تفسير قوله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى أو أجد على النار هدى)
بعد أن قرر الله جل وعلا هذا لنبيه ذكر له قصة الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وموسى بن عمران من أولي العزم من الرسل الذين تكررت قصصهم في القرآن في مواطن شتى سيأتي تفصيلها، لكننا هنا سنقف عند ما نحن معنيون به، قال الله جل وعلا لنبيه: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه:9]، (وهل): حرف استفهام، والمقصود به هنا: التشويق، حتى تكون أذن السامع متلهفة لما سيقال بعد، وموسى: هو موسى بن عمران.
قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:9 - 10]، هذا كان بعد عودة موسى عليه الصلاة والسلام من أرض مدين، فموسى عليه الصلاة والسلام كان قد خرج إلى أرض مدين -وهي تقع الآن شمال الجزيرة العربية شمال المملكة- بعد أن فر بسبب قتله للقبطي، فمكث في أرض مدين -كما سيأتي تفصيله في مواضع- عشر سنين، وبعد أن قضى هذه المدة أخبر العبد الصالح -وهو صهره أبو زوجته- أنه يريد أن يرجع، فأذن له بعد أن أتم له موسى الأجل.
وحينما رجع موسى عليه السلام من مدين -من الجزيرة- صار خليج العقبة عن يمينه، ثم رجع وأصبح خليج العقبة على يساره، ثم مشى موازياً للبحر حتى دخل على صحراء سيناء، حتى وصل إلى جبل الطور، وهنا نبئ، وعندما نبئ عليه الصلاة والسلام مشى بعد ذلك واستمر حتى قطع خليج السويس ودخل أرض مصر، وسنتكلم عن هذه المنطقة وعن الأحداث العظام التي حدثت في هذه المنطقة التي نبئ فيها موسى عليه الصلاة والسلام وأرسل فيها.
فالله جل وعلا يقول لنبيه: ((وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى))، أي: خبر موسى، ((إِذْ رَأَى نَارًا))، متى رأى النار؟ رأى النار في ليلة باردة مظلمة ومعه زوجته وغنمه، ((فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا))، لم يقل: إني رأيت، بل قال: إني آنست؛ لأنه كان يشعر بوحشة وخوف، فلما رأى النار شعر بشيء من الأنس، واحترازاً من الكذب قال عليه الصلاة والسلام: ((لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا))، لم يقل: سآتيكم منها، وهذا الاحتراز من الكذب قبل أن ينبأ حتى تعلم أن الله أعلم حيث يجعل رسالته، ((لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ))، القبس هو الجذوة من النار، أي: القطعة من النار، فالقطعة من النار تسمى جذوة، والقطعة من الليل تسمى: هجيعاً، وكل شيء منه قطعة له اسمه في اللغة، فالجذوة من النار والقطعة من النار إذا كانت ملتصقة بعود ولم تكن جمرة لوحدها فإنها تسمى قبساً، إذا أخذنا عود حطب من النار فيه نار مشتعلة فإنه يسمى قبساً ويسمى جذوة؛ لأنه قطعة من النار، وإذا كان على هيئة جمرة وليس عوداً كاملاً فإنها تسمى جمرة، قال الله تعالى في سورة أخرى: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل:7]، أي: نار مشتعلة، فهذه أمنية موسى الآن، وخوفاً على أهله قال: ((امْكُثُوا))، والعاقل كما يقولون بالعامية: ما يضع البيض في سلة واحدة، إذا كان هناك مهلكة يهلك هو وينجو أهله.
قال: ((أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى))، أي: أجد من يهديني ويدلني على الطريق الذي أضعته، لقد أتى موضع النار فرأى ناراً مشتعلة في شجرة عوسج على الأظهر، فرأى النار تزداد وقوداً والشجرة تزداد خضرة، وهو ما يتنافى في الأصل؛ لأن النار إذا كانت حارقة لم تبق الخضرة، وإذا كانت الخضرة ريانة فلن تبقي على النار، فلا تجتمعان، لكنه يرى النار تزداد نوراً ويرى الشجرة تزداد خضرة.
والنار ثلاثة أقسام: نار لا نور فيها وهي حارقة، وهي نار جهنم أعاذنا الله وإياكم منها.
ونار فيها نور وليست بحارقة، وهي النار التي رآها موسى عليه السلام.
ونار فيها نور أو لها نور وهي حارقة، وهي نار الدنيا، أي نار تشعلها فلها نور تضيء ما حولها وفي نفس الوقت تحرق من يضع يده فيها.(50/6)
تفسير قوله تعالى: (فلما أتاها نودي يا موسى إنك بالواد المقدس طوى)
قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:11 - 12] من الذي ناداه؟ إنه رب العزة جل جلاله، وهذا مقام عظيم ومنزل شريف وعطية قل ما تعدلها عطية إلا أن يرى العبد ربه ((فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى))، وقد كان في خوف فطمأنه الله ولم يطالبه بالتكليف، بل قال له: إني أنا ربك؛ ليشعره بالاطمئنان، والإنسان عندما يسمع رجلاً أقوى منه مديره أو أبوه أو أخوه يطمئنه أنه معه فيغشاه شيء من السكينة، فكيف إذا سمع عبد مخلوق في ليلة شاتية مظلمة رب العزة جل جلاله يناديه: إني أنا ربك، من غير واسطة.
((فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ))، والمقصود من خلع النعلين أمران: الأول: أن تمس موسى كله بركة الوادي، فلا يصبح هنا فاصل بين بركة هذا الوادي المقدس وبين جسد موسى، الأمر الثاني: أن يشعر موسى بالتواضع وعظمة الوقوف بين يدي رب العزة والجلال جل جلاله في مقام العبودية.
((إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى))، وانظر كيف يؤدب الله نبيه ويرعاه ويخبره بكل شيء؛ فأخبره بأنه ربه، وأخبره بأنه في واد مقدس اسمه: طوى، والإنسان إذا كان يجهل الأشياء التي حوله يصيبه الرعب، فأول شيء أعطاه الله لنبيه موسى أن عرفه بالأشياء التي حوله.
وقوله: ((بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى))، هذه شهادة من رب العباد لهذا الوادي بأنه واد مقدس قطعاً، ولو لم يكن وادياً مقدساً لما اختار الله تلك البقعة التي سماها في سورة أخرى: (بقعة مباركة) ليكلم فيها عبده وكليمه وصفيه موسى بن عمران.
وقوله: (طوى): بدل من الوادي المقدس، أي: اسم الوادي طوى.(50/7)
تفسير قوله تعالى: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى وأقم الصلاة لذكري)
قال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13]، لا يمكن أن نأتي بألفاظ تساعد أكثر من ألفاظ القرآن في بيان هذا الأمر العظيم، وهو أن الله ينادي عبداً من عباده لا منة له على الله ولا فضل، ولا يدري هو لأي شيء غادي، كان همه جذوة من النار، فعاد وهو كليم الواحد القهار، يقول له رب العزة في موقف عطاء وبذل كريم: ((وَأَنَا اخْتَرْتُكَ))، أي: اخترتك لعظائم الأمور للنبوة للرسالة لجلائل الطاعات، والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته إذ جعلها في هذا الكليم عليه السلام، وحينما قال الله له: ((وَأَنَا اخْتَرْتُكَ))، أصبح موسى مرهف السمع لربه، فقال له ربه: ((فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى))، (ما) موصولة أي: للذي يوحى، ولكن الله لم يعطه الأوامر والتكاليف إلا بعد أن أشعره بالأمان ورفعه إلى أعلى المنازل، وآواه أيما إيواء، وغرس في قلبه الترقي من رب العزة والجلال، وهي إحدى طرائق الوحي الثلاث؛ بل إنها أرفع طرائق الوحي الدنيوية.
ثم قال تعالى له: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، وقد ذكرنا مراراً أن هذه الآية من أعظم الأدلة على أن اسم الله الأعظم هو لفظ الجلالة: (الله)، ووجه الدلالة: أن الله جل وعلا لما أراد أن يعرف نفسه لعبده موسى قال له: ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ))، فاختار الرب جل وعلا هذا الاسم دون غيره من الأسماء الدالة عليه جل وعلا ليعرف به نفسه لكليمه موسى، ولا يلزم أن نجزم، لكن نقول: إشارة قوية وأمر فيه تلميح قوي إلى أن لفظ الجلالة (الله) من أعظم أسماء الله الحسنى إن لم يكن هو اسم الله الأعظم.
((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا))، وما دام قد تحقق لديك يا عبدنا أنه لا إله إلا أنا فوجب أن تصرف العبادة لي دون سواي، ولهذا قال الله له: ((فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي))، ومعلوم أنه لا يمكن أن يدعو موسى الناس لعبادة الله حتى يحقق العبودية في نفسه، فالرسول الذي يحمل هم أمر لا بد أن يكون مقتنعاً به أولاً، ولا يمكن للإنسان أن يحقق هدفاً هو غير مقتنع به، وعظائم الأمور وجلائل الهبات لا تنال إلا إذا انطلق الإنسان من خاصة نفسه يتصرف في السر كما يتصرف في العلانية، ويؤمن بقضيته في الملأ وفي الخلاء، أما إن كانت القضايا بالنسبة له يجلب من ورائها ديناراً أو درهماً فسيكون سيره في تلك القضية ضعيفاً إن لم تنكشف عورته وتظهر سوءته ما بين يوم وآخر، لكن الله وطن في قلوب أنبيائه محبته وإجلاله جل وعلا وعظمته، وحبهم وعبادتهم لربهم.
قال تعالى: ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي))، وفي هذا دلالة ظاهرة على أن الصلاة من أرفع العبادات، وقد اختلفوا في قوله جل شأنه: ((لِذِكْرِي))، هل اللام للتعليل أي: لإقامة ذكري، أو أن المعنى: على ذكري، بمعنى: في الوقت الذي أمرتك أن تذكرني فيه؟ وهذا المعنى قد جاء في حديث صحيح: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ثم تلا: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]).(50/8)
تفسير قوله تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها فتردى)
قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15]، أخذ الله جل وعلا يبين لموسى قضية الساعة، والساعة: هي الإذن بفناء الدنيا: ((إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ))، أي: قادمة لا محالة، ((أَكَادُ أُخْفِيهَا))، اختلف العلماء في معنى (أكاد)، لكن الأظهر أن يقال: إنها فعل من أفعال المقاربة نحوياً، وكاد وأوشك وعسى تعمل عمل كان وأخواتها، لكن الفرق بينها: أن كان وأخواتها خبرها يأتي مفرداً ويأتي جملة أسمية ويأتي جملة فعلية، أما كاد وأوشك وعسى فيشترط في خبرها أن يكون جملة فعلية، فانفكت عن كان في العمل من هذا الباب.
فقوله: (أكاد) بمعنى: أقارب، وعلى ذلك يصبح معنى الآية: أن الله لم يخف الساعة بالكلية، وإنما أظهر أشراطها وعلاماتها، وفي نفس الوقت عينها تحديداً لا يعلمه إلا الله.
قال تعالى: ((أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى))، أي: بعد إتيانها، ((كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى))، وكل من ألفاظ العموم.
قال تعالى: ((فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى)) الخطاب هنا لموسى، وقوله: (عنها) قيل: إن الضمير عائد على الصلاة، وقيل: إنه عائد على الساعة، أي: لا يصدنك عن الإيمان بالساعة، والصواب أن يقال: المعنى: أي: لا يصدنك عن الإيمان بالساعة وما يتعلق بالاستعداد لها ((مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى))، فذكر الله صفتين للصادين عن سبيله وهما: عدم الإيمان بالله، واتباع الهوى، ثم قال الله جل وعلا: (فتردى) أي: فتهلك، والمقصود بالهلاك هنا: دخول النار وعدم مقاربة الجنة، وهو أعظم الهلاك.(50/9)
فوائد متفرقة من أوائل سورة طه
عبر الله عن الزوجة هنا في قصة موسى بكلمة (الأهل)، وهو أفضل ما يعبر به عن الزوجة في قضايا الائتلاف، في المحاكم والقضاء وشئون الحقوق يقال: زوج وزوجة، وفي وقت الائتلاف -لا فرق الله لنا ولكم شمل- يعبر بالأهل، وقد جاء أن بعض الصحابة والصحابيات لما سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة في حادثة الإفك قالوا: (يا رسول الله! أهلك، ولا نعلم إلا خيراً)، فما قالوا: زوجتك، وبعض الإخوة إذا أراد أن يكتب رمزاً لهاتف جوال زوجته في جواله يكتب: الأهل، اتباعاً للقرآن، لا يكتب: أم فلان، ولا يكتب عبارات مبالغ فيها ومغالى فيها، وإنما يكتب: الأهل؛ لأن هذا تعبير القرآن وتجده يقول: أنا أريد أن أذهب إلى أهلي، سأوصل أهلي، اتصل بي أهلي ونحو ذلك، وليست القضية قضية حساسية مفرطة ممن حولنا، إنما القضية في المقام الأول أن مما يفتح الله به عليك في فهم القرآن أن تحاول أن تستخدم أسلوب القرآن: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} [طه:10]، وقد مر معنا أن العلماء قالوا: إن موسى عليه السلام قال: (لعلي) من باب الاحتراز، وهذه قضية عامة، يقولون: إن أهل العقل لا يضعون أقدامهم اليمنى حتى يجدوا موطئاً لليسرى، ويفكرون في طريق الرجوع قبل أن يفكروا في طريق الذهاب، والعاقل لا يقطع الحبال كلها عن نفسه وإنما يجعل له طريق عودة، وهذا هو الذي قصده موسى بقوله: ((لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ))، و (لعل) في القرآن على بابها إلا في موضع واحد، بمعنى: لعل عند النحويين حرف يفيد الترجي، حرف يستخدم للرجاء ويستخدم في الغالب فيما يرجى وقوعه.
ويقولون في حرف ليت: إنه حرف للتمني، وهي قرينتها في العمل، إلا أن ليت فيما لا يرجى في الغالب وقوعه، ومنه قول الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب والشباب لا يعود، فعبر بليت؛ لأنها للتمني.
فلعل في القرآن على بابها إلا في موضع واحد في سورة الشعراء، قال الله جل وعلا: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:128 - 129]، فلعل هنا ليست للترجي وإنما هي بمعنى: كأنكم تخلدون، أو كأنما تخلدون؛ لأن الموت اتفق الناس على أنه لا يدفعه شيء، حتى أهل الكفر مؤمنون بالموت، ولذلك لا يوجد موطن سكن إلا وفيه مقبرة، وهذا في كل مكان في الدنيا، فلم يقل أحد: أن تشييد البناء والمبالغة فيه يدفع الموت، لكن بعض الناس يشيد بناءه وكأنه لن يموت، كأنه مخلد، وهو يعلم أنه غير مخلد، وهذا معنى الآية: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129].
ومما يستفاد من هذه الآيات أن الذين حولك أحوج ما يكونون إلى الأمن، والإنسان إذا أعطي الأمن يعطى القدرة على العطاء، أما إذا شعر الإنسان بالخوف فإنه غالباً غير قادر على العطاء، قال الله تعالى في حق أهل الكفر: {فَأَجِرْهُ} [التوبة:6] أي: أشعره بالأمن: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]؛ لأنه لن يستطيع أن يسمع كلام الله ويفقهه عنك وهو خائف وجل، والسيف إذا وضع على أي رقبة في أي إنسان يجعله لا يعقل، ويذكر المؤرخون أن أحد الخلفاء -من دون ذكر أسماء- من الخلفاء السابقين في عهد بني أمية أتي برجل صالح ومعه زمرة من أصحابه حوالي عشرة كانوا قوماً صالحين، وهذا الزعيم فيهم كان مشهوراً بثبات جأشه وفصاحة لسانه، فقال له الناس في ذلك الموضع: تكلم قل، قال: ماذا أقول؟ سيف مشهور، وكفن منشور، وقبر محفور، من أين سيأتي كلام؟ وهو محق، أي: أن الخوف والوضع الذي أنا فيه لا يساعد على أن أتكلم، ولهذا لما أراد الله أن يفيء على موسى بعظيم العطايا وجزيل المواهب -ومقام التكليم مقام لا يمكن تخيله، والله كلم موسى عليه الصلاة والسلام مرتين: كلمه في هذا الموضع، وكلمه عندما ناداه عند جبل الطور في نفس الموضع، وهذا الجبل -جبل الطور- كان عن غرب موسى وفي نفس الوقت كان في الجانب الأيمن منه، قال الله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52]- موضع الشاهد: أن الله جل وعلا طمأن موسى حتى يعطيه، لكن يقول الناس عموماً كفوائد تاريخيه: أنه قد يوجد في الناس -لكن هذه حالات أفراد شاذة- من يكون رابط الجأش حتى عند رؤية السيف، ويقولون: إن المعتصم أراد أن يقتل رجلاً يقال له تميم بن جميل، كان له أطفال وصبية صغار، ثم إنه أحضر النطع والجلاد والسيف والناس ينظرون، ولم يكن ثمة شك بأن أمير المؤمنين قرر قتله، فأراد المعتصم أن يختبره ليرى أين لسانه عن جنانه، فقال له: ما تقول يا جميل؟ هذا والسيف مشهور، والكفن منشور، والقبر شبه محفور، فقال: أرى الموت بين السيف والنطع كامناً يلاحظني من حيث ما أتلفت وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت يعز على الأوس بن تغلب موقف يسل علي السيف فيه وأسكت وما جزعي من أن أموت وإنني لأعلم أن الموت شيء مؤقت ولكن خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم من حسرة تتفتت كأني أراهم حين أنغى إليهم وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة أذود الردى عنهم وإن مت موّتوا فتعجب المعتصم من رباطة جأشه مع الحال التي هو فيها، وقال: تركتك لله ثم لصبيتك، وعفا عنه.
لكن هذا المقام الذي قامه تميم بن جميل بين يدي المعتصم مقام فردي قلما يعطاه أحد، لكن في باب الدعوة وفي باب التربية التأسي بالقرآن هو الأصل، ولذلك لما أراد الله أن يربي هذا النبي المكلم عليه السلام خاطبه بقوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12]، وعرفه بالمقام: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12]، ولهذا أحياناً تتلقى مكالمة مجهولة المصدر فلا يحسن أن تتعامل معها بانفعال ولا بعجلة، وإنما من حقك على من اتصل بك أن تعرف من هو قبل أن تعرف مقامك، وليس من الأدب ما يشيع عند بعض الناس أنه إذا اتصل من غير عمد سوء يقول: ما عرفتني؟! فيعرضك للإحراج في أن يذهب همك في البحث عن شخصيته، فالواجب على الإنسان إذا دخل أن يقول: أنا فلان، أو إذا اتصل أو طرق باباًَ وغلب على ظنه أن من أمامه لا يسمعه أو لا يعلمه أن يعرفه بنفسه.
نختم على هذه القضية بشاهد عظيم من السنة، فالنبي عليه الصلاة والسلام وجبريل أرفع الخلق، فلما استفتح باب السماء وجبريل يطرق يقول له الخازن: من أنت؟ فيقول: أنا جبريل، فيقول: هل معك أحد؟ فيقول: نعم، معي محمد.
قال العلماء: فاستئذان جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم رغم أنهما أرفع مقاماً من صاحب المحل -من خزنة السماء- يدل على أن الإنسان يجب عليه أن يستأذن ويعرف بنفسه ولو كان داخلاً على من هو أقل منه، وهذه قضية مهمة جداً في فهم كلام الله جل وعلا.
نفعنا الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، والله المستعان.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(50/10)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة طه [2]
موسى عليه السلام هو كليم الله تعالى، وقد كلمه ربه حينما كان في الوادي المقدس طوى، وفي تلك الأثناء بعثه الله تعالى وأرسله نبياً إلى فرعون وقومه، وقد أعطاه الله تعالى آيتين عظيمتين كي يحاج بهما فرعون، وهما: العصا، واليد، وحينما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون دعا الله تعالى أن يشرح له صدره، وييسر له أمره، ويحلل عقدة من لسانه، وأن يجعل أخاه هارون وزيراً معه، فأعطاه الله تعالى كل ما سأله تفضلاً وتكرماً منه سبحانه وتعالى عليه.(51/1)
تفسير قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى ولي فيها مآرب أخرى)
لقد تكلمنا في فاتحة هذه السورة، ثم انتقلنا إلى ما قرره الله جل وعلا فيها من أمور العقيدة العظام، وإخباره جل وعلا عن ذاته العلية بأن {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:6]، وأنه جل وعلا يعلم الجهر والسر وأخفى، وأنه سبحانه الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.
ثم ذكر الله جل وعلا فيها نتفاً من خبر كليمه وصفيه موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه، صدر الله ذلك بقوله: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه:9]، ومضى بنا القول إلى أن الله جل وعلا ربى نبيه وكليمه وصفيه أعظم تربية، فطمأنه وآمنه من الخوف، ثم أعطاه مقام التكليف، أي: مقام الرسالة بعد مقام النبوة، وانتهى بنا الأمر إلى أن الله جل وعلا نهى عبده وصفيه موسى من اتباع من كتب الله عليهم أنهم يصدون عن ذكره، وأن في اتباعهم سبب الهلاك وأودية الرداء.
وانتهينا إلى قول الله جل وعلا: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17 - 18]، فنقول والله المستعان وعليه التكلان: ما زال الأمر مستأنفاً في مقام التكليم، والمقام جبل الطور، والمكلِّم هو الرب جل وعلا، والمخاطب هو موسى.
وقد أنكرت المعتزلة وبعض الناس هذا الأمر، وقالوا: إن الله جل وعلا لم يكلم موسى تكليماً، وأولوا وحرفوا في الآيات الناصة على ذلك، ومنها قول الله جل وعلا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فأجابوا عن هذا بأن حقها أن تقرأ: (وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا)، فجعلوا لفظ الجلالة مفعولاً به مقدماً، وموسى فاعلاً مؤخراً عن مفعوله.
والرد عن هؤلاء أن يقال: إن هذا وإن كان يجوز في اللغة أن يقدم المفعول على الفاعل إلا أن المعنى يذهب تماماً هنا؛ لأنه إذا كان الأمر أن موسى يناجي ربه فهذا ليس من خصائص موسى وحده، فكل المؤمنين والصالحين يناجون ربهم ويدعونه ويخاطبونه، ويستغفرونه، ويسألونه، فأي فخر أو فضل لموسى ينص الله عليه حتى يقول الله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]؟ ثم أين هم عن قول الله له: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، إلى غير ذلك من الأدلة التي يرد عليهم بها.
قال الله تعالى لهذا النبي الكليم: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17]، (ما): استفهامية من غير نزاع، والاستفهام الأصل فيه أن يعرف المستفهم خبر المستفهم عنه، لكن هذا غير وارد هنا؛ لأن الله جل وعلا يعلم ما الذي بيمين موسى؛ بل يعلم كل شيء، ولا يغيب عنه مثقال ذرة جل جلاله، ولكن المقصود: تربية موسى على طريقة الأسئلة، وهنا تعهد رباني وعناية إلاهية بعبد تغلب عليه السمرة فيه لثغة في لسانه لا يظهر كلامه جيداً، يجد عناء وهو يتكلم، في ليلة شاتية أهله غير بعيدين عنه.
هذه الأجواء بالنسبة لشخص موسى، لكن مواطن الضعف هذه كلها ذهبت عندما وجدت عناية إلاهية ربانية بهذا العبد، كل مواطن الضعف أضحت قوة؛ لأن المتعهد به والقائم بأمره هو رب العزة جل جلاله، قال الله له: ((وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى))، فأجاب كما قال الله: {قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه:18]، وهذا يكفي في الإجابة، لكنه أراد أن يستمر الخطاب تلذذاً منه بمناجاة الملك العلام، فقال عليه السلام: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه:18]، ولم يكن
السؤال
ماذا تعمل بالعصا؟ وإنما
السؤال
ما الذي في يمينك؟ وكان يكفي أن يقول: هي عصاي، لكنه -كما قلنا- فرحاً بمناجاة ربه زاد: ((قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي)).
ومعلوم أن موسى لا يضر غنمه بعصاه، فقوله: (أهش) بمعنى: أهش على الشجر فيتساقط ورقه على الغنم فتأكلها، وما زال مردفاً، أحياناً يغلب عليه الأدب لا يريد أن يستمر، وأحياناً تغلب عليه المناجاة فاتخذ طريقاً بينهما فقال: ((هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي))، وكأنه شعر بأنه أطال في اللفظ فقال: ((وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى))، صلوات الله وسلامه عليه.(51/2)
تفسير قوله تعالى: (قال ألقها يا موسى سنعيدها سيرتها الأولى)
وقد أراد الله بهذا أن يبين أن هناك آية ستنجم عن هذه العصا، ولم يرد الله أن تكون الآية في شيء غير العصا فلعل موسى يقع في ذهنه أنه شيطان أو ما أشبه ذلك، لكن موسى من أعلم الناس بعصاه، وهو يعرفها، وهي ملازمة له سنين عديدة، ويعرف من أين اقتطعها، وهو يتوكأ عليها -كما يقول- ويهش بها على غنمه فهي لا تكاد تفارقه.
ولهذا أراد الله أن تكون الآية في نفس الشيء الذي يعرفه موسى جيداً، فخاطبه رب العزة: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه:19]، (ألقها): فعل أمر جزم بحذف حرف العلة وهو الياء، وقد استجاب الكليم لأمر ربه فألقى العصا، قال الله: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه: 20] (فإذا) فجائية، وسيبين نحوياً غرابة هذه (إذا) في موطنه بعد أن نترك قصة موسى، ((فَإِذَا هِيَ))، أي: العصا، ((حَيَّةٌ تَسْعَى))، فجأة إذا بهذه العصا التي يعرفها جيداً تنقلب إلى حية.
وجاء في بعض الآيات أنها ثعبان، وجاء في بعض الآيات أنها جان، والجمع بينها أنها حية في ضخامتها، ثعبان في تلونها جان في خفتها، فهي تتنقل وتسبح في الأرض وتجوب فيها، وبجبلته التي فطره الله عليها كأي بشر ولى هارباً، قال الله جل وعلا: ((قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا))، أي: عصاه، ((فَإِذَا هِيَ))، أي العصا، ((حَيَّةٌ))، ليست ثابتة واقفة جامدة ميتة ((تَسْعَى))، تتحرك، قال تعالى: {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:21]، بمعنى: أنه نجم عنه خوف، وقد ذكر في سور أخرى أنه ولى هارباً، فطمأنه ربه وقال: {أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ} [القصص:31]، ثم أمره الله أن يأخذها يأخذها وهي حية لم تعد عصا، فأخذها امتثالاً لأمر الله، وطمأنه الله فقال: ((سَنُعِيدُهَا))، أي: الحية، ((سِيرَتَهَا الأُولَى))، أي: سوف تعود إلى عصا، وسيكون هذه العصا شأن عظيم مع موسى في دعوته لفرعون كما سيأتي.
قال الله: ((سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى))، وكلمة (سيرة) تطلق على حال الإنسان إن كانت حسنة أو قبيحة، يقال: فلان سيرته حسنة، وفلان سيرته قبيحة، فلما أخذ موسى الحية عادت إلى عصا بإذن الله تعالى.(51/3)
تفسير قوله تعالى: (واضمم يدك إلى جناحك لنريك من آياتنا الكبرى)
ثم قال الله تعالى لموسى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} [طه:22]، الجناح: الأصل أنه للطائر، واستعير هنا لبني آدم، وهو ما تحت العضد كما أن جناح الطائر في هذا الموطن، وفي آية أخرى قال الله له: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل:12]، والجيب هو فتحة الثوب التي تقع في الصدر.
والمعنى: أن موسى أدخل يده من جيبه حتى دخلت تحت عضده، وحينئذ شعر بالاطمئنان من الخوف، وهذا الأمر يفعله الناس جبلة، يضع أحدهم يده على قلبه إذا خاف، ويقولون في التعبير: يدي على قلبي، كناية عن الخوف، قال تعالى: ((وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ)) ما الذي يحدث؟ ((تَخْرُجْ))، جاءت مجزومة بالسكون؛ لأنها واقعة في جواب الأمر الذي هو (واضمم)، فأخرجها، يقول الله له: ((تَخْرُجْ))، أي: يدك ((بَيْضَاءَ)) من غير تنوين؛ لأنها ممنوعة من الصرف، وقد جاءت مفتوحة؛ لأنها حال، أي: كيف تخرج؟ تخرج بيضاء، وموسى -كما قلت- كان يميل لونه إلى السمرة، وقد جاء في الحديث: (كأنه رجل من أزد شنوءة) وهم يميلون إلى السمرة.
فأخذت يده تبرق نوراً، وجاء هنا احتراز عظيم: ((مِنْ غَيْرِ سُوءٍ))، فليس هذا من مرض أو ما شابهه، وإنما ((مِنْ غَيْرِ سُوءٍ))، لماذا يا رب؟ قال الله له: (آية أخرى)، ولم يقل: أخيرة، بل قال: أخرى، أي: غير الأولى، فالأولى عصا انقلبت حية، والثانية يده تدخل فتخرج بيضاء، (أخرى) أي: أن هناك شيئاً سيأتي، تقول: رجل آخر، فلا يمنع أن يأتي بعده أحد آخر، لكن إذا قلت: أخير أي: أنك انتهيت، فمثلاً عندما تكتب أسئلة لطلابك تقول: السؤال الأول، السؤال الثاني، السؤال الثالث، فإذا أردت أن تنهي فلا تقل: الرابع، بل قل: السؤال الأخير، حتى يفقه من يقرأ أسئلتك أن أسئلتك انتهت، وكذلك قل: الفائدة الأخيرة، الحديث الأخير، وأي شيء تريد أن تختمه صفه بأنه أخير، أي: لا شيء بعده.
فالله جل وعلا قال هنا: ((آيَةً أُخْرَى))، ولم ينهها؛ لأن ثمة آيات ستأتي لهذا النبي الكليم سيخاطب بها من بعث إليه في الأصل وهو فرعون.
قال الله تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه:23]، وقول الله جل وعلا: (من آياتنا) إفهام وإشعار لكليم الله أن آيات أخر كبرى عظاماً سيأتي، وقد أتت، وهي في مجملها تسع: هاتان الآيتان وهما العصا واليد، ثم أتبعها الله جل وعلا بقوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130]، فهاتان اثنتان، فصرن أربعاً، قال الله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، أي: يتبع بعضها بعضاً وليست في آن واحد، فهذه تسع آيات.(51/4)
تفسير قوله تعالى: (اذهب إلى فرعون إنه طغى)
لأي شيء كل هذا الإعداد لموسى، قال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24]، (إنه طغى) جملة تبين حال فرعون وليست صفة؛ لأن قواعد النحو تقول: الجمل بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات، وفرعون معرفة، فالجملة التي بعده حال تبين وضع فرعون.
لكن قول الله جل وعلا: ((اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ))، هذا تكليف بالرسالة، وليس موسى أول الرسل إلى فرعون، والدليل أن الله قال حكاية عن مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34].
فيوسف أرسل إلى فرعون الذي عاصره، وموسى أرسل إلى فرعون الذي عاصره، وكلاهما من أنبياء بني إسرائيل؛ إذ إن موسى من ذرية يعقوب، ويوسف وأبوه يعقوب كلهم بنو إسرائيل، وقد دخلوا مصر محدودي العدد وخرجوا وهم أكثر من ستمائة ألف كما سيأتي في موضعه.
المقصود: أن الله جل وعلا قال لموسى: ((اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى))، فموسى قبل التكليف، وسأل الله الإعانة، وقدم أربعة رجاءات إلى ربه.(51/5)
تفسير قوله تعالى: (قال رب اشرح لي صدري واجعل لي وزيراً من أهلي)
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25]، كلمة (رب) مكتوبة من غير ياء، وحتى تستريح من عناء أشياء كفاك الله هم البحث عنها اعلم أنه لا يوجد في القرآن (رب) بصيغة دعاء مناداة موصولة بياء، بل كلها مكونة من حرفين الراء والباء المشددة.
فأول ما سأل الله جل وعلا أن يشرح له صدره لهذا التكليف {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26]، وأن ييسر له الأمر، ولا ييسر العسر إلا الله، ثم قال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي) * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} [طه:27 - 28].
قوله: ((وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي))، سيأتي الحديث عنها في درس قادم، لكن نتوقف عند قول الله: ((وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي))، فنقول: إن موسى عليه الصلاة والسلام معلوم أنه نشأ في قصر فرعون، فلما نشأ كان فرعون على وجل منه؛ لأنه قد سبقته رؤيا أن غلاماً من بني إسرائيل سيكون على يديه هلاك ملكه فكان يتحرز، فلما نشأ موسى رضيعاً نشأ فصيحاً، فخاف منه فأراد أن يقتله، فأرادت زوجته آسية أن تمنعه من ذلك، فبعد أخذ وعطاء بينهما اتفقا على أن يختبر موسى، فقدم له جمر ولؤلؤ، وقيل: جمر وتمر، أو تمر في إناء من ياقوت، وجمر من نار ليختار أحدهما، فذهبت يده إلى التمر أو إلى الياقوت، المهم أنها لم تذهب إلى الجمر، فقيل: إن جبريل جاء ووضع يده على الجمر حتى يكون ذلك سبباً في بقائه، والله جل وعلا يجعل للأشياء أسباباً وإذا أراد الله شيئاً هيأ له أسبابه، فوضع الجمرة في فيه فلذعته، فلما لذعته أصابته هذه الحبسة التي في لسانه والبطء في كلامه، وهذه الحبسة قد عيره بها فرعون كما في آية الزخرف في قول الله عنه: {أم أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، أي: لا يكاد يظهر كلامه ولا يفصح ولا يفقه ماذا يقول، ولذلك هنا لأن مقام الدعوة يحتاج إلى شيء من البيان مع العلم بأمور كثيرة قال موسى: ((وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي))، نقول: إن الله تعالى ذكر على لسان موسى أنه طلب حل عقدة واحدة، قال العلماء في هذا: إن موسى كان يطلب الأمور على قصد ولم يرد أن يظهر أنه فصيح ويشار إليه بالبنان ويذكره بنو جنسه، وإنما أراد ما يكتفي به في أن يبلغ دعوة ربه.
وقد فهم منها العلماء أنه الإنسان أن يقتصد في أمور الدنيا إذا كان مصدراً للإمامة في الدين بالقدر الذي يقيم به حاله، ولا يتجاوز الحد، ثم إن الله جل وعلا ختم هذه السؤالات بقوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، وسيأتي بيانه في موضعه.(51/6)
تربية الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام
نعود للقضية كلها في بيان نستطرد في الحديث عن هذه الآيات التي سلفت فنقول في أولها: إن التربية الإلهية لا يعدلها تربية، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، وإذا أراد الله جل وعلا شيئاً هيأ أسبابه، ومن أعظم ما يجعلك تقف على الحق وتثبت عليه علمك اليقيني به.
لكن ينبغي عليك أن تعلم أنك بشر ضعيف، تحتاج إلى ما يقويك، والله جل وعلا قادر على أن يثبت موسى بين يدي فرعون من غير تجربة، لكن موسى لما وقف ذلك الموقف، وانقلبت العصا حية وهو يرى، واليد أدخلت وخرجت بيضاء وهو يرى؛ انتهى من مقام التجربة فآمن هو بقضيته، فلما آمن هو بقضيته واقتنع بقدرته كان يسيراً عليه أن يقف واثقاً من نفسه، متمكناً من قوله، مظهراً لدليله أمام فرعون، ولهذا قال الله عنه في الشعراء: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء:30]، ذلك الخوف الذي كان موجوداً انتهى، {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:31]، قال الله: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء:32 - 33].
فلما ألقى موسى العصا أمام فرعون لم يفر هارباً، رغم أنها انقلبت حية مثل المرة الأولى؛ وذلك لأنه كان يعلم أنها ستنقلب حية، وهناك لغز تقوله العامة -وهو مقبول في مثل هذه المواطن- عند قضية موسى بعد أن انقلبت العصا إلى حية مع السحرة، يقولون: خشبة انقلبت لحمة أكلت لحمة عادت خشبة، وهي وإن كانت باللهجة العامية لكنها صحيحة، فالخشبة: هي عصا موسى، انقلبت لحمة أي: صارت حية، والحية من لحم، أكلت لحمة أي: أكلت العصي التي ألقاها السحرة، عادة خشبة أي: عادت عصا كما كانت، وهذا ربط بألغاز عامة بالقرآن، وهو مقبول؛ لأن المقصود: ربط الناس بآيات الله البينات، وما هذه الأمور إلا وسائل، وأي وسيلة لم ينص الشرع على تحريمها وقربت من الله أو دلت على آياته وعرفت بالقرآن فهي محمودة ما لم ينص الشرع على تحريمها ذاتاً.
نعود فنقول: لأجل هذا ربى الله رسله، فالله يقول في حق خليله إبراهيم: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:75]، لماذا؟ {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75]، فكان إبراهيم عارفاً بملكوت السماوات كما علمه الله حتى يثبت أمام الشدائد التي ستأتي.
ونبينا صلى الله عليه وسلم غسل قلبه، وملئ إيماناً وحكمة، وجاوز السبع الطباق، وعرج به، ورأى من آيات الله الكبرى، حتى بعد ذلك إذا حدث عن الجنة والنار يحدث عن شيء هو مؤمن به كل الإيمان ويعرفه حق المعرفة.
فمن دعا إلى الله ولم يتسلح بالعلم القلبي والإدراكي لن يكون قادراً على الثبات كغيره، ولو سمع شبهة تشكك في الجنة أو في النار، أو تخبر بعدم قيام البعث، أو أي كلمة يلقيها من يلقيها على عواهنها، فتقع منه موقعاً يجعله يحجم عن الدعوة.
فحتى الذين من الله عليهم بالهداية من خلال موقف إيماني كالذي يرى مصرعاً لأحد، أو يمر على جنازة، أو يرى قبراً فهذا أمر محمود، وهو يكون سبباً في الهداية، لكنه لا يكفي فلا بد أن يسقى ذلك بعلم بالله جل وعلا حتى يحصل الثبات على الدين؛ لأن أثر ذلك الموقف العارض لا يلبث أن ينجلي إن لم يسق برحيق العلم والمعرفة والتفكر في مخلوقات الله، وإذا أراد الله بعبد خيراً ومضياً في الطريق قلَّبه جل وعلا في أمور الدنيا والأحوال، والنوازل والابتلاءات وغيرها، يراها حتى يشتد عوده، ويثبت جنانه، ويصبح على بينة من ربه وهو يدعو إلى الله تبارك وتعالى.
وهذه العطية هي التي منحها الله ووهبها لأوليائه ورسله، وخاصة منهم أولي العزم، ومنهم كليم الله موسى بن عمران.(51/7)
ضرورة التجاء العبد إلى ربه واتكاله عليه
من الفوائد: أن الإنسان ضعيف لولا إعانة الله جل وعلا له، وقد ورد في الحديث القدسي: (أن الله جل وعلا قال لموسى: يا موسى! سلني ملح عجينتك، سلني علف دابتك، سلني شسع نعلك).
فلا تدخلن مقاماً، ولا تجلسن على كرسي، ولا تتصدرن في موضع وأنت تظن أنك وصلت إليه بحولك أو قوتك.
فإذا كان كليم الله يقول: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26]، ويسأل الله الإعانة تلو الإعانة، والأمر تلو الأمر؛ فأنت أولى بذلك، لكن المهم ألا تسأله غير الله جل وعلا، وأن تلجأ إلى الله جل وعلا في حاجتك، يقول العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام: والله لن يصلوا إلى شيء بغير الله فكيف يوصل إلى الله بغير الله؟ وهذا من نفائس الكلم، ولا يوفق لقوله أي أحد، لكن العز بن عبد السلام كان -فيما نحسبه- عارفاً بربه، عالماً بالشرع، متدبراً للأمر، مستعيناً برب العزة والجلال فوفق إلى أن تخرج منه هذه الكلمة.
وهذه ما دلت عليه جملة سؤالات الأنبياء وخاصة منهم ما نحن فيه من سؤال كليم الله موسى بن عمران لربه جل وعلا.(51/8)
الخوف أمر جبلي
مما دلت عليه الآية: أن الخوف جبلي في الإنسان، وأن الإنسان لا يعير بالخوف، وقد قال الله جل وعلا عن موسى في آية أخرى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [الشعراء:12]، {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:33]، ومع هذا طمأنه الله.
فثمة أمور جبلية تنشأ في بني آدم لا تضر، لكن العبرة فيما استقر عليه القلب، والسكينة أمر محمود، والأمنة من الله شيء عظيم وهبة منه، والله تعالى له جند ينصر جل وعلا حتى بالنعاس بالنوم، والنعاس نصر المؤمنين في بدر، قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11].
فالله جل وعلا له جند يعلمهم ولا نعلمهم، لكن المقصود أن من أراد الله الاحتفاء به وإكرامه فيسخر الله له من الجند ما يعلمه وما لا يعلمه -أي: ذلك المؤيد المنصور-.(51/9)
الأسلوب القرآني في الحوار والإقناع
دلت الآيات كذلك على أن أسلوب الأخذ والعطاء في إقناع الغير أمر محمود، خاصة في التربية، فمن دونك من الطلاب أو الأبناء، أو من تريد إقناعه والوصول به إلى الغايات الذي تريد إيصالها إليه عن طريق الحوار، والأخذ والعطاء، والتساؤلات والبدء بالأشياء المتفق عليها إلى الأشياء المختلف عليها، هذا أمر محمود في الطريقة.
ثم إن إشعار من أمامك بمحبتك وإجلالك له، والانطلاق من أشياء تتفقون عليها؛ من أعظم أسباب قبول ذلك الطرف أو الغير أو المحب الذي تريد أن توصله إلى بر الأمان، فمن أعظم أسباب الوصول إلى قلبه إتباع مثل هذه الطرائق.(51/10)
الكلام عن (إذا) الفجائية في قوله تعالى: (فإذا هي حية تسعى)
من المعلوم أن موسى عليه الصلاة والسلام عندما ألقى العصا كان يعلم أنها عصا، ولم يدر في خلده أنها ستنقلب إلى حية، فيقول النحويون: إن هذه هي (إذا) الفجائية وما بعدها حقه عند جماهيريهم أن يرفع، ولهذا قال الله: {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف:108]، بيضاء: خبر، وقال هنا: ((فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى)) [طه:20]، بالضم.
فالقرآن يدل على المذهب النحوي القائل: إن الأصل فيما يأتي بعد إذا الفجائية أن يكون مرفوعاً، وهذه المسألة تسمى المسألة الزنبورية، وذلك أن سيبويه إمام النحاة خرج من البصرة يؤمل مجداً في بغداد، فدخل على يحيى بن خالد البرمكي وزير هارون الرشيد، وكانت بغداد آنذاك حاضرة الإسلام، والخلافة فيها موطن الناس، فجاء يؤمل مجداً عظيماً، وكان إمام أهل البصرة بلا منازع، والكسائي إمام أهل الكوفة، فالتقيا - الكسائي وسيبويه - في مجلس يحيى بن خالد البرمكي وعنده ابنه جعفر، فقال الكسائي لـ سيبويه: تسألني أم أسألك، قال: سلني.
فذكر الكسائي هذه المسألة وهي ما يقع بعد إذا وأنه يجوز فيها الوجهان: الرفع والنصب، فمنع سيبويه أن تكون العرب تقولها بالنصب، وأنه ليس لها إلا وجهاً واحداً هو الرفع، والقرآن يؤيده، لكن الكسائي أصر على رأيه، فقال يحيى بن خالد: اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه وجوه الأعراب في الباب اسألهم، فقيل: إن المسألة أصلاً كانت سياسية قبل أن تكون علمية للتنازع ما بين الكوفة والبصرة، والتنازع ما بين الكسائي كشخص مقرب من الوالي وبين سيبويه الذي لم يظهر له بعد قربة عند السلطان.
فوجوه الأعراب مالت إلى قول الكسائي عمداً تريد أن تنصره على خصمه سيبويه، فأشاروا إلى أن الصواب مع الكسائي، فبهت سيبويه، وزاده حنقاً أن الكسائي أخذ يظهر عطفه عليه ويقول لـ يحيى: إنه جاء يأمل منك عطايا فاجبر كسره وارحمه، فجعله ضعيفاً بعد أن كان يعلم أن سيبويه أعظم منه في النحو، فلما قال له ذلك خرج سيبويه من عنده كسيراً من سوء ما لحق به، واستحيا أن يعود إلى البصرة وقد خرج منها إماماً ولحق بفارس ثم مات مغتماً في ريعان شبابه ولم يكن قد جاوز الرابعة والثلاثين من عمره.
ومعلوم أن الحق كان مع سيبويه، لكن السياسة لعبت دورها، والقرآن كله يشهد أن الحق مع سيبويه، وللعلماء في تخريج قول الكسائي خمسة أوجه، وكلها باطلة، وقد بينها أهل النحو، ولا حاجة للتفصيل فيها.
ثم قيض الله للكسائي تلميذاً من تلاميذ سيبويه يقال له: أبو محمد اليزيدي، هذا اليزيدي دخل على الكسائي في مناظرة في مسألة أخرى، وذلك أنه جاء ببيتين من الشعر قالهما في نفس المجلس أمام الكسائي، وقال له: هل تجيز هذا فسأتلو عليك البيتين؟ ومعلوم أن العرب ترفع اسم وتنصب خبرها، وهذا شيء متفق عليه، فليست هذه من مسائل العلم الكبار، بل يعرفها كل واحد، فقال اليزيدي للكسائي: ماذا تقول في قول العرب: ما رأينا خرباً ينقر عنه البيض صقر لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهر ومن المعلوم أن (لا يكون) تكررت مرتين، وهي التي أرادها مزلقاً يقع فيه الكسائي فوقع فيه، فـ الكسائي فهمها بأن اليزيدي يقول: لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهراً، وهذا هو أصلها النصب، واليزيدي نطقها: لا يكون المهر مهر، اليزيدي: قصد لا يكون العير -أي: الحمار- لا يكون العير مهراً لا يكون.
وهنا انتهى الكلام، ثم قال: المهر مهر، وهما مبتدأ وخبر وكلاهما مرفوع، لكن الكسائي قرأها: لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهراً، فوجدها منصوبة، فرد البيتين وقال: لا يكون المهر مهر، هذا خطأ؛ بل أحقها أن تنصب ولا تجوز إلا لضرورة الشعر، وعبر عنها باصطلاح يسمى: الإسراف عند البعض والإقواء عند البعض، عند العروضيين، ففرح اليزيدي فرحاً أن المزلق وقع فيه الكسائي، فصار يعيد عليه ويقول له: انظر، والكسائي مصر، مع أن البيت واضح لا يغيب عن رجل مثل الكسائي، لكن إذا أراد الله شيئاً وقع، فكررها مرتين وثلاثاً وهنا وقع الكسائي في الخطأ، فلما أصر الكسائي على رأيه، وعلم اليزيدي أنه أوقع الكسائي فيما يريد؛ خلع عمامته وقلنسوته وضرب بها الأرض فرحاً، وضرب بيده على صدره وقال: أنا أبو محمد!! يعني: انتصرت، فقال له يحيى بن خالد: والله لخطأ الكسائي مع حسن أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء أدبك، أتتكنى بحضرة أمير المؤمنين وتنزع قلنسوتك من رأسك؟! يعني: أن هذا سوء أدب، لا يفعل أمام أمير المؤمنين، فانقلب الأمر عليه وإن كان منتصراً في الأصل، هذا ما دونه المؤرخون.
وأقول -عفا الله عني-: نصر الله الكسائي بالقرآن، فالذي يظهر لي أن الدور العظيم الذي لعبه الكسائي في حفظ القرآن هو الذي نصره في هذين الموضعين، فنصره الله في المرة الأولى على سيبويه مع أن الحق مع سيبويه من جميع أوجهه، وهذه المرة عندما وقع اليزيدي في سوء الأدب فبقي هو على حشمته ووقاره فكان سبباً في نصرته.
الذي أريد أن يفهم من هذا الاستطراد أمور من أهمها: لا تبدأ أحداً بالأسئلة، دع خصمك هو الذي يبدأ، فإذا غلبت في الرد على خصمك فوق يقولون: حول الجواب إلى سؤال، فينشغل خصمك بالإجابة وتسلم أنت، هذا إذا كنت تريد موارد أهل الدنيا، أما إذا كنت تريد موارد الآخرة فلا تدخلن مجلساً إلا وأنت تريد أن تصل فيه إلى الحق، وقد كان الشافعي رحمة الله تعالى عليه -لكن أين مثل الشافعي؟! - كان يقول: ما جادلت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه، وحب الشافعي للحق هو الذي أوصله إلى هذه المنزلة العالية من حب المسلمين أو يكاد إجماع المسلمين على حبه.
هذا في الأخذ والعطاء، لكن قد يحصل بين الأنداد عموماً التنازع، ولذلك لا يحبذ أن يجتمع أكثر من طالب علم في مجلس صدارة في مكان واحد حتى لا يقع بينهما تنازع.
فمالك رحمه الله على جلالة قدره كان في المدينة مجاوراً لـ محمد بن إسحاق صاحب السيرة، وكل منهما جليل القدر في فنه، عظيم الأثر في علم الأمة، وإن كان مالك نحا إلى علم الحديث وهو أشرف من هذا الوجه.
فيقولون: إن مالكاً كان يقول عن محمد بن إسحاق: إنه دجال من الدجاجلة، وذلك لأجل الروايات التي يقولها في التاريخ، ومحمد بن إسحاق كان يقول: ائتون بالموطأ فأنا بيطاره -يعني: طبيبه- أبين لكم أخطاء مالك في الموطأ، ومعلوم أنه لا يقبل قول مالك في محمد بن إسحاق، ولا يقبل قول محمد بن إسحاق في مالك، لكن يوجد من أهل العلم من من الله عليه ببغية الحق أينما كان، حتى في تعامله مع أنداده وقرنائه يتقي الله جل وعلا فيهم، ولا يمنعنه كونهم أنداداً له ومعاصرين له أن يترفع عليهم، أو أن يقول فيهم بغير وجه حق، لكن هذه منزلة العالية ليس الكل يؤتاها.(51/11)
طمأنة الله تعالى لموسى عليه السلام
من فوائد هذه القصة أن الله جل وعلا قال لنبيه: {خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:21]، فقول الله جل وعلا: ((وَلا تَخَفْ))، هذا نوع من الاطمئنان أعطاه الله جل وعلا لموسى قبل أن يأخذ العصا، وهذا يعلمك درساً أن الذين تريد أن تربيهم على الحق لا تقطع أملهم في المكافآت، أو لا تظهر تخليك عنهم تماماً وتقول: أنا أريد أن أربيهم، أنا أريد أن يصل إلى الحق بنفسه، بل يحسن أن يكون هناك شيء يسير من الإعانة، كما أعان الله كليمه موسى بقوله: ((خُذْهَا وَلا تَخَفْ))، ولو قال له: خذها من غير أن يقول له: ولا تخف، لأخذها موسى؛ لأن موسى أتقى لله من أن يرد قوله، لكن الله قال له: ((وَلا تَخَفْ)) ففيه نوع من الاطمئنان، ونوع من الإعانة، ومن التيسير في التكليف، ولهذا جاء في دعاء الصالحين: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286].
ثم إن موسى عليه الصلاة والسلام -كما سيأتي- طلب أن تكون الوزارة لأخيه هارون؛ لأنه -كما ذكرنا-كانت في موسى حبسة، وهارون كان فصيحاً، فكان الناس في حاجة إلى صرامة موسى وحسن سياسته مع قدرة هارون على التعبير وإيضاح الرأي.(51/12)
ضرورة التجاء العبد المؤمن إلى الدعاء
وقد ختم الله جل وعلا هذا المقطع بقوله: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، وهذه الكلمة الإلهية لهذا العبد الصالح من أعظم ما يفرح به، أن يجيب الله جل وعلا دعاءك وإجابة الدعاء من أعظم العطايا؟ ولهذا قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مقروناً بحرف التحقيق: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، ثم أخبره أن هذه ليست أول منة عليه.
والمراد من هذا أن نقول: إن الدعاء من أعظم ما ينتصر به الإنسان، لكن من المهم أن يكون هذا الدعاء مقروناً بحسن نية، ووالله لن يوجد أحد لديه حسن نية في بغية شيء إلا وأعطاه الله جل وعلا إياه إذا كان يريد بذلك الشيء الذي يبتغيه النصح لله ورسوله، وليس له فيه أو لغيره حظ ولا نصيب.
قبل أيام كان عندي أخ فرنسي الأصل والمولد والمنشأ، له سبع سنوات عندنا في المدينة وهو دائماً يحضر الدروس، هذا الأخ الكريم يقول: نشأ في بيت أبواه ملحدان، حتى النصرانية التي هي ذائعة في فرنسا لا يؤمنان بها، ويبغضان الله، ولا يؤمنان أصلاً بوجوده.
يقول: لما وصلت إلى الثانية عشرة من العمر كنت أسألهما عن الدين فينهراني، فلما أكثر عليهما طلبا منه أن يبحث بنفسه، يقول: فدخلت كنيسة فأعجبني ما فيها، فتنصرت فأصبحت نصرانياً، وكنت أجيد الرياضة، فاشتركت في ناد رياضي اقترنت مشاركتي بهذا النادي مع مسلمين من أصول عربية، قال: كانوا يلعبون الحركات الرياضية على الموسيقى، فإذا انتهوا صلوا.
يقول: فكنت أتعجب من صنيعهم وأنا أبحث عن الحق، ثم تعلمت عنهم الدين فكان ذلك سبباً في إسلامي.
هذا كله ليس بعجيب، فهو يتكرر عليكم مئات المرات، لكن الغرابة أن له جدة تعمل في التنجم، فأتاها وهو صبي قبل أن يسلم في أيام المراهقة فقالت له من خلال تنجيمها: أنت ستجد الحق الذي تبحث عنه.
يقول: فلما هداني الله إلى الإسلام أتيتها وقلت: ألا تذكرين يوم كذا وكذا؟ قالت: نعم، قال: أبشرك لقد عرفت الحق وأن هناك رباً وديناً اسمه: الإسلام، وأخبرها الخبر، فزاد بغضها له، وأخذت تسبه وتلعنه، وتسب الدين الذي انتسب إليه، ثم تركها وجاء يسألني في قضية كيف يبرها باعتبارها جدة له إذا وصل إلى بلاده؟ موضع الشاهد من هذا كله أن الله يقول: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، ومن جملة مشيئة الله في الهداية إلى النور سواء النور العام الذي هو نور الإسلام، أو نور الوصول إلى بعض المعارف والحقائق والغايات أن يكون مرتبطاً بحسن المقصد، ويكون الإنسان همه وبغيته أن يصل بهذا الأمر الذي يبتغيه إلى رضوان الله.
وقد يمكن أن من يبتغي بالأمر الذي ينشده غير الله أن يصل إلى الذي يريده، لكن مثل هذا لا يعد إماماً في الدين؛ لأن الله جل وعلا منع الإمامة في الدين للظالمين، ولا ريب أنه ظالم لنفسه، من أراد بالدنيا غير وجه الله، ومن أراد بالعمل الصالح وبعمل غير وجه الله، والله قد قال لعبده وخليله إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124]، فقال متلهفاً من أجل ذريته: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124]، فحكم الحكم العدل فقال لإبراهيم: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، أي: هذه العطية والعهد والميثاق التي أعطيتك إياها لا ينالها ولا يصيبها ولا يفرح بها ظالم، فلا يسمى إماماً في الدين من ابتغى بعلمه أو بأي أمر آخر أحداً غير الله تعالى.
لكن الإمام في الدين الحق هو من ابتغى بعلمه الله جل وعلا وحده، ولم يستشرف ولم يشرئب عنقه لغير عطايا الرب تبارك وتعالى، فما أتاه من الدنيا يتحرز منه، وقد تنقل له رؤى ومنامات تحكى عنه، ويمدح، ويقول الناس فيه ما يقولون، وأن الله كتب له القبول وأمثال ذلك، فليأخذها على حذر خوفاً من أن تكون استدراجاً؛ فإن العبد لا يدري بماذا يختم له.
هذا التكليم الذي حدث في سورة طه لموسى جعل بعض العلماء كتسمية اجتهادية لسورة طه يسمونها: سورة الكليم، لكن هذا وقع عند بعض المفسرين، أما الاسم التوقيفي لها فهو: سورة طه.(51/13)
الحكمة في الإكثار من ذكر قصة موسى في القرآن
موسى عليه الصلاة والسلام أكثر الله من ذكر قصته في عدة مواطن، والسبب في ذلك: أنه عالج بني إسرائيل أعظم المعالجة، وهذه المعالجة انقلبت نصحاً في حديث الإسراء والمعراج؛ فإنه قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: إنني قد بلوت الناس قبلك، وإن أمتك لن يطيقوا ذلك، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم الكريم واجه أمرين: أمراً في عتو من أرسل إليه وهو فرعون، وأمراً في أن من حوله من بني إسرائيل لم يكونوا يعينونه على دعوته إلى ربه، فما أن نجاه الله من فرعون حتى وجد العناء والعنت من قومه، قالوا: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24].
ومع ذلك صبر على طغيان فرعون، وصبر على عنت قومه وشقائهم وعتوهم معه، حتى ختم الله له جل وعلا ومات في أرض التيه، وبقي عبداً صالحاً حتى وهو في قبره، يقول صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أعرج بي وإذا بموسى قائم يصلي في قبره)، وهذه حياة برزخية الله أعلم بها، لكنها تبين لنا أي مقام كريم لهذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(51/14)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة طه [3]
لقد من الله تعالى على عبده ورسوله موسى عليه السلام بمنن كثيرة وعطايا جسيمة، وما ذاك إلا دلالة على المنزلة العظيمة عند الله تعالى، ومن ذلك استجابة لله تعالى لدعائه، وإعطائه ما أراد، وقبل ذلك ما من الله تعالى به عليه حينما كان صبياً في حجر أمه، من إلقائه في اليم، وأخذ فرعون له وعدم مسه بسوء، ثم رجوعه إلى أمه، وبعد أن صار شاباً ووقع ما وقع من الله عليه بأن جعله يفر إلى مدين ويجد فيها الأمن والاطمئنان وبعد رجوعه منها أرسله الله تعالى إلى فرعون هو وأخاه هارون كي يدعوا فرعون إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.(52/1)
دعاء موسى لربه بشرح صدره وتيسير أمره وحل عقدة لسانه
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو أراد أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد توقفنا في الدرس السابق عند قول الله جل وعلا في ذكر ما طلبه موسى عليه الصلاة والسلام من ربه بعد أن كلمه الله جل وعلا وأوحى إليه، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:25 - 32].
هذه السؤالات التي سألها موسى عليه الصلاة والسلام ربه، إنما سأله إياها حتى تعينه على الدعوة إلى الله جل وعلا، فبدأ بقوله: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25]؛ لأن الإنسان إذا انشرح صدره للأمر الذي يطلبه كان ذلك أشد عوناً له في قضاء تلك الحاجة التي يرومها.
{وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:26]، ذلك أن الأمر في الأصل أنه حزن صعب إلا أن ييسره الله، ولذلك جاء في الحديث: (اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً)، قال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28]، جاء الفعل (يفقهوا) مجزوماً بحذف النون؛ لأنه واقع في جواب الأمر، فحذفت نونه لأنه من الأفعال الخمسة، والناس في قول الله جل وعلا: (عقدة من لساني) على قولين: والقول الأول: أخذوا بالأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن سبب تلك العقدة ما كان من اجتراء موسى بين يدي فرعون لما قدم له جمراً وتمراً فأخذ التمر، فقالوا: إن جبريل جاء ونقل يد موسى من التمر إلى الجمر، فحمل موسى الجمر فأثرت في يده كما سيأتي، وأثرت في لسانه، فنجم عن ذلك حبسة جعلت موسى غير فصيح في كلامه؛ ولهذا قال فرعون يسخر من موسى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، وموسى قد اعترف بهذا بين يدي ربه بأنه أقل فصاحة من أخيه هارون، قال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص:34].
القول الثاني: قالوا: إن شخصية موسى شخصية انفعالية حادة -وهذا قول أكثر المتأخرين- والشخص إذا انفعل وأصبح حاداً تحدث عنده حبسة ويكون كلامه سريعاً غير واضح وغير ظاهر يتفق مع شخصيته، ونقلوا أن الإمام المفسر كان فيه هذا الأمر، وهذا ملحوظ أحياناً عند بعض الناس أنه إذا انفعل يصبح الكلام عنده سريعاً متتابعاً، لا يكاد يفهم، هذا تخريج بعض المتأخرين للعقدة.
وقد حملها: بعضهم على الأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وبعض العلماء قال برفعه، لكنه بعيد، ورجح ابن كثير رحمه الله تعالى وقفه على ابن عباس، والأظهر -والعلم عند الله- أن ابن عباس رضي الله عنهما أخذه من مسلمة أهل الكتاب، وعندما نقول: من مسلمة أهل الكتاب، نقصد أولئك الذين آمنوا بالإسلام، آمنوا بالله ودخلوا في الدين من أهل الكتاب من العلماء، ومن أشهر هؤلاء وفي مقدمتهم كعب الأحبار، كما مر معنا الاستشهاد بأقواله في مواطن عدة.(52/2)
سؤال موسى عليه السلام لربه أن يجعل هارون وزيراً له
ثم قال عليه السلام لربه يناجيه ويرجوه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [طه:29 - 30]، كلمة (من أهلي) عامة، ثم خصص وعين فقال: {هَارُونَ أَخِي} [طه:30]، وقوله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا} [طه:29] كلمة (وزر) في اللغة مادتها الأصلية تعني الثقل، يقول الله جل وعلا: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، والمعنى: لا تتحمل نفس ذنب أخرى ولا ثقلها، فالذنوب وزر؛ لأنها أعظم ما يحمل على الظهر، وفي القديم لم يكن هناك وزراء كثيرون، وإنما الوزير واحد، كما كان هامان وزيراً لفرعون، فكان الوزير في النظام القديم السياسي للدول واحداً للأمير أو للملك أو للسلطان، بحسب مسماه، وهذا الوزير هو الذي يحمل ثقل الإمارة عن الأمير، فلذلك سمي وزيراً، فلا تعارض بين الجذر اللغوي لكلمة (وزر) وبين قول نبي الله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:29 - 31]، يطلب من الله أن يجعل أخاه هذا مما يشد به الأزر، وسيأتي التفصيل في هذا في خاتمة الدعاء.
قال: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:32]، الهاء في (أشركه) عائدة على هارون، وقوله: (فِي أَمْرِي)، أي: أمر النبوة والرسالة، فقال العلي الكبير لعبده موسى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، فأضحى هارون عليه السلام نبياً رسولاً بشفاعة أخيه موسى؛ ولهذا قالوا: إنه لا يعلم أن أخاً أمن على أخيه من منة موسى على هارون، ولهذا قال الله في نعت كليمه موسى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]، أي: له قربى وزلفى وجاه عند الله، ولهذه الوجاهة التي عند الله أضحى هارون نبيناً ورسولاً، وقد مرت عائشة رضي الله عنها وأرضاها على رجلين في الحج يسأل أحدهما الآخر، قال له: هل تعلم أي أخ أعظم منة على أخيه؟ فقال الآخر لا أدري، فقال الذي سأل: أنا أعلم، إنه موسى بمنته على هارون، فبفضل دعاء موسى أضحى هارون نبينا رسولاً، فقالت عائشة رضي الله عنها معلقة: صدق والله: أي: صدق والله فيما قال: والأخوة منها أخوة الإيمان، ومنها أخوة النسب، ومنها أخوة الصداقة والاتفاق في العيش أو في الذكرى، وأعظمها إذا اجتمعت: أخوة إيمان، وأخوة نسب، وأخوة علاقة أو صداقة أو رفقة أو جيرة أو ما شابه ذلك، أو زمالة، والعرب تقول: إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك والإنسان يحتاج إلى من يكون معه في السراء والضراء، ولا يدخر الإنسان للسراء والضراء أعظم من إخوانه، لكن العرب تقول: إن ذلك الأخ -ويعبرون عنه بالخل الوفي- هو ثالث المستحيلات.
والمستحيلات عند العرب ثلاثة: اثنان منها يتعلق بالدواء، فيقولون: الغول يخوفون به، ولا حقيقة له، والعنقاء طائر يخوفون به، ويتحدثون عن شيء كثير من أساطيره ولا حقيقة له، ولكنهم يجمعون إلى ذلك الخل الوفي، فيقولون: إن ثالث المستحيلات الخل الوفي.
وقد يكونون أصابوا في الأولى، لكنهم أخطئوا في الثانية، فكم من خل وفي موجود، وهذا لا يحتاج إلى شواهد، وأعظمها أخوة الصديق لنبينا صلوات الله وسلامه عليه.
ثم ذكر موسى عليه السلام القضية الأساسية من هذا كله، قال: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:33 - 35]، فذكر الله من أعظم العبادات وأجل الطاعات، قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله! ومن المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).
وبعد أن سأل موسى ذلك قال الله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، وهذه منة من الله على موسى، لكنها ليست بأول منة.(52/3)
منن الله تعالى على موسى منذ صغره حتى صار شاباً
ثم عدد الله جل وعلا أفضاله ومننه وعطاياه على هذا النبي الكريم، فقال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه:37] أي: بإجابتنا لدعائك مرة أخرى.
وقوله جل وعلا: (مرة أخرى) يدل على أمرين: أولاً: يدل على أن هناك أموراً سابقة، وثانياً: يدل على أن هناك أموراً لاحقة؛ لأنها لو كانت خاتمة المطاف لجاء التعبير القرآني: (ولقد مننا عليك مرة) أخيرة؛ لأن الأخير يعني: الخاتم، لكن الآخر قد يكون بعده آخر غيره، ولكنه خلاف الأول، أما الأخير فهو خاتمة لما سبق.
