فانٍ لذاته فكان الاشتغال به والانفاق عليه باطلاً وسعياً ضائعاً، وأما الحق لذاته فهو الباقي الذي لا يقبل الزوال، لا جرم كان الاشتغال بمحبته ومعرفته وطاعته وخدمته هو الذي يبقى بقاء لا يزول ولما كان أهم ما إلي من حصل البقاء ليس لكفايته بل لمن يحفظها له لوقت حاجته قال تعالى: {عند ربك} أي: الجليل المواهب العالم بالعواقب وخير من المال والبنين في العاجل والآجل {ثواباً وخير} من ذلك كله {أملاً} أي: من جملة ما يرجوه فيها من الثواب
ويرجوه فيها من الأمل لأن ثوابها إلى بقاء آملها كل ساعة في تحقق وعلوّ وارتقاء وآمل المال والبنين يخان أحوج ما يكون إليهما، وعن قتادة كل ما أريد به وجه الله تعالى خير ثواباً أي: ما يتعلق بها من الثواب وما يتعلق بها من الأمل لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة. ولما بيّن سبحانه وتعالى خساسة الدنيا وشرف الآخرة أردفه بأحوال يوم القيامة وذكر منها أنواعاً النوع الأوّل قوله تعالى:
{ويوم} أي: واذكر لهم يوم {نسير} بأيسر أمر {الجبال} عن وجه الأرض بعواصف القدرة كما نسير نبات الأرض بعد أن صار هشيماً بالرياح كما قال تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّمرّ السحاب} (النمل، 88)
تنبيه: ليس في لفظ الآية ما يدل إلى أين تسير، قال الرازي: ويحتمل أن يقال: إن الله يسيرها إلى الموضع الذي يريده ولم يبين ذلك لخلقه، والحق أنّ المراد أنّ الله تعالى يسيرها إلى العدم لقوله تعالى: {ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} (طه، 105، 106)
ولقوله: {وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً} (الواقعة، 5، 6)
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم التاء الفوقية وفتح الياء التحتية بعد السين على فعل ما لم يسم فاعله ورفع الجبال بإسناد تسير إليها كما في قوله تعالى: {وإذا الجبال سيرت} (التكوير، 3)
والباقون بالنون المضمومة وكسر الياء التحتية بعد السين بإسناد فعل التسيير إليه تعالى نفسه ونصب الجبال لكونه مفعول نسير والمعنى نحن نفعل بها ذلك(2/381)
اعتباراً بقوله تعالى: {وحشرناهم} والمعنى واحد لأنها إذا سيرت فمسيرها ليس إلا الله تعالى. النوع الثاني قوله تعالى: {وترى الأرض} بكمالها {بارزة} لا غار فيها ولا صدع ولا جبل ولا نبت ولا شجر ولا ظل فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها ما يسترها وهو المراد من قوله تعالى: {لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} (طه، 106)
وقيل: إنها أبرزت ما في بطنها وقذفت الموتى المقبورين فيها فإذا هي بارزة الجوف والبطن فحذف ذكر الجوف كما قال تعالى: {وألقت ما فيها وتخلت} (الانشقاق، 4)
وقال تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} (الزلزلة، 2)
. النوع الثالث قوله تعالى: {وحشرناهم} أي: الخلائق قهراً إلى الوقت الذي تنكشف فيه المخبآت وتظهر القبائح والمغيبات ويقع الحساب فيه على النقير والقطمير والناقد فيه بصير {فلم نغادر} أن نترك {منهم} أي: الأوّلين والآخرين {أحداً} لأنه لا ذهول ولا عجز، ونظيره قوله تعالى: {قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} (الواقعة: 50، 51)
فإن قيل: لم جيء فحشرناهم ماضياً بعد نسير وترى؟ أجيب: بأن ذلك يقال للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال العظائم، كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك. ولما ذكر تعالى حشرهم وكان من المعلوم أنه للعرض ذكر كيفية ذلك العرض فقال بانياً الفعل للمفعول على طريقة كلام القادرين ولأن المخوف العرض لا لكونه من معين
{وعرضوا على ربك} المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك، وقوله تعالى: {صفاً} حال أي: مصطفين واختلف في تفسيره على وجوه؛ الأوّل: أن تعرض الخلق كلهم صفاً واحداً لاتساع الأرض ظاهرين لا يحجب بعضهم بعضاً، ثانيها: لا يبعد أن يكونوا صفاً يقف بعضهم وراء بعض مثل الصفوف المحيطة بالكعبة التي تكون بعضها خلف بعض وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى: صفاً صفوفاً كقوله تعالى: {يخرجكم طفلاً} (غافر، 67)
أي: أطفالاً، ثالثها: المراد بالصف القيام كما في قوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عليها صواف} (الحج، 36)
أي: قياماً وقيل: كل أمّة صف ويقال لهم: {لقد جئتمونا كما خلقناكم أوّل مرّة} أي: فرادى حفاةً عراةً غرلاً وليس المراد حصول المساواة من كل وجه لأنهم خلقوا صغاراً ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم بل المراد ما مرّ ويقال لمنكري البعث: {بل زعمتم أن} أي: أنا {لن نجعل لكم موعداً} أي: مكاناً ووقتاً نجمعكم فيه هذا الجمع فننجز لكم ما وعدناكم به على ألسنة رسلنا فكنتم مع التعزز على المؤمنين بالأموال والأنصار منكرين البعث والقيامة فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا وشاهدتم أن القيامة والبعث حق.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: «أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أوّل خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين ألا وإن أوّل خلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمّتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم، قال: فيقال لي إنهم لم يزالوا مدبرين على أعقابهم منذ فارقتهم» وفي رواية فأقول: «سحقاً سحقاً» وقوله: غرلاً أي: قلفا الغرلة القلفة التي تنقطع من جلد الذكر وهو موضع الختان وقوله: سحقاً أي: بعداً. قال بعض العلماء: المراد بهؤلاء الذين ارتدوا من العرب بعده، وعن عائشة رضي الله تعالى(2/382)
عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس حفاة عراة غرلاً، فقلت: الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض، فقال: الأمر أشدّ من أن يهمهم ذلك» زاد النسائي في رواية لكم امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله: «يحشر الناس على ثلاث طوائف راغبين راهبين واثنان على بعير وثلاثة على بعير وأربعة على بعير وعشرة على بعير وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا وتمسي معهم حيث أمسوا»
{ووضع} بعد العرض المستعقب للجمع بأدنى إشارة {الكتاب} المضبوط فيه دقائق الأعمال وجلائلها على وجه بيّن لا يخفي على قارئ ولا غيره شيء منه، فيوضع كتاب كل إنسان في يده، إما في اليمن وإما في الشمال والمراد الجنس وهو صحف الأعمال {فترى المجرمين مشفقين} أي: خائفين خوف العقاب من الحق وخوف الفضيحة من الخلق {مما فيه} من قبائح أعمالهم وسيء أفعالهم وأقوالهم {ويقولون} عند معاينتهم ما فيه من السيآت وقولهم {يا} للتنبيه {ويلتنا} أي: هلكتنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه كناية عن أنه لا نديم لهم إذ ذاك إلا الهلاك {مال هذا الكتاب} أي: أيّ شيء له حال كونه على غير حال الكتب في الدنيا {لا يغادر} أي: لا يترك {صغيرة ولا كبيرة} من ذنوبنا وقال ابن عباس الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة، وقال سعيد بن جبير الصغيرة اللمم والمسيس والقبلة والكبيرة الزنا {إلا أحصاها} أي: عدّها وأثبتها في هذا الكتاب، ونظيره قوله تعالى: {وإنّ عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون} (الإنفطار: 10، 11، 12)
وقوله تعالى: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية، 29)
تنبيه: إدخال التاء في الصغيرة والكبيرة على تقدير أنّ المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة، قال بعض العلماء: احتجبوا من الصغائر قبل الكبائر لأن الصغائر هي التي جرتهم إلى الكبائر واحترزوا من الصغائر حذراً من أن تقعوا في الكبائر، وعن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء هذا بعود فطبخوا خبزهم وإن محقرات الذنوب لموبقات {ووجدوا ما عملوا حاضراً} أي: مثبتاً في كتابهم {ولا يظلم ربك} أي: الذي رباك بخلق القرآن {أحداً} منهم ولا من غيرهم في كتاب ولا عقاب ولا ثواب بل يجازي الأعداء بما يستحقونه تعذيباً لهم ويجازي أولياءه الذين عادوهم بما يستحقون تنعيماً لهم، روى الإمام أحمد في المسند عن جابر بن عبد الله أنه سافر إلى عبد الله بن أنيس مسيرة شهر يستأذن فاستأذن عليه قال: فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته قلت حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت قبل أن أسمعه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الله عز وجل الناس أو قال العباد حفاة عراة بهما قلت: وما بهما قال: ليس معهم شيء ثم ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عليه حق حتى أقتص منه حتى اللطمة، قال: فقلنا كيف وإنا(2/383)
نأتي حفاة عراة بهما قال: بالحسنات والسيآت» وروى الرازي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يحاسب الله الناس في القيامة على ملة يوسف وأيوب وسليمان فيدعوا المملوك فيقال: ما شغلك عني فيقول: جعلتني عبداً لآدمي فلم يفرغني فيدعو يوسف فيقول: كان هذا عبداً مثلك فلم يمنعه ذلك أن عبدني فيؤمر به إلى النار ثم يدعو المبتلى، فإذا قال: شغلتني
بالبلاء دعا أيوب فيقول: قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك من عبادتي، ثم يؤتى بالملك في الدينا مع ما آتاه الله تعالى من الغنى والسعة فيقول: ما عملت فيما آتيتك؟ فيقول: شغلني الملك عن ذلك فيدعي سليمان فيقول: هذا عبدي آتيته أكثر مما آتيتك فلم يشلغه ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك ويؤمر به إلى النار» ، وعن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يزول قدم العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع؛ عن جسده فيم أبلاه وعن عمره فيم أفناه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه كيف عمل به» . ولما كان المقصود من ذكر الآيات المتقدمة الرد على القوم الذين افتخروا بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين وهذه الآية المذكورة في قوله تعالى:
{وإذ} أي: واذكر إذ {قلنا للملائكة} الذين هم أطوع شيء لأوامرنا المقصود من ذكرها عين هذا المعنى وذلك لإن إبليس إنما تكبر على آدم لأنه افتخر بأصله ونسبه وقال: خلقتني من نار وخلقته من طين وأنا أشرف منه في الأصل والنسب فكيف أسجد له وكيف أتواضع له، وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المسلمين بمعنى هذه المعاملة فقالوا: كيف نجالس هؤلاء الفقراء مع أنّا أناس من أنساب شريفة وهم من أنساب باذلة ونحن أغنياء وهم فقراء، ذكر الله تعالى هذه القصة تنبيهاً على أن هذه الطريقة هي نفسها طريقة إبليس حين أمره الله تعالى في جملة الملائكة بقوله تعالى: {اسجدوا لآدم} سجود انحناء بلا وضع جبهة تحية له {فسجدوا إلا إبليس كان من الجن} قيل: هم نوع من الملائكة فالاستثناء متصل، وقيل: هو منقطع وإبليس أبو الجن فله ذرّية ذكرت معه بعد، والملائكة لا ذرّية لهم وكرّرت هذه القصة لهذا المقصود المذكور. قال البيضاوي: وهكذا مذهب كل تكرير في القرآن أي: إنما يكرّر لمناسبة ذلك المحل الذي يذكر فيه {ففسق} أي: خرج بتركه السجود {عن أمر ربه} أي: سيده ومالكه المحسن إليه والفاء للسببية وفيه دليل على أنّ الملك لا يعصي البتة ورنما عصى إبليس لأنه كان خبيثاً في أصله والكلام المستقصى فيه تقدّم في سورة البقرة ثم أنه تعالى حذر عن أتباعه بقوله تعالى: {أفتتخذونه} الخطاب لآدم وذريته والهاء هنا وفيما سيأتي لإبليس والهمزة للإنكار والتعجب أي: يفسق باستحقاركم فنطرده لأجلكم فيكون ذلك سبباً لأن تتخذوه {وذريته} شركاء لي {أولياء} لكم {من دوني} تطيعونهم بدل طاعتي وقوله تعالى: {وهم لكم عدوّ} أي: أعداء حال ولما كان هذا الفعل أجدر شيء بالذم وصل به قوله تعالى: {بئس للظالمين بدلاً} من الله إبليس وذريته، وكان الأصل لكم ولكنه أبرز الضمير ليعلق الفعل بالوصف لإفادة التعميم. روى مجاهد عن الشعبي قال: إني لقاعد يوماً إذ أقبل جمال فقال: أخبروني هل لإبليس زوجة قلت:
إنّ ذلك لعرس ما شهدته ثم ذكرت قوله تعالى: {أفتتخذونه(2/384)
وذريته أولياء من دوني} فعلمت أن لا تكون ذرّية إلا من زوجة فقلت: نعم وقال قتادة: يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وقيل: إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض البيضة فتنفلق عن جماعة من الشياطين، قال مجاهد من ذرية إبليس لاقيس وولهان وهما صاحبا الطهارة والصلاة والهفاف ومرة وبه يكنى وزلنيور وهو صاحب الأسواق يزين اللغو والأيمان الكاذبة ومدح السلع ونبز وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة، ومطوس وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها في أفواه الناس لا يجدون لها أصلاً، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسم الله ولم يذكر الله دخل معه، وإذا أكل ولم يسم الله أكل معه، قال الأعمش: ربما دخلت البيت ولم أذكر الله ولم أسلم فرأيت مطهرة فقلت: ارفعوا وخاصمتهم ثم اذكر فأقول داسم داسم. وعن عثمان بن أبي العاص قال: قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ذلك شيطان يقال له خترب فإذا أحسسته فتعوّذ بالله واتفل عن يسارك ثلاثاً قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عني» ، وعن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «للوضوء شيطان يقال له الولهان فاتقوا وساوس الماء» ، وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت» ، قال الأعمش: أراه قال: فيلتزمه واختلفوا في عود الضمير في قوله تعالى:
{
ما أشهدتهم} على وجوه؛ أحدها وهو الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى ما أشهدت الذين اتخذوهم أولياء {خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} أي: ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله تعالى: {اقتلوا أنفسكم} (النساء، 66)
نفى إحضار إبليس وذريته خلق السماوات والأرض وإحضار بعضهم خلق بعض ليدل على نفي الاعتضاد بهم في ذلك كما صرح به بقوله تعالى: {وما كنت متخذ المضلين} أي: الذين يضلون الناس ووضع الظاهر موضع المضمر إظهاراً لإضلالهم وذمّاً لهم {عضداً} أي: أعواناً، وثانيها قال الرازي: وهو الأقوى عندي إن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء من عندك فلا تؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم قوم كسائر الخلق فلم أقدموا على الاقتراح الفاسد قال: والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات فالأقرب في هذه الآية هو أولئك الكفار وهو قوله تعالى: {بئس للظالمين بدلاً} والمراد بالظالمين أولئك الكفار، وثالثها أن يكون المراد من قوله ما أشهدتهم إلى آخره دون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة فكأنه قيل لهم السعيد من حكم الله بسعادته والشقي من حكم الله بشقاوته(2/385)
في الأزل وأنتم غافلون عن أحوال الأزل فإنه تعالى قال: ما أشهدتهم إلى آخره وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلوّ والكمال ولغيركم بالذل والدناءة بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس مما حكمتم به. ولما قرّر تعالى أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتدوا فيه بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأهوال القيامة فقال:
{ويوم} التقدير واذكر لهم يا محمد يوم عطفاً على قوله وإذ قلنا للملائكة {يقول} أي: الله يوم القيامة لهؤلاء الكفار تهكماً بهم وقرأ حمزة بالنون والباقون بالياء {نادوا شركائي} أي: ما عبد من دوني وقيل: إبليس وذرّيته ثم بيّن تعالى أن الإضافة ليست على حقيقتها بل توبيخ لهم فقال تعالى: {الذين زعمتم} أنهم شركائي أو شفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي {فدعوهم} تمادياً في الجهل والضلال {فلم يستجيبوا لهم} أي: فلم يغيثوهم استهانة بهم واشتغالاً بأنفسهم فضلاً عن أن يعينوهم {وجعلنا بينهم} أي: المشركين والشركاء {موبقاً} أي: وادياً من أودية جهنم يهلكون فيه جميعاً، وهو من وبق بالفتح هلك، نقل ابن كثير عن عبد الله بن عمر أنه قال: هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلال، وقال الحسن البصري: عداوة أي: يؤل بهم إلى الهلاك والتلف كقول عمر رضي الله تعالى عنه: لا يكون حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً أي: لا يكن حبك يجر إلى الكلف ولا بغضك يجر إلى التلف، وقيل: الموبق البرزخ البعيد أي: وجعلنا بين هؤلاء الكفار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً يهلك فيه الساري لفرط بعده لأنهم في قعر جهم وهم في أعلى الجنان.
ولما قرر سبحانه وتعالى ما لهم مع شركائهم ذكر حالهم في استمرار جهلهم فقال تعالى:
{ورأى المجرمون} أي: العريقون في الإجرام {النار} من مكان بعيد {فظنوا} ظناً {أنهم مواقعوها} أي: مخالطوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة لشدّة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها كما قال تعالى: {إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} (الفرقان، 12)
فإن مخالطة الشيء لغيره إذا كانت قوية تامّة يقال لها: مواقعة {ولم} أي: والحال أنهم لم {يجدوا عنها مصرفاً} أي: مكاناً ينصرفون إليه لأن الملائكة تسوقهم إليها والموضع موضع التحقق ولكن ظنهم جرياً على عادتهم في الجهل كما قالوا: اتخذوا الله ولداً بغير علم وما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة إن نظنّ إلا ظناً وما نحن بمستيقنين مع قيام الأدلة التي لا شك فيها، وقيل: الظن هنا بمعنى العلم واليقين.
ولما افتخر هؤلاء الكفار على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم وبيّن الله تعالى الوجوه الكثيرة أن قولهم فاسد وشبههم باطلة ذكر فيه المثلين المتقدّمين ثم قال بعده:
{ولقد صرّفنا} وأظهر نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم الدال وأدغمها الباقون {في هذا القرآن} أي: القيم الذي لا عوج فيه مع جمعه للمعاني {للناس} أي: المزلزلين والثابتين وقوله: {من كل مثل} صفة لمحذوف أي: مثلاً من جنس كل مثل ليتعظوا أو أنّا حولنا الكلام وصرّفناه في كل وجه من وجوه المعاني وألبسناه من العبارات الرائقة والأساليب المتناسقة ما صار بها في غرابته كالمثل يقبله كل من سمعه وتضرب به آباط الأبل في سائر البلاد بين العباد فتسر به قلوبهم وتلهج به ألسنتهم فلم يقبلوه ولم يتركوا المجادلة الباطلة كما قال تعالى: {وكان الإنسان أكثر شيء} يتأتى منه الجدال(2/386)
وميز الأكثرية بقوله تعالى: {جدلاً} أي: خصومة، قال بعض المحققين والآية دالة على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جادلوهم في الدين لأنّ المجادلة لا تحصل إلا من الطرفين ولهذا قيل: أراد بالإنسان الكافر، وقيل الآية على العموم، قال ابن الخازن: وهو الأصح وكذا قال البغوي فعن عليّ رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنها ليلة فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً، وقال ابن عباس أراد النضر بن الحارث وجداً له في القرآن، وقال الكلبي: أراد به خلفاً الجمحي.
ولما بيّن سبحانه وتعالى إعراضهم بيّن موجبه عندهم فقال تعالى:
{وما منع الناس} أي: الذين جادلوا بالباطل الإيمان هكذا كان الأصل ولكنه عبر عن هذا المفعول الثاني بقوله: {أن يؤمنوا} ليفيد التجديد وذمّهم على الترك {إذ} أي: حين {جاءهم الهدى} أي: القرآن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وعطف على المفعول الثاني معبراً بمثل ما مضى لما مضى قوله تعالى: {ويستغفروا ربهم} أي: لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة.
ولما كان الاستثناء مفرغاً أتى بالفاعل فقال: {إلا أن} أي: طلب أن {تأتيهم سنة الأوّلين} أي: سنتنا فيهم وهي الإهلاك المقدّر عليهم {أو} طلب أن {يأتيهم العذاب قبلاً} أي: مقابلة وعياناً وهو القتل يوم بدر، وقيل عذاب الآخرة وقرأ الكوفيون برفع القاف والباء الموحدة والباقون بكسر القاف وفتح الباء الموحدة.
ولما كان ذلك ليس إلى الرسول وإنما هو إلى الله تعالى نبه بقوله تعالى:
{وما نرسل المرسلين إلا مبشرين} بالثواب على أفعال الطاعة {ومنذرين} بالعقاب على أفعال المعصية فيطلب منهم الظالمون من أممهم ما ليس إليهم {ويجادل الذين كفروا} أي: يجدّدون الجدال كلما أتاهم أمر من قبلنا {بالباطل} من قولهم ما أنتم إلا بشر مثلنا ولو كنتم صادقين لأتيتم بما يطلب منكم مع أن ذلك ليس كذلك إذ ليس لأحد غير الله من الأمر شيء {ليدحضوا به} أي: ليبطلوا بجدالهم {الحق} أي: القرآن والمعجزات المثبتة لصدقهم {واتخذوا آياتي} أي: القرآن {وما أنذروا} أي: وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب {هزوا} أي: استهزاء وقرأ حفص بالواو وقفاً ووصلاً وحمزة بالواو ووقفاً لا وصلاً وسكن الزاي حمزة ورفعها الباقون ولحمزة في الوقف أيضاً النقل.
ولما حكى الله تعالى عن الكفار أحوالهم الخبيثة وصفهم بما يوجب الخزي بقوله تعالى:
{ومن أظلم} أي: لا أحد أظلم وهو استفهام على سبيل التقرير {ممن ذكر بآيات ربه} أي: المحسن إليه بها وهي القرآن {فأعرض عنها} تاركاً لما يعرف من تلك العلامات العجيبة وما يوجب ذلك الإحسان من الشاكر {ونسي ما قدّمت يداه} من الكفر والمعاصي فلم يتفكر في عاقبتها ثم علل تعالى ذلك الإعراض بقوله تعالى: {أنا جعلنا على قلوبهم} فجمع رجوعاً إلى أسلوب واتخذوا آياتي لأنه أنص على ذم كل واحد {أكنة} أي: أغطية مستعلية عليها استعلاء يدل سياق العظمة على أنه لا يدع شيئاً من الخير يصل إليها فهي لا تعي شيئاً من آياتنا، ودلّ تذكير الضمير وإفراده على أنّ المراد بالآيات(2/387)
القرآن فقال: {أن} أي: كراهة أن {يفقهوه} أي: يفهموه {وفي آذانهم وقراً} أي: ثقلاً فهم لا يسمعون حق السمع ولا يعون حق الوعي {وإن تدعهم} أي: تكرّر دعاءهم كل وقت {إلى الهدى} لتنجيهم بما عندك من الحرص والجد على ذلك {فلن يهتدوا} أي: بسبب دعائك {إذا} أي: إذا دعوتهم {أبداً} لأن الله تعالى حكم عليهم بالضلال فلا يقع منهم إيمان ثم قال تعالى:
{وربك} مشيراً بهذا الاسم إلى ما اقتضاه حال الوصف من الإحسان {الغفور} أي: البليغ المغفرة الذي يستر الذنوب إمّا بمحوها وإما بالحلم عنها إلى وقت آخر {ذو الرحمة} أي: الموصوف بالرحمة الذي يعامل وهو قادر مع موجبات الغضب معاملة الراحم بالإكرام، ثم استشهد تعالى على ذلك بقوله تعالى: {لو يؤاخذهم} أي: هؤلاء الذين عادوك وهو عالم أنهم لا يؤمنون أو يعاملهم معاملة المؤاخذة {بما كسبوا} من الذنوب {لعجل لهم العذاب} أي: في الدنيا {بل لهم موعد} وهو إمّا يوم القيامة وإمّا في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح {لن يجدوا من دونه} أي: الموعد {موئلاً} أي: ملجأ ينجيهم منه فإذا جاء موعدهم أهلكناهم فيه بأوّل ظلمهم وآخره وقوله تعالى:
{وتلك} مبتدأ وقوله تعالى: {القرى} أي: الماضية من عاد وثمود ومدين وقوم لوط وأشكالهم صفته لأنّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس والخبر {أهلكناهم} والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم {لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً} أي: وقتاً معلوماً لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، وقرأ شعبة بفتح الميم واللام أي: لهلاكهم، وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام والباقون بضم الميم وفتح اللام أي: لإهلاكهم، ثم عطف سبحانه وتعالى على قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة} (الكهف، 50)
{وإذ} أي: واذكر لهم حين {قال موسى لفتاه} يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف عليهم الصلاة والسلام وإنما قال فتاه لأنه كان يخدمه ويتبعه، وقيل: كان يأخذ منه العلم وقيل فتاه عبده، وفي الحديث: «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي» .
تنبيه: أكثر العلماء على أن موسى المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة، وعن كعب الأحبار أنه موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب وهو قد كان نبياً قبل موسى بن عمران، قال البغوي: والأول أصح واحتج له القفال بأن الله تعالى لم يذكر في كتابه موسى إلا أراد به صاحب التوراة فاطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه، ولو كان المراد شخصاً آخر يسمى موسى غيره لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز وإزالة الشبهة كما أنه لما كان المشهور في العرف عن أبي حنيفة هذا الرجل المعين، فلو ذكرنا هذا الاسم وأردنا به رجلاً سواه لقيدناه مثل أن نقول: قال أبو حنيفة الدينوري: وعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، فقال ابن عباس: كذب عدوّ الله ونوف البكالي هو نوف بن فضالة الحميريّ الشامي البكالي، ويقال: إنه دمشقي وكانت أمه زوجة كعب الأحبار نقله ابن كثير، وحجة الذين قالوا: موسى هذا غير صاحب التوراة أنه يقال بعد أن أنزل عليه التوراة وكلمه بلا واسطة وخصه بالمعجزات الباهرة العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكبر أكابر الأنبياء يبعد أن يبعثه بعد ذلك إلى التعلم(2/388)
والاستفادة وأجيب: بأنه لا يبعد أن يكون العالم الكامل في كثرة العلوم يجهل بعض العلوم فيحتاج في تعلمها إلى من هو دونه وهو أمر متعارف.
روى البخاري حديث أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي: الناس أعلم قال: أنا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله تعالى إليه أنّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك قال: يا رب فكيف لي به قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم قال: {لا أبرح} أي: لا أزال أسير في طلب العبد الذي أعلمني ربي بفضله {حتى أبلغ مجمع البحرين} أي: ملتقى بحر الروم وبحر فارس ممايلي الشرق قاله قتادة أي: المكان الجامع لذلك فألقاه هناك {أو أمضي حقباً} أي: دهراً طويلاً في بلوغه إن لم أظفر به بمجمع البحرين الذي جعله ربي موعد إليّ في لقائه والحقب، قال في «القاموس» ثمانون سنة أو أكثر والدهر والسنة والسنون انتهى فسارا وتزوّدا حوتاً مشوياً في مكتل كما أمر به فكانا يأكلان منه إلى أن بلغا المجمع كما قال تعالى:
{فلما بلغا مجمع بينهما} أي: بين البحرين قال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني وناما واضطرب الحوت في المكتل وخرج وسقط في البحر فلما استيقظا {نسيا حوتهما} أي: نسي يوشع حمله عند الرحيل ونسي موسى عليه السلام تذكيره وقيل: الناسي يوشع فقط وهو على حذف مضاف أي: نسي أحدهما كقوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} (الرحمن، 22)
{فاتخذ} الحوت {سبيله في البحر} أي: جعله بجعل الله {سرباً} أي: مثل السرب وهو الشق الطويل لا نفاذ له وذلك أنّ الله تعالى أمسك عن الحوت جري الماء فانجاب عنه فبقي كالكوة لم يلتئم وجمد ما تحته، وقد ورد في حديثه في الصحيح أنّ الله تعالى أحياه وأمسك عن موضع جريه في الماء فصار طاقاً لا يلتئم وكأنّ المجمع كان ممتداً فظن عليه السلام أنّ المطلوب أمامه أو ظنّ المراد مجمع البحرين آخراً فسارا
{فلما جاوزا} ذلك المكان بالسير بقية يومهما وليلتهما واستمرّا إلى وقت الغداء من ثاني يوم {قال} موسى عليه السلام {لفتاه آتنا} أي: أحضر لنا {غداءنا} وهو ما يؤكل أوّل النهار لنقوى به على ما حصل لنا من الإعياء ولذلك وصل به قوله: {لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} أي: تعباً ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله تعالى به فقوله هذا إشارة إلى السفر الذي وقع بعد مجاوزتهما الموعد أو مجمع البحرين ونصبا مفعول بلقينا
{قال} له فتاه {أرأيت} أي: ما دهاني وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة ولورش وجه آخر وهو إبدالها حرف مدّ وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق {إذ أوينا إلى الصخرة} التي بمجمع البحرين {فإني نسيت الحوت} أي: نسيت أن أذكر لك أمره ثم علل عدم ذكره بقوله: {وما أنسانيه إلا الشيطان} بوسواسه، وقرأ حفص بضم الهاء وأمال الألف الكسائي محضة وورش بين بين وبالفتح والباقون بالفتح وقوله: {أن أذكره} لك في محل نصب على البدل من هاء أنسانيه بدل اشتمال أي: أنساني ذكره {واتخذ سبيله} أي: طريقه الذي ذهب فيه {في البحر عجباً} وهو كونه كالسرب معجزة لموسى أو الخضر وذكره له الآن مانع من أن يكون للشيطان عليه سلطان على أن هذا النسيان ليس مفوتاً لطاعة بل فيه ترقية لهما في معراج المقامات العالية لوجدان التعب بعد(2/389)
المكان الذي فيه البغية وحفظ الماء منجاباً على طول الزمان وغير ذلك من الآيات الظاهرة وقوله تعالى: {إنما سلطانه على الذين يتولونه} (النحل، 100)
مبين، أن السلطان الحمل على المعاصي وقوله: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد كان في هذه القصة خوارق منها حياة الحوت ومنها إيجاد ما كان أكل منه ومنها إمساك الماء عن مدخله وقد اتفق لنبينا صلى الله عليه وسلم نفسه وأتباعه ببركته مثل ذلك، أمّا إعادة ما أكل من الحوت المشوي وهو جنبه، فقد روى البيهقي في أواخر دلائل النبوّة عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه «أنه صلى الله عليه وسلم أتي بشاة مشوية فقال لبعض أصحابه: «ناولني ذراعها» وكان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدّمها ثم قال: «ناولني ذراعها» فناوله ثم قال: «ناولني ذراعها» فقال: يا رسول الله إنما هما ذراعان وقد ناولتك فقال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لو سكت ما زلت تناولني ذراعاً ما قلت لك ناولني ذراعاً» فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لو سكت أوجد الله تعالى ذراعاً ثم ذراعاً وهكذا، وأمّا حياة الحوت المشوي ففي قصة الشاة المشوية المسمومة أنّ ذراعها أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسموم فهذا أعظم من عود الحياة من غير نطق وكذا حنين الجذع وتسليم الحجر وتسبيح الحصى ونحو ذلك أعظم من عود الحياة إلى ما كان حياً.
وروى البيهقي في «الدلائل» عن عمرو بن سواد قال: قال الشافعي: ما أعطى الله تعالى نبياً ما أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم قلت: أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى، فقال: أعطى محمد صلى الله عليه وسلم إحياء الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حين هيئ له المنبر وحنّ الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك انتهى، وقد ورد أشياء كثيرة من إحياء الموتى له صلى الله عليه وسلم ولبعض أمّته، وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: كنا في الصفة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتته امرأة ومعها ابن لها فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياماً ثم قبض فغمضه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بجهازه فلما أردنا أن نغسله قال: «ائت أمّه فأعلمها» فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ثم قالت: اللهم إني أسلمت لك تطوّعاً وخلعت الأوثان زهداً وهاجرت إليك رغبة، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها، قال: فوالله ما انقضى كلام المرأة حتى حرّك قدميه وألقى الثوب عن وجهه وعاش حتى قبض الله رسول صلى الله عليه وسلم وحتى هلكت أمّه، وأمّا آية الماء فمرجعها إلى صلابته ولا فرق بين جموده بعدم الالتئام بعد الانخراق وبين جموده وصلابته بالامتناع من الانخراق، وقد جهز عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه جيشاً واستعمل عليه العلاء بن الحضرمي فحصل لهم حرّ شديد وجهدهم العطش، قال بعض الجيش: فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين ثم مدّ يده وما نرى في السماء شيئاً فوالله ما حط يده حتى بعث الله تعالى ريحاً وأنشأ سحاباً فأفرغت حتى ملأت القدور والشعاب فشربنا وسقينا واستقينا ثم أتينا عدوّنا وقد جاوزنا خليجاً في البحر إلى جزيرة فوقف على الخليج وقال: «يا عليّ يا عظيم يا حليم يا كريم» ثم قال: «أجيزوا بسم الله» فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا فأصبنا العدوّ عليه
فقتلنا وأسرنا(2/390)
وسبينا ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته فأجزنا وما بل الماء حوافر دوابنا والأخبار في ذلك كثيرة.
ولما قال فتاه ذلك كأنه قيل فما قال موسى عليه السلام حينئذٍ؟ {قال} له {ذلك} أي: الأمر العظيم من فقد الحوت {ما كنا نبغ} أي: نريد من هذا الأمر المغيب عنا فإن الله تعالى جعله موعداً في لقاء الخضر، وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء وصلا لا وقفاً وابن كثير يثبتها وصلاً ووقفاً والباقون بالحذف {فارتدّا على آثارهما} أي: فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه يقصانها {قصصاً} أي: يتبعان أثرهما إتباعاً أو مقتصين حتى يأتيا الصخرة، قال البقاعي: يدل على أنّ الأرض كانت رملاً لا علم فيها فالظاهر والله أعلم أنه مجمع النيل والملح عند دمياط أو رشيد من بلاد مصر ويؤيده نقر العصفور في البحر الذي ركب في سفينته للتعدية كما في الحديث، فإن الطير لا يشرب من الملح ومن المشهور في بلاد رشيد أنّ الأمر كان عندهم وأن عندهم سمكاً ذاهب الشق يقولون: إنه من نسل تلك السمكة والله أعلم انتهى. وتقدم عن قتادة أنه ملتقى بحر فارس والروم، وقال محمد بن كعب طنجة، وقال أبيّ بن كعب: إفريقية، وقيل: البحران موسى والخضر لأنهما كانا بحري علم، قال ابن عادل: وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين فإن صح في الخبر الصحيح شيء فذاك وإلا فالأولى السكوت عنه انتهى. ثم استمرا يقصان حتى انتهيا إلى موضع فقد الحوت {فوجدا عبداً من عبادنا} مضافاً إلى حضرة عظمتنا قيل: كان ملكاً من الملائكة والصحيح الذي جاء في التواريخ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الخضر واسمه بليا بن ملكان وكنيته أبو العباس، قيل: كان من بني إسرائيل وقيل: من أبناء الملوك الذين تنزهوا وتركوا الدنيا، والخضر لقب سمي بذلك لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء والفروة قطعة نبات مجتمعة يابسة، وقيل: سمي خضراً لأنه كان إذا صلى اخضرّ ما
حوله، روي أن
موسى عليه السلام رأى الخضر مسجى موكأ فسلم عليه فقال الخضر: وأني بأرضك السلام، قال: أنا موسى أتيتك تعلمني مما علمت رشداً، وفي رواية لقيه وهو مسجى بثوب مستلقياً على قفاه بعض الثوب تحت رأسه وبعضه تحت رجليه، وفي رواية لقيه وهو يصلي، ويروى لقيه وهو على طنفسة خضراء على كبد البحر، وروي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال: السلام عليك، فقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى: ما عرّفك هذا؟ فقال: الذي بعثك إليّ، وكان الخضر في أيام أفريدون وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى، وقيل: إن موسى سأل ربه أيّ عبادك أحب إليك؟ قال: «الذي يذكرني ولا ينساني» ، قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: «الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى» فقال: فأي عبادك أعلم؟ قال: «الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى» ، فقال: إن كان في عبادك أفضل مني فادللني عليه قال: أعلم منك الخضر، قال: أين أطلبه؟ قال: على ساحل عند الصخرة، قال كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك {آتيناه} بعظمتنا {رحمة من عندنا} أي: وحياً ونبوة وكونه نبياً هو قول الجمهور، وقيل: إنه ليس بنبي. قال البغوي: عند أهل العلم أي: فعندهم أنه وليّ {وعلمناه من لدنا} أي: مما لم يجر على قوانين العادات على أنه ليس بمستغرب عند أهل(2/391)
الاصطفاء {علماً} قذفناه في قلبه بغير واسطة، وأهل التصوّف سموا العلم بطريق المكاشفة العلم اللدني فإذا سعى العبد في الرياضات بتزين الظاهر بالعبادات وتخلي النفس عن العلائق وعن الأخلاق الرذيلة بتحليتها بالأخلاق الجميلة صارت القوى الحسية والخيالية ضعيفة فإذا ضعفت قويت القوى العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية في جوهرة العقل وحصلت المعارف وكملت العلوم من غير واسطة سعي وطلب في التفكر والتأمّل وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية، ثم أورد سبحانه وتعالى القصة على
طريق الاستئناف على تقدير
سؤال سائل عن كل كلام يرشد إليه ما قبله وذلك أنه من المعلوم أنّ الطالب للشخص إذا لقيه كمله لكن لا يعرف عين ذلك الكلام فقال: لمن؟ كأنه سأل عن ذلك
{قال له موسى} طالباً منه على سبيل التأدّب والتلطف بإظهار ذلك في قالب الاستئذان {هل أتبعك} أي: اتباعاً بليغاً حيث توجهت والاتباع الإتيان بمثل فعل الغير لمجرّد كونه آتياً به وبين أنه لا يطلب منه غير العلم بقوله: {على أن تعلمني} أثبت الياء نافع وأبو عمرو وصلاً لا وقفاً وابن كثير وصلاً ووقفاً والباقون بالحذف وزاد في التعطف بالإشارة إلى أنه لا يطلب جميع ما عنده ليطول عليه الزمان بل جوامع منه يسترشد بها إلى باقيه فقال: {مما علمت} وبناه للمفعول لعلم المتخاطبين لكونهما من المخلصين بأن الفاعل هو الله تعالى وللإشارة إلى سهولة كل أمر إلى الله تعالى {رشداً} أي: علماً يرشدني إلى الصواب فيما أقصده، وقرأ أبو عمرو بفتح الراء والشين والباقون بضم الراء وسكون الشين.
ولما أتم موسى عليه السلام العبارة عن السؤال.
{قال} له الخضر عليه السلام {إنك} يا موسى {لن تستطيع معي صبراً} نفى عنه استطاعة الصبر معه على وجوه من التأكيد كأنها لا تصح ولا تستقيم وفتح الياء من معي صبراً في المواضع الثلاثة هنا حفص وسكنها الباقون ثم علل عدم الصبر معه واعتذر عنه بقوله:
{وكيف تصبر} يا موسى {على ما لم تحط به خبراً} أي: وكيف تصبر على أمور وأنت نبيّ ظاهرها مناكير والرجل الصالح لا يتمالك أن يصبر إذا رأى ذلك بل يبادر ويأخذ في الإنكار وخبراً مصدر لمعنى لم تحط به أي: لم تخبر حقيقته.
{قال} له موسى عليه السلام آتياً بنهاية التواضع لمن هو أعلم منه إرشاداً لما ينبغي في طلب العلم رجاء تسهيل الله تعالى له النفع به {ستجدني} فأكد الوعد بالسين ثم أخبر تعالى أنه قوّي تأكيده بالتبرك بذكر الله تعالى لعلمه بصعوبة الأمر على الوجه الذي تقدّم الحق عليه في هذه السورة في قوله تعالى ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله ليعلم أنه منهاج الأنبياء فقال: {إن شاء الله} أي: الذي له صفات الكمال {صابراً} على ما يجوز الصبر عليه ثم زاد التأكيد بقوله: عطفاً بالواو على صابراً لبيان التمكن في كل من الموضعين {ولا أعصي} أي: وغير عاص {لك أمراً} تأمرني به غير مخالف لظاهر أمر الله تعالى.
تنبيه: دلت هذه الآية الكريمة على أنّ موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر، منها أنه جعل نفسه تبعاً له بقوله: هل أتبعك ومنها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية كأنه قال: هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك؟ وهذه مبالغة عظيمة في التواضع، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم «على أن تعلمني» وهذا اقرار منه على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم، ومنها قوله:(2/392)
{مما علمت} وصيغة من للتبعيض وطلب منه تعليم بعض ما علم، وهذا أيضاً اقرار بالتواضع كأنه يقول: لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً لك في العلم بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من أجزاء ما علمت، ومنها أن قوله: مما علمت اعتراف منه بأن الله تعالى علمه ذلك العلم، ومنها قوله: {رشداً} طلب منه الإرشاد والهداية، ومنها قوله: {ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً} ، ومنها أنه ثبت بالأخبار أن الخضر عرف أولاً أن موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه الله من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع، وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أبواب المبالغة في التواضع وذلك يدل على أن هذا هو اللائق به، لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم التي علم ما فيها من البهجة والسعادة أكثر كان طلبه لها أشدّ، فكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأرشد، وكل ذلك يدل على أنّ الواجب على المتعلم إظهار التواضع بكل الغايات، وأمّا المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيد نفعاً وإرشاداً إلى الخير فالواجب عليه ذكره فإنّ السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور وذلك يمنعه من التعلم. وروي أن موسى عليه السلام لما قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً؟ قال له الخضر: كفى بالتوراة علماً وببني إسرائيل شغلاً، فقال له موسى: الله أمرني بهذا
{قال} له الخضر: {فإن اتبعتني} أي: صحبتني ولم يقل اتبعني ولكن جعل الاختيار إليه إلا أنه شرط عليه شرطاً فقال: {فلا تسألني عن شيء} أقوله أو أفعله {حتى أحدث لك} خاصة {منه ذكراً} أي: حتى أبدأك بوجه صوابه فإني لا أقدم على شيء إلا وهو صواب جائز في نفس الأمر، وإن كان ظاهره غير ذلك فقبل موسى شرطه رعاية لأدب المتعلم من العالم، ولما تشارطا وتراضيا على الشرط تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فانطلقا} أي: موسى والخضر عليهما السلام على الساحل فانتهيا إلى موضع احتاجا فيه إلى ركوب السفينة فما زالا يطلبان سفينة يركبان فيها واستمرّا {حتى إذا ركبا في السفينة} التي مرت بهما وأجاب الشرط بقوله: {خرقها} أي: أخذ الخضر فأساً فخرق السفينة بأن قلع لوحاً أو لوحين من ألواحها من جهة البحر لما بلغت اللجة ولم يقترن خرق بالفاء لأنه لم يكن مسبباً عن الركوب، ثم استأنف قوله: {قال} أي: موسى عليه السلام منكراً لذلك لما في ظاهره من الفساد بإتلاف المال المفضي إلى فساد أكبر منه بإهلاك النفوس ناسياً لما عقد على نفسه على أنه لو لم ينسَ لم يترك الإنكار كما فعل عند قتل الغلام لأن مثل ذلك غير داخل في الوعد، لأنّ المستثنى شرعاً كالمستثنى وضعاً {أخرقتها} وبين عذره في الإنكار لما في غاية الخرق من الفظاعة فقال: {لتغرق أهلها} فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية مفتوحة وفتح الراء ورفع اللام من أهلها والباقون بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الراء ونصب لام أهلها، ثم قال له موسى: والله {لقد جئت شيئاً أمراً} أي: عظيماً منكراً.
{قال} الخضر: {ألم أقل إنك} يا موسى {لن تستطيع معي صبراً} فذكره بما قال له عند الشرط.
{قال} موسى: {لا تؤاخذني} يا خضر {بما نسيت} أي: غفلت عن التسليم لك وترك الإنكار عليك، قال ابن(2/393)
عباس: إنه لم ينس ولكنه من معاريض الكلام أي: وهي التورية بالشيء عن الشيء، وفي المثل: إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب، أي: سعة فكأنه نسي شيئاً آخر وقيل معناه بما تركت من عهدك والنسيان الترك. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كانت الأولى من موسى نسياناً والوسطى شرطاً والثالثة عمداً» {ولا ترهقني من أمري عسراً} أي: لا تكلفني مشقة يقال: أرهقه عسراً وأرهقته عسراً أي: كلفته ذلك، يقول: لا تضيق علي أمري ولا تعسر متابعتك علي ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة وعاملني باليسر ولا تعاملني بالعسر، وعسراً مفعول ثان لترهقني من أرهقه كذا إذا حمله إياه وغشاه به وما في بما نسيت مصدرية أو بمعنى الذي والعائد محذوف. وروي أن الخضر لما خرق السفينة لم يدخلها الماء، وروي أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فحشا به الخرق، وروي أن الخضر أخذ قدحاً من زجاج ورقع به خرق السفينة فإن قيل: قول موسى عليه السلام أخرقتها لتغرق أهلها إن كان صادقاً في هذا دل ذلك على صدور ذنب عظيم من الخضر إن كان نبياً، وإن كان كاذباً دل ذلك على صدور الذنب من موسى وأيضاً فقد التزم موسى أن لا يعترض عليه وجرت العهود المذكورة بذلك ثم إنه خالف تلك العهود وذلك ذنب أجيب: بأن كلاً منهما صادق فيما قال موف بحسب ما عنده، أما موسى عليه السلام فإنه ما خطر له قط أن يعاهد على أن لا ينهى بما يعتقده منكراً، وأما الخضر فإنه عقد على ما في نفس الأمر أنه لا يقدم على منكر.
{فانطلقا} بعد نزولهما من السفينة وسلامتهما من الغرق والعطب {حتى إذا لقيا غلاماً} قال ابن عباس: لم يبلغ الحنث {فقتله} حين لقيه كما دلت عليه الفاء العاطفة على الشرط، قال البغوي في القصة: إنهما خرجامن البحر يمشيان فمرّ بغلمان يلعبون فأخذ غلاماً ظريفاً وضيء الوجه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين، قال السدي: كان أحسنهم وجهاً كان وجهه يتوقد حسناً، قال البقوي: وروينا أنه أخذ رأسه فاقتلعه بيده، وروى عبد الرزاق هذا الخبر وأشار بيده بأصابعه الثلاثة الإبهام والسبابة والوسطى وقلع رأسه، وروي أنه رضخ رأسه بالحجارة، وقيل: ضرب رأسه بالجدار فقتله وكونه لم يبلغ الحنث هو قول الأكثرين.
وقال الحسن: كان رجلاً، قال شعيب الحياني: وكان اسمه جيسور، وقال الكلبي: كان فتى يقطع الطريق ويأخذ المتاع ويلتجئ إلى أبويه، وقال الضحاك: كان غلاماً يعمل بالفساد ويتأذى منه أبواه، وعن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً» . قال الرازي: وليس في القرآن كيف لقياه، هل كان يلعب مع جمع من الغلمان أو كان منفرداً؟ وهل كان مسلماً أوكافراً؟ وهل كان بالغاً أو صغيراً؟ وكان اسم الغلام بالصغير أليق وإن احتمل الكبير إلا أن قوله بغير نفس أليق بالبالغ منه بالصبيّ لأن الصبي لا يقتل وإن قتل، قال البقاعي: إلا أن يكون شرعهم لا يشترط البلوغ، وقال ابن عباس: ولم يكن نبي الله يقول: أقتلت نفساً زاكية بغير نفس إلا وهو صبيّ، قال الرازي أيضاً: وكيفية قتله هل قتله بأن حزّ رأسه أو بأن ضرب رأسه بالجدار أو بطريق آخر فليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقسام انتهى. ثم أجاب الشرط بقوله مشعراً بأن شروعه في الإنكار في هذه أسرع(2/394)
{قال} موسى: {أقتلت} يا خضر {نفساً زاكية بغير نفس} قتلتها ليكون قتلها لها قوداً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بألف بعد الزاي وتخفيف الياء التحتية والباقون بغير ألف بعد الزاي وتشديد التحتية، قال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان ومعنى هذه الطهارة، وقال أبو عمرو: الزاكية التي لم تذنب والزكية التي اذنبت ثم تابت ثم استأنف قوله: {لقد} أظهر الدال نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم وأدغمها الباقون {جئت} في قتلك إياها {شيئاً} وصرح بالإنكار في قوله: {نكراً} لأن مباشرة الخرق سبب، ولهذا قال بعضهم: النكر أعظم من الأمر في القبح لأن قتل الغلام أعظم من خرق السفينة لأنه يمكن أن لا يحصل الغرق، وأمّا هنا فقد حصل الإتلاف قطعاً، والنكر ما أنكرته العقول ونفرت منه النفوس فهو أبلغ في القبح من الأمر، وقيل: الأمر أعظم لأن خرق
السفينة يؤدي إلى إتلاف نفوس كثيرة وهذا القتل ليس إلا إتلاف شخص واحد، وقرأ نافع وابن ذكوان وشعبة برفع الكاف والباقون بكسونها.
ولما كانت هذه ثانية.
{قال} له الخضر: {ألم أقل لك إنك} يا موسى {لن تستطيع معي صبراً} وهذا عين ما ذكره في المسألة الأولى إلا أنه هنا زاد لفظه لك {فإن قيل} لم زادها هنا؟ أجيب: بأنه زادها مكافحة بالعقاب على رفض الوصية ووسماً بقلة الصبر والثبات لما تكرر منه الاشمئزاز والاستكبار ولم يرعو بالتذكير أول مرّة، قال ابن الأثير: المكافحة المدافعة والمضاربة والاشمئزاز من اشمأز الرجل أي: انقبض قلبه، قال البغوي: وفي القصة أن يوشع كان يقول لموسى يا نبيّ الله اذكر العهد الذي أنت عليه
{قال} موسى حياءً منه لما أفاق بتذكيره ما حصل من فرط الوجد لأمر الله تعالى فذكر أنه ما تبعه إلا بأمر الله تعالى {إن سألتك عن شيء بعدها} أي: بعد هذه المرّة وأعلم بشدّة ندمه على الإنكار بقوله: {فلا تصاحبني} أي: لا تتركني أتبعك بل فارقني ثم علل ذلك بقوله: {قد بلغت} وأشار إلى أن ما وقع منه من الإخلال بالشرط من أعظم الخوارق التي اضطر إليها فقال: {من لدني} أي: من قبلي {عذراً} باعتراضي مرّتين واحتمالك لي فيهما، وقد أخبر الله بحسن حالك في غزارة عملك فمدحه بهذه الطريقة من حيث أنه احتمله مرّتين أوّلاً وثانياً مع قرب المدّة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك، ولو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب» وعن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحمة الله علينا وعلى موسى ـ وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء بدأ بنفسه ـ لولا أن عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة أي: حياء واشفاق، فقال: إن سألتك إلى آخره» ، وقرأ نافع بضم الدال وتخفيف النون، وقرأ شعبة كذلك إلا أنه يشم الدال فتصير ساكنة قريبة من الضم والباقون بضم الدال وتشديد النون.
{فانطلقا} أي: موسى والخضر يمشيان لينظر الخضر أمراً ينفذ فيه ما عنده من علمه وورش يغلظ اللام في لفظ انطلقا على أصله بعد قتل الغلام {حتى إذا أتيا أهل قرية} ، قال ابن عباس: هي انطاكية، وقال ابن سيرين: هي الأيلة وهي أبعد أرض الله من السماء وعبر عنها بالقرية دون المدينة لأنه أدل على الذمّ، وقيل: برقة، وعن أبي هريرة بلدة بالأندلس {استطعما أهلها} أي: طلبا من أهل القرية أن يطعموهما، وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على(2/395)
مجالس أولئك القوم يستطعمانهم {فأبوا أن يضيفوهما} أي: أن ينزلوهما ويطعموهما يقال ضافه إذا كان له ضيفاً وحقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض وضيفه وأضافه أنزله وجعله ضيفاً فإن قيل: الاستطعام ليس من عادة الكرام وكيف قدم عليه موسى والخضر وقد حكى الله تعالى عن موسى أنه قال عند ورود ماء مدين ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير؟ أجيب: بأن إقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند الخوف من الضرر الشديد فإن قيل: لم قال: حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها ولم يقل استطعماهم؟ أجيب: بأن التكرير قد يكون للتأكيد كقول الشاعر:
*ليت الغراب غداة يبعث دائباً
... كان الغراب مقطع الأوداج»
وعن قتادة شر القرى التي لا تضيف الضيف.
فائدة: قال الرازي: وفي كتب الحكايات أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل من الذهب وقالوا: يا رسول الله جئناك بهذا الذهب لتجعل الباء تاء حتى تصير القراءة هكذا فأتوا أن يضيفوهما أي: أتيناهم لأجل الضيافة حتى يندفع عنا هذا اللوم فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «تغيير هذه النقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله تعالى وذلك يوجب القدح في الإلهية» فعلمنا أن تغيير النقطة الواحدة من القرآن يوجب بطلان الربوبية والعبودية. ولما أبوا أن يضيفوهما انصرفا {فوجدا فيها} أي: القرية ولم يقل فيهم إيذاناً بأن المراد وصف القرية بسوء الطبع {جداراً} أي: حائطاً مائلاً مشرفاً على السقوط ولذا قال: مستعيراً لما لم يعقل صفة من يعقل {يريد أن ينقص} أي: يسقط وهذا من مجاز كلام العرب لأنّ الجدار لا إرادة له وإنما معناه قرب ودنا من السقوط كما تقول العرب داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها فاستعير الإرادة للمشارفة كما استعير لها الهم والعزم في قوله:
*يريد الرمح صدر أبي براء
... ويعدل عن دماء بني عقيل»
وقول الآخر:
*إنّ دهراً يلف صدري بجمل
... لزمان يهم بالإحسان»
ففي البيت الأوّل دليل على استعارة الإرادة للمشارفة، وفي الثاني دليل على استعارة الهم لها وجمل اسم محبوبته يقول: إن دهراً يجمع بيني وبينها زمان قصده الإحسان لا الإساءة ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى: {ولما سكت عن موسى الغضب} (الأعراف، 154)
وقوله تعالى: {أن يقول له كن فيكون} (يس، 82)
وقوله تعالى: {قالتا أتينا طائعين} (فصلت، 11) ، قال الزمخشري ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله تعالى ممن لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر، وقيل: إن الله تعالى خلق للجدار حياة وإرادة كالحيوان {فأقامه} أي: سواه، وفي حديث أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم «فقال الخضر بيده فأقامه» ، وقال ابن عباس: هدمه وقعد يبنيه، وقال سعيد بن جبير: مسح الجدار بيده فاستقام وذلك من معجزاته، وقال السدي: بلّ طيناً وجعل يبني الحائط فشق ذلك على موسى عليه السلام فإن قيل: الضيافة من المندوبات فتركها ترك مندوب وذلك غير منكر فكيف يجوز من موسى عليه السلام مع علو منصبه أنه غضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه في(2/396)
قوله: {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} وأيضاً مثل الغضب لأجل ترك الأكل في ليلة واحدة لا يليق بأدون الناس فضلاً عن كليم الله تعالى أجيب: بأن تلك الحالة كانت حالة افتقار واضطرار إلى الطعام فلأجل تلك الضرورة نسي موسى عليه السلام ما قاله فلا جرم {قال} موسى: {لو شئت لاتخذت عليه أجراً} أي: لطلبت على عملك أجرة تصرفها في تحصيل المطعوم وتحصيل سائر المهمات، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف التاء بعد اللام وكسر الخاء، وأظهر ابن كثير الذال عند التاء على أصلها، وأدغمها أبو عمرو والباقون بتشديد التاء وفتح الخاء، وأظهر حفص الذال على أصله وأدغمها الباقون.
ولما كان كلام موسى هذا متضمناً للسؤال.