فقول ربنا جل وعلا: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ} [طه:37] المخاطب هو موسى {مَرَّةً أُخْرَى} [طه:37] أي: سبقت منتنا عليك، وستأتي منن أخرى عليك أيها الكليم، ثم عدد الله ما سبق، وأشار إلى ما سيأتي، فقال جل ذكره: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} [طه:37 - 38]، (إذ) ظرف لما مضى من الزمان، كما أن إذا بالألف وظرف لما يستقبل من الزمان، قال الله جل وعلا: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} [طه:38]، ولم يذكر الله جل وعلا في آية ما الذي أوحاه إلى أم موسى، فأبهمه حتى يفصله بعد قليل، وتصبح الأنفس مشتاقة لسماعه، ومن أساليب القرآن: التفصيل بعد الإجمال.
قال الله جل وعلا: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} [طه:38 - 39]، لكن ينبغي أن تعلم أن وحي الله لأم موسى إنما هو إلهام، وليس هو الوحي المعروف الذي هو من خصائص الأنبياء؛ لأن النبوة لا تكون في النساء، وما كانت نبياً قط أنثى.
فقوله: ((إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى))، أي: ألهمها الله ((أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ))، الذي سيقذف هو موسى (في التابوت) أي: في الصندوق، فلم يقل الله لها: أخفيه هنا أو هناك عن أعين حرس فرعون وجنده، وإنما قال الله لها: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} [طه:39]، ومعلوم أن إلقاء طفل رضيع في اليم لم تمر عليه إلا أيام معدودات مظنة هلاكه، لكنه يصبح عين النجاة إذا كان بأمر الله.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان فالإنسان يصبح في قمة الأمان إذا كان محاطاً برعاية الله، والصحابة رضي الله عنهم في يوم بدر أنزل الله عليهم النعاس، والنعاس مظنة نصر لهم رضي الله عنهم وأرضاهم، مع نبيهم صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود: أنه كل من خاف من أحد فر منه، إلا من خاف من الله لجأ إليه، فلا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، وقد قذف الله في قلب أم موسى أن تفعل هذا الصنيع، وإلا ففي العقل أنه لا تقوى امرأة على هذا الصنيع؛ لأنه مهما كان أن يبقى موسى بين يديها في بيتها تحت عينيها خير له من أن تلقيه في البحر.
فقذفته في البحر بأمر من الله، وأمر الله البحر كما يدل عليه ظاهر القرآن: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ} [طه:39]، أي: البحر، وهو النيل بالاتفاق، {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ} [طه:39] جواب للأمر، فجرى ذلك التابوت بقدر الله، حتى أضحى قريباً من بيت فرعون، أو من قصره، حتى آل به الأمر إلى أن تفتحه زوجة فرعون، قال الله: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ} [طه:39]، ما زال الخطاب لموسى، {مَحَبَّةً مِنِّي} [طه:39]، وحتى يحيا موسى أجرى الله السبب، والسبب أن الله قذف في قلب من يراه المحبة إلا بعض شواذ خلقه، وأول من ألقى في قلبه محبة موسى آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وهذه المرأة من أربع نساء أثنى عليهن نبينا صلى الله عليه وسلم، وهن: خديجة ومريم وفاطمة وآسية، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ومن أخطائنا في التعبير اليوم أننا نطلق كلمة (سائر) بمعنى كل، وسائر ليست بمعنى كل، إنما المعنى: بقية، فأنت تقول: نجح فلان وفلان وفلان وأخفق سائر الطلاب، أي: باقي الطلاب، وليست بمعنى كل، فالنبي عليه الصلاة والسلام عدد أولاً أربعاً، ثم قال: (وفضل عائشة على سائر النساء) أي: البقية من غير الأربع (كفضل الثريد على سائر الطعام) فالثريد غير داخل في سائر الطعام.
المقصود: أن هذه المرأة قذف الله في قلبها محبة موسى، فهرولت إلى فرعون تقول له: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9]، قيل -والعلم عند الله- أن فرعون قال لها: أما لك فنعم، وأما أنا فليس لي به حاجة، والبلاء موكل بالمنطق، فوقع الذي أراده فرعون، وهذا بيناه في مواطن كثيرة، لكن نقف على آيات السورة.
قال الله جل وعلا: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، أي: تنشأ وتهيأ على رعاية من الله وحفظ وكلأ من رب العزة والجلال؛ لأن الله ادخرك لأمر عظيم.(52/4)
إعادة الله تعالى لموسى إلى أمه
ثم كرر جل وعلا ظرفاً آخر هو إعادته إلى أمه، قال تعالى: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} [طه:40]، وهذا وقع بعد تحريم المنع، وقد قلنا: إن امتناع موسى من قبول ثدي النساء إنما هو تحريم منع وليس تحريم شرع، قال الله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12].
واستنبط العلماء رحمهم الله من هذه القضية: أن الإنسان ينبغي عليه أن يأخذ بالأسباب، ووجه هذا الاستنباط: أن الله جل وعلا وعد أم موسى أنه سيرد موسى إليها، فقال لها: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، ومع هذا الوعد الإلهي الرباني إلا أن أم موسى قالت لأخته -أي: أخت موسى-: قصيه، أي: تحسسي خبره، فأخذت بالسبب، فتحسست الخبر، قال الله جل وعلا: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ} [طه:40] تخاطب آل فرعون، (على من يكفله)، وكانوا قد بلغت بهم المشقة مبلغاً من الذي يكفله، وقد امتنع عن النساء، قال الله: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه:40]، وأي حزن سيأتيها وقد أضحى وليدها الذي رمته في اليم بين يديها ترضعه وتأخذ على رضاعته أجراً؟ لأن القضية قضية عناية إلهية لهذا العبد الذي أراد الله أن يكون بعد ذلك كليماً مصطفى ونبياً رسولاً، قال الله جل وعلا يذكر أنه من على هذا الكليم الصالح: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [القصص:13]، وهذا الوعد هو الذي قاله الله في سورة القصص: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].
ثم قال: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا} [طه:40]، وهي قصة قتل موسى للرجل القبطي من أهل مصر، {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} [طه:40] أي: الغم الذي أصابك عندما قتلت تلك النفس، وله صورتان: غم: عند شعورك بالذنب، فقد قال الله عنه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16].
وغم: عندما أخبرت أن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فأخرجك الله ممن كان يريد قتلك إلى أرض مدين؛ ولهذا قال الله جل وعلا: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40]، والأظهر عندي في قول الله: ((وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا)) أي: وابتليناك ابتلاء بعد ابتلاء.(52/5)
رجوع موسى من مدين بعد فراره إليها
وقال تعالى: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40].
قوله: ((فَلَبِثْتَ سِنِينَ))، هذا إبهام لعدد السنين، فلم يحدد الله تعالى عدد السنين، لكن عدد السنين لا يمكن أن يخرج عن ثمان أو عشر، وقد عرفنا أن هذا الإبهام لا يخرج عن ثمان أو عشر من قول العبد الصالح كما حكا الله في سورة القصص عنه أنه قال: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27].
فهنا فسرنا القرآن بالقرآن، فتفسير القرآن بالقرآن أجلى لنا الصورة بنسبة ثمانين في المائة، وهي أن السنين أصبحت محصورة في الثمان والعشر، ثم جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو يعلى في مسنده والحاكم في مستدركه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل: ما الأجل الذي قضاه موسى؟ فقال: أتم أوفى الأجلين)، فعلمنا هنا أن السنين التي أبهمها الله في سورة طه هن عشر سنين، عندما اتخذنا طريقاً علمياً بحتاً متدرجاً كما هو ظاهر.
وكلمة (سنين) تسمى عند النحويين من الملحقات بجمع المذكر السالم، فترفع بالواو، وتنصب وتجر بالياء، وقد يرد
السؤال
لماذا لا يقال لها مباشرة جمع مذكر سالم، مع أنها ترفع بالواو، وتنصب وتجر بالياء؟
و
الجواب
أن جمع المذكر السالم لا تتغير صورة مفرده إذا جمع، فتقول: مدرس مدرسون، مهندس مهندسون، إنما يزاد واو ونون في حالة الرفع، أو يزاد ياء ونون في حالة النصب، لكن كلمة (سنة) إذا جمعت على (سنين) لم يسلم مفردها، بل يتغير؛ ولهذا قال النحويون: إن هذه الكلمة ومثيلاتها تسمى: ملحقات بجمع المذكر السالم.
ومما ورد في القرآن من ملحقات جمع المذكر السالم كلمة (بنون) قال الله جل وعلا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46].
وكلمة (أهلون) قال الله جل وعلا: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:11]، (أهلون): فاعل مرفوع؛ لأنه معطوف على فاعل، وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم.
أما في السنة فوردت كلمة أرضين، قال عليه الصلاة والسلام: (طوق من سبع أرضين) فأرضون ملحقة بجمع المذكر السالم إلا أنها لم ترد في القرآن، وإنما وردت في السنة.
قال الله: ((فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ))، هذه السنين كنت فيها معززاً مكرماً، محفوظاً آمناً من بطش فرعون، ثم قال الله له: ((ثُمَّ جِئْتَ)) إلى أي مكان؟ إلى هذا المكان الذي أنت فيه، الذي تخاطب فيه ربك، ثم جئت من أرض مدين إلى جبل الطور، إلى الوادي المقدس ((عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى))، وأنت تعلم أن كل شيء خلقه الله بقدر، لكن القدر هنا قدر خاص، والمقصود به العناية العظيمة بكليمه موسى، أي: جئت لأمر أعددناه، لم تتأخر عنه ولم تتقدم، ولحكمة أرادها الله جئت في هذا الوقت بالذات لأنبئك وأرسلك وأجعلك كليماً مصطفى على أهل زمانك، ولذلك قال الله له: {يا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144].
وهذا المعنى قد فهمه الشاعر جرير حين قال يمدح عمر بن عبد العزيز: نال الخلافة أو كانت له قدراً كما أتى ربه موسى على قدر فهذا المعنى قد فقهه جرير، وهو أن هناك معنى خاصاً للقدر وليس هو القدر العام، وإن كان يقيناً يندرج هذا في القدر العام بلا مراء.
وجرير -وهذا من باب الاستطراد النافع- هو أحد الشعراء الأمويين الذين يستشهد بشعرهم، فكون طالب العلم يلجأ إلى شعر جرير فيقرؤه ويبحث عن معانيه ويغوص في أعماقه، هذا مما يعينه على فهم كلام الله، وجرير أعطي قدرة على السحر بالمبنى، لا السحر بالمعنى، فليس في شعره كبير معان، لكن لديه قدرة في السبك بين الأبيات، أو بتعبير أصح: السبك بين الألفاظ، وهذه روح الشعر وحقيقتها، ولا تأتي إلا من الدربة؛ ولهذا يقل هذا الإتقان في شعر العلماء؛ لأن الإتقان والدربة عندهم قليلة، فلو أتيت برجل حافظ للقرآن، متقن للخطابة، فيعني ذلك لزاماً أنه مشغول أكثر وقته بقراءة القرآن والنظر في كتب العلم، وهذا بالضرورة يعني عدم قراءته للشعر كثيراً، فلا يكون هناك سبك جيد وقد يكون أقرب إلى النظم.
لكن إذا كان الإنسان أكثر قراءته في الشعر فستكون عنده معرفة بروح الشعر، ولذلك كل من اشتهر بالشعر، وأصبح إماماً فيه لا يكون إماماً في شيء آخر، من أصبح إماماً في الشعر محال أن يكون إماماً في غيره؛ لأن هذه منزلة يطلب منها التجرد عما غيرها، بخلاف غيره، لكن قد يكون الإنسان ملماً بكل ذلك، كالإمام الشافعي مثلاً، فقد كان إماماً في اللغة، إماماً في القراءات، إماماً في النحو، فجمع فنوناً هو فيهن رئيس وسيد، لكنه لم يكن إماماً في الشعر كـ جرير، والمتنبي، وأبي تمام، والبارودي، وشوقي وغيرهم؛ فهؤلاء لم يفعلوا في الشعر إلا لأنهم قلما يجيدون شيئاً آخر من الناحية الفكرية.
نعود فنقول: إن الرجل سحر الناس بمبانيه ولم يسحرهم بمعانية، ومن ذلك قوله: أتنسى إذ تودعنا سليمى بفرع بشامة سقي البشام فما وجد كوجدك يوم قلنا على ربع بناظرة السلام تمرون الديار ولم تعوجوا كلامكمو علي إذاً حرام وهذه من حيث المعنى ليس فيها كبير معنى، فإنه يتكلم عن المعشوقة وهو خارج من الديار، فقد أعطته عود البشام، ثم خرج يمر على ديار اسمها ناظرة، أي: مكان اسمه ناظرة؛ ولذلك لم يجر بالكسرة في الأبيات، فيسلم على أهله ويمر، ويعاتب قوماً لم يمروا عليه ويزوروه، وهذا إلى اليوم يجري بين الناس، لكن الله أعطاه سبكاً لفظياً، جعل لشعره صيرورة بين الناس، ومن ذلك قوله: بان الخليط ولو طوعت ما بان وقطعوا من حبال الوصل أقرانا حي المنازل إذ لا نبتغي بدلاً بالدار داراً ولا الجيران جيرانا يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ردي علي فؤادي كالذي كانا لو تعلمين الذي نلقى أويت لنا أو تسمعين إلى ذي العرش شكوانا إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا يا حبذا جبل الريان من جبل وحبذا ساكن الريان من كانا وحبذا نفحات من يمانية تأتيك من قبل الريان أحيانا فليس في الأبيات كلها كبير معنى، لكنها تجري على اللسان وإذا بدأت بها تعجز أن تقف قبل أن تكملها؛ ولهذا كان شعره يسير بين الناس في البوادي والقرى والمدن كسيران النار في الهشيم؛ لأن القضية قضية سبك لفظي في المقام الأول، وهذا مهم جداً في فهم لغة القرآن؛ لأن أكثر من يخطئ في القرآن من أسباب الخطأ عدم فهم ألفاظ القرآن، وأن المقصود من بعضها المعنى العام وليست الحرفية التي تنظر في قواميس اللغة، هذا استطراد في معنى قول الله جل وعلا: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40].(52/6)
أمر الله تعالى لموسى وهارون بالذهاب إلى فرعون ودعوته إلى الله
ثم أتم الله عليه النعمة، فقال عن هذا الكليم: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، وفي الآية السابقة قال: {وََلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، لكن لأي شيء؟ ثم قال: (واصطنعتك لنفسي)، وهذا من أعظم الثناء في القرآن، ومن أعظم الثناء في القرآن ما مر معنا من قول الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، وقول الله جل وعلا على لسان خليله إبراهيم: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، فهذه ثلاثة مواطن ظاهر فيها الثناء على هؤلاء الأنبياء الكرام، وأعظمها قول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، وهذا عظيم جداً.
قال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، ثم انتقل الأمر من تهيئة موسى إلى بعثه، فقال له: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42]، وقرنهما بالأمر الأول: ((وَلا تَنِيَا)) أي: لا تضعفا، من الفعل: ناء، بمعنى: ضعف وعجز ولان، وهذا دليل على أن أعظم ما يعين على تحقيق المطلوب هو الإكثار من ذكر علام الغيوب، اللهج بذكر الله يعين على تحقيق كل مرغوب، ويدفع به كل أمر مرهوب؛ ولهذا قال الله قبل أن يبعثهما وقبل أن يسمي لهما إلى من يذهبان: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:42 - 43]، ولا ريب أن فرعون طغى طغياناً عظيماً، قال تعالى عنه: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وكل ذنب يندرج بعد ذلك في هذا الأمر، وهذا إجمال من الله في قوله: ((إِنَّهُ طَغَى)).
قال الله: {فَقُولا لَهُ -أي: لفرعون- قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، اللين يكون في الأسلوب لا في المضمون، فإياك أن تفهم أن اللين يكون في مضمون الكلام، إنما اللين يكون في الأسلوب الذي تعرض به خطابك، وهذا يجب أن يدقق فيه الإنسان وهو يقرأ القرآن، فمثلاً: تطبيقه على خبر موسى، الله تعالى أمر موسى وهارون أن يدعوا فرعون إلى التوحيد، وإلى عبادة الله، فلا يعقل أن موسى وهارون فهما من اللين أن يغيرا الدعوة، بأن يشرك مع الله واحد منهما أو هما معاً، أو أنه لا يدعي أنه إله لكن لا يعبد الله هذا غير وارد، لكن اللين في قضية كيف تطرح التوحيد كيف تقول لفرعون: آمن بالله، كيف تخاطبه، هذا هو اللين في الأسلوب، أما المضمون فيبقى هو المضمون ترى رجلاً لا يصلي فتذهب إليه وتنكر عليه إنكاراً عظيماً كونه لا يصلي، لكن كيف تنكر؟ هذا هو اللين الذي أمر الله به، أما المضمون فيبقى كما هو مبجلاً عظيماً نحافظ عليه، كما أن الأسلوب إذا بقي العاصي على ما هو عليه يتغير، والدليل: أن موسى وهارون قطعاً عبدان طائعان لله، والله قال لهما: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا))، ومع ذلك قال الله جل وعلا عن موسى أنه قال لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، وكلمة (يا فرعون مثبوراً) ليس في هذا الأسلوب لين، لكن موسى لجأ إليه بعد أن استنفد مسألة اللين، فلما ثبت فرعون على كفره وإلحاحه وعناده غير موسى أسلوبه عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: ((لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى))، وقد سبق في علم الله أن فرعون لن يتذكر ولن يخشى، لكن الله أراد أن يعلم من يدعو إليه كيف يدعو ويتدرج في خطابه.(52/7)
خوف موسى وهارون من طغيان فرعون وعدم استجابته وتثبيت الله لهما
قال الله جل وعلا في الخبر نفسه: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] (قالا) أي: موسى وهارون، وهذا الأمر بعد التكليف، (قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) والمقصود من الأمرين ألا يقبل منا لا حقاً ولا باطلاً، قال الله جل وعلا لهما: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، والله مع كل أحد يسمع ويرى، لكن هذه معية خاصة لكليم الله وأخيه، وهذا أعظم ما وقر به الاطمئنان في قلب رسول الرحمن موسى عليه الصلاة والسلام، ((قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)) ولو اخترت لك من ألفاظ اللغة ما اخترت فلن يمكن أن أؤدي اللفظ الذي جاء به القرآن، كما يقر بذلك كل من يقرأ القرآن ويفهم لغة العرب، فأي اطمئنان وصل إلى قلب موسى، وربه يقول له: ((قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى))؟! قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: (فإن فرعون لن يبطش ولن ينطق ولن يتقدم ولن يتأخر إلا بإذنه القدري جل وعلا، وأنا معكما بنصري وتأييدي أسمع وأرى).
قال تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه:47] (فأتياه) أي: فرعون، (بآية من ربك) أي: جنس الآيات، وإلا فإن الآيات تسع كما سيأتي تفصيلها، (قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى)، هذا نوع اطمئنان وأسلوب في الكلام، لكن هل هو تحية؟ قال به بعض العلماء استناداً على ما ورد في الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث خطابه إلى هرقل وغيره كتب: (من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، أما بعد: سلام على من اتبع الهدى).
وقال آخرون: إنه ليس تحية، بدليل أنه لم يأت في أول الكلام، ولكل وجه، فقد يكون ختم به موسى أمره، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ليكون تحية لغيره.
قال تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48]، وهذه قد مرت معنا من قبل، وقلنا: إن الله حصر الخلود في النار على من اتصف بصفتين: التكذيب والإعراض، وكل كافر تجتمع فيه هاتان الخصلتان، وفي هذه الآية وما قبلها ما يسمى عند البلاغيين: إيجاز، والمعنى: أن موسى وهارون قبلا الدعوة، وتوجها إلى فرعون، وسواء طالت مدة وقوفهما بالباب أو لم تطل، فكم مكثا يستلطفان فرعون في الدخول عليه، هذا علمه عند الله، حتى قال بعض الناس: إنه مكث أربعين عاماً، وهذا بعيد، وقال بعض الناس: أربعين يوماً، وهذا لا يبعد، والمقصود أنهما دخلا عليه.(52/8)
محاجة موسى وفرعون
فلما دخلا عليه وعرضا عليه الرسالة قال فرعون: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49]؟ فأجاب الكليم: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]، كان فرعون يعلم أن رب موسى هو الله، لكن من باب الاستكبار وإظهار أن الله لا يستحق العبادة خوفاً من انفراط قومه عنه، فأجاب الكريم إيجاباً مختصراً: ((قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى))، فالخلق مقدم على الهداية، والنعمة نعمتان: نعمة خلق وإيجاد، ونعمة هداية وإرشاد، فمن حيث الترتيب الزمني: فإن نعمة الخلق والإيجاد قبل نعمة الهداية والإرشاد، ومن حيث كونها نعمة وفضلاً ومنة فإن نعمة الهداية والإرشاد أعظم من نعمة الخلق والإيجاد، والله جل وعلا هنا لما كان يتكلم موسى عليه السلام ويبين فضل الله، كان يتكلم عن القضية من باب ترتيبها الزمني، ولما تكلم جل وعلا عن ترتيبها في الفضل قال: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:1 - 3]، فقدم نعمة الهداية والإرشاد على نعمة الخلق والإيجاد في سورة الرحمن، أما هنا فقدم الخلق لأن موسى يتكلم مع كافر، فيريد أن يبين له الأمر.
قال تعالى: ((قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى))، فخلق الحيوان وهداه إلى ما ينفعه، وخلق النبات والجماد، وأضحى كل شيء يتصرف بالقدر الذي هداه الله جل وعلا إليه، وهذا أمر محسوس، والكلام فيه نوع من الترف الذي يكفي عنه إيجاز القرآن، هذا كله في الكلام عن الرسالة، وفرعون كان ذكياً، فأراد أن يخرج موسى من جو الرسالة، أراد أن يخرجه من عالم الرسالات إلى عالم الحكايات، فقال له: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]؟ والقرون الأولى لا تعد، ولا أخذ موسى عليه السلام يعدد من هم قوم نوح ومن هم قوم ثمود، ومن هم قوم عاد، وذلك حتى يأتي الغلط على لسانه؛ لأن هؤلاء لا يحصون، والكلام فيهم لا يقدم ولا يؤخر شيئاً، وهذا الذي أراده فرعون أن يخرج بالخطاب عن مقصده من عالم الرسالات إلى عالم الحكايات، ((قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى))، فتنبه الكليم لمقصد فرعون فأجمل في الخطاب: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، أي: أنا رسول، وهذا غيب، ولا اطلاع للرسول على الغيب إلى بمقدار ما علمه الله، {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى}، وهذه قد مرت معنا، أننا نقول: إن الله جل وعلا بكل شيء عليم، وأن علمه جل وعلا يوصف بأنه لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان، ودليله هذه الآية: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى}، (لا يضل) أي: لا يجهل، (ولا ينسى) النسيان المعروف، وأي أحد يأتيه النقص في علمه من عدة أوجه، فيأتيه في أنه يعلم ثم ينسى، ويأتيه النقص في أنه يجهل ثم يتعلم، ويأتيه النقص في أنه يتعلم ثم لا يحيط علماً بما علم أو بما يعلم، فتفوته أشياء، وهذه الثلاث كلها منتفية في حق الرب تبارك وتعالى.
ثم أخذ موسى يعدد التعريف بربه، قيل: إن هذا من كلام موسى، وقيل: إنه من كلام الله، والعلم عند الله، قال تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، ثم ذكر الخلق: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:53 - 54]، هنا أراد موسى عليه السلام -إذا قلنا: إن الكلام لموسى في نفس السياق الخطابي إلى فرعون- أن يعرف بربه، وعندما تضرب أمثالاً أو تعرف بأحد فاذكر أقرب ما يكون إليه، وألصق ما يكون بحياته؛ لأن هذه لا سبيل إلى إنكارها؛ ولهذا قال الله لمشركي العرب: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17]؛ لأنهم يغدون ويروحون معها، فقالها قبل السماء وقبل الأرض، رغم أن السماء والأرض آيات عظيمة باهرة، وهذا لا تعارض فيه، لكنه قدم ما هو الألصق حتى يكون أقرب إليهم، فالمقصود من المثل تقريب الأمر وليس إبعاده، فإذا كان المثل إذا ضرب يجعل القضية عائمة غير واضحة فإن المثل غير موفق؛ ولهذا لما أراد موسى أن يعرف بربه قال: ((الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)) وهو الغيث والمطر، ((فَأَخْرَجْنَا بِهِ)) أي: بهذا المطر، ((أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى))، شتى في كل شيء، منه ما تأكله الدواب، ومنه ما يأكله بنو آدم، ومنه ما لا يأكله لا الدواب ولا بنو آدم إنما هو للزينة، ومنه الحامض، ومنه الحلو، ومنه غير ذلك، أنواع شتى خلقها الله جل وعلا ثم قال جل وعلا: ((كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ))، أي: شيء لكم وشيء لدوابكم، ((إِنَّ فِي ذَلِكَ))، أي: في هذه الأمور كلها الدالة على عظيم خلقه ((لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى))، أي: ذوي العقول، ولم ترد كلمة (النهى) في القرآن العظيم إلا في موضعين كليهما في سورة طه، قال الله جل وعلا: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى))، وقال جل وعلا في خاتمة السورة، بعد أن ذكر أخبار الأمم السابقة والكتاب والميزان والأجل المسمى، ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:128].
والمقصود: أن أهل العقول هم أقدر الناس وأولى الناس وأشد الناس تهيئة لأن يعتبروا بما يرونه أمامهم.
ثم ختم الله جل وعلا هذا المقطع بقوله: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55]، والكلام كله عن الأرض، وقد مر معنا أن خلق أبينا آدم مر بمراحل: أولهن: المرحلة الترابية من قبضة قبضت من الأرض، وهذا معنى: ((مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ))، أي: باعتبار خلق أبيكم، وإلا فإن الناس خلقوا من نطفة، (وَفِيهَا) أي في الأرض (نُعِيدُكُمْ)، والمقصود: أن الإنسان مرده إلى القبر، وحتى لو قلنا: أن إنساناً التقمه حوت، أو افترسه سبع؛ فإن الحوت والسبع مآله إلى أن يموت، ثم مآله إلى أن يتحلل في الأرض، فسواء دفن الشخص بطريق مباشر أو لم يدفن بطريق مباشر فإن مصيره إلى أن يكون تراباً، يقول أبو العلا المعري في أبياته الفلسفية الشهيرة: خفف الوطء ما أظن اديم الأرض إلا من هذه الأجساد غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي رب قبر صار قبراً مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد سر إن استطعت في الهوى رويداً لا اختيالاً على رفات العباد إلى آخر ما قال في قصيدة معروفة المقصود منها أن الأرض أكثرها موتى قبروا فيها، والله يقول: (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) ثم قال: (وَمِنْهَا) أي: من الأرض، ((نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)) وهذا الإخراج يكون يوم البعث والنشور، ويكون نبينا صلى الله عليه وسلم أول من ينشق عنه القبر، فيجد أخاه الذي نتحدث عنه الآن آخذاً بقوائم العرش، قال صلى الله عليه وسلم: (فلا أدري أفاق قبلي -أي موسي- أم جوزي بصعقة الطور)، وقوله: (أم جوزي بصعقة الطور) أي: أن نفخة الفزع أو الصعق لم يدخل فيها موسى عليه الصلاة والسلام.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أدري) يقفل الباب في البحث في المسألة؛ لأن ما جهله النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعلمه أحد غيره، اللهم إن لم يكن بحثاً غير مجزوم فيه من باب الترف العلمي والسبق في مضمار أقدام العلماء.
نخلص من هذا كله: أن الله جل وعلا اصطفى هذا الكليم، وقربه أدناه، وكان في أول أمره همه جذوة من النار، فعاد وهو كليم الواحد القهار، ثم لما من الله عليه بالرسالة أحب أن يشرك الله جل وعلا أخاه في الرسالة، فقبل الله جل وعلا له هذا السؤل، وذكره بالمنن الماضية، وكيف نشأ محفوظاً برعاية الله جل وعلا حتى جاء على قدر بين يدي الله، يكلمه ربه ويعطيه مقام التكليم.
ثم بعثه الله جل وعلا إلى فرعون، وليس موسى أول الرسل إلى أرض مصر؛ بل قد دل القرآن على أن هناك رسلاً قبله، ومنهم يوسف عليه السلام، قال الله جل وعلا على لسان مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:34] أي: من قبل موسى، {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34]، وهذا ظاهره -والعلم عند الله- أنه لم يبعث رسولاً بعد يوسف إلى أهل مصر.
ولما وقف موسى بين يدي فرعون خاطبه فرعون بقوله: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49]؟ فعرفه موسى عليه الصلاة والسلام بربه، فلما احتار فرعون في الجواب أراد أن يخرج عن ماهية الخطاب، ويشغل موسى بقضايا الحكايات، فرده موسى إلى أمور الرسالات: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، وهذه تعلم المرء كيف يجادل الآخرين، وأنه أحياناً من يجادلك يحاول أن يخرجك من الشيء الذي تجيده إلى الشيء الذي لست متمكناً فيه، فلا تمكنه من مراده، وإنما عد به إلى الجادة التي تحسنها؛ لأن الإنسان إذا تكلم بالشيء الذي لا يعرفه قد تنكشف سوءته، وتظهر عورته، وخير له ألا يقتحم حججاً لم يؤصل عليها ولم يعرفها، ولا يستسلم لخطاب الغير في قضية مجاراته في طرائق عدة، ولذلك قال موسى: ((عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى))، ثم توالت آيات تبين ما من الله جل وعلا به على الخلق تظهر ربوبيته، وهذه الأمور لا يستطيع فرعون و(52/9)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة طه [4]
حينما بعث الله تعالى موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه استكبر وكذب وأبى، فحاجّه موسى عليه السلام فلم ينفع ذلك، ثم زعم فرعون أن موسى عليه السلام إنما جاء ليخرجه وقومه من أرض مصر، وزعم أن موسى ساحر، فأراد أن يواجهه علانية أمام الناس ليظهر الصادق من الكاذب، فتواعدا إلى يوم الزينة وهو يوم عيدهم، فاجتمعوا فيه، وجاء موسى وجاء السحرة، فألقوا ما بأيديهم، وألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، وحينها آمن السحرة، وظهر الحق واندحر الباطل.(53/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أريناه آياتنا كلها)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:56]، المخاطب هنا هو فرعون بالاتفاق، وقد مضى معنا ما أظهره موسى لفرعون من الآيات، وينبغي أن تعلم قبل أن نقص عليك ما في هذه الآيات من عبر وعظات، ودلائل وآيات، أن هذه الأمور لم تتم في برهان، وأنه ليس بمجرد أن دخل موسى على فرعون تمت القضية كلها، ولكنها مرت عبر سنين، فموسى عليه الصلاة والسلام استوطن أرض مصر فترة طويلة قبل أن يخرج منها، وما ذكره الله جل وعلا من خبر قارون وهلاكه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]، إنما كان قبل خروج موسى من أرض فرعون, ووجدت له صراعات، منها: أن الله جل وعلا أمره أن يتخذ بيوتهم قبلة، وأن الله جل وعلا أمره بأمور كثر، ومرت الآيات كالطوفان والجراد والقمل والضفادع وهذا كله حصل على مراحل زمنية طويلة، وأن الله جل وعلا أرحم من أن يعذب من غير أن يعطي فترة زمنية لمن أراد أن يعذبهم، وإنما لا يهلك على الله إلا هالك، والشقي من لم تتداركه رحمة الله تبارك وتعالى، وفرعون إنما أهلكه شقاؤه وعناده ومكابرته سنين طويلة.
فهنا يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} [طه:56]، (آياتنا) جاءت بالكسر؛ لأنها جمع مؤنث سالم، وجمع المؤنث السالم ينصب بالكسرة نيابة عن الفتحة، وقد أكد بتوكيد معنوي هو كلمة (كل)، ولهذا كلمة (كل) جاءت منصوبة؛ لأنها أكدت اللفظ، واللفظ منصوب.
والمقصود بكلمة (كل) هنا كل الآيات التي كتب الله أن يعطيها موسى حجة على فرعون، وكلمة (كل) لا تفيد عدداً، لكن العدد جاء مبيناً في سورة أخرى، قال الله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل:12]، وهذه التسع الآيات قد مرت معنا كثيراً، وهي: اليد والعصا، هذه اثنتان، وقال الله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130]، وهذه اثنتان، مع الأوليين أصبحت أربعاً، وقال جل وعلا: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، وهذه خمس مع الأربع الأول تصبح تسعاً، وهي المقصودة بقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} [طه:56].
ومع تلك الآيات المتتابعة المفصلة قال الله: ((فَكَذَّبَ وَأَبَى))، وقد ذكرنا عند تفسير قول الله جل وعلا: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48]، أن أعظم فائدة أنه لا يخلد في النار إلا من كذب وتولى.
فقول الله هنا: ((فَكَذَّبَ وَأَبَى))، هي عين قول الله: {عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48]، وهي عين قول الله: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:15 - 16]، فالتولي والإباء والإعراض بمعنى واحد، وكل من يريد أن يتخذ منهجاً في معرفة عقائد الناس يجب عليه أن يستصحب هذا الأصل قبل أن يجازف في تكفير الناس.(53/2)
تفسير قوله تعالى: (قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا وأن يحشر الناس ضحى)
قال الله تعالى عن فرعون وهو يخاطب موسى: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} [طه:57]، فسمى تلك الآيات سحراً، وخص منها بالذات اليد والعصا، والعصا على وجه الخصوص؛ لأنها انقلبت على هيئة حية وثعبان.
وهذا القول أراد به فرعون إثارة عامة والغوغاء، أن المقصود الأسمى من رسالة موسى وهارون -في زعمه- ليس هو توحيد الله، وإنما إخراج أهل مصر من مصر، وقد كانت القوى السياسية العامة في أرض مصر جعلها فرعون مقسمة ثلاثة أقسام: القوة الإدارية السياسية جعلها فرعون بيد هامان: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر:36]، وكان وزيراً لفرعون، والقوة المالية الاقتصادية كانت بيد قارون، والقوة الإعلامية كانت بيد السحرة.
فقال فرعون هنا: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} [طه:57 - 58]، حتى يؤكد أن ما جاء به موسى سحر، والسحر له حقيقة بلا شك، وإن كان يخفى على أكثر الخلق، لكن له حقيقة كما هو مذهب أهل السنة، والله جل وعلا ذكره في مواطن متعددة في كتابه، ونص على أن تعلمه كفر، قال الله جل وعلا: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، وليس هذا مقام البسط فيه؛ لأننا نبقى أوفياء للآيات، لا نخرج عنها بأكثر مما هو لازم، فنقول: قال فرعون لموسى: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه:58].
هل هو موعد زماني أو موعد مكاني؟ ظاهر كلام فرعون أنه موعد كلامي، لكن جواب موسى جعله زمانياً، وكأنه يضمن أن ينتصر، قال بعض العلماء في تفسير: ((مَكَانًا سُوًى))، أي: مكاناً وسطاً، ليس ببعيد عني ولا ببعيد عنك، وأظنه بعيداً، وإنما المعنى: أي: مكان ظاهر لا خفية فيه، فحوله موسى موعداً زمانياً: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59].
فأثبت موسى من قبل أن يبدأ العراك معهم ثقته بنصر الله، فقال: ((وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى))، وأعظم ما يمكن أن يستنبط في هذا المقام: أن دعوة الأنبياء دعوة واضحة لا تحاك في الخفايا، فليست الدعوة أحزاباً سياسية، ولا جماعات غير مرضية، ولا غير ذلك، وليس في دين الله رءوس وغير ذلك، وبروتوكولات خفية، وبروتوكولات يعلمها العامة وغير ذلك، إنما دين الله جلي واضح تعبد الله به الجميع، ولهذا لم يكن عند موسى عليه السلام شيء يخفيه في الدعوة إلى ربه، ولذلك قال: ((قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)).
ويوم الزينة في ذلك الوقت وفي ذلك الزمان كان يوم عيد لهم لا عمل شاق لهم فيه، فهم في فسحة من أعمالهم، وعندما يكون الناس في فسحة من أعمالهم يكونون أقدر على أن يصلوا إلى المطلوب، وأن يأتوا إلى هذا الأمر الذي سيشهدون فيه الصراع، وبعض أهل العلم يقولون: إن الأعياد المنصوص عليها شرعاً: يوم الزينة كان لفرعون وآله، والعيد الذي ذكره الله جل وعلا عن قوم إبراهيم لما رفض إبراهيم أن يذهب معهم، وعيد الفطر والأضحى التي جاءت في السنة، التي جاءت بدلاً من يوم بعاث الذي كان عيداً للأنصار أوساً وخزرجاً في الجاهلية.
ومعلوم أنه كلما كثر حشر الناس، وكان الحضور في رابعة النهار ضحى، والكل سيشاهد ويرى، كان ذلك أدمغ لحجة فرعون، وأظهر وأبين لحجة موسى، وأنكأ لأعداء الله وخصومه.(53/3)
تفسير قوله تعالى: (فتولى فرعون فجمع كيده وقد خاب من افترى)
قال الله تعالى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:60].
ولا ريب أن ما بين هذا اليوم الذي تواعدا فيه وما بين اليوم الموعد نفسه فترة زمنية، وهذه الفترة الزمنية تسمح للناس بأن يخوضوا، وللخبر أن ينتشر، ويصبح لا هم للناس وليس هناك خبر يسري مثل هذا الخبر، فيصبح الجميع مهيأ لأن يصل، ويريد أن يعرف أين الحق، لكن الناس حتى في معرفتهم للحق يتفاوتون، قال الله جل وعلا: ((فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ))، كيف جمع كيده؟ بينه الله في آيات أخرى بقوله: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:53]، وبعث بعد ذلك أن يأتي السحرة من كل مكان، وهذه الفترة الزمنية علا فيها قدر السحرة؛ لأنه غلب على ظنهم أن أمر فرعون أصبح بيدهم، فالآن القوة السياسية التي كانت بيد هامان تنحت قليلاً، والقوة المالية التي كانت بيد قارون تنحت قليلاً، وجاء دور قوة الإعلام الذي كان متمثلاً في السحرة.
فأراد السحرة لأنفسهم منازل، أرادوا أن يشترطوا على فرعون شروطاً تجعلهم أرفع منزلة بعد الغلبة، قال الله في آية أخرى: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42]، فأعطاهم فرعون وعوده، وأغراهم بالمال وعلو المنازل، فجاء السحرة وهم مدفوعون دفعاً دنيوياً عظيماً، وجاء الناس، لكن الناس كان الدافع لهم أن يروا انتصار السحرة، قال الله جل وعلا عن الناس: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:40].
ولم يأتوا ليعرفوا أين موطن الحق، وأين مكمنه، وإنما جاءوا لينظروا كيف سوف تغلب السحرة موسى عليه السلام وأخاه.
ولكن مع ذلك أنبياء الله يبقون رفيقين بالخلق، قال الله جل وعلا: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61]، (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أي: بصنيعكم، وبردكم للرسالة: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه:61]، فخوفاً من نزول العذاب عليهم حذرهم؛ لأنه لا مصلحة للنبي في هلاك قومه، والأنبياء أرحم الخلق بالخلق، وأنصح العباد للعباد، لكن إذا أبى واستكبر ذلك المدعو، وأعرض عن الله، وجعل كلام الله وراءه ظهرياً، وحقت عليه كلمة العذاب؛ فإن كلمة العذاب لا تحق إلا على هالك، فإذا هلك من هلك بعذاب الله فلا ينبغي لمؤمن أن يأسف عليه ولا أن يحزن؛ لأنك لست أرحم بالخلق من ربهم، قال الله عن أنبيائه أنهم يقولون عن أممهم بعد الهلاك: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف:93]، فلا يصيبهم أسى على قومهم بعد هلاكهم، ولكن الرحمة تبقى ما زال هناك أمل في أن يهتدوا.
وقوله: ((فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى))، ولا افتراء أعظم من الافتراء على الله جل وعلا، وأعظمه قول فرعون: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وتصديق هؤلاء الناس لفرعون، واتخاذهم إياه إلهاً من دون الله.(53/4)
تفسير قوله تعالى: (فتنازعوا أمرهم بينهم وقد أفلح اليوم من استعلى)
قال الله تعالى: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:62]، أي: عقدوا مجلساً خاصاً بهم، يتشاورون في أمر موسى وأخيه، في هذه الداهمة التي طغت عليهم: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه:63].
لا يؤثر في الناس شيء أكثر من خوفهم على مراكزهم أن تتبدل، وهذا معنى: ((وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى))، وقد انتهز فرعون هذه المسألة، فأخبرهم أنه ما جاء موسى وهارون إلا ليغيروا الوضع الاجتماعي القائم، وهذا حصل حتى في عهد النبوة، فإن أبا جهل وأبا سفيان كانوا يقولون للناس: إن محمداً يريد من الفئة المستعبدة كـ بلال وعمار أن تسود، وأن ترقى، وأن يتغير الوضع الاجتماعي، حتى يصد الناس عن دين الله، ولا أحد منتفع من وضع يريد بذلك الوضع أن يتغير إلا أن يكون رجلاً ربانياً لله، وإلا فإن الأصل أن كل صاحب وضع اجتماعي لا يريد ذلك الوضع الاجتماعي أن يتغير، وكل مضطهد في وضع اجتماعي يتمنى من ذلك الوضع أن يتغير حتى يعلو مكانه، ولذلك فإن الخارجين على أي دولة -من حيث الأنظمة السياسية المحضة- في أي عصر ومكان إنما يأتون للمغلوبين على أمرهم حتى يغيروا مكانتهم.
وكمثال: فإن الدولة الأموية في عصرها اضطهد آل البيت واضطهد الموالي الذين دخلوا في دين الله من غير العرب، فلما قامت دولة بني العباس قامت على هذا الخطأ الذي وقع فيه بنو أمية، فأكثر نصراء العباسيين كانوا من الموالي، فقامت دولة بني العباس على أكتاف الموالي، وصاحب الفضل الكبير في قيام دولة بني العباس هو أبو مسلم الخراساني، ولم يكن عربياً، وإنما كان ممن استضعفهم بنو أمية واستعبدوهم، ولم يكن لغير العرب سلطان ولا شوكة في عهد دولتهم، حتى مسلمة بن عبد الملك، وهو أحد أبناء عبد الملك، وقد كان قرة عين أبناء عبد الملك، لكنه لم يعط الخلافة؛ لأن أمه لم تكن عربية، فكان الموالي مضطهدين في عهد بني أمية، فأرادوا للمجتمع أن يتغير فتغير، وجاء بنو العباس، فلما جاء بنو العباس وأصبح بيدهم آل البيت والموالي، ولا بد أن يختاروا أحدهما، ففرطوا في العلويين وأبقوا بني العباس، وبقي العلويون مضطهدين حتى في دولة بني العباس، وبقي الطرف الآخر وهم الموالي، والموالي كثر، فالأعراق التي جاء منها الموالي لا تتعدد، ولا بد من اختيار فئة واحدة، فاختار العباسيون في أول دولتهم الفرس، فقدم الفرس، ورفع شأنهم، حتى وصل البرامكة إلى ما وصلوا إليه، ثم لما جاء المعتصم -وكانت أمه تركية- قلب الموازين، وأبقى على الموالي الأتراك؛ لأنهم أخواله، وأضاع الفرس، فساد الأتراك، ثم كلما جاء خليفة قرب مواليه، ولئن أخطأ الأمويون في إبعادهم للموالي باضطهادهم؛ فإن خطأ بني العباس أكبر في أنهم اصطفوا الموالي حتى أصبح هؤلاء يغيرون من شاءوا، ويضعون من شاءوا من الخلفاء.
والمقصود من هذا الاستطراد: أن القرآن يقرأ ليفهم أوضاع الناس من خلاله، فكان فرعون يتخذ هذه المسألة أمام الناس: ((قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى))، وهذه الآية قد أشكلت على العلماء نحوياً، وضربوا فيها مضارب شتى، ولن أقول فيها شيئاً جديداً، لكن الاتفاق على أن (إن) تنصب، وأن اسم الإشارة الأصل أنه مبني، وأنه إذا ثني يأتي منصوباً بالياء، فيخرج من كونه مبنياً إلى كونه معرباً، فأشكل على العلماء أن (هذان) جاءت بالألف، فبعض العلماء قال: (إنْ) هنا مخففة لا تعمل، وما دامت لا تعمل فأصبحت (هذان) مبتدأ، و (لساحران) خبر، وقال آخرون -وهذا قول لبعض الكوفيين-: (إن) نافية، واللام في (لساحران) ليست اللام المزحلقة، وإنما أداة استثناء، والمعنى عندهم: ما هذان إلا ساحران.
وقال آخرون غير ذلك، وتكلم فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه، مع أنه غير نحوي، لكن له فيها كلام نحوي جيد، ومال رحمه الله تعالى إلى أن (إنْ) هنا بمعنى: نعم، الحق أن اللغة تؤيده، وبتعبير أصح: الاستعمال العربي يؤيده، فقد قال عبد الله بن قيس الرقيات -والرقيات ليس نسبه، لكنه تغزل بأكثر من امرأة اسمها رقية، فعرف بـ عبد الله بن قيس الرقيات، وهو ممن يستشهد بشعره من حيث اللغة- قال في بيت شعر له: بكرت علي عواذلي يلحينني وألومهنه ويقلن شيب قد علا ك وقد كبرت فقلت إنَّه وقوله: (إنه) هنا بمعنى: نعم، ولذلك قالوا: (إن) في الآية بمعنى: نعم، فيصبح لا خلاف في الآية نحوياً، ومعناها: نعم هذان لساحران.
لكن رد علي هذا بأن نعم حرف جواب، وليس هناك سؤال هنا، ورد الآخرون بأكثر من ذلك، والمقصود أن نعرف التصور النحوي العام في قضية إعراب هذه اللفظة.
قال تعالى عنهم: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ} [طه:64]، أي: حتى يكون ذلك أقوى على قهر عدوكم: {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:64]، وبالطبع ثمة مطامع بين أعينهم، مطامع تنقسم إلى قسمين: الإبقاء على الوضع الاجتماعي القائم، وأمل الزيادة فيه، لأن فرعون قال: {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42]، فأعطاهم وعوداً، وإن كنا نجزم أنه لو تحقق لهم ما أرادوا فإن فرعون لن يقبل، لكن على العموم هذا وعد لهم.(53/5)
تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى إما أن تلقي أنها تسعى)
قال الله جل وعلا: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65]، من القائل؟ إنهم السحرة، فقد جاء يوم الزينة، وحضر الناس من كل مكان، لا بغية للناس إلا أن يروا الانتصار، وفرعون على الأظهر في مكانه مبجلاً، وموسى وأخوه معهما رب العالمين، وقد قال لهما جل وعلا من قبل: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وموسى هو موسى الذي ربي من قبل في جبل الطور، بماذا ربي؟ {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه:17 - 18]، والآن هو نفسه واقف وفي يمينه العصا التي أخبره الله جل وعلا أنها آية، والله جل وعلا أخبره ولا راد لحكمه، ولا معقب على مشيئته، فوقف موسى كما وقف قبل بين يدي ربه، والعصا في يمينه، وأقبل هؤلاء قد أجمعوا أمرهم صفاً، وقد أفلح اليوم من استعلى.
هنا ننيخ المطايا، فلا أحد أكرم من الله، وتعلّم مما يأتي كيف تتعامل مع الله، فإن الله جل وعلا أرحم الراحمين، ومعنى (أرحم الراحمين) هنا: أنه لا يضيع عند الله من المعروف ولو مثقال ذرة، وإذا أراد الله جل وعلا شيئاً هيأ أسبابه، وهذا -والله- ليس من فرائد العلم باعتبار أنه غريب ستجده، لكنه من فرائد العلم إذا طبقته.
فهؤلاء السحرة -رغم المغريات التي بين أيديهم- استحيوا من موسى {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65]، وهذه العبارة في التلطف مع موسى وعدم جبره على الإلقاء أولاً، أو عدم جبره على الإلقاء آخراً، وقد جعلها الله جل وعلا سبباً في هداية القوم بهذه النية الطيبة التي خرجت على شكل ألفاظ قد لا يشعر بها أحد، لكن هذا ما أراده الله تمهيداً لعطاء رباني لهم بعد ذلك كما سيأتي.
وفي آية أخرى قال تعالى: {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف:115]، قال تعالى: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، لماذا قال: بل ألقوا؟ أنت عندما تذهب إلى السوق لن تستطيع أن تحكم على أحسن وأجود ما تريد شراءه إلا إذا مررت على السوق كله، فإذا مررت على السوق كله واخترت العينة التي تريدها وجاء أخوك يلومك تقول: إن هذا هو أفضل ما هو موجود، وإذا أراد الله بعبد خيراً أخر ظهوره بين أقرانه حتى ييأس الناس من كل أحد، ويخرج أقرانه كل ما لديهم، فإذا أراد الله بعبد من دونهم فضلاً زائداً عليهم نثر كل منهم ما في كنانته، وأظهر ما عنده، ولم يبق شيء لم يقدمه، ثم أخرج الله جل وعلا وليه الذي يريد أن يقدمه على غيره، فهذا حصل عيناً في قضية موسى، فقد قال لهم موسى: بل ألقوا، فما من حبل ولا عصا إلا وألقوها، وليس الأمر بالهين، قال الله تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ}، أي: إلى موسى: ((مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)).
وقول الله جل وعلا: ((يُخَيَّلُ)) يدل صراحة على أنها لم تكن تسعى، وهذا سحر تخييل، وهو أحد أنواع السحر المذكورة في القرآن، وقد ذكر الله في القرآن سحر التخييل، وصورته: أنك ترى الشيء على غير حقيقته بما يريده الساحر أن تراه، وإلا فالأصل أن حقيقة الأمر الذي ترى أنت غير موجودة، فهي حبال وعصي، لكن موسى يخيل إليه أنها تسعى، وبالقطع ما دامت تخيل إلى موسى وأخيه فكيف بالعامة والدهماء الذين يحيطون بحلبة الصراع، سوف سيرون أموراً عجيبة، وقد ذهب بعض المشايخ من الجامعة الإسلامية إلى أحد البلدان الأفريقية، فوجدوا رجلاً معه جمل، والناس يلتفون حوله، فكان هذا الرجل يدخل من دبر الجمل ويخرج من فمه، والناس ينظرون مفتونون، فأحد هؤلاء المشايخ مع زملائه رجع قليلاً عن نفس المكان، ثم قرأ آية الكرسي وهو يتممها وقف لينظر، فوجد الرجل يدخل بسرعة من تحت أرجل الجمل، مع أنه قبل قليل رآه يدخل من الدبر ويخرج من الفم، فأخبر من معه من زملائه الذين ذهبوا للدعوة الخبر، فذهبوا وقرءوا آية الكرسي ورجعوا فرأوا هذا المسكين يمشي بين يدي الجمل ورجليه، ولا يدخل فيه أصلاً؛ لأنه عقلاً مستحيل أن يكون دخل في الجمل، لكنه سحر أعين الناس، وهذا سحر التخييل حجب عن هؤلاء الفضلاء بالآية العظيمة آية الكرسي، وقد ورد في فضلها ما لا يخفى على الكثير، والمقصود أن هذا سحر التخييل.
والسحر الآخر قال الله عنه في سورة البقرة: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} [البقرة:102]، أي: من الملكين {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، فذكر الله جل وعلا سحر التفريق بين المرء وزوجه، وأن هذا يقع، لكن الله ذكر أنه مقيد بإذن الله تبارك وتعالى، ولا يمكن أن يقع شيء لا قدرياً ولا شرعياً إلا بإذن الرب تبارك وتعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، وكل السحر ضرر، والله يقول: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ} [البقرة:102].
خلاصة الأمر: أني أجمع شتات معاني الآيات في أن السحر في القرآن جاء على صورتين: سحر تخييل، وسحر تفريق، ولا أذكر هناك نوعاً ثالثاً موجوداً هنا، وقد ذكر بعض الفضلاء أنواعاً أخر، لكن لا أعلم لها دليلاً من كتاب الله.
الذي يعنينا أن الله جل وعلا يقول: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} [طه:66]، أي: يخيل إلى موسى ((أَنَّهَا تَسْعَى))، أي: تتحرك.(53/6)
تفسير قوله تعالى: (فأوجس في نفسه خيفة موسى ولا يفلح الساحر حيث أتى)
قال الله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67]، دخل الخوف إليه، رغم أنه يعلم أنه سحر، وهذا باعتبار بشريته، لكن هذا ليس مستقراً في قلبه، وإنما هو أمر عارض، وعليه تحمل كثير من الآيات المشابهة، فليس الخوف مستقراً في قلبه عليه السلام، وإنما هو باعتبار الجبلة وأمر عارض، والخوف الحاصل في هذا المجمع لا يمكن أن ينزع إلا بوحي عظيم من رب كريم، فأوحى الله جل وعلا إليه: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68]، فأنت أعلى منهم؛ لأن ما قدموه تلفيق وتمويه، وما ستقدمه تأييد من العلي الكبير، وشتان ما بين الأمرين، فهذا تلفيق تمويه، يخدعون به الناس، أما أنت فما ستفعله هو أمر إلهي ومعجزة إلهيه من لدن ربك.
قال تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].
قال العلماء: ذكر الله اليمين هنا من باب البركة، واليمين معلوم فضلها بالشرع، ومن دلائل فضلها أن من طرائق القرآن أن الله إذا أفرد وجعل مقابل الإفراد جمعاً دل ذلك على فضيلة المفرد، قال الله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل:48]، وقال تعالى: {وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، فأفرد النور وجمع الظلمات، وأفرد اليمين وجمع الشمائل ليبين فضل النور وفضل اليمين مقابل الظلمات ومقابل الشمائل.
قال الله تعالى: ((وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ))، هذا تذكير بالشيء القديم يوم أن كان بين يدي الله، فألقى الكليم ما أمره به البر الرحيم فألقى عصاه، قال الله: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].
قول الله جل وعلا: ((حَيْثُ أَتَى))، نفي قاطع كلي لا استثناء فيه أن الساحر لا يمكن أن يفلح أبداً، وأكبر الدلالة على أن السحرة لا يفلحون أنهم أفقر الخلق، ولا يستطيعون أن يحموا أنفسهم من دورية، أو رجال هيئة، وهم بشر مثلهم، لا يملكون من الأعوان أحداً مثلهم مما يدل على ضعفهم وعجزهم، وحتى لو تظاهروا مرة أو مرتين أو ثلاثاً لا يلبثون أن يقعوا.
وما هو الذي حصل مع سحرة فرعون؟ قال الله في آية أخرى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117]، انقلبت هذه العصا إلى حية حقيقية، وليست شيئاً في أعين الناس مخيلة، بل انقلبت إلى حية حقيقية، وهذه الحية الحقيقية لديها القدرة على أن تأكل الحبال والعصي، وهي تراها على أنها حبال وعصي، لا تراها على أنها حيات، فأخذت تأكلها، ولا يعرف الشيء مثل صانعه، وهؤلاء السحرة ينظرون إليها على أنها حية، ويرون حبالهم وعصيهم على أنها حبال وعصي؛ لأنهم لا يسحرون أنفسهم، لكن تبين لهم قطعاً أن ما جاء به موسى ليس بسحر، وأنه مؤيد بربه، والآن ما الذي نفعهم بعد الله؟ تلك الكلمة الطيبة يوم أن أنصفوا موسى بقولهم: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65].
وفرعون يسمع، لكن لشيء أراده الله، حتى يتم الله عليهم النعمة، وإذا أراد الله جل وعلا شيئاً هيأ أسبابه، فمثلاً: انظر إلى هاجر أين كانت؟ كانت خادمة عند ملك كافر، وسارة كانت من أجمل نساء العالمين، وهي أقرب الناس شبهاً بأمنا حواء، فجاء الفاجر ليفعل بها، ونحي إبراهيم، فجلس إبراهيم يدعو، وجلست سارة تدعو، وقد جاء في الحديث الصحيح أنها كانت تقول: (اللهم إن كنت قد آمنت بك، وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فاحفظني)، فحفظها الله، فلما حفظها الله شل ذلك الفاجر وأعيق، فقال لها: ادعي لي ولا أضرك، فدعت له، فلما عاد واطمأن عاد مرة أخرى فرجعت إلى دعائها، فرده الله عنها، فدعت مرة أخرى، فقال لمن أتى بها: إنك لم تدخلني على امرأة، إنما أدخلتني على شيطان، ثم فتن بجمالها، وقال في نفسه أن هذا الجمال محال أن يخدم نفسه بنفسه، فقال: أعطوها هاجر، وهاجر جارية عنده وهو كافر ظالم، فأعطيت هدية لـ سارة، فخرجت هدية جارية لـ سارة تخدمها، ويشاء الله أن سارة يتأخر حملها، فهي قد حملت وولدت إسحاق، لكن تأخر حملها، حتى يصبح في قلب سارة حزن على زوجها إبراهيم أن ليس له ولد، فتطلب منه أن يدخل على جاريتها هاجر بعد أن وهبته إياها، فيدخل إبراهيم على هاجر فيولد من هذه الجارية التي هي بالأمس خادمة عند ملك كافر يخرج من هذا الرحم أب لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله، وهو إسماعيل جد العرب وجد نبينا صلى الله عليه وسلم.
فانظر إذا أراد الله بعبد فضلاً كيف تجري الأقدار، ولو كان قدر الله أن سارة حملت بإسحاق لما طلبت سارة من إبراهيم أن يدخل على هاجر، لكن أخر حمل سارة من إبراهيم حتى يدخل إبراهيم على هاجر فيكون من هاجر إسماعيل، ويكون من إسماعيل محمد صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أن هؤلاء رزقوا خطاباً حسناً، وحتى الخطاب الحسن هذا فضل من الله، لكن حتى تعلم أن الأمور لها أسباب تجري على نسق، والله يقول في هذا حقاً وفي أمثاله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، وهذه نفائس العلم التي تبنى عليها أحداث الزمن، ومرور الأيام، وكيفية أخذ العبر، والدراية بأحوال الخلق، وأن هناك رباً لا رب غيره ولا إله سواه، يحكم في خلقه ما يشاء، ويفعل ما يريد.(53/7)
تفسير قوله تعالى: (فألقي السحرة سجداً)
بعد هذا كله ماذا حصل؟ قال الله تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70]، معلوم أن السحرة ما كانوا واحداً أو اثنين بل كانوا كثيرين، فمنهم من قال: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:121]، ومنهم من قال: (آمنا برب موسى وهارون)، ومنهم من قال: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70]؛ لأنهم لم يعتقدوا أبداً أنهم سيؤمنون حتى نقول: لقد اتفقوا على كلمة واحدة، فاختلف التعبير، وبكل تعبير ورد القرآن، فذكر الله جل وعلا الأساليب التي عبر عنها السحرة.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما نقل عنه: (كانوا أول النهار كفرة سحرة، وأصبحوا آخر النهار شهداء بررة)، ولهذا لا ييأس أحد من هداية أحد، ولا يدري أحد كيف تكون الخواتيم، فقد خرجوا من بيوتهم وهم يمنون أنفسهم بالعطايا الدنيوية، ويريدون أن يحاربوا الله ورسوله، ثم لا يلبثون أن يؤمنوا ويخروا ساجدين، هذا السجود -كما سيأتي- أورثهم عزة ومنعة؛ لما مر معنا أن الإنسان لا يمكن أن يكون في وضع هو ذليل فيه أعظم من ذلة السجود، وكلما ذللت نفسك بين يدي الله كنت منه قريباً، فلما ذلوا أنفسهم وسجدوا أورثهم الله بذلك السجود الذي سجدوه له عزة وإباء ومنعة، فلما هددهم فرعون لم يبالوا بتهديده؛ بل قالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
أربعون عاماً وفرعون يرسخ فيهم أنه رب، وأنه إله، وأنه يقتل ويبطش، كل هذا محي بسجدة ربما لم تتجاوز دقائق معدودات؛ لأن الموروث الذي أخذوه من فرعون هباء منثور وإن كان له حقيقة، أما ما أخذوه من عطاء إيماني، ونور قلبي من الله فإنه يثبت، يقول الله جل وعلا: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، وقال: (أما إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن -أي: جدير وحقيق- أن يستجاب لكم).
وهذا اليوم كان يوم زينة لهم، فأبدلهم الله جل وعلا بأن نجاهم في يوم عاشوراء الذي صامه موسى وبنو إسرائيل من بعده، ثم صامه نبينا صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة ما ذكرناه: أن الله جل وعلا أخبر في هذه الآيات التي بين أيدينا أنه أظهر الآيات، وأقام الحجج والبراهين على فرعون، لكن فرعون استكبر آية بعد آية وهو يردها، ثم وقع منه -حفاظاً منه على الوضع الاجتماعي القائم عنده- أن يخوف الناس، وتواعد مع موسى على يوم هو الذي عرضه، فأجابه موسى، ثم كان ما كان من عرض الأمرين، وقلنا: إن من الخير لك ألا تبدأ أحداً بنقاش حتى لا تشعر بالغلبة، وإنما اطلب من غيرك أن يعرض ما عنده حتى لا يكون ما عندك القصد به العلو على الناس، فنصر الله جل وعلا كليمه وأخاه، فأثر ذلك فيمن يعرف الحق وهم السحرة، ولا يعلم أن أحداً من القبطيين الذين شهدوا ذلك النزاع آمن؛ لأنهم خرجوا من بيوتهم وليس في نيتهم الإيمان، ولم يقع في قلوبهم البحث عن الحق، فقد قالوا: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:40].
فكانت منة الله على السحرة دون غيرهم من الناس، وقد ذكرنا أن ابن عباس قال: كانوا في أول النهار كفرة سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة، وقلنا: إن في هذا بياناً لفضل الله ورحمته بالخلق، وأنه لا يدرى كيف تكون الخواتيم، ختم الله لنا ولكم بخير.
هذه جملة ما تحدثت عنه هذه الآيات في سورة طه، نسأل الله لنا ولكم التوفيق والمزيد من العون والرعاية، وسنكمل إن شاء الله في لقاء قادم خبر هذا النبي الكريم مع فرعون.
نسأل الله التوفيق، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، هذا ما تهيأ إيراده، ويسر الله جل وعلا على قوله، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين كرة أخرى.(53/8)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة طه [5]
لما آمن سحرة فرعون بالله تعالى توعدهم فرعون بالقتل والصلب والعذاب الشديد، ولكنه لما وقر الإيمان في قلوبهم لم يبالوا بفرعون وتهديداته، فثبتوا حتى نالوا الشهادة في سبيل الله تعالى، وبعد هذا الحدث أمر الله تعالى موسى أن يخرج بقومه من بني إسرائيل ليلاً، فأتبعهم فرعون وجنوده، فأغرقهم الله تعالى في البحر ونجى موسى وقومه تفضلاً وتكرماً ومنة منه سبحانه عليهم.(54/1)
تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم)
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم ما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعل سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد أخبر الله جل وعلا عن سحرة فرعون أنهم آمنوا، قال تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70]، وقد حدث هذا التلعثم في القول الآن لأن قضية الإيمان وردت بعدة صيغ، فقد قال بعضهم: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70]، وقال بعضهم: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122].
وينبغي أن يعلم أن السحرة كثيرون، فطبيعي جداً أن يختلف بعضهم مع بعض في قضية ماذا يقولون، فهم جميعاً آمنوا بإله واحد هو رب العزة والجلال، لكن التعبير عن هذا الإيمان اختلف لتعددهم، فبعضهم قال: آمنا برب موسى وهارون، وبعضهم قال: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70] فقدم هارون باعتباره الأكبر، ومنهم من قال: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، لكن الذي يجمع هؤلاء السحرة أنهم جميعاً آمنوا بالرب تبارك وتعالى.
هذا الأمر وقع على ملأ من الناس، وقد ذكرنا سابقاً أن موسى عليه الصلاة والسلام لا يخفي شيئاً عن الناس في دعوته، وقلنا: إن سمات الأنبياء وأتباعهم أنهم يدعون جهاراً ولا يخشون أحداً، بمعنى: أنه ليس هناك شيء يبيتونه لأنفسهم حتى يضعون دينهم في الخفايا، ولهذا قال لهم موسى: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59]، فكانت دعوته جهاراً، ولما حصل الموقف وألقى السحرة ألقى موسى عصاه كما أخبر الله: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117]، ثم قال الله جل وعلا: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70]، فلما آمنوا انقلبوا من كونهم في أول النهار كفرة أشراراً إلى كونهم أتقياء أبراراً، وهذا يدل على أن الهداية بيد الله.
ثم قال الله جل وعلا على لسان فرعون: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، هذا القول وردة الفعل الفرعونية إلى اليوم والناس في حياتهم الاجتماعية إذا رأوا رجلاً متغطرساً يقولون: هذا فرعوني، وهذا مأخوذ من دأب فرعون وقوله وسياسته في الناس، فما اكتفى أن يدعي أنه إله حين قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقد جاء في الأثر أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أبغضت أحداً بغضي لفرعون يوم سمعته يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]).
ومن المعلوم أنه من كذب على الله هين عليه أن يكذب على الخلق، ولهذا قال فرعون: {آمَنْتُمْ لَه} [طه:71] الهمزة من أصل الفعل وهي همزة استفهامية، {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71] حتى الإيمان بالله في ظنه يحتاج أن يستأذنوه، ومعلوم أنه حتى لو استأذنوه لن يأذن لهم، وهم غير ملزمين شرعاً بأن يستأذنوه، لكن حتى لو استأذنوه فإنه لن يأذن لهم، وقوله هذا يدل على علوه وتكبره.
ثم قال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71] انظر كيف قلب الأمر وجعل موسى معلماً لهم، وهو يعلم أن موسى ما كان ساحراً طرفة عين، وأنه هو الذي بعث في المدائن حاشرين ليأتوه بكل سحار عليم، لكنه -كما قلنا- من تجرأ في الكذب على الله بدهياً أن يكذب على غيره.
ولهذا قال هرقل لـ أبي سفيان في قصة محاورتهم في أرض هرقل، قال له عن النبي صلى الله عليه وسلم: أجربتم عليه كذباً؟ قال: لا، فقال هرقل -بعقله لا بنقله-: ما كان ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله.