{قال} له الخضر: {هذا} أي: هذا الإنكار على ترك الأجر {فراق بيني وبينك} وقيل: إن موسى عليه السلام لما شرط أنه إن سأله بعد ذلك سؤالاً آخر حصل به الفراق حيث قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني، فلما ذكر هذا السؤال فارقه وهذا فراق بيني وبينك أي: هذا الفراق المعهود الموعود فإن قيل: كيف ساغ إضافة بين إلى غير متعدّد؟ أجيب: بأنّ مسوّغ ذلك تكريره بالعطف بالواو، ألا ترى أنك لو اقتصرت على قولك المال بيني لم يكن كلاماً حتى تقول: بيننا أو بيني وبين فلان ثم قال له الخضر: {سأنبئك} أي: سأخبرك يا موسى قبل فراقي لك {بتأويل} أي: بتفسير {ما لم تستطع عليه صبراً} لأن هذه المسائل الثلاثة مشتركة في شيء واحد وهو أن أحكام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مبنية على الظواهر كما قال صلى الله عليه وسلم «نحن نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر» والخضر ما كانت أموره وأحكامه مبنية على ظواهر الأمور بل كانت مبنية على الأسباب الخفية الواقعة في نفس الأمر، وذلك لأن الظاهر في أموال الناس وفي أرواحهم أنه يحرم التصرّف فيها، والخضر تصرف في أموال الناس وفي أرواحهم في المسألة الأولى وفي الثانية من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف لأن الإقدام على خرق السفينة وقتل الإنسان من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف محرّم، والإقدام على إقامة ذلك الجدار المائل في المسألة الثالثة تحمل للتعب والمشقة من غير سبب ظاهر، ثم أخذ الخضر في تأويل ذلك مبتدئاً بالمسألة الأولى بقوله:
{أما السفينة} أي: التي أحسن إلينا أهلها فخرقتها {فكانت لمساكين} عشرة إخوة خمسة زمني وخمسة {يعملون في البحر} أي: يؤاجرون ويكتسبون، واحتج الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على أن حال الفقير أشدّ في الحاجة والضرر من حال المسكين لأن الله تعالى سماهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة {فأردت أن أعيبها} أي: أن أجعلها ذات عيب بأن تفوت منفعتها بذلك ساعة من نهار وتكلف أهلها لوحاً أو لوحين يسدونها بذلك أخف عليهم من أن تفوتهم منفعتها بالكلية كما يعلم من قوله: {وكان وراءهم} أي: أمامهم كقوله تعالى: {ومن ورائهم برزخ} (المؤمنين، 100)
وقيل خلفهم، وكان طريقهم في رجوعهم عليه {ملك} كان كافراً واسمه الجلندي، وقال محمد بن إسحاق اسمه سولة بن خليد الأزدي، وقيل: اسمه هدد بن بدد {يأخذ كل سفينة} أي: صالحة وحذف التقييد بذلك للعلم به {غصباً} من أصحابها ولم يكن عند أصحابها علم به فإذا مرّت به تركها لعيبها فإذا جاوزته أصلحوها فانتفعوا بها قيل: سدوها بقارورة وقيل: بالفار فإن قيل: قوله:(2/397)
فأردت أن أعيبها مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب فلم قدّم عليه؟ أجيب: بأن النية به التأخير وإنما قدم للعناية ولأنّ خوف الغصب ليس هو السبب وحده ولكن مع كونها للمساكين، فلما كان كل من الغصب والمسكنة سبب الفعل قدمها على الغصب إشارة إلى أن أقوى السببين الحاملين على فعله الرأفة بالمساكين. ثم شرع في تأويل المسألة الثانية بقوله:
{وأمّا الغلام} الذي قتلته {فكان أبواه مؤمنين} التثنية للتغليب يريد أباه وأمه فغلب المذكر وهو شائع ومثله العمران، قيل: إن ذلك الغلام كان بالغاً وكان يقطع الطريق ويقدم على الأفعال المنكرة، وكان أبواه يحتاجان إلى دفع شر الناس عنه والتعصب له وتكذيب من يرميه بشيء من المنكرات وكان يصير سبباً لوقوعهما في الفسق وربما قاد ذلك الفسق إلى الكفر، وقيل: إنه كان صبياً إلا أنه علم منه أنه لو صار بالغاً لحصلت فيه هذه المفاسد، وفي الحديث أنه طبع كافراً ولو عاش لأرهقهما ذلك كما قال {فخشينا} أي: خفنا، والخشية خوف يشوبه تعظيم {أن يرهقهما} أي: يغشيهما ويلحقهما {طغياناً وكفراً} أي: لمحبتهما له يتبعانه في ذلك فإن قيل: هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان بمثل ذلك؟ أجيب: بأنه إذا تأكد ذلك بوحي من الله تعالى جاز، وعن ابن عباس أن نجدة الحروري كتب إليه كيف قتله أي: كيف قتل الخضر الغلام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان فكتب إليه: «إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل» .
رواه بمعناه مسلم. ولما ذكر ما يلزم على تقدير بقائه من الفساد تسبب عنه قوله:
{فأردنا} أي: بقتله وإراحتهما من شره {أن يبدلهما ربهما} أي: المحسن إليهما بإعطائه وأخذه، قال مطرف: فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرض كل امرىء بقضاء الله تعالى فإن قضاء الله تعالى للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب ولهذا أبدلهما الله تعالى {خيراً منه زكاة} أي: طهارة وبركة من الذنوب والأخلاق الرديئة وصلاحاً وتقوى {وأقرب رحماً} أي: رحمة وعطفاً عليهما، وقيل: هو من الرحم والقرابة، قال قتادة: أي: أوصل للرحم وأبرّ للوالدين، قال الكلبي: أبدلهما الله تعالى جارية فتزوجها نبيّ من الأنبياء فولدت له نبياً فهدى الله تعالى على يديه أمّة من الأمم، وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: أبدلهما الله تعالى جارية ولدت سبعين نبياً، وقال ابن جريج: أبدلهما بغلام مسلم، وقرأ نافع وأبو عمرو أن يبدّلهما بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال والباقون بسكون الموحدة وتخفيف الدال، وقرأ ابن عامر رحماً برفع الحاء والباقون بالسكون.
ثم شرع في تأويل المسألة الثالثة بقوله:
{وأما الجدار} أي: الذي أشرت بأخذ الأجر عليه {فكان لغلامين} ودل على كونهما دون البلوغ بقوله: {يتيمين} وكان اسم أحدهما أصرم والآخر صريماً. ولما كانت القرية لا تنافي التسمية بالمدينة وكان التعبير بالقرية أولاً أليق عبر بها لأنها مشتقة من معنى الجمع فكان أليق بالذم في ترك الضيافة، ولما كانت المدينة بمعنى محل الإقامة عبر بها فقال: {في المدينة} فكان التعبير بها أليق للإشارة به إلى أن الناس يعملون فيها فينهدم الجدار وهم مقيمون فيأخذون الكنز كما قال، {وكان تحته كنز لهما} فلذلك أقمته احتساباً، واختلف في ذلك الكنز كما قال: {وكان تحته كنز لهما} فلذلك أقمته احتساباً واختلف في ذلك الكنز فعن أبي الدرداء أن(2/398)
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان ذهباً وفضة» رواه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه والذم على كنزهما في قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} (التوبة، 34)
لمن لا يؤدي زكاتهما وما يتعلق بهما من الحقوق، وعن سعيد بن جبير قال: كان الكنز صحفاً فيها علم رواه الحاكم وصححه، وعن ابن عباس قال: كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه عجباً لمن أيقن بالموت كيف يفرح عجباً لمن أيقن بالقدر كيف يغضب عجباً لمن أيقن بالرزق كيف يتعب عجباً لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجباً لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الجانب الآخر مكتوب أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل كل الويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه، قال البغوي: وهذا قول أكثر أهل التفسير وروي أيضاً ذلك مرفوعاً. قال الزجاج: الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال ويجوز عند التقييد أن يقال عنه كنز علم وهذا اللوح كان جامعاً لهما، وقوله: {وكان أبوهما صالحاً} فيه تنبيه على أن سعيه في ذلك كان لصلاحه فيراعى وتراعى ذريته، وكان سياحاً واسمه كاسح، قال ابن عباس: حفظا لصلاح أبيهما وقيل: كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء، قال محمد بن المنكدر: إن الله تعالى يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم، قال سعيد بن المسيب: إني أصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي، وعن الحسن أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما: بم حفظ الله الغلامين قال: بصلاح أبيهما، قال: فأبي وجدي خير منه، قال: قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون وذكروا أيضاً أن ذلك الأب الصالح كان من الذين تضع الناس الودائع عنده فيردها إليهم {فأراد ربك أن يبلغا} أي: الغلامان {أشدّهما} أي: الحلم وكمال الرأي {ويستخرجا كنزهما} لينتفعا به وينفعا الصالحين.
تنبيه: أسند الإرادة في قوله: فأردت أن أعيبها إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب، وثانياً في قوله: فأردنا إلى الله وإلى نفسه لأنّ التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله تعالى بدله، وثالثاً في قوله: فأراد ربك إلى الله وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين، أولأن الأول في نفسه شرّ والثالث خير والثاني ممتزج، أو لأنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه، ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهاً على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية، ولما ذكر رعاية مصالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى لأنّ التكفل بصلاح الأبناء لرعاية حق الآباء ليس إلا لله تعالى أو لاختلاف حال العارف في الالتفات إلى الوسايط فإن قيل: اليتيمان هل أحد منهما عرف حصول ذلك الكنز تحت ذلك الجدار أم لا فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار، وإن كان الثاني فكيف يمكنهم بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز ومعرفته والانتفاع به؟ وأجيب: لعلهما كانا جاهلين به إلا أن وصيهما كان عالماً به ثم إن ذلك الوصي غاب وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السقوط، ولما قرّر الخضر هذه الجوابات قال: رحمة من ربك أي: إنما فعلت هذه الأفعال لغرض أن تظهر رحمة الله لأنها بأسرها ترجع إلى حرف واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى كما تقرّر(2/399)
{وما فعلته} أي: شيئاً من ذلك {عن أمري} أي: عن اجتهادي ورأيي بل بأمر من له الأمر وهو الله تعالى.
تنبيه: احتج من ادعى نبوّة الخضر بأمور أحدها قوله تعالى: {آتيناه رحمة من عندنا} والرحمة هي النبوّة، قال تعالى: {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك} (القصص، 86)
والمراد من هذه الرحمة النبوة، قال الرازي: ولقائل أن يقول مسلم: إنّ النبوة رحمة ولكن لا يلزم أن تكون كل رحمة نبوة، الثاني: قوله تعالى: {وعلمناه من لدنا علماً} وهذا يقتضي أن الله تعالى علمه بلا واسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد وكل من علمه الله تعالى بلا واسطة البشر وجب أن يكون نبياً يعلم الأمور بالوحي من الله تعالى، قال الرازي: وهذا الاستدلال ضعيف لأنّ العلوم الضرورية تحصل ابتداء من الله وذلك لا يدل على النبوّة، الثالث: أن موسى عليه السلام قال: {هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت} والنبي لا يتبع غير نبي في التعلم؟ قال الرازي: وهذا أيضاً ضعيف لأن النبي لا يتبع غير نبي في العلوم التي باعتبارها صار نبياً أما غير تلك العلوم فلا، الرابع: أنه أظهر على موسى الترفع حيث قال: وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً، وأما موسى فإنه أظهر له التواضع حيث قال: ولا أعصي لك أمراً، وهذا يدل على أنه كان فوق موسى ومن لا يكون نبياً لا يكون فوق نبي. قال الرازي: وهذا أيضاً ضعيف لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها، الخامس: قوله وما فعلته عن أمري، وفي المعنى: أني فعلته بوحي من الله وهذا يدل على النبوة. قال الرازي: وهذا أيضاً ضعيف ظاهر الحجة، السادس: ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال: السلام عليك، قال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائىل، فقال موسى: من عرّفك هذا؟ قال: الذي بعثك إليّ، وهذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي والوحي لا يكون إلا مع النبوة، قال الرازي: ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات والإلهامات انتهى.
وبالجملة فالجمهور على أنه نبي كما مرّ واختلفوا هل هو حيّ أو ميت؟ فقيل: إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم، قال البغوي: وكان سبب حياته فيما يحكى أنه شرب من عين الحياة وذلك أن ذا القرنين دخل الظلمة ليطلب عين الحياة وكان الخضر على مقدّمته فوقع الخضر على العين فنزل فاغتسل وشرب وشكر الله تعالى وأخطأ ذو القرنين الطريق، وذهب آخرون إلى أنه ميت لقوله تعالى: {وما جعلنا البشر من قبلك الخلد} (الأنبياء، 34)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» ولو كان الخضر حياً لكان لا يعيش بعده. ولما بيّن لموسى سر تلك القضايا قال له {ذلك} أي: هذا التأويل العظيم {تأويل ما لم تسطع} يا موسى {عليه صبراً} وحذف تاء الاستطاعة هنا تخفيفاً فإنّ استطاع واسطاع بمعنى واحد.
تنبيه: من فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعمله ولا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه فلعل فيه سراً لا يعرفه وأن يداوم على التعلم ويتذلل للعلماء ويراعي الأحب في المقال، وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حين يتحقق إصراره ثم يهاجره، روي أن موسى لما أراد أن يفارق الخضر قال له: أوصني؟ قال: لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه للعمل به. ولما فرغ من هذه القصة التي حاصلها أنها طواف في الأرض لطلب العلم(2/400)
عقبها بقصة من طاف الأرض لطلب الجهاد وقدم الأول إشارة إلى علوّ درجة العلم لأنه أساس كل سعادة وقوام كل امرئ فقال عاطفاً على {ويجادل الذين كفروا بالباطل} (الكهف، 56)
{ويسألونك} أي: اليهود وقيل: مشركو مكة يا أشرف الخلق {عن ذي القرنين} وذكروا في سبب تسميته بذلك وجوهاً، الأول: قال أبو الطفيل سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين أكان نبياً أم ملكاً؟ قال: لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان عبداً صالحاً أمر قومه بتقوى الله تعالى فضربوه على قرنه الأيمن فمات، ثم بعثه الله تعالى فأمرهم بتقوى الله تعالى فضربوه على قرنه الأيسر فمات، ثم بعثه الله تعالى فسمي ذا القرنين، فيكم مثله يعني نفسه، الثاني: أنه انقرض في وقته قرنان من الناس، الثالث: أنه كان صفحتا رأسه من نحاس، الرابع: كان على رأسه ما يشبه القرنين، الخامس: كان لتاجه قرنان، السادس: أنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها، السابع: كان له قرنان أي: ضفيرتان، الثامن: أنّ الله تعالى سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهدي النور من أمامه وتمتدّ الظلمة من ورائه، التاسع: أنه لقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً لأنه ينطح أقرانه، العاشر: أنه رأى في المنام كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس وقرنيها أي: جانبيها فسمي بذلك لهذا السبب، الحادي عشر: أنه كان له قرنان تواريهما العمامة، الثاني عشر: أنه دخل النور والظلمة، وذكروا في اسمه أيضاً وجوهاً الأول: اسمه مرزبان اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح، الثاني: اسمه اسكندر بن فيلفوس الرومي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه أقصى المشرق والمغرب وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر وبنى الاسكندرية وسماها باسم نفسه، الثالث: شمر بن عمر بن أفريقيس الحميري وهو الذي بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وافتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال:
*قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً
... ملكاً علا في الأرض غير مفند
*بلغ المشارق والمغارب يبتغي
... أسباب ملك من كريم سيد
واختلفوا في نبوّته مع الاتفاق على إيمانه فقال بعضهم: كان نبياً واحتجوا على ذلك بوجوه، الأول: قوله تعالى:
{إنا مكنا له في الأرض} وحمل على التمكين في الدنيا والتمكين الكامل في الدين هو النبوّة، الثاني: قوله تعالى: {وآتيناه من كل شيء سبباً} وهذا يدل على أنه تعالى آتاه من النبوّة سبباً، الثالث: قوله تعالى: {يا ذا القرنين إما أن تعذب} الخ والذي يتكلم الله معه لا بد أن يكون نبياً ومنهم من قال: إنه كان عبداً صالحاً ملكه الله تعالى الأرض وأعطاه الله سبحانه وتعالى الملك والحكمة وألبسه الهيبة وقد قالوا: ملك الأرض مؤمنان ذوالقرنين وسليمان وكافران نمروذ وبختنصر ومنهم من قال: إنه كان ملكاً من الملائكة، عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلاً يقول: يا ذا القرنين فقال: اللهم غفراً أما رضيتم أن تتسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة، والأكثر على القول الثاني، ويدل له قول عليّ رضي الله تعالى عنه المتقدم.
تنبيه: قد قدّمنا أنّ اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وعن الروح، والمراد من قوله تعالى: {ويسألونك عن ذي القرنين}(2/401)
هو ذلك السؤال، ثم قال الله تعالى: {قل} أي: لهؤلاء المتعنتين {سأتلو} أي: أقص قصاً متتابعاً في مستقبل الزمان أعلمني الله تعالى به {عليكم} أي: أيها البعداء، والضمير في قوله تعالى: {منه} لذي القرنين وقيل لله تعالى {ذكراً} أي: خبراً كافياً لكم في تعرّف أمره جامعاً لمجامع ذكره
{إنا مكنا له في الأرض} أي: مكنا له أمره من التصرّف فيها مكنة يصل بها إلى جميع مسالكها ويظهر بها على سائر ملوكها {وآتيناه} بعظمتنا {من كل شيء} يحتاج إليه في ذلك {سبباً} أي: وصله توصله إليه من العلم والقدرة والآلة
{فأتبع سبباً} أي: سلك طريقاً نحو المغرب قال البقاعي: ولعله بدأ به لأن باب التوبة فيه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر واتبع في المواضع الثلاثة بتشديد التاء الفوقية ووصل الهمزة قبل الفوقية والباقون بقطع الهمزة وسكون التاء الفوقية واستمرّ متبعاً له
{حتى إذا بلغ} في ذلك السير {مغرب الشمس} أي: موضع غروبها {وجدها تغرب في عين حمئة} أي: ذات حمأة وهي الطين الأسود أي: بلغ موضعاً في الغرب لم يبق بعده شيء من العمران وجد الشمس كأنها تغرب في وهدة مظلمة وغروبها في رأي العين كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغرب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر وإلا فهي أكبر من الأرض مرّات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض، قال البيضاوي: ولعله بلغ ساحل المحيط فرأى ذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء ولذلك قال: وجدها تغرب ولم يقل كانت تغرب، وقرأ شعبة وحمزة والكسائي وابن عامر بألف بعد الحاء وياء مفتوحة بعد الميم. عن أبي درّ قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال: أتدري يا أبا ذرّ أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تغرب في عين حمئة، وقرأ الباقون بغير ألف بعد الحاء وبعد الميم همزة مفتوحة، واتفق أن ابن عباس كان عند معاوية فقرأ معاوية حامية فقال ابن عباس: حمئة فقال معاوية لعبد الله بن عمر: كيف تقرأ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار وسأله كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء وطين كذلك نجده في التوراة {ووجد عندها} أي: عند تلك العين على الساحل المتصل بها {قوماً} أي: أمة، قال ابن جريج: مدينة لها اثنا عشر ألف باب لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجب أي: تغرب، قيل: كان لباسهم جلود الوحش وطعامهم ما يلفظه البحر كانوا كفاراً فخيره الله تعالى بين أن يعذبهم أو يدعوهم إلى الإيمان كما حكى ذلك بقوله تعالى: {قلنا يا ذا
القرنين} إما بوّاسطة الملك إن كان نبياً أو بواسطة نبي زمانه إن لم يكن أو باجتهاد في شريعته {إمّا أن تعذب} بالقتل على كفرهم {وإمّا أن تتخذ} أي: بغاية جهدك {فيهم حسناً} بالإرشاد وتعليم الشرائع، وقيل: خيره بين القتل والأسر وسماه حسناً في مقابلة القتل ويؤيد الأوّل قوله {قال أمّا من ظلم} باستمراره على الكفر فإنا نرفق به حتى نيأس منه ثم نقتله وإلى ذلك أشار بقوله: {فسوف نعذبه} بوعد لا خلف فيه بعد طول الدعاء والترفق، وقال قتادة كان يطبخ من كفر في القدور وهو العذاب المنكر {ثم يردّ إلى ربه} في الآخرة {فيعذبه عذاباً نكراً} أي: شديداً جداً في النار وتقدّم في نكراً سكون الكاف وضمها
{وأما من آمن وعمل صالحاً} تصديقاً لما أخبر به من تصديقه(2/402)
{فله} في الدارين {جزاء الحسنى} أي: الجنة، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بفتح الهمزة بعد الزاي منوّنة وتكسر في الوصل لالتقاء الساكنين، قال الفراء: نصبه على التفسير أي: لجهة النسبة، وقيل: منصوب على الحال أي: فله المثوبة الحسنى مجزياً بها، والباقون بضم الهمزة من غير تنوين فالإضافة للبيان، قال المفسرون: والمعنى على قراءة النصب فله الحسنى جزاء كما تقول له هذا الثوب هبة، وعلى قراءة الرفع وجهان، الأول: فله جزاء الفعلة الحسنى والفعلة الحسنى هي الإيمان والعمل الصالح، والثاني: فله جزاء المثوبة الحسنى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله: ولدار الآخرة، وأمال ألف الحسنى حمزة والكسائي محضة وأبو عمرو بين بين وورش بالفتح والإمالة بين بين {وسنقول} بوعد لا خلف فيه بعد اختباره بالأعمال الصالحة {له} أي: لأجله {من أمرنا} أي: ما نأمره به {يسراً} أي: قولاً غير شاق من الصلاة والزكاة والخراج والجهاد وغيرها وهو ما يطيقة ولا يشق عليه مشقة كثيرة
{ثم أتبع} لإرادة طلوع مشرق الشمس {سبباً} من جهة الجنوب يوصله إلى المشرق واستمر فيه لا يمل ولا تغلبه أمة مرّ عليها
{حتى إذا بلغ} في مسيره ذلك {مطلع الشمس} أي: الموضع الذي تطلع عليه أولاً من المعمور من الأرض {وجدها تطلع على قوم} ، قال الجلال المحلى: هم الزنج وقوله تعالى: {لم نجعل لهم من دونها} أي: الشمس {ستراً} فيه قولان، الأول: أنه لا شيء لهم من سقف ولا جبل يمنع من وقوع شعاع الشمس عليهم لأن أرضهم لا تحمل بنياناً، قال الرازي: ولهم سروب يغيبون فيها عند طلوع الشمس ويظهرون عند غروبها فيكونون عند طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرّف في المعاش وعند غروبها يشتغلون بتحصيل مهمات المعاش وأحوالهم بالضدّ من أحوال سائر الخلق، وقال قتادة: يكونون في أسراب لهم حتى إذا زالت الشمس عنهم خرجوا فرعوا كالبهائم، والثاني: أن معناه لا ثياب لهم ويكونون كسائر الحيوانات عراة أبداً وفي كتب الهيئة أن أكثر حال الزنج كذلك وحال كل من سكن البلاد القريبة من خط الاستواء، كذلك قال الكلبي: هم عراة يفرش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، وقال الزمخشري وعن بعضهم قال: خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء القوم فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم وإذا أحدهم يفرش إحدى أذنيه ويلبس الأخرى، فلما قرب طلوع الشمس سمعت صوتاً كهيئة الصلصلة فغشى عليّ ثم أفقت فلما طلعت الشمس فإذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلوني سربالهم فلما ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم، وعن مجاهد من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض وقوله تعالى:
{كذلك} فيه وجوه؛ الأول: أن معناه كما بلغ مغرب الشمس كذلك بلغ مطلعها، الثاني: أن أمره كما وصفناه من رفعة المكان وبسطة الملك، قال البغوي: والصحيح أن معناه كما حكم في القوم الذين هم عند غروب الشمس كذلك في القوم الذين هم عند مطلعها {وقد أحطنا بما لديه} أي: عند ذي القرنين من الآلات والجند وغيرهما {خبراً} أي: علماً تعلق بظواهره وخفاياه والمعنى أن كثرة ذلك بلغت مبلغاً لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير
{ثم} إن ذا القرنين لما بلغ المغرب والمشرق(2/403)
{أتبع سبباً} آخر من جهة الشمال في إرادة ناحية السدّ مخرج يأجوج ومأجوج واستمر آخذاً فيه
{حتى إذا بلغ} في مسيره ذلك {بين السدّين} أي: بين الجبلين وهما جبلا أرمينية وأذربيجان وقيل: جبلان في أواخر الشمال، وقيل: هذا المكان في منقطع بلاد الترك من ورائهما يأجوج ومأجوج، قال الرازي: والأظهر أن موضع السد في ناحية الشمال سد الاسكندر ما بينهما كما سيأتي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بفتح السين والباقون بضمها وهما لغتان معناهما واحد، وقال عكرمة: ما كان من صنع بني آدم فهو السد بالفتح وما كان من صنع الله فهو بالضم وقاله أبو عمرو وقيل بالعكس {وجد من دونهما} أي: بقربهما من الجانب الذي هو أدنى منهما إلى الجهة التي أتى منها ذو القرنين {قوماً} أي: أمة من الناس لغتهم في غاية البعد من لغات بقية الناس لبعد بلادهم عن بقية البلاد فهم كذلك {لا يكادون} أي: لا يقربون {يفقهون} أي: يفهمون {قولاً} ممن مع ذي القرنين فهماً جيداً كما يفهم غيرهم لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم، وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر القاف والباقون بفتحهما، وقال ابن عباس: لا يفقهون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم واستشكل بقولهم:
{قالوا يا ذا القرنين} وأجيب بأنه تكلم عنهم مترجم ممن هو مجاورهم ويفهم كلامهم {إن يأجوج ومأجوج} وهما اسمان أعجميان لقبيلتين فلم ينصرفا، وقرأ عاصم بهمزة ساكنة بعد الياء والميم والباقون بالألف فيهما وهما لغتان أصلهما من أجيج النار وهو ضوءها وشررها شبهوا به لكثرتهم وشدتهم وهم من أولاد يافث بن نوح عليه السلام، قال الضحاك: هم جيل من الترك، قال السدي: الترك سرية من يأجوج ومأجوج خرجت فضرب ذو القرنين السدّ فبقيت خارجة فجميع الترك منهم، وعن قتادة أنهم اثنان وعشرون قبيلة بنى ذو القرنين السدّ على إحدى وعشرين قبيلة وبقيت قبيلة واحدة فهم الترك سموا الترك لأنهم تركوا خارجين، قال: أهل التواريخ أولاد نوح عليه السلام ثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب والعجم والروم، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج، وقال ابن عباس في رواية عطاء هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء، وروي عن حذيفة مرفوعاً أن يأجوج أمة ومأجوج أمة وكل أمة أربعمائة ألف أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح وهم من ولد آدم يسيرون في خراب الأرض، وقال: هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم طوله وعرضه سواء عشرون ومائة وهؤلاء لا تقوم لهم الجبال ولا الحديد، وصنف منهم يفرش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية، ومنهم أن ثبت لهم مخالب في أظفارهم وأضراسهم كأضراس السباع، وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: منهم من طوله شبر ومنهم من هو مفرط في الطول، وقال كعب: هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم احتلم ذات(2/404)
يوم وامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم،
وذكر وهب بن منبه أن ذا القرنين كان رجلاً من الروم ابن عجوز فلما بلغ كان عبداً صالحاً قال الله تعالى: إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها: هاويل والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها: ناويل وأمم في وسط الأرض منهم الجن والأنس ويأجوج ومأجوج، فقال ذو القرنين: بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم، قال الله تعالى: إني سأطوقك وأبسط لك لسانك وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يروعنك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحفظك الظلمة من ورائك فانطلق حتى أتي مغرب الشمس فوجد جمعاً وعدداً لا يحصيه إلا الله تعالى فكاثرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته فمنهم من آمن ومنهم من كفر ومنهم من صدّ عنه فعمد إلى الذين تولوا عنه وأدخل عليهم الظلمة فدخلت أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب جنداً عظيماً فانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى هاويل فعمل فيهم كعمله في ناسك ثم مضى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجند منها جنوداً كفعله في الأمتين ثم أخذ بناحية الأرض اليسرى فأتى ناويل فعمل فيها كعمله فيما قبلها ثم عمد إلى الأمم التي وسط الأرض فلما كان مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقاً أشباه البهائم أي: وهم يأجوج ومأجوج {مفسدون في الأرض} يفترسون الدواب والوحوش والسباع ويأكلون الحيات والعقارب وكل ذي روح خلقه الله في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم فلا يشك أنهم سيملكون الأرض ويظهرون عليها ويفسدون فيها، وقال الكلبي: فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم فلا يدعون فيها شيئاً أخضر
إلا أكلوه
ولا يابساً إلا احتملوه وأدخلوه أرضهم وقد بالغوا ولقوا منهم أذى شديداً وقتلاً، وقيل: فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس، وقيل: معناه أنهم سيفسدون في الأرض بعد خروجهم {فهل نجعل لك خرجاً} أي: جعلا من المال، وقرأ حمزة والكسائى بفتح الراء وألف بعدها والباقون بسكون الراء ولا ألف بعدها فقيل: هما بمعنى، وقيل: الخرج ما تبرّعت به والخراج ما لزمك {على أن تجعل} في جميع ما {بيننا وبينهم} من الأرض التي يمكن توصلهم إلينا منها بما آتاك الله من المكنة {سدّاً} أي: حاجزاً بين هذين الجبلين فلا يصلون إلينا، وقرأ نافع وابن عامر وشعبة برفع السين والباقون بالنصب،
{
قال} لهم ذو القرنين {ما مكّنى فيه ربي} أي: المحسن إليّ مما ترونه من الأموال والرجال والتوصل إلى جميع الممكن للمخلوق {خير} من خراجكم الذي تريدون بذله كما قال سليمان عليه السلام: {فما آتاني الله خير مما آتاكم} (النمل، 36) ، وقرأ ابن كثير بنون مفتوحة بعد الكاف وبعدها نون مكسورة والباقون بنون واحدة مكسورة مشدّدة {فأعينوني بقوّة} أي: أني لا أريد المال بل أعينوني بأيديكم وقوّتكم(2/405)
وبالآلات التي أتقوّى بها في فعل ذلك فإن ما معي إنما هو للقتال وما يكون من أسبابه لا لمثل هذا {أجعل بينكم} أي: بين ما تحتصون به {وبينهم ردماً} أي: حاجزاً حصيناً موثقاً بعضه فوق بعض من التلاصق والتلاحم وهو أعظم من السد من قولهم ثوب ردم إذا كان رقاعاِ فوق رقاع قالوا: وما تلك القوة؟ قال: فعلة وصناع يحسنون البناء، قالوا: وما تلك الآلات؟ قال:
{آتوني} أي: أعطوني {زبر الحديد} أي: قطعة وهو جمع زبرة كغرفة وغرف، قال الخليل: الزبرة من الحديد القطعة الضخمة فأتوه به وبالحطب حفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم {حتى إذا ساوى} أي: بذلك البناء {بين الصدفين} أي: بين جانبي الجبلين أي: سوى بين طرفي الجبلين سميا بذلك لأنهما يتصادفان أي: يتقابلان من قولهم: صادفت الرجل لاقيته وقابلته، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر برفع الصاد والدال وشعبة برفع الصاد وسكون الدال والباقون بنصب الصاد والدال، ثم وضع المنافخ وأطلق النار في الحطب والفحم و {قال} أي: للعملة {انفخوا} فنفخوا {حتى إذا جعله} أي: الحديد {ناراً} أي: كالنار {قال آتوني} أي: أعطوني {أفرغ عليه قطراً} أي: أصب النحاس المذاب على الحديد المحمى فصبه عليه فدخل في خلال الحديد مكان الحطب لأن النار أكلت الحطب حتى لزم الحديد النحاس فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً، قال الزمخشري: قيل ما بين السدين مائة فرسخ، وروي أن عرضه كان خمسين ذراعاً وارتفاعه مائتي ذراع، وعن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً «وفي رواية عن رجل من أهل المدينة قال: يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: انعته لي قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء» وهذه معجزة عظيمة إن كان نبياً أو كرامة إن لم يكن؛ لأنّ هذه الزبرة الكبيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر الحيوان أن يقرب منها والنفخ عليها لا يكون إلا بالقرب منها فكأنه تعالى صرف تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين عليها حتى تمكنوا من العمل فيها.
تنبيه: قطراً هو المتنازع فيه وهذه الآية أشهر أمثلة النحاة في باب التنازع وبها تمسك البصريون على أن أعمال الثاني من العاملين المتوجهين نحو معمول واحد أولى إذ لو كان قطراً مفعول آتوني لأضمر مفعول أفرغ حذراً من الإلباس، ثم قال تعالى:
{فما} أي: فتسبب عن ذلك أنه لما أكمل عمل الردم وأحكمه ما {اسطاعوا} أي: يأجوج ومأجوج وغيرهم {أن يظهروه} أي: يعلوا ظهره لعلوّه وملاسته، وقرأ حمزة بتشديد الظاء والباقون بالتخفيف {وما استطاعوا له نقباً} أي: خرقاً لصلابته وسمكه وزيادة التاء هنا تدل على أنّ العلوّ عليه أصعب من نقبه لارتفاعه وصلابته والتحام بعضه ببعض حتى صار سبيكة واحدة من حديد ونحاس في علوّ الجبل فإنهم ولو احتالوا ببناء درج من جانبهم أو وضع تراب حتى ظهروا عليه لم ينفعهم ذلك لأنهم لا حيلة لهم على النزول من الجانب الآخر، ويؤيده أنهم إنما يخرجون في آخر الزمان بنقبه لا بظهورهم عليه ولا ينافي نفي الاستطاعة لنقبه ما رواه الإمام أحمد والترمذي في التفسير وابن ماجه في الفتن «عن أبي رافع عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن يأجوج(2/406)
ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً فيعودون إليه كأشدّ ما كان حتى إذا بلغت مدّتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله تعالى فيستثني فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس» الحديث، وفي حديث الصحيحين عن زينب بنت جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وروياه عن أبي هريرة وفيه مثل هذا وعقد تسعين لأن هذا في آخر الزمان، ثم إنه قيل فما قال حين فراغه قيل:
{قال هذا} أي: السد يعني الإقدار عليه {رحمة} أي: نعمة {من ربي} أي: المحسن إليّ بإقداري عليه ومنع العادية {فإذا جاء وعد ربي} بقرب قيام الساعة أو بوقت خروجهم {جعله دكاً} أي: مدكوكاً مبسوطاً، روي أنهم يخرجون على الناس فيتبعون المياه ويتحصن الناس في حصونهم منهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء فيقولون: قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسوة وعلواً، فيبعث الله تعالى عليهم نغفاً في رقابهم، وفي رواية في آذانهم فيهلكون، قال صلى الله عليه وسلم «فو الذي نفسي بيده إنّ دواب الأرض لتسمن وتشكر من لحومهم شكراً» أخرجه الترمذي، قوله قسوة وعلواً أي: غلظة وفظاظة وتكبراً، والنغف دود يخرج في أنوف الإبل والغنم، وقوله: وتشكر من لحومهم شكراً يقال: شكرت الشاة شكراً حين امتلأ ضرعها لبناً، والمعنى أنها تمتلئ أجسادها لحماً وتسمن، وعن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة من النخل فلما رحلنا إليه عرف ذلك فينا فقال: ما شأنكم قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال: غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم وإنه شاب قطط أي: شديد الجعودة، وقيل: حسن الجعودة عينه طافية أي: بارزة، وقيل: مخسوفة كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج من حلة بين الشام والعراق فعاث أي: أفسد يميناً وعاث شمالاً يا عباد الله فاثبتوا قلنا: يا رسول الله وما مكثه في الأرض قال: أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيام كأيامكم قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا أقدروا له قدره أي: واليوم الثاني والثالث كذلك، وسكت عن ذلك للعلم به من الأوّل،
قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض قال: «كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت وتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت درّاً واسعة ضروعها وأملأها خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردّون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمرّ بالخربة فيقول لها: أخرجي كنزك فيتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شاباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل(2/407)
ويتهلل وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء في دمشق بين مهرودتين أي: حلتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه حتى يدركه بباب لد قرية بالشام قريبة من الرملة فيقتله ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويخبرهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فجوّز عبادي إلى الطور ويبعث يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمرّ آخرهم فيقول: لقد كان بهذه مرّة ماء ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل الله تعالى عليهم النغف في رقابهم وهو بالتحريك دود يكون في أنوف الإبل والغنم كما مرّ واحدتها نغفة فيصبحون فرساً أي: قتلى الواحد فريس، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه رممهم ونتنهم فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله تعالى عليهم طيراً كأعناق البخت فتحملهم حيث شاء الله تعالى، ثم يرسل
الله تعالى
مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة وهي بالتحريك جمعها زلف مصانع الماء، ويجمع على المزالف أيضاً أي: فتصير الأرض كأنها مصنعة من مصانع الماء، وقيل كالمرآة، وقيل الزلفة الروضة، وقيل بالقاف أيضاً ثم يقال للأرض انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل وهو بتحريك الراء والسين من الإبل والغنم من عشرة إلى خمسة وعشرين حتى أن اللقحة من الأبل لتكفي الفئام من الناس وهو مهموز الجماعة الكثيرة واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله تعالى عليهم ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيهاتهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة {وكان وعد ربي} الذي وعد به في خروج يأجوج ومأجوج وإحراقهم الأرض وإفسادهم لها قرب قيام الساعة {حقاً} كائناً لا محالة فلذلك أعان تعالى على هدمه هذا آخر حكاية ذي القرنين. وفي القصة أن ذا القرنين دخل الظلمة فلما رجع توفي بشيرزور وذكر بعضهم أنّ عمره كان نيفاً وثلاثين سنة، سبحان من يدوم عزه وبقاؤه، ثم إنه تعالى قال عاطفاً على ما تقديره فقد بان أمر ذي القرنين أيّ بيان وصدق في قوله فإذا جاء وعد ربي فإنه إذا جاء وعدنا جعلناه بقدرتنا التي نؤتيها ليأجوج ومأجوج دكاً فأخرجناهم على الناس بعد خروج الدجال
{
وتركنا بعضهم} أي: يأجوج ومأجوج {يومئذٍ} أي: حين يخرجون {يموج} أي: يضطرب {في بعض} كموج البحر أو يموج بعض الخلق في بعض فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى ويؤيده {ونفخ في الصور} أي: القرن النفخة الثانية لقوله تعالى: {فجمعناهم} أي: الخلائق في مكان واحد يوم(2/408)
القيامة، قال البقاعي: ويجوز أن تكون هذه الفاء فاء الفصيحة فيكون المراد النفخة الأولى أي: ونفخ فمات الخلائق كلهم فبليت أجسامهم وتفتت عظامهم كما كان من تقدّمهم، ثم نفخ الثانية فجمعناهم من التراب بعد تمزقهم فيه وتفرّقهم في أقطار الأرض بالسيول والرياح وغير ذلك {جمعاً} فأمتناهم دفعة واحدة كلمح البصر وحشرناهم إلى الموقف للحساب ثم للثواب والعقاب،
{وعرضنا} أي: أظهرنا {جهنم يومئذٍ} أي: إذ جمعناهم لذلك {للكافرين عرضاً} ظاهرة لهم بكل ما فيها من الأهوال وهم لا يجدون لهم عنها مصرفاً. ثم وصفهم بما أوجب لهم ذلك بقوله تعالى:
{الذين كانت} كوناً كأنه جبلة لهم {أعينهم} وهو بدل من الكافرين {في غطاء عن ذكري} أي: عن القرآن فهم لا يهتدون به وعما جعلنا على الأرض من زينة دليلاً على الساعة بإفنائه ثم إحيائه وإعادته بعد إبداده {وكانوا} بما جعلناهم عليه {لا يستطيعون سمعاً} أي: لا يقدرون أن يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما يتلو عليهم بغضاله فلا يؤمنون به. ولما بيّن تعالى أمر الكافرين أنهم أعرضوا عن الذكر وعن استماع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أتبعه بقوله تعالى:
{أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي} من الأحياء كالملائكة وعزير والمسيح والأموات كالأصنام {من دوني} وقوله تعالى: {أولياء} أي: أرباباً مفعول ثان ليتخذوا، والمفعول الثاني لحسب محذوف والمعنى أظنوا أنّ الاتخاذ المذكور ينفعهم ولا يغضبني ولا أعاقبهم عليه كلا، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بسكونها وهم على مراتبهم في المدّ. ولما كان معنى الاستفهام الإنكاري ليس الأمر كذلك حسن جداً قوله تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم {إنا أعتدنا جهنم} التي تقدم أنا عرضناها لهم {للكافرين} أي: هؤلاء وغيرهم {نزلاً} أي: هي معدة لهم كالمنزل المعد للضعيف وهذا على سبيل التهكم ونظيره قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم} (آل عمران، 21)
{س18ش103/ش110 قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِا?خْسَرِينَ أَعْمَا? * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُو?لَا??ـ?ِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا? بِـ?َايَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَآ?ـ?ِهِ? فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَالِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا? وَاتَّخَذُو?ا? ءَايَاتِى وَرُسُلِى هُزُوًا * إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا? وَعَمِلُوا? الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُ? * خَالِدِينَ فِيهَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَ? * قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ? مَدَدًا * قُلْ إِنَّمَآ أَنَا? بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى? إِلَىَّ أَنَّمَآ الهكُمْ اله وَاحِدٌ? فَمَن كَانَ يَرْجُوا? لِقَآءَ رَبِّهِ? فَلْيَعْمَلْ عَمَ? صَالِحًا وَيُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ? أَحَدَ?ا}
ثم ذكر تعالى ما فيه تنبيه على جهل القوم فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
{قل} لهم {هل ننبئكم} أي: نخبركم وأدغم الكسائي لام هل في النون والباقون بالإظهار {بالأخسرين أعمالاً} أي: الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يرجون به فضلاً ونوالاً فنالوا هلاكاً وبواراً، واختلفوا فيهم فقال ابن عباس وسعد بن أبي وقاص: هم اليهود والنصارى وهو قول مجاهد، قال سعد بن أبي وقاص: أما اليهود فكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأما النصارى فكفروا بالجنة فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب انتهى. قال البقاعي: وكذا قال اليهود لأن الفريقين أنكروا الحشر الجسماني وخصوه بالروحاني، وقيل: هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع.
تنبيه: أعمالاً تمييز للأخسرين جمع عمل وإن كان مصدر التنوع أعمالهم، ثم وصفهم تعالى بضدّ ما يدّعونه لأنفسهم من نجاح السعي وإحسان الصنع فقال تعالى: {الذين ضلّ} أي: ضاع وبطل {سعيهم في الحياة الدنيا} لكفرهم.
تنبيه: محل الموصول الجر نعتاً أو بدلاً أو بياناً أو النصب على الذم أو الرفع على الخبر المحذوف فإنه جواب السؤال، ومعنى خسرانهم أنه مثلهم بمن يشتري سلعة يرجو فيها ربحاً فخسر وخاب سعيه كذلك أعمال هؤلاء الذين أتعبوا أنفسهم مع ضلالهم فبطل جدّهم(2/409)
واجتهادهم في الحياة الدنيا {وهم يحسبون} أي: يظنون، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين والباقون بالكسر {أنهم يحسنون صنعاً} أي: عملاً يجازون عليه لاعتقادهم أنهم على الحق. ثم بيّن تعالى السبب في بطلان سعيهم بقوله تعالى:
{أولئك} أي: البعداء البغضاء {الذين كفروا بآيات ربهم} أي: بدلائل توحيده من القرآن وغيره {ولقائه} أي: رؤيته لأنه يقال: لقيت فلاناً أي: رأيته فإن قيل: اللقاء عبارة عن الوصول قال تعالى: فالتقى الماء على أمر قد قدر وذلك في حق الله تعالى محال فوجب حملة على لقاء ثواب الله تعالى كما قال بعض المفسرين أجيب: بأنّ لفظ اللقاء، وإن كان عبارة عن الوصول إلا أن استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور والذي يقول: إن المراد لقاء ثواب الله قال: لا يتم إلا بالإضمار وحمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج إلى الإضمار، ثم قال تعالى: {فحبطت} أي: فبسبب جحدهم الدلائل بطلت {أعمالهم} فصارت هباءً منثوراً فلا يثابون عليها، وفي قوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} قولان؛ أحدهما: أنا نزدري بهم وليس لهم عندنا وزن ومقدار، تقول العرب: ما لفلان عندي وزن أي: قدر لخسته، وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة» ، وقال: اقرؤوا إن شئتم {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} » ، الثاني: لا نقيم لهم ميزاناً لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ليتميز مقدار الطاعات ومقدار السيئات، وقال أبو سعيد الخدري: تأتي ناس بأعمالهم يوم القيامة عندهم في التعظيم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئاً فذلك قوله تعالى: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} .
ولما كان هذا السياق في الدلالة على أنّ لهم جهنم أوضح من الشمس قال تعالى:
{ذلك} أي: الأمر العظيم الذي بيّناه من وعيدهم {جزاؤهم} ثم بيّن ذلك الجزاء بقوله تعالى: {جهنم} وصرّح بالسببية بقوله تعالى: {بما كفروا} أي: بما أوقعوا التغطية للدلائل {واتخذوا آياتي} الدالة على واحدانيتنا {ورسلي} المؤيدين بالمعجزات الظاهرات {هزوا} أي: مهزوءاً بهما فلم يكتفوا بالكفر الذي هو طعن في الإلهية حتى ضموا إليه الهزو الذي هو أعظم احتقاراً. ولما بيّن سبحانه وتعالى ما لا حد قسمي أهل الجمع تنفيراً عنهم بيّن ما للآخرين على تقدير الجواب لسؤال يقتضيه الحال ترغيباً في اتباعهم والاقتداء بهم بقوله:
{إن الذين آمنوا} أي: باشروا الإيمان {وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} من الخصال {كانت لهم} أي: في علم الله قبل أن يخلقوا البناء أعمالهم على الأساس {جنات} أي: بساتين {الفردوس} أي: أعلى الجنة وأوسطها والإضافة إليه للبيان، روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» وقال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها، وقال كعب: الفردوس هو بستان الجنة الذي فيه الأعناب، وقال مجاهد: هو البستان بالرومية، وقال الزجاج: هو بالرومية منقول إلى لفظ العربية،(2/410)
وقال عكرمة: هي الجنة بلسان الحبش، وقال الضحاك: هي الجنة الملتفة الأشجار {نزلاً} أي: منزلاً كما كان السعير والأغلال لأولئك نزلاً وقوله تعالى:
{خالدين فيها} حال مقدرة {لا يبغون} أي: لا يريدون أدنى إرادة {عنها حولاً} أي: تحويلاً إلى غيرها، قال ابن عباس: لا يريدون أن يتحوّلوا عنها كما ينتقل الرجل من دار إذا لم توافقه إلى دار أخرى. ولما ذكر تعالى في هذه السورة أنواع الدلائل والبيّنات وشرح فيها أقاصيص الأوّلين والآخرين نبه على حال كمال القرآن بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
{قل} يا أشرف الخلق للخلق {لو كان البحر} أي: ماؤه على عظمته عندكم {مداداً} وهو اسم لما يمدّ به الشيء كالحبر للدواة والسليط للسراج {لكلمات} أي: لكتب كلمات {ربي} أي: المحسن إليّ {لنفد} أي: فني مع الضعف فناء لا تدارك له {البحر} لأنه جسم متناه {قبل أن تنفذ} أي: تفنى وتفرغ {كلمات ربي} لأنّ معلوماته تعالى غير متناهية والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية على التذكير والباقون بالفوقية على التأنيث. ولما لم يكن أحد غيره يقدر على إمداد البحر قال تعالى: {ولو جئنا بمثله} أي: بمثل البحر الموجود {مدداً} أي: زيادة ومعونة ونظيره قوله تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} (لقمان، 27) ، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال البغوي وابن عباس: قالت اليهود: تزعم يا محمد أنا قد أوتينا الحكمة، وفي كتابك {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً} (النبوة، 269) ، ثم تقول: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال البيضاوي: وسبب نزولها أن اليهود قالوا: في كتابكم ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وتقرؤون وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً انتهى. وقال في «الكشاف» يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله، وقيل: لما نزل وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، قالت اليهود: أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية. ولما كانوا ربما قالوا: مالك لا تحدّث من
هذه الكلمات بكل ما سألنا عنه قال الله تعالى:
{قل} يا خير الخلق لهم {إنما أنا بشر} في استبداد القدرة على إيجاد المعدوم والإخبار بالغيب {مثلكم} أي: لا أمر لي ولا قدرة إلا ما يقدرني ربي عليه ولكن {يوحى إليّ} أي: من الله تعالى الذي خصني بالرسالة كالوحي إلى الرسل قبلي {أنما إلهكم} الذي يجب أن يعبد {إله واحد} لا ينقسم بمجانسة ولا غيرها قادر على ما يريد، لا منازع له لم يؤخر جواب ما سألتموني عنه من عجز ولا من جهل هذا الذي يعني كل أحد علمه، وأما ما سألتم عنه في أمر الروح والقصتين تعنتا لي فأمر لو جهلتموه ما ضرّكم جهله {فمن} أي: فتسبب عن وحدته المستلزمة لقدرته أنه من {كان يرجو لقاء ربه} أي: يخاف المصير إليه وقيل يأمل رؤية ربه والرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعاً قال الشاعر:
*فلا كل ما ترجو من الخير كائن
... ولا كل ما ترجو من الشر واقع
فجمع بين المعنيين {فليعمل عملاً} ولو قليلاً {صالحاً} يرتضيه الله {ولا يشرك} أي: وليكن ذلك العمل مبنياً على الأساس وهو أن لا يشرك ولو بالرياء {بعبادة ربه أحداً} فإذا عمل ذلك حاز فخار علوم الدنيا والآخرة، روي أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعمل(2/411)
العمل لله فإذا اطلع عليه سرّني فقال: «إن الله لا يقبل ما شورك فيه فنزلت تصديقاً، وروي أنه قال له: لك أجران أجر السر وأجر العلانية» وذلك إذا قصد أن يقتدي به، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء» وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن الله تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء هو للذي عمله» ، وعن سعيد بن فضالة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع الله تبارك وتعالى الناس ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان يشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه منه فإن الله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك» والآية جامعة لخلاصتي العلم والعمل وهما التوحيد والإخلاص في الطاعة.
خاتمة: روي في فضائل سورة الكهف أحاديث كثيرة منها ما رواه الترمذي وغيره من قرأها عند مضجعه كان له نور يتلألأ في مضجعه إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعه بمكة كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ، وروي أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» ، وقال البيضاوي وعنه عليه السلام: «من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نوراً من قرنه إلى قدمه» ، ولكن الذي رواه الإمام أحمد: «من قرأ أول سورة الكهف كانت له نوراً من فرقه إلى قدمه، ومن قرأها كلها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء» ، وروى البغوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ أوّل سورة الكهف وآخرها كانت له نوراً من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء» فنسأل الله تعالى أن ينوّر قلوبنا وأبصارنا وأن يغفر زلاتنا ولا يؤاخذنا بسوء أفعالنا، وأن يفعل ذلك بوالدينا وأولادنا وأقاربنا وأصحابنا ومشايخنا وجميع إخواننا المسلمين وأحبابنا آمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدين.
سورة مريم
عليها السلام مكية
وهي ثمان وتسعون آية، وسبعمائة واثنان وستون كلمة، وثلاثة آلاف وثمانمائة حرف وحرفان
{بسم الله} المنزه عن كل شائبة نقص القادر على كل ما يريد {الرحمن} الذي عم نواله سائر مخلوقاته {الرحيم} بسائر خلقه، واختلف في تفسير قوله تعالى:
{كهيعص} قال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله تعالى، وقال قتادة: هو اسم من أسماء القرآن، وقيل: هو اسم الله الأعظم، وقيل: هو اسم السورة، وقيل: قسم أقسم الله به. وعن الكلبي: هو ثناء أثنى الله به على نفسه، وعنه معناه كاف لخلقه هاد لعباده يده فوق أيديهم عالم ببريته صادق في وعده.
وعن ابن عباس قال: الكاف من كريم وكبير، والهاء من هاد، والياء من رحيم، والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق، وقيل: إنه من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه، وقد تقدّم الكلام على ذلك في أوّل سورة البقرة،(2/412)
وقرأ نافع بإمالة الهاء والياء بين بين وأمالهما محضة شعبة والكسائي وأمال الهاء محضة أبو عمرو وابن عامر وحمزة، وللسوسي في الياء خلاف في الإمالة محضة والفتح والباقون، وهم ابن كثير وحفص بفتحهما بلا خلاف ولجميع القراء في العين المدّ والتوسط، وقوله تعالى:
{ذكر} مبتدأ محذوف الخبر تقديره مما يتلى عليكم أو خبر محذوف المبتدأ تقديره المتلو ذكر أو هذا ذكر {رحمت ربك} وقوله تعالى: {عبده} مفعول رحمة لأنها مصدر بني على التاء لأنها دالة على الوحدة ورسمت بتاء مجرورة، ووقف عليها بالهاء ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ووقف بالتاء على الرسم الباقون وقوله تعالى: {زكريا} بيان له.
تنبيه: اعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة قصص جملة من الأنبياء.
الأولى: هذه القصة وهي قصة زكريا فيحتمل أن المراد من قوله تعالى: {رحمة ربك} أنه عني عبده زكريا في كونه رحمة وجهان: أحدهما: أنه يكون رحمة على أمته لأنه هداهم إلى الإيمان والطاعة، والثاني: أن يكون رحمة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى لما شرع له صلى الله عليه وسلم طريقته في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى صار ذلك لطفاً داعياً له ولأمته إلى تلك الطريقة، فكان زكريا رحمة ويحتمل أن يكون المراد أن هذه السورة فيها ذكر الرحمة التي يرحم بها عبده زكريا
{إذ نادى ربه نداء} مشتملاً على دعاء {خفياً} أي: سراً جوف الليل؛ لأنه أسرع إلى الإجابة وإن كان الجهر والإخفاء عند الله سيان، وقيل: أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في زمن الشيخوخة، وقيل: أسره من مواليه الذين خافهم، وقيل: خفت صوته لضعفه وهرمه، كما جاء في صفة الشيخ صوته خفات وسمعه تارات.
فإن قيل: من شرط النداء الجهر فكيف الجمع بين كونه نداء وخفياً؟.
أجيب: بوجهين، الأول: أنه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت إلا أن صوته كان ضعيفاً لنهاية ضعفه بسبب الكبر فكان نداءً نظراً إلى القصد خفياً نظراً إلى الواقع، الثاني: أنه دعا في الصلاة لأن الله تعالى أجابه في الصلاة لقوله تعالى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك} (آل عمران، 39)
وكون الإجابة في الصلاة يدلّ على كون الدعاء فيها فيكون النداء فيها خفياً.
تنبيه: في ناصب إذ ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ذكر ولم يذكر الحوفي غيره، والثاني: رحمة ولم يذكر الجلال المحلى غيره وذكر الوجهين أبو البقاء، والثالث: أنه بدل من زكريا بدل اشتمال لأن الوقت مشتمل عليه ثم كأنه قيل: ما ذلك النداء؟ فقيل:
{قال ربّ} بحذف الأداة للدلالة على غاية القرب {إني وهن} أي: ضعف جداً {العظم مني} أي: هذا الجنس الذي هو أقوى ما في بدني ولو جمع لأوهم أنه وهن مجموع عظامه لا جميعها وقوله: {واشتعل الرأس} أي: مني {شيباً} تمييز محوّل عن الفاعل أي: انتشر الشيب في شعره كما ينتشر شعاع النار في الحطب وإني أريد أن أدعوك {ولم أكن بدعائك} أي: بدعائي إياك {رب شقياً} أي: خائباً فيما مضى فلا تخيبني فيما يأتي وإن كان ما أدعو به في غاية البعد في العادة لكنك فعلت مع أبي إبراهيم مثله فهو دعاء وشكر واستعطاف، ثم عطف على قوله: إني وهن قوله:
{وإني خفت الموالي} أي: الذين يلوني في النسب كبني العم أن يسيئوا الخلافة {من ورائي} أي: في بعض الزمان الذي بعدي {وكانت(2/413)
امرأتي عاقراً} لا تلد أصلاً بما دل عليه فعل الكون {فهب لي} أي: فتسبب عن شيخوختي وضعفي وتعويدك لي بالإجابة وخوفي من سوء خلافة أقاربي ويأسي عن الولد عادة بعقم امرأتي وبلوغي من الكبر حدّاً لا حراك بي معه أني أقول لك: يا قادر على كل شيء هب لي {من لدنك} أي: من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندك لم تجرها على مناهج العادات والأسباب المطردات {ولياً} أي: ابناً من صلبي
{يرثني} في جميع ما أنا فيه من العلم والنبوّة والعمل {ويرث} زيادة على ذلك {من آل يعقوب} جزءاً مما خصصتهم به من المنح وفضلتهم به من النعم ومحاسن الأخلاق ومعالي الشيم فإن الأنبياء لا يورثون المال، وقيل: يرثني الحبورة أي: العلم بتحبير الكلام وتحسينه فإنه كان حبراً هو بالفتح والكسر وهو أفصح، يقال: للعالم بتحبير الكلام وتحسينه وهو يعقوب بن إسحاق عليهما السلام.
وقيل: يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوّة ولفظ الإرث يستعمل في المال وفي العلم والنبوّة، أما في المال فلقوله تعالى: {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم} (الأحزاب، 27) ، وأما في النبوة فلقوله تعالى: {وأورثنا بني إسرائيل الكتاب} (غافر، 53)
الآية، وقال صلى الله عليه وسلم «العلماء ورثة الأنبياء» ولأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما يورثون العلم وخص اسم يعقوب اقتداء به نفسه إذ قال ليوسف عليه السلام: {ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب} (يوسف، 6)
ولأن إسرائيل قد صار علماً على الأسباط كلهم وكانت قد غلبت عليهم الأحداث، وقرأ أبو عمرو والكسائي بجزم الثاء المثلثة فيهما على أنهما جواب الأمر إذ تقديرهما إن تهب يرث والباقون بالضم فيهما على أنهما صفة واعتراض بأن زكريا دعا الله تعالى أن يهبه ولداً يرثه مع أن يحيى قتل قبله فلم يجبه إلى أرثه منه وأجيب: بأن إجابة دعاء الأنبياء غالبة لا لازمة فقد يتخلف لقضاء الله تعالى بخلافه كما في دعاء إبراهيم عليه السلام في حق أبيه وكما في دعاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: «وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» ، ولما كان من قضاء الله تعالى وقدره أن يوجد يحيى نبياً صالحاً ثم يقتل استجيب دعاء زكريا في إيجاده دون إرثه. ولما ختم دعاءه بقوله: {واجعله رب} أي: أيها المحسن إليّ {رضياً} أي: مرضياً عندك، أجابه الله تعالى بقوله تعالى:
{يا زكريا إنا نبشرك بغلام} يرث كما سألت {اسمه يحيى} وقرأ حمزة بفتح النون وسكون الباء الموحدة وضم الشين مخففة والباقون بضم النون وفتح الموحدة وكسر الشين مشددة وكذلك في آخر السورة.