فجعل ذلك أمارة على صدق نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71]، هذا وصف من فرعون له، ثم جرى مجرى التهديد الفعلي بعد أن ذكر القولي فقال: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [طه:71]، وجاءت (أيدي) بالنصب لأنها مفعول به فظهرت العلامة على الياء، وهذا نوع من التهديد، {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ} [طه:71]، والصلب: هو الرفع والحمل، ويكون غالباً على ألواح وخشب، {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، ومعلوم قطعاً أن الصلب هنا إنما كان على جذوع النخل.
قال بعض العلماء كـ أبي حيان في البحر المحيط: إن فرعون نقر لهم في النخل وأدخلهم فيها.
وهذا القول منه ليفر من قول الله جل وعلا: على جذوع النخل)، لكن هذا القول أكثر أهل العلم على خلافه.
وإنما كان ينبغي أن يعلم أن حروف الجر في اللغة ينوب بعضها عن بعض.
هذا أمر، الأمر الثاني: قال بعض من يعنى باللغة في القرآن: أنه قال: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] ليبين يسر الأمر عليه، يعني: أراد فرعون أن يقول: إن كوني قادر على أن أصلبكم في جذوع النخل هذا أمر هين علي؛ لأن كلمة (على) تعني الفوقية والاستعلاء، فكأنه يحتاج إلى من يعينه ليرتفع، فحاد عنها فرعون -أي: أنه حاد عن مثيلتها لأنها ليست في لغته، لكنه حاد مثيلتها في لغته- وإنما عبر بحرف الجر (في) ليبين سهولة الأمر عليه.
ثم قال: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا} [طه:71]، يعني: أنا أو أنتم ((أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى)) [طه:71]، وهذه زفرات يطلقها ذلك الذي لعنه الله كردة فعل يائسة لما رأى إيمان السحرة.(54/2)
تفسير قوله تعالى: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والله خير وأبقى)
لقد مر معنا في تفسير سورة القلم أن السجود من أعظم ما ينال به العبد عظيم اليقين، وهذه الأحداث شاهدة على ذلك، قال الله جل وعلا على لسان السحرة لما هددهم فرعون -وهذا كله في أرض الموقف أرض المجادلة- قالوا له بعد أن قال: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:71 - 72]، فألقى الله جل وعلا في قلوبهم الإيمان واليقين ووجدوا حلاوته، رغم أنه ليس لهم أياماً ولا شهوراً ولا أعواماً في الطاعة والإيمان والعمل الصالح، لكن تلك الحظوة الألهية نالوها ببركة سجودهم، حتى يعلم أثر العمل الصالح على قلب العبد، ثم ردوا عليه بطريقته كما كان يطلق الأفعال على صيغة الأمر، قالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72]، أي: فافعل ما شئت، ثم بينوا له ضعفه فقالوا: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، قد يكون الله أعطاك سلطاناً على الدنيا، لكن ليس لك سلطان على حياتنا في الآخرة والدنيا، وسواء قضيت علينا أو لم تقض علينا فمردنا أصلاً إلى الموت فلا نخوف بشيء، لكن العبرة بالحياة الأخروية {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، وجاءت (الحياة) بالنصب لأنها بدل من اسم الإشارة (هذه).
وهذا قاعدة نوحية تأتي دائماً: كل اسم معرف بـ (ال) بعد اسم الإشارة فيعرب بدلاً عنه، فما يقال في إعراب اسم الإشارة الذي قبله يقال في إعراب الاسم الذي بعده، وهذا نظيره: ((إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ)) مفعول به، ((الْحَيَاةَ)) بدل من (هذه).
ثم قالوا له: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، وعبارة الإكراه هنا مأخوذة من أن فرعون سول لهم هذا الأمر بأن مناهم ووعدهم وقال: {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42]، فاعتبر هذا شرعاً نوع من الإكراه، قال الله جل وعلا: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73]، ثم قارنوا بين ربهم وبين فرعون فقالوا: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، ولا ريب أن الله خير وأبقى.
وهذا منهاج للمؤمن في كل ما يأتيه، فلا يكن في شيء يتعلق بالله وفي شيء يتعلق بمخلوقاته، فثق أن ما عند الله جل وعلا خير لك وأبقى، وهذه من الطرائق التي ربى الله جل وعلا بها رسله عليهم الصلاة والسلام، وهذبهم بها، وثبت قلوبهم جل وعلا بها، أنه أعلمهم أن الآخرة هي الباقية، وهي التي يعمل الخلق لها، قال صلى الله عليه وسلم لما رأى الأنصار والمهاجرين يبنون المسجد: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة).
وهذا أمر يستحضره المؤمن، وتعلمون قصة العلامة الألباني رحمه الله لما بشر بفوزه بجائزة الملك فيصل العالمية أراد بعض الصحفيين أن ينال حظوة عنده بأن يجري له مقابلة صحفية، ومعلوم أن جائزة الملك فيصل جائزة عالمية يرقبها كل عالم سواء في خدمة الإسلام أو في غيره، فلما بشر بها قال الشيخ وهو يبكي هاتفياً: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، وقال: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4].
فمهما أعطي الإنسان من الدنيا ينبغي عليه أن يستحضر هذا الأمر العظيم، وأن ما عند الله خير وأبقى، حتى لا يفتن بما أعطاه الله جل وعلا إياه في الدنيا.(54/3)
تفسير قوله تعالى: (إنه من يأت ربه مجرماً وذلك جزاء من تزكى)
قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طه:74]، هذه يمكن أن تكون من كلام السحرة المؤمنين، ويمكن أن تكون تذييلاً من كلام الله جل وعلا، فهي تحتمل الأمرين، قوله: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} [طه:74]، أي: كافراً {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74]، وهذا أحد أنواع عذاب جهنم أن الإنسان فيها لا ينتهي، وفي نفس الوقت لا يبقى حياً حياة منعمة.
والأمر الثاني: ذكره الله في سورة أخرى أنهم قالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]، متى ينفع الصبر؟ إذا كان يعينك على تجاوز الأذى، لكن إذا كان الصبر لا ينفع فإنه يصبح في ذاته عذاباً، وهذا -والعياذ بالله- حال أهل النار.
قال الله جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74]، وكما في سياق القرآن في أكثر من موضع إذا ذكر الله أهل النار يذكر أهل الجنة، وإذا ذكر أهل الجنة غالباً يذكر أهل النار.
وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74]، هذه نحوياً جملة شرطية بدأت بـ (من) وهي اسم شرط، ولذلك (يأت) حذفت ياؤها؛ لأنها فعل شرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وقوله سبحانه: {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} [طه:74]، الفاء واقعة في جواب الشرط، وسوغ أن يبتدئ جواب الشرط بالفاء أن جواب الشرط جملة اسمية.
قال تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:75]، قوله: (ومن يأته مؤمناً) أي: حال كونه مؤمناً {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:75]، الجنة والنار كلاهما يقال في حق أهلها: درجات، لكن تنفرد النار بأن يقال في حقها: دركات، فيقال: لأهل النار درجات؛ نص عليه القرآن في سورة الأنعام، لكن لا يقال لأهل الجنة: دركات، بل هذا الاسم وقف على أهل النار.
قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:76]، وقد مر معنا معنى التزكية بالتفصيل في قول الله جل وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10].(54/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي وأضل فرعون قومه وما هدى)
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه:77]، ذكر الله جل وعلا هنا خروج موسى عليه السلام من أرض مصر، وقد جاء ذكر الخروج في سورة طه موجزاً وفصل في سورة الأعراف ويونس وغيرهما.
والقرآن سماه الله جل وعلا مثاني بمعنى: أن الأخبار والقصص فيه غالباً تتكرر، فما يوجزه الله في سورة يبسطه في سورة أخرى، وأحياناً يكتفي الله جل وعلا بالبسط في سورة واحدة ولا يثنيه، كما في قصة نبينا يوسف؛ فإنها لم تتكرر في القرآن، بخلاف قصة موسى فإنها ذكرت في أكثر من موضع وفي كل موضع تساق حسب السياق العام للسورة.
وقوله: (أن أسر) دل على أنهم خرجوا ليلاً؛ لأن السرى لا يكون إلا في الليل، {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} [طه:77]، والضرب هنا حقيقي، وهو أن موسى عليه الصلاة والسلام ضرب البحر بعصاه، والبحر بالاتفاق هو بحر القلزم المسمى اليوم بالبحر الأحمر، {لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} [طه:77]، أي: لا تخاف أن يدركك فرعون، ولا تخشى غرقاً من البحر، فلا فرعون يقدر له أن يدركك هو وجنده، ولا البحر قادر على أن تكون غريقاً فيه، وإنما سينجيك ربك من إدراك فرعون ومن موج البحر وما يكون فيه من الغرق والهلاك.
وقد جاء هذا الأمر مفصلاً، ولعله يأتي، لكن بالجملة نقول: موسى أخذ قومه، ولما وصل إلى شط البحر {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، فأمره الله أن يضرب البحر فضربه قائلاً: انفلق يا أبا خالد! وهي كنية تقولها العرب للبحر، وورد -والعلم عند الله- أنه قال: باسم الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان.
فانقلب البحر يبساً كما أخبر الله، وانشق اثنتي عشرة طريقاً على قدر أسباط بني إسرائيل، فعبر موسى والمؤمنون الذين معه حتى انتهوا إلى الضفة الأخرى، وجاء فرعون فتردد في العبور، وبقي ينتظر خوفاً من أن يعود البحر بحراً، فلما وصل موسى والمؤمنون الذي معه إلى الضفة الأخرى واطمئن موسى أنه قد سلم، وأن فرعون يحاول أن يدركه، أراد أن يضرب البحر كرة أخرى ليعود بحراً فيقطع الطريق على فرعون، فأوحى إليه رب العزة: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} [الدخان:24]، أي: ساكناً، فبقي البحر ساكناً، وامتنع موسى عن ضربه بأمر الله، وتشجع فرعون ليهلكه الله جل وعلا وظن أن البحر سيبقى أبدياً على هذه الحال، فعبر هو وجنوده، فلما اكتمل دخولهم في البحر أمر الله البحر أن يعود بحراً، فأغرق فرعون فقال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] ولم يقل: آمنت بالله، وإن كان إيمانه صحيحاً، والله جل وعلا كما قال أهل العلم: أثبت الإيمان لفرعون لكنه لم يقبله منه، قال الله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91]، فذكر أنه قبل لم يكن على هذه الحال.
وقد جاء في الأثر أن جبريل عليه السلام كان يضع الطين في فم فرعون مخافة أن يقول فرعون كلمة يستجلب بها رحمة الله، وقد مر معنا كثيراً أن رحمة الله جل وعلا لا تستجلب بشيء بعد الإيمان والعمل الصالح بأكثر من الدعاء، والإكثار من المدح والثناء على الله يستدر به العبد ما عند الله جل وعلا، فإن الرب تبارك وتعالى لا أحد أحب إليه المدح من نفسه، ولذلك مدح ذاته العلية.
وهذا أمر مشاهد في الكتابة والسنة، فإنه كم من عبد صالح ذكر الله جل وعلا دعوته، كدعوة ذي النون، وكقوله صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول في دعائه: اللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فقال: (لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولاً).
والمقصود من هذا: أن الله جل وعلا تستدر رحمته ويستجلب ما عنده من الفضل والإحسان بكثرة الثناء عليه، وانكسار العبد بين يديه، وهذا الأمر كان مظنة أن يأتي فرعون، وإلا لو تقرر عند جبريل أن الله لن يرحم فرعون قطعاً مهما قال لما كان هناك حاجة لأن يضع جبريل الطين في فم فرعون، وهذا يدل على أن رحمة الله جل وعلا واسعة، وأنه لا يهلك على الله جل وعلا إلا هالك، وأن العاجز حقاً من لم يجد ألفاظاً ولا كلمات يعبر بها عن مسكنته وانكساره بين يدي الرب تبارك وتعالى.
وتعظيمك لله جل وعلا لا بد أن يلازمه عدم مبالغتك في مدح الخلق وتعظيمهم، ولهذا تخرج منا أحياناً من غير شعور كلمات نقولها لمن نحب في التعظيم دون أن نشعر، فيسمع البعض إذا ألقى كلمة في محفل أو أمام أمير أو ذي سلطان يقول: إن الكلمات تقصر، وإن العبارات تعجز وهذا أمر محرم؛ بل خطأ عظيم؛ لأن الكلمات العربية إذا وسعت كلام الله فمن باب أولى أن تسع غيره، إذا وسعت ألفاظ العربية مدح الرب جل وعلا فمن باب أولى وأحرى أن تسع مدح غيره، لكن الناس إذا وصلوا إلى من بيده العطايا أو من يخشى منه نسوا أمراً من جانب الله، لكن على الإنسان أن يكون متوازياً، فيعرف لأهل القدر قدرهم ولأهل الفضل فضلهم، لكنه يبقى معظماً التعظيم المطلق لربه تبارك وتعالى.
يقول حافظ عن اللغة العربية: وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات والمقصود أن الله جل وعلا جعل قرآنه بلسان عربي وفيه الثناء على ذاته العلية جل وعلا، فكيف بالثناء على المخلوقين؟! من باب أولى أن تتسع له اللغة، ويوجد فيها من العبارات والألفاظ ما نمدح به من نحب أو نجل أو نعظم أو نخشى.
المقصود من هذا كله: أن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام عبر بقومه البحر، وبعد أن عبر بهم البحر أصبحوا في أرض سيناء، قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه:77 - 78]، (غشي) بمعنى: غطى أي: غطى فرعون وجنوده.
وإذا جاء الفعل وجاءت بعده (ما) مرتبطة بالفعل الذي بعدها -التي تسمى ما المصدرية أو ما الموصولة أحياناً على خلاف بين النحاه- فاعلم أن المقصود التعظيم، ومنه قول الله جل وعلا: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16]، هذا أسلوب تعظيم وتفخيم وتهويل، والله يقول هنا: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:78 - 79].(54/5)
تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى)
منَّ الله على بني إسرائيل بعد ذلك بقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:80 - 81]، إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهذه ملاطفة من العلي الكبير في خطاب أولئك القوم، فنسبهم إلى جدهم الأكبر الذي ينسبون إليه، وهو نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
والرب تبارك وتعالى عندما ينادي عبادة، إما أن ينسبهم إلى أب عام كآدم، أو أب خاص كيا بني إسرائيل، أو يناديهم نداء كرامة، وهذا في أكثر الآيات المدنية، كقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104]، فهذا يسمى نداء كرامة، أو يناديهم نداء عاماً لا ينسبون فيه إلى أب ولا يذكرون فيه بكرامة، ومنه قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]، فقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحج:1] نداء عام يدخل فيه البر والفاجر، والمؤمن والكافر، ولا يمكن أن نصطلح على أنه نداء كرامة؛ بل هو نداء عام.
فقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ} [طه:80]، يمن الله جل وعلا على بني إسرائيل بما كان من نجاتهم من فرعون، {قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} [طه:80] الذي هو فرعون، {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [طه:80]، أي: جبل الطور، وهو جبل واحد، و (الأيمن) جاءت منصوبة و (الطور) جاءت مجرورة لأنها مضاف إليه، و (الأيمن) ليست صفة للطور، بل هي صفة للجانب؛ لأنها لو كانت صفة للطور لكان المعنى: أن هناك طوراً أيمن وطوراً أيسر، وطوراً في الوسط ولا يوجد إلا جبل طور واحد، لكن هذا الجبل -جبل الطور المبارك- له عدة جوانب.
وأصلاً كلمة أيمن ليست جهة ثابتة؛ لأن الثبات في اليمين واليسار غير وارد، فمثلاً أنا أجلس الآن على هذا الكرسي وهذه الجهة عن يميني، لكن لو حولت الكرسي فستصبح هذه الجهة عن يساري، فالأيمن غير وارد، لكن الله جل وعلا يخبر عن الجهة التي جاء منها موسى عليه الصلاة والسلام.
إذاً: الأيمن صفة لجانب، وجانب نكرة، والأيمن معرفة، لكن الذي جعل جانب معرفة هو الإضافة، فلما أضيفت كلمة جانب إلى كلمة الطور اكتسبت التعريف، فلما أضحت معرفة حق لها أن توصف بكلمة الأيمن.
وهنا مسألة نبه عليها بعض العلماء وذكرها الدكتور صالح العايد في كتاب نظرات لغوية نقلاً عن صاحب البرهان في علوم القرآن، وهي قضية دقيقة جداً استنبطها العلماء في قضية جانب الطور الأيمن، فالله جل وعلا ذكر هنا أنه واعد موسى جانب الطور الأيمن، لكن لما تكلم عن نبيه صلى الله عليه وسلم قال: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} [القصص:44]، فلماذا لم يذكر الله تعالى الأيمن هنا؟ قالوا: لأنه يوجد هنا نفي، وكملة (الأيمن) فيها تشريف، لكن كلمة (الغربي) لا تعني شرفاً بذاته، نقول: جهة اليمين جهة شرف، لكن الغربي والشرقي والشمال والجنوب ليس فيها في ذاتها شرف، فلما أراد الله النفي عن نبيه ملاطفاً لنبيه لم يصفها بالأيمن؛ لأنه لو وصفها بالأيمن فيكون قد نفى اليمن عن نبيه، والله لا يريد هذا، فقال جل وعلا: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [القصص:44]، إجلالاً وإكراماً وملاطفة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقبل أن أكمل هذا أقول: علم التفسير مواهب يعطيها الله جل وعلا من يشاء، والناس قدرات، ويظهر أثر كل ذي قدرة في تفسيره، فمن كان ذا قدرة في الاستنباطات اللغوية سيظهر هذا جلياً في كلامه، ومن كان قوياً في الفقه مثلاً سيظهر هذا في كلامه وهكذا، فقبل أن تبحث عن تفسير الآية ابحث عما تريده من الآية، فإذا بحثت عما تريده من الآية سيسهل عليك أن تبحث في كتب التفسير، لكن هذا لا بد أن يسبقه أن تكون ملماً بكتب التفسير، وبعضها يظهر من عنوانها، فالكتاب الذي ذكرناه اسمه: نظائر لغوية، فواضح أنه يبحث في اللغة، وأحكام القرآن لـ ابن العربي واضح أنه يتكلم في الفقهيات، فأحياناً من العنوان يظهر، وأحياناً من كثرة المطالعة والدربة تستطيع أن تعرف مناحي المفسرين فيسهل عليك بعد ذلك أن تصل إلى مرادك.
نقول: قال الله جل وعلا: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [طه:80]، يكاد أهل العلم رحمهم الله يجمعون على أن المقصود بالمنَّ شيء أنزله الله من السماء عليهم كالطل يجدونه على رءوس الأشجار أشبه بالعسل الأبيض، يتجمع كالصمغ ثم يأخذونه، وهو نوع من الحلوى رزقه الله جل وعلا بني إسرائيل، وقالوا في السلوى: إنها طير السمان المعروف.
هذا ما ذكروه، لكن جاء في الحديث أن الكمأة من المن، والذي يظهر -والعلم عند الله- أن ما قاله الأفاضل الأكابر في هذا قوي جداً لتظاهرهم عليه، ومن الصعب أن يخطئ الإنسان جمعاً، لكن فيما يبدو أن المنَّ هو الكمأة التي تظهر الآن من غير ما زرع، تكون مقرونة بوقت المطر فهذه منه؛ لأنه ليس فيها جهد لأحد؛ فلأجل ذلك غالب الظن أنها مقصودة إن لم تكن هي كلها، فتكون في الحديث بيانية أو على الأقل نوعاً مما أخرجه الله جل وعلا لبني إسرائيل.
والمقصود: أن بني إسرائيل عندما خرجوا مكثوا في الصحراء فاحتفى العلي الكبير بهم إكراماً لأنبيائهم، ولما أراده الله جل وعلا من ابتلائهم أنزل عليهم المن والسلوى، قال الله جل وعلا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [طه:80]، وهذا أمر للإباحة {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ} [طه:81] بتجاوز الحد {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} [طه:81]، ثم قال الله تذييلاً لهذا الأمر: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81]، والهوى هنا المقصود به: السقوط المرُيع، والمقصود به الهلاك الفظيع لكل من حل عليه غضب الله تبارك وتعالى.
وهنا أتوقف قليلاً لأقول: إن كلمة (هوى) في القرآن وردت بمعنى السقوط، قال الله جل وعلا: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، وهنا نستبعد تفسير بعض العلماء لقول الله جل وعلا: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]، بأن المقصود به نزول القرآن، فإن بعض أهل العلم يقول: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] المقصود أن القرآن نزل منجماً، فيجعل (هوى) بمعنى نزل، لكن استخدام لفظة (هوى) في القرآن لا يساعد على هذا، ومنه هذه الآية: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81].(54/6)
تفسير قوله تعالى: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى)
ثم قال البر الرحيم يذكر غضبه ويذكر رحمته: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، هذا القول الرباني من الله جل وعلا جاء بعد قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:81 - 82]، وقد يظن الناس من لم يؤت بضاعة في التفسير أن الأمر مرتب ترتيباً حرفياً، وإنما المقصود: أن الإنسان إذا وقر في قلبه الإيمان والأسف على ما كان منه من عصيان، ولزم الصراط المستقيم، هذا الذي هو أهل لأن يغفر الله جل وعلا له.
لكن الآية لا تعني الحصر، فإن الرب جل وعلا قد يغفر من غير ما سبب من العبد، وبعض أهل العلم -كما في شرح العقيدة الطحاوية- أجمل أسباب المغفرة إلى ثلاثة عشر سبباً، وجعل خاتمتها وأكملها بغفران الله تبارك وتعالى من غير سبب من العبد.
لكن هنا الله جل وعلا يذكر أعظم أسباب غفران الذنوب: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، وعلى هذا فإن الإنسان وهو يعمل العمل الصالح لا بد أن يكون في نفسه مستصحباً أنه يريد بالعمل الصالح غفران الذنوب، كما قال الله قبل ذلك على لسان السحرة: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} [طه:73]، ونقول مراراً: إن المرء لا يحمل فوق كاهله شيئاً أشد عليه من ذنبه، ولهذا علق الله جل وعلا جوائز فضائل الأعمال بغفران الذنوب، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحج وأخبر عما يجده العبد من عناء فيه، وأنه عبادة يجتمع فيها البدن والمال والقلب، قال صلى الله عليه وسلم: (رجع كيوم ولدته أمه)، فعلقها بمغفرة الذنوب؛ لأن الصالحين لا يؤرقهم شيء أعظم من أنهم يسألون الله جل وعلا غفران ذنوبهم.
إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما ولما أراد الله أن يخبر ببعض كرامته على نبيه صلى الله عليه وسلم قال له: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، وهو عليه الصلاة والسلام يعلم الصديق فيقول له: أن يقول في دعائه: (اللهم إنني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).
والمقصود: أن غفران الذنوب من أعظم ما يطلبه العبد من ربه تعالى.
إلى هنا ينتهي وضع عام في حياة بني إسرائيل ذكره الله جل وعلا، ثم يذكر الله تبارك وتعالى بعده مسارعة موسى -كما سيأتي تفصيلاً- إلى لقاء ربه.(54/7)
أحداث حدثت لبني إسرائيل قبل أن يخرج موسى من أرض مصر
لكن نقف هنا لنقول في جملة هذه الآيات: تنحصر هذه الآيات في الحديث عما كان من إيمان السحرة، وهو أول نقلة نوعية في دعوة موسى إلى استقرارهم في أرض سيناء، وهذه المرحلة التاريخية من انتصار موسى إلى استقرارهم في أرض سيناء مرت بأحداث لم تذكرها الآية هنا من تلك الأحداث، فالقرآن يفسر بعضه بعضاً.
إن موسى قبل أن يرتحل من أرض مصر أمر قومه أن يجعلوا بيوتهم قبلة، واختلف العلماء في معنى {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87]، فبعضهم قال: إنه أراد الصلاة، وعندي أن هذا بعيد؛ لأن الله قال بعدها: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [يونس:87]، لكن الذي أفهمه -والعلم عند الله- أن المعنى: اجعلوا بيوتكم متقاربة مميزة في ناحية البلدة حتى تستطيعوا أن تذهبوا إلى البحر عندما يأذن الله جل وعلا برحيلكم من أرض مصر.
والمقصود: أن موسى استقر في أرض مصر طويلاً قبل أن يرحل ويتركها إلى أرض الطور، وفي هذه الأثناء وقعت ما وقعت من الآيات، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} [الأعراف:133]، هذا وقع ما بين إيمان السحرة وما بين خروج موسى من أرض مصر، وقد ذكرت السنة الصحيحة أن موسى أخذ معه جسد يوسف، وهذا لم يأت في القرآن، لكن جاء نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حسنه وصححه بعض أهل العلم.
كذلك من الأحداث التي وقعت في هذه الحقبة التاريخية من إيمان السحرة إلى خروج موسى: قضية قارون وما كان منه، فإن قارون والخسف به وهلاكه إنما وقع في أرض مصر ولم يقع بعد ذلك، فهذه أحداث تاريخية أجملها القرآن وجاءت مفرقة، وقصة قارون قد ذكرت في سورة القصص، وذكرت {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] في سورة يونس، وبعضها ذكر في سور أخر، وبعضها ثني وكرر، وبعضها لم يذكر إلا مرة واحدة.
والمقصود: أن تفهم أن هذا السياق يسمى إيجاز حذف، ذكر الله جل وعلا فيه منته على بني إسرائيل، وهذا الاحتفاء الإلهي ببني إسرائيل مبني على أن الله جل وعلا جرت سنته في خلقه أنه لا بد للناس من أئمة ذوي روح، بمعنى: أئمة في العلم والهداية، والله جل وعلا ينقل هذا الأمر من أمة إلى أمة، وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، ولكن كلما استمسكت الأمة بهدي السماء كانت حقيقة بأن تقود العالم، والله جل وعلا قد قال عن بني إسرائيل: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32].
ومن الخطأ أن بعض الناس ممن يغلب عليهم العمد أو السهو أحياناً غير المقصود يقولون: يا أحفاد القردة والخنازير! فهي من حيث الحقيقة الخلقية لم يجعل الله لمن نسخهم حفدة، فهو أمر منتفي.
والأمر الثاني: أن بني إسرائيل ينسبون إلى نبي عظيم كريم، والله جل وعلا قال عنهم: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، لكن ظهر فيهم قتل الأنبياء، وتبديل كلام الله، وقولهم: قلوبنا غلف، واتهامهم لمريم، ومحاربتهم لعيسى ومحاولة قتله، هذا هو الذي أضاعهم وأذهبهم، فالإنسان إذا تكلم يتكلم بهدي من القرآن لا بعاطفة تؤججه، والله تبارك وتعالى يقول: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران:113]، إلى غير ذلك مما يبين الله جل وعلا فيه الإنصاف عند الخطاب.(54/8)
تفسير قوله تعالى: (وما أعجلك عن قومك يا موسى وعجلت إليك رب لترضى)
قال الله جل وعلا بعد ذلك لموسى وهو في جبل الطور: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه:83]، هذا يفهم منه أن موسى استبق قومه إلى جبل الطور ليتحقق الوعد المكاني والزماني، فقد ضرب الله له ميقاتاً زمانياً ومكانياً، الميقات الزماني أربعون يوماً، والميقات المكاني جبل الطور، فسبق موسى قومه، وجعل أخاه هارون يخلفه فيهم، فسأله ربه: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه:83]، و (ما) هذه استفهامية {قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه:84]، قال بعض العلماء: إن هذا الجواب غير مطابق للسؤال، فقد كان ينبغي أن يقول: أعجلني كذا وكذا، ولا يقول: إن قومي قريبو عهد بي ومكان، لكن قالوا: لماذا احتار موسى في الجواب؟ قالوا: لأنه هاب معاتبة الله جل وعلا له، فلم يجد جواباً يخاطب به ربه، والمقصود أن معاتبة الله جل وعلا لموسى وسؤاله إياه أوقع في موسى الرهبة والخوف، فكان جوابه غير مطابق للسؤال، وإذا صح هذا التأويل الذي اختاره بعض أهل العلم فحري بنا أن نقول: إذا كان هذا النبي الكريم الذي لم يقترف ذنباً أصابه ما أصابه من الذهول لما عاتبه ربه، فكيف بمن يلقى الله جل وعلا وقد عصاه، وتجاوز حدوده، وانتهك حرماته!! نسأل الله السلامة والعافية.
{قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي} [طه:84]، أي: غير بعيد عني {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]، هذه تصلح جواباً، وقد قال العلماء بناءً على هذه الآية: إن العجلة مذمومة إلا إذا كانت مسارعة في الخيرات، وقوله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]، فيه أن طلب رضوان الله جل وعلا من أعظم المقاصد وأجل المطالب، ولا توجد عطية أصلاً بعد رضوان الله، قال الرب تبارك وتعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَر} [التوبة:72]، وكلما كانت بغية المرء أن ينال رضوان الله جل وعلا كان من أعظم الساعين في أسباب التوفيق، فوالله إنك لن تخرج من دارك تطلب أمراً أعظم من رضوان الله.
فكلما غلب على ظنك في عمل أن فيه رضوان الله فلا تتردد في السعي إليه عاجلاً أم أجلاً.(54/9)
تفسير قوله تعالى: (فإنا قد فتنا قومك من بعدك فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي)
قال الله تعالى لموسى: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} [طه:85]، السامري من مبهمات القرآن، ولم يذكر إلا في سورة طه، وشخصيته جاءت في القرآن من حيث الجملة شخصية مبهمة، سواء في أول أمرها أو في خاتمة مطافها، وقد نسب الله الفتنة هنا إليه، ونسب الضلال إلى السامري، ويجب أن يحرر: أن الهداية والضلال بيد الله، فما السامري هنا إلا سبب جعله الله جل وعلا، كما جعل الملكين فتنة لبني إسرائيل بعد موسى: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، فالشيطان مثلاً جعله الله جل وعلا من أسباب الغواية، والمال جعله الله جل وعلا فتنة، والنساء جعلهن الله جل وعلا في حق بعض الرجال فتنة.
والمقصود من هذا: أن الهداية بيد الله، أما هذا السامري فهو كان سبباً في غواية بني إسرائيل كما سيأتي التفصيل في موضعه، لكن الذي يعنينا هنا أن الله جل وعلا قال: {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} [طه:85]، الخطاب هنا لموسى {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:87 - 88]، أي: أنه صنع لهم عجلاً له خوار، والعجل: ولد البقر، (وله خوار) الخوار هو صوت العجل، {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88]، (نسي): فعل ماض مبني على الفتح، ومن الذي نسي؟ الفاعل غير مذكور، فيصبح المعنى يحتمل عدة تأويلات، منها: أنهم قالوا: فنسي موسى أن يخبركم أن هذا إلهكم، هذا مراد أراده السامري، ومراد آخر: فنسي موسى أي: نسي أن هذا الإله وذهب يطلبه في مكان آخر، وهذا أقوى الاحتمالات، وقد ذكرت احتمالات أخر لكن هذه أقواها.
فالله جل وعلا ابتلى بني إسرائيل في الفترة التي تأخروا فيها عن إدراك موسى بأن عبدوا العجل، وعبادتهم للعجل هي مرادهم بقولهم في سورة البقرة: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80]، فهم يقولون: إنه محكوم لنا بالجنة، وأن النار لا تمسنا إلا أياماً معدودة هي الفترة التي عبدنا فيها العجل، ولأن عبادة العجل كانت مهلكة عظيمة لهم اشترط الله عليهم في التوبة أن يقتلوا أنفسهم، كما أخبر الله جل وعلا في سورة البقرة.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان، وعليه البلاغ، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(54/10)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة طه [6]
حينما كان موسى عليه السلام في ميقات ربه في جبل الطور غائباً عن بني إسرائيل وكان قد استخلف عليهم أخاه هارون، استغل السامري هذه الفرصة فصنع لبني إسرائيل عجلاً من ذهب له خوار، وأمرهم أن يعبدوه فعبدوه من دون الله تعالى، وقالوا: إنه إلههم وإله موسى، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ولما رجع موسى أنكر عليهم وعاتب أخاه، ثم حاور السامري في هذا الأمر، وقال له: اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس، أي: لا أحد يقترب منك ولا تقترب من أحد، ثم أمر الله بني إسرائيل بالتوبة إليه، وبعد ذلك ذكر الله تعالى ما سيكون في الأرض من دمار شامل عند قيام الساعة، فإذا قامت الساعة جازى الله المحسنين بإحسانهم والمسيئين بإساءتهم، ولا يظلم ربك أحداً.(55/1)
افتتان بني إسرائيل بالسامري وعبادتهم للعجل في غياب موسى
الحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله رب الأرض والسماوات وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أتم الله به النبوة وختم الله به الرسالة، صلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصاحبه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فما زلنا -معشر الأحبة- في تفسير قول الله جل وعلا في سورة طه: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:86].
وهذا الخبر مفرح على ما قبله، وهو أن موسى عليه الصلاة والسلام أخبره الله جل وعلا وهو عند جبل الطور بأن قومه قد فتنوا من بعده، وأنهم عبدوا العجل بناءً على أمر أو إشارة أو دلالة من السامري، وحتى يكون المنهج واضحاً فإن بعض الآيات في القرآن يحسن ذكر إجمالها، والإنسان إذا فقه مجمل القضية يستطيع بعد ذلك أن يفك ألفاظ القرآن.
وعلى هذا فقول الله جل وعلا: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [طه:86] إلى قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98] إنما هو حدث تاريخي جملته عبادة بني إسرائيل للعجل، وسوف يمر معنا قوله تعالى: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} [طه:94]، على لسان هارون، وقول السامري: (بصرت بما لم يبصروا به) وغير ذلك، ولذلك إذا كان الإنسان لم يفقه القضية أصلاً والقصة جملة فلن يستطيع أن يفهمها كحروف حتى يستوعب القضية أياً كانت.
لذلك سأسرد القصة مستغنياً بها عن قضية فك الآيات آية آية، إنما على إيحاء القرآن من القرآن نفسه نأخذ القصة، ونحاول أن نستعين ببعض المعطيات التاريخية قدر الإمكان، مع التحرز عن أن الغيب لا يدرك بالعقل، فما سكت الله عنه غيباً لا نستطيع أن نقتحمه نحن بتأويلاتنا العقلية، فهذا أمر يجب التحرز منه.(55/2)
إضلال السامري لبني إسرائيل
نقول: الله جل وعلا أخبر موسى أن السامري أضل قومه فعبدوا العجل، وهذا الخبر جاء من الله، فرجع موسى إلى قومه، فوصف حالته بأمرين: ((غَضْبَانَ أَسِفًا))، والغضب: حدة تكون في النفس غير مقرونة بخوف إذا رأى الإنسان شيئاً يسوءه، (أسفاً) بمعنى: أن هذه الحدة لما حصل لقومه مقرونة بالحزن لما وصلوا إليه، ولهذا عبر القرآن بكلتي الحالتين: غضبان في ذات الله، وأسفاً على قومه، فهو مغضب في نفس الوقت، حزيناً جداً للطريق الذي سلكه قومه.
موسى عليه الصلاة والسلام جعل أخاه هارون بعده في بني إسرائيل وذهب إلى ميقات الله، وقد مر معنا أنه سأله ربه: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه:83]، وفي هذه الفترة جاء السامري، وقد ذكرنا أنه من مبهمات القرآن، وبمعنى: أنه لم يأت تفصيل دقيق عن سيرته، فظاهر الأمر أنه رجل من بني إسرائيل، هذا السامري أبصر جبريل على الأظهر، ولذلك قال: {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} [طه:96]، فسرت (الرسول) بجبريل، فقد رأى جبريل وهو على فرس يقال له حيزون، يقال: إن جبريل عندما كان يجري على هذه الفرس كان لا يطأ على مكان إلا يحيا وينبت، ففطن السامري لهذا الأمر الذي أعطاه الله جل وعلا لفرس جبريل، فقبض قبضة، ولا تسمى قبضة إلا إذا كانت باليد، أي: أنها مقدور عليها، واحتفظ بها لنفسه، ثم كأنه وضعها في مكان آمن، حتى انتهز فرصة غياب موسى في جبل الطور، ووضع أخاه هارون خليفة عليهم.
في هذه الفترة جاء السامري لبني إسرائيل ودخل عليهم من باب الخطيئة، فأخبرهم أنهم حملوا أوزاراً وآثاماً سببها أنهم لم يردوا زينة القوم، والقوم هم الأقباط سكان مصر الأصليون، وقد كان بنو إسرائيل يعيشون على مقربة من الأقباط في مصر، فكانوا خدماً لهم وجيراناً، ومعلوم أنه يحدث بين الخدم والجيران نوع من العلاقات، فبعض بني إسرائيل كان يعطي ذهبه وزينته لبني إسرائيل، إما ليحتفظ بها، أو أنه بعثه في مهمة أو كان خادماً عنده، المهم أنه تحصل بنو إسرائيل على مجموعة من الحلي التي ليست ملكاً لهم في الأصل، فلما تجاوزوا البحر أتاهم السامري من هذا الباب، وقال لهم: إن هذه الزينة التي تملكونها وتحملونها إثم، ولهذا قالوا: {حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} [طه:87]، والأوزار تطلق على الذنوب والمعاصي، فلا بد أن يتخلصوا منها، فسألوه: كيف نتخلص منها؟ فأتى بهم إلى قاع بأرض، وأمرهم أن يلقوا ما جمعوه من حلي فيها، فتكون من هذه الحلي ذهب كثير، فجاء السامري بالقبضة التي قبضها والتي فيها نوع من الحياة نسبياً، ووضعها مع هذه الذهب مع قدرته على صناعة التماثيل فأخرج لهم العجل، والعجل صغار البقر كما هو معلوم، وصوته يسمى: خوار.
لكن قال بعض أهل العلم: إن هذا العجل كان فيه روح، وهذا بعيد جداً؛ لأنه لا خالق إلا الله، ومن قواعد العلم: أن الإنسان يأخذ الأمر اليقيني ثم يصدم به الأمر المتشابه، فالمتشابه لا يقبل أن يقف أمام الشيء اليقيني المحكم، فمما نستصحبه هنا محكماً: أن الله جل وعلا لا خالق غيره، ومحال أن يقدر السامري بأي قدرة على أن يخلق شيئاً، وقول الله جل وعلا على لسان عيسى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:49]، قالوا: إنه مجرد أن يطير إلا ويقع حتى يميز خلق الله عن خلق عيسى.
فالمقصود: أن السامري بما أعطاه الله من قدرة في صناعة التماثيل، والذهب معدن أصيل كما هو معلوم مع تلك القبضة ومزج بعضها في بعض، ولا ندري كيفية العجل على هيئته التفصيلية، لكن نقول كما قال الله: (جسداً) وهذا يدل على أنه لا روح فيه؛ لأنه مر معنا أن أسلوب القرآن إذا تكلم عن اللحم والدم والشيء المجسم إذا كان مقروناً بالروح يعبر عنه بأنه جسم، كما قال تعالى عن طالوت: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247]، وقال الله عن المنافقين: {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4]، وإذا عبر القرآن بالجسد فإنه يتكلم عمن لا روح فيهم.
والمقصود: أن هذا العجل أخرجه لهم السامري، فلما أخرجه لهم كما قال الله جل وعلا: {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88]، فبين لهم أن موسى عليه السلام -وهذا بزعم السامري - لم يعرف ربه نسي ربه، فذهب يبحث عنه في مكان آخر، أو قال لهم: إن موسى نسي أن يخبركم أن هذا إلهكم، وكلا الأمرين كفر، وفتن بنو إسرائيل في العجل فأخذوا يطوفون حوله ويترقصون.
ومن هنا أخذ بعض علماء أهل السنة أن ما يصنعه بعض المتصوفة من الطواف والرقص لا أصل له؛ بل إنه مأخوذ عن العبادة الكفرية لبني إسرائيل، ولم ينقل فيه أثر صحيح صريح عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وكفى بعمل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه عبادة.(55/3)
موقف هارون من بني إسرائيل حين عبدوا العجل
موضع الشاهد: أن هذا الأمر حدث على مرأى من عيني هارون، وموسى إلى الآن غير موجود، فلما رآهم هارون ازدحم في ذهنه أمران: الأمر الأول: أنه كان بإمكانه عليه السلام أن ينكر عليهم إنكاراً ينجم عنه أن يأخذ الفرقة التي لم تؤمن بالعجل فيذهب ويتبع موسى، وهذا غلب على ظن هارون أنه لو فعله لتشتت بنو إسرائيل الباقون وتفرقوا، فإذا عاد موسى لا يجد طريقاً لجمعهم حتى يردهم إلى الحق.
الأمر الثاني: أن يبقى الأمر على ما هو عليه وينكر عليهم بقوة، ويحاول أن يأخذ ويعطي معهم حتى يأتي موسى فيبين لهم؛ لأن السامري اتكأ على غياب موسى، فإذا جاء موسى لم يبق للسامري حجة هذا الذي أراده هارون فيما أفهمه أنا من القرآن، وإن لم يصرح به أحد.
لكنه لما حصل هذا أنكر عليهم موسى، وقد أنكر عليهم هارون، وقد برأ الله جل وعلا بنص كتابه ساحة هارون قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90]، فبدأ بالتخلية وهو ((إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ))، ودعا إلى التوحيد ((وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ)) ودعا إلى الرسالة ((فَاتَّبِعُونِي))، ودعا إلى الشريعة كلها عليه الصلاة والسلام.(55/4)
موقف موسى من أخيه هارون بعد رجوعه إلى بني إسرائيل
ولما جاء موسى في هذه الفترة لم يرتدع بنو إسرائيل، فرجع موسى بعد أن أخبره الله، وكفى بتعليم الله علماً، لكن كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه في المسند وغيره: (ليس الخبر كالمعاينة)، فلما رآهم على هذه الحال يعبدون العجل غضب لله، ولأنه رسول قد ملئ قلبه توحيداً فلا يتصور أن يرى أحداً يعبد غير الله، فألقى الألواح، ولم يلق الألواح زهداً فيها أو استخفافاً بكلام الله، محال أن يفعل هذا أحد الناس من الصالحين، فكيف ينسب إلى ولي الله ورسوله، لكنه فعلها مما أصابه من الحنق والغضب أن يرى أحداً يعبد غير الله! فألقى الألواح، وتوجه مباشرة إلى أخيه، وقد صور الله هذا الموقف وذكر أن موسى كان يأخذ برأس أخيه ويجره إليه، كان الموقف صعباً على هارون لكن هارون كان حليماً، والعرب تقول: إذا عز أخوك فهن، وحياتك مع أصدقائك ورفقائك ومن تحبهم ويحبونك، ويقولون بالعافية: إذا غلب عليك الظن أنهم شدوا فأرخ أنت، ويقول معاوية: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا أرخوها شددتها، وإذا شدوها أرخيتها، وفي رواية أنه قال: أعيش معهم كالحمام، إذا وقعوا طرت، وإذا طاروا وقعت.
فالمقصود: أن هارون لم يلجأ إلى مناكبة أخيه وصده، بل لجأ إلى استلطافه، وأخذ يبحث عن ألفاظ تحرك العاطفة في قلب أخيه، وهارون وموسى أخوان شقيقان، لكنه قال له: ((يَبْنَؤُمَّ))، وأثرها في النفس أكثر من قوله: يا أخي، وإنما ذكره بالرحم العظيم الجامع بينهما وهي الأم ((يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ))، وقال العذر الذي قلناه من قبل: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94]، أي: لم تسمع قولي ولم تطعني في أمري.
وينبغي أن تعلم كذلك أن موسى لم يشك لحظة أبداً في أخيه أنه عبد العجل، لكنه كان يتكلم عن سياسة أخيه في الموضوع، فقول موسى لأخيه: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93]، لا يقصد منه عصيت أمري في العبادة، فهذا محال؛ لأن هارون نبي مثل موسى، لكن المقصود: عصيت أمري عندما قلت لك: {وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:142]، و {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف:142]، أي: أصبح زعيماً لهم قائداً ريثما أعود، هذا هو الذي خشي موسى أن يكون هارون قد فرط فيه.
وهنا أمر مهم جداً، فقد قال بعض أهل الفضل، وصرح به الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير، قال رحمه الله: إن الحفاظ على العقيدة أفضل من الحفاظ على جماعة المسلمين؛ لأن مصلحة العقيدة لا يرقى إليها شيء، وإن هارون جانبه الصواب في الصنيع الذي فعله.
ونحن نقول: إن قول الطاهر بن عاشور رحمه الله: إن مصلحة العقيدة لا يرقى إليها شيء، هذا متفق عليه؛ فلا توجد مصلحة أعظم من مصلحة العقيدة ولا توجد مفسدة أعظم من مفسدة الشرك، لكن محال أن يقال إن هارون جانبه الصواب لأمرين: لأننا نقول: إن الله أمر جملة باتباع هدي الأنبياء فقال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، ويدخل فيهم هارون لزاماً، ولم يستثن الله حالة لهارون، في حين أن الله استثنى حالة ليونس فقال جل وعلا: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:48]، فهذه الحالة استثناها الله من يونس، وبقي يونس في الجملة يهتدى به إلا في حالة خروجه مغاضباً، أما هارون فلم يستثن الله جل وعلا من هديه شيء هذا أمر.
الأمر الثاني: نقول: لا يعقل في أمر ديني أن يرى أحد من الناس في أمر شرعي يهتدي لرأي لم يهتد إليه رسوله، لا يعقل أن يهتدي من آحاد الناس عالم أو غيره إلى أمر لم يهتد إليه رسول، ونقول: إن هارون كان يعلم أن مصلحة العقيدة لا يرقى إليه شيء، وهو لم يفرط في جانب العقيدة، وإنما الآلية التي يحافظ بها على جانب العقيدة مسألة سياسية، وهي أنه أبقى على قومه مجتمعين ريثما يعود موسى -كما ذكرنا- لعلمه عليه السلام أن السامري اتكأ على حجة أن موسى غائب، فأخذ يقول ويشيع في بني إسرائيل: إن موسى نسي، فإذا جاء موسى سيبطل هذه الحجة التي قالها السامري، وهذا عين ما وقع بعد رجعة موسى.
فنقول: إن تدارك هارون للقضية كان صائباً، ولهذا لم يذكر الله تعنيفاً لهارون؛ بل إن الله ذكر تراجع موسى بقوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} [الأعراف:151] فاستغفر له ولأخيه؛ مما يدل على أن موسى تراجع عن الحدة التي أصابته في التعامل مع أخيه هارون عليه السلام.(55/5)
محاورة موسى للسامري
وبعد أن تأكد موسى أن الأمر ما زال في قبضته، وأن بني إسرائيل لم تتفرق؛ رجع إلى السامري يحاكمه فقال له: (ما خطبك يا سامري)؟ يسأله، فقال السامري ما ذكرناه من أنه قبض قبضة وأنه جمع وما إلى ذلك.
وموسى معروف بحدته، وقد مر كثيراً ونحن ندرس القرآن والسنة حدة موسى في ذات الله، ومنها ما حصل منه مع الخضر، ومنها الموقف الذي بين أيدينا من مجازاته لأخيه، لكنه قال للسامري: {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه:97]، قال أهل العلم جملة في معناها: أن الله جل وعلا حكم على هذا الرجل الضال بأن لا يكون فيه أنس مع الغير، فيستوحش من الناس، ولا يكونون مخالطين له، وأنه يبقى ما بقي من حياته يعيش طريداً شريداً لا يأنس بالخلق، هذا جملة ما قالوه.
وبعض الناس من المتأخرين ممن لهم دراية بالتاريخ -والوجه الذي اتكئوا عليه صحيح، لكن لا يلزم من الوجه الذي اتكئوا عليه إذا كان صحيحاً أن تكون النتيجة صحيحة؛ لأنني أقول دائماً: إن قضية الغيب تبقى غيباً- فقالوا: إن الله جل وعلا أراد أن يبقي على حياة السامري، ولهذا لم يعنفه موسى، بل قال: {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} [طه:97]، والسابقون كانوا يقولون: إن الموعد هو يوم القيامة، لكن هذا فيه نظر؛ لأن هذا موعد لا يختص بـ السامري وحده، فقالوا إن القضية قضية الدجال، وإن السامري هو الدجال، وإن الله أذن له أن يبقى ويعيش ولم يسلط عليه عبده موسى حتى تبقى حياته، فإذا بقيت حياته فإن الموعد الذي لن يخلف هو وقت خروجه للناس، ثم وقت هلاكه على يد عيسى ابن مريم.
أقول معقباً والعلم عند الله: هذا القول له حظ كبير من النظر، لكن من الصعب تبنيه والجزم به؛ لعدم وجود ما يدعمه من الأثر، لكن أقول: إن العقلية التي تنتبه لمثل هذا عقلية مؤهلة لأن تنظر في كلام الله، وهذا من العلم الذي تجري فيه أقدام العلماء هذا أمر.
الأمر الثاني: هذا يسمى من مليح القول لا من متين العلم، هذه جملة ما ذكره الله جل وعلا عن السامري.(55/6)
الفوائد المستنبطة من قصة بني إسرائيل مع السامري وعبادتهم للعجل
ثمة فوائد يجب استنباطها من هذا الحدث التاريخي الذي مر به بنو إسرائيل: أولها وأعظمها: أن الله إذا أراد ضلالة أحد غشي على بصره وحرمه من استعمال عقله، وإلا فإنه من المحال أن يقال: إن قوماً ينجيهم الله، ويرون البحر يبساً، وتمشي أقدامهم عليه، ثم بعد هذا كله يأتون إلى عجل له خوار يعبدونه من دون الله، هذا من أعظم الدلائل على أن المسألة لا ترجع إلى العقل، وإنما هي هداية من الله ونور يضعه الله جل وعلا في قلب من يشاء.
الأمر الثاني: أن الناس الذين ينصر الله بهم دينه تختلف مشاربهم وقدراتهم، فموسى فيه الغضب والحدة، وقد نفعت الدين نفعاً عظيماً، وهارون عليه السلام كان فيه شيء من اللين والرفق، وقد نفعت الدين نفعاً عظيماً، كما كان في الفاروق والصديق رضي الله تعالى عنهما، فإن الصديق كان فيه لين، والفاروق كان فيه شدة، ولما كان الصديق رضي الله عنه يستشير الناس في أمر الفاروق وكانوا يخشون من شدته فكان يقول لهم: إن الذي دفعه إلى هذا أنه يجد في ليناً في ذات الله.
والمقصود: عندما تحاكم شخصين فلا تنظر من هذه الزاوية الضيقة فتقول: إن فلاناً قوي في ذات الله جبار، وتتهم الآخر بالضعف، لكن الدين ينصر بالشخص الضعيف كما ينصر بالشخص القوي، وأحياناً نحتاج إلى الحدة والغضب، وأحياناً نحتاج إلى الحلم واللين، وأحياناً نحتاج إلى دعاء ذلك الرجل العاجز، وأحياناً نحتاج إلى حلم الحليم، وأحياناً نحتاج إلى استنباط الفقيه، فالدين من حيث الجملة ينصره الله جل وعلا بهؤلاء كلهم، كما نصر الله دينه بنبييه موسى وهارون رغم اختلاف شخصيتهما اختلافاً كثيراً.
الأمر الثالث: وهذا مر معنا عرضاً: أن الإنسان لا يحاول أن يصادم أصحاب الرئاسات، وأن المركب الواحد لا يحتمل أكثر من قائد، ولا بد للعاقل أن يتغاضى عن أمور إذا أراد للمركب أن تسير، لكن الإلحاح على المطالب والإصرار على الزعامة، والتنافس في الدنيا، هذا هو الذي يذهب المركب الإسلامي ويجعله عرضة للغرق.
لكن من جعل الله جل وعلا بغيته ورضوان الله جل وعلا غايته، هان عليه كل ذلك في سبيل إعلاء دين الرب تبارك وتعالى، لكنه كذلك ينبغي أن يعلم أن دين الله جل وعلا أجل وأعظم من أن يتخذ غرضاً للدنيا.
الأمر الرابع: أن الذنوب والخطايا التي تكون للعبد -ولا بد منها- يجب أن توظف توظيفاً صحيحاً، فلا يأتينك أحد ينتهز فيك ماضيك وبعض خطاياك فيوظفك فيما يشاء وما يبتغي وما يريد من باب أن ذلك كفارة لما قد عملت، وإنما الإنسان يعلم أن الذنوب والمعاصي ليس لها إلا التوبة، وقد مر معنا قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
هذا جملة ما يمكن أن يقال عن قصة موسى مع السامري، وعبادة العجل من أعظم ما اقترفه بني إسرائيل، ولهذا أمرهم الله جل وعلا بالتوبة، وجعل توبتهم أن اقتلوا أنفسكم.(55/7)
تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن الجبال لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً)
ثم قال الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:106 - 107]، هذه إحدى آيات السؤال في كلام ربنا الكبير المتعال, وآيات السؤال متعددة في القرآن وقد جاءت في القرآن المكي والقرآن المدني، وقد أفرد لها الشيخ عطية محمد سالم كتاباً خاصاً أسماه: آيات السؤال والجواب في آيات الكتاب، فمنها ما يتعلق بالتشريع كالسؤال عن المحيض، والسؤال عن أموال اليتامى، والسؤال عن الأهلة، والسؤال عن الخمر، ومنها ما يتعلق بالأمور الغيبية وما سيقع كهذه الآية: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ))، وكقوله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف:187]، وبكل أجابه الله.
قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105]، الجبال خلق من خلق الله عظيمة الهيئة، ولأنها عظيمة الهيئة فقد لفت الله الأنظار إليها فقال: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية:19]، والله تبارك وتعالى إذا استقر في الأذهان عظمة شيء يربطه بعظمته، فأين ربط الله عظمة الجبال بعظمته؟ ربطها لما تكلم عن إنكار نسبة الولد إليه فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:87 - 91].
فهي على عظمتها تخر إذا بلغها أن أحداً من الخلق زعم أن لله صاحبة أو ولداً، فربطها جل وعلا بعظمته ثم لعظيم خلقتها بين الله جل وعلا أنها من جملة من يعبده فقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] وهذا عموم، ثم ذكر لها خصوصاً فقال: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} [ص:18]، ذكر جل وعلا تسخيرها لداود عليه السلام أنها تسبح معه صلوات الله وسلامه عليه فهذا من جملة كيف يربطها الله جل وعلا بذاته العلية.
كذلك استقر في الأذهان أن الجبال شيء عظيم حتى في اللغة، فمن أراد أن يمدح أحداً شبهه بالجبل، يقول الفرزدق في رده على جرير: فادفع بكفك إن أردت بناءنا ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحل يقول له: إذا أردت أن تهدم ما بناه أجدادي فإن صنيعك كمن يأتي إلى كهلان -وهو جبل عظيم كبير في الحجاز- يريد هدمه أو تحريكه بيده، وهو لن يستطيع، فمقام أجدادي وما دونوه مثل هذا الجبل.
ويقول آخر: كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا فقوله: في الجبال: هي الجبال المعروفة، وكنا جبالاً أي: ثابتين راسخين، ويقول حسان: شماريخ رضوى عزةً وتكرما ورضوى جبال ما بين المدينة والعيص بعد ما تنتهي من ينبع النخل تأتيك على شمالك، وقد رأيتها عالية شاهقة جداً، وهي كالشماريخ تماماً وكأن حسان يرسمها رسماً ولا يصفها وصفاً.
والمقصود: أن الجبل استقر في الأذهان علو هيئته، ولهذا لما ربطه الله بعظمته وفتن الناس به أراد الله أن يبين إلى ماذا سيصير في النهاية، وقد جرت سنة الله في خلقه كما قال عليه الصلاة والسلام في ذلك القعود الذي سبق ناقته: (حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه)، والعامة يقولون: كل شيء له سبع، أي: له آفة تذهب هيبته.
فبعض طلبة العلم مثلاً يفتن بعالم فيريك الله ضعفه في جانب معين، والبخاري رحمة الله تعالى عليه لما ذكر أحد علماء الحديث قال: ما استصغرت نفسي إلا بين يديه، وهذا الذي استصغر نفسه البخاري بين يديه يقيناً أنه استصغر نفسه مع غيره، فالله لا يجعل لأحد كمالاً مطلقاً.
فالعامة يقولون: إن لكل شيء سبع، أي: آفة غالبة، ويقولون: إن سبع الجبال الليل؛ لأن الجبل على عظمته وارتفاعه لا يرى في الليل، فكأنه غير موجود، فيجعلون الليل آفة أو سبعاً على الجبال في كلامهم العادي.
يقول رب العالمين: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ))، بدهياً أن يسأل القرشيون نبينهم عن هذه الجبال العظيمة، قال تعالى: ((فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا))، وهذا إخبار بالنهاية لا إخبار بالبداية؛ لأن الجبال قد ذكرت في القرآن على مراحل عديدة، يقول الله: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3]، وقال: {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة:6]، وقال: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88]، فذكر لها أحوالاً وأطواراً، لكن هنا حتى ينتهي الأمر فذلك الشيء الشامخ لا يذهب إلا بالنسف ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا)) أي: الجبال ((قَاعًا صَفْصَفًا))، والقاع: بقعة من الوادي المعروفة {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} [طه:107] أي: لا ترى في هذه البقعة ميلاً، ((وَلا أَمْتًا))، الأمت على الصحيح: النتوء الشيء الظاهر الذي ينتأ في الجسد.
فهذه الجبال من شدة أنها نسفت حتى حجارة منها ملساء اجتمعت بعضها على بعض فتكون شيئاً ناتئاً في الأرض لا يوجد ولا يبقى شيء.(55/8)
تفسير قوله تعالى: (وعنت الوجوه للحي القيوم فلا يخاف ظلماً ولا هضماً)
ثم قال الله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111]، وجوه من؟ وجوه الخلائق كلها {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ}، وقد قال بعض أهل العلم: إن الحي القيوم اسمان متلازمان هما اسم الله الأعظم، وقد ورد هذا الاسم الكريم المتلازم في القرآن ثلاث مرات، ورد في صدر آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وورد في فاتحة آل عمران {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2]، وورد في هذه الآية الكريمة التي بين أيدينا ((وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)) [طه:111]، وقد قال جمع غير قليل من أئمة الدين: أنه اسم الله الأعظم، والعلم عند الله.
وقوله: ((وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا))، الظلم إذا قاله الناس اليوم ينصرف إلى الجبروت وإلى سلب أموال الناس، وهذا حق؛ لكن إياك أن تصرفه في هذا الموقف صرفاً أولياً يتعلق بالناس؛ لأن هذا ينافي أصلاً فهمك للقرآن؛ لأن الله جل وعلا محال أن يذكر هذه المقدمة في العظمة كلها وخشعت الأصوات للرحمن، ولا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن، وعنت الوجوه للحي القيوم، ثم يتلكم عن قضية أن عبداً ظلم عبداً، لكن لا يوجد ظلم أعظم من أن تجعل لله نداً وقد خلقك، فأول ما يصرف قوله: ((وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا)) إلى أهل الإشراك.
ثم قال الله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]، (وَمَنْ يَعْمَلْ) شرطية ((مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ))، فالإيمان متلازم مع العمل الصالح، وقد يعمل الإنسان عملاً صالحاً من حيث الجملة لكنه غير مؤمن، كما يصنع بعض الغربيين الكفرة من الرفق بالحيوان، أو من قضية إغاثة الملهوف؛ فهذا لا ينفع يوم القيامة.
وقوله: ((فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا))، لا يخاف ظلماً؛ لأن الله جل وعلا نزه نفسه عن الظلم، وقد جاء في الخبر الصحيح عن علي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك، قال: فقلنا يا رسول الله! مم تضحك؟ قال: أضحك من مجادلة العبد ربه، فإنه يقول يوم القيامة: يا رب! لا أقبل إلا شاهداً من نفسي، فيختم على لسانه فتشهد عليه جوارحه، فإذا شهدت عليه جوارحه خلي بينه وبين الكلام، فيقول: سحقاً لكن وبعداً فعنكن كنت أناضل)، أي: عنكن كنت أدافع.
قال بعض أهل العلم: حتى جوارحه التي كانت له في الدنيا عوناً على المعصية لما رأت يوم القيامة كانت شاهداً عليه عند ربه، فجوارحه قدمت عظمة الله على علاقتها بصاحبها، ولهذا قال الله جل وعلا: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
وقد اختلف العلماء في السبب الذي من أجله يختم على الأفواه، فقال بعض أهل الفضل وينسب هذا إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن السبب أنهم ينطقون بكلمة الكذب، قال الله جل وعلا عنهم أنهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، فإذا قالوها يختم على أفواههم، وذكرت أسباب أخرى في أن الله جل وعلا يختم على أفواههم، فقيل: إن شهادة غير الناطق من الجوارح أعظم من شهادة الناطق، أي: من شهادة جارحة اللسان، وقيل غير ذلك.
يقول الله جل وعلا: ((وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا))، فلا يزاد عليه ما لم يعمله، ولا ينقص منه ما قد عمله، فالظلم هنا يفسر بالزيادة، وقد فسرناه بالزيادة ليقابل كلمة (هضماً) وهو النقص.(55/9)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وقل رب زدني علماً)
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه:113]، (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)، أي: بلسان عربي مبين كما هو معلوم، ((وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ))، والوعيد يقابله الوعد، والوعد يكون في الخير ويكون في الشر، والوعيد لا ينصرف إلا للشر.
وقول الله جل وعلا: ((وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ)) أي: أن تخويف الله جل وعلا لعباده لم يأخذ منهجاً واحداً، وإنما أخذ عدة طرائق، فتارة يذكر الله أفراداً أهلكهم كالنمرود وقارون، وتارة يذكر أمماً أبادها كقوم ثمود وقوم عاد، وتارة يذكر الله جل وعلا إخباره بما أعد لأهل معصيته وغير ذلك مما صرف الله جل وعلا فيه من الوعيد كل ذلك تذكرة للعباد، وتبصره للحاضر والباد، قال سبحانه: ((وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا))، أي: لعل هذا التصريف يكون سبباً في عودتهم إلى ربهم جل وعلا.
ولما كانت الأمور لا يمكن أن تكون إلا بمشيئة الواحد القهار قال جل وعلا بعدها: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، وهذه من أعظم آيات القرآن ثناءً على الله تعالى، وقد قالها الله هنا، وقالها جل وعلا في آخر سورة المؤمنون، وقالها في غير موضع ((فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ)) أي: عما يصفه الواصفون ممن انتقصوا ربهم جل وعلا.
لكن يستثنى من هذا ما وصف الله به عباده الصالحون، فوصف العباد الصالحين لربهم غير داخل في هذا الحكم.
ثم قال الله لنبيه: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114]، فقد كان جبريل يملي على نبينا صلى الله عليه وسلم القرآن، فكان لهذا القرآن حلاوة في قلب النبي وكان يخاف أن يتفلت فيسرع في الاستجابة لجبريل، فأخبره الله جل وعلا هنا وأخبره في سورة القيامة {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} [القيامة:17] أي: في صدرك {وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17] أي: في قراءته عليك، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] أي: تأويله سيأتيك ظاهراً بيناً في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، وقد مر معنا أن كلمة (رب) إذا جاءت بصيغة دعاء فلا تكون ملازمة للياء، لكن (زدني) جاءت بالياء وهي ياء المخاطب، وأصل الفعل (زد)، والنون يسميها العرب: نون الوقاية، ويقولون: إن الفعل لا يقبل الكسر، وياء المخاطبة لابد لما التحق بها أن يكون مكسوراً، فلو تكلمت عن كتاب ونسبته إلى نفسك فتقول: هذا كتابي، فالباء لحقها الكسر لاتصالها بالياء، سواء كانت في محل جر أو لم تكن في محل حر، فالياء قوية لا تقبل لما يلتصق بها إلا أن يكون مكسوراً، والكسر من خصائص الأسماء، لكنه ليس من خصائص الأفعال، فلما التصق الفعل بالياء احتاروا فلا الياء ترضى أن تقبل معها أحداً غير مكسور، ولا الفعل يرضى بأن يكون مكسوراً، فجاءوا بهذه النون فجعلوها بين الاثنين -وهذه فائدة نحوية- وسموها: نون الوقاية، ويقصدون من تسميتها نون الوقاية: أنها وقت الفعل من الكسر.
هذا العلاقة النحوية.
أما العلاقة العامة فإن الله يقول لخير خلقه: ((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا))، والعلم هو نور وفضل من الله جل وعلا محض، وله شروط تتعلق بالآخرة، وهذا ليس مجال كلام فيه؛ لأن كل امرئ حسيب نفسه، سواء أراد بالعلم وجه الله أو لم يرد به وجه الله، لكن العلم حتى يملكه الإنسان لا بد فيه من أمور: الأمر الأول: عدم التفريط في علوم الآلة، وهذا أهم مقتضيات العلم؛ لأن من فقد علم الآلة لم يصل إلى مبتغاه، فلابد من عدم التفريط في علوم الآية مع -وهذا مهم- مع عدم الإغراق في علوم الآلة؛ لأنها وسيلة وليست غاية.
الأمر الثاني: عدم احتقار أي شخص أن تأخذ عنه علماً من حيث المعلومة نفسها، فإجلالك لغيرك يبنى عليه أمور عدة، أما قبولك للمعلومة فليس له علاقة بذات الشخص، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (صدقك وهو كذوب)، فأقره على المعلومة التي منحها إياه الجني أن من قرأ آية الكرسي لا يزال عليها من الله حافظ، مع أن القائل جني سراق، لكن لا علاقة لنا بالقائل، بل العلاقة لنا -وهذه مهمة جداً- بقضية المعلومة.
ومن شروط تحصيل العلم: أن العلم يجمع، بمعنى: أنه لا بد من مراحل حتى يصل الإنسان إلى كثير من بغيته لا إلى كل بغيته، قال الإمام الشافعي: وصحبة أستاذ وطول زمان فلا يمكن أن يطير أحد قبل أن يريش، فيأخذ الإنسان العلم على تؤدة وعلى مهل، ولا بد في العلم من المراجعة؛ لأن علم الأنبياء وحي لا يحتاجون فيه إلى مراجعة، أما نحن معشر المتعلمين فلا بد فيه من المراجعة والمدارسة والمذاكرة والعرض حتى يثبت في القلب والعقل.