تنبيه: يحيى اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وقيل: منقول من الفعل المضارع كما سموا بيعمر، وإنما تولى تعالى تسميته تشريفاً له قال تعالى: {لم نجعل له من قبل سمياً} (مريم، 65)
أي: مسمى بيحيى، قال قتادة والكلبي: لم يسمّ أحد قبله بيحيى.
تنبيه: سمياً مأخوذ من السمّو وفيه دلالة لقول البصريين إن الاسم من السمو، ولو كان من الوسم لقيل وسيماً، وقال سعيد بن جبير وعطاء: لم نجعل له شبهاً ومثلاً كما قال تعالى: {هل تعلم له سمياً} أي: مثلاً والمعنى أنه لم يكن له مثل لأنه لم يعص ولم يهمّ بمعصية قط، وردّ هذا لأن هذا يقتصي تفضيله على الأنبياء قبله كإبراهيم وموسى وليس كذلك، وقيل: لم يكن له ميل إلى أمر النساء لأنه كان سيداً وحصوراً، وعن ابن عباس لم تلد العواقر مثله ولداً، ثم كأنه قيل: فما قال في جواب هذه البشارة العظيمة؟ فقيل:
{قال} عالماً(2/414)
بصدقها طالباً لتأكيدها وللتلذذ بترديدها وهل ذلك من امرأته أو من غيرها؟ وهل إذا كان منها يكونان على حالتهما من الكبر أو غيرها غير طائش ولا عجل؟ {رب} أيها المحسن إليّ بإجابة الدعاء دائماً {أنّى} أي: من أين وكيف وعلى أي: حال {يكون لي غلام} يولد في غاية القوة والنشاط والكمال في الذكورة {وكانت} أي والحال أنه كانت {امرأتي} إذ كانت شابة {عاقراً} غير قابلة للولد وأنا وهي شابان فلم يأتنا ولد لاختلال أحد السبيلين فكيف بها وقد أيست؟ قال الجلال المحلي: بلغت ثماناً وتسعين سنة {وقد بلغت} أنا {من الكبر عتياً} من عتا يبس أي: نهاية السنّ، قال الجلال المحلي: مائة وعشرين سنة وبما تقرر سقط ما قيل لم تعجب زكريا عليه السلام بقوله: أنى يكون لي غلام مع أنه هو الذي طلب الغلام، وقرأ حفص وحمزة والكسائي عتياً وصلياً وجثياً بكسر عين الأوّل وصاد الثاني وجيم الثالث وضم الباقون، وأما بكياً فكسر الباء الموحدة حمزة والكسائي وضمها الباقون، وأصل عتي عتو وكسرت التاء تخفيفاً وقلبت الواو الأولى ياء لمناسبة الكسرة، والثانية ياء لتدغم فيها وإنما استعجب للولد من شيخ فان وعجوز عاقر اعترافاً بأن المؤثر فيه كامل القدرة وأن الوسايط عند المحققين ملغاة ولذلك
{قال} أي: الله تعالى كما قال الأكثرون لأن زكريا إنما كان يخاطب الله ويسأله بقوله: رب إني وهن العظم مني أو الملك المبلغ للبشارة تصديقاً له لقوله تعالى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بيحيى} (آل عمران، 39)
وأيضاً فإنه لما قال: وقد بلغت من الكبر عتياً قال: {كذلك} أي: الأمر كذلك فهو خبر مبتدأ محذوف ثم علله بقوله: {قال ربك} أي: الذي عوّدك بالإحسان فدل ذلك على أنه كلام الملك، قال ابن عادل: ويمكن أن يجاب بأنه يحتمل أن يحصل النداآن نداء الله تعالى ونداء الملك، ثم ذكر مقول القول فقال: {هو} أي: خلق يحيى منكما على هذه الحالة {عليّ} أي: خاصة {هين} أي: بأن أردّ عليك قوّة الجماع وأفتق رحم امرأتك للعلوق {وقد خلقتك} أي: قدّرتك وصوّرتك وأوجدتك {من قبل ولم} أي: والحال أنك لم {تك شيئاً} بل كنت معدوماً صرفاً وفيه دليل على أنّ المعدوم ليس بشيء ولإظهار الله تعالى هذه القدرة العظيمة ألهمه السؤال ليجاب بما يدل عليها، وقرأ حمزة والكسائي بعد القاف بنون بعدها ألف والباقون بعد القاف بتاء مضمومة. ولما تاقت نفسه إلى سرعة المبشر به
{قال رب اجعل لي} على ذلك {آية} أي: علامة تدلني على وقوعه {قال آيتك} على وقوع ذلك {أن لا تكلم الناس} أي: لا تقدر على كلامهم بخلاف ذكر الله تعالى {ثلاث ليال} أي: بأيامها كما في آل عمران ثلاثة أيام حال كونك {سوياً} من غير خرس ولا مرض وجعلت الآية الدالة عليه سكوت ثلاثة أيام ولياليهن من غير ذكر الله دلالة على اخلاصه وانقطاعه بكليته إلى الله تعالى دون غيره
{فخرج} عقب إعلام الله تعالى له بهذا {على قومه من المحراب} أي: من المسجد وهم ينتظرونه أن يفتح لهم الباب متغيراً لونه فأنكروه وهو منطلق اللسان بذكر الله تعالى منحسبه عن كلام الناس فقالوا: مالك يا نبيّ الله؟ {فأوحى إليهم} أي: أشار بشفتيه من غير نطق، وقال مجاهد: كتب لهم في الأرض {أن سبحوا} أي: أوجدوا التنزيه والتقديس لله تعالى بالصلاة وغيرها {بكرة وعشياً} أي: أوائل النهار وأواخره على العادة فعلم بمنعه من كلامهم حملت امرأته(2/415)
بيحيى، قال الجلال المحلي: وبعد ولادته بسنين قال الله تعالى له:
{يا يحيى خذ الكتاب} أي: التوراة {بقوة} أي: جدّ ثم إن الله تعالى وصفه بصفات الأولى قوله تعالى: {وآتيناه الحكم} قال ابن عباس النبوّة {صبياً} قال الجلال المحلي: تبعاً للبغوي ابن ثلاث سنين أي: أحكم الله عقله في صباه واستنبأه وقيل المراد بالحكم الحكمة وفهم التوراة فقرأ التوراة وهو صغير. قال البغوي: وعن بعض السلف من قرأ القرآن قبل أن يبلغ فهو ممن أوتي الحكم صبياً. الصفة الثانية قوله تعالى:
{وحناناً} أي: وآتيناه رحمة وهيبة ووقاراً ورقة قلب ورزقاً وبركة {من لدنّا} أي: من عندنا بلا واسطة تعليم ولا تجربة. الصفة الثالثة قوله تعالى: {وزكاة} أي: وآتيناه طهارة في دينه، قال ابن عباس: يعني بالزكاة الطاعة والإخلاص، وقال قتادة: هي العمل الصالح، وقال الكلبي: يعني صدقة تصدّق الله بها على أبويه. الصفة الرابعة قوله تعالى: {وكان} أي: جبلة وطبعاً {تقياً} أي: مخلصاً مطيعاً، روي أنه لم يعمل خطيئة ولم يهمّ بها. الصفة الخامسة قوله تعالى:
{وبراً بوالديه} أي: بارّاً لطيفاً بهما محسناً إليهما لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى أعظم من برّ الوالدين يدل عليه قوله تعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحساناً} (الإسراء، 23)
. الصفة السادسة قوله تعالى {ولم يكن جباراً} أي: متكبراً والمراد وصفه بالتواضع ولين الجانب وذلك من صفات المؤمنين قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {واخفض جناحك للمؤمنين} (الحجر، 88) ، وقال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران، 159)
ولأن رأس العبادة معرفة الإنسان نفسه بالذل ومعرفة ربه بالعظمة والكمال ومن عرف نفسه بالذل وعرف ربه بالكمال كيف يليق به التجبر والترفع ولذلك لما تجبر إبليس وتمرد صار مبعداً عن رحمة الله تعالى وعن المؤمنين، وقيل: الجبار هو الذي لا يرى لأحد على نفسه حقاً وهو من التعظيم والذهاب بنفسه من أنه لا يلزمه قضاء حق لأحد، وقيل: هو كل من عاقب على غضب نفسه. الصفة السابعة قوله تعالى: {عصياً} أي: عاقاً أو عاصي ربه وهو أبلغ من العاصي كما أن العليم أبلغ من العالم. الصفة الثامنة قوله تعالى:
{وسلام عليه} منا {يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً} . فإن قيل: لم خص هذه الأوقات الثلاثة؟ أجيب: بوجوه:
الأول: قال محمد بن جرير الطبري: وسلام عليه يوم ولد أي: أمان من الله تعالى عليه يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم ويوم يموت أي: أمان من الله من عذاب القبر، ويوم يبعث أي: ومن عذاب الله يوم القيامة.
الثاني: قال ابن عيينة أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن؛ يوم ولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً ما شاهدهم قط ويوم يبعث فيرى في محشر عظيم، فأكرم الله تعالى يحيى عليه السلام فخصه بالسلام في هذه المواطن.
الثالث: قال عبد الله بن نفطوية: وسلام عليه يوم ولد أي: أوّل ما يرى في الدنيا ويوم يموت أي: أول يوم يرى فيه أمر الآخرة، ويوم يبعث حياً أي: أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة وإنما قال: حياً تنبيهاً على كونه من الشهداء لأنه قتل، وقد قال تعالى {أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران، 169)
فروع: الأول: هذا السلام يمكن أن يكون من الله وأن يكون من الملائكة وعلى التقديرين ففيه دلالة على تشريفه لأن الملائكة لا يسلمون إلا عن أمر الله تعالى.
الثاني: ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء(2/416)
لقوله تعالى: {سلام على نوح} (الصافات، 79)
{سلام على إبراهيم} (الصافات، 109)
لأنه تعالى قال يوم ولد وليس كذلك سائر الأنبياء.
الثالث: روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى عليه السلام: أنت أفضل مني لأن الله تعالى قال: سلام عليه وأنا سلمت على نفسي، قال الرازي: وهذا ليس بقوي لأن سلام عيسى على نفسه يجري مجرى سلام الله تعالى على يحيى لأن عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمر الله تعالى انتهى ولكن بين السلامين مزية.
تنبيه: هذه القصة قد ذكرت في آل عمران بقوله تعالى: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً} (آل عمران، 37)
إلى أن قال: {هنالك دعا زكريا ربه قال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء فنادته الملائكة وهو قائم} (آل عمران، 38)
لأن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم طمع في حق نفسه فدعا وقد وقعت المخالفة في ذكر ما هنا وهناك في الألفاظ من وجوه، الأول منها: أن الله تعالى صرّح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة بقوله تعالى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب} (آل عمران، 39)
وفي هذه السورة الأكثر على أن المنادي بقوله يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى هو الله تعالى وأجيب: بأن الله تعالى هو المبشر سواء كان بواسطة أم لا، الثاني: أنه قال تعالى في آل عمران: {أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر} (آل عمران، 40)
فذكر أولاً كبر سنه ثم عقر امرأته، وفي هذه السورة قال: {أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً} ، وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب، الثالث: قال في آل عمران وقد بلغني الكبر، وقال هنا: وقد بلغت من الكبر عتياً وأجيب بأن ما بلغك فقد بلغته، الرابع: قال في آل عمران: {آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً} ، وقال هنا: ثلاث ليال سوياً وأجيب بأن الآيتين دلتا على أن المراد ثلاثة أيام بلياليهنّ كما مرّ.
القصة الثانية قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام ولما كانت قصة عيسى عليه السلام أغرب من قصة يحيى لأن خلق الولد من شخصين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من خلق الولد لا من أب البتة وأحسن طرق التعليم والفهم الأخذ من الأقرب فالأقرب مرتقياً إلى الأصعب فالأصعب، أشار إلى ذلك بتغيير السياق فقال عاطفاً على ما تقديره اذكر هذا لهم
{واذكر} بلفظ الأمر {في الكتاب} أي: القرآن {مريم} أي: قصتها وهي ابنة عمران خالة يحيى كما في الصحيح من حديث أنس بن مالك بن صعصعة الأنصاري في حديث الإسراء «فلما خلصت فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة» ثم أبدل من مريم بدل اشتمال فقال: {إذ} أي: اذكر ما اتفق لها حين {انتبذت} أي: كلفت نفسها أن اعتزلت وانفردت {من أهلها} حالة {مكاناً شرقياً} أي: شرقي بيت المقدس. وقال الرازي: شرقي دارها، وعن ابن عباس إني لأعلم خلق الله تعالى لأي شيء اتخذت النصارى الشرق قبلة لقوله تعالى: {مكاناً شرقياً} فاتخذت ميلاد عيسى قبلة، واقتصر الجلال المحلي على الشرق من الدار وتردّد البيضاوي بينهما فقال: شرقيّ بيت المقدس أو شرقي دارها انتهى، ويحتمل أن يكون شرقي بيت المقدس هو شرقي دارها فلا مخالفة
{فاتخذت} أي: أخذت بقصد وتكلف ودل على قرب المكان بالإتيان بالجارّ فقال: {من دونهم} أي: أدنى مكان من مكانهم {حجاباً} أي: أرسلت ستراً تستتر به لغرض صحيح وليس بمذكور، واختلف المفسرون فيه على وجوه:
أحدها:(2/417)
أنها طلبت الخلوة كيلا تشتغل عن العبادة.
ثانيها: أنها عطشت فخرجت إلى المفازة تستقي.
ثالثها: أنها كانت في منزل زوج أختها زكريا وفيه محراب على حدة تسكنه، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها وثوبها فانفجرت لها الشمس فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك كما قال تعالى: {فأرسلنا} لأمر يدل على عظمتنا {إليها روحنا} أي: جبريل عليه السلام ليعلمها بما يريد بها من الكرامة بولادة عيسى عليه السلام من غير أب لئلا يشتبه عليها الأمر فتقتل نفسها غماً {فتمثل لها} أي: تشبح بشين معجمة ثم باء موحدة ثم حاء مهملة وهو روحاني بصورة الجسماني {بشراً سوياً} في خلقه حسن الشكل.
رابعها: أنها قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض متحجبة بشيء يسترها، وكانت تتحول من المسجد إلى بيت خالتها إذا حاضت وتعود إليه إذا طهرت فبينما هي في مغتسلها أتاها جبريل بعد لبسها ثيابها متمثلاً بصورة شاب أمرد سوي الخلق تستأنس بكلامه إذ لو أتاها في الصورة الملكية لنفرت منه ولم تقدر على استماع كلامه، قال البيضاوي: ولعله لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها أي: مع أمنها الفتنة لعفتها، قال الرازي: وكل هذه الوجوه محتملة وليس في اللفظ ما يدل على ترجيح واحد منها.
ولما رأت مريم جبريل نحوها
{قالت إني أعوذ} أي: أعتصم {بالرحمن} ربي الذي رحمته عامة لجميع خلقه {منك} أي: أن تقربني وفتح ياء أني نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون وهم على مراتبهم في المدّ، ولما تفرست فيه بما أنار الله تعالى من بصيرتها وأصفى من سريرتها التقوى قالت {إن كنت تقياً} أي: مؤمناً مطيعاً، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي: إني عائذة منك أو نحو ذلك دل تعوذها من تلك الصورة الحسنة على عفتها وورعها فإن قيل: إنما يستعاذ من الفاجر فكيف قالت: إن كنت تقياً؟ أجيب: بأن هذا كقول القائل إن كنت مؤمناً فلا تظلمني أي: ينبغي أن يكون إيمانك مانعاً لك من الظلم كذلك هنا ينبغي أن تكون تقواك مانعة لك من الفجور وهذا في نهاية الحسن لأنها علمت أنها لا تؤثر الاستعاذة إلا في التقي وهو كقوله تعالى: {وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} (البقرة، 278)
أي: إن شرط الإيمان يوجب هذا لا أن الله تعالى يخشى في حال دون حال، وقيل: كان في ذلك الزمان إنسان فاجر يتبع النساء اسمه تقي فظنت مريم أن ذلك الشخص المشاهد هو ذلك فاستعاذت منه، قال الرازي: والأول هو الوجه. ولما علم جبريل عليه السلام خوفها
{قال} مجيباً لها بما معناه: إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً مؤكداً لأجل استعاذتها {إنما أنا رسول ربك} أي: الذي عذت به فأنا لست متهماً بل متصف بما ذكرت وزيادة الرسالة وعبر باسم الرب المقتضى للإحسان لطفاً بها، ولأن هذه السورة مصدرة بالرحمة ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده وقوله: {ليهب لك} قرأ ورش وأبو عمرو وقالون بخلاف عنه بالياء أي: ليهب الله تعالى لك، وقرأ الباقون بالهمز أي: لأهب أنا لك وفي مجازه وجهان، الأول: أن الهبة لما جرت على يده بأن كان هو الذي ينفخ في جيبها بأمر الله تعالى جعل نفسه كأنه هو الذي وهب لها وإضافة الفعل إلى من هو سبب مستعمل، قال الله تعالى في الأصنام: {رب إنهن أضللن كثيراً من الناس} (إبراهيم، 36) ، الثاني: أن جبريل عليه السلام لما(2/418)
بشرها بذلك كانت البشارة الصادقة جارية مجرى الهبة. ثم بيّن الموهوب بقوله: {غلاماً} أي: ولداً ذكراً في غاية القوة والرجولية ثم وصفه بقوله: {زكياً} أي: نبياً طاهراً من كل ما يدنس البشر نامياً على الخير والبركة
{قالت} مريم {أنّى} أي: من أين وكيف {يكون لي غلام} ألده {ولم يمسسني بشر} بنكاح {ولم أك بغياً} أي: زانية فتعجبت مما بشرها به جبريل عليه السلام لأنها قد عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل، والعادة عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور وإن جوزوا خلاف ذلك في القدرة فليس في قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه تعالى قادر على خلق الولد ابتداءً وكيف وقد عرفت أنه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحدّ ولأنها كانت منفردة للعبادة ومن يكون كذلك لا بدّ أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك وبما تقرر سقط ما قيل، قولها ولم يمسسني بشر يدخل تحته قولها: ولم أك بغياً ولهذا اقتصر عليه في سورة آل عمران بقولها: {قالت رب أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} (آل عمران، 47)
فلم تذكر البغي، ويجوز أن يقال: إنها أفردت ذكر البغي مع دخوله في الكلام الأول لأنه أعظم ما في بابه فهو نظير قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (البقرة، 238)
وقوله تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} (البقرة، 98)
{قال} لها جبريل عليه السلام الأمر {كذلك} من خلق غلام منك بغير أب. ولما كان لسان الحال قائلاً كيف يكون بغير سبب أجاب جبريل بقوله: {قال ربك هو} أي: المذكور وهو إيجاد الولد على هذه الهيئة {عليّ} وحدي لا يقدر عليه غيري {هيّن} أي: بأن ينفخ بأمري جبريل فيك فتحملي به ولكون ما ذكر في معنى العلة عطف عليه {ولنجعله} بما لنا من العظمة {آية للناس} أي: علامة على كمال قدرتنا على البعث أدل من الآية في يحيى عليه السلام وبه تمام القسمة الرباعية في خلق البشر فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر وحواء من ذكر بلا أثنى وآدم عليه السلام لا من ذكر ولا أنثى وبقية أولاده من ذكر وأنثى معاً {ورحمة منا} على العباد يهتدون به {وكان} ذلك كله {أمراً مقضياً} به في علمي وقوله تعالى:
{فحملته} فيه حذف تقديره فنفخنا فيها فحملته دل على ذلك قوله تعالى في سورة التحريم: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} (الأنبياء، 91) ، واختلف في النافخ فقال بعضهم: كان النفخ من الله تعالى لهذه الآية ولأنه تعالى قال: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} (آل عمران، 59)
ومقتضى التشبيه حصول المشابهة إلا فيما أخرجه الدليل، وفي حق آدم النافخ هو الله تعالى قال تعالى: {ونفخت فيه من روحي} (الحجر، 29)
فكذا ههنا، وقال بعضهم: النافخ جبريل لأن الظاهر من قول جبريل عليه السلام: {لأهب لك} على أحد القراءتين أنه النافخ، واختلف في كيفية نفخه فقيل: إن جبريل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبها فحملت حين لبسته، وقيل: مدّ إلى جيب درعها أصابعه ونفخ في الجيب، وقيل: نفخ في كمّ قميصها، وقيل: في فيها، وقيل: نفخ جبريل نفخاً من بعيد فوصل النفخ إليها فحملت بعيسى في الحال، وقيل: نفخ في ذيلها فدخلت النفخة في صدرها فحملت فجاءت أختها امرأة زكريا تزورها فلما التزمتها عرفت أنها حبلى وذكرت مريم حالها فقالت امرأة زكريا: إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله تعالى: {مصدقاً بكلمة من الله} (آل عمران، 39)
وقيل: حملت وهي بنت ثلاث عشرة سنة، وقيل: بنت عشرين وقد(2/419)
كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل، قال الرازي: وليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقوال المذكورة. ثم عقب بالحمل قوله: {فانتبذت به} أي: فاعتزلت به وهو في بطنها حالة {مكاناً قصياً} أي: بعيداً من أهلها أو من المكان الشرقي، وأشار إلى قرب الولادة من الحمل بفاء التعقيب في قوله:
{فأجاءها} أي: فأتى بها وألجأها {المخاض} وهو تحرك الولد في بطنها للولادة {إلى جذع النخلة} وهو ما برز منها من الأرض ولم يبلغ الأغصان وكأنّ تعريفها لأنه لم يكن في تلك البلاد الباردة غيرها فكانت كالعلم لما فيها من العجب لأن النخل من أقل الأشجار صبراً على البرد ولعلها ألجئت إليها دون غيرها من الأشجار على كثرتها لمناسبة حال النخلة لها لأنها لا تحمل إلا باللقاح من ذكر النخل فحملها بمجرّد هزها أنسب شيء بإتيانها بولد من غير والد فكيف إذا كان ذلك في غير وقته، وكانت يابسة مع مالها فيها من المنافع بالاستناد إليها والاعتماد عليها وكون رطبها خرسة للنفساء وغاية في نفعها وغير ذلك والخرسة بخاء معجمة مضمومة طعام النفساء وهو مراد الجوهري بقوله: طعام الولادة.
قال ابن عباس: الحمل والولادة في ساعة واحدة، وقيل: ثلاث ساعات حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وقيل: كانت مدته تسعة أشهر كحمل سائر النساء، وقيل: كانت مدة حملها ثمانية أشهر وذلك آية أخرى له لأنه لا يعيش من ولد لثمانية أشهر وولد عيسى لهذه المدّة وعاش، وقيل: ولد لستة أشهر. ولما كان ذلك أمراً صعباً عليها جداً كان كأنه قيل: يا ليت شعري ما كان حالها؟ فقيل: {قالت} لما حصل عندها من خوف العار {يا ليتني مت} وأشارت إلى استغراق الزمان بالموت بمعنى عدم الوجود فقالت من غير جارّ {قبل هذا} أي: الأمر العظيم، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي مت بكسر الميم والباقون بالضم {وكنت نسياً} أي: شيئاً من شأنه أن يطرح وينسى {منسياً} أي: متروكاً بالفعل لا يخطر على بالٍ.
فإن قيل: لم قالت ذلك مع أنها كانت تعلم أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام إليها ووعدها بأن يجعلها وولدها آية للعالمين؟.
أجيب عن ذلك بأجوبة: الأول: أنها تمنت ذلك استحياء من الناس فأنساها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى. الثاني: أنّ عادة الصالحين إذا وقعوا في بلاء أن يقولوا ذلك كما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال: طوبى لك يا طائر تقع على الشجر وتأكل من الثمر وددت أني ثمرة ينقرها الطائر، وعن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئاً، وعن علي رضي الله عنه يوم الجمل: ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة، وعن بلال: ليت بلالاً لم تلده أمه فثبت أن هذا الكلام يذكره الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم. الثالث: لعلها قالت ذلك لئلا يقع في المعصية من يتكلم فيها وإلا فهي راضية بما بشرت به، وقرأ حفص وحمزة نسياً بفتح النون والباقون بالكسر وقوله تعالى:
{فناداها من تحتها} قرأه نافع وحفص وحمزة بكسر من وجر التاء من تحتها والباقون بفتح من ونصب تحتها وأمال ألف ناداها حمزة والكسائى إمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح، وفي المنادي أوجه.
أحدها: أنه عيسى عليه السلام وهو قول الحسن وسعيد بن جبير.
ثانيها: أنه جبريل عليه(2/420)
السلام وأنه كالقابلة للولد.
ثالثها: أن المنادي على القراءة بالفتح هو عيسى وعلى القراءة بالكسر هو جبريل وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم، قال الرازي: والأول أقرب وصدر به البيضاوي واقتصر الجلال المحلي على الثاني، والمعنى على الأول أن الله تعالى أنطقه لها حين ولدته تطييباً لقلبها وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل من علو شأن ذلك الولد، وعلى الثاني أن الله تعالى أرسله إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أوّل الأمر تذكيراً للبشارات المتقدمة والضمير في تحتها للسيدة مريم وعلى تقدير أن يكون المنادي هو عيسى فهو ظاهر، وإن كان جبريل فقيل: إنه كان تحتها يقبل الولد كالقابلة، وقيل: تحتها أسفل من مكانها، وقيل: الضمير فيه للنخلة أي: ناداها من تحتها {أن لا تحزني} يجوز في أن أن تكون مفسرة لتقدمها ما هو بمعنى القول ولا على هذا ناهية وحذف النون للجزم وأن تكون الناصبة و {لا} حينئذٍ نافية وحذف النون للنصب ومحل {أن} إما نصب أو جرّ لأنها على حذف حرف الجر أي: فناداها بكذا {قد جعل ربك} أي: المحسن إليك {تحتك} في هذه الأرض التي لا ماء جار فيها {سرياً} أي: جدولاً من الماء تطيب به نفسك، قال الرازي: اتفق المفسرون إلا الحسن وعبد الرحمن بن زيد أن السري: هو النهر والجدول سمي بذلك لأن الماء يسري فيه، وأما الحسن وابن زيد فإنهما جعلا السري هو عيسى والسري هو النبيل الجليل يقال: فلان من سروات قومه أي: أشرافهم، واحتج من قال: هو النهر بأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السري فقال: «هو الجدول»
وبقوله تعالى: {فكلي واشربي} فدل على أنه النهر حتى يضاف الماء إلى الرطب فتأكل وتشرب، واحتج من قال: إنه عيسى بأن النهر لا يكون تحتها بل إلى جنبها ولا يجوز أن يجاب عنه بأن المراد أنه جعل النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كقول فرعون: {وهذه الأنهار تجري من تحتي} (الزخرف، 51)
لأن هذا حمل للفظ على مجازه ولو حملناه على عيسى لم يحتج إلى هذا المجاز وأيضاً فإنه موافق لقوله وجعلنا ابن مريم وأمه آية وأجيب: بأن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق وكل من كان أبعد منه كان تحت.
تنبيه: إذا قيل بأن السري هو النهر ففيه وجهان؛ الأول: قال ابن عباس: إن جبريل ضرب برجله الأرض، وقيل: عيسى فظهر عين ماء عذب وجرى، وقيل: كان هناك ماء جار، قال ابن عادل: والأول أقرب لأن قوله قد جعل ربك تحتك سرياً يدل على الحدوث في ذلك الوقت ولأن الله تعالى ذكره تعظيماً لشأنها، وقيل: كان هناك نهر يابس أجرى الله فيه الماء وحييت النخلة اليابسة وأورقت وأثمرت وأرطبت، قال أبو عبيدة والفراء: لسري هو النهر مطلقاً، وقال الأخفش: هو النهر الصغير.