وهنا فائدة: يقولون: إن المأمون -سابع خلفاء بني العباس- قال لـ أبي علي المنقري: يا أبا علي! فيك كثرة عيوب، قال: وما هي؟ قال: إنك تلحن في كلامك، وتكسر الشعر ولا تقيمه -هذه اثنتان- ولا تجيد الكتابة، فقال: يا أمير المؤمنين! أما اللحن فربما سبق لساني منه شيء، وأما الكتابة والشعر فلا حاجة لي بهما؛ فإني رأيت الله نزه نبيه عن الكتابة ونزه نبيه عن الشعر، فقال المأمون: يا أبا علي! كنت أظن فيك ثلاثة عيوب فإذا هي أربعة، الثلاثة التي ذكرت وجهلك، ثم قال له: يا جاهل! إن عدم فهم الشعر وعدم القراءة والكتابة في حق النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة حتى لا يشككن أحد في وحيه الذي أعطاه الله إياه، أما في غيره فهي في حقه منقصة -أي: عدم فهمه للشعر أو عدم إجادته للقراءة والكتابة- لأن الإنسان إذا كان لا يفقه الشعر ولا يجيد القراءة والكتابة أنى له أن يتعلم.
فلا بد أن يكون هذا معلوماً، فهي في حق غيره منقصة وفي حقه صلوات الله وسلامه عليه فضيلة، قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48].
ومن التكلف أنه قال بعض الناس: إن الرسول كان يعرف يكتب، قيل له: إن الله يقول: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48].
قال: ما هي مشكلة كان الرسول يكتب بشماله!! فهذا نوع من العنت حتى يخرج منها، لكن الله أراد نفي الكتابة بالجملة.
والمقصود: أن العلم -كما ذكرنا- يحتاج إلى مراجعه، ويحتاج إلى أخذ وعطاء، وكذلك يحتاج العلم -وهذه مهمة جداً- إذا تبنيت رأياً فلا تجلب على خصمك فيه بخيلك ورجلك، فربما تراجعت عن هذا القول ذات يوم، فاترك لنفسك خط رجعة تئوب إليه، إلا في مسائل العقائد؛ لأن العقائد مبنية على اليقينيات، لكن في مسائل الفقه والأخذ والعطاء اجعل لنفسك خط رجعه، فربما مع المدارسة والأخذ والعطاء يتبين لك خلاف الذي توصلت إليه.
والكلام في العلم أمره طويل، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، فإذا كانت ملائكة الرحمن ترضى عمن خرج قصداً في طلب العلم فهذا دلالة على فضله وسموه في ذاته.
لكن إذا جاءنا في الأمور الروحانية الإيمانية فإنه ما أجمل العلم أن يدل على الله! وإنما العلم الخشية، كما قال الحسن البصري رحمه الله، وهو مأخوذ من قول الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
زادني الله وإياكم تبصرة لما نقول ونسمع، ووفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وألبسني الله وإياكم لباس العافية والتقوى.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد الله رب العالمين.(55/10)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة طه [7]
ذكر الله تعالى في آخر سورة طه تكريمه وتفضيله لآدم عليه السلام، وأنه أسجد له ملائكته فسجدوا إلا إبليس أبى، وأدخله جنته، وحذره من إبليس، وأمره ألا يأكل من شجرة معينة، فوسوس إليه إبليس فأكل منها، فعاقبه الله بأن أخرجه من الجنة وأنزله إلى الأرض ابتلاءً وامتحاناً، ثم تاب الله تعالى عليه وهداه، ثم ختم الله السورة بأمره لنبيه بالصبر، وألا يمد عينيه إلى ما متع الله به غيره من الدنيا، وأمره بأن يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها، ثم ختمها بذكر كلام الكفار المعاندين الذين طلبوا من النبي آية، مع أن الله قد أعطاهم أعظم آية وهي القرآن، ولكنهم لا يرعوون ولا يؤمنون.(56/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً)
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا اله الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
قال الله جل وعلا فيما: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115].
هذا المقطع من سورة طه يتكلم عن عهد الله جل وعلا لأبينا آدم، وآدم قبل أن نتكلم عن قصته هنا يجب أن نصتصحب ما من الله جل وعلا به عليه، وفائدة هذه الاصتصحاب: أن الإنسان أحياناً إذا رأى كلام الله عن أحد أنه وقع منه خلاف الأولى، أو وقعت منه المعصية؛ يقع في نفسه شيء من دون أن يشعر من ذلك المذكور، فسداً لهذه الباب واتباعاً لسنه النبي صلى الله عليه وسلم القائل: (لا يقول أحد أنا خير من يونس بن متى)، من هذا الباب نقول: إن آدم عليه السلام فضله الله بأمور لم يعطها أحداً من الخلق، لا نبينا صلى الله عليه وسلم ولا غيره، هذه الأمور منها: أن الله جل وعلا خلقه بيده، وهذه خصيصة له من دون سائر بني آدم، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، وهي أربع خصال لم تعط لأحد غيره عليه الصلاة والسلام هذا أمر.
الأمر الثاني: أن وجه آدم منتهى الكمال البشري، وقد ذكرنا أن يوسف أعطي شطر الحسن، إي: شطر حسن آدم عليه السلام.
قال الله تعالى هنا: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا} [طه:115]، قوله: (عهدنا) عهد: لفظ يستخدم في التعظيم والتفخيم، ولا أحب أن يقول الفرد من الناس: عهدت إلى فلان أن يفعل كذا، وإن كان مستخدماً في اصطلاحات المؤرخين، لكن أرى ألا يستخدم، وأنه يتعلق بذات الله، لكني لا أجزم أنه لا يجوز.
يقول الله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} [طه:115] أي: من قبل موسى، من قبل هذا كله الذي قصصناه عليك.
قال تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115] عبر الله هنا بالنسيان، وقال بعد آيات: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، لا تنسب إليه، مع أن الله صرح بها، لكنني أقول: هناك كلام لـ ابن العربي في أحكام القرآن جيد عظيم فحواه: أن كلام الله عن آدم غير كلامنا نحن عن آدم، فكلام الله جل وعلا عتاب وفيه شيء من التثريب، لكنه خطاب رب لعبده، أما نحن فنتكلم عن أبينا آدم بالنبي، ونبوة آدم ثابتة فقد جاء في الحديث أنه قيل: (يا رسول الله! أكان آدم نبياً؟ قال: نعم، نبي مكلم) والحديث صحيح.
يقول الله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، ما هو العهد الذي عهده الله لآدم؟ بالاتفاق ألا يأكل من الشجرة.(56/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [طه:116]، أي: امتنع كبراً.
والخطايا أصولها ثلاثة: الكبر، والحسد، والحرص، فوالله ما عصى الله أحد إلا من باب واحدة من هذه الثلاث: الكبر، أو الحسد، أو الحرص، فالحرص باب للشهوات، والحسد باب للبغض، والكبر باب للبغي والشهوات، وباب لرد ما جاء الله جل وعلا به، فكل المعاصي تندرج في هذا الباب.
يقول ربنا: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا} [طه:116 - 117]، أي: إبليس {عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه:117]، ولم يقل: ولزوجتك، والأفصح أن يقال في المرأة: زوج، فيقال: زوجه، ولا يقال: زوجته، {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا} [طه:117]، آدم وحواء {مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، وقول الله: (من الجنة) إحدى الأدلة على أن المقصود بها جنة عدن؛ لأنه لا يستقر في الذهن هنا إلا جنة عدن، وقوله: (فتشقى) جاءت (فتشقى) بلفظ الإفراد، وهذا يدل على أن المرأة تبع للزوج، وأن الرجل هو المكلف بالسعي والكد.
ومعنى الآية: أن الجنة يا آدم كفيت أن تعمل فيها وتكد على أهلك، فخروجك منها سيدفعك الى الكد والسعي في طلب الرزق، وقوت أبنائك وأهلك، وتصبح تبحث عن الرزق كما يقال بعرق الجبين، وتذهب وتكد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حق جليبيب: (اللهم لا تجعل عيشهما كداً وصب عليهما الخير صباً).
والمقصود: لم يقل الله: فتشقيا؛ لأن الرجل هو المكلف بالكد.
قال الله جل وعلا: يرغب آدم في الجنة: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119]، الجوع معروف وهو عدم الأكل، والعطش قرين له، يقال: فلان جائع وفلان عطشان، {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه:118]، بعد الجوع أتى بالعري، قال: {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا} [طه:119]، أي: لا تعطش، {وَلا تَضْحَى} [طه:119] ضحي الإنسان بمعنى: برز للشمس، ولهذا يقال لوقت ظهور الشمس واشتدادها: ضحى.
وهذا عند البلاغيين يسمى: تطابق تضاد، والمعنى أنهم يقولون: إن الله عدل عن قول: ألا تجوع فيها ولا تظمأ، فما قال: لا تجوع فيها ولا تظمأ، ولم يقل: تعرى مقابل الظهور للشمس، قالوا: لأن العري جوع الظاهر، وعدم الأكل جوع الباطل، وعدم الشرب حر الداخل، والظهور للشمس حر الظاهر، فهذا يسمى: تطابق تضاد.
وأهل اللغة إذا ذكروا هذا في القرآن يعرجون على بيتين للمتنبي، والمتنبي شاعر عباسي كان مشهوراً بالإغراق في الغرور والكبر عياذاً بالله، وهو القائل عن نفسه: أي عظيم أتقي وأي مكان أرتقي وكل ما خلق الله وما لم يخلق محتقر في همتي كشعرة في مفرقي ومن دون له سيرته -ولا أتحمل وزره- قال: إنه لم يسجد لله قط، فلا يعرف أن هذا الرجل كان يصلي؛ بل كانت به أنفة عجيبة، فكان ينشد شعره بين يدي سيف الدولة الحمداني وهو جالس، فودعه بقصيدة بعد أن اشتد عليه خصومه يقول فيها: واحر قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم ما لي أكتم حباً قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم إن كان يجمعنا حب لغرته فليت أنا بقدر الحب نقتسم والآن هو يتكلم بين يدي الأمير، فبدلاً من أن ينصرف الكلام إلى مدح الأمير صرفه إلى نفسه فقال: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي أنا الثريا وذان الشيب والهرم هذه جملة أبيات قالها بين يديه ثم ترك حلب وبني حمدان، واتجه إلى مصر أيام حكم كافور الأخشيدي وكان كافور فطناً سياسياً، وهذه الفطنة جعلت كافوراً يقرب المتنبي بالقدر الذي يستفيد منه، وكان المتنبي يلح عليه ويطلب منه الولاية فلم يعطه، فلما سأل بعض خواص كافور عن سبب منعه الولاية للمتنبي قال: انظروا ماذا يراه في نفسه وهو شاعر، فكيف لو أعطي ولاية، ماذا سيفعل؟ سيطغى، والمتنبي هو القائل: ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا والعاقل لا يستخدم من هو أعظم منه؛ لأنه قد ينقلب عليك فيأكلك.
نعود إلى قضية التضاد في التطابق فنقول: وقف المتنبي ذات يوم في حرب تسمى: الحرب الحمراء، لـ سيف الدولة الحمداني، وانتصر فيها، فقال قصيدته الشهيرة التي مطلعها: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم حتى وصل إلى بيت يمدح ممدوحه فقال: وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم فقالوا: إن الحمداني استدرك على المتنبي هذا البيت، فأفهمه المتنبي بمراده الذي هو بين أيدنا الآن بما يسمى: تطابق التضاد، فجعل كل مصرع بيت بما يلائمه، وهذا مأخوذ من نسق القرآن، حتى يعلم أن القرآن في المرتبة الأعلى من الفصاحة، وما جاء أحد بأسلوب ولن يأتي أحد يرقى على أسلوب القرآن، فكلهم أصلاً مغترف من أسلوب القرآن سواء أنكر ذلك أو اعترف.(56/3)
تفسير قوله تعالى: (فوسوس له الشيطان فتاب عليه وهدى)
يقول الله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120]، وهذا حرص؛ لأن كل ثمار الجنة أباحها الله جل وعلا لآدم ما عدا شجرة، فدخل إبليس على أبينا آدم من باب الحرص فقال: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120]، فوافق آدم؛ لأن ما بعدها يدل عليها، قال الله: {فَأَكَلا} [طه:121]، ألف التثنية أي: آدم وحواء، {مِنْهَا} [طه:121] أي: من الشجرة، {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه:121]، وتسمى العورة سوءة لأنه يسوء المرء إظهارها، الإنسان العاقل لا يرضى بظهورها، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا} [طه:121]، (طفق) بمعنى: بدأ، وهو من أفعال الشروع عند النحويين، وهي تعمل عمل كان، إلا أنه يشترط في خبرها أن يكون جملة فعلية.
قال الله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، فهذا نص خلاف الأول، وقد خرجه بعضهم على أنه قبل أن ينبأ، وقال بعضهم: إن صغائر الذنوب تقع من الأنبياء، وبكل قال العلماء، وأنا أجنب نفسي.
لكن أقول: إذا تكلمنا عن الأنبياء نتكلم بنفس طريقة القرآن، ولا نقحم أنفسنا في الكلام عن أنبياء الله جل وعلا إلا بما حكاه الله جل وعلا عنهم، تأدباً مع أبينا عليه الصلاة والسلام ومع غيره من إخوانه وأبنائه من الأنبياء.
ثم قال الله تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] هنا لا تفهم أن الأمر بالهبوط عاقبة للتوبة، وإنما قدم الله التوبة حتى يبين لك ألا تسترسل فيما بعد، فإن هذا النبي قد تاب الله عليه.
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [طه:123] [طه:123] ليس مفره على التوبة مفره على المسألة، لكن جعل الله التوبة قبلها والإجتباء والهداية حتى يريحك في تلقي الخبر، وأن هذا النبي الصالح تاب الله عليه، كمن تريد أن تخبره بأن قريباً له أصابه مكروه، فقبل أن تخبره أن ابنه دهته سيارة مثلاً قل له: ابنك بخير وعافية ولله الحمد الآن، ثم يمكن أن تقص عليه كيف دهته السيارة، لكن لا تبدأ بإخباره بالحادث، فإن هذا يجعله في رعب وينتظر النتيجة.
فأسلوب القرآن قدم النتيجة، فالله يقول لنبيه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة:43]، ثم أعطاه العتاب: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]، لكن لا تخشى من هذا العتاب فقد قدمنا {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة:43]، وهنا قال: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122]، فرفع الله مقامه وغفر الله خطيئته، وقبل الله توبته.(56/4)
تفسير قوله تعالى: (قال اهبطا منها جميعاً إن في ذلك لآيات لأولي النهى)
قال الله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124]، ضيق في العيش يكون في الحياة الدنيا، فلا يشعر بلذة ما هو فيه لو كثر أمواله وأولاده.
{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه:124 - 125]، وقد ذكر الله أنهم يحشرون عمياً وصماً وبكما: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه:126]، أي: بتركها {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126] أي: بأن تترك، وإلا فإن النسيان لا يجوز على الله تعالى، لكن هذا يسمى عند البلاغيين: مشاكلة.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]، وهذه ظاهرة المعنى وقد مرت معنا كثيراً.
ثم أمر الله بالتدبر فيما سبق فقال: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:128] والخطاب في المقام الأول لكفار قريش، يقول الله عن قوم لوط وحجر وصالح: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر:79]، وقال: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر:76]، ما زالت آثاراً باقية تدل على أصحابها حتى يتعظ الخلق وحتى يتنبه من كتب الله جل وعلا له النجاة، ولهذا قال تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:128].
وقد مر معنا أن كلمة (أولي النهى) لم ترد في القرآن إلا مرتين كلاهما في سورة طه: هذا موضع، والموضع الذي قبله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:54]، ذكر الله جل وعلا إنزال المطر من السماء، وأخبر أن في ذلك آيات لأولي النهى.
وهنا تكرر نفس المعنى، وأولو النهى هم أهل العقول، وهذا يدل على أن الإسلام عني كثيراً بالعقل البشري، ومن أعظم الدلائل على عناية الإسلام بالعقل أن الله جل وعلا ذكر العقل مغيباً ومؤقتاً ومغيباً تغيباً جزئياً، فالمغيب كلياً يسمى: مجنوناً، والمغيب عارضاً هو النائم، والمغيب المؤقت هو الصغير الذي لم يصل عقله إلى النضج، وفي كلا الثلاثة الأحوال رفع الله قلم التكليف.
إذاً: مناط التكليف هو العقل، والعقل أصلاً يدل على وجود الله، لكن لا تقوم الحجة بالعقل وحده.(56/5)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون)
ثم قال جل وعلا: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130]، التسبيح هنا الأظهر أنه بمعنى الصلاة، وقد ذكر الله في هذه الآية المواقيت الخمسة، وقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه:130]، الصبر قرين الصلاة في كلام الله، فقد قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال عند)، ولهذا أمر الله نبيه بقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه:130]، أي: من تكذيبك ورد رسالتك وقدحهم في إلهك، وزعمهم أن الأصنام تنفع وتضر، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [طه:130] متى؟ (قبل طلوع الشمس)، وهذه صلاة الفجر، (وقبل غروبها) صلاة العصر {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} [طه:130] صلاة العشاء {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} [طه:130]، للنهار طرفان: بعد زوال الشمس عندما تتوسط في كبد السماء، وعندما تجب وتسقط وقت الغروب، فالأول يتعلق به وقت صلاة الظهر، ووقت سقوطها يتعلق به وقت صلاة المغرب.
فإن قال قائل: كيف عبر الله بأطراف ولم يعبر بطرفي؟ قلنا: إن هذا أسلوب عربي معروف، وإن العرب إذا أمنت اللبس تعبر بالجماعة عن الأفراد أو عن التثنية إذا أمن اللبس، كما في هذه الآية، ونظيره قول الله جل وعلا: {إِنْ تَتُوبَا} [التحريم:4] بالتثنية {إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، فجمع (قلوب) وليس لـ عائشة وحفصة إلا قلبان، لكن هذا أسلوب عربي، ولهذا نقول: إن من أهم الطرائق إلى معرفة كلام الله معرفة أساليب العرب في كلامهم.
{لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130]، يحسن الوقوف عندها، والمعنى: أن هذه الصلوات سبب في رضوان الله عنك، فإذا رضي الله عنك أرضاك، ولهذا قال بعض أهل الفضل: ليس الشأن في أن نحب ربنا، فهذا حق له، ولكن الغاية والمطلب أن يحبنا ربنا جل جلاله.(56/6)
تفسير قوله تعالى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم)
ثم أدب الله تعالى نبيه فقال: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]، هذه الآية تبين أن من أعظم ما يحال بين العبد وبين ربه النظر في ملذات الدنيا، وهذه الدنيا من حقارتها على الله أنه لم يأذن بالمعصية إلا فيها، ولو كانت تزن عند الله جل وعلا جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، وهي على اسمها دنيا، أي: نازلة، والتعلق بها تعلقاً تاماً وجعلها في القلب من أعظم ما يحول بين العبد وبين ما يريد عند الله من الشرف العظيم والجنة والمعالي الكريمة.
وقد حمى الله جل وعلا أنبياءه ورسله منها، فمن أعطاه الله منها كسليمان وداود عليهم السلام جعلها لهما عوناً على طاعته، كأصحاب المال والثراء من أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، لكنها في الجملة لا ينبغي أن تستقر محبتها في القلب، ونبينا عليه الصلاة والسلام خير ما بين أن يكون نبيناً ملكاً أو أن يكون نبياً عبداً فاختار الثانية، واختياره للثانية يعني أنه سيبتلى فيلتزم بها، فلما كانت تأتيه الغنائم لم يكن له منها حظ ولا نصيب صلوات الله وسلامه عليه إلا بقدر ما يقوت به أهله، وكان يقول: (أجلس كما يجلس العبد)، وعندما كان يأكل كان يأخذ الذراع فينهسها نهساً فعل من هو متشوق إليها لا من هو متعود عليها، ويدخل عليه عمر وقد أثر الحصير فيه فيحزن شفقة عليه، ويذكر كسرى وقيصر وما هو فيه، فيقول له: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! أولئك قوم عجلت لهم طلباتهم في الحياة الدنيا).
والتعلق بالدنيا يحول بين المرء وبين معالي الأمور؛ لأن من يروم مجداً لا ينبغي له أن يتعلق بالدنيا؛ لأن التعلق بالدنيا يورث أمرين: يورث الجبن، ويورث الحرص، وهو الطمع، ومن كان حريصاً أو جباناً لا يمكن أن يسود، قال القائل: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال لكن من طلب معالي الأمور لا بد أن ينزع الدنيا من نفسه ويجعلها مطية لما يريد ولا يجعلها في ذاتها غاية، وانظر لمن عبد الدينار والدرهم وتعلق بهما كيف صارت أحوالهم، وانخفاض سوق الأسهم في الزمن القريب أكبر دليل على تعلق فئام كثير من الناس بالدنيا، صحيح أن الإنسان لا يتحمل الخسارة، وإذا وقعت لا يلام الناس لوماً وعتباً قاسياً، لكن لا ينبغي للعاقل أن يتعلق بها تعلق من يصل في مراحل حياته إلى أن الرزق له طريق واحد، والله يعلم عباده ويؤدبهم فيقول: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك:21]، ومن عرف الله جل وعلا حق المعرفة علم أن أسباب الرزق والعطاء ليست أبداً محصورة في طريق واحد؛ لكنها من رازق واحد هو الله، فالله يقول لنبيه: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه:131]، وهذا يلزم من خلاله ألا يقلب الإنسان طرفه كثيراً في متاع أهل الحياة الدنيا قدر الإمكان، {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} [طه:131]، ولماذا قال الله: (زهرة)؟ لأن الزهرة يراها السامعون التالون للقرآن، فيرون أنها ما تلبث أن تظهر قليلاً ثم تذبل وتنتهي.
وقد قال بعض الصالحين: إنما الدنيا زهرة حائلة ونعمة زائلة، حائلة أي: تحول إلى ذوبان وذبول، ونعمة زائلة، وهذا أمر مشاهد محسوس.
قال تعالى: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131]، ولا ريب أن الرزق كله من الله، لكن الإضافة هنا إضافة تشريف، والمقصود برزق ربك: أن الرزق قسمان: رزق لأهل الكفر، وهو من الله لكن لا يضاف إليه إضافة تشريف؛ لأنهم يشوبونه بطرائق محرمة، أهل الكفر والفجور والمعاصي يشوبون رزقهم بطرائق محرمة، فلا ينسب إلى الله، وأهل الصلاح وفي مقدمتهم نبينا صلى الله عليه وسلم إنما رزقه مباح حلال طيب، فلذلك أضيف إضافة تشريف إلى الله: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131].(56/7)
تفسير قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)
بعد أن طمأن الله جل وعلا نبيه على الرزق، وأن ما كان لك سيأتيك على ضعفك، وما لم يكن لك لن تناله بقوتك قال له: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]، الاصطبار: حبس النفس على شيء معين، ومن أعظم ما يمكن أن تراه عيناك شخص قد احدودب ظهره، وظهر الشيب في مفرقه، يتكئ على عصاه يطوف في حيه أو في مقر سكنه يأمر أهله بالصلاة هذا المنظر إذا رأيته يفيء إلى ذهنك قول الله جل وعلا عن نبي الله إسماعيل: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم:55]، وقد كان هذا المنظر يرى كثيراً في الأحياء القديمة وفي المشايخ الكبار سناً، فليس شيخ علم ولكنك تراه يذكر من حوله بالصلاة في غدوه ورواحه، وهذا فيه دلالة وأمارة على القرب من الرب تبارك وتعالى.
وقوله جل وعلا: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] فيه أن الصلاة تحتاج إلى نوع من المصابرة، ولهذا قال الله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].
قال تعالى: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا} [طه:132]، نحن نسألك العبادة، فقد كلفناك بأن تعبدنا ووعدناك بأن نرزقك، فلا تنشغل بما وعدناك به عما طلبناه منك، وإنما انشغل بما يعينك على آخرتك -وهي العبادة- عما تكفل الله جل وعلا لك به، ولا يعني هذا أن الإنسان يبقى قعيداً في بيته، لكن إذا سعى يسعى بقدر، وإذا أعطي من الدنيا لا ينبغي أن تقع في قلبه موقعاً متأصلاً جداً يخرجه عن طاعة الله جل وعلا.
قال الله جل وعلا: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]، وعاقبة كل شيء مآله، لكنها تذكر في كلام الله في الغالب في الخير، ومعنى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] أي: أن التقوى سبيل للعاقبة الحسنة.(56/8)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه)
قال الله جل وعلا: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:133]، (لولا) هنا بمعنى: هلا، وليست امتناع لوجود، وهذا قاله الكفار -عياذاً بالله- وكأنه لم يكفهم القرآن، ولهذا قال الله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت:51].
والمقصود: أنهم يقولون: نريد بينة، فالله جل وعلا يقول: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:133]، ما هو الذي فيه بينة ما في الصحف الأولى؟ هو القرآن، فالله جل وعلا جعل القرآن مهيمناً على الكتب التي سبقت، فكلها أخبرت بنزوله، والقرآن حوى مجملها وما دلت عليه وما أرشدت إليه، وهو المهيمن عليها، فإذا كان لم يكفيهم القرآن فلن يكفيهم شيء أبداً، وإنما يقولون هذا تعنتاً؛ بل القرآن هو خاتم الكتب السماوية المنزلة، وهو المهيمن عليها، نعته الله جل وعلا بقوله: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:133]، والصحف الأولى هي ما سبق من التوراة والإنجيل والزبور، وبينتها والحجة المهيمن عليها هو القرآن.(56/9)
تفسير قوله تعالى: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله ومن اهتدى)
قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، هذه الآية تبين أن الحجة في بعث الرسل، وأنه لولا أن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لكان للناس حجة على ربهم، ولهذا قطع الله المعاذير، وأقام الله جل وعلا الحجج بإرساله للرسل وإنزاله للكتب.
قال تعالى: {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، فطالبوا بالرسل قبل أن يقع عليهم الذل والخزي، وقد أرسل الله الرسل فلم يبق لهؤلاء القوم أي حجة.
ثم قال الله على لسان نبيه ليختم هذه السورة المباركة: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:135]، هذه الآية من أعظم دلائل التوحيد، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل نفسه ومن آمن معه مثل هؤلاء في الانتظار: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} [طه:135]، أنا وأنتم ننتظر، أنا وأنتم متحفز للنهاية، أنا وأنتم مترقب لما سيكون، ولا يترقب لما سيكون ويتحفز لما سيقع إلا من كان لا يملك من الأمر شيئاً، وإلا لو كان يملك من الأمر شيئاً لقضاه وانتهى، فأنت تدخل داراً أنت ورفقتك وليس مع أحدة منكم مفتاح، فكلكم مشتركون تنتظرون صاحب الإذن صاحب المفتاح ليدخلكم، ولو كان مع أحدكم مفتاح لفتح الباب وانتهى الأمر.
فهذا النبي يقول: أنا عبد مثلكم، أنا بشر مثلكم، أنا انتظر كما تنتظرون، وذلك حتى يبقى الكمال المطلق لله جل جلاله.
{قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا} [طه:135]، فإذا انتظرتم وانتظرنا (فستعلمون) يقيناً {مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} [طه:135]، ولا يفهم أن أصحاب الصراط السوي مغاير لمن اهتدى، فإن الله لا يتكلم عن فريقين، إنما يتكلم عن طريق وسالكين لذلك الطريق.
والمعنى: أحياناً يوجد طريق سالك صحيح مستقيم، ولا يوجد سالكون له، فالله جل وعلا يقول لهؤلاء الكفار على لسان نبيه: ستعلمون الطريق السوي الحقيقي الذي هو طريق الإيمان، والسالكين لهذا الطريق الحقيقي الذين هم أهل الإيمان، فـ (من) يعبر بها للعاقل، وإنما كسرت هنا ((وَمَنِ اهْتَدَى)) كسرت لالتقاء الساكنين؛ لأن الهمزة التي بعدها همزة وصل، والهاء ساكنة.
نعود فنقول: إن الله جل وعلا لا يتحدث عن فريقين، إنما يتحدث عن طريق ومن سلكه، وقد يأتي في أنفس الذين يقرءون القرآن -وهذا من ربط سور القرآن بعضها ببعض- قد يأتي في أنفسهم: متى ينتهي هذا التربص؟ إلى متى هذا الانتظار؟ متى سيكون؟ أسئلة ترد فستعلمون متى سوف نعلم؟ وقد ورد الجواب في أول سورة الأنبياء: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1]، هذا هو الجواب فليس ببعيد هذا التربص وهذا التحفز، ولهذا قال الله بعده في الأنبياء: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، وهذا من التناسب ما بين سور القرآن الكريم.(56/10)
فوائد مستنبطة من سورة طه
هذا جملة ما يمكن أن يقال إجمالاً عن هذه السورة المباركة، وجملة الفوائد فيها: أن يعلم أن القرآن معجز في ذاته، وهذا الإعجاز ذكره الله جل وعلا هنا تشويقاً في ثلاث مراحل، فذكره في أول السورة: {طه} * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2]، وذكره قبل النهايات: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [طه:113]، وذكره هنا {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} [طه:133]، ففي هذه الثلاثة المواضع ذكر الله جل وعلا القرآن ليبين رفيع قدره وعظيم شرفه، وقد قال في شرف القرآن: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] أي: وشرف لك ولقومك وسوف تسألون عنه هذه واحدة.
الثانية: ذكر الله جل وعلا في هذه السورة المباركة إجمالاً خبر كليمه موسى ونبيه آدم عليهم الصلاة والسلام، ولم يذكر الله في هذه السورة قصة أحد من الأنبياء غير موسى وآدم، والعجيب أنه ليس في القرآن سورة اسمها سورة موسى، رغم أن موسى عليه السلام ذكر في أكثر من موضع.
وهذا -إن صح التعبير- يدخل فيما قلناه سابقاً: أن الله جل وعلا لا يعطي أحداً كل شيء، إنما ذكر يونس؛ لأنه عاتبه عتاباً شديداً فسميت سورة باسم يونس، وذكر موسى كثيراً في القرآن لكن لم تسم سورة باسمه عليه السلام، ونبينا صلى الله عليه وسلم سميت سورة باسمه: سورة محمد، وتسمى أحياناً: سورة القتال، وتسمية سور القرآن تسمية توقيفية مبنية على فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مبنية على أمر الله من حيث الجملة، لكن عموماً ثمة ملحوظات يقع عليها المرء تبين له كيف أن الله جل وعلا يوازن بين عباده، والله يقول: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى:27].
والمقصود: أنه حتى الناس لو تأملتهم فستجد من أعطي عافية ومالاً يحرم من أشياء أخر قد لا تظهر لك، ومن أعطي قلة مال قد يعطى أولاداً، وقد يوجد أحد عنده أموال ويتمنى الولد، وقد يوجد مبتلى لكنه معطى أموراً أخر غير التي فيها بلاؤه، وقل أن ترى عبداً إلا وفيه أثر النعمة وأثر الابتلاء، ولا نقول: نقمة، بل يبتليه الله جل وعلا به، فإن لم يحسن التعامل مع ذلك الابتلاء انقلب إلى نقمة، وإن أحسن التعامل انقلب إلى عافية ورفع درجات.
لكن من العبد الخالص الذي يستحق أن يفوز بجائزة {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2]؟ هو من كان قلبه -بصرف النظر عن ماله وولده ومسكنه وجامعه وعلمه- من كان قلبه معلقاً بالله، لا يوجد أحد حي لا يملك قلباً، يتفاوت الناس في المال وفي الولد وفي العلم وفي الطول والقصر، لكن لا يوجد أحد حي لا يملك قلباً.
إننا نريد منا جميعاً أن نعلم أن الغاية من خلقنا أن تعترف قلوبنا بخالقها وتذعن له وتعبده وحده: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله)، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
فلا يوجد أحد ساد وعنده ما ليس عندك، فعنده قلب وعندك قلب، وهو مقام التحاكم وموئل العبادة، وهو موضع محبة الله وبغضه عند أهل الكفر، وطاعته ومعصيته عند العصاة، فكل الأمور معلقة بمدى اتصال هذا القلب بالخالق، وما الجوارح إلا شواهد ودلائل وقرائن على مدى اتصال القلب بالخالق سبحانه.
علمنا الله وإياكم ما ينفعنا، ونفعنا الله وإياكم بما علمنا، وصلى الله على محمد وعلى آله، وأرجو أن يكون فيما قلناه في سورة طه نفعاً لمن سمعنا وشاهدنا، نسأل الله لنا ولكم التوفيق.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد الله رب العالمين.(56/11)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة النور [1]
تضمنت سورة النور بيان جملة من الأحكام الشرعية العظيمة، وبيان جملة أخرى من آيات الله تعالى ودلائل قدرته والتعريف به سبحانه، وقد صدر الله تعالى أحكامها بذكر حد جريمة الزنا الصادرة من الزاني غير المحصن، وما يجب على المؤمنين فعله في حقه، كما صدرها تعالى ببيان أن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، وكذلك الزانية، وذلك حرام على المؤمنين.(57/1)
بين يدي تفسير سورة النور
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وحده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا الدرس قد يكون فيه نقلة نوعية؛ إذ قد اعتدنا على الحديث عن السور المكية، وكنا قد ذكرنا في أول هذه الدروس أننا سنعنى به بترتيب السور حسب نزولها على ما حرره أهل العلم في ذلك، لكننا عد لنا عن ذلك إلى أن نعرض السور المدنية، رغبة في أن يشمل الحديث الأحكام كما شمل العقائد.
وبناءً على هذا فإن السورة التي سنعنى بها في هذا الدرس هي سورة النور، وهذا الاسم توقيفي لا يعرف للسورة اسم غيره، وقد نقل عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه قال: علموا نساءكم سورة النور.
ونقل عين هذا القول أو قريب منه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
والسورة مدنية بإجماع علماء المسلمين ممن يعنون بعلم التأويل.(57/2)
تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها)
وهذه السورة صدرها الحق جل وعلا بقوله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1]، وهو افتتاح غير مألوف في القرآن، فلا يعلم أن سورة من القرآن افتتحت بمثل هذا الافتتاح.
والسورة في اللغة: المنزلة الشريفة العالية، وحق لسور القرآن أن يقال لها ذلك؛ فقد شرفت وعظمت تنزيلاً ولفظاً ومعنى، والعرب تطلق ذلك على ما عظم وشرف، قال قائلهم: ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب والقرآن كله منزل من عند الله، ولكن الله قال هنا: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} [النور:1]، وقد أجاب العلماء عن هذا بقولهم: إن هذا للفت الانتباه وإرشاد العناية إلى ما تتضمنه هذه السورة المباركة من عظيم الأحكام الشرعية.
ثم قال الله جل وعلا: {وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] وقد قرئ هذا اللفظ بالتخفيف (فرضناها)، وقرئ بتشديد الراء (فرَّضاها).
والقراءة الأخرى المقصود منها أن أحكامها نزلت منجمة، أي أن السورة لم تنزل كاملة، وأياً كان المعنى فإن الأفضل أن يقال جواباً عن هذا كله: إن هذه السورة عنيت بالأحكام وعنيت بتعريف العباد بربهم، فما يتعلق بالأحكام عبر الله جل وعلا عنه بقوله: {وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1]، وما يتعلق بالعقائد والتعريف بالرب عبر الله جل وعلا عنه بقوله: {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1].
والقرينة التي تدل على صحة هذا المنحى في التفسير قول الله جل وعلا: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1]؛ فإن الدعوة إلى تذكر الشيء يلزم منها أن يكون الشيء مستقراً من قبل، ومعلوم أن الأحكام لم يكن للمسلمين علم بها من قبل، فلا ينطبق عليها قول الله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] وإنما ينطبق على الآيات التي عنيت بالتعريف بالرب والإرشاد إليه، ومنها في هذه السورة قول الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43]، وقول الله جل وعلا: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45]، والآية التي من أجلها سميت السورة بسورة النور، وهي قول الله جل وعلا: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35].
فهذه الثلاث الآيات لا تحمل أحكاماً، فلا ينطبق عليها قول الله: {َفَرَضْنَاهَا} [النور:1]، وإنما ينطبق عليها قول الله: {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] وقلنا: إن قرينة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1] تؤيد هذا المنحى، فقد جاءت عقب الآيات البينات ولم تأت عقب قوله تعالى: (فرضناها).
وهذه الآية التي صدر الله جل وعلا بها هذه السورة هي توطئة وتمهيد، فبدأ الله بالأحكام فقال: {وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1]، وأجل الحديث عن الآيات، ولهذا جاء ما بعدها مناسباً للتمهيد، فبدأ الله بالأحكام قبل أن يبدأ بأمور العقائد في هذه السورة، لا أن العقائد ليست أهم من الأحكام، بل الحديث هنا عن سورة مدنية نزلت بعد أن استقرت العقائد في أنفس المسلمين، ولا غنى للخلق عنها.(57/3)
تفسير قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)
قال سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].
إن من الأمور المطلوبة تصور الأشياء تصوراً كلياً يعين على فهمها، فهذه الآية تتحدث عن حد الزنا.
وقبل أن أشرع في الحديث عن تفسير الآية أؤصل للمسألة فأقول: إن الإسلام جاء بحفظ الضرورات الخمس: الدين والعقل والمال والنفس والعرض.
ثم شرع حدوداً تحفظ هذه الضرورات الخمس، فبحد السرقة يحفظ المال، وبالقصاص تحفظ الأنفس، وبحد الزنا والقذف تحفظ الأعراض، وبحد السكر يحفظ العقل، وبإقامة هذه الأربع جميعاً يحفظ الدين، هذا التحرير الأول.
والحد: عقوبة مقررة شرعاً في معصية استيفاءً لحق الله جل وعلا، ويجري معه في ذلك القصاص، ولكن ثمة فارق بين القصاص وبين الحد، فالقصاص ترك الله جل وعلا أمره لأولياء الدم أو الجناية، فلا يصبح وضع ولي الأمر إلا التنفيذ، فلو أن رجلاً قتل رجلاً فإنه يتعلق بقتل ذلك الرجل ثلاثة حقوق: حق لله العلي الكبير، وهذا الحق يسقط بالتوبة.
وحق للمقتول عينه، وهذا الحق لا يسقط أبداً، ويستوفى يوم القيامة.
وحق لأولياء الدم، وهذا هو الذي يدور كلام الفقهاء في فلكه.
فأولياء الدم مخيرون بين القصاص والقبول بالدية زادت أو نقصت بحسب التراضي، أو العفو، فيصبح دور ولي الأمر هو تنفيذ القصاص، أو إجراء آلية قبول الدية.
وأما الحدود فتختلف عن القصاص في هذا المعنى، ونحن أن الحدود حق لله لا تسقط بعوض ولا بدون عوض، ولا تجوز الشفاعة فيها، بينما تجوز الشفاعة في القصاص، ونحن نسمع أنه قد يأتي ثري أو وجيه إلى أولياء الدم فيرضيهم بأموال تزيد على الدية رغبة في حفظ دم آخر، فهذا يجوز شرعاً؛ إذ يقول ربنا جل جلاله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178].
وأما الحدود فهي في منأى عن هذا، فلا حد الزنا ولا حد القذف ولا حد السكر ولا حد السرقة يدخل في شيء من ذلك، بل يجب استيفاء تلك الحدود إذا رفع الأمر إلى السلطان، ولا تجوز الشفاعة فيها.
فهذا التمهيد موطأ ممهد مهم قبل أن نشرع في فهم الحدود.
والحد المذكور في هذه السورة هو حد الزنا، والزنا أمر معروف، وإن من أكبر المعضلات توضيح الواضحات.
والله تعالى لم يعرف الزنا؛ لأن الزنا معروف، ولم يعرف القتل؛ لأن القتل معروف من قبل أن ينزل القرآن.(57/4)
تكييف أنواع قضاء الوطر
وقبل أن نشرع في الفهم الفقهي أريد أن أبين مسألة مهمة، وهي أن الرجل له وطر يقضيه من المرأة، والمرأة لها وطر تقضيه من الرجل، وهذا الوطر -وهو الجماع والوطء- إذا تحقق عن طريق إيجاب وقبول ومهر وولي وشاهدين وأعلن سمي نكاحاً شرعياً، وكان من سنن الأنبياء والمرسلين، والغاية منه الوطء وقضاء الوطر.
وإذا تحقق عن طريق إرغام الرجل المرأة تحت تهديد السلاح فإن الرجل يسمى مغتصباً زانياً يقام عليه الحد، والمرأة لا يلحقها شيء في الشرع؛ لأنها مجبرة مكرهة لا خيار لها.
وإذا تحقق عن طريق التراضي بين رجل وامرأة سراً فإنه يسمى زنا، وفيه الحد عليهما.
وإذا تم عن طريق التراضي من غير طريق النكاح واشترطت المرأة مالاً فإنه يسمى بغاء، فتعتبر المرأة التي تصنع هذا الصنيع بغياً، أما الأولى فتعتبر زانية.
فالزانية من لا تطلب أجراً؛ لأنها تستفيد من قضاء وطرها، وأما من تشترط الأجر وتتخذه مهنة فإنها تسمى بغياً، والمقصود في الأحوال الأربعة هو المتعة الجنسية في المقام الأول، ومع ذلك فإن أحدها من أعظم السنن، وأحدها لا يلحق المرأة به شيء، وأحدها زنا يجلب الحد، والرابع زنا كذلك يجلب الحد، ولكن المرأة تسمى فيه بغياً.
والمقصود من هذا أن الإنسان قبل أن يحكم على الشيء عليه أن يعرف واديه في الشرع، ومجراه في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يصح أن يعمل بنص ويهمل آخر، أو أن ينظر إلى نصوص الشرع نظرة جزئية فيجعل بعض النصوص مهيمناً على النصوص كلها، فهذا خطأ منهجي، بل قبل أن يتفوه الإنسان بالحكم الشرعي يجلب كل النصوص التي في الباب، وينظر إلى الشريعة إجمالاً، فيتبين له بعد ذلك الحق من غيره، والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115].(57/5)
حد الزاني
والحد هنا هو حد الزنا الذي يتعلق بالزاني أو الزانية البكرين غير المحصنين، وإنما أخرجنا المحصن من هذه الآية لأن حد الزاني أو الزانية المحصن إنما هو الرجم بالسنة المتواترة التي لا تقبل الدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواها أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وخالد وجابر، وغيرهم من الصحابة.
فهي سنة لا تقبل الدفع، خلافاً لمذهب الخوارج الذين لا يرون إقامة الرجم، ويحتجون بأنه لم يذكر في كلام الله، ونحن لا نريد أن ننحو بالتفسير منحىً فقهياً تاماً، فهذا خطأ منهجي في النظر إلى الآيات، ولكننا نعرج على ما نحتاج إليه من كلام الفقهاء، فنقول بداية: إن الحد المقصود به هنا هو حد الزاني أو الزانية البكرين غير المحصنين.
وهذا الحد حدده الله نصاً ولم يترك لأحد تحديده، فقال ربنا تبارك وتعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وهذا أعلى حدود الجلد في الإسلام، وبعده حد القذف وقدره ثمانون جلدة.(57/6)
جلد الزاني وكيفيته الشرعية
قال ربنا تبارك وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] بدأ الله بالمرأة هنا؛ لأن الزنا لا يتم لو لم توافق المرأة، ولذا يفرق بين الزنا والاغتصاب، فالاغتصاب زناً في حق الرجل وليس زناً في حق المرأة، فلا يقام عليها حد، ولكن الزنا الذي يكون بالتراضي لا يمكن أن يقام ويقع بدون رضاً من المرأة، فهي المطاوعة، ولهذا قدمها الله تعالى في الذكر فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2].
والجلد يكون بسوط لا جديد ولا خلق؛ لأن المقصود التأديب وليس المقصود الإهلاك، فلا يكون السوط جديداً حتى لا يكون سبباً في هلاك المجلود، ولا يكون خلقاً فلا يتضرر منه، ومن ثم لا يبقى هناك معنى لإقامة الجلد، ثم إن من يقوم بعملية الجلد لا يرفع يده عالياً ولا يرخيها وإنما يفعل الوسط بينهما.
وأما الذي يجلد فالأصل أنه الظهر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أو حد في ظهرك)، ولكن قال أهل العلم: يتجنب مواطن المقاتل، ويتجنب الرأس والعورة وما يخشى أن يؤدى إلى إهلاكه، فيضرب في البطن مثلاً، أو يضرب في أعلى الظهر وأسفله وأوسطه وما أشبه ذلك، وفي أسفل رجليه، فهذه كلها مواطن يتم فيها الجلد.(57/7)
حكم الرأفة بالحدود في دين الله تعالى
قال الله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] الرأفة مصدر (رأف)، وهي حالة تنتاب الشخص إذا رأى ما يحزنه في المرءوف به، والمعنى أن إقامة حد الله جل وعلا وما ينجم عن ذلك من مصالح أعظم من المصلحة الناجمة عن الرفق بذلك الذي سيحد.
قال الله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2]، وهذا قيد المقصود منه إثارة ما في القلب من نصرة للدين، ولكنه لا يطبق حرفياً، بمعنى أنه يأتي أحد فيقول لمن أصابته رأفة على مجلود: إنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فيخرجه من الملة.
فلا يمكن أن يقول عاقل بهذا، وهذه مسألة يقع فيها كثير من الفضلاء، حيث يأتون إلى القيد فيقلبونه فيحتجون به على مسائل عديدة، ولو استقام القلب لاستقام كل شيء، ولكنه لا يستقيم، فلا بد من أن ينظر في قرائن أخرى حول النص.
فالآية هنا لا يمكن أن يقال بمفهوم مخالفتها، وهو أنه إذا أخذتنا رأفة بذلك المجلود فمعنى ذلك أننا لا نؤمن بالله واليوم الآخر، فهذا محال، ولكن نقول: إن كمال الإيمان هنا منتف؛ لوجود قرائن أخرى تمنع أن نقول بكفر من يصنع ذلك.
والمقصود من هذا هو التريث قبل إطلاق الحكم، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.(57/8)
بيان المقصود بإقامة حد الزنى
قال الله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].
المقصود بإقامة الحدود زجر الناس وإيجاد مجتمع مسلم يمتثل أفراده لشرع الله، فإن كانت الحدود تطبق في السر وفي الخفاء فلا معنى لإقامتها؛ لأن المقصود من إقامتها لن يتحقق بذلك، ولهذا نص الله أمراً، حيث قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].
واختلف في مقدار هذه الطائفة، فقيل: يكفي الواحد، وقيل: اثنان، وأعدل الأقوال -والعلم عند الله- أن أقل شيء عشرة، وأحسب -والعلم عند الله- أن هذا يختلف باختلاف البلدة التي يقام فيها الحد، فما يقام في المدن غير الذي يقام في المحافظات، وغير الذي يقام في القرى القليلة السكان، فالكثرة قد تعتبر كثرة في مكان وتعتبر قلة في مكان آخر.(57/9)
تغريب الزاني
ولم يذكر الله هنا إلا الجلد، وجمهور أهل العلم والخلفاء الراشدون على أنه يضاف إليه تغريب عام، لنطقه صلى الله عليه وسلم بهذا في قصة الأجير الذي زنى بامرأة مستأجرة، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (على ابنك جلد مائة وتغريب عام) أي: النفي.
وهذا قول جمهور أهل العلم.
وقال بعض الفقهاء: إن التغريب يرجع إلى الإمام، وهذا قول أبي حنيفة.
والسبب في ذلك أصل مذهب أبي حنيفة، وذلك أن أصله أن الزيادة في النص تعني النسخ، وهذا الأصل حاكم للمذهب.
ثم إنهم اختلفوا بعد ذلك في تغريب المرأة، فذهب مالك رحمه الله إلى أن التغريب لا يقع على المرأة، وحجته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مع غير ذي محرم، أو بدون محرم) وغير ذلك من النصوص الحاكمة في هذا الباب.
وقد يقول قائل: يجبر المحرم على السفر معها، وهذا لا دليل عليه، والأظهر -والعلم عند الله- أن التغريب يقع على الرجال دون النساء؛ لأنه يخشى من تغريب النساء مفسدة أكبر من الأمر الذي تغرب من أجله، لكن إن ثبت أن أبا بكر أو عمر فعله فلا ريب في أن رأيهما أو رأي أحدهما مقدم على رأي من بعدهما.
وهذه المسألة إحدى مسائل الأصول، أعني اتفاق الشيخين أبي بكر وعمر على مسألة، فهل يعد قولهما حجة أم لا؟ والجواب أنه لا يعد قولهما حجة، ولكن نقول: من ذا الذي يقدر على أن يعارض قولاً اتفق عليه الشيخان؟! قال جرير يسخر من الأخطل: ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر(57/10)
تفسير قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة)(57/11)
ذكر قول من حمل النكاح على الوطء وقول من رده
ثم قال ربنا جل وعلا بعد ذلك: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].
هذه الآية هي من جملة آيات معدودات اضطربت فيها أقوال أهل العلم اضطراباً شديداً، بل هي من أعظم آيات القرآن إشكالاً باتفاق المفسرين، وكل من نحا في تفسيرها لا يستقيم كلامه على إطلاقه.
والإشكال الوارد عندهم -أي: الأكابر الذين نظروا في كتاب الله من قبلنا- هو أنهم اختلف عليهم فهم كلمة (ينكح) في قول الله جل وعلا: {الزَّانِي لا يَنكِحُ} [النور:3] فهل المقصود بها عقد النكاح أو المقصود بها الجماع والوطء؟ بمعنى: هل المعنى أن الزاني لا يجوز له أن يتزوج إلا زانية أو مشركة، أو المقصود أن الزاني لا يجامع ولا يطأ إلا زانية أو مشركة من غير زواج، أي: لا يزني إلا بزانية أو مشركة.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما -كما صح عنه في نقل صحيح-: المقصود بالنكاح هنا الوطء.
وقال ابن القيم رحمه الله: وينبغي أن ينزه كلام الله عن مثل هذا.
فانظر إلى التعارض بين القولين.
وقال الزجاج: إن القول بأن النكاح هنا بمعنى الوطء مخالف لكلام الله، بمعنى أنه لا يعرف في القرآن.
ولكن الآخرين الذين لم يرتضوا هذا دافعوا عن قول ابن عباس بحجج عدة: أولها أنهم قالوا رداً على الزجاج: ثبت في كلام الله أن النكاح يراد به الوطء في قول الله تعالى: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230]، فقد فسرتها السنة بقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تذوقي عسيلته) فعبر عن الوطء بالنكاح.
وأجابوا عن قول ابن القيم رحمه الله: إن هذا القول يجب أن ينزه عنه كلام الله -كما قال الشنقيطي رحمه الله وغيره من قبل- فقالوا: إن القائل بهذا القول هو ترجمان القرآن وحبر الأمة، وهو من أعلم الناس بكلام العرب.
والذي دفع ابن القيم رحمه الله إلى أن يقول: إنه يجب أن ينزه كلام الله عن مثل هذا هو أنه يرى -كما رأى غيره- أنه لا تتأتى على هذا التأويل أي فائدة من الآية؛ لأنه يصبح معنى الآية: الزاني لا يزني ولا يطأ إلا زانية أو مشركة، والزانية لا يطأها أصلاً إلا زان مثلها أو مشرك، فقالوا: أين الجديد في المعنى؟! فهذا شيء مألوف معروف.
والذي دفع ابن عباس وأمثاله إلى منعهم القول بأنه النكاح هو الاتفاق على أنه لا يجوز للمؤمن أن يتزوج مشركة، ولا يجوز للمرأة الزانية المسلمة أن تتزوج مشركاً، فهذا هو الذي دفعهم إلى القول بعدم كون المراد به عقد النكاح المعروف.(57/12)
ذكر قول من حمل الآية على معنى الرغبة الغالبة
وبعض أهل الفضل من العلماء يقول: إن الآية مسوقة فيما يجري مجرى الغالب، والمعنى من الآية: أن الله أراد أن الزاني لا يرغب في نكاحه إلا الزانية مثله أو المشركة، والزانية لا يرغب في نكاحها إلا زان مثلها أو رجل مشرك لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
فقالوا: هذا يجري مجرى الغالب؛ لأنهم يحاجون بأنه يوجد في الزناة من يرغب في الحرائر العفيفات، ويوجد في النساء الزواني من ترغب في الرجل العفيف.
ونقول: إن الذين يكثر فيهم الشك في بيوتهم هم الذين كانوا على طرائق محرمة من قبل، فقول هؤلاء الأفاضل بهذا المعنى ينافي الواقع.(57/13)
ذكر قول من حمل المشترك على معنييه
ولا بد من حل هذا الإشكال، ولذا قال ابن تيمية رحمه الله: إن النكاح هنا مشترك لفظي، أي: أن اللفظ إذا كان يحتمل معنيين فإننا نقبلهما جميعاً، فنحمل أحدهما على أمر والآخر على أمر آخر.
فالنكاح هنا جاء بمعنى العقد وبمعنى الوطء، فالوطء نحمله على المشركات والمشركين؛ لأن النكاح لا يجوز بين مسلم وكافرة أو مسلمة وكافر، والنكاح نحمله على المؤمنين والمؤمنات.
وهذا القول قال الشنقيطي معقباً عليه: ولا أعلم مزجاً واضحاً من الإشكال في هذه الآية إلا مع بعض تعسف.
ثم ذكره.
وحمل المشترك على معانيه جائز في العربية، حيث يجوز أن تقول: عدا اللصوص البارحة على عين زيد، تقصد أن اللصوص عدوا على إحدى عينيه فعوروها، وعدوا على عين مائة فغوروها، وسلبوه الذهب والفضة، أي: عين ماله.
والحق أن هذا القول بعيد جداً؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].
وحمل المشترك اللفظي بهذه الأمثلة على كلام الله بعيد جداً، خاصة أن القرآن مخاطب به عموم الناس، والله يتكلم عن مسألة اجتماعية يحتاج إليها البر والفاجر وسائر الناس، ولا يتكلم عن مسألة عظيمة التعقيد، وإنما يتكلم عن مسألة اجتماعية يهذب بها المجتمع رجالاً ونساءً، فيبعد أن يكون هذا هو الحل.(57/14)
ذكر القول بنسخ حكم الآية الكريمة
وبقي هناك قول يبدو لنا أنه أقرب الأقوال إلى الصواب، ولكن الذين ردوه لم يتأنوا -والله- في الرد، ولو تأنوا لأبصروه جيداً.
وهذا القول هو قول سعيد بن المسيب رحمه الله وأخذه عنه الشافعي وأيده، وهو أن الآية منسوخة، فالله يقول: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3] فالذين لم يرضوا بأنها منسوخة قالوا: الآية في الخاص؛ لأن وصف الزنا في المرأة والرجل وصف خاص، وقول الله جل وعلا: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى} [النور:32] عام، وقد اتفق الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة على أن العام لا ينقض الخاص ولا ينسخه، فقالوا: قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] لا يُنسخ آية الزاني؛ لأن آية {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] آية خاصة، والعام لا ينسخ الخاص.
هذا هو قولهم، إلا أن هناك قرائن أخرى تدل على ما ذكرته تحتاج إلى تريث، وسأحاول بقدر الإمكان أن أبينها لك.
فينبغي أن يفهم أن هذه السورة نزلت في العام الخامس، والعام الخامس كانت فيه حادثة الإفك في غزوة المريسيع، فسورة النور تحدثت عن الإفك، وإذا عرفت زمن نزول السورة عرفت أن نكاح المشركات من المؤمنين وقتها كان قائماً، ونكاح المؤمنات من المشركين كذلك كان قائماً، والدليل على ذلك أن الآية التي نسخت نكاح المؤمنات من المشركين في سورة الممتحنة، وسورة الممتحنة نزلت بالاتفاق بعد الحديبية، والآية هي قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10].
فالله عندما تكلم في سورة النور لم يكن في ذلك الوقت قد حرم جل وعلا نكاح المؤمنات من المشركات.
وأما نكاح المؤمن من المشركة فإننا نقول: حرمه آية البقرة: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221].
فأوجه الأقوال أن نقول: إنها نزلت بعد سورة النور، فعلى هذا نقول: إن النكاح هنا بمعنى العقد، وهو الكثير المستعمل في القرآن، فيصبح معنى الآية: أنه لا يليق بالمؤمن ولا يجوز له أن ينكح زانية، ولا يجوز للمؤمنة أن تنكح زانياً، فالزاني لا ينكح إلا زانية مثله أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان مثلها أو مشرك، ثم نسخ هذا الأمر جملة، أي: نسخ نكاح المؤمنات من المشركين بآية الممتحنة، ونسخ نكاح المؤمنين من المشركات بآية البقرة.
وأما نكاح الزواني فالدليل على أنه جائز عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24]، وقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3]، وقوله جل وعلا: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] واضح؟ وهذا القول في ظني -والعلم عند الله- أظهر من غيره؛ لأن غيره يحتاج إلى تعسف قد يكون صعباً قبوله، وقد قلت: إن هذا هو مذهب الشافعي وسعيد بن المسيب، ويؤيده عقلاً أننا نقول: إنه ينبغي أن ينظر في حال القائل، فإن لحال القائل دوراً في القول لا يصح إلغاؤه بالجملة.
وسعيد بن المسيب أحد أجلاء التابعين، وكان يحفظ كثيراً من الآثار المنقولة عن عمر، بل احتج بمراسيله الشافعي وبعض العلماء خاصة إذا حدث عن عمر، فـ سعيد بن المسيب يقبل قوله، ونقول: إن الذي دفع سعيداً إلى القول بأنها منسوخة علمه بالآثار، وقد تكون هذه الآثار ليست موجودة لدينا، ولكن نقول: إن غالب الظن أن لا يتجرأ سعيد رحمه الله على القول بأنها منسوخة دون أن يعضده أثر قد سمعه؛ لما علم من تقوى الرجل.
ثم إن الآخرين من الفضلاء الذين ردوا هذا النسخ ردوه بالقاعدة التي سبق أن بيناها وهي أن العام لا ينسخ الخاص، وقد حررنا أن العام ليس آية واحدة، بل هو عدة آيات تعاضدت فأخذنا بها وقلنا: إنها تنسخ الخاص.
وبينا أنه ينبغي النظر في زمن نزول السورة بقدر الإمكان، ففهمنا من سورة الممتحنة أن نسخ نكاح المؤمنات من المشركين كان بعد الحديبية، وصحيح أننا في آية البقرة لا نعرف زمناً، ولكن نستطيع أن نقول بذلك من حيث الإجمال العام الذي يتفق مع تفسير هذه الآية.
فهذا هو ما يمكن أن يحرر في قول الله جل وعلا: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].(57/15)
التغليظ في شأن الفواحش
وقال بعضهم: إنما هذا خبر أريد به تشنيع الأمر وبيان فظاعة الزنا عند الله، وهذا كله يسوقنا إلى أن نقول: إن ما تكلمنا عنه سابقاً يعنى بتدوين المسألة فقهياً، والقرآن لا يخاطب العقل فقط، بل يخاطب العقل والقلب؛ فإن الله جل وعلا لم يتعبدنا بالمعرفة فقط، وإنما تعبدنا بالعلم بالمعرفة، فكل الناس يعلمون أن الخمرة تسكر، والإنسان لا يثاب على علمه بأن الخمر تسكر، ولا يعاقب على علمه بأن الخمر تسكر، ولكنه إذا تركها من أجل الله يثاب، وإذا فرط فيها وشرب منها ولم يعظم تحريم الله لها يعاقب، فالله لا يتعبد أحداً بالمعرفة.
فما قلناه هو معارف، ولا بد من مخاطبة القلوب، بأن تفهم من سياق الآية أن الله يبدأ بسورة يَنزل بها ملكٌ عظيم مثل جبريل من السماوات السبع ويقول في التمهيد لها: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] ويمهد للقول بها.
ثم يشنع على أصحاب هذه المعاصي فيقول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:2] وهو أرأف بنا من أنفسنا، ويقول: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3]، ويقول في خاتمتها: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3]، كل ذلك يبصر المؤمن -إذا جمعه مع غيره من الآيات- بعظيم هذه الفاحشة، وقد قال الله في الإسراء: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32].
وقد قال أهل العلم: إن هناك ثلاث معاصٍ حرمها الله جل وعلا في جميع الشرائع والأديان: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، والزنا، وجمعها الله في سورة الفرقان فقال: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68].
وعلى النقيض من قضية تعظيم الزنا تأتي نصوص شرعية ترغب في العفاف وتبين عظيم أجره ومآل أهله عند الله ترغيباً لهم في ترك هذه الفاحشة، حيث يقول صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -: (سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم:- ورجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).
ويقول الله جل وعلا عن نبيه يوسف بن يعقوب عليه السلام: {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:23 - 24].
قال الله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].
وقد اشتهر عند العلماء أن الزنا أشبه بالدين، وأن الإنسان إذا صنعه في أهل بيت رد ذلك في أهل بيته، وينسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قوله: إن الزنا دين فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم والحق أنا لا نؤمن بقول الشافعي هذا على عظيم إجلالنا له وحبنا إياه؛ لأن الله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
ثم إن هذا القول يدفع الناس إلى باب شر عظيم، فقد يكون لأحد الناس سابقة في الزنا وفي الفواحش عياذاً بالله، ثم يمن الله جل وعلا عليه بالتوبة بعد أن ستره، فإذا قررنا ما قاله الشافعي رحمه الله -إن صحت نسبة الأبيات إليه- أضحى ذلك الرجل شاكاً مرتاباً في زوجته أو بناته، وهذا غير حق وغير عدل، ولكن نقول من حيث الجملة: إن الزنا -والعياذ بالله- من أعظم الفواحش وأجل الكبائر، وقد حرمه الله وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومما جاء في التغليظ فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى الزواني والزناة عراة في تنور ضيق من أسفله واسع من أعلاه توقد من تحته نار.
قال بعض العلماء -كالحافظ ابن كثير وغيره-: هذا من جنس صنيعهم، فكما هتكوا ستر الله عليهم في الدنيا هتك الله عنهم الستر في حياة البرزخ.(57/16)
أهمية سد الذرائع
والزنا له طرائق، وأسباب تؤدي له، ومن أعظمها: كثرة رؤية الرجل للمرأة، وكثرة مخالطة المرأة للرجال.
وسد الذرائع أمر مقرر شرعاً، ولكن بقدر، فلا يفتح باب سد الذرائع على إطلاقه، ولا يغلق أبداً، ولكن الأمور تختلف من بيئة إلى بيئة، ومن مكان إلى مكان، وتقيد بقيود الشرع، ولكن قد قالوا: إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر على سلمى وواديها فما تبثه الفضائيات والقنوات والشاشات من صور خليعة وأفلام ماجنة وغيرها لا ريب في أنه من أعظم أسباب انتشار الفاحشة بين الناس عياذاً بالله.
فالذي يكثر من النظر إليها يكون أقرب إلى الوقوع في الحرام، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وهذا حق ولا ريب؛ لأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الواقع يشهد له شهادة عظيمة.(57/17)
درء الحدود بالشبهات
فهذه الثلاث الآيات ذكرت حد الزنا في فواتح سورة النور كما بيناها، وذكرنا في أولها الفرق بين الحد والقصاص.
ومن الفوارق بينهما كذلك أن الله جل وعلا جعل الحد لا يسقط ولا تجوز فيه الشفاعة، ولكن يسر الله على لسان رسوله دفع الحد بالشبهات، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات).
ومن جملة ذلك ما يروى عن جماعة من الناس أتوا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه يستعدونه شاعراً يقال له: النجاشي، فاسقاً في لسانه، فهجا قوماً يتهمهم بما ليس فيهم، فكان عمر يدرأ الحد عنه بالشبهة، فكان يقصد بالبيت شيئاً فيحمله عمر على معنى آخر مع أنه ضليع في لغة العرب، حيث قال يهجو بني العجلان: قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل فقال عمر: ليت آل الخطاب كذلك.
فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنه يقول: ولا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوراد عن كل منهل فقال عمر: ذلك أخف للزحام وأصفى للماء.
مع أنه أراد ضعفهم وعجزهم، وأراد عمر أن يغير المعنى، فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنه يقول: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من كعب بن عوف ونهشل فقال عمر: أجن القوم موتاهم.
يعني: هؤلاء قوم طيبون يدفنون موتاهم فلا تصل الكلاب إليهم.
فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنه يقول: وما سمي العجلان إلا لقولهم خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل فقال عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: كلنا عبد، وخير القوم خادمهم.
وكلما ذكروا بيتاً خرج به عمر مخرجاً آخر، وهو يعلم مقصده، لكن هذا من باب: (ادرءوا الحدود بالشبهات) حتى وصلوا معه إلى أبيات لا يمكن دفعها، فجلده تعزيراً.
والذي يعنينا أن الإنسان يدرأ الحدود بالشبهات بقدر الإمكان، ومن أجل هذا أيضاً علق عمر حد السرقة في عام الرمادة؛ لأن شبهة الجوع والفقر وحاجة الناس كانت طاغية عامة من البلاء العام، فلم يقم الحد في ذلك العام، ولا يقال: ألغى عمر الحد، فهذا ليس لعمر ولا لغيره، ولكن علقه رضي الله عنه وأرضاه اجتهاداً لحاجة الناس آنذاك من باب قوله صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات).
فهذا -أيها الأخ- ما تيسر قوله حول الثلاث الآيات الأول من سورة النور.
وفي الدرس القادم سنعرج على قضيتين أخريين، وهما قضية حد القاذف وقضية الملاعنة، ونكتفي بهما بإذن الله تبارك وتعالى.
وهذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله وأعان الله على أن نمليه، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(57/18)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة النور [2]
من جملة أحكام الشريعة الواردة في سورة النور ما يتعلق بحكم قذف المؤمنين والمؤمنات، فقد أوجب الله تعالى في ذلك على القاذف الإتيان بأربعة شهود، وأوجب عليه عند العجز عن ذلك حداً في ظهره، فيجلد ثمانين جلدة تطهيراً للمجتمع وصيانة لأعراض المؤمنين عن المساس، ولما كان القذف -وهو تهمة المقذوف بالزنا- كان على الزوج إقامة البينة على قذفه امرأته أو الحد في ظهره، وفي ذلك مشقة عظيمة وحرج كبير على الأزواج، فشرع الله تبارك وتعالى حكم الملاعنة استثناء لقذف الزوج من الحكم العام في القذف.(58/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء)(58/2)
ذكر ما يترتب على القذف من أحكام
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اعترافاً بفضله وإذعاناً لأمره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فغني عن القول أن يقال: إن هذا الدرس له ارتباط وثيق بالذي سبق، وقد شرعنا في الدرس الأول في تفسير فواتح سورة النور، وأخذنا الثلاث الآيات الأول منهن، وبينا أن الله جل وعلا قال: {وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] إشارة إلى الأحكام، وتكلم الله جل وعلا فيها عن حد الزنا.