{وهزي إليك} أي: أوقعي الهز وهو جذب بتحريك {بجذع النخلة} أي: التي أنت تحتها مع يبسها وكون الوقت ليس وقت حملها {تساقط عليك} من أعلاها {رطباً جنياً} طرياً آية أخرى عظيمة روي أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر، وكان الوقت شتاء فهزتها فجعل الله تعالى لها رأساً وخوصاً ورطباً، وقرأ حمزة بفتح التاء والسين مخففة وفتح القاف وحفص بضم التاء وفتح السين مخففة وكسر القاف والباقون بفتح التاء(2/421)
وتشديد السين مفتوحة وفتح القاف.
تنبيه: الباء في بجذع زائدة والمعنى هزّي إليك جذع النخلة كما في قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم} (البقرة، 195)
قال الفراء: تقول العرب: هزه وهزيه وخذ الخطام وخذ بالخطام وزوجتك فلانة وبفلانة، وقال الأخفش: يجوز أن يكون على معنى هزي إليك رطباً بجذع النخلة أي: على جذعها ورطباً تمييز وجنياً صفته والرطب اسم جنس بخلاف تخم فإنه جمع لتخمة والفرق: أنهم التزموا تذكيره فقالوا: هو الرطب وتأنيث ذلك فقالوا: هي التخم فذكروا الرطب باعتبار الجنس وأنثوا التخم باعتبار الجمعية، قال ابن عادل: وهو فرق لطيف والرطب ما قطع قبل يبسه وجفافه وخص الرطب بالذكر قال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل وهذه الأفعال الخارقة للعادة كرامات لمريم أو إرهاص لعيسى، وفي ذلك تنبيه على أنّ من قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء قدر أن يحبلها من غير فحل وتطييب لنفسها فلذلك قال:
{فكلي} أي: من الرطب {واشربي} من السري أو كلي من الرطب واشربي من عصيره، {وقرّي عيناً} أي: وطيبي نفسك وارفضي عنها ما أحزنها، وقدّم الأكل على الشرب لأن حاجة النفساء إلى الرطب أشدّ من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال منها من الدم.
فإن قيل: إن مضرة الخوف أشدّ من مضرة الجوع والعطش لأن الخوف ألم الروح والجوع ألم البدن وألم الروح أقوى من ألم البدن، روي أنه أجيعت شاة فقدّم إليها علف وعندها ذئب فبقيت الشاة مدّة مديدة لا تتناول العلف مع جوعها خوفاً من الذئب، ثم كسر رجلها وقدم إليها العلف فتناولت العلف مع ألم البدن فدل ذلك على أن ألم الخوف أشدّ من ألم البدن، وإذا كان كذلك فلم قدّم ضرر الجوع والعطش على دفع ضرر الخوف؟
أجيب: بأنّ هذا الخوف كان قليلاً لأنّ بشارة جبريل عليه السلام كانت قد تقدّمت فما كانت تحتاج إلا إلى التذكير مرة أخرى، وقيل: قرّي عيناً بولدك عيسى وقيل: بالنوم فإنّ المهموم لا ينام، وقوله: {فإمّا} فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة {ترينّ} حذفت منه لام الفعل وعينه وألقيت حركتها على الراء وكسرت ياء الضمير لالتقاء الساكنين، {من البشر أحداً} ينكر عليك {فقولي} يا مريم لذلك المنكر جواباً له مع التأكيد تنبيهاً على البراءة لأن البريء يكون ساكناً لاطمئنانه والمرتاب يكثر كلامه وحلفه، {إني نذرت للرحمن} أي: الذي عمت رحمته {صوماً} أي: إمساكاً عن الكلام في شأنه وغيره مع الإناسي بدليل {فلن أكلم اليوم إنسياً} فإنّ كلامي يقبل الردّ والمجادلة، ولكن يتكلم عني المولود الذي كلامه لا يقبل الدفع وأمّا أنا فأنزه نفسي عن مجادلة السفهاء، قالوا: ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً فلا أكلم إلا الملائكة أو الخالق بالتسبيح والتقديس وسائر أنواع الذكر.
وقيل: صياماً لأنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم فعلى هذا كان ذكر الصوم دالاً على الصمت وهذا النوع من النذر كان جائزاً في شرعهم، وهل يجوز مثل هذا النذر في شرعنا؟ قال القفال: لعله يجوز لأنّ الاحتراز عن كلام الآدميين وتجريد الفكر بذكر الله تعالى قربة ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق وتعذيب النفس كنذر القيام في الشمس، وروي أنه دخل أبو بكر رضي الله عنه على امرأة قد نذرت أنها لا تتكلم فقال(2/422)
أبو بكر: إنّ الإسلام قد هدم هذا فتكلمي.
تنبيه: اختلفوا في أنها هل قالت لهم إني نذرت للرحمن صوماً؟ فقال قوم: إنها ما تكلمت معهم بذلك لأنها كانت مأمورة بأنها تأتي بهذا النذر فلو تكلمت معهم بعد ذلك لوقعت في المناقضة ولكنها سكتت وأشارت برأسها وقال آخرون: إنها ما نذرت في الحال بل صبرت حتى أتاها القوم فذكرت لهم أنها نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا بعد هذا الكلام
{فأتت} أي: فلما سمعت هذا الكلام اشتدّ قلبها وزال حزنها فأتت {به} أي: عيسى {قومها} وإن كان فيهم قوّة المحاولة لكل ما يريدون إتيانه البرئ الموقن بأنّ الله معه حالة كونها {تحمله} غير مبالية بأحد ولا مستحيية واختلفوا في أنها كيف أتت به؟ فقيل: ولدته ثم حلمته في الحال إلى قومها، وقيل: احتمل يوسف النجار مريم وابنها إلى غار ومكثت فيه أربعين يوماً حتى طهرت من نفاسها ثم حملته إلى قومها فكلمها في الطريق فقال يا أمّاه أبشري فإني عبد الله ومسيحه فلما دخلت على أهلها ومعها الصبيّ بكوا وحزنوا وكانوا أهل بيت صالحين قال الرازي وليس في القرآن ما يدل على التعيين ثم كأنه قيل فلما أتت به قومها ماذا قالوا لها فقيل {قالوا يا مريم} ما هذا الولد؟ لأنّ حالها في إتيانها به أمر عجيب {لقد جئت شيئاً فرياً} أي: عظيماً منكراً فيكون ذلك منهم على وجه الذمّ فهو من أفرى الجلد يقال أفريت الأديم إذا قطعته على جهة الإفساد لا من فريته يقال فريته قطعته على جهة الإصلاح ويدل على أنّ مرادهم الأوّل قولهم بعده
{يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء} أي: زانياً {وما كانت أمّك بغياً} أي: زانية فمن أين لك هذا الولد لأنّ هذا القول ظاهره التوبيخ وفي هارون هذا أربعة أقوال؛
أحدها: أنه رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح والمراد أنك كنت في الزهد كهارون فكيف صرت هكذا؟ وروي أنّ هارون هذا لما مات تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل تبركاً باسمه، سوى سائر الناس شبهوها به على معنى إنا ظننا أنك مثله في الصلاح وليس المراد منه الأخوّة في النسب كقوله تعالى: {إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين} (الإسراء، 27)
وروى المغيرة بن شعبة قال: لما قدمت نجران سألوني فقالوا: إنكم تقرؤون يا أخت هارون، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال: «إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم» قال ابن كثير وأخطأ محمد بن كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهارون نسباً فإنّ بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على من عنده أدنى علم وكأنه غرّه في أوّل التوراة أنّ مريم أخت موسى وهارون ضربت بالدف يوم نجى الله تعالى موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه وجنوده فاعتقد أنّ هذه هي تلك وهذا في غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح المتقدّم.
الثاني: أنه هارون أخو موسى لأنها كانت من نسله كما يقال التميمي يا أخا تميم وللهمداني يا أخا همدان أي: يا واحداً منهم.
الثالث: أنه كان فاسقاً في بني إسرائيل فنسبت إليه أي: شبهوها به.
الرابع: أنه كان لها أخ من أبيها يسمى هارون من صلحاء بني إسرائيل فعيرت به قال الرازي وهذا هو الأقرب لوجهين؛ الأول: أنّ الأصل في الكلام الحقيقة فيحمل الكلام على أخيها المسمى بهارون الثاني: أنها(2/423)
أضيفت إليه ووصف أبواها بالصلاح فحينئذٍ يصير التوبيخ أشدّ لأن من كان حال أبويه وأخيه بهذا الحال يكون صدور الذنب منه أفحش
{فأشارت إليه} أي: لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إلى عيسى عليه السلام أنه هو الذي يجيبكم قال ابن مسعود لما لم يكن لها حجة أشارت إليه ليكون كلامه حجة لها وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا وقالوا سخريتها بنا أشدّ من زناها ثم {قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} لم يبلغ سنّ هذا الكلام الذي لا يقوله إلا الأكابر العقلاء بل الأنبياء والتعبير بكان يدل على أنه عند الإشارة إليه لم يحوجهم إلا أن يكلموه بل حين سمع المحاورة ورأى الإشارة بدا منه قول خارق لعادة الرضعاء بل الصبيان روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابة يمينه وقيل: كلمهم ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان
تنبيه: في كان هذه أقوال أحدها: إنها زائدة وهو قول أبي عبيد أي: كيف نكلم من في المهد وصبياً على هذا نصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع صلة.
ثانيها: أنها تامّة بمعنى حدث ووجدوا والتقدير كيف نكلم من وجد صبياً؟ وصبياً حال من الضمير في كان قال الرازي وهذا هو الأقرب.
الثالث: أنها بمعنى صار أي: كيف نكلم من صار في المهد صبياً وصبياً على هذا خبرها، فإن قيل: كيف عرفت مريم من حال عيسى أنه يتكلم؟ أجيب: بأنّ جبريل أو عيسى عليه السلام لما ناداها من تحتها أن لا تحزني وأمرها عند رؤية الناس بالسكوت صار ذلك كالتنبيه لها على أنّ المجيب هو عيسى عليه السلام أو لعلها عرفت ذلك بالوحي إلى زكريا أو إليها على سبيل الكرامة واختلفوا في المهد فقيل: هو حجرها لما روي أنها أخذته عليه السلام في خرقة فأتت به قومها فلما رأوها قالوا لها ما قالوا فأشارت إليه وهو في حجرها ولم يكن لها منزل بعد حتى يعد لها المهد وقيل: هو المهد بعينه والمعنى كيف نكلم صبياً سبيله أن ينام في المهد وقال وهب: أتى زكريا مريم عند مناظرتها اليهود فقال لعيسى: انطق بحجتك إن كنت أمرت بها فوصف نفسه بثمان صفات الصفة الأولى:
{قال إني عبد الله} أي: الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لا أتعبد لغيره وفي ذلك إشارة إلى أنّ عبد الله لا يتخذ إلهاً من دونه ولا يستعبده شيطان ولا هوى.
الصفة الثانية: قوله تعالى {آتاني الكتاب} واختلف في ذلك الكتاب فقال بعضهم هو التوراة لأنّ الألف واللام في الكتاب تنصرف للمعهود والكتاب المعهود لهم هو التوراة وقال أبو مسلم هو الإنجيل لأنّ الألف واللام ههنا للجنس وقال قوم التوراة والإنجيل لأنّ الألف واللام تفيد الاستغراق واقتصر البيضاوي على الأوّل والبقاعي على الثالث وزاد عليه والزبور وغيرها من الصحف.
الصفة الثالثة: قوله {وجعلني نبيا} واختلف في معنى ذلك فقيل معناه سيؤتيني الكتاب ويجعلني نبياً وأتى بلفظ الماضي بجعل المحقق وقوعه كالواقع كما في قوله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} (النحل، 1)
وقيل: هو إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ كما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم متى كنت نبياً قال كنت وآدم بين الروح والجسد وقال الأكثرون أوتي الإنجيل وهو صغير طفل وكان يعقل عقل الرجال وقال الحسن أُلهم التوراة وهو في بطن أمه. الصفة الرابعة قوله:
{وجعلني مباركاً} بأنواع البركات(2/424)
{أينما} أي في أي مكان {كنت} وذكروا في تفسير المبارك وجوها.
أحدها: أنّ البركة في اللغة هي الثبات وأصله من بروك البعير ومعناه وجعلني ثابتاً على دين الله تعالى مستمرّاً عليه.
ثانيها: إنما كان مباركاً لأنه كان يعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى طريق الحق فإن ضلوا فمن قبل أنفسهم لا من قبله، روى الحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: سلمت أم عيسى عيسى إلى الكتاب فقالت للمعلم أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له المعلم اكتب فقال: أيّ شيء أكتب؟ فقال: اكتب أبجد، فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال هل تدري ما أبجد؟ فعلاه بالدرّة ليضربه فقال: يا مؤّدب لا تضربني إن كنت لا تدري فاسألني فإنني أعلمك؛ الألف من آلاء الله والباء من بهائه والجيم من جماله والدال من أداء الحق إلى الله تعالى» .
ثالثها: البركة الزيادة والعلوّ فكأنه قال: جعلني في جميع الأحوال منجحاً مفلحاً لأني ما دمت أتقي الله في الدنيا أكون مستعلياً على الغير بالحجة فإذا جاء الوقت المعلوم أكرمني الله تعالى بالرفع إلى السماء.
رابعها: مباركاً على الناس من حيث يحصل بسبب دعائه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وعن قتادة أنّ امرأة رأته وهو يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص فقالت طوبى لبطن حملك وثدي أرضعت به فقال عيسى مجيباً لها طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يكن جباراً شقياً
تنبيه: قوله: أينما كنت يدل على أنّ حاله لم يتغير كما قيل أنه عاد إلى حال الصغر وزوال التكليف.
الصفة الخامسة قوله: {وأوصاني بالصلاة} له طهرة للنفس {والزكاة} طهرة للمال فعلاً في نفسي وأمراً لغيري {ما دمت حيا} ليكون ذلك حجة على من ادّعى أنه إله لأنه لا شبهة في أنّ من يصلي إلى إله ليس بإلاه.
فإن قيل: كيف يؤمر بالصلاة والزكاة مع أنه كان طفلاً والقلم مرفوع عن الصغير لقوله صلى الله عليه وسلم «رفع القلم عن ثلاث» الحديث. أجيب بوجهين؛ الأوّل: أنّ ذلك لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل بعد البلوغ فيكون المعنى أوصاني بأدائهما في وقت وجوبهما عليّ وهو وقت البلوغ، الثاني: أنّ عيسى لما انفصل صيره الله بالغاً عاقلاً تامّ الخلقة ويدل عليه قوله تعالى: {إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم} (آل عمران، 59)
فكما أنه تعالى خلقه آدم تاماً كاملاً دفعة فكذا القول في عيس عليه السلام، قال الرازي: وهذا أقرب إلى ظاهر اللفظ لقوله ما دمت حياً فهذ يفيد أن هذا التكليف متوجه عليه جميع زمان حياته.
فإن قيل: لو كان الأمر كذلك لكان القوم حين رأوه رأوا شخصاً كامل الأعضاء تام الخلقة وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجباً فكان ينبغي أن لا يتعجبوا.
أجيب: بأنه تعالى جعله مع صغر جثته قويّ التركيب كامل العقل بحيث كان يمكنه أداء الصلاة والزكاة والآية والة على أن تكليفه لم يتغير حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل.
الصفة السادسة قوله:
{وبرّا} أي: وجعلني بارا ولما كان السياق لبراءة والدته قال: {بوالدتي} أي: التي أكرمها الله تعالى بإحصان الفرج والحمل بي من غير ذكر وفي ذلك إشارة إلى تنزيه أمّه عن الزنا إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأموراً بتعظيمها.
الصفة السابعة: قوله: {ولم يجعلني جباراً} متعاظماً {شقياً} أي: عاصياً بأن أفعل فعل الجبارين بغير استحقاق إنما أفعل ذلك بمن يستحق وروي عن عيسى عليه السلام أنه قال قلبي لين وإني ضعيف في نفسي وعن بعض العلماء(2/425)
لا أجد العاق إلا جباراً شقياً ولا أجد سي الملكية إلا مختالاً فخوراً وتلا وما ملكت أيمانكم أنّ الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً الصفة الثامنة: قوله:
{والسلام} من الله {عليّ} فلا يقدر أحد على ضرّى {يوم ولدت} فلا يضرني شيطان {ويوم أموت} فلا يضرني أيضاً ومن يولد ويموت فليس بإلاه {ويوم أبعث حياً} يوم القيامة كما تقدم في يحيى عليه السلام وفي ذلك إشارة إلى أنه في البشرية مثله سواء لم يفارقه أصلاً إلا في كونه من غير ذكر وإذا كان جنس السلام عليه كان اتباعه كذلك ولم يبق لأعدائه إلا اللعن، ونظيره قول موسى عليه السلام {والسلام على من اتبع الهدى} (طه، 47)
بمعنى أنّ العذاب على من كذب وتولى
{ذلك} أي: الذي تقدّم نعته بقوله: {إني عبد الله} إلى آخره هو {عيسى بن مريم} لا ما يصفه النصارى بقولهم أنه الله أو ابنه أو إله ثالث فهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ والطريق البرهاني حيث جعل الموصوف بأضداد ما يصفونه وفي ذلك تنصيص على أنه ابن هذه المرأة وقوله تعالى: {قول الحق} قرأ عاصم وابن عامر بنصب اللام على أنه مصدر مؤكد والباقون بالرفع على أنه خبر محذوف أي: هو قول الحق الذي لا ريب فيه والإضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة ثم عجب تعالى من ضلالهم فيه بقوله تعالى {الذي فيه يمترون} أي: يشكون شكاً يتكلفونه ويجادلون فيه فتقول اليهود ساحر وتقول النصارى ابن الله مع أنّ أمه امرأة في غاية الوضوح ليس موضعاً للشك أصلاً ثم دل على كونه حقاً في كونه ابناً لأمّه مريم لا غيرها بقوله رداً على من ضلّ
{ما كان} أي: ما صح ولا يتأتى ولا يتصوّر في العقول ولا يصح ولا يأتي لأنه من المحال لكونه يلزم منه الحاجة {لله} الغني عن كل شيء {أن يتخذ من ولد} وأكده بمن لأنّ المقام يقتضي النفي العام، ولما كان اتخاذ الولد من النقائص أشار إلى ذلك بالتنزيه العام بقوله تعالى: {سبحانه} أي: تنزه عن كل نقص أي: من احتياج إلى ولد أو غيره ثم علل ذلك بقوله عز وجل {إذا قضى أمراً} أي: أيّ أمر كان أي: أراد أن يحدثه {فإنما يقول له كن} أي: يريده ويعلق قدرته به وقوله تعالى: {فيكون} قرأه ابن عامر بنصب النون بتقدير أن أو على الجواب والباقون بالرفع بتقدير هو وقوله:
{وإنّ الله ربي وربكم} إخبار عن عيسى عليه السلام أنه قال ذلك وقرأ ابن عامر والكوفيون بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بفتحها بتقدير حذف حرف الجرّ متعلق بما بعده والتقدير ولأنّ الله ربي وربكم {فاعبدوه} وحده لتفرده بالإحسان كما أعبده كقوله تعالى: {وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} (الحجر، 18) ، والمعنى لوحدانيته أطيعوه وقيل: إنه عطف على الصلاة والتقدير وأوصاني بالصلاة وبأنّ الله وإليه ذهب الفراء {هذا} أي: الذي أمرتكم به {صراط} أي: طريق {مستقيم} أي: يقود إلى الجنة وقرأ قنبل بالسين وخلف بإشمام الصاد والباقون بالصاد الخالصة، واختلف في قوله تعالى:
{فاختلف الأحزاب من بينهم} فقيل هم النصارى واختلافهم في عيسى أهو ابن الله أو إله معه أو ثالث ثلاثة وسموا أحزاباً لأنهم تحزبوا ثلاث فرق في أمر عيسى النسطورية والملكانية واليعقوبية، وقيل: هم اليهود والنصارى فجعله بعضهم ولداً وبعضهم كذاباً، وقيل: هم الكفار الشامل لليهود والنصارى وغيرهم من الذين كانوا في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم قال(2/426)
ابن عادل: وهذا هو الظاهر لأنه لا تخصيص فيه ويؤيده قوله تعالى: {فويل للذين كفروا} أي: شدّة عذاب لهم {من مشهد يوم عظيم} أي: حضور يوم القيامة وأهواله وقوله تعالى:
{أسمع بهم وأبصر} أي: بهم، صيغتا تعجب بمعنى ما أسمعهم وما أبصرهم {يوم يأتوننا} في الآخرة لأنّ حالهم في شدّة السمع والبصر جديرة بأن يتعجب منها فيندمون حيث لا ينفعهم الندم ويتمنون المحال من الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا فلا يجابون إلى ذلك بل يسلك بهم في كل ما يؤذيهم ويهلكهم ويرديهم وقوله تعالى: {لكن الظالمون} من إقامة الظاهر مقام المضمر إشعاراً بأنهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر والأصل ولكنهم {اليوم} أي: في الدنيا {في ضلال مبين} أي: بين بذلك الضلال صموا عن سماع الحق وعموا عن إبصاره أي: اعجب منهم يا مخاطب في سمعهم وإبصارهم في الآخرة بعد أن كانوا في الدنيا صماً وعمياً، وقيل: معناه التهديد بما سيسمعونه وسيبصرون ما يسوءهم ويصدع قلوبهم ثم إنّ الله تعالى أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن ينذر قومه بقوله:
{وأنذرهم} أي: خوّفهم {يوم الحسرة} هو يوم القيامة يتحسر فيه المسيء على ترك الإحسان والمحسن على عدم الازدياد من الإحسان لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من أحد يموت إلا ندم قالوا وما ندمه يا رسول الله قال إن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون نزع» وفي قوله تعالى: {إذ قضى الأمر} وجوه:
أحدها: إذ قضى الأمر ببيان الدلائل وشرح أمر الثواب والعقاب.
ثانيها: إذ قضى الأمر يوم الحسرة بفناء الدنيا وزوال التكليف.
ثالثها: قضى الأمر فرغ من الحساب وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وذبح الموت كما روى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: {إذ قضي الأمر} فقال: «حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح وأهل النار غماً إلى غم» وقوله تعالى: {وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} جملتان حاليتان وفيهما قولان؛ أحدهما: أنهما حالان من الضمير المستتر في قوله في ضلال مبين أي: استقرّوا في ضلال مبين على هاتين الحالتين السيئتين، والثاني: أنهما حالان من مفعول أنذرهم أي: أنذرهم على هذه الحالة وما بعدها وعلى الأوّل يكون قوله وأنذرهم اعتراضاً والمعنى وهم في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة وهم لا يصدّقون بذلك اليوم ولما كان الإرث هو حوز الشيء بعد موت أهله وكان سبحانه وتعالى قد قضى بموت الخلائق أجمعين وأنه تعالى يبقى وحده عبّر عن ذلك بالإرث مقرّراً به مضمون الكلام السابق فقال مؤكداً تكذيباً لقولهم: إنّ الدهر لا يزال هكذا حياة لناس وموت لآخرين
{إنّا نحن} بعظمتنا التي اقتضت ذلك {نرث الأرض} فلا ندع بها شيئاً من عاقل ولا غيره ولما كان العاقل أقوى من غيره صرح به بعد دخوله فقال {ومن عليها} أي: من العقلاء بأن نسلبهم جميع ما في أيديهم {وإلينا} لا إلى غيرنا {يرجعون} فنجازيهم بأعمالهم.
القصة الثالثة: قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
{واذكر في الكتاب إبراهيم} أي: خبره وقرأ هشام إبراهام بألف بعد الهاء والباقون بالياء وإنما أمر الله تعالى نبيه بالذكر لذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ما كان هو ولا قومه ولا أهل بلده مشتغلين بالتعليم ومطالعة الكتب فإذا أخبر(2/427)
عن هذه القصة كما كانت من غير زيادة ولا نقصان كان ذلك إخباراً عن الغيب ومعجزاً باهراً دالاً على نبوّته، وإنما ذكر الاعتبار بقصة إبراهيم عليه السلام لوجوه:
الأوّل: أنّ منكري التوحيد والذين أثبتوا توحيداً ومعبوداً سوى الله تعالى فريقان منهم من أثبت معبوداً غير الله تعالى حياً عاقلاً وهم النصارى، ومنهم من أثبت معبوداً غير الله تعالى جماداً ليس بحيّ ولا عاقل وهم عبدة الأوثان والفريقان وإن اشتركا في الضلال، إلا أنّ ضلال عبدة الأوثان أعظم فلما بين الله تعالى ضلال الفريق الأوّل تكلم في ضلال الفريق الثاني وهم عبدة الأوثان.
الثاني: أنّ إبراهيم عليه السلام كان أبا العرب وكانوا مقرّين بعلوّ شأنه وطهارة دينه على ما قال تعالى أبيكم إبراهيم، وقال تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} (البقرة، 130)
فكأنه تعالى قال للعرب: إن كنتم مقلدين لأبيكم على قولكم: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} (الزخرف، 22)
فأشرف آبائكم وأعلاهم قدراً هو إبراهيم عليه السلام فقلدوه في ترك عبادة الأصنام والأوثان، وإن كنتم مستدلين فانظروا في هذه الدلائل التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لتعرفوا فساد عبادة الأوثان وبالجملة فاتبعوا إبراهيم إمّا تقليداً وإمّا استدلالاً.
الثالث: أنّ كثيراً من الكفار في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون نترك دين آبائنا وأجدادنا فذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وهو أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل ورجح متابعة الدليل على متابعة أبيه ثم قال تعالى في صفة إبراهيم {إنه كان} جبلةً وطبعاً {صدّيقاً} أي: بليغ الصدق في نفسه في أقواله وأفعاله أي: كان من أوّل وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصيانة وسيأتي الكلام على قوله: {بل فعله كبيرهم هذا} (الأنبياء، 63)
{وإني سقيم} (الصافات، 89)
في محله ولما كانت مرتبة النبوّة أرفع من مرتبة الصدّيقية قال تعالى: {نبيا} أي: استنبأه الله تعالى:
إذ لا رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه وبين عباده وقوله تعالى {إذ قال} بدل من إبراهيم وما بينهما اعتراض أو متعلق بكان أو بصدّيقاً نبياً أي: كان جامعاً لخصائص الصدّيقين والأنبياء حين قال {لأبيه} آزر هادياً له من تيه الضلال بعبادة الأصنام مستعطفاً له في كل جملة بقوله: {يا أبت} والتاء عوض عن ياء الإضافة ولا يجمع بينهما وقرأ ابن عامر بفتح التاء في الوصل والباقون بكسرها وأمّا الوقف فوقف ابن كثير وابن عامر بالهاء والباقون بالتاء، ثم إنّ الله تعالى حكى عنه أيضاً: أنه تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام النوع الأوّل قوله: {لم تعبد} مريداً بالاستفهام المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل في نصحه له كاشفاً الأمر غاية الكشف بقوله: {ما لا يسمع ولا يبصر} أي: ليس عنده قابلية لشيء من هذين الوصفين ليرى ما أنت فيه من خدمته أو يجيبك إذا ناديته حالاً أو مآلاً {ولا يغني عنك شيئاً} في جلب نفع ودفع ضرّ فوصف الأوثان بصفات ثلاث كل واحدة منها قادحة في الآلهية وبيان ذلك من وجوه:
أحدها: أنّ العبادة غاية التعظيم فلا تستحق إلا لمن له غاية الإنعام وهو الإله الذي منه أصول النعم وفروعها على ما تقرّر في تفسير قوله: {وإنّ الله ربي وربكم} (مريم، 36)
وكما أنه لا يجوز الاشتغال بشكر ما لم تكن منعمة وجب أن لا يجوز الاشتغال بعبادتها.
وثانيها: أنها إذا لم تسمع ولا تبصر ولا تميز من يطيعها عمن يعصيها فأيّ فائدة في عبادتها؟ وهذا تنبيه على أنّ الإله يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات.(2/428)
وثالثها: أنّ الدعاء مخ العبادة فإذا لم يسمع الوثن دعاء الداعي فأيّ منفعة في عبادته وإذا لم يبصر تقرّب من يتقرّب إليه فأيّ منفعة في ذلك التقرّب.
ورابعها: أنّ السامع المبصر الضارّ النافع أفضل ممن كان عارياً عن كل ذلك والإنسان موصوف بهذه الصفات فيكون أفضل وأكمل من الوثن فكيف يليق بالأفضل عبودية الأخس.
وخامسها: إن كانت لا تنفع ولا تضر فلا يرجى بها منفعة ولا يخاف من ضررها فأيّ فائدة في عبادتها؟.