ثم ينتقل بنا القرآن إلى حد آخر، وهو حد القذف، حيث يقول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4]، وذكر تعالى أنه طلب منهم أربعة شهداء، فقال: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] وهذا الحد يسمى حد القذف.
وإذا تلبس المرء بجريمة الزنا فإنها تثبت عليه بواحد من ثلاثة: إما باعترافه بنفسه، وهذا هو الذي ثبت به الزنا في عهد النبوة، كقصة ماعز والمرأة التي من غامد.
وإما بشهود أربعة، وهذا لم يقع في عهد النبوة.
وإما بأن تحمل المرأة وليس لها زوج معروف، فهذا ما يتعلق بحد الزنا.
أما الآية التي بين أيدينا فتتحدث عن حد القذف، والله جل وعلا قد أمر من قذف بأن يأتي بأربعة شهداء، فإن لم تقع تلك الشهادة على الوجه الذي أمر الله جل وعلا به ترتب على هذا الأمر ثلاثة أحكام: الأول: أن يجلد القاذف ثمانين جلدة.
الثاني: ألا تقبل له شهادة أبداً.
الثالث: أن يعتبر فاسقاً.
ثم جاء الاستثناء بقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [آل عمران:89].(58/3)
أثر الاعتراف في إقامة الحدود
وقبل أن نشرع في الآية أقول: ذكرنا أن الزنا يثبت بواحدة من ثلاث، ومنها اعتراف المرء، وهذا الاعتراف يحكم به على إطلاقه، إلا فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بأنه ارتكب ما يوجب عليه الحد، فأكثر العلماء من أهل التحقيق على أن الشاعر إذا اعترف في شعره بما يوجب الحد عليه لا يقام عليه الحد؛ لأن الله جل وعلا برأهم بقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:225 - 226].
ومما يستأنس به أن عمر رضي الله تعالى عنه ولى رجلاً يقال له: النعمان بن عدي نيسان من أرض البصرة، وذات يوم خلا النعمان بنفسه وكان يحب الشعر ويقوله، فطفح به الكيل وفق تعبيره فقال يتغنى شعراً: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بميسان يسقى من زجاج وحنتم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم فبلغ عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه ما قاله النعمان فقال: والله إنه ليسوؤني، ومن لقيه فليخبره أنني عزلته، ثم كتب إليه: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ.
{حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:1 - 3].
أما بعد: فلقد بلغني قولك: لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم والله إنه ليسوؤني، وقد عزلتك.
فقدم النعمان من أرض ميسان من أرض البصرة إلى المدينة فواجهه عمر بالشعر الذي بلغه، فقال: يا أمير المؤمنين! يعلم الله أنني ما شربتها قط، ولكنه شيء طفح به شعري.
فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: وأنا أظن ذلك -أي: أعتقد صحة قولك في أنك لم تشرب- ولكنك لن تلي لي عملاً؛ لأنك تحدثت في شعرك عن الخمر.
قال أهل العلم: إن عمر رضي الله عنه وأرضاه لم يقم الحد عليه رغم أن هذا الوالي في شعره كان صريحاً في أنه شرب الخمر، فهذا الاستثناء يخرج من قولنا: إن الزاني إذا اعترف بزناه يقام عليه الحد، فإذا اعترف في شعره لا يقام عليه الحد.
وثمت رواية أخرى تؤيد هذا المنحى للفرزدق مع سليمان بن عبد الملك، ولكن الذي قاله الفرزدق ظاهر الفحش عظيم البذاءة.
فهذا تحرير قضية استثناء الشعراء من الاعتراف.(58/4)
فضيلة ستر معايب الناس
إن الله جل وعلا يتكلم عما يحفظه المجتمع المسلم، فقد جعل لنا أعيناً وألسناً، وبمقدار ستر المرء لمعائب الناس يكون ستر الله جل وعلا لمعايبه، وقد نص أهل العلم -كما قال سعيد بن المسيب وغيره- على أنه لا يخلو أحد من أهل الفضل -مهما بلغت درجته- من معايب فيه، ولكن لا يحسن إشهارها للناس، وعلى هذا يجب أن تفهم أن كثيراً ممن أعلى الله قدرهم إنما أوقعهم الله على معايب لغيرهم، فلما ستروها وقد وقعوا عليها ورأوها قدراً ستر الله جل وعلا عليهم معايبهم.
وكثير ممن تسلطوا على أخطاء الناس وعوراتهم سلط الله جل وعلا عليهم غيرهم.
وهذا كائن في النهج العلمي، فـ ابن حزم رحمة الله تعالى عليه كان يقال عنه: إن لسان ابن حزم وسيف الحجاج صنوان، فـ ابن حزم في (المحلى) أجلب بخيله ورجله على الأئمة الأربعة وعلى مالك على وجه الخصوص، ولذا يقال: إن السبب في إعراض الناس عن مذهب الظاهرية من حيث الجملة، وكتب ابن حزم على وجه الخصوص ما جعل فيها من جلب على غيره من الأئمة، ولو كان منصفاً -رحمه الله- مع أولئك لجعل الله له إنصافاً عند الناس، وهذه سنة لله جل وعلا ماضية، وإلا فإنه لا يختلف اثنان ممن ذاقوا رحيق العلم في أن ابن حزم كان إماماً عظيماً جليلاً، ولكن غلبت عليه هذه الصفة فنجم عنها نفرة الناس عن كتبه، وهذه سنن لله جل وعلا لو تأملتها بتؤدة وتريث لوجدت أموراً عظيمة وخبايا عديدة يمن الله علينا وعليك بفقهها.(58/5)
شمول حد القذف للرجال والنساء
يقول تعالى في حد القذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، ولا يمكن أن يغير هذا الحد الشرعي، فجعل الله حد القذف ثمانين جلدة، وجعل حد الزنا مائة جلدة.
والمحصنات: العفيفات، وليس ذكر النساء هنا المقصود منه الحصر، فقذف الرجال كقذف النساء، وقذف المحصنين كقذف المحصنات، ولكن لما كان الغالب أن القذف يقال في حق النساء ذكرهن الله تعالى هنا دون الرجال، فإن حاجك أحد في أن الرجال لم يذكروا فقل له: أجمعت الأمة على أن الرجال داخلون في ذلك، وإذا أجمعت الأمة فلا سبيل إلى نقض ذلك الإجماع.
ولهذا فإن من العلم إذا أردت أن تبحث ألا تبحث في مسألة أجمع الناس عليها، ولكن انظر في مسائل الخلاف فلعلك تجد دليلاً ترجح به قولاً تختاره، أما ما اتفق الناس عليه فليس بمجال بحث أبداً؛ إذ لا تجتمع الأمة على ضلالة، خاصة إذا كان الإجماع مشتهراً معروفاً مقرراً.
فالإجماع منعقد على أن القذف يقع في حق الرجل كما يقع في حق المرأة، وإن لم يسم الله الرجل.
على أن بعض أهل التأويل يقول: (المحصنات) هنا ليس المقصود بها النساء، وإنما المراد المحصنات من الأنفس رجالاً ونساء.
وهذا تخريج جيد، ولو فرضنا بعدم قبوله فإننا محكومون بالإجماع الذي حررناه من قبل.(58/6)
أحكام القذف وما ترفعه التوبة منها
يقول الله تعالى في حكم القاذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، وقد حررنا مسألة الجلد من قبل.
ثم ذكر الله تعالى الحكم الآخر فقال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، و (أبداً) تأتي في نفي المستقبل، ويقابلها في نفي الماضي (قط)، تقول: لن أفعله أبداً، وتقول عن شيء محكي: ما فعلته قط.
و (قط) أحياناً تزاد بفاء التزيين فيقال: (فقط).
قال تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، ثم قال ربنا: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:89].
وقد وقع الإشكال بين العلماء في هذا الاستثناء، حيث مرت ثلاثة أحكام، فأيها يرفع الاستثناء إذا تاب الإنسان؟ وقد اتفقوا على أنه لا يرفع الجلد؛ ولأن الجلد حق للمقذوف، فإذا رفعناه لا يستفيد المقذوف من توبة القاذف.
قذف رجل رجلاً بالزنا فإن كونه يتوب إلى الله لا ينتفع منه المقذوف بشيء، فلا بد من إقامة الحد.
واتفقوا كذلك على أن الفسق ينتفي إذا تاب، ووقع الإشكال في قول الله جل وعلا: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، فإذا تاب هذا الذي قذف بعد أن أقيم الحد عليه فهل إقامة الحد عليه ثم توبته بعد إقامة الحد تجعلنا نقبل شهادته بعد ذلك أم لا؟ للعلماء في ذلك قولان: فمذهب الجمهور أنه تقبل شهادته، ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أن شهادته لا تقبل، وجعل الاستثناء مخرجاً له من دائرة الفسق فقط.(58/7)
تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم)(58/8)
المخرج الشرعي للأزواج من حد القذف العام
ثم قال الله جل وعلا بعدها: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6]، هذه الآية الثانية جعلها الله مخرجاً للأزواج؛ لأن الإنسان إذا رأى امرأة غير زوجته مع رجل فإنه قد يصيبه شيء من الغيظ، ولكن لا يصل إلى درجة رؤيته مع زوجته، وحينئذٍ فإنه إذا أراد أن يقام الحد لزمه الإتيان بأربعة شهود، وقد يتعذر عليه ذلك، فيقول: أنا لا استطيع أن آتي بشهود، وهذا أمر لا يخصني.
فهذه مسألة ظاهرة، والأمر فيها ليس بالكبير على الرائي، ولكن الحرج -عافانا الله وإياكم- أن يرى الرجل رجلاً مع زوجته، فإن قتل قُتِل، وإن تكلم طولب بأربعة شهداء، وإن سكت سكت على أمر عظيم، فجعل الله تعالى له المخرج بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] وهذا تخصيص بعد العموم السابق، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6]، أما إذا كان لهم شهود فالمسألة قد حلت من قبل في آية القذف، وهذه آية الملاعنة وليست آية القذف.
فجعل الله جل وعلا آية الملاعنة فك خناق عن الأزواج؛ إذ لما نزلت آية القذف طولبوا بأربعة شهداء، فإذ لم يأتوا بهؤلاء الأربعة طبقت عليهم تلك الأحكام الثلاثة، فضيق ذلك على الناس.
ويقال: إن عويمراً العجلاني أرسل رجلاً يقال له: عاصم بن عدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله بعد نزول آية القذف: كيف يصنع الإنسان لو رأى رجلاً مع امرأته؟ فذهب عاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فأغلظ له النبي عليه السلام في الجواب، فلما رجع عاصم إلى عويمر سأله عويمر: ما الخبر؟ فأخبره عاصم بأنه لم يلق خيراً من سؤاله هذا، ولكن عويمراً لم يصبر، وكأنه كأن يرتاب في زوجته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: (البينة أو حد في ظهرك).
فلما رجع وجد الذي كان يخشاه، فعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية المعروفة بآية الملاعنة، وفيها نصرة لـ عويمر؛ لأنه لما قذف عويمر زوجته ولم تنزل الآية في نفس الليلة باتت الأنصار تقول: ليقامن غداً حد القذف على عويمر.
بناء على الآية التي قبلها في حد القذف، فلما نزلت هذه الآية فك خناق، فقال الحق سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:6 - 7].
فجيء بـ عويمر وجيء بزوجته بعد أن نزلت الآية، فأقسم عويمر قائلاً: أشهد بالله إنني لمن الصادقين فيما رميتها به، وفي الخامسة -وهي الموجبة- قال: أشهد أن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به.
وجيء بالمرأة فقالت: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به، وقالت في الخامسة: أشهد بالله أن غضب الله علي إن كان من الصادقين فيما رماني به.
ونقل أنها قبل أن تقول الخامسة خوفت؛ لأنها هي الموجبة، فتلكأت ثم قالت: والله لا أفضح قومي سائر اليوم، ومضت في يمينها، فقال صلى الله عليه وسلم -كما روى أنس -: إن جاءت به كذا وكذا، -ذكر أوصافاً لـ عويمر - فقد ظلمها، وإن جاءت به سابق الإليتين، خذلج الساقين، أكحل العينين فهو لما رماها به؛ لأن شريك بن سحماء الذي رماها عويمر به كانت هذه صفاته، ثم إنها وضعت حملها، فجاء الولد شبيهاً بمن رماها به، فقال صلى الله عليه وسلم: (لولا كتاب من الله كان لكان لي معها شأن)، ومعنى هذا أن الحدود إذا أقيمت والقضاء إذا تم فإنه يفرغ من الأمر، والمقصود هو إقامة حد الله، أما إصابة عين الحق فليست بواجبة على البشر.(58/9)
صور الفراق بين الزوجين وما يترتب عليها
هذه الآية تسمى آية الملاعنة، وينجم عنها أن الإنسان إذا فارق زوجته فإن الفراق قد يكون بطلاق وقد يكون بلعان، والطلاق يقع في ثلاث صور فإما أن يقع طلاقاً رجعياً، وإما أن يقع طلاقاً بائناً بينونة صغرى، وإما أن يقع طلاقاً بائناً بينونة كبرى.
فأما إذا طلقها طلاقاً رجعياً فإن له أن يراجعها ما دامت في العدة، وهو أولى بها، وهذا لا خلاف فيه.
فإن طلاقها طلقة أو طلقتين وقضت العدة ولم يراجعها فقد بانت منه، ولكن هذه البينونة تسمى بينونة صغرى، بمعنى أن له أن يعود إليها، ولكن بعقد جديد ومهر جديد.
وأما إذا طلقها ثلاثاً فإنها تبين منه بينونة كبرى، وهذه الحالة قال الرب فيها: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230].
فلا بد من أن تتزوج غيره لتحل له.
وأما الملاعنة فإنها إذا وقعت لا تحل المرأة للزوج بعدها أبداً ولا يحل لها، ولا يمكن أن يجتمعا مرة أخرى، ولو تزوجت عشرات الأزواج بعده؛ لأنه إذا وصل الأمر بهما إلى أن يتهم الرجل زوجته أو ينتفي الرجل من ابنه فإن هذا معناه أنه محال أن تعود المياه بعد ذلك إلى مجراها بينهما.
وأما الصغير الذي تم التلاعن من أجله فإنه يلحق بأمه ولا ينسب إلى الزوج.(58/10)
توجيه ذكر اللعن في حق الرجل والغضب في حق المرأة
وبعض الفضلاء من أهل العلم يستعجل في فهم قضية اللعن والغضب، وكذلك بعض المعاصرين ممن هم إلى الثقافة أقرب منهم إلى التأصيل، فيقولون: إن الإسلام يشدد على المرأة؛ فالله تعالى قال في حق الرجل: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7]، وقال في حق المرأة: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور:8 - 9]، فذكر في حق المرأة الغضب، وهو السخط، وهو أشد من اللعن، وهم يفقهون بادي الرأي أن المسألة فيها ميل إلى الرجل ضد المرأة.
وليس الأمر كذلك لو تأملته، فالرجل إذا قذف امرأته فلو قدرنا أنه كان كاذباً فإن غاية ما يمكن أن يوصف به الرجل أنه كاذب قاذف فإن الحد في حقه هو حد القذف، فكذبه موازن لحد القذف، ولكن لو قدرنا أن الرجل كان صادقاً فيما رماها به وكانت المرأة كاذبة في البراءة فإنها تكون زانية، وأيهما أعظم: القذف أم الزنا؟
و
الجواب
الزنا، فاللعن مناسب للقذف ويلزم الرجل، والغضب مناسب للزنا، فليست القضية قضية تفريق بين رجل وامرأة، وإنما القضية أن الرجل إذا كان كاذباً في دعواه فغاية الأمر أنه قذف زوجته بما ليس فيها، فيصل إلى مرحلة القذف، وهذا حقه اللعن، ولكن المرأة إذا كانت كاذبة في دعواها البراءة فهي لا تصبح قاذفة كزوجها، بل تصبح زانية يقيناً.
فإذا أصبحت زانية فإن الزنا أشد من القذف، إذ الزنا حده في المحصن الرجم، والقذف حده الجلد ثمانين، فاللعن يوافق حد القذف، والغضب يوافق حد الزنا.
فليست القضية قضية ممالأة رجل ضد امرأة، وإنما القضية هي أن الغضب يوافق الزنا واللعن يوافق القذف، وهذا أمر يحسن تحريره.(58/11)
فائدة نحوية
ومن القضايا التي يتكلم عنها في هذه الآية المباركة جملة من القضايا النحوية، حيث يقول الله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فـ (جلدة) تمييز؛ لأنها تزيل الإبهام المتصل بالعدد، ويسمى عند النحويين: تمييزاً ملفوظاً، والتمييز الآخر يسمى بالتمييز الملحوظ.
فالتمييز الملفوظ: يزيل إبهاماً في عدداً، أو مساحة، أو كيل، أو وزن.
وأما الثاني فإنه يدخل في باب المعاني غالباً، فتقول: ازدانت المدينة مدخلاً، وطاب محمد نفساً.
وهذا التمييز الملحوظ يصح فيه القلب، فتقول: طابت نفس محمد، وازدان مدخل المدينة.
فهذه قضايا نحوية نراها مهمة في فهم كلام الله تبارك وتعالى.(58/12)
حكم قذف الوالد ولده
قلنا: إن الله جل وعلا تكلم في الآية الأولى عن حد القذف، وتكلم في الآية الثانية عن الملاعنة، وقلنا: إن الملاعنة إنما هي تخصيص عن حد القذف.
وهنا مسألة تتعلق بالقضية، وهي ما لو قذف الوالد ولده، فحق الوالد على الولد عظيم، وفي الحديث: (أنت ومالك لأبيك)، ولما ذكر الله تعالى البيوت في آخر السورة ذكر بيوت الآباء وغيرهم من القرابة، ولم يذكر بيوت الأبناء؛ لأن بيت أبيك حق مشاع بالنسبة لك، فلم يذكره الله جل وعلا، فحق الأب شيء عظيم.
فإذا قذف الوالد ولده فهل للولد أن يطالب بالحد أم ليس له ذلك؟ اختلف العلماء على قولين: فمنهم من قال: إنه يطالب أخذاً بعموم الآيات، ومنهم قال: إنه لا يطالب، أخذاً بالآيات الدالة على وجوب الإحسان إلى الوالدين، ولا شك في أن إقامة حد على والد بسبب ولده يعارض الإحسان.
وإنك لتعجب من بعض الأقوال في هذه المسألة حين تقرؤها، ولكن العجب ينتفي إذا علمت أن الله كتب النقص على عباده.
فقد قال بعض المالكية: إن له أن يطالب بحد القذف، ثم إذا أقيم الحد على الوالد يعتبر الولد عاقاً والعقوق كبيرة، فهل يعقل أن يقول قائل: إن حدود الله إذا نفذت تقود إلى الكبائر؟! هذا محال، فالقول هنا لا يستقيم.
وعليه فإن على الإنسان إذا أراد أن يملي قولاً أو أن يظهر رأياً أو أن يحرر مسألة عليه قبل أن يعرض المسألة على الناس أن يعرضها على نفسه، فيدخل عليها الخوارم، ويحاكم نفسه بنفسه، وينصب العداء لنفسه في هذه المسألة، ويأتيها من كل شق، ويرميها بكل نبل، فإن ثبتت وتحررت وبقيت أخرجها للناس، وذلك خير له من أن ترمى.
والناس يصنعون هذا جبلة من غير أن يشعروا، فقل أن يشتري أحداً دابة، أو يشتري قلماً إلا وقد حرره أو جربه قبل ذلك، وما يقال في الأمور المحسوسة ينبغي أن يقال في الأمور العلمية.(58/13)
حكم تنصيف حد العبد القاذف
وهنا قضية أخرى في قضية القذف، وهي أن العلماء ذكروا أن العبد إذا زنا يقام عليه الحد إذا كان بكراً نصف الجلد، أي: خمسون جلدة، فإذا قذف العبد أحداً فهل ينصف حد القذف أم لا؟ فذهب الجمهور إلى الأخذ بالقياس على حد الزنا، ونقل عن عمر بن عبد العزيز -واختاره الإمام الشنقيطي في تفسيره- أن القياس هنا غير صحيح، وأنه لا يقاس حد القذف على حد الزنا، وقالوا: إن الله تعالى قال في الإماء: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، فهذا أصل في حد الزنا فقسنا عليه الرجال، وأما حد القذف فهو غير حد الزنا، وهذا هو رأي عمر بن عبد العزيز، فلا يرى أن حد القذف ينصف، وإنما يرى أن يجلد العبد إذا وقع منه القذف ثمانين جلدة كما يقع على الحر.(58/14)
النظرة الشرعية إلى ولد الزنا
وهنا مسألة أخرى، وهي الوليد الذي ينشأ من الزنا، وهذه مسألة تكثر في كل زمان ومكان، وقد ساد أقوام من هذا الصنف، ومن أشهرهم تاريخياً زياد بن أبيه أحد أمراء العرب في عصر بني أمية، وقد استعمله علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وكان جباراً فتاكاً، فلما آل الأمر إلى معاوية طلبه وألحقه بهم وقال: إن أبا سفيان هو الذي كان سبباً في ولادته من امرأة كان يأتيها في الطائف، فكان يعرف بـ زياد بن أبيه؛ لأنه لا يعرف له أب، ثم عرف بـ زياد بن أبي سفيان.
وقد ولي زياد العراق في أيام بني أمية، وهو صحاب الخطبة المشهورة بالبتراء، والبتراء هي المقطوعة، حيث صعد المنبر وقال دون أن يحمد الله أو أن يثني عليه أو أن يصلي على رسوله: أما بعد: فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء ما عليه سفهاؤكم، واشتمل عليه علماؤكم وأخذ يهدد ويوعد.
وتسمى هذه الخطبة عند اللغويين بالموقف اللغوي الكامل، وذلك أن المواقف اللغوية تتكون من ثلاثة عناصر مرسل ورسالة ومستقبل، فإذا استطاع المرسل أن يتقن الرسالة وصلت الرسالة إلى المرسل إليه.
فالرجل صعد على المنبر في قوم ذوي ثورة وتمرد على ولاتهم، فلا يحسن معهم الشفقة، فالموقف القوي يطلب منه أن يقدم رسالة يظهر فيها حزمه، فلهذا بدأها بغير حمد الله والثناء عليه.
وإنما فعل ذلك لمناسبة الموقف، وهذا مثل ذبح الأضحية يوم العيد، فإنه لا يقال معه: بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأننا لو قلنا: (الرحمن الرحيم) لما نحرنا ما بين أيدينا من الضأن.
ولكن نقول: (باسم الله، الله أكبر) لمناسبة الموقف.
وقد زعموا أن أبا عمرو بن العلاء كان راكباً على دابته، فمر بسوق النخاسين، وجملة من في السوق قوم لا يفقهون من اللغة إلا اليسير، وكان قد اختلط العرب بالعجم، وهو ضليع في النحو مغرق في مسائل الألفاظ العويصة، فسقط من فوق دابته فاجتمع الناس عليه خوفاً من أن يكون قد أصابه مكروه، فقال لهم: ما لكم تكأكأتم كتكأكؤكم على ذي جنة، افرنقعوا.
فلم يقم أحد؛ لأن الموقف اللغوي هنا ناقص؛ إذ النحاة العالمين بـ (عسى) ولـ (عل) يفهمون مراده، فكيف يفهمه العامة؟! وقد أراد أن يقول: ما لكم تجمعتم علي كتجمعكم على رجل مجنون، انصرفوا.
ولكن الناس لم ينصرفوا، ولم يتحركوا عنه؛ لأنهم لم يفقهوا شيئاً مما يقول.
وغاية ما أردت بيانه هو شأن أمثال زياد، فهذا الصبي الذي حصلت فيه الملاعنة جاء في المسند بسند فيه ضعف ولكنه يقبل في مسائل الأخبار أنه رؤي أميراً على إحدى الولايات في مصر.
وبعض العلماء وهو يفسر القرآن نجده يلحظ هذه القضية، وذلك في قول الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، والمراد: بكتابهم؛ لأن الإمام ورد في اللغة بمعنى: الكتاب، وفي القرآن {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12].
فقال بعض المفسرين -وأظنه محمد بن كعب القرظي -: (بإمامهم) يعني: بأمهاتهم.
فقيل له: لماذا لا يدعون بآبائهم؟! فقال: ستراً على أبناء الزنا؛ لأنه لا يعرف لهم آباء، وإظهاراً لشرف الحسن والحسين في نسبتهما إلى فاطمة؛ لأن فاطمة بنت نبينا صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أن هذه الاستحضارات يستحضرها الناس أحياناً في الكلام عن القضايا، والتفسير علم مفتوح تلتقط أوراقه من هنا وهناك، وهذا كله يدخل في باب المعرفة.(58/15)
فضيلة الكف عن معايب الناس
وبقي الآن ذكر ما أراده الله من تحريك القلوب بذكر القذف وإيجاب الحد فيه، وذكر الملاعنة، فنقول: إن الإنسان كلما من الله جل وعلا عليه بحفظ لسانه من الخوض في أعراض الناس كان أقرب إلى ربه وأدنى إلى شرف المعالي.
ولا يليق برجل يأمل يوماً أن يكون ذا شأن أن يشغل نفسه بالآخرين، وليس زعيم القوم من يحمل الحقد، والذين يحملون الحقد والحسد هم أكثر الناس حديثاً عن غيرهم؛ لأنه يضيرهم ما يرون من نعم الله جل وعلا على غيرهم، فيدفعهم ذلك الحسد الذي في قلوبهم إلى أن يلفقوا الأخبار ويصطنعوا الأحاديث على سواهم، فينجم عن ذلك انتقاص الناس، فيسلط الله جل وعلا عليهم من يكشف عيوبهم.
ولكن العظيم الشأن الذي أرجو الله أن نكون مثله يترفع عن مثل هذه الأمور ولا يعبأ بها ولا ينظر إليها، وإنك لن تغيظ عدوك بأكثر من أن تظهر عدم مبالاتك به، يقول المتنبي: أفي كل يوم تحت إبطي شويعر ضعيف يقاويني قصير يطاول لساني بنطقي صامت عنه عادل وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل وأتعب من ناداك من لا تجيبه وأغيظ من عاداك من لا تشاكل فالإنسان إذا أراد أن يقهر عدوه فلن يجد شيئاً يقهره به مثل ترفعه عن مجاراته، وقد قال أبو تمام: إذا جاريت في خلق دنيئة فأنت ومن تجاريه سواء رأيت الحر يجتنب المخازي ويحميه عن الغدر الوفاء فهذه جملة من الآداب واللافتات المعرفية والعلمية حول هاتين الآيتين المباركتين من سورة النور يسر الله جل وعلا أن نقوله ونمليها، والله المستعان وعليه البلاغ.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(58/16)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة النور [3]
حفلت سورة النور بذكر حادثة الأفك المفترى على الطاهرة المطهرة الصديقة بنت الصديق الأكبر عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد تضمنت آياتها براءة عائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهما، وذكر من تولى كبر الحادثة، وهتك أستار المنافقين، وبيان الواجب على المؤمنين في هذه القضية ونحوها، وبيان جوانب الخير في الحادثة، كما تضمنت الدعوة إلى الصفح والعفو عن المسيء، وبيان جرم قاذف المؤمنات المحصنات، وغير ذلك من الأمور العظيمة.(59/1)
ذكر حادثة الإفك
الحمد لله وحده حمداً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا الدرس تابع لما كنا قد تكلمنا فيه من سورة النور، وقد ذكرنا في درسين سابقين ما كان فيهما من أحكام في صدر السورة.
والآن ننتقل إلى الآيات المعنية بقصة الإفك: وهي آيات تنتهي عند الآية السادسة والعشرين من هذه السورة المباركة، وقصة الإفك تناولها أصحاب السيرة كما تناولها المفسرون، لعلاقتهما بالأمرين في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن القرآن هو الذي نزل ببراءة عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
وقبل أن أشرع في التفسير، وبيان ما ذكره العلي الكبير في كلامه أقول: إن النبي عليه الصلاة السلام جاء بدين جديد على خلاف ما كان عليه قومه، فواجهه قومه بأن اتهموه بالسحر والكهانة والجنون وغير ذلك، ومثل هذه الاتهامات قد وطن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على مقابلتها، فهي من جنس ما كان يتوقعه من أذى وصدود ورد لدعوته ممن لم يؤمن بها، ولكن حديث الإفك كان ابتلاء من نوع آخر، ولا يوجد ابتلاء في السيرة العطرة والأيام النضرة في حياته صلى الله عليه وسلم مثيل له، ولهذا قال الله: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:17].
فهو حدث لم يتكرر، ونوع من البلاء لم يقع إلا مرة واحدة في غزوة المريسيع، واستصحاب هذا عند تفسير القرآن أو تفسير هذه الآيات المعنية بحديث الإفك أمر مهم جداً لطالب العلم في التأمل في كلام الله جل وعلا، فبعض الآيات والأحداث تتكرر؛ لأن الابتلاء فيها ينضوي تحت خيمة واحدة، أما هذا الابتلاء فلا ينضوي تحت أي خيمة، وإنما هو مستقل لوحده، لم يعهده النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، ولم يعهده في المدينة، إلا ذلك الحين، ثم انجلى بعد شهر من الأسى بإنزال الله جل وعلا قوله: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11]، وهو أول ما سنفسره، إلى قوله سبحانه وتعالى: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26].
هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: أن الناظر في القرآن لا ينبغي له أن يحكمه شيء واحد، وإنما هي معانٍ تقرب للناس، بحسب فهمنا لكلام الله، وإلا فلن يصل تعبيرنا عن مراد الله إلى المعنى المقصود الأسمى؛ لأن تعبيرنا وفهمنا لكلام الله لن يصل أبداً إلى نص القرآن نفسه، فنص القرآن مقدس، ومقاربة العلماء لذلك النص غير مقدسة.(59/2)
الشخصيات المذكورة في قصة الإفك
سنتكلم ابتداءً عن الشخصيات التي تتعلق بقصة الإفك، حتى إذا شرعنا بعد ذلك في تفسير الآيات كانت الصورة واضحة جلية.
فأول تلك الشخصيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو غني عن التعريف، ثم الصديق لكونه والداً لـ عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، ثم أم رومان أم عائشة رضي الله عنها، وزوجة أبي بكر، وهؤلاء الثلاثة قد لا يكونون مقصودين بالأمر، وإنما ينصرف الأمر أول ما ينصرف إلى عائشة وإلى صفوان بن المعطل.
فأما عائشة فهي الصديقة بنت الصديق، رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهي أشهر من أن تعرف بها، ولكن نعرف بالشيء الذي تعلق بالقضية، فقد رزق النبي صلى الله عليه وسلم حبها، وأتاه جبريل بصورتها سرقة من حرير، وفي رواية: في كفه، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنها ستكون زوجته، وقال: (إن يرد الله خيراً يمضه)، أو: (أن يرد الله شيئاً يمضه)، ثم كانت زوجته رضي الله تعالى عنها وأرضها، فبعد الهجرة بنى بها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال.
وهذه المباركة أنزل الله جل وعلا فيها هذه الآيات بياناً لبراءتها، وتوفي النبي عليه الصلاة السلام بين سحرها ونحرها، ودفن في حجرتها رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
وأما من رميت به فهو صفوان بن المعطل السلمي، أحد خيار الصحابة، ومما يدل على أن الله جل وعلا أراد به خيراً أنه مات شهيداً، والظفر بالموت شهادة ليس بالأمر الهين، فقل ما يعطاه أحد، والله تعالى يقول: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140]، وليس كل أحد يتخذ شهيدا.
فـ صفوان بن المعطل لما رآها قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فكان ذلك سبباً في نجاته كما سيأتي.
ومن الشخصيات شخصيات خاضت في الأمر بشدة، وبعضها تولى كبر الأمر، وهو عبد الله بن أبي المنافق الخزرجي النسب، قدم النبي عليه الصلاة السلام المدينة وكان القوم من الأوس والخزرج قد أجمعوا أمرهم على أن يولوه ملكاً عليهم، ولهذا اغتاظ من قدوم النبي عليه الصلاة السلام إلى المدينة.
ومن تلك الشخصيات حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشهور عند العلماء أنه وقع في الأمر، وشارك في نشره، وحمنة بن جحش أخت زينب بنت جحش زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، المنافسة لـ عائشة في الخطوة عند رسول الله عليه الصلاة السلام، فلو قدر أن زينب هي التي شاركت لكان الأمر فيه بعض العذر، لا بعض الجواز؛ لكونها منافسة لـ عائشة، ولكن الورع عصمها، ولم تقل كلمة واحدة في عائشة.
لكن حمنة أختها انتصرت لها، والإنسان قد تغلب عليه العاطفة، فيريد أن ينفع غيره فيضر نفسه ويضر غيره، وربما لا يصل إلى ضرر غيره، كما فعلت حمنة، فـ حمنة لا علاقة لها بـ عائشة؛ إذ هي زوجة لـ طلحة، ولكنها أرادت أن تنصر أختها، فشاركت في النقل لعلها تصيب من ذلك نقصاً في عائشة، ولا تعتقد صحة ذلك؛ لأن الله قال: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ} [النور:15] فلا يوجد من ذلك شيء مستقر في القلب، ولكنها أرادت نصرة أختها، فنصرتها لأختها أعمت بصيرتها عما تنظر إليه.
ومن تلك الشخصيات مسطح بن أثاثة أبن خالة لـ أبي بكر، كان فقيراً مستضعفاً، وكان أبو بكر ينفق عليه، فشارك في قضية إشاعة الأمر، وهو بدري، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وليس المعنى: إنني قد أذنت لكم بالمعاصي.
إذ لو كان المقصود هذا لما عوتب مسطح هنا، ولما أقيم عليه الحد.
وأبو أيوب الأنصاري كان أحد الذين عصمهم الله هو وزوجته، فقالا خيراً، وقالا عن ذلك الإفك: هو الكذب بعينة.
ومنهم الجارية التي سألها النبي عليه الصلاة السلام، فبعض أهل العلم يقول: إنها بريرة، وبعضهم يقول: إن بريرة لم تكن بعد في عهدة عائشة، وكيفما كانت تلك الجارية فإنها امرأة عصمها الله، فقالت: يا رسول الله! أهلك ولا أعلم إلا خيراً.
وذكرت عن عائشة أنها امرأة تغفل عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله.
ومنهم أسامة بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان من الشخصيات الحاضرة في القصة، استشاره النبي عليه الصلاة السلام فقال: يا رسول الله! أهلك ولا نعلم إلا خيرا.
وعبارة (ولا نعلم إلا خيرا) تدل على كمال عقل، فهي ليست مفرطة في المدح، ولا تقارب الذم أبداً، ولكنها في نفس الوقت فيها شيء من التزكية، وهي عبارة لو استخدمها المزكون اليوم لكان ذلك جيداً.
ومنهم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، خاتم الخلفاء الأربعة، ورابع الحنفاء رضي الله عنه وأرضاه، وقد قال: يا رسول الله! النساء غيرها كثير.
وليس المقصود اتهام عائشة، ولكن علياً ليس كـ أسامة، فـ أسامة مولى لا يلحقه عيب لو وقع الأمر حقاً، أما علي فهو ابن عم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلاهما ينتسب إلى بني هاشم، فهو عصبة لرسول الله، والرسول صلى الله عليه وسلم عصبة له، فهو ينظر من باب أن الأمر يتعلق ببني هاشم وزوجاتهم، فأراد أن يغلق الباب، ويسد على الناس طرائق أقوالهم، ولم يرد أن يتهم عائشة، ولكنه ملف أراد أن يغلقه، وقضية لا يريد لها أن تثار، هذا هو المقصود من قول علي رضي الله تعالى عنه: (النساء غيرها كثير) يعني إن تعلق قلبك بها حباً، فتزوج غيرها ينسيك إياها، وانفك من مسألة أن يقدح الناس فيها، هذا هو مقصود قول علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقد قالت الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنها وأرضاها بعد سنين من هذه الحادثة: إن علياً لم يكن بيني وبينه إلا ما يكون ما بين المرأة وأحمائها، أي: قرابة زوجها.
فهذه هي الشخصيات التي يأتي خبرها في قصة الإفك، وهناك شخصيات غير مسماة، وهم عامة المؤمنين، وعامة المنافقين، ولكن هؤلاء أفراد مميزون جاء ذكرهم في القصة.
وقد وقعت الحادثة في غزوة المريسيع -غزوة بني المصطلق- في السنة الخامسة تقريباً، قبل دخول المدينة في منطقة تسمى العشيرة إلى الآن، تبعد عن المدينة قرابة عشرين أو ثلاثين كيلو متر، بعد الخروج من المدينة بطريق الهجرة الجديد، فهذا هو المكان، وهذا هو الزمان، وأولئك هم أفراد القصة.
أما القصة إجمالاً فحاصلها أن النبي عليه الصلاة السلام كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ابتغاءً للعدل، وفي هذه الغزوة جاءت القرعة لـ عائشة بقدر الله، فخرج عليه الصلاة والسلام بـ عائشة وأتى المريسيع، فحصل ما حصل من سبي وبعض قتال، واقتتال على الماء ومناوشة بين المهاجرين والأنصار أراد أن يثيرها عبد الله بن أبي، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهي القضية، فأمر الركب بالرحيل في غير ساعة يرحلون فيها، ففقدت أم المؤمنين عقداً كان عليها، والعقد هو ما يحيط بالعنق، يراد به الزينة، فإذا أحاط بالمعصم سمي سواراً، فإذا أحاط بالإصبع يسمي خاتماً.
فلما فقدت أم المؤمنين عقدها ذهبت إلى ذلك المكان الذي يرجى أن يكون فيه، وفي تلك اللحظات رحل الجيش، وكان هناك أناس مسئولون عن هودج أم المؤمنين، وكانت امرأة نحيلة؛ إذ كانت في قرابة الرابعة عشرة من عمرها، وقليلاً ما تأكل اللحم، ولم يمض على زواجها إلا ثلاث سنين أو أربع على الأكثر، فالهودج التي هي فيه، لا يكاد يختلف على أشداء الرجال، وإنما يختلف عندما يكون الذي يحمله ضعيفاً، ولكن أشداء الرجال الذين يحملون امرأة في الرابعة عشرة لم يظهر لهم فرق، فحملوا الهودج وهم لا يشكون في أن أم المؤمنين فيه، فعادت فلم تجد نبي الله عليه الصلاة السلام، ولم تجد القوم جميعاً، ولا يمكن لها أن تنطلق، فذهبت إلى شجرة في نفس المكان، فوضعت عليها لثامها وجلست، فغلبها النوم بقدر الله، وكان صفوان بن المعطل قد كلف بساقة القوم، فتأخر عن الجيش ليمضي قدر الله، فلما أتى إلى المكان الذي كان فيه الجيش وجد الجيش قد ذهب، وهو يعلم ذلك، ولكنه وجد خيالاً، فاقترب منه فإذا هو أم المؤمنين، وكان يرها قبل الحجاب، فعرفها، ولن تخفى عليه، إذ كان مجتمع المدينة صغيراً، وقد لا يعرف كل صغيرة وكبيرة، ولكن الإنسان لا يجهل أن تكون هذه امرأة فلان إذا رآها مرة أو مرتين، فاقترب منها، وألهمه الله تعالى أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وإذا أراد الله شيئاً هيأ له أسبابه، ومن أراد الله أن يرحمه فتح له طرائق الرحمة، وألهمه ما يقول، وأعانه على ما يفعل، وينبغي أن تعلم أنه ما يرفع شيء من الأرض إلى السماء أعظم من الإخلاص، ولا ينزل شيء من السماء إلى الأرض أعظم من التوفيق.
فلما سمعت عائشة استرجاع صفوان أفاقت على استرجاعه، فلم تتكلم، فأناخ الناقة، وركبت أم المؤمنين، ولم يكلمها ولم تكلمه، وهو يعلم قطعاً أنه سيتعرض للبلاء، أما هي فكانت صغيره في الرابعة عشرة، فربما لم يدر بخلدها أن يتكلم فيها.
وقبل أن يصل الجيش إلى المدينة أناخوا المطايا في عز الظهيرة في منطقة تسمى العشيرة الآن, وكانوا في منطقة مكشوفة، فإذا بـ صفوان يقبل وأم المؤمنين على ناقته، وهو يقود الناقة، فرآهما عبد الله بن أبي، فطار فرحا، فقال بصوت يسمع ولا يسمع -أي: يسمعه الضعفاء الذين لا يمكن أن يشهدوا ب(59/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم)
قال الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11].
قوله: (جاءوا بالإفك) أي: ابتدعوه؛ لأنه ليس له أصل، والإفك: الكذب، وهو أقبح الكذب؛ لأن الإفك هو القلب، كما قال الله جل وعلا: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53]، والمؤتفكة: قوم لوط، وسموا مؤتفكة لأن الله قلب عليهم بلدتهم فجعل عاليها سافلها، فـ الصديقة رضي الله عنها وأرضاها أهل لكل فضيلة، فكيف ينسب إليها أعظم شيء في الرذيلة؟! فهذا قلب للحقائق، ولهذا سماه الله جل وعلا إفكا فقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11]، والعصبة: الجماعة دون الأربعين.(59/4)
بيان معنى قوله تعالى (لا تحسبوه شراً لكم)
قال تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11].
كما قال تعالى في سورة القمر: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:3] فالعبرة بالنهايات، فالنقص في البدايات لا يدوم، بل العبرة بما استقر عليه الأمر، وهو المطلوب والمقصود، وقد استقر الأمر على براءة عائشة وصفوان قال الله تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:11].
وبعض العلماء رحمهم الله يقول: إن المقصود صفوان وعائشة، ولكن الله جمع من باب ما هو كائن في أساليب لغة العرب، وهذا بعيد، وإن كان هذا الأسلوب موجوداً في لغة العرب، ولكن لا يمكن حمل المعنى هنا عليه، بل المعنى أن الأمة كلها تستفيد من هذا الحديث، فأما الذين ظُلِموا في الإفك فهو رفع لدرجاتهم، وشرف لهم أن يذكروا في القرآن، وأن تنزل براءتهم في القرآن.
وأما الذين لم يذكروا من المؤمنين المعاصرين للحدث، أو المؤمنين الآتين بعد نزول الآيات، فإن في ذلك موعظة وأدباً لهم لاختيار هدي الله جل وعلا في تربية المجتمع، على أنه ينبغي أن يعلم أنه لا يوجد خير محض ولا شر محض، بل الأمور بالغالب، وأما الخير المحض ففي الجنة، والشر المحض في النار.
قال تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} [النور:11] أي: من الذين خاضوا في الإفك {مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11].
و (اكتسب) توافق (كسب) إلا أن العرب في فصيح كلامها تستعمل (كسب) في الخيرات، و (اكتسب) في الآثام.
قال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ منهم} [النور:11] أي: تولى أصل القضية وحرص على إذاعتها وتبنى إشاعتها {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] والمقصود به عبد الله بن أبي بن سلول.(59/5)
تفسير قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً)
وأما الآداب الناجمة عن الحدث فقد جاء تفصيلها بعد أن ذكر الله الحدث جملة وبين أن الأصل فيه أنه خير للناس، فقال جل ذكره: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12].
وكلمة (أنفس) هنا دلالة على أن المجتمع المسلم مجتمع واحد، وهذه طريقة القرآن كما قال تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات:11]، {اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:66].
وقوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] هذا الذي وقع من أبي أيوب الأنصاري.
وإذا كان الإنسان أصلاً يظن بنفسه الخير، فكيف الظن بأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها؟! قال تعالى: {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12].
أي: كان الواجب أن يقال: إن هذا إفك واضح ظاهر بين، لا أن يخاض فيه.(59/6)
تفسير قوله تعالى: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء)
وبعد أن خاطب الله جل وعلا المؤمنين بما ينبغي عليهم أن يفعلوه خاطب جل وعلا أولئك الذين تولوا الأمر، فقال الله تبارك وتعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13].
وقد بينا أن هذا مرتبط بأول القصة، لأن الله ذكر في أول السورة قضايا القذف، وأن القذف يشترط فيه أربعة من الشهود، وإنما استثنى الله جل وعلا من هذا الإجمال الزوج إذا رمى زوجته، وليس هنا زوج يرمي زوجته، وإنما هم أناس يرمون زوجة نبيهم.
فالاعتبارات والمعايير الشرعية المطلوبة هنا هي أربعة شهداء، حيث قال الله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13]، والكذب على الله أعظم الذنوب، ثم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الكذب على الناس.(59/7)
تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته)
قال الله جل وعلى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14].
(لولا) حرف امتناع لوجود، ويليها عند سيبويه المبتدأ، ويحذف خبرها غالباً، كما حرره ابن مالك بقوله: وبعد لولا غالباً حذف الخبر حتم وفي نص يميز ذا استقر وذلك كقولك: لولا زيد في هجر، أي: لولا زيد موجود في هجر.
فـ (فضل) هي المبتدأ، وجواب لولا هو قول الله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14].
أي أن الله جل وعلا رحمكم، وأعطاكم مهلة للتوبة، وعفا عنكم في كونكم لم تنكروا إنكاراً جلياً واضحاً على من خاض في الإفك، وإلا فإن ما وقعتم فيه أمر يستوجب أشد العذاب، ولكن رفع عنكم بسبب فضل الله جل وعلا ورحمته لكم.(59/8)
تفسير قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم)
قال الله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
معلوم أن الإنسان يتكلم بفمه، وهنا يقول تعالى: (وتقولون بأفواهكم) والحقيقة أن الله تعالى لم يريد أن يبين الجارحة التي نتكلم بها، إنما أراد أن يبين أن هذه الأمر لم يكن مستقراً في القلوب، ولا توجد له حقيقة، بل شخص ينقله وشخص يحمله وشخص يذيعه وشخص يزيد عليه، شأن أكثر الناس، وقد خاض في هذا الأمر كبار المنافقين، وبعض الصحابة، وقد عفا الله تبارك وتعالى عنهم، والكلام عن الصحابة -ولو أخطئوا- يجب أن يكون مقيداً بتعبير القرآن، ولا نقذف أنفسنا في أمواج لا نستطيع أن نواجهها، ونترضى عنهم أجمعين، فاللهم ارض عنهم.(59/9)
تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا)
يقول تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور:16] وهذا تأديب للناس {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16].
والأصل في التسبيح تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به، والمقصود بذكره هنا: سبحانك ربنا أن تكون زوجة نبيك امرأة فاجرة.
قال ربنا تبارك وتعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور:16].
أي: بهذا الإفك {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16].(59/10)
تفسير قوله تعالى: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله)
ثم يقول تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:17] ولا يكون العود لمثله إلا بقذف عائشة رضي تبارك وتعالى عنها أو قذف إحدى أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن.
ثم قال الله بعدها: {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:17].
فهل يجري هنا الحكم الجاري على ما ورد في السنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، فلو لم يكرم ضيفة لا ينفي عنه كل الإيمان، وكذلك قوله: (ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فلو زنى فإنه يبقى مؤمناً، ولكنه ليس كامل الإيمان، فهل هذا هو المقصود بالآية؟!
و
الجواب
هذا الذي عليه جمهور أهل التفسير، وذهب بعضهم إلى أن العودة إلى قذف إحدى أمهات المؤمنين كفر بالله، فجعلوا الشرط على مفهومه الواضح.(59/11)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة)
ثم قال الله تعالى: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:18 - 19].
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ} [النور:19] المحبة: شيء يقع في القلب، خفي كامن، فناسب أن يقول الله جل وعلا بعد ذلك: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
فقد يوجد بيننا من يحب الفاحشة، ومن يحب أن تنتشر، ولكنه لا يتصرف تصرفاً يدل على تلك المحبة المستوطنة في قلبه، فلا سبيل لنا عليه، بأن ننكر أو نؤدب أو نعزر، وربما بوأناه مكاناً قيماً، فنجم عن تبويئه ذلك المكان إفساده في الأرض؛ لذلك قال الله جل وعلا: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
فإذا كان الذين في قلوبهم محبة لإشاعة الفاحشة في المؤمنين قد توعدهم الله جل وعلا بهذا، فكيف بمن يحمل الأمر برمته، ويسعى في الناس -والعياذ بالله- بإشاعة الفاحشة، كأرباب القنوات التي تبعث الشرور، وتنشر الفجور، أو أصحاب المجلات، أو أصحاب الصحف التي تنشر المحرمات، فهؤلاء يدخلون في هذا من باب أولى.
وكذلك الذين يحبون أن يقيموا أسواقاً أو غيرها يقصدون من ورائها أن يكون هناك نوع من الفاحشة ظاهر، واختلاط بين الرجال والنساء، ودعوات إلى الفجور، فهؤلاء يدخلون بصورة أولية في قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].(59/12)
تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم)
ثم قال الله جل وعلا: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:20].
وقد قال تعالى في الآية الأولى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ} [النور:14]، وهنا لم يذكر جواباً، فجواب (لولا) هنا محذوف لم يذكره الله جل وعلا، واختلف العلماء في تقديره، والأظهر: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لهلكتم.
وبعض أهل العلم يقول: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لشاعت الفاحشة وذاعت، ولكن الله جل وعلا برحمته بكم منع الفاحشة أن تشيع.(59/13)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان)
ثم قال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21].
بعد أن بين الله جل وعلا أن الفاحشة لا يجوز نشرها ولا محبة نشرها، بين جل وعلا أن السبيل إلى الخلاص من إشاعة الفاحشة عدم اتباع خطوت الشيطان؛ لأن في اتباع خطوات الشيطان وصولاً إلى الفواحش.
والمقصود بخطوات الشيطان: طرائقه ومسالكه وما يدعو إليه، هذا المقصود بخطواته، و (خطوة) تفتح فيها الخاء إذا كانت مفردة، فإذا جمعت ضمت الخاء كما هو نص القرآن.
فالله تعالى يقول: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] لأن الشيطان لا يدعو إلا إلى الفحشاء، والفحشاء تطلق على العمل الرذيل إذا كان فعلاً، أما إذا كان قولاً فإنه يسمى عوراء.
ومنه قول بعضهم في مدح أحد الفضلاء الصالحين: ولا استعذب العوراء يوماً فقالها(59/14)
تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد)
قال ربنا جل شأنه: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21].
العمل الزاكي هو العمل الذي يرضى الله عنه، وهو العمل الذي يجلب رضوان الله، والشخص المزكى هو من عمل عملا رضي الله عنه به، ولا سبيل إلى معرفة هذا، فلهذا لا نستطيع أن نزكي أحداً، ولا سبيل إلى معرفة رضا الله عن صاحب هذا العمل بذلك العمل، وعلى هذا يمتنع أن نزكي أحداً تزكية باطنة وظاهرة، ولكن عندما نحرر ورقة أو نقول قولاً في تزكية أحد فإنما نزكي ظاهره، ونكل سرائره إلى الله جل وعلا.(59/15)
تفسير قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة)
ثم قال جل شأنه: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} [النور:22].
أجمع المفسرون على أنها نازلة في حق أبي بكر، وهذه الآية تأخر نزولها، وعليه نعرف أنه لم تنزل هذه الآيات الست عشرة جملة واحدة، بدليل أن أبا بكر أولاً سكت ولم يتصرف، فلما نزلت الآيات ببراءة عائشة تصرف أبو بكر، فمنع إنفاقاً ورزقاً كان يسوقه إلى مسطح؛ لأن مسطحاً كان ممن شارك في القضية، وهذه ظاهر، والكل يعرفه، وإنما تكمن هنا فريدة من فرائد العلم، وذلك أن الله عاتب الصديق لما منع مسطحاً من رزقه، فقال أهل العلم ساجعاً: ما صنعه مسطح ينزل النجم من أفقه، فمنعه الصديق من رزقه، فعاتب الله الصديق في حقه.
أي: ما صنعه مسطح وتقول به ينزل النجم من أفقه، بمعنى: يحط من أي شرف، فمنعه الصديق من رزقه الذي كان ينفقه عليه، فعاتب الله الصديق في حق مسطح.
والفائدة من هذا ألا تكون سبباً في منع أرزاق الناس، فإذا أردت أن تؤدب أحداً فأدبه بأي طريقة كانت، إلا أن تمنعه رزقه؛ لأنه لو كان منع الرزق سائغاً لساغ في حق مسطح، ولكن الله جل وعلا عاتب الصديق فيه حين أقسم على أنه لا ينفق على مسطح، فقال ربنا تبارك وتعالى: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:22] وجمهور المفسرين على أن (يأتل) هنا بمعنى (يحلف): {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22] وهذه تزكية من الله للصديق؛ لأن الله ذكره في أولي الفضل.
ويلحظ هنا المعنى العظيم في تعبير القرآن حيث قال الله: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} [النور:22] وما قال: والنعيم، أو: الترف، أو: الثراء والغنى، وكلها مفردات قد تؤدي نفس المعنى، ولكن قال: (السعة) وكأنه يشير إلى أن يوسع على نفسه ويوسع على غيره.
قال العلماء: إن التقوى قرينة العفو، فالناس الذين فيهم خصيصة العفو قريبون من التقوى، فالعفو والتقوى متلازمان، وسيأتي تحرير هذا.(59/16)
الدلالة على كون الكبائر لا تحبط العمل
قال الله جل وعلا: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [النور:22].
والمقصود مسطح، وهذا دليل ظاهر بَيِّن على أن الكبائر لا تحبط العمل الصالح، إذا لو كانت الكبائر تحبط العمل الصالح لكان أولى المؤمنين بأن يحبط عمله مسطح؛ لأنه خاض في عرض أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضها، ومع ذلك اسماه الله جل وعلا مهاجراً، فأبقى الله جل وعلا على هجرة مسطح وجعلها عملاً صالحاً زاكياً له وأقرها ولم يحبطها، ففيه دلالة على أن الكبائر مهما بلغت لا تحبط العمل الصالح.(59/17)
دعوة إلى الصفح عن المسيء
قال الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22].
والخطاب لـ أبي بكر، وقد قال الله لنبيه في سورة أخرى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة:13].
قال العلماء: خاطب الله أبا بكر بما خاطب به نبيه حتى يبين للخلق أن الصديق ثاني اثنين.
فهذا استنباط ولكن لا أجزم به.
قال الله تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].
وهذه فيها ملاطفة من الله لـ أبي بكر، ففيها دعوة وفيها حجة، أي: أنت تريد العفو والمغفرة من الله، وكذلك الناس يريدون منك أن تعفوا عنهم، وأن ترزقهم، فعامل الناس بما تحب أن تعامل به.
فإذا أرادت أن تتعامل مع أحد فعامله بما تحب أن يعاملك الله جل وعلا به، ولا تستدر رحمة الله بشيء أعظم من هذا.(59/18)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات)
ثم قال جل شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23].
للعلماء في هذه الآية قولان: الأول: أنها عامة في كل قاذف، وهذا قول الجمهور، وهو الأظهر.
فإذا قلنا بأنها عامة في كل قاذف فإن معنى اللعن هنا إقامة حد القذف عليهم، فيصبح معنى اللعن هنا إقامة حد القذف عليهم.
والقول الآخر: الذي قاله بعض العلماء هو أن الآية في عائشة وأمهات المؤمنين، وأن المخاطبين بهذا الآية هم المنافقون، فقالوا: لعنهم في الدنيا بطردهم من رحمة الله، ولعنهم في الآخرة بعذاب النار.
فجعلوا هذه الآية خاصة فيمن قذف أمهات المؤمنين، ولذلك قالوا: لم يذكر الله جل وعلا بعدها توبة، فكون الله لم يذكر بعدها توبة قرينة تؤيد قول من قال: إنها في أمهات المؤمنين، ومن قال إنها عامة فلكون هذا هو الأصل في الخطاب الشرعي.(59/19)
حكم لعن المعين
وهنا مسألة تتعلق باللعن اختلف الناس فيها كثيراً، وهي لعن المعين، وأرجح الأقوال ما قاله الحافظ ابن حجر رحمة الله تعالى وحرره، وهو قول جيد لمن تدبره، وهو أن اللعن إذا أريد به الدعاء وإخراج الإنسان من رحمة الله فهذا لا يقع على معين، إلا على كافر مات على كفره، أما إذا أريد به شدة النكال وشدة التضييق عليه فإنه يجوز.
ومثال ذلك في رجل آذى المسلمين كثيراً في العصر الحاضر كـ شارون، فـ شارون لم يمت بعد، فإذا أردت بلعنه التشديد عليه والتضييق وشدة النكال فذلك جائز، وإذا أردت أن تدعو بألا يرحمه الله -بمعنى أنه يموت على الكفر- فذلك لا يجوز؛ لأنه ليس لأحد أن يذهب ليحدد جهة وقوع رحمة الله.
وهذا القول من ابن حجر قول محرر يحل إشكالاً قائماً في القضية، فجزاه الله خيراً وعفا الله تبارك وتعالى عنا وعنه.
ثم قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:23 - 24].
وهذا يكون يوم القيامة، وقد حررنا له قرائن كثيرة.(59/20)
تفسير قوله تعالى: (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق)
ثم يقول تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25].
ومحال أن يكون دين الكفار حقاً، فكلمة (دين) هنا معناها: الجزاء، فيصبح المعنى: يومئذ يوفيهم الله جزائهم الحق، وكيف يكون جزاؤهم حقاً؟ إن معاقبة المسيء على إساءته هي عين الحق، كما أن الإحسان إلى المحسن لإحسانه كذلك هو عين عين الحق.
ثم يقول تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26].
وللعلماء فيها قولان: قول يقول: إنها في الأقوال.
وقول يقول: إنها في المشاكلة.
ومعنى أنها في الأقوال أن الخبيثات من الأقوال تليق بالخبيثين والخبيثات من الرجال، والطيبات من الجمل المادحة المعبرة تعبيراً حسناً تليق بالطيبين من الرجال والطيبات من النساء، وهذا قول الجمهور.
وقال آخرون: إن من سنن الله الإلهية الملاءمة بين كل متفق، فالخبيثات من النساء لا يلائمهن إلا الخبيثون من الرجال، والخبيث من الرجال لا تلائمه إلا الخبيثة من النساء، والطيبات من النساء لا يلائمهن إلا الطيبون من الرجال، والطيب من الرجال لا تلائمه إلا الطيبة من النساء.
وهذا المعنى عندي أقرب، ولكن يرد إشكال عند الناس منعهم من هذا القول، حيث يقولون: إنك ترى الآن امرأة صالحة صوامة قوامة محسنة إلى أولادها، وزوجها فيه من الخبث والشرور ما الله به عليم، بل ربما يتاجر في المخدرات، ويسعى في المسكرات، فيكف تقول: الطيبات للطيبين بهذا المعنى؟ ونقول: يجب أن تفرق، وإلا فهذا القول فيه نوع من المجازفة؛ لأني لا أعلم أحداً نص بهذا التعبير، فينبغي أن يفرق بين حياة المعايشة وحياة الملائمة، فالزوجات الطيبات الصالحات المقترنات بأزواج مرتكبين للكبائر لا يكون هناك تلائم روحي بينهم، وإنما المرأة هنا صابرة من أجل بنيها، أو تحتسب تغيير زوجها.
وإذا كان الرجل هو الطيب والمرأة هي السيئة فإنه يمنعه من طلاقها خوفه على أبنائه، ولا توجد ملائمة روحية.
أما ما كان ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة فقد كان تآلفاً جماً وتلاؤماً تاماً، ومحبة قائمة بين الطرفين، ولهذا قيل له: من أحب الناس إليك فقال: عائشة فهذا الأمر يستبعد الإشكال القائم على أن الذي منعهم هو أن الواقع -وهو أعظم الشهود كما يقولون- يمنع أن يكون المعنى التلائم، وقلنا: يفرق بين التعايش وبين التلائم، وقد قال المتنبي: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدواً له ما من صداقته بد(59/21)
فضيلة قول: (حسبنا الله ونعم الوكيل)
وهنا فائدة عظيمة، وهي ما قالته عائشة عندما ركبت، وهو أمر لا يحتاج إلى أن تجربه.
يقولون: إن زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها كانت تنافس عائشة، وأحياناً يحصل بينهما تفاخر محمود، وعندما يحصل بين أمهات المؤمنين تحاور ينجم عن ذلك علم، فقد نشأن في بيت النبوة، فقالت زينب: أنا التي أنزل الله تزويجي من فوق سبع سماوات.
فقالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: وأنا الذي أنزل الله براءتي لما حملني صفوان بن المعطل على راحلته.
وهنا نسيت زينب المحاورة، فقالت: يا عائشة! ما قلت عندما ركبت الراحلة؟ فقالت: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل.
وهذا الأمر لا يحتاج إلى تجربة، فوالله الذي لا إله غيره إن هذه الكلمة تهد الجبال، فإذا أغلق عليك أمر فلن تجد مثل: (حسبنا الله ونعم الوكيل).
وأنا أعرف رجلاً صالحاً كان عنده طالب علم، فكان دائماً يوصيه بـ (حسبنا الله ونعم الوكيل)، وفي ذات يوم استقل الطالب هذه الكلمة، فعاتبه قائلاً: يا بني! (حسبنا الله ونعم الوكيل) تهد الجبال.
فكل واحد منا إذا وقع في معضلة أو رأى شيئاً أقبل عليه مما لا يطاق، فليعتصم بقول (حسبي الله ونعم الوكيل)، فإنه لن يكفيك أحد مثل الله، ولا وكيل بعد الله، جعلنا الله وإياكم ممن توكل عليه فكفاه، واستهدى به فهداه.
فهذا ما تيسر إيراده وأعان الله على إملائه، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(59/22)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة النور [4]
من جملة أحكام سورة النور العظيمة إرشاد الله تعالى عباده وتأديبه لهم وذلك ببيان آداب دخول بيوت الآخرين، فقد بين تعالى ما يجب على الداخل فعله، وما يفعله من لم يُجب عند استئذانه، وما يحل دخوله بغير إذن من البيوت.
كما أن من جملة أحكامها أمر الله تعالى عباده المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار، وحفظ الفروج، وخص تعالى المؤمنات بنهيه لهن عند إبداء الزينة لغير الزوج والمحارم، ولعلمه تعالى بقصور عباده -وإن امتثلوا- أمرهم بالتوبة صقلاً لقلبوهم وتحصيلاً لمغفرة ربهم.(60/1)
بيان صلة آداب دخول البيوت بالكلام عن الزنا وأحكام القذف
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فهذا هو الدرس الرابع من دروسنا في سورة النور، وقد بينا من قبل أنها سورة قد جمعت أحكاماً وآداباً، وكان الصحابة -كما هو المنقول عن عمر وعائشة - يوصون الناس بتلاوتها وتدبرها، وقد مضى الحديث في الدروس الأولى أكثر ما كان يتعلق بقضية فاحشة الزنا، فذكر الله جل وعلا أحكام فاعليها ومآلهم وحد القذف، ثم ذكر الله بعد ذلك براءة الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
وقد ناسب الكلام عن الزنا والفواحش أن يكون بعده آداب تبين للمؤمنين الطرائق المثلى للنجاة من تلك الفواحش، والقرآن مفزع أهل الملة يلجئون إليه؛ لأن الله جل وعلا جعل فيه خبر الغابرين وأنباء السابقين، وأحكاماً أنزلها على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
فلما كان الزنا بريده الخلوات والنظر والاطلاع على العورات، ناسب بعد ذلك أن يبين الله جل وعلا الطرائق المثلى والسبل العليا في غض البصر وحفظ الفرج وسلامة البيوت وستر العورات؛ حتى يكون المؤمنون على بصيرة من أمرهم.
والرب جل وعلا يقول في كتابه العظيم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، ومن أراد أن يبين للناس الحق ويدلهم على الرشد فإنه لا يستحيي من أمر دون آخر، وإنما يكشف الأمور بجلاء، وكذلك القرآن تنزيل رب العالمين جل جلاله، فقد يقول قائل: كيف يتكلم الله عن العورات، وكيف يتكلم الله عن البيوت، وكيف يتكلم الله عن المحيض؟! والجواب أن هذا الكتاب جعله الله جل وعلا هدى بين فيه للناس ما يهمهم في أمر دينهم ودنياهم.
ولما كان يوم القيامة يوم حساب ويوماً تعرض الأعمال فيه على الله كان حقاً على الله من قبل ذلك -ولا ملزم لله- أن يبين لخلقه كل أمر؛ حتى يكون الحساب على ذلك، قال الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115].(60/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم)(60/3)
كرامة المؤمن على الله
والآية التي نحن بصددها هنا هي قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27].
فالياء حرف نداء، والمنادى هم الذين آمنوا، والنداء بـ (الذين آمنوا) يسمى نداء كرامة، في حين أن النداء بقوله: (يا أيها الناس) أو: (يا بني آدم) نداء علامة بحسب ما اتصفوا به، فـ (يا أيها الذين آمنوا) نداء كرامة، والمؤمن كريم على الله.
ومن أعظم الدلائل على أن المؤمن كريم على الله ما روي من أن خلف بن عمرو قرأ على أحد الصالحين القرآن، فلما وصل إلى قول الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] بكى الرجل الذي كان يقرأ عليه القرآن، فقال له: ما يبكيك؟ فقال: يا خلف! انظر كرامة المؤمن عند الله، نائم على فراشه وتستغفر له حملة العرش!(60/4)
المراد بإضافة البيوت في قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم)
قوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27] الملكية هنا ليست مراده، فقوله تعالى: (غير بيوتكم) أي: غير التي تسكنون، وهذا واقع في هذا العصر، فإضافة البيت هنا ليست إضافة تمليك، والمقصود البيت الذي تسكنه، فالبيت الذي تملكه إذا أجرته من غيرك فسكنه فإنه لا يعتبر في عرف الآية ودلالتها بيتاً لك، فالله يخاطبك فينهاك عن البيوت التي لا تسكنها، بصرف النظر عن تملكها، وكونك في بيت ملك أو في بيت مستأجر، فالعبرة هنا بالسكنى.(60/5)
بيان المراد بالاستئناس
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] (حتى) تأتي لابتداء الغاية، وتأتي لانتهاء الغاية، وقد قال أحد النحاة: أموت وفي نفسي شيء من (حتى)، وأظنه أبا عمرو بن العلاء، فقد درس النحو وتعمق فيه، وكان من الأقدمين من شيعة سيبويه الأولين، يقول: أموت وفي نفسي شيء من (حتى)؛ لأن ما بعدها يصلح له كل شيء، فلم يستبن له الأمر فيها.