وسادسها: إذا كانت لا تحفظ نفسها عن الكسر والإفساد حين جعلها إبراهيم عليه السلام جذاذاً فأي رجاء فيها للغير؟ فكأنه عليه السلام قال: ليست الإلهية إلا لرب يسمع ويبصر ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه، النوع الثاني: قوله:
{يا أبت إني قد جاءني} من المعبود الحق {من العلم ما لم يأتك} منه {فاتّبعني} أي: فتسبب من ذلك أني أقول لك وجوباً عليّ للنهي عن المنكر ونصيحة لمالك عليّ من الحق اجتهد في تبعي {أهدك صراطاً} أي: طريقاً {سوياً} أي: مستقيماً كما أني لو كنت معك في طريق محسوس وأخبرتك أنّ أمامنا مهلكاً لا ينجو منه أحد وأمرتك أن تسلك مكاناً غير ذلك لأطعتني ولو عصيتني فيه عدّك كل أحد غاوياً.
النوع الثالث: قوله:
{يا أبت لا تعبد الشيطان} فإنّ الأصنام ليس لها دعوة أصلاً والله تعالى قد حرّم عبادة غيره مطلقاً على لسان كل وليّ فتعين أن يكون الآمر بذلك الشيطان فكأنه هو المعبود بعبادتها في الحقيقة ثم علل هذا النهي بقوله {أنّ الشيطان} البعيد من كل خير المحترق باللعنة {كان للرحمن عصياً} بالقوّة من حين خلق وبالفعل من حين أمره بالسجود لأبيك آدم عليه السلام فأبى فهو عدوّ لله وله والمطيع للعاصي لشيء عاص لذلك الشيء لأنّ صديق العدوّ عدوّ.
فإن قيل: هذا القول يتوقف على إثبات أمور؛ أحدها: إثبات الصانع، وثانيها: إثبات الشيطان، وثالثها: أنّ الشيطان عاص، ورابعها: أنه لما كان عاصياً لم تجز طاعته، وخامسها: أن الاعتقاد الذي كان عليه آزر مستفاد من طاعة الشيطان ومن شأن الدلالة التي تورد على الشخص أن تكون مركبة من مقدّمات معلومة ليسلمها الخصم ولعلّ إبراهيم كان منازعاً في هذه المقدّمات وكيف والمحكي عنه أنه ما كان يثبت إلهاً سوى نمروذ فكيف يسلم وجود الرحمن وإذا لم يسلم وجوده فكيف يسلم أنّ الشيطان عاص للرحمن وبتقدير تسليم ذلك فكيف يسلم الخصم بمجرّد هذا الكلام أنّ مذهبه مقتبس من الشيطان بل لعله يغلب ذلك على خصمه؟ وأجيب: بأنّ الحجة المعوّل عليها في إبطال مذهب آزر هو قوله: {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئاً} وهذا الكلام جرى مجرى التخويف والتحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدلالة فيسقط السؤال. النوع الرابع قوله:
{يا أبت إني أخاف} لمحبتي لك وعزتي عليك {أن يمسك عذاب} أي: كائن {من الرحمن} الذي هو مولى كل من تولاه لعصيانك إياه {فتكون} أي: فتسبب عن ذلك أن تكون {للشيطان ولياً} أي: ناصراً وقريناً في النار ولما دعا إبراهيم عليه السلام أباه إلى التوحيد وذكر الدلائل على فساد عبادة الأوثان وأردف تلك الدلائل بالوعظ البليغ وأورد كل ذلك مقروناً بالرفق واللطف قابله أبوه بجواب يضاد ذلك فقابل حجته بالتقليد فإنه لم يذكر في مقابلة حجته إلا أن
n
{قال أراغب أنت عن آلهتي} بإضافتها إلى نفسه(2/429)
فقط إشارة إلى مبالغته في تعظيمها والرغبة عن الشيء تركه عمداً فأصر على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً وقابل قوله بالرفق يا أبت بالعنف حيث لم يقل يا بنيّ بل قال {يا إبراهيم} وقابل وعظه بالسفاهة حيث هدده بالضرب والشتم بقوله مقسماً {لئن لم تنته} عما أنت عليه {لأرجمنك} أي: لأقتلنك أو لأرجمنك بالحجارة حتى تموت أو تبعد عني أو بالكلام القبيح فاحذرني {واهجرني} أي: بعد عني بالمفارقة من الدار والبلد وهي كهجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أي: تباعد عني {ملياً} أي: دهراً طويلاً لكي لا أراك، وقيل: اهجرني بالقول ولا تخاطبني دهراً طويلاً لأجل ما صدر منك من هذا الكلام وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتأسية فيما كان يلقى من الأذى ويقاسي من قومه من العناد ومن عمه أبي لهب من الشدائد بأعظم آبائه وأقربهم به شبهاً، فلما سمع إبراهيم عليه السلام كلام أبيه أجاب بأمرين أحدهما أن
{قال} له مقابلاً لما كان منه من طيش الجهل بما يحق لمثله من رزانة العقل والعلم {سلام عليك} توديع ومتاركة أي: سلمت مني لا أصيبك بمكروه ما لم أؤمر فيك بشيء فإنه لم يؤمر بقتاله على كفره كقوله: {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص، 55)
{وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} (الفرقان، 63)
وهذا يدل على جواز متاركة المنصوح إذا ظهر منه اللجاج وعلى أنه يحسن مقابلة الإساءة بالإحسان ويجوز أن يكون دعاء له بالسلامة استمالة، ألا ترى أنه وعده بالاستغفار فيكون سلام برّ ولطف وهو جواب الحليم للسفيه كقوله تعالى: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} (الفرقان، 63)
ثم استأنف قوله: {سأستغفر لك ربي} أي: المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للإسلام {إنه كان بي حفياً} أي: مبالغاً في إكرامي مرّة بعد مرّة وكرّة في إثر كرّة وقد وفىّ بوعده بقوله المذكور في الشعراء: {واغفر لأبي} (الشعراء، 86)
وهذا قبل أن يتبين له أنه عدوّ لله كما ذكره في براءة، وثانيهما: أنه قال له انقياداً لأمر أبيه
{وأعتزلكم} أي: جميعاً بترك بلادكم وأشار إلى أنّ من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة في الشدائد بقوله {وما تدعون} أي: تعبدون {من دون الله} الذي له الكمال كله فمن أقبل عليه وحده أصاب ومن أقبل على غيره ولو طرفة عين فقد خاب وخسر {وأدعو} أي: أعبد {ربي} وحده لاستحقاقه ذلك مني ولم يقيد الاعتزال بزمن بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم ثم دعا لنفسه بما ينبههم به على خسة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالاً لربه وهضماً لنفسه {عسى أن لا أكون بدعاء ربي} المنفرد بالإحسان إليّ {شقياً} أي: كما شقيتم بعبادة الأصنام فإنها لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضرّكم ولما رأى من أبيه ومعاشرته ما رأى عزم على غربة مشقة النوى مختاراً للغربة في البلاد على غربة الأضداد فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي:
*وما غربة الإنسان في شقة النوى
... ولكنها والله في عدم الشكل
*وإني غريب بين بست وأهلها
... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وحقق ما عزم عليه فبين سبحانه وتعالى تحقيق رجائه وإجابة دعائه فقال:
{فلما اعتزلهم} أي: بالهجرة إلى الأرض المقدّسة {وما يعبدون من دون الله} لم يضرّه ذلك ديناً ولا دنيا بل نفعه(2/430)
وعوّضه الله أولاداً كما قال تعالى {وهبنا له} كما هو الشأن في كل من ترك شيئاً لله {إسحاق} ولداً له لصلبه من زوجته العاقر العقيم بعد تجاوزها سنّ اليأس وأخذه هو في السنّ إلى حد لا يولد لمثله {ويعقوب} ولداً لإسحاق وخصهما بالذكر للزومهما محل إقامته وقيامهما بعد موته بخلافته فيه وأمّا إسماعيل عليه السلام فكان الله سبحانه وتعالى هو المتولي لتربيته بعد نقله رضيعاً إلى المسجد الحرام وإحيائه تلك المشاعر العظام فأفرده بالذكر جاعلاً له أصلاً برأسه بقوله بعد {واذكر في الكتاب إسماعيل} فترك ذكره مع إسحاق الذي هو أخوه لذلك ثم صرح بما وهب لأولاده جزاءً على هجرته بقوله تعالى: {وكلاً} أي: منهما {جعلنا نبياً} عالي المقدار ويخبر بالأخبار العظيمة كما جعلنا إبراهيم عليه السلام نبياً
{ووهبنا لهم} كلهم {من رحمتنا} أي: شيئاً منها عظيماً من النسل الطاهر والذرّية الطيبة وإجابة الدعاء واللطف في القضاء والبركة في المال والأولاد وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة {وجعلنا لهم لسان صدق علياً} وهو الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهو العطية واستجاب الله تعالى دعوته في قوله تعالى: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء، 84)
فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم فقال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} (الحج، 87)
وقد اجتمعت فيه خصال لم تجتمع في غيره أوّلها أنه اعتزل عن الخلق على ما قال {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله} فلا جرم بارك الله له في أولاده فقال: {ووهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبياً} . ثانيها: أنه تبرأ من أبيه كما قال عز وجل {فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرّأ منه} (التوبة، 114)
لا جرم سماه الله أبا المسلمين فقال: ملة أبيكم إبراهيم ثالثها: تلّ ولده للجبين ليذبحه في الله على ما قال تعالى: {وتله للجبين} (الصافات، 103)
لا جرم فداه الله تعالى على ما قال {وفديناه بذبح عظيم} (الصافات، 107)
. رابعها: أسلم نفسه فقال: {أسلمت لرب العالمين} فجعل الله تعالى النار برداً وسلاماً عليه فقال: {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} (الأنبياء، 69)
خامسها: أشفق على هذه الأمّة فقال: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} (البقرة، 129)
لا جرم أشركه الله تعالى في الصلوات في قوله: {كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم} سادسها: وفي حق سارة في قوله تعالى: {وإبراهيم الذي وفى} (النجم، 37)
لا جرم جعل موطئ قدميه مباركاً {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} (البقرة، 125)
سابعها: عادى كل الخلق في الله فقال فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين فاتخذه الله خليلاً كما قال: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} (النساء، 125)
ليعلم صحة قولنا ما خير على الله أحداً.
القصة الرابعة قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى
{واذكر في الكتاب} أي: الذي لا كتاب مثله في الكمال {موسى} أي: الذي أنقذ الله به بني إسرائيل من العبودية ثم إنّ الله تعالى وصفه بأمور أحدها قوله تعالى: {إنه كان مخلصاً} قرأه عاصم وحمزة والكسائي بفتح اللام أي: مختاراً اختاره الله تعالى واصطفاه وقيل أخلصه الله تعالى من الدنس والباقون بالكسر أي: أخلص التوحيد لله والعبادة ومتى ورد القرآن بقراءتين فكل منهما ثابت مقطوع به فجعل الله تعالى من صفة موسى عليه السلام كلا الأمرين. ثانيها: قوله تعالى: {وكان رسولاً} إلى بني إسرائيل والقبط {نبياً} ينبئه الله بما يريد من وحيه لينبئ به المرسل إليهم فيرتفع بذلك قدره فلذلك صرح بها بعد دخولها في الرسالة ضمناً إذ كل رسول نبيّ وليس(2/431)
كل نبيّ رسولاً خلافاً للمعتزلة فإنهم زعموا كونهما متلازمين فكل رسول نبيّ وكل نبيّ رسول وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة الحج عند قوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ} (الحج، 52)
ثالثها: قوله تعالى:
{وناديناه} أي: بما لنا من العظمة {من جانب الطور} هو اسم جبل {الأيمن} أي: الذي يلي يمين موسى حين أقبل من مدين فأنبأناه هناك حين كان متوجهاً إلى مصر بأنه رسولنا ثم واعدناه إليه بعد إغراق آل فرعون فكان لبني إسرائيل به من العجائب في رحمتهم بإنزال الكتاب والإلذاذ بالخطاب من جوف السحاب وفي إماتتهم لما طلبوا الرؤية ثم إحيائهم وغير ذلك ما يجل عن الوصف. رابعها: قوله تعالى {وقرّبناه} بما لنا من العظمة تقريب تشريف حالة كونه {نجياً} نخبره من أمرنا بلا واسطة من النجوى وهي السر والكلام بين اثنين كالسر وقيل قرب مكان أي: مكانا عالياً، عن أبي العالية أنه قرب حتى سمع صرير القلم حيث يكتب التوراة في الألواح وقيل أنجيناه من أعدائه، خامسها: قوله تعالى:
{ووهبنا له} أي: هبة تليق بعظمتنا {من رحمتنا} أي: من أجل رحمتنا أو بعض رحمتنا {أخاه} أي: معاضدة أخيه وموازرته لا شخصه وإخوته وذلك إجابة لدعوته {واجعل لي وزيراً من أهلي هارون} (طه: 29، 30)
فإنه كان أسن من موسى
تنبيه: أخاه مفعول أو بدل على تقدير أن تكون من للتبعيض وقوله: {هارون} عطف بيان وقوله {نبياً} حال منه هي المقصودة بالهبة.
القصة الخامسة: قصة إسماعيل عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
{واذكر في الكتاب إسماعيل} بن إبراهيم عليهما السلام الذين هم معترفون بنبوّته ومفتخرون برسالته وأبوّته فلزم من ذلك فساد تعليلهم إنكار نبوّتك بأنك من البشر ثم إنّ الله تعالى وصف إسماعيل بأمور:
أوّلها: قوله تعالى: {إنه كان} أي: جبلة وطبعاً {صادق الوعد} في حق الله وفي حق غيره لمعونة الله له على ذلك بسبب أنه لا يعد وعداً إلا مقروناً بالاستثناء كما قال لأبيه حين أخبره بأمر ذبحه: {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} (الصافات، 102)
وخصه بالمدح به وإن كان الأنبياء كلهم كذلك لقصة الذبح فلا يلزم منه تفضيله مطلقاً وروي عن ابن عباس أنه وعد صاحباً له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة وروي أنّ عيسى عليه السلام قال له رجل انتظرني حتى آتيك فقال عليه السلام نعم وانطلق الرجل ونسي الميعاد فجاء إلى حاجته إلى ذلك المكان وعيسى عليه السلام هناك للميعاد، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه واعد رجلاً ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى غروب الشمس» وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاداً إلى أيّ وقت ينتظره؟ قال: فإن واعده نهاراً فكل النهار وإن واعده ليلاً فكل الليل، وسئل إبراهيم بن زيد عن ذلك فقال: إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت صلاة أخرى.
ثانيها: قوله تعالى: {وكان رسولاً نبياً} قد مرّ تفسيره. وثالثها: قوله تعالى:
{وكان يأمر أهله بالصلاة} أي: التي هي طهرة البدن وقرّة العين وخير العون على جميع المآرب {والزكاة} أي: التي هي طهرة المال كما أوصى الله تعالى بذلك جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمراد بالأهل قومه، وقيل: أهله جميع أمته كان رسولاً إلى جرهم قاله الأصفهاني وإلى أهل تلك البراري بدين أبيه إبراهيم والمراد بالصلاة قال ابن عباس: يريد التي افترضها الله تعالى عليهم قال(2/432)
البغوي وهي الحنيفية التي افترضت علينا قيل كان يبدأ بأهله في الأمر بالعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم كما قال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (الشعراء، 214)
{وأمر أهلك بالصلاة} (طه، 132)
{قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} (التحريم، 6)
وبالزكاة قال ابن عباس إنها طاعة الله والإخلاص فكأنه تأوّله على ما يزكو به الفاعل عند ربه تعالى والظاهر كما قال ابن عادل إنّ الزكاة إذا قرنت بالصلاة أن يراد بها الصدقات الواجبة.
رابعها: قوله تعالى: {وكان عند ربه} بعبادته على حسب ما أمره به {مرضياً} وهذا في نهاية المدح لأنّ المرضي عند الله هو الفائز في كل طاعة بأعلى الدرجات فاقتد أنت به فإنه من أجلّ آبائك لتجمع بين طهارة القول والبدن والمال فتنال رتبة الرضا.
القصة السادسة: قصة إدريس عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
{واذكر في الكتاب} أي: الجامع لكل ما يحتاج إليه حتى ما يحتاج إليه من قصص المتقدّمين والمتأخرين {إدريس} وهو جدّ أبي نوح عليه السلام قيل: سمي إدريس لكثرة دراسته الكتب واسمه أحنوخ بمهملة ونون وآخره خاء معجمة وصفه الله تعالى بأمور أحدها: وثانيها: قوله تعالى: {إنه كان صدّيقاً نبياً} أي: صادقاً في أفعاله وأقواله ومصدّقاً بما آتاه الله من آياته وعلى ألسنة الملائكة، ثالثها: قوله تعالى:
{ورفعناه مكاناً علياً} وفيه قولان:
أحدهما: أنه من رفع المنزلة كقوله تعالى للنبيّ صلى الله عليه وسلم {ورفعنا لك ذكرك} (الإنشراح، 40)
فإنّ الله تعالى شرّفه بالنبوّة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وهو أوّل من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب وأوّل من خاط الثياب ولبسها وكانوا من قبله يلبسون الجلود وأوّل من اتخذ السلاح وقاتل الكفار.
وثانيهما: أنه من رفعة المكان ثم اختلفوا فقال بعضهم: رفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة وهي التي رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم بها ليلة الإسراء وقيل: إلى الجنة وهو حيّ لا يموت وقالوا أربعة من الأنبياء أحياء اثنان في الأرض الخضر وإلياس واثنان في السماء عيسى وإدريس وقال وهب كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه فعجبت منه الملائكة واشتاق له ملك الموت فاستأذن ربه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم وكان إدريس يصوم الدهر فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس وقال له الليلة الثالثة: إني أريد أن أعلم من أنت، قال أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك فقال: لي إليك حاجة قال ما هي قال تقبض روحي فأوحى الله تعالى إليه أن اقبض روحه، فقبض روحه وردّها إليه بعد ساعة، فقال له ملك الموت: ما الفائدة في سؤالك قبض الروح؟ قال لأذوق كرب الموت وغمته فأكون أشدّ استعداد له، ثم قال له إدريس: إنّ لي إليك حاجة أخرى، قال: وما هي قال ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجنة والنار فأذن الله تعالى له في ذلك فرفعه فلما قرب من النار قال: لي إليك حاجة، قال: وما تريد؟ قال: تسأل مالكاً أن يفتح أبوابها فأردها، ففعل ثم قال: كما أريتني النار فأرني الجنة فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتح أبوابها فأدخله الجنة ثم قال له ملك الموت اخرج لتعود إلى مكانك فتعلق بشجرة وقال ما أخرج منها فبعث الله تعالى ملكاً حكماً بينهما، فقال له الملك: ما لك لا تخرج؟ قال: إنّ الله تعالى قال: {كل نفس ذائقة الموت} (آل عمران، 185)
وقد(2/433)
ذقته، وقال: {وإن منكم إلا واردها} (مريم، 71)
وقد وردتها وقال: {وما هم منها بمخرجين} (الحجر، 48)
فلست أخرج فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بإذني دخل الجنة وبإذني لا يخرج فهو حيّ هناك، وقال آخرون: بل رفع إلى السماء وقبض روحه.
وقال كعب الأحبار: إنّ إدريس سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال يا رب إني مشيت يوماً فكيف يمشي من يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهمّ خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرّها ما لا يعرفه فقال: يا رب خففت عني حرّ الشمس فما الذي قضيت فيه؟ فقال تعالى: إنّ عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرّها فأجبته قال يا رب اجعل بيني وبينه خلة، فأذن له حتى أتى إدريس فكان إدريس يسأله فكان مما سأله أن قال له: إني أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي ليؤخر أجلي فازداد شكراً وعبادة، فقال الملك: لا يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها وأنا مكلمه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس ثم أتى ملك الموت فقال لي حاجة إليك لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله فقال ليس ذلك إليّ ولكن إن أحببت أعلمته أجله فيقدّم لنفسه قال نعم فنظر في ديوانه فقال: إنك كلمتني في إنسان ما أراه يموت أبداً، قال: وكيف ذلك؟ قال: لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس، قال: إني أتيتك وتركته هناك، قال: فانطلق فلا أراك تجده إلا وقد مات فو الله ما بقي من أجل إدريس شيء فرجع الملك فوجده ميتاً. ولما انقضى كشف هذه الأخبار العلية المقدار الجليلة الأسرار شرع سبحانه وتعالى ينسب أهلها بأشرف نسبهم ويذكر المنن بينهم، فقال عز من قائل:
{أولئك} أي: العالو الرتبة الشرفاء النسب المذكورون في هذه السورة من لدن زكريا إلى إدريس وهو مبتدأ وقوله {الذين أنعم الله عليهم} بما خصهم به من مزيد القرب إليه وعظيم المنزلة لديه صفة له وقوله تعالى {من النبيين} أي: المصطفين بالنبوّة الذين أنبأهم الله تعالى بدقائق الحكم ورفع محالهم بين الأمم بيان لهم وهو في معنى الصفة وما بعده إلى جملة الشرط صفة للنبيين فقوله: {من ذرية آدم} أي: إدريس لقربه منه لأنه جدّ أبي نوح {وممن حملنا مع نوح} في السفينة أي: إبراهيم ابن ابنه سام {ومن ذرية إبراهيم} أي: إسماعيل وإسحاق ويعقوب {و} من ذرية {إسرائيل} وهو يعقوب أي: موسى وهارون وزكريا ويحيى وكذا عيسى لأنّ مريم من ذريته {وممن هدينا} إلى أقوم الطرق {واجتبينا} للنبوّة والكرامة أي: من جملتهم. وخبر أولئك {إذا تتلى عليهم} من أيّ: تالٍ كان {آيات الرحمن خرّوا سجداً} للمنعم عليهم تقرّباً إليه لما لهم من البصائر النيرة في ذكر نعمه عليهم وإحسانه إليهم {وبكياً} خوفاً منه وشوقاً إليه فكونوا مثلهم
تنبيه: سجداً حال مقدرة قال الزجاج لأنهم وقت الخرور ليسوا سجداً وهو جمع ساجد وبكيا جمع باك وليس بقياس بل قياس جمعه على فعلة كقاض وقضاة ولم يسمع فيه هذا الأصل وأصل بكيا بكوياً قلبت الواو ياء والضمة كسرة، واختلف في هذا السجود فقال بعضهم: إنه الصلاة وقال بعضهم: سجود التلاوة على حسب ما تعبدوا به. قال الرازي: ثم يحتمل أن يكون المراد سجود القرآن ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا قد تعبدوا بسجود فيفعلون ذلك لأجل ذكر السجود في الآية انتهى.
وروى ابن(2/434)
ماجه وغيره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» وعن صالح المزني قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: يا صالح هذه القراءة فأين البكاء؟ وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما غرغرت عين بماء إلا حرّم الله تعالى على النار جسدها» وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن القرآن نزل محزناً فإذا قرأتموه فتحازنوا» وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا يلج النار من بكى من خشية الله» .
وقال العلماء: يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بآيتها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال: اللهمّ اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المتكبرين عن أمرك، وإذا قرأ سجدة سبحان قال اللهم اجعلني من الباكين إليك الآسفين لك، وإن قرأ هذه قال: اللهمّ اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الباكين عند تلاوة آيات كتابك وقرأ حمزة والكسائي بكيا بكسر الباء والباقون بضمها ولما وصف سبحانه وتعالى هؤلاء الأنبياء بصفة المدح ترغيباً لنا في التأسي بهم ذكر بعدهم من هو بالضدّ منهم فقال:
{فخلف من بعدهم} أي: في بعض الزمان الذي بعد هؤلاء الأصفياء سريعاً {خلف} في غاية الرداءة من أولادهم يقال خلفه إذا عقبه خلف سوء بإسكان اللام والخلف بفتح اللام الصالح كما قالوا وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر وفي الحديث: «في الله خلف من كل هالك» وفي الشعر:
*ذهب الذي يعاش في أكنافهم
... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وقال السدي: أراد بهم اليهود ومن لحق بهم وقال قتادة: في {أضاعوا الصلاة} تركوا الصلاة المفروضة، وقال ابن مسعود وإبراهيم: أخروها عن وقتها، وقال سعيد بن المسيب: هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر ولا يصلي العصر حتى تغرب الشمس. {واتبعوا الشهوات} أي: المعاصي قال ابن عباس: هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمور واستحلوا نكاح الأخت من الأب، وقال مجاهد: هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة {فسوف يلقون غياً} وهو كما قال وهب وابن عباس: واد في جهنم بعيد قعره تستعيذ منه أوديتها كما رواه الحاكم وصححه، وقيل: هو الخسران وقيل هو الشر كقول القائل:
*فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره
... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما
على الغيّ متعلق بلائماً وقيل: يلقون جزاء الغي كقوله يلق أثاماً أي: مجازاة الآثام
تنبيه: قوله تعالى: يلقون ليس معناه يرون فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية. ولما أخبر تعالى عن هؤلاء بالخيبة فتح لهم باب التوبة وحداهم إلى غسل هذه الحوبة بقوله:
{إلا من تاب} أي: مما هو عليه من الضلال وبادر بالأعمال وحافظ على الصلوات وكف نفسه عن الشهوات {وآمن} بما أخذ عليه به العهد {وعمل} بعد إيمانه تصديقاً له {صالحاً} من الصلوات والزكوات وغيرها {فأولئك} العالو الهمم الطاهرو الشيم {يدخلون الجنة} التي وعد المتقون {ولا يظلمون} من ظالم ما {شيئاً} من أعمالهم. فإن قيل: الاستثناء دل على أنه لا بدّ من التوبة والإيمان والعمل(2/435)
الصالح وليس الأمر كذلك لأنّ من تاب عن كفره ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضاً فإنه لا يجب عليهم الصلاة والزكاة أيضاً غير واجبة وكذلك الصوم فهذا لو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر منه عمل فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح؟ أجيب بأنّ هذه الصورة نادرة والأحكام إنما تناط بالأعمّ الأغلب
تنبيه: في هذا الاستثناء وجهان قال ابن عادل أظهرهما: أنه متصل وقال الزجاج: هو منقطع وهذا بناءً منه على أنّ المضيع للصلاة من الكفار ووافق الزجاج الجلال المحلي. ولما ذكر تعالى في التائب أنه يدخل الجنة وصفها بأمور أحدها قوله تعالى:
{جنات عدن} أي: إقامة لا يظعن عنها بوجه من الوجوه وصفها بالدوام على خلاف وصف الجنان في الدنيا التي لا تدوم ثم بيّن تعالى أنها {التي وعد الرحمن عباده} الذين هو أرحم بهم وقوله {بالغيب} فيه وجهان؛ أحدهما: أنّ الباء حالية وفي صاحب الحال احتمالان؛ أحدهما: ضمير الجنة وهو عائد الموصول أي: وعدها وهي غائبة عنهم لا يشاهدونها، والثاني: عباده أي: وهم غائبون عنها لا يرونها إنما آمنوا بها بمجرّد الأخبار منه. والوجه الثاني: أنّ الباء سببية أي: بسبب تصديق الغيب وسبب الإيمان به ولما كان من شأن الوعود الغائبة على ما يتعارفه الناس بينهم احتمال عدم الوقوع بيّن أنّ وعده ليس كذلك بقوله تعالى: {إنه كان} أي: كوناً هو سنة ماضية {وعده مأتياً} أي: مقصوداً بالفعل فلا بدّ من وقوعه فهو كقوله إن كان وعد ربنا لمفعولا ثانيها قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً} وهو فضول الكلام وما لا طائل تحته وفيه تنبيه ظاهر على تجنب اللغو واتقائه حيث نزه الله تعالى عنه الدار الآخرة التي لا تكليف فيها، وقد مدح الله تعالى أقواماً بقوله: {وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً} (الفرقان، 72)
{وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص، 55)
نعوذ بالله من اللغو والجهل والخوض فيما لا يعنينا وقوله تعالى: {إلا سلاما} استثناء منقطع أي: ولكن يسمعون قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة أو سلاماً من الله أو من الملائكة أو من بعضهم على بعض ويجوز أن يراد باللغو مطلق الكلام قال في القاموس لغا لغواً تكلم، فيكون الاستثناء متصلاً أي: لا يسمعون فيها كلاماً إلا كلاماً يدل على السلامة أو سلاماً من الله أو من الملائكة أو من بعضهم على بعض.
ثالثها: قوله تعالى: {ولهم رزقهم فيها} أي: على ما يتمنونه ويشتهونه على وجه لا بدّ من إتيانه ولا كلفة عليهم فيه ولا منة عليهم به {بكرةً وعشياً} أي: على قدرهما في الدنيا وليس في الجنة نهار ولا ليل بل ضوء ونور أبداً وقيل: إنهم يعرفون النهار برفع الحجب والليل بإرخائها، فإن قيل: المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بأحوال مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرةً وعشياً ليس من الأمور المستعظمة أجيب بوجهين؛ الأوّل: قال الحسن: أراد الله تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة ولبس الحرير التي كانت عادة العجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرّة وكانت عادة أشراف اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك الثاني أنّ المراد دوام الرزق تقول أنا عند فلان صباحاً ومساءً وبكرةً وعشياً تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين، وقيل: المراد رفاهية العيش وسعة الرزق أي: لهم رزقهم(2/436)
متى شاؤوا، ولما باينت بهذه الأوصاف دار الباطل أشار إلى علوّ رتبتها وما هو سببها بقوله تعالى:
{تلك الجنة} بأداة البعد لعلو قدرها وعظم أمرها {التي نورث من عبادنا} أي: نعطي عطاء الإرث الذي لا كدّ فيه ولا استرجاع وتبقى له الجنة كما يبقى للوارث مال الموروث وقيل تنقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم فجعل النقل إرثاً قاله الحسن {من كان تقياً} أي: المتقين من عباده.