فـ (حتى) هنا لانتهاء الغاية أو لابتدائها، وهذا كله يظهر حسب سياق القرآن.
فقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] هذا أدب رباني يعلم الله فيه المؤمنين، ولكن الإشكال قائم عند العلماء في معنى الاستئناس، فالسلام معروف، واختلفوا في الاستئناس، فقال قوم: الاستئناس هو الاستئذان نفسه.
وقال آخرون: إن الاستئناس أن تحدث صوتاً قبل أن تستأذن، كأن تتنحنح أو ترفع من صوت سيارتك إذا قربت، أو تغلق بابها بقوة لتشعر أن هناك رجلاً قادماً.
والعلماء يقولون: إن الاستئذان ثلاث مرات: فالمرة الأولى حتى لينصت أهل الدار، والمرة الثانية ليستصلحوا، ويغيروا في أثاث البيت، والمرة الثالثة ليأذنوا أو ليقولوا لك: ارجع.
وبعض العلماء يقول: إن الاستئناس لا هذا ولا ذاك، وإنما هو ضد الاستيحاش، والاستيحاش: الوحشة، والقادم على أي دار يجد في نفسه وحشة وغربة، فهل سيقبله أهلها أم لا، فإذا قبل زالت عنه تلك الوحشة، ولذلك كان حرياً بمن يستقبل أن يقول: مرحباً أهلاً وسهلاً، فغربتك تشفى بكلمة (أهلاً)، أي: وجدت لك أهلاً يذهبون عنك الوحشة، فهذا هو الذي دفع أقواماً إلى أن يقولوا: إن الاستئناس هو من الأنس وإبعاد الوحشة.
يعني: لابد أن يتبين لك أن أهل الدار راغبون في استقبالك أو غير راغبين، فإن فهمت منهم -ولو أذنوا- أنهم غير راغبين؛ فالأولى والأحرى أن تنصرف.
وهذه المعاني لم تتعرض لها الآية، ولكنها استنباطات العلماء، وفرق بين النص وبين تعليق العلماء على النص، فالتقديس يذهب إلى النص، وعدم التقديس يذهب إلى غير النص.
نقول: ويدل على أن معنى الاستئناس ما ذكره قول الله جل وعلا: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29]؛ فإن موسى عليه السلام كان في حالة وحشة، فلما رأى النار ورأى النور زالت تلك الوحشة، كإنسان غريب ضائع تائه في صحراء مظلمة يخشى ويستوحش، فحين يرى عن بعد شيئاً ما تزول عنه تلك الوحشة تدريجياً.
قال تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] أي: أهل الدار، وقد قلنا: إن الاستئذان قد دلت السنة على أنه ثلاث، كما في حديث عمر لما استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وقد اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه في تلك المشربة، فإنه بعث عبداً يستأذن النبي عليه الصلاة والسلام، فرده مرتين فلم يجب وفي الثالثة قبله.
قال تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27].
أي: هذا التشريع الرباني والنص الإلهي والأدب القرآني خير لكم، ولابد من أن يكون فيه خير؛ لأنه من عند الله، والتذكر والتبصر لا يكون إلا بتعاليم الكتاب وتعاليم السنة.(60/6)
ذكر قصة عمر في الاستئناس
وتذكر في هذا الباب قصة عمر رضي الله تعالى عنه في قضية الاستئناس والاستئذان، وذلك عمر رضي الله تعالى عنه مر على حائط فيه فتية من الأنصار يشربون الخمر، فتسور الحائط بعد أن تبين له أن هناك سكارى خلفه، فداهمهم وأنكر عليهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين! قد جئنا بواحدة -وهي شرب الخمر- وجئتنا بثلاث: وهي أنك تجسست، والله قد نهى عنه، وقال الله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] ولم تستأنس، وقال: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189] وأنت تسورت علينا الحائط، فرجع عنهم وهو يقول: كل الناس أفقه منك يا عمر.
وقد قيل: إن عمر رضي الله تعالى عنه قبل قولهم من باب أنهم استندوا إلى القرآن، ومن علامة التقوى أن يقبل الإنسان الأمر الرباني ولو جاء من أقل منه، وقد قال حافظ رحمه الله تعالى يصور هذا الموقف: وفتية أولعوا بالراح فانتبذوا لهم مكاناً وجدوا في تعاطيها ظهرت حائطهم لما عَلِمَت بهم والليل معتكر الأرجاء ساجيها قالوا مكانك قد جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث لا تباليها فأتِ البيوت من الأبواب يا عمر فقد يُزَّنُّ من الحيطان آتيها ولا تجسس فهذي الآيُ قد نزلت بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم لما رأيت كتاب الله يمليها وما أنفت وإن كانوا على حرج من أن يحجك بالآيات عاصيها فما دام أن من يخاطبك ويجادلك يخاطبك بهذا النور المبين فإنه يجب عليه أن تقبله، ولو كان هو لا يعمل به؛ لأنه قد أقام الحجة إليك ودعاك بهذا القرآن.
وهذه القصيدة تسمى بالعمرية، وهي موجودة في ديوان حافظ في أكثر من مائتي بيت، كنا نحفظها في زمن الصبا وقد قسمها حافظ باعتبارات جملة أحداث، فقد قال في قصة نصر بن حجاج، الذي كان وسيماً فنفاه عمر إلى الكوفة أو إلى البصرة: جنا الجمال على نصر فغربه عن المدينة تبكيه ويبكيها ثم ذكر الأبيات.
وذكر قضية رسول كسرى حين قدم على عمر فقال في أولها: وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها ثم لما قال صاحب كسرى: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر، قال حافظ: أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها وفي تاريخ عمر عزله لـ خالد، فقال: سل قاهر الفرس والرومان هل شفعت له الفتوح وهل أغنت تواليها وذكر عمر وجوعه في عام الرمادة، فقال: يا من صدفت عن الدنيا وزينتها فلم يغررك من دنياك مغريها وقد استطردنا في هذا وإن كنا في كتاب التفسير، ولكن المنهج في تعليمنا للناس هو أننا نفرع كثيراً؛ حتى نبين أن جماع التفسير هو العلم بشتى الفنون، فذلك يقودك إلى أن تكون إماماً في التفسير، وأما من كان معتمداً على فن واحد دون سواه فقل ما يستطيع أن يجري في مضمار علم التفسير؛ لأنه إذا كان القرآن أم العلوم كلها فلابد من أن يكون القائم به مطلعاً على شتى الفنون، قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: بل السنة كلها في آية واحدة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].(60/7)
بيان معنى قوله تعالى (فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها)
قال ربنا جل وعلا: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور:28] يعني: البيوت، ولم يقل الله: (فإن لم يكن) بل قال: (فإن لم تجدوا)، فبين الجملتين فرق، فلو قال جل وعلا لو قال جل وعلا: (فإن لم يكن) فمعنى ذلك: أن البيت لا يوجد أحد فيه، ولكن لما قال: (فإن لم تجدوا) فمعنى ذلك أنه قد يكون فيه أحد، ولكنه لم يتبين لك هل فيه أحد أو لا، فإذا أتيت إلى بيت أحد أصدقائك فطرقت الباب وهم موجودون، فهم إما نائمون وإما منشغلون، وإما سمعوا الطرق ولا يريدوا أن يجيبوا، فلا تدري هل هم موجودون أو لا، فبعد طرقة أو طرقتين أو ثلاث تكاد تقتنع بأنهم غير موجودين.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا} [النور:28]، فلو قدر أن رأيناها مفتوحة فإننا لا ندخل؛ لأنها مغلقة بأمر الشرع لا بالمفتاح، وهو قول الله جل وعلا: {فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور:28]، فالبيوت عورات، فلا يجوز لأحد أن يقتحمها، وإذا استضافك أحد في قعر البيت فلا تلتفت ميمنة ولا ميسرة ولا تنظر فيما لا يعنيك، بل ادخل مطأطئاً رأسك غاضاً بصرك حتى تصل إلى المكان الذي أدخلك فيه.
والإنسان إذا كان في سلطان أحد فإن من الأدب الإلهي والنبوي أن يأتمر بأمر ذلك الذي بيده السلطان، بمعنى أن صاحب البيت أدرى أين يضعك، فلو وضعك في صدر المجلس فاجلس فيه، ولو وضعك في ميمنة أو ميسرة فاجلس حيث وضعك؛ لأنه أدرى بالمكان.(60/8)
ذكر أحوال الاستئذان ورده
قال ربنا جل وجلاله: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28].
قال أحد الصالحين -كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير -: قضيت عمري كله أطرق أبواب الناس، أريد أن يقول لي أحد من أصحابي: ارجع حتى أظفر بقول الله: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28].
وبعض الناس اليوم لا يفقه هذه المعاني العظيمة في القرآن، فلو قيل له: ارجع لأخرج جواله مباشرة فبعث عشرات الرسائل لأصدقائه يخبرهم أن فلان بن فلان طرقت بابه فقال لي: ارجع، مع أن رب العزة يقول: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] فلأن ترجع خير من أن تقف بباب أحد لا يريد منك أن تدخل.
فالكريم لا يدخل إلا في مجالس له فيها مقام، وأما الأماكن التي لا تليق به أو لا يريد أصحابها أن يدخلها أو يأتيها أو يزورها فهو ينأى بنفسه عنها، وفي الأرض منأىً للكريم عن الأذى.
وفي بيت لأحد علماء شنقيط يقول فيه: وما حر يقيم بأرض هون ولو كانت مقر الوالدين لأن الإنسان المتأدب بأدب القرآن لا يقبل أن يدخل مكاناً ليس له فيه مقام، والعامة يقولون في أمثالهم الدارجة المقبولة: من يأتي بلا عزومة يقعد بلا فراش.
والمقصود بيانه أن الإنسان لا يذهب إلا على بينة، وهذا يختلف باختلاف العادات والتقاليد والأعراف وحالة أصحابك وخلانك.
قال الله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] الأمر بالرجوع له ثلاث حالات: الحالة الأولى: الحالة الصريحة التي نص عليها القرآن، وهي أنه يقول لك: ارجع، بصريح الخطاب.
الحالة الثانية: ضمنية، وهي أن تستأذن فلا يؤذن لك، فيأتيك من بعثته ويقول: قلت لهم: فلان عند الباب فما ردوا.
الحالة الثالثة: ضمنية، وهي أن يكونوا موجودين فلا يجيبونك.
فالحالة الثانية قد يكون فيها غموض، كأن تجد حارساً على باب العمارة، فتبعثه فيعود، ويقول: قلت: فلان عند الباب فما تكلم أحد.
وفي الحالة الثالثة تطرق الباب ثلاث مرات، ويكون موجودين، ولكنهم لا يردون، فهذا رد ضمني.
أما الرد الصريح فهو أن يقول لك: ارجع، أو: لا أستطيع أن أستقبلك، فهذه هي التي قال الله فيها: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28].
قال الله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:28] أي: أن الله جل وعلا مطلع على كل شيء، فهو يعلم لأي شيء رد هذا وقبل ذاك.(60/9)
تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة)
ثم قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29].
قوله تعالى: (ليس عليكم جناح) أي: إثم، (أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم)، ليس المراد بالمتاع المتاع المعروف، المتاع هنا بمعنى: المنفعة، فالمتاع عند الإطلاق يأتي بمعنى المنفعة، كقوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء:77] أي: منفعة الدنيا قليلة.
فقوله تعالى: (غير مسكونة) أي: غير مسكونة سكناً أهلياً.
إذاً فأنت تسافر فتجد دورات مياه وفنادق واستراحات في الطريق، فهذه بيوت غير مسكونة، فلا يلزم فيها الاستئذان.
وقد كان المسلمون في العصور الأولى يبنون دوراً يرتاح فيها المسافرون، وتقيهم البرد والحر، وكان يبنيها أرباب الأموال، فهذه ليست ملكاً لأحد، فلا تحتاج فيها إلى استئذان.
ومثلها في عصرنا الفنادق ونحوها، ممن مر على فندق أو على استراحة، فإنه لا يحتاج إلى أن يطرق باب الفندق ليستأذن، إذ الفندق ما بني إلا لهذا، أي: أن تدخل من غير إذن؛ لأن هذا هو المقصود من بنائه.
ولذلك قلنا: إن المتاع عند الإطلاق يراد به المنفعة، فأي مكان فيه منفعة لك فلا يلزم فيه الاستئذان.(60/10)
حكمة التذييل بعلم الله ما يُبدى وما يُكتم
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور:29].
قال العلماء في التذييل: قوله: (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) هذا وعيد شديد من الرب تبارك وتعالى لأصحاب النوايا الخبيثة والسرائر البغيضة، المحبين للتطلع على عورات المسلمين.
فقال ربنا مهدداً لهم ولغيرهم: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور:29] يقال: بدا الشيء: بمعنى: ظهر، والكتمان ضد البُدوّ، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران:30] والمقصود: الأشياء القلبية والأشياء الظاهرة.(60/11)
تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)
ثم قال ربنا تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30].
انتقل الخطاب في تأديب العباد إلى مرحلة أعلى، فقد منعنا ربنا من دخول البيوت من غير استئذان، ثم حرم النظرة المحرمة، وقد قيل: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا أنت كله قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر والمقصود أن النظرة سهم من سهام إبليس، فأراد الله أن يؤدب عباده فقال: (قل) أي: يا محمد (للمؤمنين) الممتثلين لأمر ربهم (يغضوا من أبصارهم)، وما قال: (ويحفظوا فروجهم).
فما شرعه الله لك وأباحه أن تراه أكثر مما حرم الله عليك أن تراه، فالمحرم العورات، ولكن النظر إلى غير العورات جائز.
وأما الفروج فالأصل فيها أنها حرام، فما أباحه الله لنا من الفروج أقل مما حرمه علينا، فلهذا قال: (ويحفظوا فروجهم).(60/12)
مفاسد النظرة المحرمة
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العين تزني وأن زناها النظر، ولا ريب في أن النظر أولى المهلكات، والإنسان إذا أكثر من النظر أتعب قلبه؛ لأنه لا يملأ فم ابن آدم إلا التراب، فما يزال يتنقل في المناظر ويرى ميمنة وميسرة، ولا ريب في أنه لا توجد امرأة إلا وهناك من هو أجمل منها، وهذا سلسلة لا تنتهي.
فالعاكفون في زماننا على القنوات في كل حقبة أو مدة أو يوم أو ليلة يظهر لهم شيء آخر، فيبقى الواحد منهم لاهثاً ولن يرتوي، ولهذا منع الشرع العباد من إطلاق العنان للنظر، بل إن الرجل -عياذاً بالله- إذا أكثر من النظر -كالذين يذهبون للسياحة الآثمة، فيذهبون إلى شواطئ العراة وأمثالها- فرأى منظراً تلو منظر فإن فعله هذا ينجم عنه مفسدتان: المفسدة الأولى: أنه سيزهد في أهله، وهذا خلاف المقصود شرعاً.
والأمر الثاني: أنه يجعل في قوته نوعاً من التشتت، فلا يجمع عليه ذهنه؛ لانفكاكه وتفرقه في مجامع ما يراه.(60/13)
نسبية الجمال
وينبغي أن يعلم أنه ينبغي للعقلاء من الرجال أن يعلموا أن القضية الأساسية في جمال المرأة قائمة على حسب ما تكون في عين زوجها، بمعنى أن الإنسان قد لا تكون امرأته ذات جمال يضرب به المثل، ولكن الله جل وعلا يزينها في عينيه، كما أن الله يزينه -ولو لم يكن وسيماً- في عينيها.
وقد كنت أوصي الشباب عند زواجهم بأن يقول المرء منهم: اللهم زيني في عينيها وزينها في عيني، فإنها إذا زينت في عينك زينك الله في عينيها أفلحتما، بصرف النظر عن الأشياء الجمالية البدنية الخلقية، فالجمال له علاقة كذلك بالجمال الروحي، فإن هذا مما يزين صاحبه، ونحن نعلم قصة قيس بن الملوح الذين فتن بـ ليلى العامرية وجن بها حتى هام على وجهه في الصحراء، فكل أهل زمانه يقطعون بأن ليلى هذه لن تكون أجمل نساء الدنيا، ولو كانت أجمل نساء الدنيا لما تركها له الأمراء والملوك وأهل الثراء.
لكن القضية أن الله جل وعلا زين ليلى في عيني قيس، وقد قال في إحدى قصائده التي تسمى المؤنسة: فيا رب إن صيرت ليلى هي المنى فزيني بعينيها كما زينتها ليا وقد خبروني أن تيماء منزل لليلى إذا ما الليل ألقى المراسيا فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت فما للنوى ترمي بليلى المراميا وتيماء ديار معروفة، والليل يلقي مراسيه في الشتاء، إذ يطول فيه، فهو يقول: هذه شهور الصيف عنا قد انقضت، فجاء الليل الطويل، ومع ذلك لم تعد ليلى إلى تيماء.
والمقصود من هذا أن الإنسان بهذه النظرة يفهم الشرع، فلا يأتيك من يأتيك ليزهدك في أهلك أو في فتاة خطبتها أو في قبيلة بعينها، فالقضية هي ما يورثه الله جل وعلا في قلبك من زينة تلك المرأة.
وهنا قال الله جل وعلا: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] لأن هذا واد مهلك، وأنت ترى من حولك ممن يتيه -والعياذ بالله- فيه ويضيع، وليته يغنم شيئاً محسوساً يعقد عليه أنامله؛ لأن هذا أمر لا ينتهي، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ولا يملأ فم ابن آدم إلا التراب)، فهو بطريقته هذه لن ينتهي ولن يبني قلباً خاشعاً ولا لساناً ذاكراً أبداً.
وقوله تعالى: (ويحفظوا فروجهم) اختلف العلماء في المعنى، فقال بعضهم: يحفظونها عن النظر إليها، وقال بعضهم: يحفظونها عن الزنا، والصواب أن يقال: يحفظونها عن الأمرين: عن أن ينظروا إليها، وعن الزنا.(60/14)
الطريق إلى الطهارة
قوله تعالى: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] هذا الطريق الذي رسمه الله جل وعلا لعباده -وهو حفظ الفرج مع غض البصر- هو السبيل إلى نقاء النفس وطهارتها وسموها، بدليل قوله تعالى: (ذلك أزكى لهم) أي: للمؤمنين، (إن الله خبير بما يصنعون).(60/15)
تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)
وكما أمر الله الرجال أمر النساء، وهذا خلاف أسلوب القرآن؛ لأن القرآن يجمع، ففي دخول البيوت ما قال الله: (للمؤمنات) لأنهن دخلن في الذين آمنوا، لكن لما كان أمر النظر أمراً عظيماً تبنى عليه مفاسد خاطب الله الرجال والنساء كلاً لوحده، فقال جل وعلا: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] وهذا قد مضى القول فيه كما قيل في الرجال.(60/16)
بيان المراد بالخمار
قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31].
هذا فيه تفصيل على ما سيأتي، والخمار: يجمع على خمر، وهي ما تغطي به المرأة رأسها، ككتاب: يجمع على كتب.
وأما الجيب فهو الفتحة التي تدخل منها رأسك في الثوب.
وليس المراد الجيب الذي نضع فيه دراهمنا، فهذا ليس في كلام العرب، وهو صحيح من حيث المعنى، ولكنه ليس مقصود القرآن، وليس من كلام العرب الذين أخذت عنهم اللغة.(60/17)
بيان الأمر بضرب الخمار على الجيب والنهي عن إبداء الزينة
قال الرب تبارك وتعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)، فالمرأة كانت تغطي رأسها فأمرها أن يشمل الغطاء الرأس الجيب، فلا تظهر شعرها ولا صدرها ولا نحرها.
وقوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن)، قال القرطبي رحمة الله تعالى عليه: الزينة قسمان: خلقية ومكتسبة.
فيقول رحمه الله -وتبعه على ذلك بعض الفقهاء-: إن الخلقية أصلها الوجه، والمكتسبة ما يوضع من زينة خارجة عن أصل الخلقة.
ونقول -والعلم عند الله-: إن اللغة لا تساعد على هذا؛ لأن كلام الله دل على أن الزينة إذا أريدت في القرآن يراد بها غير الشيء المزين، بمعنى أنها منفكة، كما قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف:7] وما عليها هو النبات، فالنبات لا يقال له: أرض، فالمزين غير الزينة، ومنفك عن الزينة.
فكلام القرطبي له وجه من النظر، ولكن اللغة لا تساعده.(60/18)
بيان المراد بالظاهر من الزينة
وهذه الآية فيها إشكال في قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]، فقد اختلف العلماء في هذا اختلافاً كثيراً جداً، وسأحرر هنا ما أدين الله جل وعلا به، فأقول ما قاله ابن عطية رحمة الله تعالى عليه، فمعنى كلامه أن ظاهر الآية يدل على أن الله جل وعلا أمر المرأة بإخفاء نفسها بالكلية إلا ما ظهر منها بسبب حركة ضرورية، فذلك المعفو عنه للنساء.(60/19)
كشف الوجه وما يرد على المتشبثين بإجازته
فنحن نعتقد أن وجه المرأة لا يجوز إظهاره وإن قال فضلاء علماء أجلاء من الأمة لهم باع في العلم من السلف والخلف بأن قول الله: (إلا ما ظهر منها) المراد به الوجه.
ونقول استدراكاً: لا يمكن لنا ولا لغيرنا أن يرفع الخلاف في الأمة، ولكن نعقب بأمور لابد منها؛ لأن الأخيار من العلماء من السلف والخلف الذين قالوا: إنه يجوز كشف الوجه لم يقولوا بما يحدث في هذا العصر، أي: لم يقولوا بأن ستره محرم، ولم يقولوا بأن ستره بدعة، ولم يقولوا بأن كشف الوجه سنة.
ولم يقولوا: إنه يجوز أن تتزين المرأة في وجهها كما يحصل، بحجة أن وجه المرأة يجوز إظهاره، والأهم من هذا كله -وهذا بيت القصيد- لم أنه يقل أحد ممن يقول بجواز أن تكشف المرأة وجهها: إنه يجوز النظر إليه، وهذا يبطل صنيع كثير مما تراه.
كامرأة تقرأ الأخبار ولا يظهر منها إلا وجهها، فإذا سئلت عن ذلك قالت: هذا حجاب شرعي على قول طائفة من العلماء، فنقول: نعم، هو حجاب شرعي على قول طائفة من العلماء، ولكن أولئك الأخيار الذين قالوا بهذا إما أن يؤخذ قولهم جملة أو يترك جملة، فلم يقولوا بجواز أن تظهر المرأة بهذا الوجه على الناس جميعاً فيرونه، فهذا لم يقل به أحد، وإلا فلا معنى لقول الله: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم).
هذا الذي يجب أن ينبه عليه، ولكن الإنسان يغلب عليه هواه، فلا يأخذ الشرع بمأخذ حسن عن أهل العلم.
وعلى الجانب الآخر نجد أن عدم الفهم الصحيح لشرع الله قد يقابله أحياناً قول أقوام في علماء قالوا بأنه يجوز كشف الوجه، فيقولون فيهم قولاً شنيعاً من غير برهان، وهذا خطأ ليس ببعيد عن خطأ الأولين، فقد قال بالجواز علماء أجلاء لا مطعن في دينهم ولا علمهم ولا عقيدتهم، وإن كنا نرى فقهياً خلاف الذي يقولون، ولكننا لا نتهم مؤمناً في دينه؛ لأنه استبان له من دين الله ومن كتاب الله شيء لم يستبن لنا، على أنه تكاد الكلمة تكون مجتمعة اليوم على أن الفتن التي يعيشها أهل العصر تنبئ أنه من الخطأ العظيم أن يقول أحد اليوم بجواز نقل الأمة من أمر فاضل إلى أمر مفضول.
فلا شك في أن تغطية الوجه أمر فاضل بالاتفاق، وأن كشف الوجه أمر مفضول، وليس من النصح لله ولا لرسوله ولا للمسلمين أن يحاول أحد أن ينقل الأمة من أمر فاضل إلى أمر مفضول، على القول بأنه يجوز.(60/20)
تفاوت المحارم في الزينة المظهرة
ثم قال ربنا جل وعلا: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ} [النور:31].
هنا مسألة مهمة جداً، وهي فهم القرآن لابد معه من استصحاب أمور عقلية ونقلية، فالتمسك بالأمور الحرفية لا يؤدي إلى علم، بدليل أنه لو جاء إنسان وقال: يجوز للمرأة أن تظهر شبه عارية أمام أبيها، فهل يصح قوله؟!
و
الجواب
لا، وإن كان الله تعالى جعل الأب مذكوراً مع الزوج، ولابد من أن نفرق، فما أذن الله به للبعل غير الذي أذن الله به للأب، وما أذن الله به للأب غير الذي أذن الله به للخال والعم وابن الأخ، وما أذن الله به للخال والعم وابن الأخ غير الذي أذن الله به لغير أولي الإربة والطفل.
فكل بحسبه، وإلا تجرأ على كلام الله من لا يفقه فيه، وعلى الإنسان أن يستصحب أشياء عديدة، ولذلك قلنا: إن الشرع يؤخذ بنظرة كلية تعرف بها مداركه وطرائق العلم فيه قبل أن يتكلم الإنسان في دين الله، فليس القرآن معاني كلمات تقرأ وينتهي الأمر، بل القرآن أجل وأعظم من ذلك، وإلا لغاص في هذا العلم كل أحد، فنقول: هذه قضية يجب استصحابها وفهمها.
و (البعل) في لغة العرب هو السيد، ويطلق على الزوج، والآباء وغيرهم معروفون، لكن نلحظ أن الله ما ذكر الأعمام والأخوال، وقد قال العلماء: إنهم يجرون مجرى الآباء، وهذا اتفاق الأمة، فقد أجمعت على جواز إبداء الزينة للأعمام والأخوال.(60/21)
العورات بين العبيد وسادتهم من الأحرار
واستثنى الله جل وعلا كذلك فقال: (أو ما ملكت أيمانهن) وأهل العلم يقولون: إنه يجوز للذكر أن يرى أمته، فالأمة أن تبدي زينتها لسيدها، ولكن المرأة الحرة لا تبدي زينتها لعبدها، وإن قال بهذا طائفة، ولكنه بعيد.(60/22)
المراد بالتابعين غير أولي الإربة
وقوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور:31] يظهر من كلمة (التابعين)، أن هؤلاء ناس لا يدرون أين يذهبون، فهم ضعفاء عقلياً أو جسدياً؛ لأن أي تابع فيه ضعف، فإن قال قائل: أنا تابع لله، فهل في ضعف؟ فنقول: فيك ضعف بشري خلقي؛ إذ لولا الله لهلكنا، وتابع النبي صلى الله عليه وسلم ضعيف، فلولا سنته ما عرفنا الدين.
فهؤلاء يقول الله تعالى عنهم: (أو التابعين غير أولي الإربة)، فهو قوم يتبعونك فيدخلون معك الدار، ضعفاء عقلياً أو جسدياً، ليس لهم رغبة في النساء.
والإربة: الحاجة، ومنه قوله تعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] أي: حاجات أخر، أي: ليس لهم مطلب في النساء من قريب ولا بعيد، بصرف النظر عن السبب.(60/23)
بيان المراد بمن يحل له النظر إلى زينة المرأة من الأطفال
وقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] الطفل اسم جنس، وقوله: (الذين لم يظهروا على عورات النساء)، قيد لابد منه، فليس المراد أي طفل، فلا يؤتى بصبي قبل بلوغه فتكشف المرأة عنده وتأخذ راحتها في المضي أمامه والغدو، وإذا سألناها قالت: هذا ما بلغ خمسة عشر عاماً.
وإنما قال الله: (الذين لم يظهروا على عورات النساء)، وهذا تقديره في السابعة وفي الثامنة وفي التاسعة على الأكثر، أما إذا كان الفتى يميز ويفهم ويصف وينقل فلا يجوز للمرأة أن تبدي زينتها أمامه.(60/24)
نهي الله عن ضرب النساء بأرجلهن ودلالته على وجوب ستر الوجه
قال الله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] هذا كلام رب العزة، وهو دليل عظيم ظاهر لمن قال بأن تغطية الوجه عورة؛ إذ الساق -وهي ساق- أمر الله بإخفائها، ولم يأمر بإخفائها، فحسب، بل أمر بعدم إحداث صوت ما يوضع في القدم، وهو الخلخال، وما يوضع في اليد يسمى سواراً، ما يوضع في الإصبع يسمى خاتماً، ما يوضع في الرقبة يسمى عقداً.
فصوت الخلخال لا يجوز أن تظهره المرأة فيكون ذلك سبباً في تحريك شهوة الرجال إليها، والدين لا يفرق بين متماثلين ولا يجمع بين نقيضين، فلا يعقل أن يمنع الله المرأة أن تحدث صوتاً من خلخال قدمها ثم يأذن لها في أن تكشف وجهها.(60/25)
الأمر بالتوبة
قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
الخطاب هنا للمؤمنين والمؤمنات، والانتقال في الخطاب من المفرد إلى الجمع يسمى عند البلاغيين الالتفات.
فالله تعالى يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] فالتوبة وظيفة العمر، ولهذا قال الله: (جميعاً) ولم يستثن أحداً، ولما ذكر الله تبارك وتعالى هذه الأحكام علم جل وعلا أن عباده -وإن حرصوا على الامتثال بها- لن يخلوا من أن يقع منهم شيء، فدلهم جل وعلا على ما يجبر ذلك الكسر، وهو التوبة إليه، والتوبة إلى الله جل وعلا وظيفة العمر، وأفضل القربات، وهي مشروعة في كل آن وحين، بها يزدلف إلى الله ويتقرب إليه.
رزقنا الله وإياكم الاستغفار والتوبة والإنابة إليه أينما كنا وحيث ما ارتحلنا، وأسال الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يلبسنا وإياكم لباسي العافية والتقوى، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(60/26)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة النور [5]
اشتملت سورة النور على بيان جملة من الأحكام المتعلقة بالأرقاء، ومن ذلك الإرشاد إلى تزويجهم حال علم صلاحهم لإقامة بيوت الزوجية، وإرشاد مواليهم إلى تحريرهم من الرق عن طريق المكاتبة حال علم الخير في العبد أو الأمة وكفايته نفسه بعد تحريره.
كما اشتملت هذه السورة المباركة على ذكر عظم نور الله تعالى، وبيان مثل نور المؤمن الذي فطره الله عليه وأمده بنور الوحي والعلم، وذكر فطنة ابتغاء هذا النور المبارك والتماسه، وهي المساجد.(61/1)
تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم)
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فما زلنا -بعون الله تعالى- في تفسير سورة النور، سائلين الله أن يرزقنا وإياكم نوراً نهتدي به.
قال الله جل وعلا -وهو أصدق القائلين-: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
هذه الآية جاءت تبعاً لما قبلها، وما قبلها ذكر الباري جل وعلا فيه ما يدعو إلى غض البصر وحفظ الفرج وتحصين العورات، وقد جاء القرآن مسلسلاً ذلك الأمر بحسب أحوال الناس، فمنع الله جل وعلا دخول البيوت بلا استئذان، وأمر بغض البصر، ثم أمر بحفظ الفرج.
ولكي تكون هناك نواة لمجتمع مسلم كان لا بد من وجود أسرة، وبعض أهل الفضل والعلم يقول: إن هناك أمرين لا بد للإنسان من أن يطلع عليها شرعاً، وهما أحكام النكاح وأحكام البيوع؛ لأن الإنسان بحاجة إلى الغذاء الذي يحصل عليه عن طريق الأخذ والعطاء، وفي حاجة إلى أن تكون له أسرة، ويعبرون عن ذلك بالنكاح أو بالزواج، فيحتاج إلى أن يكون ذا علم بأحكام النكاح، وهذا من باب الجملة.
والرب جل وعلا هنا يقول: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور:32] وقوله: (أنكحوا) فعل أمر، ووجود فعل أمر لا بد من أن يكون معه مأمور، والمأمور بهذه الآية قطعاً وفق قواعد اللغة هم الأولياء والسادة، وليس كل أحد مأموراً بنفسه؛ لأنه لو كان كذلك لجاء الفعل: (وانكحوا) من غير همزة قطع، لكنه جاء هنا بهمزة قطع {وَأَنكِحُوا} [النور:32]، فهذا في المقام الأول يخاطب به الولي ويخاطب به السيد.
يقول ربنا جل وعلا: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] و (الأيامى) يدخل فيه الرجال والنساء، والأصل أن الأيم هي من لا زوج لها، أو فقدت زوجها، ثم استخدمت هذه اللفظة مجازاً أو استعارة، فأطلقت على الرجل والمرأة إذا كان أحدهما لا زوج له، والأصل إطلاقه على النساء، وهو الأكثر.
وقد جاء فيه قول الشاعر: وأزواج سعد ليس فيهن أيم وهو بيت قدح فيه في سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فدعا على من قال فيه هذا البيت فداهمه جمل شارد فقتله.
والشاهد كلمة (أيم) فالأيامى: جمع أيم، وهذا خطاب للأحرار، والدليل على أنه خطاب للأحرار أن الله قال بعد ذكر ما يتعلق بالأرقاء والمماليك من العبيد والإماء: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] أي: زوجوهم.
وقد اتفقت كلمة العقلاء على أن النكاح أفضل وأعظم المباحات ظهوراً، فالمباحات يتردد منها ما اتفق على أنه مباح، ومنها ما اختلف فيه، ومنها ما يدور حول الكراهة، ولكن الإجماع منعقد على أن النكاح من أفضل المباحات ظهوراً من حيث الحكم الشرعي، فقد جعله الله سنة من سنن الأنبياء والمرسلين، كما قال جل وعلا: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38].
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في حق من استحدث هدياً غير هديه: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) فالنكاح أعظم ما أباحه الله جل وعلا لعباده، ويترتب عليه مصالح عظيمة، وقد قال بعض الفقهاء: إن النكاح تدور عليه الأحكام الفقهية الخمسة، والعلم عند الله.(61/2)
بيان المراد بالصالحين من العبيد والإماء
قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، ونكاح الإماء والعبيد جاء مقروناً مقيداً بقوله جل وعلا: {وَالصَّالِحِينَ} [النور:32]، واختلفت كلمة المفسرين في المقصود بمعنى الصالحين هنا على قولين: فقال بعضهم: إن الصلاح المقصود به الصلاح الإيماني، بإتيان الطاعات واجتناب المحرمات، وهذا ظاهر الرأي.
وقال آخرون -وهو الذي أرجحه-: إن المقصود أنهم صالحون للنكاح، وصالحون لأن يرعوا أسراً، وصالحون لبيت الزوجية؛ لأن الصلاح الأول عام لا يمكن تخصيص الإماء والعبيد به دون الأحرار، لكن الثاني يحسن التخصيص به؛ لأن الإنسان إذا رأى في عبده قدرة على النكاح وإقامة بيت زوجية رغبه في ذلك الأمر، وإلا فالأصل أن يبقيه على ما هو عليه في نطاق العبودية.(61/3)
بيان المراد بقوله تعالى (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله)
قال الله جل وعلا: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] هذه الآية توافق ما كان عليه الناس آنذاك، فقد كانت العرب في جاهليتها كانت تخشى الفقر، وكانت تظن أن من أسباب الفقر كثرة العيال، فقال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31]، وقال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151].
والمقصود أنه في ظل هذا الجو الخائف من الفقر عند فتح باب الزوجية إذا كثر العيال وتغير الحال قال الله جل وعلا: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] والمعنى: أيها الولي! إن أتاك فقيراً يطلب نكاحاً وكنت تثق به في دينه وأمانته فلا يجعلنك كونه فقيراً ترده، بل زوجه، قال الله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].
ولا خلاف في أن الجملة شرطية، وأدوات الشرط تنقسم إلى قسمين: الأول: أحرف، وهي (إن)، والثاني: أسماء، مثل (متى) و (أين)، فهذه أدوات شرط لكنها أسماء، وأما (إن) فهي حرف.
وهذا الشرط اختلف الناس في فهمه، فهل المعنى أنه وعد من الله جل وعلا بأن المتزوج إذا كان فقيراً سيغنيه الله قطعاً، أم أن المقصود منه أنه لا يمنعنكم كونه فقيراً من أن تزوجوه؟ وهذا الذي تميل إليه النفس، وإن كان الأكثرون من أهل التفسير على الأول، ولهم حجج ظاهرة بينة.
أظهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الذين كان حقاً على الله أن يغنيهم ويعينهم، وهم: الناكح الذي يريد العفاف، والمكاتب، والمجاهد، وهذا قول نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقد وجه للقائلين بهذا القول سؤال، وهو أننا نرى واقعاً، وهو أن هناك من ينكح ولا يغنى، والواقع لا يمكن رده؛ لأن الواقع في عرف الفضلاء والعقلاء أعظم الشهود، والدين لا يمكن أن يصادم الواقع أبداً، وقد ألف شيخ الإسلام (درء تعارض العقل والنقل)، والمقصود بالعقل في المقام الأول الشيء المشهود الواقع؛ لأنه لا يمكن أن يطالب الناس بأن يتخلوا عن أعينهم وبصيرتهم ويمتنعوا عن قبول الشواهد التي يرونها عياناً.
فأجاب هؤلاء الفضلاء عن القول بأننا نرى من ينكح وهو فقير فقالوا: إن الإطلاق في سورة النور مقيد بنظائره في سور أخرى، كقوله تعالى: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28]، فقالوا: هذا القيد يسري على هذا.
ولكن صناعة الأصول تقتضي عدم حمل الإطلاق على هذا التقييد لاختلافهما في السبب، واختلاف السبب يمنع جريان أحكام الإطلاق والتقييد على منحى واحد، وفي المسألة أخذ ورد بين العلماء، ولكننا هنا نثير القضية بمجملها، ولا يلزمنا الفصل، ولكنني قلت: أختار أن المقصود من الآية أن المخاطب الولي، والمراد: لا يمنعنك فقر ذلك الرجل الطالب النكاح أن ترده لفقره؛ لأن الدنيا عرض زائل ولا ينبغي أن يمنعك ذلك.
ثم إن فضل الله واسع، ولا يعني ما قلناه أنه لا يعان، ولكن من الصعب أن نقول: إن هذا وعد من الرب تبارك وتعالى؛ إذ أسلوب المقطع في نفس الآية لا يساعد على القول بأن يكون ذلك وعداً من الله.(61/4)
تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنهم الله من فضله)
ثم قال جل شأنه: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33].
الألف والسين والتاء في قوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ} للطلب، أي: يطلبون العفة في حالة عجزهم عن تحقيق أمر النكاح.
والعجز هنا المقصود به العجز عن السبب في الوصول إلى فتح باب الزوجية، إما لفقر وهو الأظهر، وإما لحالة اجتماعية يمتنع من خلالها الناس أن ينكحوه، وأمثال ذلك.
ولا يمكن لنا أن نقيد ما أطلقه القرآن؛ لأننا إذا قيدنا ما أطلقه القرآن فلن نجعل هذا القرآن حاكماً على كل زمن، والأصل أن القرآن حاكم على كل زمن ومهيمن على كل كتاب.
وبيان ذلك أنه قد يخرج إنسان من السجن وهو شاب ثري عنده مال، ومع ذلك لا ينكح من أهله أو من قبيلته أو من أبناء جلدته، فلو جعلنا عدم الوصول للنكاح محصوراً في المال فماذا سنقول في هذه الصورة؟! هل نقول: إنها غير مذكورة في القرآن؟! فقول الله: {يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] جملة واسعة، بمعنى: إن كانوا فقراء فسيغنيهم، وإن كان هناك عارض آخر فسيزيل الله جل وعلا.
والمفسر للقرآن يحتاج إلى تأن واطلاع على أحوال الناس قبل أن يخوض في الحكم على آيات الله ويبين مراد الرب تبارك وتعالى منها.
يقول تعالى: ((وَلْيَسْتَعْفِفِ)) [النور:33] وطريقة الاستعفاف مفتوحة؛ لأن أحوال الناس تختلف، ولكن هناك طريقة منصوصاً عليها، وهي ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) أي: مانع.
والمقصود أن الإنسان أدرى بنفسه، فكل ما يستطيع أن يعف به نفسه فليفعله.(61/5)
الحث على مكاتبة الأرقاء
ثم قال ربنا: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] هذا استدراج، فلما ذكر الله العبيد والإماء في المقام الأول نبه جل وعلا على إحدى الوسائل التي يكون بها العبيد والإماء أحراراً، فقال ربنا: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ} [النور:33] أي: يطلبون {الْكِتَابَ} [النور:33] أي: يطلبون الحرية عن طريق المكاتبة، والأصل أن العبد وما ملك ملكٌ لسيده، فإذا كان هذا العبد صاحب حرفة تجر له مالاً فإن الله جل وعلا يضع له صورة من صور الخلاص من العبودية، ألا وهي أن يطلب العبد من سيده أن يكاتبه، والمكاتبة على وزن المفاعلة، وهي أمر يقع بين اثنين، فيقوم هذا العبد بصنعته تلك فيجمع مالاً في المقام الأول، ويمكن أن يستفيد مالياً من طرائق أخر، ثم يجعل هذه الأموال منجمة على أقساط تقدم لسيده يتفقان عليها وقتاً وزمناً، فإذا أتم العبد ما اشترطه عليه سيده أصبح بعد ذلك حراً.
قال ربنا جل جلاله يفصل ذلك كله: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:33] (من) مدغمة في (ما) وأصلهما (من ما)، وملك اليمين يكنى به عن الأرقاء الذين تحت أيدينا.
قال تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] أي: إن علمتم أن لديهم حرفة يستطيعون بها إذا أصبحوا أحراراً أن ينفقوا على أنفسهم، أما إذا لم تعلموا فيهم الخير فلا تجعلوهم عرضة لأن يكونوا أحراراً فيتكلوا على أوساخ الناس ويأخذوا من الصدقات وأمثالها، ويمتهنوا التوسل، لكن قال أهل العلم - ولا أعلم في هذا خلافاً -: لو فرضنا أنه لم يعلم فيه خيراً فإنه لا يوجد مانع من أن يكاتبه.(61/6)
بيان المراد بالخطاب في قوله (وآتوهم)
ثم قال ربنا: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33].
اختلفت كلمة المفسرين في المخاطب بقول الله جل وعلا: {وَآتُوهُمْ} [النور:33] على ثلاثة أقوال، وأجمعها أن نجمع بين الأقوال الثلاثة؛ لأن الآية تحتمل ذلك كله، فنقول: إن المخاطب به ولي أمر المسلمين والسيد وعامة الأثرياء وأصحاب الزكوات والصدقات من المسلمين.
أما ولي الأمر فيعين المكاتب من بيت مال المسلمين، وأما السيد فيعينه بأن يسقط عنه جزءاً مما اتفقا عليه، وأما أصحاب الثراء والمال فإنهم يعطونه من الزكوات أو من الصدقات.
وإجراء الكلام على هذا المنوال أفضل من تخصيصه؛ لأن الله أطلق، وقد قلت: من الصعب أن نقيد ما أطلقه الله.(61/7)
بيان معنى قوله تعالى (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء)
ثم قال ربنا: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33].
في هذه الآية نقول: لا يردن في ذهنك أن مجتمع المدينة في عهد النبوة كان البغاء فيه ظاهراً، فحري بتلك الحقبة زماناً ومكاناً أن يتحرر في أذهاننا أنها أفضل حقبة، وأن ذلك أمثل جيل وأكمل رعية، ولكن المراد هنا فئة من المنافقين كانت تسكن المدينة، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي، وكان لديه جاريتان يكرههما على البغاء، فورد أنهما شكتاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية رحمة بالفتاتين وتوبيخاً لـ عبد الله بن أبي.
فالله جل وعلا يقول تعريضاً: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33] فالله يقول له: كيف تفعل ذلك وأنت سيد؟! والأصل أن تحافظ على من تحت يديك فلا تكرههن على البغاء وهن لا يردنه وإنما يردن التحصن، وإلا فلو طلبت المرأة البغاء بذاتها فذلك لا يسمى إكراهاً، فالقيد هنا جاء مخاطباً للواقع، والقيد إذا جاء مخاطباً للواقع فلا مفهوم له.
ولو اعتبرناه قيداً له مفهوم لأصبح لزاماً أن نقول: يجوز أن يكون هناك بغاء من غير إكراه، لكن هذا القيد لا مفهوم له، كقول الله جل وعلا في حق ذاته العلية: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:117]، فلا يعني ذلك أنه يجوز أن تدعو إلهاً آخر لك فيه برهان؛ لأنه لا يوجد إله غير الرب تبارك وتعالى.
يقول تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33] المراد بالآية تلك الفتاتان على وجه الخصوص، ومن كان مثلهما ممن لم تأت النبي عليه الصلاة والسلام للشكوى، والمخاطب بسبب النزول يدخل دخولاً أولياً عند الجمهور، ومالك يرى أن دخول من نزل بسببهم الآية يدخل دخولاً ظنياً، وهذا لا يتضح هنا، ولكن يتضح في آية الأحزاب في قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] فهل تدخل في ذلك أمهات المؤمنين أم لا؟ قال في المراقي: واجزم بإدخال ذوات السبب وانقل عن الإمام ظناً تصب فقوله: (واجزم بإدخال ذوات السبب) هو مذهب الجمهور، (وانقل عن الإمام) يقصد مالكاً؛ لأن القائل مالكي (ظناً تصب) أي أن الإمام يرى أن دخولهم ظني في حين أن الجمهور يرون أن دخولهم قطعي.(61/8)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات)
ثم قال ربنا تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34].
لقد ذكر الله جل وعلا في القرآن الكريم براءتين: براءة مريم وبراءة يوسف، ثم ذكر الله في هذه السورة الكريمة سورة النور براءة عائشة، فهذا معنى قول الله: {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [النور:34] على الأظهر.
أما قول ربنا قبلها: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} [النور:34] وقوله جل وعلا: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34] فهو مطرد؛ إذ القرآن موعظة لكل مؤمن في أي زمان وفي أي مكان، وهذا ظاهر.(61/9)
تفسير قوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض)(61/10)
بيان عظمة نور الله
ثم قال الله جل وعلا: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
هنا نستشهد بقول لـ ابن القيم رحمه الله، والكلام إذا كان نفيساً حسن أن يستشهد به، بصرف النظر عن قائله، فإذا كان قائله قد عرف فضله وإمامته زاد ذلك الأمر قبولاً عندك وعند الناس.
قال ابن القيم رحمه الله: الله جل وعلا من أسمائه النور، ومن أوصافه النور، وحجابه النور، وكتابه نور، وشرعه نور، ورسوله نور، والجنة التي وعدها عباده نور يتلألأ.
وقال العلامة ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: نور السماوات والأرض حساً ومعنىً، فالذين اهتدوا اهتدوا بنور الله، والأرض والسماوات إنما تشرقان بنور الله، واستنار بنور الله كل شيء حتى العرش وأركان العرش، فالله جل وعلا نور السماوات والأرض حساً ومعنىً.
ثم ضرب الله المثل، وقد جرت العرب في كلامها على أن تضرب الأمثال، فأصابت ثلاثة أمور: إصابة المعنى، وإيجاز اللفظ، وحسن التشبيه.
وبتعبير أصح: نالت العرب بالأمثال أموراً ثلاثة: على أن من أصل العرب في كلامها أنها إذا قالت المثل لا ترى أن أحداً يملك الحق في تغييره، فالمثل يقال كما قيل أول مرة، كمثل: (الصيف ضيعت اللبن) فهذا المثل يقال بهذه الطريقة خاطبت به ذكراً أو خاطبت به أنثى، خاطبت به فرداً أو خاطبت به مثنى أو خاطبت به جماعة، ويقولون: إن أصله أن امرأة كانت تحت رجل طاعن مسن، ولكنه كان ذا مال، فأصرت عليه أن يطلقها، فطلقها في الصيف، فتزوجها شاب من بني قومها، ولكنه كان فقيراً، فذات يوم أمسيا هي وزوجها فقيرين، فرغبت في اللبن، فبعثت إلى زوجها الأول تطلبه لبناً، فلما وصل المبعوث المرسول إلى الزوج الأول قال له: إن فلانة تطلبك لبناً، فأجابه: (الصيف ضيعت اللبن)؛ لأن الطلاق كان في الصيف.
فأياً كان المثل فإنه يقال كما هو، والعرب لها أمثالها، والله جل وعلا ساق الأمثال في القرآن، وقال في خاتمة هذه الآية: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
وقد ضرب الله أمثلة كثيرة في القرآن، وقال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26].(61/11)
نورانية الرسول صلى الله عليه وسلم
يقول ربنا جل جلاله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] والنبي صلى الله عليه وسلم نور بنص القرآن، وقد جاء في مدحه عليه الصلاة والسلام في قصيدة كعب بن زهير بأنه نور عند من يقول بصحة نسبة قصيدة كعب بن زهير إليه، وهي قصيدة لا يملك أحد الجزم بصحة سندها، ولكن ذكرها عند أهل السير والأخبار والآثار وقبولهم لها يدل على أن لها أصلاً عظيماً، وكعب كان من عائلة مشتغلة بالشعر، وكانت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عداوة، فأهدر النبي عليه السلام دمه، فدخل المدينة وأنشد بين يدي رسول الله: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول تجلو عوارض في ظلم إذا ابتسمت كأنه منهل بالراح معلول كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً وما مواعيده إلا الأباطيل إلى أن قال: إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول وهذه رواية ابن قتيبة وأمثاله، وفي روايات أخر: إن الرسول لسيف يستضاء به والذي يعنينا الرواية الأولى؛ لأنها هي التي تتفق مع ما نحن فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم نور وما جاء به النور، وكان يسأل من ربه النور إذا خرج في ممشاه إلى الصلاة وإذا قام من الليل، كل ذلك ثابت عنه صلوات الله وسلامه عليه.(61/12)
مثل نور المؤمن
قال الله: {مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35] هذا تقريب {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] والمشكاة هي الكوة التي في الجدار {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ} [النور:35] وفي زماننا نطلق المصباح على الآلة كلها، وأما في لغة القرآن فالمصباح المراد به الفتيلة، وهذا ظاهر؛ لأن الله قال: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور:35] والفتيلة تقع داخل الزجاجة.
قال تعالى: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور:35] لصفائه ونقائه {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} [النور:35]، فالله يشهد أن هذه الشجرة مباركة، أي: كثيرة النفع {زَيْتُونِةٍ} [النور:35] وهذا بيان لنوع الشجرة؛ لأن الشجر المبارك كثير، فلما قال الله: {زَيْتُونِةٍ} [النور:35] عرفنا أنها شجرة الزيتون، وأهل التاريخ يقولون: إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان، ودعا لها بالبركة سبعون نبياً، وموطنها الأرض المقدسة في الأرض المباركة في موطن الأنبياء، فموطنها الأول في الشام.
فالله يقول: هذا الزيت يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، والشجرة الشرقية هي التي لا تتعرض للشمس حالة الغروب، والغربية عكسها.
وأما الشجرة التي تتعرض للشمس دائماً فهي التي لا تسمى شرقية ولا غربية، قال الله تعالى: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35].
ثم قال الله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] وخلاصة الأمر أن الكوة -المشكاة- هي قلب المؤمن، ويجتمع فيه نوران: نور الفطرة ونور الوحي والعلم من عند الله.
ففطرته ظاهرة عليه، وهذا معنى قول الله جل وعلا: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35]، وقوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] هو نور العلم والوحي والإيمان، على نور الفطرة.
قال تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] وذلك لئلا يقول قائل: إن الأمر واضح، فنحن سنهتدي إليه، فأخبر الله جل وعلا أنه ليس الأمر كذلك، وإن كان واضحاً جلياً، فقال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] والإنسان ينبغي له أن يدرك أن المقصود لا يطلب إلا بالرب تبارك وتعالى.
فهذا مجمل ما دلت عليه الآية.(61/13)
ذكر تفسير للآية غير مقصود بها
وبعض أهل العلم بنحو منحىً آخر في تفسير الآية، فيعدل عن ظاهر القرآن، فيقول: إن المقصود بالنور النبي صلى الله عليه وسلم، وإن المشكاة هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإن قول الله جل وعلا: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] المقصود به اليهود يصلون جهة المغرب، والنصارى يصلون جهة المشرق، فيقولون: قوله: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] أي: لا يهودياً ولا نصرانياً، وإن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ هذا من الشجرة المباركة التي هي إبراهيم لكونه أباً لأكثر الأنبياء.
وهذا القول من حيث معناه صحيح، فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس يهودياً ولا نصرانياً، وهو وارث إبراهيم ومتبعه، وهذا لا خلاف فيه، ولكن القول بأنه المقصود بالآية بعيد جداً، فلا بد من أن تكون هناك آلة متفق عليها في التعامل مع آيات الكتاب، ولا يحق لنا ولا لغيرنا أن نغير الآلة التي نتعامل بها في آيات الكتاب حتى نصل إلى مقصودنا، على أنه ينبغي أن يعلم أن المعاني أحياناً تكون صحيحة، ولكن الوصول إليها قد يكون بطريقة خاطئة، فلو أصاب إنسان في المعنى فلا يعني ذلك أنه أصاب في الطريقة التي يتوصل بها إلى المعنى.(61/14)
حصول نور الله في قلب المؤمن
قال ربنا: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] وقد بينا قضية المثل في القرآن، وأن الله جل وعلا ذكره في أكثر من آية من كتابه، ولما كانت الحاجة داعية إلى معرفة مظان هذا النور قال الله بعدها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36].
وبعض العلماء جعل قوله: {فِي بُيُوتٍ} [النور:36] معلقاً بالمشكاة، وتكلم عن المصابيح، ثم قال: إن هذا الكلام منتقض تاريخياً؛ لأن نسل النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فيه مصابيح، وهذا كله نرى أنه لا حاجة لنا إليه، فالآية تتكلم عن نور الهداية، ولهذا قال الله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].
فإذا كان الإنسان بعد ذلك قد رغب فيما عند الله وعلم أن الله هو الهادي حق له أن يبحث عن الأمكنة التي يجد فيها نفحات الله ونوره وهدايته، فقال الله جل وعلا: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36] وهي المساجد.
وبعض العلماء يقولون: إن كلمة (بيوت) محصورة في المساجد الأربعة التي بناها الأنبياء، وهي المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي، ومسجد قباء.
فهذه الأربعة بناها الأنبياء، والصواب أن يقال: إن الأمر على إطلاقه، فالمساجد كلها بيوت الله، سواء بناها الأنبياء أو بناها غيرهم.(61/15)
عمارة المساجد بالبناء
قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] نبه الله جل وعلا على أمرين: عمارتها مادياً وعمارتها معنوياً.
فعمارتها مادياً بتشييدها وبنائها وحفظها عما يضر بها.
وعمارتها معنوياً بإقامة ذكر الله جل وعلا فيها، والثاني هنا أشرف من الأول، وفي كل خير، ففي الحديث: (من بنا لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة).
وأول بيت وضع في الأرض المسجد الحرام، ثم المسجد الأقصى، وجدده -أي: المسجد الأقصى- سليمان بن داود عليه السلام، وتزعم إسرائيل اليوم أن تحته هيكل سليمان.
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فدخل المدينة من جهة الجنوب بنى مسجد قباء في بني عمرو بن عوف، فكان أول مسجد أسس في الإسلام، ثم أتى بطن المدينة فبنى مسجده عليه الصلاة والسلام، ولم تكن تقام الجمعة إلا في المسجد النبوي، ثم جاءه عليه الصلاة والسلام وفد من الأحساء من هجر ثم ارتحلوا عنه، فصلوا الجمعة في محافظة في الأحساء تسمى جواثا.
وكثير من الفقهاء على أن ثاني جمعة أقيمت في الإسلام أقيمت في جواثا، لأنه لم تكن تقام الجمعة إلا في المدينة في مسجده صلى الله عليه وسلم، وأقيمت بعد ذلك في جواثا في الأحساء، وقد مررت بها، ولكن لم يتيسر لي أن أدخلها، وهي ديار علم وفضل، يقول أهلها يفتخرون: والمسجد الثالث الشرقي كان لنا والمنبران وفصل القول في الخطب أيام لا مسجداً لله نعرفه إلا بطيبة والمحجوج بالحجب يقصدون المسجد الحرام.
والمقصود من هذا تفصيل تاريخي عام عن المساجد في الأرض، ثم بنيت لله جل وعلا مساجد في كل مكان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً) وهذا دعوة صريحة صحيحة لأهل الخير والفضل للتسابق في بناء المساجد.(61/16)
عمارة المساجد بذكر الله
وأما عمارتها شرعياً ودينياً، فأعظم ذلك إقامة ذكر الله جل وعلا فيها، وهذا الذي قال الله فيه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} [النور:36] جل جلاله {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36] أي: ينزهه عما لا يليق به، ويحمده الحمد الذي يستحقه، ويثني عليه أقوام ركع سجد، قال الله عنهم: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].
وكلمة (رجال) هنا -وإن جاءت نكرة- مخصوصة بالوصف الذي بعدها، فالجمل بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات، وكلمة (رجال) نكرة، فجملة: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} [النور:37] وصف لكلمة (رجال) وقد قال بعض السلف -وينسب ذلك إلى ابن مسعود -: إن المقصود بالآية في المقام الأول أصحاب الأسواق.
قال الله تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} [النور:37] فما الفرق ما بين التجارة والبيع؟ إن التجارة هي العمل برءوس الأموال بحثاً عن ربح، فحين يقال: فلان تاجر عنده رأس مال فمعنى ذلك أن رأس ماله يتضاعف، أما البيع فهو أخص من التجارة، فلا يلزم كل أحد يبيع أن يريد ربحاً، فالإنسان قد تضطره مشاكله أحياناً إلى أن يبيع شيئاً غالياً نفيساً له عنده مقام أو ذكرى حميدة، فيبيعه بأقل من قيمته وهو لا يريد ربحاً، وإنما يريد مالاً.
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من رب بهن ضنين فهذا هو الفرق بين التجارة والبيع.
والمشهد يتحقق إذا رأيت أهل سوق، فإذا سمعوا المؤذن تركوا ما في أيديهم وتسابقوا إلى المسجد، وقد ورد أن ابن مسعود رأى أقواماً بهذه الصنيعة فقال: هؤلاء الذين عنى الله بقوله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].
فالآية -وإن دخل فيها هؤلاء الرجال دخولاً أولياً، وهم أهل الأسواق- لا تمنع دخول غيرهم، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وما عمرت المساجد لأكثر من أن يذكر الله جل وعلا فيها.
والغدو والآصال وقتان، ولكن يظهر لي أنه ليس المقصود حقيقة الوقتين، وإنما المقصود جملة الآناء من أطراف الليل والنهار.(61/17)
ذكر ما يجازى عليه بالإحسان من الأعمال
قال تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:37 - 38].
أعمال الناس على ثلاثة أقسام: عمل أذن الله به وأباحه ولم يأمر به، فهذا يسمى حسناً.
وعمل أمر الله به وتعبد خلقه به، فهذا يسمى أحسن.
وعمل نهى الله عنه وحرمه، فهذا يسمى قبيحاً مستهجناً.
فإذا كان يوم القيامة جوزي العباد على الأحسن، وبهذا تفهم معنى قول الله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38] ولا يأتين أحد فيقول: إن العبد يعمل عملاً حسناً وعملاً أحسن منه، فيكافئه الله على الأحسن، فهذا من غير أن يشعر نسب إلى الله الظلم، والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، ولكن نقول: إن هذا الذي صنفناه على أنه أحسن هو في ذاته مراتب عدة.
ولا يقتصر فضل الله على المجازاة على أعمالنا، بل قال الله: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38] جاءت منصوبة لأنها معطوفة على الفعل (يجزي)، والفعل (يجزي) جاء منصوباً؛ لأنه مسبوق بلام التعليل.
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38].
هذا بيان لفضل الله الرب تبارك وتعالى، وأن الله جل وعلا لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وقد تحرر معنا كثيراً أننا نقول: إن الله جل وعلا يقدم من يشاء بفضله ويؤخر من يشاء بعدله، ولا يسأله عن مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله.(61/18)
خلاصة ما سبق تفسيره
وخلاصة هذا الدرس أنه سلف ذكر آيات أحكام تكلمت عن النكاح وأحكام المكاتبة، ثم بين الله جل وعلا بآية فصلت بين القضايا الفقهية والقضايا الإيمانية بأن الله أنزل الله هذا القرآن موعظة ومثلاً.
ثم تكلم الرب جل وعلا عن نوره الذي ملأ أركان عرشه، ثم قرب هذا المثال للناس بشيء يرونه بين أيديهم وأذكر في هذا أن أبا تمام الشاعر العباسي المسمى حبيب بن أوس الطائي دخل على أحد الخلفاء فمدحه بقوله: إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس وهؤلاء كانوا من المشاهير في العرب فـ أحنف في حلمه، وإياس القاضي في ذكائهـ وعمرو في شجاعته، وحاتم في كرمه، وأي إنسان يظهر في بلاط الأمراء يكون له حساد، فقام أحد الناس يحسد أبا تمام وقد أصبح له مكان عند الخليفة، فقال: إن الأمير أكبر وأشرف ممن ذكرت، تصف أمير المؤمنين بأجلاف العرب! ومن يستطيع أن يقول في مجلس الأمير: إن هؤلاء ليسوا أجلافاً؟! فقال أبو تمام في ساعته يدافع عن نفسه: لا تنكروا ضربي له من دونه مثلاً شروداً في الندى والبأس فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراس وهذه تدل على ذكائه، ويقولون: إن الطبيب الكندي كان حاضراً، فلما فتشوا في أوراق أبي تمام لم يجدوا فيها هذين البيتين، بمعنى أن أبا تمام ارتجلهما مباشرة ليدافع عن نفسه، فقال: هذا رجل سيأكل الذكاء دماغه.
أو كلمة نحوها، فمات أبو تمام صغيراً في الأربعينات، فقد يكون هذا بسبب ذكائه كما يزعم هذا الطبيب، والأصل أنه بقدر الله، وقد يكون هناك أسباب أخرى لم يطلع عليها الطبيب.
وأياً كان فقد تخلص أبو تمام هنا تخلصاً عظيماً.
وإنك لتعجب ممن يأتيك أحياناً فيحاول أن يكتب شعراً، وهو لم يقرأ قرآناً ولا حديثاً ولا شعر العرب، فمن أين تأتي الدرر والمعلومات والألفاظ حتى تستطيع أن تحررها إلى أبيات؟ فهذا محال.
فعدم الأخذ بأسباب الشيء يحول بينك وبين الوصول، والله يقول عن ذي القرنين: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84]، فمن رام مجداً فلا بد له من أن يعلم أن لكل مجد طرائق وسبلاً توصل إليه، فيأخذ بها متوكلاً على الله جل وعلا ويرجو من الله التوفيق والسداد.
وأقول: إن الله جل وعلا ذكر المساجد وحرمتها، وبين أن أعظم ما يمكن أن يقال فيها هو ذكر الله تبارك وتعالى، فطر الله قلبي وقلوبكم على توحيده، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
فهذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وفي الدرس القادم -بإذن الله تعالى- سنعرج على أعمال الذين كفروا، ثم نذكر ما ذكر الله جل وعلا من دلائل قدرته وجليل صنعته في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43].
نسأل الله التوفيق والسداد والعون والقبول، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(61/19)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة النور [6]
تضمنت سورة النور بيان مآل أعمال الكافرين، إذ لم يقترن بها إيمان بالله تعالى ينفعهم، وضرب الله تعالى لهم في ذلك مثلاً لكبرائهم وآخر للأتباع والمقلدين.
كما تضمنت السورة بيان عظيم قدرة الله تعالى في سوق السحاب وإنزال المطر، وتقليب الليل والنهار، وخلق أنواع الدواب، مع ذكر إفراد الكائنات له تعالى بالتسبيح والتقديس الذي علمه تعالى وعلم غيره مما يفعلون.(62/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة)
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده، ونستعنيه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسع الخلائق خيره، ولم يسع الناس غيره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله شرح الله له صدره، ورفع الله له ذكره، ووضع الله عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فنشرع في تكملة ما كنا قد بدأناه في الدرس الماضي في سورة النور، وكنا قد ذكرنا نعت الله جل وعلا لعباده المؤمنين، ووعده إياهم بقوله: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212].
وفي هذا الدرس سنشرع في تفسير آيات أخرى.
يقول الرب تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].
هذا مثل ضربه الله جل وعلا لأعمال الكفار لبيان أنهم لا ينتفعون بها.
فهؤلاء المشركون كفرة، ولكن لديهم قدرة في المجادلة، ومن مجادلتهم أنهم يقولون: نحن لم نعكف في بيوتنا، بل لدينا أصنام نعبدها، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فإذا كان يوم القيامة سنجد حصيلة أعمالنا، فنحن نطعم كما تُطعمون، ونسقي كما تُسقون، ونفعل الخيرات، ونقوم بواجبات، فالله جل وعلا يصور حال تلك الأعمال التي اتكلوا عليها، فقال ربنا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39].
والقيعة: جمع لقاع، والقاع هو الأرض المنبسطة التي لم تعلها الجبال والآكام، فأصبحت واضحة مرئية، والسراب يسمى سراباً إذا لاح في أول النهار، وفي آخر النهار لا يسمى سراباً، بل يسمى (الآل)، والمعنى واحد، فهذا السراب يلوح لرائيه كأنه ماء، فإذا كان الرائي ظمآن فإنه سيتعطش للوصول إليه، ولهذا قال الله جل وعلا: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور:39].