فإن قيل: الفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك الوصف فلا يدخلها؟.
أجيب: بأن الآية تدل على أن الجنة يدخلها المتقي وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها وأيضاً صاحب الكبيرة متق عن الكفر ومن صدق عليه أنه متق عن الكفر فقد صدق عليه أنه متق وإذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنه متق وجب أن يدخل الجنة فدلالة الآية على أنّ صاحب الكبيرة يدخلها أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها. واختلف في سبب نزول قول جبريل للنبيّ صلى الله عليه وسلم
{وما نتنزل إلا بأمر ربك} فقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا» فنزلت الآية وقال مجاهد: أبطأ الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال لعلى أبطأت قال: قد فعلت، قال: ولم لا أفعل وأنتم لا تتسوّكون ولا تقصون أظفاركم ولا تنقون براجمكم وقال وما نتنزل إلا بأمر ربك فنزلت وقال قتادة والكلبي احتبس جبريل عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح وسبب سؤالهم عن ذلك ما روي «أنّ قريشاً بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهل يجدونه في كتابهم وسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه وقالت اليهود نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن اليمامة عن ثلاث فلم يعرف فسلوه عنهنّ فإن أخبركم عن خصلتين فاتبعوه فسألوه عن قصة أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فلم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم غداً ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً وقيل خمسة عشر يوماً فشقّ ذلك عليه مشقة عظيمة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم أبطأت حتى ساء ظني واشتقت إليك، قال إني إليك أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فنزلت هذه الآية وأنزل قوله تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (الكهف، 23)
وسورة الضحى» فإن قيل: قوله: {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً} كلام الله وقوله: وما نتنزل إلا بأمر ربك كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل؟ أجيب: بأنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كقوله تعالى: {إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} (البقرة، 117)
وهذا كلام الله تعالى ثم عطف عليه قوله: {وأنّ الله ربي وربكم فاعبدوه} (مريم، 36)
ثم علل جبريل قوله ذلك بقوله: {له ما بين أيدينا} أي: أمامنا من أمور الآخرة {وما خلفنا} أي: من أمور الدنيا {وما بين ذلك} أي: ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة أي: له علم ذلك جميعه وقيل: ما بين ذلك ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة وقيل ما بين أيدينا ما بقي من الدنيا وما خلفنا ما مضى منها وما بين ذلك مدّة حياتنا وقيل: ما بين أيدينا بعد أن نموت(2/437)
وما خلفنا قبل أن نخلق وما بين ذلك مدّة الحياة وقيل: ما بين أيدينا الأرض إذا أردنا النزول إليها وما خلفنا السماء وما ينزل منها وما بين ذلك الهواء يريد أنّ ذلك كله لله فلا نقدر على شيء إلا بأمره {وما كان ربك} المحسن إليك {نسياً} بمعنى ناسيا أي: تاركاً لك بتأخير الوحي عنك لقوله تعالى: {ما ودّعك ربك وما قلى} (الضحى، 3)
أي: وما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به وما كان ذلك عن ترك الله تعالى لك وتوديعه إياك ثم استدل على ذلك بقوله:
{رب السموات والأرض وما بينهما} فلا يجوز عليه النسيان إذ لا بدّ أن يمسكهما حالاً بعد حال وإلا لبطل الأمر فيهما وفيمن يتصرّف، والآية دالة على أنّ الله تعالى رب لكل شيء حصل بينهما ففعل العبد مخلوق له تعالى لأنّ فعل العبد حاصل بين السماء والأرض
تنبيه: يجوز في رب أن يكون بدلاً من ربك وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي: هو رب وقوله تعالى {فاعبده واصطبر لعبادته} خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم مرتب على ما تقدّم أي: لما عرفت أنّ ربك لا ينساك فاعبده بالمراقبة الدائمة على ما ينبغي من مثلك واصطبر عليها ولا تتشوش بإبطاء الوحي وهزء الكفار بك.
فإن قيل: لم لم يقل واصطبر على عبادته لأنها صلته فكان حقه تعديه بعلى؟ أجيب: بأنه ضمن معنى الثبات لأنّ العبادة ذات تكاليف قلّ من يثبت لها فكأنه قيل اثبت لها مصطبراً كقولك للمحارب اصبر لقرنك ثم علل ذلك بقوله: {هل تعلم له سمياً} قال ابن عباس: هل تعلم له مثلاً أي: نظيراً فيما يقتضي العبادة والذي يقتضيها كون منعماً بأصول النعم وفروعها وهي خلق الأجسام والحياة والعقل وغيرها، فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه وتعالى وإذا كان قد أنعم عليك بغاية الإنعام وجب أن تعظمه بغاية التعظيم وهي العبادة.
وقال الكلبي هل تعلم أحداً تسمى الله غيره فإنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله تعالى على شيء. ولما أمر تعالى بالعبادة والمصابرة عليها فكأنّ سائلاً سأل وقال هذه العبادة.
لا منفعة فيها في الدنيا وأمّا في الآخرة فقد أنكرها بعضهم فلا بدّ من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى يظهر أنّ الاشتغال بالعبادة يفيد فلهذا حكى الله سبحانه وتعالى قول منكري الحشر فقال تعالى:
{ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً} قال الكلبيّ: نزلت في أبيّ بن خلف حين أخذ عظاماً بالية فتتها بيديه ويقول زعم لكم محمد أنا نبعث بعدما نموت وقيل: نزلت في أبي جهل، وقيل: المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث ثم إنّ الله تعالى أقام الدليل على صحة البعث بقوله:
{أولا يذكر الإنسان} أي: المجترئ بهذا الإنكار على ربه {أنّا خلقناه من قبل} أي: من قبل جدله {ولم يك شيئاً} أصلاً وأنا بمقتضى ذلك قادرون على إعادته فلا ينكر ذلك قال بعض العلماء لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار ما قدروا عليه إذ لا شك أن الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أوّلاً. ونظيره قوله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة} (يس، 79)
وقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} (الروم، 27)
وهو أهون عليه وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بسكون الذال وضم الكاف مخففة والباقون بفتح الذال مشدّدة وكذا الكاف.
فإن قيل: كيف أمر الله الإنسان بالتذكر مع أنّ التذكر هو العلم بما علمه من قبل ثم تخللهما سهو؟ أجيب: بأنّ المراد أولاً يتفكر فيعلم خصوصاً(2/438)
إذا قرئ أولا يذكر مشدّداً، أمّا إذا قرئ مخففاً فالمراد أولاً يعلم ذلك من حال نفسه لأنّ كل أحد يعلم أنه لم يكن حياً في الدنيا ثم صار حياً. ثم إنه تعالى لما قرّر المطلوب بالدليل أردفه بالتهديد من وجوه أوّلها قوله تعالى:
{فوربك} أي: المحسن إليك بالانتقام منهم {لنحشرنهم} بعد البعث {والشياطين} الذين يضلونهم بأن نحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة وفائدة القسم أمران:
أحدهما: أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين والثاني: في إقسام الله باسمه مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تفخيم لشأنه ورفع منه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله تعالى: {فورب السماء والأرض أنه لحق} (الذاريات، 23)
والواو في والشياطين يجوز أن تكون للعطف وبمعنى مع وهو أولى. ثانيها: قوله تعالى {ثم لنحضرنهم} بعد طول الوقوف {حول جهنم} من خارجها ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله تعالى منها وخلصهم فيزدادوا لذلك غبطة إلى غبطتهم وسروراً إلى سرورهم ويشمتوا بأعداء الله وأعدائهم فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغبطهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم وقوله تعالى {جثياً} حال مقدرة من مفعول لنحضرنهم وهو جمع جاث جمع على فعول نحو قاعد وقعود وجالس وجلوس وأصله جثوو بواوين أو جثوى من جثاً يجثو ويجثى لغتان.
فإن قيل: هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى: {وترى كل أمّة جاثية} (الجاثية، 28)
ولأنّ العادة جارية بأنّ الناس في مواقف مطالبات الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من القلق أو لما يدهمهم من شدّة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم، وإذا كان هذا حاصلاً للكل فكيف يدل على مزيد ذل الكفار؟ أجيب: بأنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور على هذه الحالة وذلك يوجب مزيد ذلهم وقرأ حفص وحمزة والكسائي جثياً وعتياً وصلياً بكسر أوّلها والباقون بضمه ثالثها: قوله تعالى:
{ثم لننزعنّ} أي: لنأخذن أخذاً بشدّة وعنف {من كل شيعة} أي: فرقة مرتبطة بمذهب واحد {أيهم أشدّ على الرحمن} الذي غمرهم بالإحسان {عتياً} أي: تكبراً مجاوزاً للحدّ والمعنى أنّ الله تعالى يحضرهم أوّلاً حول جهنم ثم يميز البعض من البعض فمن كان أشدّهم تمرّداً في كفره خص بعذاب عظيم لأنّ عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره وليس عذاب من يتمرّد ويتجبر كعذاب المقلد ففائدة هذا التمييز التخصيص بشدّة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب، ولذلك قال تعالى في جميعهم:
{ثم لنحن أعلم} من كل عالم {بالذين هم} بظواهرهم وبواطنهم {أولى بها} أي: بجهنم {صلياً} أي: دخولاً واحتراقاً فنبدأ بهم ولا يقال أولى إلا مع اشتراكهم وأصله صلوى من صلى بكسر اللام وفتحها
تنبيه: في إعراب أيهم أشدّ أقوال كثيرة أظهرها عند جمهور المعربين وهو مذهب سيبويه أن أيهم موصولة بمعنى الذي وإن حركتها حركة بناء بنيت عند سيبويه لخروجها عن النظائر وأشدّ خبر مبتدأ مضمر والجملة صلة لأيهم وأيهم وصلتها في محل نصب مفعول بها، ولأيّ أحوال أربعة ذكرتها في شرح القطر. ولما كانوا بهذا الإعلام المؤكد بالإقسام من ذي الجلال والإكرام جديرين بإصغاء الأفهام إلى ما توجه إليها من الكلام التفت إلى مقام الخطاب إفهاماً للعموم فقال تعالى:
{وإن} أي: وما {منكم} أيها الناس أحد {إلا واردها(2/439)
كان} ذلك الورود {على ربك} الموجد لك المحسن إليك {حتماً مقضياً} أي: حتمه وقضى به لا يتركه والورود موافاة المكان فاختلفوا في معنى الورود هنا. فقال ابن عباس والأكثرون: الورود ههنا هو الدخول والكناية راجعة إلى النار وقالوا يدخلها البرّ والفاجر ثم ينجي الله المتقين فيخرجهم منها ويدل على أنّ الورود هو الدخول قوله تعالى: {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار} (هود، 98)
وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنّ نافع بن الأزرق مارى ابن عباس في الورود فقال ابن عباس: هو الدخول وقال نافع ليس الورود الدخول، فتلا ابن عباس {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} (الأنبياء، 98)
أدخلها هؤلاء أم لا؟ ثم قال: يا نافع أما والله أنا وأنت سنردها وأنا أرجو أن يخرجني الله منها وما أرى الله يخرجك منها بتكذيبك، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى:
{ثم ننجي الذين اتقوا} أي: الكفر منها ولا يجوز أن يقول ثم ننجي الذين اتقوا {ونذر الظالمين} بالكفر {فيها جثياً} على الركب ألا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول روي أنّ عبد الله بن رواحة قال أخبر الله تعالى عن الورود ولم يخبر بالصدر فقال صلى الله عليه وسلم «يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا» فدلّ على أنّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول ولم ينكر عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك وعن جابر أنه سأل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الورود الدخول ولا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً حتى أنّ للنار ضجيجاً من بردها» ولأنّ حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله تعالى محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأجزاء المؤمنين يجعلها برداً وسلاماً كما في حق إبراهيم عليه السلام وكما أنّ الملائكة الموكلين بها لا يجدون ألمها وكما في الكوز الواحد من الماء كان يشربه القبطي فيكون دماً ويشربه الإسرائيلي فيكون ماء عذباً.
وعن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وقال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا أن نرد النار فيقال لهم قد وردتموها وهي خامدة» وخامدة بخاء معجمة أي: ساكنة وروي بالجيم أي: باردة ولا بدّ من ذلك في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين.
فإن قيل: فإذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم فما الفائدة في ذلك الدخول؟ أجيب بوجوه؛ أحدها: أنّ ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منها.
ثانيها: أنّ فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها.
ثالثها: أنّ فيه مزيد غم على أهل النار حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين.
رابعها: أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة، وقيل: المراد بالذين يردونها من تقدّم ذكرهم من الكفار فكنى عنهم أوّلاً كناية الغيبةثم خاطب خطاب المشافهة وعلى هذا القول فلا يدخل النار مؤمن واستدل له بقوله تعالى: {إنّ الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها} (الأنبياء: 101، 102)
والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها بقوله تعالى: {وهم من فزع يومئذٍ آمنون} (النمل، 89)
وروي عن مجاهد من حمّ من المؤمنين فقد وردها وفي الخبر الحمى كير من جهنم وهي حظ المؤمن(2/440)
من النار وفي رواية الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء وقوله من فيح جهنم أي: وهجها وحرّها وقال ابن مسعود وإن منكم إلا واردها يعني القيامة والكناية راجعة إليها قال البغوي والأوّل أصح وعليه أهل السنة وروي أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير وفي رواية من إيمان وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل يخرج من النار حبواً فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة قال فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول وجدتها ملأى فيقول الله: له اذهب فادخل الجنة فإنّ لك مثل الدنيا وعشر أمثالها فيقول له أتسخر بي وأنت الملك فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه» فكان يقال ذلك أدنى أهل الجنة منزلة قوله حتى بدت نواجذه أي: أنيابه وأضراسه وقيل: هي أعلى الأسنان.
وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمماً ثم تدركهم الرحمة قال فيخرجون فيطرحون على باب الجنة قال فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل الحمم الفحم والغثاء كل ما جاء به السيل» وقرأ الكسائي ننجي بسكون النون الثانية وتخفيف الجيم والباقون بفتح النون الثانية وتشديد الجيم ولما أقام تعالى الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث قال تعالى عطفاً على قوله ويقول الإنسان:
{وإذا تتلى عليهم} أي: الناس من المؤمنين والكفار من أيّ تال كان {آياتنا} أي: القرآن حال كونها {بينات} أي: واضحات وقيل مرتبات الألفاظ ملخصات المعاني وقيل: ظاهرات الإعجاز {قال الذين كفروا} بآيات ربهم البينة جهلاً منهم ونظراً إلى ظاهر الحياة الدنيا الذي هو مبلغهم من العلم {للذين آمنوا} أي: لأجلّهم أو مواجهة لهم إعراضاً عن الاستدلال بالآيات بالإقبال على هذه الشبهة الواهية وهي المفاخرة بالمكاثرة في الدنيا من قولهم {أي الفريقين} نحن بما لنا من الاتساع أم أنتم بما لكم من خشونة العيش ورثاثة الحال ولو كنتم أنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن من حالنا لأنّ الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في الذل وأعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة وإنما كان الأمر بالعكس فإنّ الكفار كانوا في النعمة والراحة والاستعلاء والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والقلة هذا حاصل شبهتهم والقائل ذلك هو النضر بن الحارث وذووه من قريش للذين آمنوا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويلبسون خير ثيابهم فقالوا للمؤمنين أيّ الفريقين {خير مقاماً} أي: موضع قيام أو إقامة على قراءة ابن كثير بضم الميم والباقون بفتحها ففي كلتا القراءتين يحتمل أن يكون اسم مصدر أو اسم مكان إما من قام ثلاثياً أو من أقام
تنبيه: قالوا زيد خير من عمرو وشر من بكر ولم يقولوا أخير منه ولا أشرّ منه لأنّ هاتين اللفظتين كثر استعمالهما فحذفت همزتاهما ولم يثبتا إلا في فعل التعجب فقالوا(2/441)
أخير بزيد وأشرر بعمرو وما أخير زيداً وما أشر عمراً، والعلة في إثباتهما في فعلي التعجب أنّ استعمال هذين اللفظين اسماً أكثر من استعمالهما فعلاً فحذفت الهمزة في موضع الكثرة وبقيت على أصلها في موضع القلة {وأحسن ندياً} أي: مجمعاً ومتحدثاً والنديّ المجلس يقال نديّ وناد والجمع الأندية منه {وتأتون في ناديكم المنكر} (العنكبوت، 29)
وقال تعالى: {فليدع ناديه} (العلق، 17)
ويقال ندوت القوم أندوهم إذا جمعتهم في مجلس ومنه دار الندوة وكانت تجمع القوم فجعلوا ذلك الامتحان بالإنعام والإحسان دليلاً على رضا الرحمن مع التكذيب والكفران وغفلوا عن أنّ في ذلك مع التكذيب بالبعث تكذيباً بما يشاهدون منا من القدرة على العقاب بإحلال النقم وسلب النعم ولو شئنا لأهلكناهم وسلبنا جميع ما يفتخرون به.
{وكم أهّلكنا قبلهم} ثم بيّن إبهام كم بقوله: {من قرن} شاهدوا ديارهم ورأوا آثارهم {هم} أي: أهل تلك القرون {أحسن} من هؤلاء {أثاثاً} أي: أمتعة {ورئياً} أي: ومنظراً فلو دلّ حصول نعم الدنيا للإنسان على كونه حبيب الله لوجب أن لا يصل إلى هؤلاء غمّ في الدنيا وقرأ قالون وابن ذكوان بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء وقفاً ووصلاً وإذا وقف حمزة أبدل الهمزة ياءً وله فيها الإدغام والإظهار
تنبيه: كم مفعول أهلكنا مقدّم واجب التقديم لأنّ له صدر الكلام لأنها إمّا استفهامية أو خبرية وهي محمولة على الاستفهامية أي: كثيراً من القرون أهلكنا ومن قرن تمييز لكم مبين لها وإنما سمى أهل كل عصر قرناً لأنهم يتقدّمون من بعدهم وقول البيضاوي وهم أحسن صفة لكم تبع فيه الزمخشريّ وغيره ورد بأن كم الاستفهامية والخبرية لا توصف ولا يوصف بها فهم أحسن في محل جر صفة لقرن وجمعه نظراً للمعنى لأنّ القرن مشتمل على أفراد كثيرة ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
{قل} لهؤلاء المبعدين ردّاً عليهم وقطعاً لمعاذيرهم وهتكاً لشبههم هذا الذي افتخرتم به لا يدل على حسن الحال في الآخرة بل على عكس ذلك فقد جرت عادته تعالى أنه {من كان في الضلالة} مثلكم كوناً راسخاً بسط له في الدنيا وطيب عيشه في ظاهر الحال فيها ونعم بأنواع الملاذ وقوله {فليمدد له الرحمن مدّاً} أمر بمعنى الخبر معناً فندعه في طغيانه ونمهله في كفره بالبسط في الآثار والسعة في الديار والطول في الأعمال وإنفاقها فيما يستلذ به من الأوزار ولا يزال يمدّ له استدراجاً {حتى إذا رأوا} أي: كل من كفر بأعينهم {ما يوعدون} من قبل الله {إمّا العذاب} في الدنيا بأيدي المؤمنين وغيرهم أو في البرزخ {وإما الساعة} أي: القيامة التي هم بها مكذبون وعن الاستعداد لها معرضون ولا شيء يشبه أهوالها وخزيها ونكالها {فسيعلمون} إذا رأوا ذلك {من هو شرّ مكاناً} أي: من جهة المكان الذي قوبل به المقام في قولهم خير مقاماً {وأضعف جنداً} أي: أقل ناصراً أهم أم المؤمنون أي: أضعف من جهة الجند أي: الذي أشير به إلى النديّ في قولهم وأحسن ندياً لأنهم في النار والمؤمنون في الجنة فهذا ردّأ عليهم في قولهم أيّ الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً
{ويزيد الله الذين اهتدوا} إلى الإيمان {هدى} بما ينزل عليهم من الآيات عوض ما زوى عنهم من الدنيا لكرامتهم عنده مما بسط للضلال لهوانهم عليه وأشار إلى أنّ مثل ما خذل أولئك بالنوال وفّق هؤلاء لمحاسن الأعمال بإقلال الأموال(2/442)
فقال عز من قائل {والباقيات الصالحات} أي: الطاعات والمعارف التي شرحت لها الصدور وأنارت بها القلوب وأوصلت إلى علام الغيوب {خير عند ربك} مما متع به الكفرة والخيرية هنا في مقابلة قولهم أي: الفريقين خير مقاماً وقيل: الباقيات الصالحات هي الصلوات وقيل: التسبيح روى أبو الدرداء قال: «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأخذ عوداً يابساً وأزال الورق عنه ثم قال: إنّ قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله تحط الخطايا كما يحط ورق هذه الشجرة الريح خذهنّ يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهنّ الباقيات الصالحات وهي من كنوز الجنة» فكان أبو الدرداء يقول: لأعملنّ ذلك ولأكثرنّ عمله حتى إذا رآني الجهال حسبوا أني مجنون. قال الرازي: والقول الأوّل أولى لأنه تعالى إنما وصفها بالباقيات الصالحات من حيث يدوم ثوابها فلا تختص ببعض العبادات فهي بأسرها باقية صالحة نظراً إلى أثرها الذي هو الهداية ثم بيّن تعالى خيريتها بقوله تعالى {ثواباً} أي: من جهة الثواب {وخيرٌ مرداً} أي: من جهة العاقبة يوم الحسرة.
فإن قيل: لا يجوز أن يقال هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره والذي عليه الكفار لا خير فيه أصلاً أجيب بأنّ المراد خير مما ظنه الكفار بقولهم خير مقاماً وأحسن ندياً، وقيل: هو كقولهم الصيف أحرّ من الشتاء بمعنى أنه في حرّه أبلغ منه في برده فالكفرة يردّون إلى فناء وخسارة والمؤمنون إلى ربح وبقاء.
ولما ذكر تعالى الدلائل أوّلاً على صحة البعث ثم أورد شبهة المنكرين وأجاب عنها أورد عليهم الآن ما ذكروه على سبيل الاستهزاء طعناً في القول بالحشر فقال تعالى:
{أفرأيت الذي} أي: الذي يعرض عن هذا اليوم ويزيد على ذلك بأن {كفر بآياتنا} الدالات على عظمتنا بالدلالات البينات {وقال} جرأة منه وجهلاً {لأوتينّ} أي: والله لأوتين في الساعة على تقدير قيامها {مالاً وولداً} أي: عظيمين فلم يكفه في جهله تعجيز القادر حتى ضم إليه إقدار العاجز وقرأ حمزة والكسائي وولداً وكذا ولداً في جميع ما في هذه السورة بضم الواو وسكون اللام والباقون بفتح الواو واللام في الجميع يقال ولد وولد كما يقال عرب وعرب وعدم وعدم أما القراءة بفتحتين فواضحة وهو اسم مفرد قائم مقام الجمع وأما قراءة الضم والإسكان فقيل: هي كالتي قبلها في المعنى وقيل: بل هي جمع لولد نحو أسد وأسد وأنشدوا على ذلك
*ولقد رأيت معاشراً ... قد أثمروا مالاً وولداً
وأنشدوا شاهداً على أنّ الولد والولد مترادفان قول الآخر
*فليت فلاناً كان في بطن أمه ... وليت فلاناً كان ولد حماره
ولما كان ما ادعاه لا علم به إلا بأحد أمرين لا علم له بواحد منهما أنكر قوله ذلك بقوله تعالى:
{أطلع الغيب} الذي هو غائب عن كل مخلوق فهو في بعد عن الخلق كالعالي الذي لا يمكن أحداً منهم الاطلاع إليه وتفرد به الواحد القهار {أم اتخذ} أي: بغاية جهده {عند الرحمن عهداً} عاهده عليه بأن يؤتيه ما ذكر بطاعة فعلها على وجهها ليقف سبحانه فيه عند قوله وقيل في العهد كلمة الشهادة، وعن قتادة هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول، وعن الكلبي هل عهد الله إليه أن يؤتيه ذلك وعن الحسن رحمه الله تعالى نزلت في الوليد بن المغيرة والمشهور(2/443)
أنها في العاص بن وائل قال خباب بن الأرت كان لي عليه دين فاقتضيته فقال: لا والله حتى تكفر بمحمد فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حياً ولا ميتاً ولا حين تبعث قال: فإني إذا مت بعثت قلت: نعم قال: إذا بعثت جئني وسيكون لي ثمّ مال وولد فأعطيك وقيل: صاغ له خباب حُلياً فاقتضاه الأجر فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأنّ في الجنة ذهباً وفضة وحريراً فأنا أقضيك ثم فإني أوتي مالاً وولداً فأعطيك حينئذٍ ثم إنه سبحانه وتعالى بيّن من حاله ضدّ ما ادعاه فقال تعالى:
{كلا} وهي كلمة ردع وتنبيه على الخطأ أي: هو مخطئ فيما يقول ويتمناه {سنكتب} أي: نحفظ عليه {ما يقول} فنجازيه به في الآخرة وقيل: نأمر الملائكة حتى يكتبوا عليه ما يقول {ونمدّ له من العذاب مدّاً} أي: نزيده بذلك عذاباً فوق عذاب كفره وقيل: نطيل مدّة عذابه
{ونرثه} بموته {ما يقول} أي: ما عنده من المال والولد {ويأتينا} يوم القيامة {فرداً} لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا فضلاً أن يؤتى ثمّ زائداً قال تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى} (الأنعام، 94)
وقيل: فرداً رافضاً لهذا القول منفرداً عنه ولما تكلم سبحانه وتعالى في مسألة الحشر والنشر تكلم الآن في الردّ على عباد الأصنام فقال:
{واتخذوا} أي: كفار قريش {من دون الله} أي: الأوثان {آلهة} يعبدونها {ليكونوا لهم عزاً} أي: منفعة بحيث يكونون لهم شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من الهلاك ثم أجاب تعالى بقوله تعالى:
{كلا} ردع وإنكار لتعززهم بها {سيكفرون بعبادتهم} أي: تستجحد الآلهة عبادتهم ويقولون ما عبدتمونا كقوله تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} (البقرة، 166)
وفي آية أخرى: {ما كانوا إيانا يعبدون} (القصص، 63)
وقيل: أراد بذلك الملائكة لأنهم كانوا يكفرون بعبادتهم ويتبرؤون منهم ويخصمونهم وهو المراد من قوله تعالى: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} (سبأ، 40)
وقيل: إنّ الله تعالى يحي الأصنام يوم القيامة حتى يوبخوا عبادهم ويتبرؤوا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم ويجوز أن يراد الملائكة والأصنام {ويكونون عليهم ضدّا} أي: أعواناً وأعداءً.
فإن قيل: لم وحده وهو خبر عن جمع؟ أجيب: بأنه إما مصدر في الأصل والمصادر موحدة مذكرة وإما لأنه مفرد في معنى الجمع قال الزمخشري: والضدّ العون وحد توحيد قوله عليه الصلاة والسلام: «وهم يد على من سواهم لاتفاق كلمتهم وأنهم كشيء واحد لفرط تضامّهم وتوافقهم» انتهى. والحديث رواه أبو داوود وغيره والشاهد فيه قوله يد حيث لم يقل أيد. ولما ذكر تعالى ما لهؤلاء الكفار مع آلهتهم في الآخرة ذكر بعده ما لهم مع الشياطين في الدنيا وأنهم يتولونهم وينقادون إليهم فقال تعالى مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم.
{ألم تر} أي: تنظر {أنّا أرسلنا} أي: سلطنا {الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً} الأز والهز والاستفزاز أخوات ومعناها التهييج وشدّة الإزعاج أن تغريهم على المعاصي وتهيجهم لها بالوساوس والتسويلات
{فلا تعجل عليهم} أي: تطلب عقوبتهم بأن يهلكوا ويبيدوا حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم {إنما نعدّ لهم عدّاً} أي: ليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة، ونظيره قوله تعالى: {ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ} (الأحقاف، 35)
وعن ابن عباس كان إذا قرأها بكى وقال آخر العدد خروج نفسك آخر العدد دخول قبرك آخر العدد فراق أهلك.
وعن(2/444)