أما غير الظمآن فهو يراه سراباً كما يراه غيره، ولكن لعدم وجود تعلق به لا يلتفت إليه، ولا يعطيه كبير اهتمام، فلهذا قال الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ} [النور:39] أي: جاء إلى ما كان يعتقد أنه ماء (فلم يجده شيئاً) وليته خلص لا له ولا عليه، ولم يتكلف إلا المجيء، ولكن الله قال موبخاً لهم: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:39]، فهو يزعم أنه لا رب ولا إله، وأن هذه الأعمال هي التي تنفعه، فيفعل الكافر المشرك تلك الأعمال، حتى إذا كان يوم القيامة لم يجد تلك الأعمال، كمن كان يبحث عن السراب، ولكن من يبحث عن السراب غاية أمره أنه لم يجد شيئاً، وأما هذا فقال الله عنه: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:39] أي: يوم القيامة {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39] أي أن الله جل وعلا لا يبطئ في حسابه إذا ظهر مقتضاه، وحسابه قد وقته الله جل وعلا أن يكون في يوم موعود محدود، كما قال تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:104 - 105].(62/2)
تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي)
ثم قال ربنا: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40].
(أو) حرف عطف بالاتفاق، ولكن هل هي للتنويع، أو للتخيير؟ والصواب أنها للتنويع، فإذا قلنا: إنها للتنويع فإنه لابد من إيجاد طرف ثان، فنقول: إن المثال الأول للأئمة من أهل الكفر، وأما المثال الثاني فلأتباعهم ومقلديهم.
قال الله جل وعلا: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40] وفي اللغة (لُجة): بضم اللام، وفيها (لَجة) بفتح اللام، واللجة: كثرة الأصوات وارتفاعها، ولا علاقة لها بالآية، وأما اللجة فهي معظم البحر، والبحر اللجي: هو البحر الكثير الماء البعيد القعر.
قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:40] أي: ظلم وجهل وكفر وعناد، فمثالهم كرجل في قاع البحار ومن فوقه موج والفرق بين الموج واللجة أن اللجة هي البحر نفسه، وأما الموج فما يخرج عن البحر ويرتفع، وهو شهير ظاهر.
قال ربنا: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور:40] وليست الظلمات في الموج والسحاب، وإنما هذا نظير مثال، فالظلمات هي كفره وجهله وعناده.(62/3)
بيان معنى قوله تعالى (لم يكد يراها)
قال تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40] أي: في هذه الظلمات كلها يحاول أن يخرج يده، فيخرجها؛ لأنها تتعلق بقدرته الذهنية، وبقدرته الحركية، ولا تتعلق بالرؤية، ولكن هل يراها أن لا؟ قال ربنا: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40] وتحرير المسألة أن (كاد) عند النحويين فعل من أفعال المقاربة، وأكثر المفسرين يقول: إن معنى (لم يكد يراها) أي: لم يقرب أن يراها، فكيف يراها؟! ولهم في هذا استدلال بأبيات ل ذي الرمة وغيره.
ولكن الصواب أن يقال: إن (كاد) فعل إذا أثبت دل على النفي، وإذا نفي دل على الإثبات، كما قيل: أنحوي هذا العصر ما هي لفظة جرت على لساني جرهم وثمود إذا استعملت في صورة النفي أثبتت وإن أثبتت قامت مقام جحود أي: مقام النفي والنكرة، وهذه اللفظة هي الفعل (كاد)، كما قال الله جل وعلا: {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15]، فالفعل مثبت، وقد أخفاها الله جل وعلا عيناً وقتاً، وقال: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18]، المهدي والدجال وعيسى، طلوع الشمس من مغربها.
فقوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40] معناه -بحسب فهمنا اللغة- أنه يرى شيئاً يسيراً منها، وهذه معضلة، إذ كيف يرى شيئاً يسيراً من النور؟! فهذا هو الذي جعلهم يقولون: إنه لم يقرب أن يراها، فكيف يراها؟! وأظن -والعلم عند الله- أن المقصود بالإظهار البين في النور اليسير من باب إقامة الحجة، أما الذي لا يرى بالكلية -كالمجنون والصغير وأمثالهم- فلا حساب عليه؛ لأنه لم تقم عليه حجة، والعلم عند الله.(62/4)
مغبة فقدان الهداية
قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
أي: كيف يراها، وكيف يهتدي، وكيف يبلغ مراده والرب جل وعلا لم يجعل له نوراً؟! وإنك لتجد رجلين من أب وأم واحدة يوفق أحدهما لأعظم الطاعات، ويغيب أحدهما عنها بالكلية، وقد اتفقا في منشئهما وتربيتهما وعرقهما، بل وفي الرحم التي خرجا منها، لكن جعل الله لأحدهما نوراً، ولم يجعل الله للآخر نوراً، فمن جعل الله له نوراً اهتدى، ومن لم يجعل له نوراً، ضل وغوى، والعياذ بالله.(62/5)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات ومن في الأرض)
ثم قال الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41].
هذا شيء مشاهد، و (من) للعاقل، وهنا ذكرت للتغليب، فقوله تعالى: {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ} [النور:41] يشمل الملائكة في المقام الأول، {وَالأَرْضِ} [النور:41] يشمل بني آدم، وكل من يدب على الأرض، وبقي الذي بينهما، ولهذا قال الله: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:41] لأنها ليست في السماء، وليست في الأرض، فهذا تخريج.
وقال آخرون: هذا ليس بتخريج، وإنما الطير داخلة في قوله جل وعلا: (من في السموات ومن في الأرض)، وذكرها تعالى لبيان أنها تسبح حال كونها صافات، ولهذا قال: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:41].
قالوا: فلو قال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ) من غير ذكر (صافات) لقلنا بالأول، ولكل من القولين ما يؤيده من حيث النظر.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41].
وهناك خلاف بين العلماء في فاعل (علم) والأكثرون على أن فاعل (علم) عائد على كلمة (كل) أي: كل واحد من هؤلاء علم صلاته وتسبيحه، وأما الرب جل وعلا فقال عن نفسه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41].(62/6)
تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض)
ثم بين جل وعلا عظيم ملكه فقال: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:189] أي: ليس الأمر مقتصراً على أمة في السماء تسبح، وأمة في الأرض تسبح، فليس ذلك هو حدود ملك الله، بل كل ما في الكون له، قال الله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:189].
ويجب أن يستقر في قلب كل أحد أن الله جل وعلا بيده مقاليد كل شيء، ورزق كل أحد عليه، ومصير كل شيء إليه، هذه القناعات اليقينيات المستنبطة من الكتاب والسنة هي التي تورث قلباً حياً ويقيناً راسخاً، فينجم عن ذلك عمل صالح.(62/7)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً)
ومازالت الآيات تبين عظيم القدرة الإلهية، حيث يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور:43]، والإزجاء هو الدفع، وقد نسمع أحياناً إنساناً يقدم له فيقول: بضاعتي مزجاه، وهذه كلمة مأخوذة من سورة يوسف، ومعنى مزجاة: مدفوعة، والبضاعة المزجاة هي التي لا يقبلها أحد، فكلما عرضتها على تاجر يعتذر ويمتنع عن القبول، ويقول: اذهب إلى فلان فلعله يقبلها.
فهذا معنى قولهم: بضاعة مزجاة، فالإزجاء هو السوق والدفع.
فالله تعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور:43] فتسوقه الملائكة بواسطة الرياح، {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43] وقد كان قطعاً، والقطعة من السحاب تسمى قزعة، ثم يجعله متراكماً بعضه فوق بعض.
قال تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ} [النور:43] أي: المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور:43]، ويلحظ هنا تكرار (من) ثلاث مرات، وكلها جارة، ولكلٍ معنى، فـ (من) في قوله: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ} [النور:43] لابتداء الغاية.
و (من) في قوله: {مِنْ جِبَالٍ} [النور:43] للتبعيض.
و (من) في قوله: {مِنْ بَرَدٍ} [النور:43] لبيان النوع والجنس.
قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43] أي: يصيب بالبرد وبالمطر وبالصواعق.(62/8)
بيان معنى قوله تعالى (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار)
قال تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43].
السنا -بغير همزة- الرفعة والعلو المعنوي والحسي، والسناء -بالهمزة- اللمعان والضوء والنور، والمقصود به هنا اللمعان والبرق والنور، فأحياناً يجتمع الأمران: السنا المعنوي المقصود به الرفعة، والسناء المقصود به اللمعان.
فأما اجتماعهما فقد ورد في شعر ابن زيدون، وابن زيدون شاعر أندلسي عاصر انتقال الحكم من بني أمية إلى ملوك الطوائف، وبنو أمية أسسوا ملكهم في الأندلس على يد عبد الرحمن الداخل الملقب بصقر قريش، والذي لقبه بصقر قريش هو خصمه أبو جعفر المنصور، وهذا من إنصاف أبي جعفر.
فاستمر الحكم في الأندلس، ثم انتقل من بني أمية إلى ملوك الطوائف، وهم مسلمون من غير ذرية بني أمية، وفي تلك الفترة ظهر ابن زيدون، فأصبح وزيراً وهو في الثلاثين من عمره، ومثل هذا ينجم عنه الحسد، فتعلق بامرأة اسمها ولادة بنت المستكفي، فقال فيها أطيب شعره، والذي يعنينا من شعره هنا ما أردناه في قوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43]، حيث قال: ودع الصبر محب ودعك ذائع من سره ما استودعك يقرع السن على أن لم يكن زاد في تلك الخطا إذ شيعك يا أخا البدر سناء وسناً رحم الله زماناً أطلعك والبدر هو القمر، وقصد بأخي البدر معشوقته، وقوله: سناءً وسناً، أي: أنت مثل البرق في برقه ونوره ولمعانه، ومثل البدر في علوه وارتفاعه.
فالله تعالى هنا يقول: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} [النور:43].
والعامة تلغز فتقول: ما الشيء الذي يسمع ولا يرى، وما الشيء الذي يرى ولا يسمع؟ ويقصدون بالذي يسمع ولا يرى الرعد، ويقصدون بالذي يرى ولا يسمع البرق، وقد جرت عادة العرب بأنها تشيم، أي: تنظر في البرق، فتقول: أين سينزل، قال الأعشى: فقلت للشرب في درنى وقد ثملوا شيموا وكيف يشيم الشارب الثمل يقول: أنا مع مجموعة سكارى فرأيت بارقاً.
وهل يا ترى بارقاً عارضاً قد بت أرقبه كأنما البرق في حافاته الشعل فقال لمجموعته: شيموا، أي: انظروا إلى هذا البرق أين سيسقط.
ثم يقول مستنكراً حال نفسه: وكيف يشيم الشارب الثمل، يعني: من كان قد غلبه السكر فأنى له أن يشيم ويعرف مواطن البرق.
قال تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43] واللام في (الأبصار) لام الحقيقة، وضدها لام المجاز، وبيان ذلك أن الله جل وعلا قال في سورة البقرة: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة:20] وهناك فرق تام بين الآيتين: فالآية الأولى: أراد الله بها ضرب مثل عن هؤلاء المنافقين الذين يسكنون المدينة ويرون تنزل الآيات فلا ينتفعون بها، ولهذا قال: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة:20] فأضاف الأبصار إليهم، وليس المقصود إلا إظهار عدم انتفاعهم بالكتاب والسنة.
أما آية النور فالله يتكلم فيها بذكر لام الحقيقة، والمراد: البصر الحقيقي الذي هو يخاطب به كل أحد، فكل إنسان إذا تأمل البرق ونظر فيه وأمعن فإنه يكاد سنا البرق أن يذهب ببصره، ولو لم يذهب ببصره؛ لأنها جاءت مثبتة، فتعتبر في حكم المنفية.(62/9)
تفسير قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار)
ثم قال الله جل وعلا: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44]، وهذا من دلائل قدرته، وكمال صنعته جل وعلا، وهو أنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، والله تعالى يقول في سورة آل عمران: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27].
قال بعض السلف: هاتان الآيتان من آل عمران هما اللتان صدر الله جل وعلا بهما التوراة التي أنزل على موسى عليه السلام، وقالوا: إن آخر آية في التوراة هي آخر آية في سورة الإسراء: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء:111] إلى آخر الآية.
يقول الله جل وعلا هنا: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النور:44] فما الليل والنهار إلا مطيتان مسخرتان بأمر الرب تبارك وتعالى، فلما ذكر الله جل وعلا قدرته على تقليبهما، وعلى أنه جل وعلا يجعل هذا حيناً أطول من الآخر، والآخر أطول من الأول حيناً آخر، قال سبحانه جل وعلا بعد ذلك: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [آل عمران:13] أي: في هذا الأمر الذي يحصل ويرى {لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:13].
والمؤمن حري به أن يتأمل ما خلق الله جل وعلا من حوله حتى يقوده ذلك إلى معرفة ربه.(62/10)
تفسير قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء)
ثم قال ربنا -وهو أصدق القائلين-: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45] فكل ما يميز وما لا يميز مما يمشي على الأرض يسمى دابة.
وأهم ما ينبغي أن يعرف في الآية أن الحجة العظيمة الأولى التي أقامها الله جل وعلا على أهل الإشراك هي كونه جل وعلا خالقاً، وما سواه مخلوقاً، فهذه أهم قضية ناقشها القرآن، قال الله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل:17]، وقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان:3]، وقال: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11].
وأراد الله من هذا كله أن يقول لهم: إن العبادة الحقة لا يستحقها إلا من يخلق، فما دام أنه لا أحد يخلق إلا الله فمن المقطوع به ألا يعبد أحد بحق إلا الله.
هذا الذي أراده الله من إثبات قدرته على الخلق، حتى يقيم الحجة على عباده، فكيف تلتفون إلى من لا يخلق فتعبدونه وتتركون من يخلق؟! وقد قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر:85] قال العلماء: قوله: (إلا بالحق) لإثبات أن الله وحده هو الخالق، فلا يستحق العبادة غيره.
وقال تعالى هنا: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45]، وقال في الأنبياء: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30].
فالماء في سورة الأنبياء اسم جنس، أما هنا فليس اسم جنس، ولهذا جاء نكرة، ففي سورة الأنبياء يتكلم عن جنس المخلوقات، أما هنا فلم يتكلم عن جنس المخلوقات، بل يحدد ماهية المخلوقات، بدليل قوله تعالى بعدها: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور:45] و (من) تستخدم للعاقل، وسوغ استخدامها لغير العاقل أن الله جل وعلا تكلم عن الدواب، والدواب يدخل فيها العاقل من بني آدم، فبالتغليب أدخل غير العاقل.
قال الله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور:45] مثل الحيات، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} [النور:45] مثل بني آدم وبعض الحيوانات، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور:45].(62/11)
بيان قدرة الله تعالى
ويرد على ذهن الإنسان حال العنكبوت والعقرب ونحوهما، فهي لا تمشي على بطنها، ولا على اثنتين، ولا على أربع، فتجيبه الآية: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [النور:45] وكأن الله يقول: بل هناك غير العنكبوت والعقرب لم تره عيناك، فلا يحتاج إلى أن تستدل علينا بعنكبوت وعقرب، ولذلك فصل الله الخطاب والأمر بقوله: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور:45]، وهذا التبيين مناسب لقول الله جل وعلا: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [النور:45]، فقوله: (يخلق الله ما يشاء) درس قائم بذاته؛ إذ الإنسان أحياناً تكون له أمنيات ورغبات، فيمنعه من الدعاء تصور استحالة أن تقع، فمما يحل هذا الإشكال اليقيني قول الله جل وعلا هنا: {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [النور:45] وهذه المسألة حصلت للصديقة مريم، فإن الملائكة بشرتها بعيسى ابن مريم ولم تقل لها: عيسى بن فلان، فعرفت أنه سيأتي من غير زوج؛ لأنها لو قالت عيسى بن فلان لعرفت أن الأمر عادي، قال تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45].
فلما أرادت أن تعترض قالت: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران:47] فعرفت أنه سيأتي من غير مساس؛ لأنه لو كان سيأتي بمساس لنسب إلى أبيه، فأجابها بقوله: {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:47] في حين أن الله جل وعلا أجاب زكريا بغير هذا، حيث قال: {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:40]؛ لأن قصة زكريا وجد فيها السبب، ولكن وجد عارض لحق أحد السببين، وهو كبر الوالد وكون المرأة عاقراً، فكان المطلوب إزالة ذلك العارض، فعبر الله عنه بقوله: {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:40].
أما في قصة مريم فليس هناك سبب آخر قائم حتى نقول: هناك عارض يحتاج إلى أن يزال، بل لا يوجد سبب يعين على ولادة؛ لانفصال أحد السببين، فقال الله جل وعلا: {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:47].(62/12)
أهمية استحضار قدرة الله تعالى في سؤاله إجابة الدعوات
وأنت -أيها الأخ- قد تقف في عرفات -وهو موطن إجابة- وتصلي في الليل وتسجد، وذلك موطن إجابة، وتدخل أحد الحرمين، وهما مواطنان فاضلان، وتقف عند باب الكعبة، وهو موطن عظيم، وتمر عليك أوقات تقدم فيها طاعات تشعر فيها بقربك من الله، فعليك أن تزدلف إلى الله جل وعلا قبل أن تسأله بكلامه، وتردد ما أخبر الله جل وعلا به أنه قادر على كل شيء، فقل: اللهم إنك قلت وقولك الحق: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:47]، وقلت: وقولك الحق، {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:40]، وقلت وقولك الحق: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]، وقلت وقولك الحق: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].
وأنت الذي أرجعت يوسف إلى أبيه، رددت موسى إلى أمه، جمعت ليعقوب بنيه، وجعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، أنت الله لا إله إلا أنت لا تسأل عما تفعل وهم يسألون، أنت الله لا إله إلا أنت تنزهت عن الصاحبة والولد، وتقدست فلم تلد ولم تولد.
وتذكر هذه المعاني العظيمة التي ذكرها الله في كتابه، وإلا فلا معنى لأن تقرأ القرآن ثم لا تصدقه، تقول عائشة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول القرآن يقول في دعائه: يا بر يا رحيم! قني عذاب السموم) وأخذ الاستغفار من سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] فكان يستغفر الله جل وعلا، يتأول القرآن.
فالمقصود أن هذه المعاني العظيمة المقررة في قلبك أولاً وأخراً عليك أن تستحضرها ثم تقولها؛ لأن الإنسان إذا كرر شيئاً يعتقده، فكرره بلسانه وأسمعه نفسه قل ألا يترك هذا أثراً في قلبه، فإذا وصلت إلى مرحلة الاستكانة والافتقار والتذلل بين يدي الله، فعرض على الله جل وعلا حاجتك، وسل الرب تبارك وتعالى بغيتك، وألح عليه تبارك وتعالى في الطلب، ثم اختم ذلك بعظيم حسن ظنك، وعظيم رغبتك فيما عند الله تبارك وتعالى، فتذكر من أسمائه الحسنى وصفاته العلى ما يغلب على ظنك أنه مناسب لدعائك حتى يكون ذلك أرفع لدعوتك، وأسمع لصوتك، والله جل وعلا بعد ذلك كله أرحم منك بنفسك، وأقرب إجابة، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
والمقصود من هذا أننا قد نورد أحياناً مسائل علمية، ونعرج على أقوال النحاة، ونذكر ما دونه الشعراء، ولكن هذا إنما يدفع ويطرد به الملل، ويقرب به البعيد، ويوضح به المعنى، ولكن الغاية الأولى من القرآن كله أن تلين قلوب العباد لربهم تبارك وتعالى، بأن يكون فيه موعظة، ويكون فيه معانٍ تحرك القلب المسلم، وتجعل الإنسان قريباً من ربه وتدفعه إلى الطاعة، وتحجم به عن المعصية، وتبين له عظمة الله جل جلاله، ومن لم يهتد بالقرآن لن يهتدي بغيره قال الله: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
اللهم إنا نسألك نوراً نهتدي به، ورزقك حلالاً طيباً مباركاً نكتفي به.
هذا ما تهيأ إيراده وأعان الله جل وعلا على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(62/13)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة النور [7]
اشتملت سورة النور على بيان حال ثلاث طوائف من الناس، فالطائفة الأولى هي طائفة المنافقين المعرضين عن حكم الله ورسوله، والمعرضين عن طاعتهما، ومآل هؤلاء هو البوار والخسران.
والطائفة الثانية هي طائفة الكفار المظهرين عداوتهم للمؤمنين، وهؤلاء ليسوا بمعجزين لربهم، ومأواهم النار.
والطائفة الثالثة هي طائفة المؤمنين الذين وعدهم الله تبارك وتعالى بنصره لهم في الدنيا ورحمته بهم في الآخرة.(63/1)
ذكر بعض دلائل قدرة الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أظهر لنا من فضله وكرمه ووهبنا من آلائه ونعمه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فما زلنا نرتع في رياض الجنة وأعظم مقامات الدنيا كما قال أهل العلم وهو مقام التدبر في كتاب الله جل وعلا والسورة التي نحن بصددها هي سورة النور، وكنا قد وقفنا عند قول الله جل وعلا: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:46].
وأحب قبل أن أشرع وأبدأ بها أن أعود قليلاً إلى الآيات التي سلفت، وكنا قد جعلنا لذلك الدرس حظاً كبيراً من قضية الوعظ، وهذا الأصل في القرآن، فإن الله جل وعلا جعله موعظة كما بينه في كتابه، وقد سبق معنا قول الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43]، والذي أريد أن أقوله هنا هو أن هذه الآية من أعظم الآيات الدالة على قدرة الله جل وعلا، فالله جل وعلا ذكر فيها مخلوقاً واحداً، هو السحاب، وضمنه أربعة أضداد لا يمكن أن تجتمع في مخلوق واحد، ولا يقدر على ذلك إلا الله، فالسحاب يكون منه الودق، أي: المطر والغيث، وهو ماء، ويكون منه في نفس الوقت الصواعق التي تحرق، وهي في الجملة النار، والماء والنار ضدان لا يجتمعان، فجمعهما الرب في مخلوق واحد، وفي نفس الوقت يقول الله جل وعلا: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [النور:43]، والسحاب إذا تراكم بعضه على بعض حجب نور القمر وضوء الكواكب وأصبحت الدنيا ظلمة، ومع ذلك قرنه الله جل وعلا بالبرق، فقال سبحانه: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43]، والبرق نور وضياء، والنور والظلمة لا يجتمعان، فينجم عن السحاب أربعة أضداد، الماء والنار، وهما ضدان، والنور والظلمة وهما ضدان.
وهذا من دلائل قدرة الله تبارك وتعالى، والمؤمن -إن كان موفقاً- ينظر إلى القرآن مثل هذه الرؤية، وإن كننا ننهج في التفسير تفسيراً موسوعياً، ونعرج على قضايا نحوية وبلاغية ومعرفية، فذلك من باب أن يستفيد المرء مما نقول، ولتستقيم الطريق العلمية والمعرفية، ولكن قبل أن يؤصل الإنسان نفسه معرفياً ليبز أقرانه ويصل إلى مقصوده، عليه أن يعلم أن المقصود الأسمى أن تثبت القدم يوم العرض على الله، ولن تثبت القدم يوم العرض على الله إلا إذا ملئت بموعظة وضياء القرآن، فينظر إلى القرآن نظر تدبر وإيمان يستدل به من خلال تدبر الآيات على عظمة الواحد القهار جل جلاله.
فهذه الآية من أعظم الآيات الدالة على عظيم قدرة الرب جل وعلا.(63/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا آيات مبينات)
قال ربنا وهو أصدق القائلين: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:46].
ولا يلحظ هنا التتابع في الآيتين، حيث يقول الله: لقد أنزلنا آيات مبينات ظاهرة جلية تخبر عن عظمتنا، وتدل على وحدانيتنا، وترشد إلى عبادتنا.
ولكي لا يتعلق الناس بها قال الرب بعدها: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:46]، فليس النظر في الآيات المبينات والتدبر فيها كافياً للهداية، بل لا بد مع التدبر والنظر في هذه الآيات التي أنزلت من أن يصاحب ذلك توفيق من الرب جل وعلا ولهذا قال الله: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]، وقد مر معنا تحرير ذلك في أكثر من موضع.(63/3)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول)
ثم قال الله جل وعلا: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47].
بقدر الله جل وعلا أراد أن تكون المدينة المجتمع الإسلامي الأول، وأراد الله لها أن تجمع أخلاطاً عدة، فلينظر في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفاعله مع تلك الأخلاط، حتى لا يكونن مجتمع بعد ذلك بمعزل عن مجتمع المدينة الأول، فيحق لكل أحد أن يتأسى بهديه عليه الصلاة والسلام.
فالمدينة كانت زاخرة بالمهاجرين والأنصار أعظم الناس إيماناً، وكان هناك من هم دونهم في الإيمان وليسو منافقين، من الأعراب وبعض الصحابة.
وكان هناك منافقون يظهرون ما لا يبطنون، وكان هناك يهود، وكان هناك نصارى يؤوون إليها، كما حصل من نصارى نجران، وكان هناك أعراب جفاة ينظرون إلى مصالحهم، وكان هناك دول تحيط بها، كفارس والروم، وقد حصل لهم بعض المنازعات مع الروم كما هو معلوم.
فقراءة هذا المجتمع قراءة صحيحة من الكتاب والسنة والسيرة الصحيحة تعين الإنسان في أي منصب على أن يصل إلى أن يعرف حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في الحدث.
وهنا يخبر الله جل وعلا عن طائفة من المنافقين، ولكن الخبر هنا جزئي يتعلق بالحكومات، والناس تحتكم في ثلاثة أمور: في الفروج والدماء والأموال، ولا يوجد حكم في غير هذا، فأي تنازع بين الناس يكون إما في أموالهم وإما في فروجهم، وإما في دمائهم.
يقول بعض أهل التفسير: إن منافقاً يقال له بشر اختصم مع يهودي، فطلب منه اليهودي أن يحتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى بشر هذا الذي يدعي الإيمان، الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرشد إلى كعب بن الأشرف؛ لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بالحق وهو يعلم أنه على الباطل، فقال الله عنهم: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] أي: بألسنتهم، {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47].
قال العلماء: نفي الإيمان عنهم يدل على أن الإيمان لا يقبل من غير عمل؛ لأن الله أثبت لهم أنهم قالوا الإيمان بألسنتهم، ونفى عنهم العمل بقوله جل وعلا: ((ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)) فقال بعد ذلك معقباً {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47]، فالإيمان إيمان بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان.
فهذه الطائفة من المنافقين كانت تسكن المدينة، والله جل وعلا من سننه التمحيص، فتأتي الطوارق والحوادث تتابع، فمرة على هيئة أفراد، كما حصل في قضية بشر، ومرة على مستوى الأمة، كما يحدث التكليف بالجهاد، أو يحدث أمر عام يميز طائفة من الطوائف، وأحياناً تحدث أحداث جزئية تميز أفراداً عن أفراد، ومع ذلك لم يأتِ في القرآن اسم منافق واحد؛ لأن القرآن أكبر من أن يتحدث عن أفراد، وإنما يتحدث عنهم في بعض المواضع لمصلحة أرجح من إخفائهم، فمريم هي المرأة الوحيدة التي ذكرت في القرآن؛ حتى لا يقول قائل: ليس عيسى ابن مريم، وإنما شخص آخر، فذكره الله -أي: عيسى- وذكر اسم أمه حتى لا يبقى تأويل ولا احتمال يفزع إليه من يريد أن ينجو بالآية عما تقصد.
يقول تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47] (ما) هي الحجازية، تعمل عمل (ليس)، (ليس) و (ما) كلتاهما أداة نفي، ولكن الاختلاف في العمل، فالحرف أو الفعل له معنى وله عمل، وكل الحروف لها معنى إلا الحروف الأبجدية الجزئية، فلا تعرف إلا إذا ركبت، والخلاف هنا كائن في (ما) هل هي عاملة أو مهملة لا تعمل؟ فالحجازيون يعملونها عمل ليس، فترفع المبتدأ ويسمى اسمها، وتنصب الخبر ويسمى خبرها، ومن آية عملها أن يكون خبرها مقترناً بالباء، كما هو هنا: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47].(63/4)
بيان حال المنافقين عند دعوتهم إلى حكم الله ورسوله
ثم قال ربنا: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] في هذه الآية ذكرت (إذا) مرتين، فالأولى هي (إذا) الشرطية، والأخرى (إذا) الفجائية، (إذا الفجائية) يأتي ما بعدها فجأة، ولهذا سميت (إذا الفجائية) والمعنى: أن هؤلاء القوم إذا دعوا إلى أن يحكم الله ورسوله بينهم لا يقبلون هذا العرض قبول متريث، بل لما انطوت عليه سرائرهم من بغض الله وبغض رسوله، وعدم قبول قول الله وعدم قبول قول رسوله يفاجئونك مباشرة بالجواب قبل أن تكمل عرضك، فهذا هو المنزع البلاغي المقصود من الإتيان بـ (إذا) الفجائية في هذا الموقف.
وقوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} [النور:48]، قال بعض العلماء: (ليحكم) جاءت بصيغة الإفراد، وقد دعوا إلى الله ورسوله، ومعلوم أن الدعوة إلى الله دعوة إلى كتابه، والدعوة إلى الرسول دعوة إلى سنته، فقالوا: إن المقصود هنا هو الدعوة إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الميداني العملي، وإنما ذكر اسم الله قبل اسم رسوله تشريفاً وتبركاً.
قال الله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48]، ثم قال سبحانه: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49]، والإذعان: الانقياد، فلماذا يأتون عندما يكون لهم الحق؟! إنهم يأتون لعلمهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي بالحق، فإذا علموا أزلاً أنهم على الحق لم يجدوا بداً من أن يذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا اتباع هوى لا اتباع دين، وقد يتلبس به بعض الناس من حيث لا يشعر، فيأتي إلى العالم ليسأله يبتغي جواباً قد بيته قبل أن يعرض سؤاله، فهو يريد أن يسمع جواباً يرتضيه، ولا يريد الحق، وهذا يحدث في مسائل الحكومات كما هو في العادة.
ومن طرائف ما يروى في هذا الباب أن رجلاً اختصم مع زوجه إلى الشعبي، والشعبي هو أحد رجال الصحيح، متفق عند جمهرة الناس على جلالته وتقواه وورعه، وكان يقضي بين الناس.
فلما عرض الرجل وزوجته خبرهما حكم الشعبي للمرأة دون الرجل، فلما وجد الرجل أن الشعبي لم يحكم له جعل ذلك مثلبة في حق الشعبي فقال: فتن الشعبي لما رفع الطرف إليها سحرته ببنان وخضاب في يديها كيف لو أبصر منها نحرها أو ساعديها لا جفا حتى تراه راكعاً بين يديها نشرت هذه العبارات في الناس، والناس يفرحون بمثل هذه الأراجيز؛ لأنها سهلة الحفظ وتغطي فراغاً اجتماعياً لديهم، فانتشرت بين الناس، فلما انتشرت قال الشعبي: والله ما حكمت إلا بالحق، وما رفعت إلي بناناً ولا خضاباً.
والبنان: رءوس الأصابع، والخضاب: كالحناء ونحوه، والرجل لما شعر أنه مغلوب جعلها في القاضي.
فهذه صورة قبيحة في الناس، ولكنها صورة متأصلة في المنافقين، حيث قال الله جل وعلا: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] ومهم جداً أن تعرف القيد، وهو أنهم يأتون إليه لعلمهم أنهم على الحق، لا ليقينهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالحق.(63/5)
بيان أسباب إعراض المنافقين عن حكم رسول الله
ثم قال الله جل وعلا بعد ذلك من باب التدرج في ذكر أخلاقهم: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50]، فهذه الثلاث مجتمعة فيهم، وليس المقصود التساؤل: هل فيهم مرض؟ هل فيهم ارتياب؟ هل فيهم خوف من الله؟ فهذا غير مقصود وإنما هذه الصفات الثلاث كلها موجودة بينهم، ففي قلوبهم علل وأمراض شك، وأعظم علتهم أنهم غير موقنين بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، ونجم عن هذا ريب، ونجم عن هذا الريب خوفهم من أن يجور النبي صلى الله عليه وسلم عليهم؛ لأنهم إذا كانوا غير مقتنعين بنبوته فبدهي أن يرموه عليه الصلاة والسلام بالجور والظلم؛ لأن القول بأنه عدل عليه الصلاة والسلام تبع للقول بأنه نبي، وهم لا يقولون بنبوته أصلاً، فلذلك لم يقولوا بعدله عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم إذا كانوا مقتنعين بأنه كذب على الله، فمن باب أولى أن يكذب على الناس.
فالمهم أن الآية ليس المقصود منها إلا التدرج في وصف أخلاقهم، حيث قال تعالى بعد ذلك: {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50]، والمعنى: أن هذه الأخلاق كلها فيهم، وبيان ذلك بصورة ميسرة أنه قد يكون إنسان يحسدك، وبينك وبينه عداوة، وهو كاذب، فعندما يحيف عليك في أمر فإنك لا تدري لأي شيء صنع بك ذلك الأمر، هل حسداً، أم للعداوة المتأججة، أم لكذبه الذي اعتاد عليه، ولا يعني هذا نفي إحدى تلك الصفات، ولكن
السؤال
أين الباعث على هذا الأمر، فجاء الجواب القرآني: {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50].
و (أم) شبيهة العمل بـ (أو)، ويقول أهل النحو: إن بينهما منزعاً دقيقاً، وبيان ذلك أنه إذا كان بينك وبين أحد فورة، وحصل لك فرج بشيء، فإنك تؤمل أن يبعث لك أحداً من طرفه يشاركك في فرحتك، فإن بعث لك أخاه زيداً أو أخاه عمراً، فإن كل الذي يهمك هو أن يأتي أحدهما، فعندما يتأخر وتغيب أنت عن الحفل لحظات وتعود فإنك تسأل فتقول: أجاء زيد أو عمرو؟ فأنت لا تريد أن تسأل عن الذي جاء، وإنما تريد أن تسأل عن المجيء نفسه، فيكون الجواب هنا بـ (نعم) في حالة الإثبات، وبـ (لا) في حالة النفي.
أما في استخدام (أم) فإنك على يقين من أن أحدهما جاء، ولكنك لا تدري من الذي جاء، فتقول: أجاء زيد أم عمرو؟ فيكون الجواب بحسب من جاء، فيذكر زيد في حالة إتيانه، وعمرو إن كان هو الذي أتى، فهذا هو الفارق بين (أم) و (أو).
ثم جاء بعد (أم) ذكر (بل) في الآية الثانية، و (بل) عند النحويين للإضراب، والإضراب الانتقال، والانتقال أحياناً يكون لاستئناف كلام جديد، وأحياناً تجمع (بل) بين الإضراب والإبطال.
فالإضراب متأصل فيها، أما الإبطال فقد يقع وقد لا يقع، ومعنى الإبطال: أن تأتي فتنقل الجملة على أنها تستوعب إبطال الذي سبق، كما قال تعالى عن كفار قريش: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ * أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص:6 - 8]، فكل الذي مضى حكاية كلام صناديد قريش، ثم قال الله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} [ص:8] فهذا انتقال وإبطال لما قد سلف من قولهم، ولكنها لا تأتي على كل حال للإبطال، بل تأتي على كل حال للانتقال.(63/6)
تفسير قوله تعالى: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله)
قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
نلحظ هنا أن كلمة (قول) منصوبة، وقد تستدرك فتقول: كيف ينصب اسم كان؟ والجواب أنها ليست اسم كان، بل هي خبرها، فإذا قررنا أن (قول) هنا خبر كان مقدم، كان لابد من الإجابة عن اسم (كان)، إذ من قواعد العلم أنك إذا دفعت شيئاً أتيت ببدله، وإذا أخرت شيئاً وضعت آخر عوضاً عنه حتى تستقيم الأمور، أما الترك والغفلة فلا يصنعان منك عالماً.
فـ (قول) خبر (كان) مقدم، ولذلك نصبت، وأما اسم (كان) فالمصدر المؤول من (أن) وما دخلت عليه في قول الله جل وعلا: {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، فهذا من ناحية الصناعة النحوية.
أما من حيث التفسير فإن الله لما ذكر حال أهل النفاق ذكر حال أهل الإيمان، وهذا من أسلوب القرآن المتكرر في أكثر من موضع، فقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
والفلاح: تحقق المرغوب ودفع المرهوب، فالإنسان إذا حصل له ما يؤمل وزال عنه الذي يخشاه ويكرهه فقد تحقق له الفلاح، فالله جل وعلا ربط الفلاح وقيده بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.(63/7)
تفسير قوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه)
ثم قال بعد ذلك تذييلاً: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52].
وهنا نفصل: فهناك حق لله، وهناك حق للرسول، وهناك حق مشترك بين الله ورسوله، فالإيمان والطاعة حق مشترك لله والرسول، والخشية والتقوى حق لله، والتوقير حق للرسول صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى لا يقال في حقه: (توقير)، بل يقال أعظم من ذلك، فيقال: عرف فلان قدر ربه، أما كلمة (توقير) فتستخدم في أسلوب التعامل مع المخلوقين، كما قال تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9].
فالله جل وعلا هنا قال: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النور:52] وهذا حق مشترك، ثم بعد أن ذكر الحق المشترك ذكر الحق الخاص له جل وعلا الذي لا يصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور:52]، والتقوى من حيث الجملة: فعل المأمور وترك المحذور، ولكن هذا الإطلاق ليس على حاله دائماً، فالتقوى أحياناً يكون معناها ترك المحذور وتوقي عذاب الله، وذلك إذا جاءت مقرونة بالبر والإحسان والطاعة، فإذا جاءت مقرونة بالبر والإحسان والطاعة تنصرف إلى ترك المحذور، كما في هذه الآية: {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور:52]، وهذا تخريج بعض العلماء.
وبعض العلماء يقول: إن المقصود: بـ (يخش الله ويتقه) أنه يخشى مما سلف، بمعنى الخوف من التقصير فيما مضى، والتقوى: الخوف من التقصير فيما يستقبل.
ثم قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52].(63/8)
تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن)
وبعد أن ذكر الله جل وعلا نماذج إيمانية عظيمة، عاد الحديث إلى المنافقين، فقال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:53]، فالذي أقسم هم المنافقون، وقوله: (جهد أيمانهم) أي: منتهى ما يبلغونه من الحلف والأيمان (لئن أمرتهم) أيها النبي (ليخرجن) أي: إذا نصصت عليهم وخصصتهم أو دعوتهم إلى قتال عام فإنهم سينفذون، فأجابهم الله بخطاب للنبي، وهذا يسمى تلقيناً، فهو تلقين إلهي للنبي، وهذا أول التلقين في هذا الموقف، وسيأتي تلقين آخر، فقال تعالى: {قُلْ لا تُقْسِمُوا} [النور:53] ولا خلاف في أن (لا) ناهية، ولكن ما المقصود بقوله جل وعلا: {لا تُقْسِمُوا} [النور:53]؟ لقد قال الله بعد ذلك: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:53]، فإذا حرر معنى هذه الجملة يتحرر معنى قول الله جل وعلا: {لا تُقْسِمُوا} [النور:53].
قال بعض العلماء -وهذا الذي عليه الجمهور وهو الأظهر-: (طاعة معروفة) أي: نعلم من حالكم ونعرف من أخباركم ومن صنيعكم بنبينا صلى الله عليه وسلم، نعلم من خلال ما سبق منكم على مقتضى علم الله الأزلي أن طاعتكم معروفة، فليس منكم إلا الخذلان والترك، وعدم الاستجابة لأمر الله ورسوله، فيصبح بعد هذا معنى قول الله جل وعلا: {لا تُقْسِمُوا} [النور:53] أي: لا حرمة لقسمكم، ولا داعي له؛ لأن طاعتكم معروفة من قبل، هذا التحرير الأول للمسألة.
التحرير الثاني: أن قوله تعالى: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:53] مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: طاعة معروفة أولى من الأيمان، أي: لا حاجة لي إلى أن تقسموا يصير اللفظ تهكماً مثل الأول؛ إذ الأول يجري مجرى التهكم، ولا يصح مجرى التهكم إذا قلنا بهذا المعنى الثاني، فيصير المعنى: لا داعي للأيمان، فلا نريد منكم أيماناً مغلظة ولا جهد أيمان، بل نريد منكم أن تظهروا ما يثبت صدق اتباع نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى يبنى عليه معنى آخر، وهو اشتقاق كلمة (معروفة) أهي من العلم أم من العرف؟ فإذا قلنا: من العلم، أصبح المعنى: طاعة معلومة ظاهرة بينة تثبت لنا صدق توجهكم.
وأما إذا قلنا: من العرف، فالمعنى: أن الله جل وعلا لا يريد منكم إلا شيئاً معروفاً تعارف الناس عليه، أي: أمراً يسيراً هيناً، ولا يريد منكم أيماناً مغلظة، ومنه قول الله جل وعلا: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12].
ونرجح أن المقصود هو الأول مما ذكرناه.
ثم قال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور:54] وهذا هو التلقين الثاني من الله لنبيه، {فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، وهذه صفة شرط، فربط الله الهداية بالطاعة، وإن السيادة لأهل الملة مرتبطة باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فـ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وصلاح وغيرهم كانوا مجاهيل في الأصل، وإنما سادوا لما منّ الله عليهم باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم: فمن أبو بكر قبل الوحي من عمر ومن علي ومن عثمان ذو الرحم من خالد من صلاح الدين قبلك من أنت الإمام لأهل الفضل كلهم أي: فالسيادة الدينية مقرونة باتباع هديه صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله في نونيته: وكمال شرع الله دين محمد صلى عليه منزل القرآن(63/9)
على الرسول البلاغ
ثم قال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، وأكبر دليل أنه ليس على الرسول إلا البلاغ المبين أن الله قال له: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:32]، فهو عليه الصلاة والسلام مبلغ، ولما كان عليه الصلاة والسلام يعلم أنه مبلغ وشعر بدنو الأجل وقرب الرحيل كان لا هم له إلا أن يتأكد من كونه أدى الأمانة وبلغ أو لم يؤدها ولم يبلغ، فاستشهد الناس أيام عرفة قائلاً: (ألا هل بلغت؟ فقالوا: نشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة).(63/10)
تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)
قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] قبل أن أشرع في القضايا التاريخية أحرر بعض المسائل العلمية، فما المقصود بالأرض في قوله تعالى: (ليستخلفنهم في الأرض)؟ قال بعض العلماء: إن المقصود بالأرض هنا: مكة؛ لأن المهاجرين أخرجوا منها، فكانوا يسألون الله إياها، وقد تم فتح مكة، فتحقق الوعد الرباني.
(كما استخلف الذين من قبلهم) أي: بنو إسرائيل، ولا خلاف في أن الذين من قبلهم هم بنو إسرائيل، ولكن الخلاف في المراد بالأرض.
وذهب جمهور العلماء إلى أن المقصود بالأرض هنا عموم الأرض، أرض العرب وأرض العجم، بل قالوا: إنه تبعد إرادة مكة؛ لأن الله منع المهاجرين أن يعودوا إلى مكة، والدليل من السنة أن الله جل وعلا منع المهاجرين أن يعودوا إلى مكة أن سعد بن أبي وقاص لما مرض في عام الفتح زاره النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يخشى سعد أن يموت في مكة وقد هاجر منها، فقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم امض لأصحابي هجرتهم) ثم قال: (لكن البائس سعد بن خولة)، جاء في تعقيب الراوي: (يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مات بمكة)، وسعد بن خولة غير سعد بن أبي وقاص.
فهذا دليل على أن الأرض ليست مكة، وهذا القول رجحه ابن العربي، ومال إليه القرطبي رحمه الله في تفسيره.(63/11)
الوعد الرباني بنصر المؤمنين
وأما الموعود بالآية فقد ذهب بعض العلماء إلى أنهم هم المهاجرون الأولون، وقالوا: إن الآية أول ما تنطبق على الخلفاء الراشدين: الصديق والفاروق وعثمان وعلي؛ لأن هؤلاء رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا مغلوبين فأصبحوا غالبين، وكانوا مقهورين فأصبحوا قاهرين، وكانوا مطلوبين فأصبحوا طالبين، وحقق الله لهم الوعد، ويوم نزلت هذه الآية المباركة لم يكن أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي خليفة، وإنما كانوا من المهاجرين الأولين يخافون، فلما منّ الله عليهم بعد ذلك نال هؤلاء الأربعة الراشدون الخلافة، ومكن الله جل وعلا لهم في الأرض، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الخلافة بعده ثلاثون عاماً، ثم تكون ملكاً عضوضاً، ومعاوية رضي الله عنه وأرضاه أول ملوك المسلمين، أما الأربعة الراشدون فالمتفق عليه هو أنهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
ولكننا نقول: إن الآية -وإن دخل فيها هؤلاء الأربعة دخولاً أولياً كما تحرر في التأصيل العلمي في دخول ذوات الأسباب- المخاطب بها كل مؤمن، وإذا نزلنا على أصلها فإنه يجب أن نعلم أن الله ربط العزة والقوة والعلو والظهور بالإيمان وعمل الصالحات، ولم يربطها بزوال الأعداء، فبعض الناس اليوم يتمنى أن يهلك الله أعداءنا، وهذا من حيث الجملة لا حرج فيه، ولكنه ليست رفعة شأننا مردها إلى ضعف عدونا، إذ ليس ضعفنا اليوم مرده إلى قوة عدونا، ولكن لبعدنا عن الإيمان والعمل الصالح.
ومن الطرائف السياسية أن أحد رؤساء أمريكا الجنوبية سئل: لماذا أنتم متخلفون؟ قال: لسببين: لقربنا من أمريكا ولبعدنا عن الله.
أي: وفق المنظور المسيحي.
والذي يعنينا أنه ليس الهم أن يذهب جهدنا في الدعاء على الأعداء بالهلاك، وإنما الهم يجب أن ينصرف إلى أن نبني الأمة بناءً صحيحاً، فإذا بنيت الأمة بناء صحيحاً فإنه مهما بلغت قوة العدو فإن الله وعدنا بالنصر والتمكين والاستخلاف، ولكنه قرنه جل وعلا بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55].
فالصحابة الأولون السابقون المهاجرون لما آمنوا وعملوا الصالحات مكن الله جل وعلا لهم في الأرض.
قال تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55] فإقامة التوحيد أعظم مقاصد الدين، ثم قرنها الله جل وعلا بالآيات الأخرى فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56].
وأعظم أسباب الرحمة دل عليها القرآن، ومنها الاستغفار كما في سورة النمل، ومنها التوحيد، وهو أعظمها، ومنها العمل الصالح، كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.(63/12)
بيان ضعف الكفرة ومآلهم
قال الله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:57]، وهذا استدراك رباني عظيم، فإن الإنسان وهو يقرأ الآيات يقلب الطرف فيما يراه من علو بعض الأمم، فالله جل وعلا يطمئنك ويخبرك ويقول لك: لا يصيبنك جزع ولا شك ولا ارتياب في دينه أن ترى علو أهل الكفر، وحصول أيام لهم ودول، فهم -مهما علو وقهروا- ليسو بمعجزين للرب تبارك وتعالى، ويكفيهم بأساً أن مصيرهم إلى جنهم، قال الله تعالى: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:57].(63/13)
ذكر المسيرة التاريخية في الولاية الإسلامية
وينبغي للمؤمن -خاصة من يتصدر لطلب العلم- أن يدرك التاريخ العام لأمته، وأن يكون لديه إلمام شامل بهذا الوعد الرباني.
فالناس اليوم بين حاضر مشهود ووعد منشود، وعد منشود يفتقدونه، وهو علو المسلمين، وواقع مشهود، وهو ما في الأمة من ضعف.
وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف، فاتفقت كلمة المهاجرين والأنصار على الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فساس الأمة عامين وأشهراً، واستخلف بعده عمر، فساس عمر الأمة، وفي عهده تم الكثير من الفتوحات، ثم مات رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأوصى أن تجعل الخلافة في ستة، وأشرك معهم عبد الله بن عمر على أن لا يكون له في الأمر شيء؛ لأنه كان أكبر أبنائه، فاختير عثمان، ثم قتل عثمان غدراً، فاستخلف أهل الحل والعقد في المدينة علياً، ثم قتل علي رضي الله تعالى عنه على يد الخوارج، وتنازل الحسن بن علي رضي الله عنه بعد ذلك عن الخلافة لـ معاوية، فاجتمعت كلمة المسلمين على إمام واحد هو معاوية رضي الله عنه وأرضاه، وأسس معاوية الملك الأموي، وهو أول ملوك المسلمين في عهده تم كثير من الفتوحات، وجاء بعده يزيد بن معاوية ثم معاوية بن يزيد، ولم تكن له رغبة في الخلافة، ثم استخلف مروان بن الحكم، وقتل بعد ذلك على يد زوجته، فتفرق البيت الأموي بعده وآل الأمر إلى ابنه عبد الملك، والساسة والمؤرخون يعدونه المؤسس الثاني لدولة بني أمية.
وفي ولاية عبد الملك انتقلت الخلافة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني، وذلك لأن يزيد ومعاوية بن يزيد ينتسبان إلى معاوية رضي الله تعالى عنه، ابن أبي سفيان الذي هو من بني أمية، وأما مروان بن الحكم فليس من ذرية أبي سفيان، ولكنه من ذرية أمية بن عبد شمس.
وقد كان عبد الملك رأى أنه يبول في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض رؤياه على سعيد بن المسيب، فأولها بأن أربعة من أبنائه يحكمون، فحكمهم بعده الوليد وسليمان، ثم انقطعت خلافتهم بولاية عمر بن عبد العزيز ابن أخيه، ثم عادت الخلافة إلى أبنائه يزيد ثم هشام، ثم تتابعت دولة بني أمية في تلك الفترة، واضطهد الأميون الموالي، واضطهدوا آل البيت كثيراً، فنشأ حنق في الناس عليهم، خاصة الموالي الذين دخلوا في الدين، وكان منهم علماء، وكان أكثرهم يسكن في خراسان.
فقامت الدعوة إلى ما يسمى من غير تحديد بالرضى من آل البيت، فقويت الدولة في خراسان، وخرج أبو مسلم الخراساني داعية لبني العباس في عهد مروان بن محمد الملقب بالحمار لصبره، وكان آخر خلفاء بني أمية، فسقطت دولة بني أمية.
وقامت بعدها دولة بني العباس، وأول خلفائهم أبو العباس السفاح، ثم كانت خلافة أبي جعفر المنصور، والعباسيون يتفاءلون بهذه الكنية، فأكثر خلفاء بني العباس كانوا يسمون الابن الأكبر جعفراً، والمهم أن أبا جعفر كان له صولة وجولة في خلافة بني العباس.
ثم تولى الهادي، وثم المهدي، ثم نشأ هارون، ثم كان من ذرية هارون من الخلفاء: الأمين والمأمون والمعتصم، ثم انحصرت الخلافة في ذرية المعتصم، ثم سقطت دولة بني العباس في أواسط القرن السابع.
ثم بعد ذلك ظهرت دول، فدولة المماليك كانت معاصرة لدولة بني العباس في آخرها في مصر، وكان المماليك أرقاء، ثم أعتقوا ثم سادوا، ولهم قضايا عديدة مع العز بن عبد السلام، ولهذا سمي العز بن عبد السلام بسلطان العلماء، لوقوفه في بعض القضايا الفقهية المتعلقة بحكم المماليك.
ثم كانت دولة آل عثمان التي بقيت قروناً، وفي الجانب الآخر في الأندلس خرج عبد الرحمن بن معاوية المعروف بـ عبد الرحمن الداخل، وهو من بني أمية، فر هارباً من الاضطهاد الذي أصاب بني أمية على يد بني العباس، وهناك أسس دولة إسلامية في الأندلس، ومكثت هذه الدولة قروناً طويلة، ثم انتقلت من حكم الأمويين إلى حكم ملوك الطوائف.
ثم ضعفت دولة بني عثمان وظهر الغرب، حصلت حروب عدة، منها الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، ثم تسلط النصارى على دول الإسلام بعد أن أسقطت الخلافة على يد كمال أتاتورك، الملقب بـ أبي الأتراك، ثم حصلت معاهدة تسمى معاهدة (سايسبيكو) وهي عبارة عن اسمين لوزيرين للدول الكبرى، فتقاسموا العالم الإسلامي، ثم منّ الله جل وعلا على هذه الجزيرة بظهور الملك عبد العزيز رحمة الله تعالى عليه، فعاد ملكاً سابقاً لأجداده دعوة الإمامين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود.
وأما فلسطين فكانت تحت الاحتلال البريطاني، ثم خرجت كلمة من فم وزير الخارجية البريطاني بلفور وعد فيها بأن يمكن لليهود في فلسطين، فحصل ما حصل من قيام دولة إسرائيل، فأقيمت دولة إسرائيل عام (1948)، ثم دخلت الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس عام (1967م) في الاحتلال الإسرائيلي.
والأحوال المعاصرة لا يحتاج الكلام عنها؛ لأنها مشهودة معروفة، فهذا هو تاريخ الإسلام والدولة الإسلامية من حيث الجملة.(63/14)
أساس الاستخلاف الرباني
والاستخلاف الرباني مربوط بالإيمان والعمل الصالح، وليس مربوطاً بتقوى عامة، وإنما هو مربوط بتقوى الجملة، أن تعود الأمة من حيث الجمة إلى دينها، فهذا هو الأصل والسبب الأول في نصرتها وعزتها.
وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر بظهور المهدي، فالضعفاء من الناس ركنوا إلى ظهور المهدي وتركوا العمل ينتظرون أن يخرج المهدي، والمهدي لن يكون أقوى شكيمة ولا أشد علماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بنى الرسول الأمة في ثلاثة وعشرين عاماً، فلا يعقل أن يبنيها المهدي في ليلة.
فالسعي والعمل والحث في سبيل نصرة الأمة أمر دل عليه القرآن ودل عليه السنة، وبين أيدينا آية فيها وعد رباني بالاستخلاف، ولا يدعونا ذلك إلى أن نركن إلى الخمول، بل الوعد يجب أن يحث على العمل، كالحال في الآخرة، فقد وعدنا الله بالجنة، ويحثنا على العمل من أجل أن نصل إلى الجنة.
نسأل الله أن يقر أعيينا وأعينكم بالاثنتين: تحقيق وعد الاستخلاف في الأرض ووعد دخول الجنة، والله تعالى أعز وأعلى وأعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(63/15)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة النور [8]
يختم الله تعالى أحكام سورة النور العظيمة بجملة من الآداب المهمة، ومن تلك الآداب ما يتعلق بأحوال البيوت، إذ شرع الله تبارك وتعالى للمكثرين من ولوجها من الأطفال والعبيد أن يستأذنوا في ثلاثة أوقات خاصة، لما فيها من وضع الثياب وإبداء بعض ما يستر، ومن تلك الآداب إرشاد القواعد من النساء إلى ترك التبرج بالزينة حال وضعهن الثياب التي تلحقهن المشقة بلبسها، ومنها: إرشاد العباد إلى اعتبار أنفسهم نفساً واحدة وتمثيل ذلك في جواز الأكل من بيوت الأقارب والأصدقاء، وأعظم تلك الآداب الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته أصحابه للأمور الجامعة بالبقاء معه دون التسلل من بين يديه لواذاً.(64/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وعليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا خاتمة الدروس المتعلقة بسورة النور، وسورة النور سورة جليلة عظيمة كنا قد من الله علينا من قبل بالحديث عما فيها من أحكام وآداب ومواعظ، وسنختم هذا الدرس بالحديث عن خواتم هذه السورة المباركة، قال الله جل وعلا -وهو أصدق القائلين-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58].
هذه الآية آية استئذان جاءت بعد آيات استئذان سبقت، والنداء فيها -كما مر معنا- نداء كرامة، والنداء يكون نداءً عاماً، كقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة:21]، وقوله تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف:26].
أما إذا قال الرب جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104]، فهذا يسمى نداء كرامة، لا نداء علامة؛ لأن الله جل وعلا كرم عباده الأوفياء المتقين بأنهم آمنوا به.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] والمخاطب هم الذين آمنوا، والمطلوب منهم أن يستأذنهم طائفتان: الأولى: العبيد والجواري، وعبر عنهم بقوله: (بالذين ملكت أيمانكم).
والثانية: الأطفال الأحرار، وعبر عنهم بقوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور:58] أي: من المؤمنين الأحرار، وخصصناها بالأحرار لأن العبيد والجواري قد مضى الحديث عنهم بقوله: {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:58].
وقوله: (ليستأذنكم) اللام في الفعل لام الأمر، فهل هذا الأمر للوجوب أو للتعليم والإرشاد والذي عليه الجمهور أن اللام هنا لام أمر، والأصل فيه الوجوب.(64/2)
مراعاة الأحوال الخاصة
والرب تبارك وتعالى في هذه الآية يعلم عباده أن الأشياء على درجات، ولا يمكن أن يعطى أحد كلما شيء بالكلية، والعرب تقول: من الأشياء ما ليس يوهب، فمهما بلغ قرب من حولنا من العبيد والجواري، تبقى مع ذلك حالات خاصة بنا لا يمكن أن نفتحها للآخرين على علو مكانتهم وقربهم منا، وحاجتنا إليهم، وحاجتهم إلينا، فهناك أمور هي خطوط حمراء، والقرآن ما أنزل ليوضع في السيارات تبركاً كما يفعله البعض، وليس المقصود بيان حكم هذا، ولكن المقصود هو بيان أن نفقه أن القرآن أنزل لمعان عظيمة، ومقاصد جليلة، منها: أن نعيش حياتنا وفق آيات القرآن، والتعبير بالآيات هنا أجمل من التعبير بالنظم؛ لأن النظم تنصرف إلى القوانين الوضعية أكثر من انصرافها إلى غيرها.
فالرب جل وعلا هنا ينادي عباده نداء كرامة لبيان أنه لابد من الاستئذان، ولكنه قال: {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] وهذه الثلاث المرات هي خصوصية من الوقت العام، فهؤلاء -كما سيأتي في آخر الآية- طوافون، بمعنى أنهم يدخلون ويلجون البيوت، والدين جاء لرفع المشقة، فالأحكام -وإن عممت أحياناً- تأتي معها استثناءات، فطالوت يقول لقومه: {إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249]، ويعقوب يقول لبنيه: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف:66]، وسليمان يقول في قضية الهدهد: {أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21]، فلابد من ترك خط رجعة للآخرين.
والأصل أن الناس جميعاً يلزمهم الاستئذان، ولكن الجواري والعبيد الخدم والأطفال مستثنون من هذا الطلب العام، فهؤلاء المقربون تأتي لنا أحوال، تكون فيها في حالة خاصة جداً، وفي هذه الحالة الخاصة يكون لهذه الطائفة نوع من التوقف عن الولوج، والعاقل في تعامله مع الآخرين يضع خطوطاً، فمن حولك كل منهم له خط يقف عليه، والله يقول عن ملائكته: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164].
فهذه خطوط عظيمة يضعها القرآن بين أيدينا في التعامل مع غيرنا.
وليس من الصحيح أن يلتفت فقط إلى القضايا النحوية والبلاغية، وإن كانت مطلوبة، فبذلك نظلم أنفسنا بفهم كلام الله إن جعلناه محصوراً في هذه القضايا، بل القرآن أشمل وأعظم وأجل من ذلك، فهو تشريع، ولهذا قال الله بعدها: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58].(64/3)
أوقات استئذان الأطفال والعبيد
يقول الله تعالى في بيان الحالات الثلاث: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} [النور:58] والعورة سميت عورة لأن إظهارها يجلب المذمة والعار، وتسمى سوءة؛ لأن إظهارها يسوء الرجل الحر العاقل.
وسماها الله جل وعلا ثلاث عورات لأن غالب حياة الناس أن هذه الثلاث العورات يحصل فيها من التكشف والخلل في الستر ما لا يحصل في غيرها؛ لأنها أوقات راحة ونوم، وقد يكون الرجل فيها مع أهله.
فقول الله جل وعلا: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} [النور:58] هذا وقت نوم، فإن قائل كيف تقول: إن قبل صلاة الفجر وقت نوم؟! فالجواب أن هذا هو الأصل، وإن كان سحراً، إذ السحر قسمان: سحر مرتبط بصلاة الفجر، فالأصل فيه النوم.
تقول عائشة عن هذا الوقت: (ما ألفيته إلا راقداً عندي) تعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وصلاة داود الليل كان يفصل بينهما وبين صلاة الفجر النوم.
قال تعالى: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} [النور:58] ولم يقل ربنا: (وحين تضعون ثيابكم من قبل صلاة الفجر) ولم يقل: (حين تضعون ثيابكم من بعد صلاة العشاء)؛ لأن وضع الثياب في هذين الوقتين أمر معهود معلوم، فذكر وقت الظهيرة جل وعلا، فدل على غيره من باب أولى، فإذا كان التقليد السائد المتفق مع الفطرة البشرية أن الناس تضع ثيابها عند الظهيرة فمن باب أولى أن توضع الثياب من قبل صلاة الفجر، ومن بعد صلاة العشاء.
على والقرآن غالباً لا يقدم ذكر الشيء الظاهر، وإنما يقدم ما هو خفي، فإن قلت: أين الدليل؟ ف
الجواب
الدليل في سورة البقرة، فالله جل وعلا قال في البقرة: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] فحدد وقتها.
وقال في البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ثم قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة:185] بعد أن قال: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184]، فحدد الصيام في رمضان.
وعندما ذكر الحج في نفس السورة قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] وما قال جل وعلا: شوال وذو القعدة وذو الحجة، وهي الأشهر التي قال الفقهاء: إنها أشهر الحج، لأن العرب لم تكن تصلي ولم تكن تصوم، فحدد لهم أزمنة الصلاة وأزمنة الصيام، ولكنهم كانوا يحجون، ولهذا قال: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199].
فلما كانت أشهر الحج لا يجهلها أحد ممن خوطب بالقرآن أولاً لم يذكر الله أشهر الحج، بل قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] أي أنها مشتهرة معروفة لا تحتاج إلى بيان.
فوضع الثياب من الظهيرة يختلف الناس فيه، فحدده ودل على غيره من باب أولى.(64/4)
التخفيف في الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة وحكمته
قال تعالى: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ} [النور:58] أي: ليس عليكم -أيها المخاطبون- {وَلا عَلَيْهِمْ} [النور:58] يعني: المطالبين بالاستئذان.
والمراد العبيد والجواري، والأطفال الأحرار.
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ} [النور:58] أي: إثم ولا حرج ولا ضيق {بَعْدَهُنَّ} [النور:58] الضمير عائدة على الثلاث المرات.
قال تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور:58].
الأصل أن العبيد والجواري يلجون إلى بيوت ساداتهم وحجراتهم وغرفهم، فإذا احتجت إلى خادمك فإما أن تذهب إليه، وإما أن يأتيك ليؤدي لك خدمة.
والطفل دون البلوغ جرت العادة بأنه يدخل ويخرج على أبويه وأجداده، وسائر أهل البيت، فاشتراط الاستئذان هنا يجلب الحرج، والدين من قواعده نفي الحرج، ومن دلالة العلم ربط بعض الأشياء ببعضها حتى يفقه أن هذا الدين واحد، والله جل وعلا لا يفرق بين مثيلين، ولا يجمع بين نقيضين، وهذا من دلائل حكمة الدين.
فالإنسان يطلب منه إذا دخل المسجد أن يؤدي تحية المسجد، ولكن تحية المسجد في عرف كثير من الفقهاء مرفوعة عمن يكثر دخوله وخروجه من المسجد، كالحارس، ومن وكل إليه إصلاح شيء في المسجد، فهذا لا يطالب في كل دخول وخروج بأن يصلي تحية المسجد إذا كان خروجه متقارباً، ومثاله في واقعنا المعاصر الإخوة القائمون على الإفطار في المساجد، أو في الحرمين، الذين يخرجون من الباب كثيراً ليأتوا بطعام، أو ليقدموا ضيفاً، أو ليأتوا بصائم يريدون منه أن يفطر في سفرتهم، فلو طولبوا بالتحية في كل وقت وكان في ذلك حرج كبير.
قال ربنا تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58].(64/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذا بلغ الأطفال الحلم فليستأذنوا)
ثم قال جل ذكره: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59].
هؤلاء الأطفال يكبرون، والعاقل يعلم أن كل صغير يكبر، وكل قليل يكثر، وكل ضعيف يقوى، فيها.
فالاستئذان للأطفال رفع عنهم إلا في تلك الأوقات الثلاثة، وذلك مقيد بكونهم أطفالاً، فإذا ناهزوا البلوغ -وعبر عنه هنا بالحلم- فإنهم يعودون مخاطبين كما خوطب الذين من قبلهم، فقال الله جل وعلا: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59].(64/6)
تفسير قوله تعالى: (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً
ثم قال جل شأنه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60].
القواعد جمع قاعد، من غير تاء؛ لأن القاعدة بالتاء تدخل فيها الكبيرة والصغيرة، فكل من جلست في بيتها لأي شيء، فهي قاعدة، وأما القاعد ففيها خلاف على قولين للعلماء: الأشهر منهما أن القاعد: هي التي قعدت عن الولد والحيض والزواج.
وقال ابن قتيبة -وهو إمام في اللغة يحتج بأقوال مثله-: إنها الكبيرة في السن، وسميت (قاعد) وجمعت على (قواعد)؛ لأنها تكثر من القعود في البيت لكبر سنها وعجزها عن الخروج، وهذا قد يكون منتفياً في زماننا بوسائل النقل والإعانة المعاصرة، هذا الأمر.
والعرب تقول للمرأة هذا حتى وإن كانت شابة، كقول الحطيئة: أطوف ما أطوف ثم آوي إلى بيت قعيدته لكاع فهو يعني زوجته، ولكن الذي يعنينا أن القواعد جمع قاعد، وهي المرأة التي قعدت عن الحيض والولد والزوج.
قال ربنا: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور:60] معنى: (لا يرجون نكاحاً) أي: الغالب أنه لا يطمع في مثلهن، فليس للرجال في أمثالهن مطمع، وهذا كله يجري مجرى الغالب، وإلا فإن من القواعد المحكمات أن لكل ساقطة لاقطة، والعرب تقول: تعلقتها شمطاء شاب وليدها وللناس فيما يعشقون مذاهب فالقواعد اللاتي غلب على الظن أنهن لا يطمع في مثلهن قال الله عنهن: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ} [النور:60] أي: حرج إثم {أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] أي: يتخففن من الثياب، الجلباب والرداء، وليس المقصود ترك اللباس بالكلية حتى تظهر العورة، فهذا لم يقل به أحد، ولن يقول به عاقل؛ لقوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] فهذا قيد، ومعنى هذا القيد، أن يكون سبب وضع الجلباب والرداء التخفيف لا التبرج وإظهار ما يجب ستره، فالمعنى الحقيقي للتبرج: هو إظهار ما يجب إخفاؤه وستره، فالمقصود أن المرأة إذا كانت عجوزاً مقعدة كبيرة طاعنة في السن فلا بأس بأن تضع ما ثقل من الثياب عن نفسها، تريد بذلك التخفيف عن كاهلها ومشقة لبس الجلباب، لا تريد بذلك إظهار ما خفي.
وهذا هو معنى {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60].(64/7)
فضل استعفاف المرأة
ثم قال ربنا: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:60] وهنا جملة تكتب بماء الذهب، وهي أنه إذا كان الاستعفاف قد ورد في حق القواعد فما عسى أن يقال في حق الكواعب.
قال ربنا جل جلاله: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60] يعلم ما تكنه الصدور، ويسمع خفيات الأصوات جل جلاله، فإن كانت المرأة أرادت بذلك غير ما شرعه الله لها، فلن يخفى ذلك على رب العزة والجلال.
فهذه آيات الاستئذان المتشابهة التي تتابعت في سورة النور، وهي -من حيث الإجمال- تبين حرص الإسلام على الحياة الاجتماعية، وتنظيم سير الحياة فيها، وما جاء في الإسلام من الحرص على حفظ العورات وسترها، وتحديد ذلك، وبيان الطرائق المثلى في الأمور التي يحصل بها الستر والعفاف.(64/8)
تفسير قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج)
ثم قال ربنا -وهو أصدق القائلين-: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور:61].
للعلماء في النظر في هذه الآية طريقان: الطريق الأول: اختاره أبو حيان في البحر المحيط، وهو أن الواو في قوله جل وعلا: {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] واو استئناف، وإذا قلنا: إن الواو واو استئناف في قوله جل وعلا: {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] فإن المعنى الأول يصبح غير مرتبط بالثاني؛ وخرج هؤلاء قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] على أن المعنى: ليس عليهم حرج في القعود عن الجهاد، وإن لم يسبق للجهاد ذكر.
وهذا المنحى في ظننا بعيد، وإنما الواو واو عطف في قوله جل شأنه: {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61]، فالذي اختاره أبو حيان نرجح غيره عليه.
فجماهير أهل العلم على أن الواو عاطفة، ولكنهم اختلفوا في العلاقة بينهما في المعنى، فذهب بعضهم إلى أن بعض الناس كان يتحرج من الأكل مع ذوي العاهات، فأنزل الله هذه الآيات.
وقال آخرون بغير هذا، وقبل أن أذكر الرأي الذي أختاره أمهد بتمهيد لابد منه، فأقول: لا يمكن أبداً فهم القرآن منفرداً عن السنة، وفهم السيرة النبوية باب عظيم، ومدخل كبير لفهم القرآن، يمر معك كثيراً في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع أحداً أميراً على المدينة حالة خروجه للغزو، ولن يكون هناك أمير إلا إذا وجدت رعية، فيصلي بهم ويقوم بأمرهم، وهؤلاء هم الذين يقعدون عن الجهاد، والذين يقعدون عن الجهاد الأصل فيهم أنهم يقعدون لعذر، ومن الأعذار المرض والعرج والعمى.
فهؤلاء الذين يقعدون عن الجهاد يملكهم الذين ذهبوا للجهاد مفاتيح البيوت، ويجعلونهم أوصياء على أهليهم، وهذا لم يكن يتم في ليلة ونهار، فأحياناً يكون هناك سفر، لشهر أو أقل أو أكثر، وفي هذه الفترة يحتاج الناس إلى الأكل، فهؤلاء القاعدون عن الجهاد يدخلون تلك البيوت التي استؤمنوا عليها، ويخالطون أبناء المجاهدين، فينشأ عن ذلك أكل وإطعام، فربما تحرج أولئك القاعدون من أولي الضرر من ذلك الطعام والأكل، فالله جل وعلا يريد أن يبين هنا أن الأصل في المؤمنين أنهم كالنفس الواحدة، وأن المؤاكلة وطيب النفس في الطعام أمر محمود، فيخبر بأنه لا حرج ولا إثم على الجميع أن يأكل بعضهم من بيوت بعض، ولهذا عدد الأعمام والأخوال وغيرهم من القرابات والأصدقاء بعد ذلك، ولكنه بدأ بالأعمى والأعرج والمريض؛ لأن الأصل أن الخطاب موجه إليهم، وهو يريد جل وعلا أن ينبئ أولئك الأخيار من ذلك الجيل الأمثل والرعيل الأكمل الأول المخاطب بالقرآن أن الأصل فيكم أنكم كالجسد الواحد، ولهذا سيأتي قوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] على أنهم كالشخص الواحد، فهذا هو الذي أفهمه من كلام الله، وهذا القول -من حيث الجملة- أشار إليه سعيد بن المسيب رحمة الله تعالى عليه.
ولم يذكر الله بيوت الأبناء، وقد تكلم في ذلك العلماء، إلى مزيد نظر، والعلماء تكلموا فيه من قبل وذهبوا في هذا إلى أن الله لم يذكر بيوت الأبناء لأنها مندرجة في قوله جل وعلا: {بُيُوتِكُمْ} [النور:61]؛ لأن بيت الولد ملك لأبيه؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) وهذا بيان عظيم الإنصاف بين الولد ووالده، وأما ما عدا ذلك فهو ظاهر.
قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور:61] المفاتح: جمع: (مفتح)، ومفتح ومفتاح بمعنى واحد.(64/9)
حكمة إفراد الصديق
قوله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61].
ذكر الله من سبق بصيغة الجمع، غير الصديق، فالصديق ذكره بصيغة الإفراد، هنا فلماذا ذكر بصيغة الإفراد؟ قال: أهل العلم المعنيون بالبيان: الصديق عزيز، والصداقة فشيء نادر، ولهذا أفردها الله، ألا ترى إلى قول الله على لسان الجهنميين: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100] بالجمع للكثرة {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:101]؛ لأن الصديق يعز في الدنيا، والعرب تقول: لما رأيت بني الزمان وما بهم خل وفي للشدائد أصبغ فعلمت أن المستحيل ثلاثة الغول والعنقاء والخل الوفي فهم يقولون: إن الخل الوفي ليس ممتنعاً، ولكنه نادر، فمن أجل ذلك قالوا: أفرد الله جل وعلا كلمة الصديق.
ثم قال ربنا: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور:61] هذا دلالة على أن المؤانسة تقع، وأن المؤاكلة أمر حسن، سواء أكلنا متفرقين، -وهو معنى (أشتاتاً) - أو مجتمعين، وهو معنى قوله جل وعلا: (جميعاً).(64/10)
ذكر قصة قسمة دنانير الأرغفة
إن من وسائل جمع العلم ونفع الناس به أن يكون لديك ذكاء سيال، وذهن وقاد، ما علاقة هذا بقوله تعالى: {أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور:61].
يقولون: إن رجلين جلسا ليأكلان، فقدم أحدهما خمسة أرغفة، وأخرج الآخر ثلاثة، وقبل أن يطعما جاء رجل ثالث عابر، فطلبا منه أن يجلس معهما فجلس، فصاروا ثلاثة أشخاص يريدون أن يطعموا ثمانية أرغفة، فأكلوا حتى أتموا الأكل جميعاً، ثم إن الرجل كان من ذوي الجاه، فلم يقبل أن يأكل دون أن يكافئ، فأخرج ثمانية دنانير، فوضعهما لهما وانصرف، فقال الذي وضع الخمسة: خمسة لي وثلاثة لك، وفق تقسيم الأرغفة.
وقال الثاني: الأصل أننا اثنان، وهذا دفع ثمانية وأكل معنا، وأربعة لي وأربعة لك، فتشاجرا، فاحتكما إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكان رضي الله عنه يملك ذهناً وقاداً، فذكر له الخبر، فقال رضي الله عنه وعن ابنيه وزوجته: سبعة لصاحب الخمسة ودينار واحد لصاحب الثلاثة، ومضى، فجلسا ملياً يفكران كيف أتى بها علي مع قناعتهما بأن قول علي صواب، ثم تبين لهما صواب صنيع علي رضي الله عنه وأرضاه.
وذلك أن الأرغفة كانت ثمانية، وفي كل رغيف ثلاثة أثلاث، فحصل من ذلك أربعة وعشرون ثلثاً، وهذا هو مجموع ما أكله الثلاثة الأشخاص، والأصل أن كل أحد منهم أكل مثل الآخر، فيكون كل واحد منهم قد أكل؟ ثمانية أثلاث، فالرجل الذي دفع الدنانير أكل ثمانية أثلاث بالاتفاق، ووضع عوضاً عنها ثمانية دنانير، فصاحب الأرغفة الثلاثة قدم تسعة أثلاث، وأكل منها ثمانية، فلم يبق منها شيء زائد قدمه للآخرين إلا ثلثاً واحداً، ولهذا حكم له علي بدينار واحد، وصاحب الأرغفة الخمسة قدمها وفيها خمسة عشر ثلثاً، وأكل ثمانية أثلاث فليس له فيها أجر، فبقيت سبعة أثلاث أكلها الرجل الضيف مع الثلث الذي أخذه من الأول، فاستحق أن يأخذ سبعة دنانير.
فتربية العالم طلابه، وتربية الطالب نفسه على مثل هذه الأمور يجعل منه ذهناً وقاداً وذكاء سيالاً يعينه على جمع العلم؛ لأنه لو كان العلم بنظر في كتاب وحفظه وإملائه لأضحى جل الناس علماء، ولكن العلم ليس محصوراً في هذا.(64/11)
بيان معنى قوله تعالى (فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم)
ثم قال ربنا: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61].
قوله: (من عند الله)؛ لأن الله هو الذي شرعها، (مباركة) لأنها تجلب الأجر والثواب، (طيبة) لأنها تطيب نفس المحيا.
وقد اختلف الناس في المعنى، فقيل: (بيوتاً) نكرة، والمقصود: إذا دخلتم أي مكان لقوم مسلمين فسلموا، وقالوا: إن قول ربنا: {عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] دلالة على أن المسلم يقام مقام النفس.
وهذا صحيح وجيد، ولكنني أقول: إن الذي أفهمه من الآية أن الإنسان إذا دخل داراً ليس فيها أحد فإنه يسلم على نفسه، ويقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لقول الله جل وعلا: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]، ومن قواعد فهم القرآن: أن يصرف أولاً إلى ظاهره.
قال ربنا بعد ذلك: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور:61]، وهذه ظاهرة.(64/12)
تفسير قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله)
ثم قال ربنا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62].
قلنا: إن القرآن لا يفهم إلا عن طريق السيرة، فالأمر الجامع من حيث الإجمال هو الأمر الجلد، أما المعنى هنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث منادي ينادي: (الصلاة جامعة) في الخطوب العظيمة.
فالله جل وعلا هنا يقول: إن الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعوكم لأمر جامع إلا وهو ذو شأن، فهو في حاجة ملحة إلى معرفة رأيكم، وإلى أن تأخذوا عنه، فإذا دعاكم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحسن بكم أن تخرجوا دون إذن؛ لأن هذا ينافي السبب الذي من أجله جمعكم، فجعل الله جل وعلا الاستئذان من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم من دلائل صدق الإيمان، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62] وهذا يسمى تفويضاً، وبعض العلماء يقول: هذه الآية تسمى: المفوضة، والمعنى: أنه تقرر في الأصول أن الله جل وعلا فوض بعض الأمور إلى رأي نبيه، كمثل هذه الآية، حيث قال تعالى: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} [النور:62] وجملة: (واستغفر لهم الله) تشعر بأنه حدث منهم ما يوجب الاستغفار، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:62].(64/13)
تفسير قوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً)
ثم قال جل شأنه: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
إن أكثر الذين يؤلفون في ذكر خصائص النبي صلى الله عليه وسلم يحتجون بهذه الآية على أن الرسول لا ينادى كما ينادى غيره، وما ذهبوا إليه صحيح، وأما ما استدلوا به فخطأ، فالآية لا تتكلم عن كيفية مناداة الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً، وإنما جاء هذا في الحجرات في قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2].
ولكن المقصود هنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدعوكم لأمر جامع إلا وهو أمر عظيم، فلا يقاس بدعوة غيره، فلا تجعلعوا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لكم كدعاء بعضكم بعضاً، والمعنى: أن دعاء بعضكم بعضاً لا حرج معه في أن تخرجوا، أما الدعوة التي تتم عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم فهي معظمة، فلا يحسن معها منكم الخروج، والدليل على صحة هذا القول القرينة في الآية، فالله تعالى قال بعدها: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور:63] يعني: قليلاً قليلاً، يلوذون خفية، فينسل هذا من هنا، وينسل هذا من هناك، وهكذا.
فالله جل وعلا يؤدب هؤلاء الصحابة على أن الأمر الجامع عند النبي صلى الله عليه وسلم ليس كالأمر الجامع عند غيره.
وليس المعنى ما ذهب إليه بعض الفضلاء من أن الدعاء المراد به هنا المناداة، فهذا غير مستقيم؛ لأن القرينة هنا تأباه، والقرينة هي قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور:63] و (لواذاً) هنا حال.(64/14)
التحذير من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم
ثم قال الله جل وعلا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
قوله: {يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] أي: عن هديه صلوات الله وسلامه عليه وقوله: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] قيل في ذلك ثلاثة معان مع اتفاقهم على أنها تكون في الدنيا: فقيل: الفتنة بمعنى: الكفر.
وقيل: بمعنى العقوبة.
وهذان عندي رأيان مرجوحان، وأما الرأي الراجح فهو أنها تصيبهم بلية تظهر ما في قلوبهم من النفاق.
وقوله تعالى: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] قيل: في الآخرة.
والأظهر عندي: أنها تحتمل أن يكون هذا في الحياة الدنيا.(64/15)
دلالة الآية على اتباع السنة وقياس الأمور بهدي رسول الله
هذه الآية الكريمة تدل على أمرين: الأول: أنها أصل في اتباع السنة، وقد ذكروا أن مالكاً إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله! إنني أريد العمرة فمن أين أحرم؟ قال: من مسجد ذي الحليفة.
قال: إني أريد أن أحرم من المسجد عند القبر.
فقال مالك رحمه الله: أحرم من ذي الحليفة.
فكأن الرجل قال: وماذا يضيرني، فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] فقال الرجل: وما هي إلا أميال زدتها! يعني: الفرق بين ذي الحليفة وبين المسجد أميال.
فقال مالك رحمه الله: إنني أخشى أن تكون بصنيعك هذا تظن أن هديك أعظم من هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
فاتباع السنة من أعظم ما يجذب البركة، والصالحون من قبلنا ممن أدركنا ورأينا ومن قرأنا عنهم رأينا منهم حرصاً عظيماً على اتباع السنة والتقيد بها؛ لأن الإنسان إذا تقيد بالسنة فكأنه يظهر عجزه في الوصول إلى العلم إلا عن طريق نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الحق والأصل الذي لا محيد عنه.
الأمر الثاني: أن الأصل في الموازين والحكم على الأشياء هو الميزان الشرعي، فإذا أردنا أن نعرف إطالة فلان في صلاته من تقصيره فإننا، نقيسها على صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك خطبته نقيسها على خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا.(64/16)
تفسير قوله تعالى: (إلا إن لله ما في السموات والأرض)
ثم ختم ربنا جل وعلا هذه السورة المباركة بقوله: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:64].
لقد مر في هذه السورة أحكام ومواعظ، وقصص وتشريع لا يمكن أن يأتي به إلا القادر الرب الواحد، ولهذا قال جل وعلا: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ} [النور:64] و (ألا) استفتاحية {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:64] فهو الرب، وهو الخالق، وهو الرازق، وهو المدبر، وهو الحكيم، وهو الأعلم بخلقه، فمن البداهة أن يكون منه فبدهياً جداً أن يكون منه ذلك التشريع.
فالتشريع جاء هنا ممن له حق التشريع، وليس لأحد دون الله حق التشريع وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النور:64] (قد) هنا للتحقيق قولاً واحداً، ولا ينبغي الالتفات إلى قول النحاة هنا: إن (قد) تكثر في زمن المضارع، ولو سلمنا بهذا الاستخدام في لغة العرب كثيراً، ولكنها هنا للتحقيق قولاً واحداً.
وقوله: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النور:64] يعني: يعلم حالكم من الموافقة والمخالفة، ومن النفاق والإخلاص، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، لا رب غيره ولا إله سواه، ولا تخفى عليه خافية.
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} [النور:64] أي: جميعاً {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [النور:64] وهذا يوم يقوم فيه الأشهاد، ويحشر فيه العباد.
ثم ختم الله جل وعلا الآية بقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:64].
فالله جل وعلا وسع علمه كل شيء، وهو جل وعلا يعلم ما قد كان، وما سيكون، وما هو كائن، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.
وبهذا نختم تأملاتنا في سورة النور، فنسأل الله أن يرزقنا نوراً نهتدي به، ورزقاً حلالاً طيباً نكتفي به.
وقد مر معنا في أول السورة أنها سورة مدنية، وأن فيها من التشريع ما جعل عمر يطلب من الناس أن يعلموها أبناءهم ونساءهم على وجه الخصوص، وتعلقت بها كثير من الأحكام، وانجلت بها الغمة في فصل خطابه عن حديث الإفك، وذكر الله جل وعلا فيها الآداب مع النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر الجامع، وذكر الله جل وعلا فيها أشياء أخر، ومواعظ كثر، أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، والله المستعان وعليه البلاغ.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(64/17)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأحزاب [4]
محمد صلى الله عليه وسلم تكتب في مديحه الأشعار، وتسطر في حبه المقامات الكبار، سيد ولد آدم، وأول شفيع، وأول مشفع، وسيد أولي العزم من الرسل، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، ولقد أخذ الله المواثيق والعهود على أولي العزم من الرسل، كما أخذ المواثيق عليهم أن يصدقوا محمد أو ينصروه صلى الله عليه وسلم، ولقد تحدث الله هنا عن تفاصيل أكثر لغزوة الأحزاب، وصور الحالة التي بلغت بالمسلمين، وكيف أن نار النفاق ظهرت بعد أن كانت تحت الرماد، ولقد أخزاهم الله وفضحهم، ونصر حزبه وجنده، ألا إن حزب الله هم الغالبون.(65/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه أولى الحلقات التي نسجلها في شهر شوال بعد قضاء شهر رمضان بحمد من الله وفضل، وكنا قد تحدثنا في اللقاءات التي سلفت عن سورة الأحزاب، وانتهينا إلى قول ربنا تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب:7 - 8].
الله جل وعلا في هذه الآية عد خمسة من الرسل، رغم أننا نعلم أن الأنبياء والمرسلين جمع غفير، لكن العلماء فهموا من هذه الآية والآية الأخرى التي في سورة الشورى أن هؤلاء الخمسة من الأنبياء الذين نص الله على ذكرهم دون غيرهم جعلوها قرينة على أنهم أولوا العزم من الرسل، فجمهور أهل العلم على أن أولي العزم من الرسل خمسة: نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم حسب ظهورهم الزمني: نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى بن مريم، ثم نبينا صلى الله عليه وسلم.
أما ترتيبهم في القرآن فقد جاء على النحو التالي: قال الله جل وعلا في السورة التي بين أيدينا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ -هذا إجمال- ومِنْكَ} [الأحزاب:7]، فبدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم عددهم فقال: {وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الأحزاب:7]، حسب ترتيبهم الزمني.
لكنه في آية سورة الشورى قال جل جلاله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى:13]، فبدأ بنوح، فلماذا قدم نوحاً في آية الشورى، وقدم محمداً صلى الله عليه وسلم في آية الأحزاب؟ والعلم أن يوجد إشكال ثم نحاول أن نجيب عن هذا الإشكال، فنقول: قدم نوحاً في آية الشورى؛ لأن الحديث كان عن العقيدة والدين، والعقيدة والدين من حيث الجملة أولى من الأشخاص، فقدم أول من بعث بالدين وأرسل به وهو نوح عليه الصلاة والسلام، والمعتقد والدين باقيان بخلاف من يحمل الدين من الأنبياء والمرسلين والصالحين فإنهم غير باقين؛ ولهذا قال الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144].
أما آية الأحزاب التي نحن بصدد الحديث عنها فليس فيها حديث عن المعتقد والدين، وإنما فيها ما أخذ الله من ميثاق على النبيين، فبدأ الله جل وعلا بنبينا صلى الله عليه وسلم فقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7].
كذلك اختلف العلماء في ماهية الميثاق: فبعض أهل الفضل من العلماء يحصره في آية آل عمران، في قول الله تبارك وتعالى لما ذكر أنه أخذ على الأنبياء والمرسلين: {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران:81]، ونحن نعتقد أن هذا الحصر غير صواب؛ لأنه أخرج منه النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يخاطب بنصرة نفسه، لكن المقصود بالميثاق فيما نحسب وعليه أكثر أهل العلم: كل الدين، وجميع ما بعث الله جل وعلا به أنبيائه ورسله من صحة المعتقد وكمال الشرائع، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7]، ووصف الله جل وعلا هذا الميثاق بأنه غليظ؛ لأنه محتوٍ على أعظم ما يتعبد الله جل وعلا به وهو توحيده تبارك وتعالى.
ثم قال الله: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ} [الأحزاب:8]، واللام هنا عند النحاة: لام كي؛ أي: لكي يسأل جل وعلا الصادقين عن صدقهم، والصدق مع الله جل وعلا أعظم طرائق القربى منه، قال الله جل وعلا في سورة التوبة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقال الله جل وعلا في خاتمة سورة المائدة: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]، والصدق مع الله جل وعلا أعظم وسائل القربى منه تبارك وتعالى، ليسأل الصادقين عن صدقهم، ولما كان أهل الكفر ليس لهم مع ربهم إلا التكذيب فليس لهم عنده إلا العذاب الأليم، قال الله جل وعلا: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب:8]، هذا كله يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم، ويبين له المواثيق التي أخذها الله جل وعلا عليه.(65/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم وتظنون بالله الظنونا)
ثم انتقلت الآيات إلى الحديث عن معركة الأحزاب، وكنا قد بينا في أول دروسنا حول سورة الأحزاب إجمالاً وتاريخياً هذه الغزوة، والآن نذكر التفاصيل: قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9]، مهما بلغ تدبرنا للقرآن ويقيننا به وإيماننا به فلن يبلغ مرحلة ما كان عليه الصحابة من استشعار تلك النعمة؛ لأنهم خاضوها عياناً، ورأوا هول الأمر وشدته وكربته وعظيم الخطب، فعندما ينزل القرآن بعد أن كفى الله المؤمنين القتال، وأجلي الكفار إلى ديارهم، قال الله: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب:25] كما سيأتي، يجد المؤمنون الفرحة والغبطة والنعمة، فعندما تأتي الآية تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا -وهذا نداء كرامة- اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:9]، يكون تذكيرهم بنعمة الله واقعاً في محله؛ لأنهم عاشوا هذا الكرب، وعاشوا كيف أجلاه الله تبارك وتعالى عنهم.
قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ} [الأحزاب:9]، هذه ظرفية لا تحدد بزمن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} [الأحزاب:9]، وهم الأحزاب، قريش ومن وافقها في حرب النبي صلى الله عليه وسلم من الأحابيش ومن غطفان ومن بعض أهل نجد وغيرهم من قبائل العرب مع تآمر اليهود، كل أولئك أرادوا محاربة النبي صلى الله عليه وسلم واستئصال الإسلام في المدينة، فقال الله عز وجل للصالحين من عباده، والصحابة في المقام الأول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا} [الأحزاب:9]، والجنود الثانية -أيها المبارك- غير الجنود الأولى، فالجنود الأولى: جنود الأحزاب، أما الجنود التي لم تر فهي منصرفة إلى الملائكة في أكثر أقوال أهل العلم، قال الله تبارك وتعالى: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا} [الأحزاب:9].
وقد ذهب مجاهد وهو أحد المفسرين: إلى أن الريح هنا: ريح الصبا، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور)، ومن حيث الصناعة اللغوية -أيها المبارك- فالصبا ريح تقابلها الدبور، لكن الصبا بالكسر مرحلة من مراحل وأطوار العمر، أما الصبا فهي ريح نصر بها النبي صلى الله عليه وسلم.
وأنت لو تصورت الحال آنذاك لوجدت أن الخندق هو الذي كان يفصل بين النبي صلى الله عليه وسلم والأحزاب، ومع ذلك فهذه الريح التي هي الصبا من كونها معجزة له صلى الله عليه وسلم كانت تضر خصومه ولا تضر أصحابه، رغم أنه وأصحابه قريبون منها عليه الصلاة والسلام، فليس بينهم وبين قريش ومن معها إلا عرض الخندق، ومع ذلك كانت تلك الريح فيها من الإفساد لأهل الإشراك وليس فيها من الضرر لأهل الإيمان، فإن قلبت الطرف أو الفكر في سبب هذا فتذكر قول الله جل وعلا: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف:17]، فالله جل وعلا على كل شيء قدير.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] قلنا: أجلاء أهل التفسير على أنهم: الملائكة، {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]، ثم قال الله: {إِذْ جَاءُوكُمْ} [الأحزاب:10]، (إن) هذه بدل من إذ الأولى، أو تخصيص لها، {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ -أي من فوق الوادي- وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:10] أي: من أسفل الوادي، نجد المدينة من جهة الشرق، ومكة ومن حولها بالنسبة للمدينة يأتونها من الجنوب، لكن يأتونها من جهة الغرب، ففريق الهجرة الآن يتجه غرباً، والذي يعنينا أن قريشاً والأحادبيش ومن معهم كان لهم طريق يأتون منه إلى المدينة، ونجد وعيينة بن حصن وغطفان وغيرهما كان لهم طريق آخر، فاجتمعوا جميعاً في الشمال الغربي للمدينة، لكن قبل ذلك كانت قريش أقرب إلى غرب الوادي، وعيينة بن حصن ومن معه كانوا إلى شمال شرق الوادي أقرب، فلهذا قال الله: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:10]، وهذا كله حول جبل سلع إن كنت قد قدمت المدينة، فالخندق مكانه إلى الشمال الغربي من جبل سلع، والمدينة غنية بالجبال، فجبل سلع لم يرد فيه أثر يحمد فيه أو يذم.
وأما أحد فجبل ورد المدح فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (أحد جبل يحبنا ونحبه) وارتقاه صلى الله عليه وسلم، وجبل عير في جنوب المدينة، حد له واشتهر بين العامة أنه جبل من جبال النار، لكن لم يثبت في هذا حديث، والذي يحفظ المدينة بحفظ الله من الشرق والغرب الحرتان المعروفة: باللابتين، وقد ورد معكم في الحديث: (والله ما بين لابتيها) أي: حرتيها، الشرقية والغربية.
والحرة الشرقية إذا استقبلتها وجعلت الغرب وراءك تستقبل طلوع الشمس، هنا أستطرد قليلاً، موقعة الحرة التي وقعت في زمن يزيد بن معاوية كانت المدينة محصنة، وكان سكان آل المدينة آنذاك تحصنوا حتى لا يقتحم جيش مسلم المري عليهم، فبقيت ثغرة جهة الشرق، فجاء رجل مسلط غير موفق فسلط جيش يزيد جيش مسلم بن عقبة المري على هذه الثغرة من جهة الشرق، وقال له: ائت أهل المدينة مع طلوع الشمس، فإذا بالجيش جاء أهل المدينة من جهة الشرق، فسيصبح على أهل المدينة حتى يواجهوه أن يستقبلوا الشمس، فإذا استقبلوا الشمس حال طلوعها أثرت في أعينهم، فلا يستطيعون أن يروا العدو، وإنما يرون الرماح والسيوف تتلألأ في أيديهم، فيزدادون رعباً وخوفاً؛ لأن الشمس تظهر السيف أشد مما هو فيه، وتظهر الرمح أشد حداً مما هو عليه، وفي نفس الوقت لا يبصرون العدو ولا يميزونه؛ لأن الشمس في أعينهم، كحالك الآن لو جلست في مكاني ونظرت في هذا المصباح، ولو تأملت النظر فيه وأدمنت النظر فيه لتعطلت منافعك بعينيك، فكذلك أهل المدينة في موقعة الحرة كانوا يستقبلون الشمس، في حين أن خصومهم كانت الشمس وراء ظهرهم لا تبغيهم؛ لأنهم ما داموا قد أتوا من جهة المشرق فسيستقبلون المغرب، ومعلوم أنه تكون في المغرب شمس؛ لأنها خلف أظهرهم، هذا المقصود من المكر والخديعة في الحروب.
أما هنا في موقعة الأحزاب فلم يكن للقرشيين ولا من معهم أن يأتوا من جهة اللابتين، فقد كانت محصنة، فما بقيت إلا ثغرة في جهة الشمال الغربي وهي التي حفر النبي صلى الله عليه وسلم فيها الخندق، قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10]، فالله جل وعلا هنا يصور هول الأمر، في أن الأبصار أصبحت لا ترى إلا العدو، فقد مالت عن كل شيء إلا عدوها، ومعلوم أن القلب لا يمكن أن يتحرك من مكانه ويصل إلى الحلق، فطبياً هو مكانه جسدياً، لكنها كناية عن شدة الهلع والخوف.
ثم قال الله جل وعلا: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10]، ويتساءل المرء ما هي الظنون التي ظنت؟ الناس -يا بني- حسب إيمانهم يكون ظنهم، فأهل النفاق وضعفاء الإيمان كان ظنهم بالله ظن السوء، وأما أهل الإيمان والتقوى فكان ظنهم بالله ظناً حسناً، لكن لا يمنع أن يأتي إنسان من أهل الإيمان فيخاف على نفسه من معصية كانت فيه أن يخذله الله بتلك المعصية؛ لأن الله لا ملزم عليه، يعني: لا يمانع أن يكون هناك مؤمن ويخشى من معصية أن يخذله الله جل وعلا ويحاسبه بتلك المعصية، هذا ظن زيادة على ظن أهل النفاق بالسوء وظن أهل الإيمان القوي بالتقوى، بنصرة الله لهم، وقد يأتي ظن الرابع: وهو أن المؤمنين الذين على يقين وإيمان ربما ظنوا أن الله جل وعلا أجل نصرهم، وابتلاهم بأن يقتلوا، وليس هذا ببعيد، فإنه ليس لزاماً أن ينصر نفس الجيل، فهذه كلها ظنون مجتمعة، أحياناً بحسب التقسيم العام، وأحياناً بحسب تقسيم الأفراد، فكلها كانت موجودة حال غزوة الأحزاب وتآمرهم على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(65/3)
تفسير قوله تعالى: (هنالك ابتلي المؤمنون ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً)
قال الله جل وعلا بعد ذلك: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11]، وحسبك بزلزال يقول عنه رب العالمين أنه ابتلاء وأنه زلزال شديد، حتى تعلم أن الأصحاب رضي الله عنهم وأرضاهم وجدوا عظيم المشقة في تبليغ دين الله، وصبروا على ما لم يصبر عليه إلا ما لا يصبر عليه إلا أمثالهم من أقوياء الإيمان، وأنهم نقلوا الدين بعد أن فدوا الإيمان بالمهج وبالمال، ونصروا الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم أيما نصر.
ثم قال الله جل وعلا يبين أحوال الناس في تلك الحالة التي أحاطت بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، الواو في قوله جل وعلا: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا} [الأحزاب:12]، واو عطف، ومن قواعد اللغة: أن العطف يقتضي المغايرة، بمعنى: أن المعطوف غير المعطوف عليه، فعندما نقول: العطف يقتضي المغايرة بمعنى أن الأصل أن المعطوف غير المعطوف عليه.
الله يقول: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب:12]، السؤال هنا: هل المغايرة هنا في الذوات أم في الصفة؟ إذا قلنا: إن الواو هنا تقتضي المغايرة في الذوات يصبح معنا فريقان: منافقون وفي قلوبهم مرض، فالمنافقون هم من أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، ومن في قلوبهم مرض: هم من في قلوبهم شك وريب وحسد، وغيرها من أمراض القلوب، لكن لم يصلوا إلى مرحلة النفاق، لكنهم مهيئون لأن يصلوا إليه، هذا التغاير تغاير في في الذوات.
الحالة الثانية: أن يكون التغاير في الصفات، فيصبح الله جل وعلا يتكلم عن طائفة واحدة، في هذه الطائفة اجتمعت صفتان، صفة النفاق، وصفة مرض القلوب، فتصبح الواو واو عطف بالاتفاق، والعطف للمغايرة، لكن المقصود هنا: التغاير بالصفات لا التغاير في الذوات، وبكل قال العلماء، والآيات تحتمل الوجهين.
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ -ماذا قولوا:- مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، يقال: إن الذي قال هذا رجل يقال له: أوس بن قيضي، ومن العجب أن هذا الرجل أنجب ابناً حتى تعلم أن الله يقول: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام:95]، أنجب ابناً بعد ذلك اسمه عرابة، وعرابة هذا بلغ شأواً بعيداً في المجد والكرم والفضل ونفع الناس، بخلاف أبيه، حتى قال فيه الشاعر: رأيت عرابة الأوسي يسعى إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين المقصود: أن هذا الرجل الذي قال: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، أنجب ابناً بلغ في المجد شأواً بعيداً، ومن هنا يعلم أنه أحياناً يجتهد الأب والوالد في تربية ابنه فيكون الابن بخلاف ما يريده أبوه، وقد يكون أب لا يعطي ابنه من الرعاية والعناية والتأديب شيئاً فيأتي الولد بخلاف ما ظن أبوه، فيصبح من المسابقين في الخيرات، المنافسين في الطاعات، وقد -وهو الغالب- يحرص الأب على تربية ابنه وتعهده ورعايته فيقر الله عيني الأب بصلاح الابن، وقد يقع أن أباً يهمل ابنه ولا يرعاه ولا يتعهده فيقع الابن ضائعاً؛ لأنه لم يجد أحداً يتعهده، وقد قيل: وليس النبت ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في ثلاث وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات الآن النبت الذي في الشوارع، أو في الصحاري الذي لا يتعاهده أحد لا يمكن أن يكون كالنبت الذي يعنى به ويهذب ويشذب ويسقى حيناً بعد حين، هذا معنى قول الشاعر: وليس النبت ينبت في جنان (أي في حدائق) كمثل النبت ينبت في ثلاث وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات نقول: نعم يرجى؛ لأن الله جل وعلا أخرج من ظهر آزر وهو من أكفر الكفرة إبراهيم، وأخرج من ظهر نوح وهو شيخ المرسلين ابنه كنعان وهو من أكفر الكافرين، لكن التوفيق بيد الله تبارك وتعالى، قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، الغرور: إظهار المكروه بصورة الشيء المحبوب، والذي دفعهم إلى هذه المقولة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يداهم الكفار المدينة أخذ صخرة فكان صلى الله عليه وسلم بعد أن يضربها ثلاث ضربات يكبر، ويقول: (الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، وأعطيت مفاتيح أبواب صنعاء، وقصور الشام)، فأخبر بها صلى الله عليه وسلم كلها.
فهذا الوعد منه صلى الله عليه وسلم زرع التفاؤل في قلوب أصحابه، فلما داهمهم الأحزاب وضاق عليهم الأمر، ولم يستطع أحدهم أن يذهب ليقضي حاجته قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].(65/4)
معجزة شاهدة على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم تكتشف في عصرنا الحاضر
فإذا ذكرنا استطراداً قضية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر قصور صنعاء من مكاني هذا).
فإن مما أثبته العلم الحديث حالياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في كثير من الآثار بعث رجلاً إلى اليمن وقال له: (اذهب إلى أصل حديقة غمدان) وأخبره عن القبلة فقال صلى الله عليه وسلم: (فاستقبل بها جبل ضين) سمى له جبلاً، وضع كذا عن يسارك صخرة وصخرة كذا عن يمينك، فذهب الرجل -وهذا في زمن النبوة- ووصل إلى صنعاء وأتى إلى الحديقة التي في أصل جبل غمدان، وجاء إلى الجبل الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم واستقبله وأتى للصخرات من جهة يمينه وشماله وهو واقف يستقبل القبلة وحددها وبنى المسجد، فإلى الآن والأمر لا جديد فيه، في هذا العصر الحديث، في عصر الإعجاز العلمي ظهر ما يعرف بالأقمار الاصطناعية التي تصور، وظهرت شبكات الإنترنت، وظهرت المواقع التي تصور الحدود والأماكن، ومعلوم أن هذه الآلة ليس لها علاقة بالمعتقد، وإنما مبرمج فيها حسب الأقمار الصناعية، وحسب تحريك الأصابع، فلو حركها مؤمن أو حركها ملحد فالنتيجة واحدة؛ لأنه لا علاقة لها بالمعتقد، وجيء إلى هذا المسجد -وهذا صنعه الشيخ عبد المجيد الزنداني - وأخرج سهماً من قبلته ثم حسب البرمجة العالمية وفق خطوط الطول والعرض، ولم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحد يعرف خطوط الطول والعرض، أخرج هذا السهم ليبرر علمياً أين ينتهي السهم؟ فخرج السهم مستقيماً من ذلك المسجد الذي بني في عهد النبوة حتى اخترق الجبل هذا الذي استقبله الصحابي بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: مر من بينه حتى وصل إلى مكة، ثم مضى بالسهم والناس تنظر في حفل أقيم في الكويت، والسهم هذا تلقائي، ثم أتى المسجد الحرام فاخترقه، ثم أتى الكعبة وانتهى السهم إلى ما بين الركنين، ما بين الحجر الأسود والركن اليماني، وهذه معجزة نصر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان، ونحن نعلم يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، لكن بلا شك أن مثل هذا وظهوره في هذا الزمن يزيدنا إيماناً ويقيناً على الإيمان بنبينا صلى الله عليه وسلم، فنقول: كما قال الله كما سيأتي: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]، فنحن لو كنا نتأمل حق اليقين فيما حولنا كل يوم ازددنا إيماناً، وكل ما حولنا يزيدنا قناعة وإيماناً، سواء كانت أحداثاً تجري، أو معالم ورواسي ثابتة أو قرآناً نتلوه، أو سنة نقرؤها، كل ذلك يدل على أن لا رب غير الله، ولا إله سواه، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم صادق فيما يقول، مصدوق فيما يقال له صلوات الله وسلامه عليه، هؤلاء المنافقون الذين ذكرهم الله جل وعلا هنا وقعوا في أول ابتلاء وامتحان فارتدوا عن دينهم؛ لأن الإيمان أصلاً لم يدخل قلوبهم، قال الله جل وعلا: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12]، وقلنا: إن الذي دفعهم إلى هذا القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم مناهم بفتح فارس أو الشام واليمن، ثم عجز أحدهم أن يذهب ليقضي حاجته؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى أن المسألة مسألة وقتية، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم: إني في معركتي هذه، أو في أيامي هذه ستفتح لكم الشام وفارس وصنعاء، بل هو أمر تركه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحدده، ثم ما لبث الله جل وعلا أن أفاء عليهم في خلافة الصديق وخلافة الفاروق بأن دخلوا أكثر مدن فارس وأكثر مدن الروم، بل صارت اليمن كلها في حوزة المسلمين وفي خلافتهم، كما وعد الله ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(65/5)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأحزاب [5]
يصف الله في هذه الآيات البينات حال المنافقين ومرضى النفوس حيال حصار المشركين لمدينة رسول الله يوم الأحزاب، وكيف أنهم لم يثقوا بنصر الله لرسوله، بل وصفوا وعد النبي لهم بالفتوحات والنصر بأنه غرور لا طائل تحته، ولهذا فضحهم الله وكشف زيف الإيمان في قلوبهم، وأظهر خوف أنفسهم، وما يبطنونه من الكفر والنفاق، وتوعدهم بعظيم عقابه، وأليم عذابه سبحانه.(66/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب وكان عهد الله مسئولاً)
الحمد لله الذي به تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13].
الحديث ما زال موصولاً عن حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض أيام غزوة الأحزاب، وقد مر معنا قولهم الذي حكاه الله عنهم: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12] ثم حكى الله قولاً آخر لهم: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [الأحزاب:13] و (منهم) عائدة على قوله: (وإذ قالت طائفة منهم) أي: من أهل النفاق والذين في قلوبهم مرض، (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) وقد بينا هذا إجمالاً في لقاء ماضٍ، و (يثرب) اسم للمدينة قبل الإسلام، وهو اسم ممنوع من الصرف على لغة النحويين لسببين: اتفقوا على السبب الأول وهو: العلمية، والسبب الثاني: متشعب، فمن الممكن أن تكون (يثرب) ممنوعة من الصرف للعلمية ووزن الفعل.
وممكن أن تكون العلة: العلمية والتأنيث.
ومعنى ممنوع من الصرف، أي: لا ينون ولا يجر بالكسرة، لا ينون مع أن التنوين من خصائص الأسماء، قال ابن مالك: بالجر والتنوين والنداء وأل ومسند للاسم تمييز حصل فالمقصود هنا: أن يثرب هذه كان اسمها على اسم أحد العماليق في أشهر أقوال أهل التاريخ قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فالذين يريدون أن يتكلموا بخطاب دنيوي محض لا يقولون المدينة، بل يقولون: يثرب، ومنه قول جرير في قصيدته الشهيرة التي مطلعها: أقل اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا قال يمدح شعره: دخلن-يعني: قصائده- قصور يثرب معلمات ولم يتركن من صنعاء باباً فلما أراد أن يتكلم عن حاجة دنيوية محضة قال: يثرب، ولم يقل: المدينة، وهنا هؤلاء المنافقون يريدون أن يعيدوها جاهلية كما كانت، فيردون قومهم إلى ما كانوا عليه من عدم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله عن بعضهم أنهم كانوا يقولون: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ} [الأحزاب:13] ولم يقل: يا أهل المدينة فهو لا يريد أن يوقظ الحس الإسلامي الذي في قلوبهم، أراد أن يعيدها جاهلية كما كانت إسلامية: (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا).
الآن المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم يحفرون الخندق ويرابطون، وهذه الطائفة تريد من أكثر الناس أن يعودوا، فقوله: (لا مقام لكم فارجعوا) تحتمل وجهين: الأول: لا مقام لكم في دين الإسلام فارجعوا إلى الكفر، وهذا يصح لأنه من مقاصدهم، لكن الآية والجو العام لا يساعد عليه.
الثاني: لا مقام لكم في المرابطة مع النبي صلى الله عليه وسلم فارجعوا إلى يثرب، (لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم) قيل: إنهم بنو حارثة، وبنو حارثة هؤلاء سبق لهم أن خذلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، (ويستأذن فريق منهم النبي يقولون) أي: سبب استئذانهم (إن بيوتنا عورة) معنى إن بيوتنا عورة أي: مكشوفة، معرضة للسرقة، لا يوجد بها رجال، والعورة كل مكان فيه خلل، والعورة تطلق على المكان المتوسط بين الجبال، قال لبيد: وأجن عورات الجبال ظلامها الذي يعنينا هنا قولهم: (إن بيوتنا عورة) فهل صدقهم الله أم كذبهم؟ كذبهم، قال الله جل وعلا: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب:13] فلما رد الله جل وعلا زعمهم الذي أظهروه، أخبر الله بزعمهم الذي أخفوه، فقال: (إن يريدون إلا فراراً) أي: استئذانهم منك لا يقصدون منه -كما زعموا- أن يحموا بيوتهم، وإنما أرادوا الفرار من ملاقاة العدو، (إن يريدون إلا فراراً) ثم قال الله: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14].
هذه الآية اختلف العلماء فيها اختلافاً كثيراً لكن أحاول أن أجمع لك شتاتها، (دخل) في القرآن تأتي كثيراً في وصف ذلك الغازي والفاتح، قال الله جل وعلا: {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} [الإسراء:7] وقال الله جل وعلا لبني إسرائيل: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21].
وقال الله على لسان الرجلين الموفقين: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:23] فالكل يتكلم عن غزو وفتح، فالله جل وعلا هنا يقول: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} [الأحزاب:14] القطر: الناحية، والمقصود: أقطار المدينة أي: نواحي المدينة، {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14].
وأكثر أهل العلم على أن المراد بالفتنة هنا: الشرك.
فيصبح معنى الآية: أن هؤلاء القوم الذين خذلوك ويريدون الفرار، لو طلب منهم الشرك لوافقوا عليه جبلةً غير متباطئين؛ لأن الإسلام أصلاً لم يدخل إلى قلوبهم، هذا قول، وعليه أكثر العلماء.
وقال الضحاك رحمة الله تعالى عليه من المفسرين: إن المعنى {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14] أي: أنهم -وهذا قول قوي- ما خذلوك وفروا لأنهم جبناء، وإنما خذلوك وفروا لأنهم لا يريدون أن ينصروك، فالمعنى: لو كانت القضية قضية عصبية لما تلبثوا بها إلا يسيراً أي: لحاربوا ودافعوا، فالمراد بالفتنة في قول الضحاك: القتال من أجل العصبية.
قال تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14] لكن أكثر أهل التفسير على أن المراد بالفتنة هنا: الشرك، ويؤيده قول الله جل وعلا: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:39].
قلنا: إن بني حارثة سبق لهم أن فروا يوم أحد، فذكرهم الله جل وعلا بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم من قبل، فقال الله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:15].(66/2)
تفسير قوله سبحانه: (قل لن ينفعكم الفرار من دون الله ولياً ولا نصيراً)
وفي هذا تعظيم للعهد الذي بين العبد وبين ربه، وأن الإنسان إذا قطع على نفسه عهداً أو وعداً وجب عليه أن يلتزم به، ثم قال الله: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16].
العقل يقول: إن الإنسان ينجو إذا فر، لكن إذا أراد الله الحياة لهذا فسينفعه الفرار، لكن إذا كان الله جل وعلا لم يرد له حياة فلن ينفعه فراره، كما أن المتقدم في الجيش والقادم في أول الصف إذا أراد الله له أن يقتل فسيقتل، لكن إن لم يكن الله يريد له أن يقتل حتى لو تقدم الصفوف فلن يقتل، إن لم يكن الله جل وعلا قد كتب عليه حياته.
ثم قال الله جل وعلا لهم: هب أنكم فررتم ونجوتم من القتل في الخندق، هل يعني ذلك أنكم ستحيون حياة أبدية؟! محال؛ ولهذا قال الله بعدها: {وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16].
يقولون: إن عبد الملك بن مروان المؤسس الثاني لدولة بني أمية، وبخلافته انتقلت الخلافة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني، قال شوقي: مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى والمحراب مروان وبلاد الشام معروفة بمرض الطاعون، وقد مات كثير من الصحابة والتابعين بسبب طاعونها، فحل بها الطاعون أيام عبد الملك بن مروان ففر، فلما فر أخذ معه عبداً من عبيده يخدمه، والمستوى العقلي والفكري بين غلام خادم وما بين أمير المؤمنين مختلف اختلافاً كبيراً، والحديث لا يمكن أن يكون متلائماً للفرق الفكري، لكن عبد الملك لم يكن معه إلا هذا الغلام، ولابد من الحديث خاصة أن الخائف والهارب من الطاعون يريد من أحد أن يسليه، وهما في الطريق لم يبعدوا عن دمشق كثيراً قال عبد الملك لغلامه: قل لي ما تقول أنت وأقرانك؟ قال: يا أمير المؤمنين! بلغني فيما بلغني أن أسداً أجار ثعلباً، فقال له الثعلب: أنا أصطاد لك على أن تجيرني من كل أحد، فوافق الأسد، فأصبح الثعلب يختال في مشيته لأنه في حمى الأسد، فجاء طير كبير الحجم جداً يريد أن يخطف الثعلب ويحمله معه، فخاف الثعلب وارتعد، فارتقى على ظهر الأسد يريد منه أن يحميه، فجاء الطائر وتناول الثعلب وحمله، فقال الثعلب يستنجد بالأسد، لماذا لم تحمن يا أبا الحارث، وأبو الحارث كنية الأسد، فقال الأسد: لقد وعدتك أن أحميك من دواب الأرض أما ما يأتي من السماء فلا طاقة لي به، ففهمها عبد الملك ولوى عنق الدابة وقال: والله لقد وعظتني يا غلام أيما وعظ، ثم تلا: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16] وعاد إلى دمشق ونجاه الله من الطاعون فلم يهلك.
فثمة أمور يعجز المرء أن يتخذ فيها حيلة، فليس له إلا أن يسلم أمره إلى الله، ثم إنك أحياناً قد يرحمك الله بمشورة أو برأي من هو أقل منك فهماً أو عقلاً أو علماً، وإذا أنت صدقت مع الله في سريرتك، وأحسنت نيتك فإن الله يسخر لك خلقه يدلونك ويهدونك ويحمونك ولو كانوا ضعفاء؛ لأنهم إنما هم سخرهم العلي الكبير لك.
قال الله: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16] معنى الآية: إن نجوتم إذاً لا تمتعون إلا قليلاً، فإذاً لا تمتعون إلا قليلاً جواب لشرط محذوف، وهذا قالوا: إنه موجود في لسان العرب، قال قائلهم: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبان إذاً لقام بنصري معشر خشن عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا معنى الكلام أنه يقول: لو كنت من قبيلة بني مازن لما استطاع أحد أن يتجرأ على إبلي، ثم قال: إذاً لرده ذو معشر خشن يقصد: أنه لو سلبت إبلي لردها أولئك الأخيار، وهو لم يذكر كلمة: إن سلبت إبلي، كذلك في الآية لم يذكر النجاح، ولكن قول الله جل وعلا: {وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16] دل على أنها جواب شرط لفعل شرط محذوف.
ثم قال الله جل وعلا: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:17] والآية في معناها العام تهدف إلى بيان أن الله جل وعلا وحده من يحفظ، ووحده من يكلأ عباده، ووحده من ينصر، ووحده من يعصم، لا رب غيره، ولا إله سواه.(66/3)
تفسير قوله تعالى: (قد يعلم المعوقين وكان ذلك على الله يسيرا)
ثم قال الله جل وعلا: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18].
والبأس: الحرب والقتال، (قد يعلم الله) قد هنا ليست للتقليل وإنما للتحقيق، (قد يعلم الله المعوقين) المعوقين: اسم فاعل من عوق، والتشديد في عوق يراد به التكفير، ومنه قول الله جل وعلا: {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} [يوسف:23] أي: أحكمت غلقها.
وكذلك قول الله جل وعلا: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ} [الأحزاب:18] أي: يكثرون من تثبيطكم، {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} [الأحزاب:18] اتفقنا على أن هناك أقواماً يثبطون غيرهم عن الجهاد في سبيل الله كما في معركة الأحزاب على وجه الخصوص، السؤال هنا: من القائل ومن المقول له؟ أكثر أهل العلم على أنهم طائفة من المنافقين تقول لبعض مرضى القلوب، وهذا الذي عليه أكثر أهل العلم.
وقال آخرون: إن القائلين هم اليهود لإخوانهم من أهل النفاق.
لكن نرجح الأول لقرينة هي أن الله قال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:18] أي: ممن ينتسبون إلى الإسلام، واليهود لم يكونوا ينتسبون للإسلام.
{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] أي: تعالوا إلينا، ثم قال الله: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] لم تكن هناك حرب وقت الخندق، بل كانت المرابطة موجودة على الجهة في الخندق التي تقابل جهة الكفار.
الآن اترك هذا كله جانباً حتى تفهم الآية نفياً وإثباتاً، الله يقول: (لا يأتون البأس) هذا نفي، أي: لا يأتون مواضع القتال، ثم قال: (إلا قليلاً) وهذا إثبات، فاجتمع نفي وإثبات، فلا بد من تخريجها، الله هنا يصف كيف تعامل المنافقون مع المرابطين حتى انطبق عليهم قول الله: (ولا يأتون البأس إلا قليلاً) أنا إذا ضربت الأمثال أحاول أن أخرج بك عن آيات القرآن، فإذا فهمت المثل خارج القرآن فإنك تستطيع أن تفهمه في القرآن، أنتم ثلة أصدقاء، والصداقة فيها حقوق، هب أن أحدكم يريد أن يتزوج، نفرض أن رجلاً يريد أن يتزوج، فلما أراد أن يتزوج وقعت عليكم مسئولية إعانته في الزواج، أي: الحضور والقيام بالواجب، وهناك من لا يريد أن يفزع لكنه في نفس الوقت يخشى من لوم الآخرين، فهو يريد أن يأتي ولا يريد أن يأتي في آن واحد، نفرض أن الحفل ست ساعات، ففي الساعة الأولى عند استقبال الضيوف وتوزيع المهام يحضر فيراه والد الرجل وأخوه وأصدقاؤه ويرون أن فلاناً أتى، فإذا بدأ العمل انصرف، وذهب يقضي مصالحه، فإذا جاء وقت تقديم الضيافة للناس جاء ووقف ليراه كل الحضور، فالناس يمشون ويقولون: ما أعجب صداقة فلان كان واقفاً مع صديقه وقت فرحه، وهو لم يفعل شيئاً، ثم إذا جاء الناس يغادرون جاء، فلو حسبت مدة لبثه لم تتجاوز الدقائق، فهو في الحقيقة لم يأت ولم يقدم أي خدمة، لكنه أقنع الناس بأنه أتى.
تعال لهؤلاء المنافقين، هذا الخندق احتاج النبي صلى الله عليه وسلم زمناً حتى يحفره، واحتاج إلى أقوام يرابطون على الثغور ليرون هل هناك أحد من أهل الإشراك تجاوز الخندق ووصل إلى المؤمنين؟ هل هناك فجوة أو حفرة أو ردم انهار أو يحتاج إلى زيادة حفر؟ مسألة تحتاج إلى مرابطة، فإذا علم أن هناك اجتماعاً عقده النبي صلى الله عليه وسلم جاءوا، فيراهم الناس، فإذا بدأ العمل تواروا ورجعوا إلى بيوتهم، فإذا علموا أنه بعد يومين أو ثلاثة يقيم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من وليمة أو طعام أو ما أشبه ذلك حتى يخفف عن أصحابه جاءوا، هذا صنيعهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال الله: (ولا يأتون البأس إلا قليلاً) قلة حضورهم تعني قطعاً: أنهم لا يريدون أن ينصروا الله ورسوله، لكنهم خافوا من الملامة وأن يورثهم النبي صلى الله عليه وسلم عقاباً، فلجئوا إلى التحايل في تعاملهم مع نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.
المؤمن إذا فقه كيف يفهم القرآن وطبقه على واقعه وقاس الأشباه والنظائر يكون أقدر من غيره على أن يوصل مقصود مراد الله إلى غيره من الناس، قال الله: (ولا يأتون البأس إلا قليلاً أشحة عليكم) الشح: البخل بما في الوسع مما ينفع الناس، شيء تملكه بوسعك أن تعطيه غيرك فينفعه، فإذا ضننت به على غيرك فهذا هو الشح.
الله جل وعلا يقول: (أشحة عليكم) هؤلاء المنافقون بخلوا بجهدهم وبقوتهم البدنية بمالهم بحضورهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا قول الجمهور.
وآخرون من العلماء -وهذا قال به الزمخشري - وله في الشعر العربي ما يؤيده، لكن الآية كلها لا تساعده، قال: معنى (أشحة عليكم) أي: أنهم يظهرون أنهم شحيحون عليكم بمعنى: حريصون عليكم، يريدون منكم بقولهم: عودوا إلى المدينة أن يحافظوا على أرواحكم.
فالآية في قوله تبارك وتعالى: (أشحة عليكم) تحتمل المعنيين، لكن الجمهور على ما حررناه أولاً.
قال الله جل وعلا: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} [الأحزاب:19] أي: مظنة الخوف وهو القتال، {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19].
العرب دائماً تقول القول بالدوران في الشيء المخيف، كما عبر عنه عنترة في شعره، فإذا ذهب الخوف (سلقوكم) هنا معنى (سلقوكم) أي: تجرءوا عليكم، وإلا السليقة تطلق على عدة أمور: فتطلق على الأرض المطمئنة، وعلى الفطرة، وهنا على الجرأة في الخطاب، قال: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19]، فأحبط الله أعمالهم؛ لأنهم منافقون، لكن قال الله: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19] (ذلك) عائدة على ماذا؟ تحتمل معنيين: قال: (كان ذلك على الله يسيراً) أي: إحباط الله لأعمالهم يسير هين عليه، وهذا أوجه وأرجح، فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك الإحباط على الله يسيراً، هذا الأول.
الأمر الثاني: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19] أي: عدم إيمانهم أمر هين على الله، لا يعبأ الله به؛ لأن الله لا تضره معصية عاص، ولا تنفعه طاعة طائع.
يتحرر من هذا أن الآية والآيات ما زالت تتحدث عن حال المنافقين يوم الأحزاب، وهي حال أنبأت عما يبطنونه من الكفر، وعما جبلوا عليه من الجبن والهلع، وعدم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك بآية أو آيتين يأتي بيان موقف أهل الإيمان الذي قال الله فيه: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
هذا ما تحرر إيراده، وتيسر إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(66/4)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأحزاب [6]
لما ذكر الله تعالى حال المنافقين والكفار في غزوة الأحزاب ذكر حال المؤمنين الأخيار، وكيف أنهم رضوا بالله رباً، واكتفوا به نصيراً، وازدادوا مع إيمانهم إيماناً، وصدقوا الله ورسوله يقيناً واعتماداً، وصبروا ورابطوا، فنصروا واستبشروا، ومن النار نجوا، ومن الجنة اقتربوا، وأولئك هم المؤمنون حقاً، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، فالمقصد واحد، والغاية أسمى، والله ولي المؤمنين.(67/1)
تفسير قوله تعالى: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وذكر الله كثيراً)
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فما زلنا نتفيأ الآيات المباركات من سورة الأحزاب، وكنا قد انتهينا في الحديث عن حال المنافقين في تلك المعركة التي جعلها الله تبارك وتعالى ابتلاءً لعباده المتقين، وانتهينا إلى قول ربنا جل وعلا: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:20].
قوله: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) أي: ما زال أولئك المنافقون على ما في قلوبهم من هلع، وعلى ما في أنفسهم من جزع يظنون أن الأحزاب لم يذهبوا لما رأوه وعاينوه من عظم البلاء وشدة الخطب، ثم قال الله: (وإن يأت الأحزاب) إن هنا: شرطية، (ويأتي) فعل الشرط، وفعل الشرط -أيها المبارك- إذا جاء بعد أداة شرط جازمة يجزم، ثم إن جزمه أو علامة جزمه تكون بحسب حاله، فإذا كان معتل الآخر كما هو الحال هنا، فإن حرف العلة يحذف.
قال الله: (وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب) من يسكن الأعراب أصالةً أو البادية أصالةً يسمى: أعرابياً، ومن يتردد عليها ولا يسكنها بالأصالة يسمى: بادياً.
فهؤلاء لفرط جزعهم يتمنون ويودون وفق تعبير القرآن، لو أنهم بادون في الأعراب، (يسألون عن أنبائكم) أنباء المؤمنين؛ لأنهم يبغضون الدين وأهله فيتساءلون قائلين: أهلك محمد وأصحابه؟ أي: انتصر أبو سفيان وأحزابه، هذا تساؤلهم، ثم قال الله: (ولو كانوا فيكم) لو قدر وفرضنا أنهم كانوا فيكم (ما قاتلوا إلا قليلاً) فعبر الله جل وعلا بنفي القتل وأثبته بعد الاستثناء بقوله: (قليلاً).
حذاق المفسرين وهذا من الفهم -وهو ما قاله القرطبي في الجامع- فهموا أن كلمة قليلاً: على أن قتالهم شيء يسير كالرمي بالحجارة والنبل وهذا واضح، لكن تدل على شيء آخر خفي؛ ولذلك قلت: إنه من حذاق المفسرين، وهو أن صنيعهم هذا يكون رياءً وسمعة، قالوا: لو لم يكن رياءً أو سمعة لما سماه الله قليلاً؛ لأن القليل إذا كان مقروناً بالإخلاص وابتغاء وجه الله فلا يقال له: قليل؛ فإن العمل يعظم بالنية.
ولا ريب أن القرطبي رحمة الله تعالى عليه على بعض أخطاء وقع فيها في تفسيره، ولا يسلم من ذلك أحد: فإنا لم نوق النقص حتى نطالب بالكمال الآخرين لكنه من حذاق المفسرين حقاً، وله باب عظيم أو قدرة كبيرة في الصناعة الفقهية على وجه الأخص، وهو مالكي المذهب، فوبخ الله صنيع أهل النفاق بأن مدح نبيه عليه الصلاة والسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام كان أول المرابطين وأول من وقف يحفر الخندق مع أصحابه، فقال الله جل وعلا لأولئك المنافقين -على فرض أن الآية مخاطب بها أهل النفاق- وآخرون يقولون: إن قول الله جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] مخاطب بها المؤمنون، وأياً كان الأمر فإن الآية تحتمل الاثنين، فيكون الخطاب بالآية للمنافقين من باب التوبيخ، وللمؤمنين من باب الحث والثبات على ما هم فيه، أو على ما هم عليه.
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، هنا نأتي إلى مسألة علمية يجب أن تحرر، هل كونه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة على باب الإيجاب أم الاستحباب؟ للعلماء فيها ثلاثة أقوال: فقال بعضهم: إنها على سبيل الإيجاب ما لم يدل دليل على الاستحباب، فهؤلاء جعلوا الإيجاب أصلاً.
وقال بعضهم -وهو بدهي-: بل الأصل الاستحباب ما لم يدل دليل على الإيجاب.
والقول الثالث -وهو الذي نختاره والعلم عند الله-: أنها للإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا.
هذا من حيث الأصل ثم ينظر في كل مسألة بحسب قرينتها، قال الله جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم أسوة وأي أسوة، وقدوة وأي قدوة، بل لا أسوة بحق غيره صلى الله عليه وسلم؛ لأن العصمة لم تكن إلا له ولإخوانه الأنبياء من قبل، وهو الذي بعث إلينا.
ونلاحظ أن الله جل وعلا عندما ذكر الأنبياء قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] ولم يقل: فبهم اقتده، وهذه مسألة تبحث في علم الرسول، لكني لا أريد أن أوسع شيئاً ليس هذا مقامه.
قال جل وعلا: (لقد كان لكم في رسول الله) أي: كله عليه الصلاة والسلام في أمور الدين والدنيا، (لقد كان لكم في رسول الله) صلى الله عليه وسلم (أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) ولا يمكن أن يقبل عمل ويرفع إلا إذا كان العبد يرجو به الله واليوم الآخر، (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً).
من حيث الصناعة النحوية -وسندخل كما اتفقنا معكم قبل اللقاء بعض الإعرابات في الدرس حتى يتدرب طالب العلم على ألا يلحن نحوياً- قال الله: {كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] (كان) فعل ماض ناقص، فأما قولنا: إنها فعل فلأنها ليست اسماً ولا حرفاً، وأما عن قولنا: (ماض) فلأنها في الزمن الماضي، وأما قولنا: ناقص فلأنها لا تكتفي بمرفوعها، بل تحتاج إلى اسم وخبر، ولا تحتاج إلى فاعل، فإذا جاءت في حالة تحتاج فيها إلى فاعل سميت تامة.
ونظيره في القرآن قول الله جل وعلا: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] هنا تامة، وهذا معنى: فعل ماض ناقص، (لكم) اللام: حرف جر، والكاف: ضمير متصل مبني على الضم في محل جر بحرف الجر، والجار والمجرور -اللام وما بعدها- خبر لكان مقدم، فكان تحتاج إلى اسم وخبر، قال الله جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ} [الأحزاب:21] إلى الآن لم يظهر اسم كان؛ ففي: حرف جر، ورسول: اسم مجرور وهو مضاف، ولفظ الجلالة: مضاف إليه متعلق بما بعده.
كلمة (أسوة) هي: اسم كان، وأصل الكلام: لقد كان أسوة حسنة لكم، لقد كان أسوة حسنة في رسول الله لكم، فأسوة: اسم كان مرفوع وعلامة رفعه الضمة، أما (حسنة) فجاءت مرفوعة مثل (أسوة) فدل على أنها من التوابع، فهي صفة.
والتابع يأخذ حكم المتبوع في الإعراب، فالصفة تأخذ حكم الموصوف، والبدل يأخذ حكم المبدل منه، والمعطوف يأخذ حكم المعطوف عليه.
هذه صناعة نحوية أطنبت فيها قليلاً وقلت: هذا من باب التغيير في الدرس.(67/2)
تفسير قوله تعالى: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب إلى قوله: وما بدلوا تبديلاً)
ثم قال الله جل وعلا: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
من حيث الصناعة العقدية: هذه من أعظم الأدلة لمذهب أهل السنة -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- على أن الإيمان يزيد وينقص، فهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ لأن الله قال: (وما زادهم إلا إيماناً) وليس بعد كلام الله كلام، فأثبت الله جل وعلا بمقتضى هذه الآية لنا: أن الإيمان يزيد وينقص، وهناك آيات أخر بنفس السياق، لكن نحن الآن في الآية التي بين أيدينا.
وهنا
السؤال
الله يقول: ولما رأى المؤمنون الأحزاب، أما معنى: رأى المؤمنون الأحزاب هذه ظاهرة، فقد رأى المؤمنون الأحزاب بأعينهم، لكن قوله: (هذا ما وعدنا الله ورسوله) ما الذي وعدهم الله ورسوله؟ للعلماء -أيها المبارك- فيها قولان: قول يقول: إن المقصود بالآية: أن هذه الأحزاب ابتلاء من الله، فهذا وعد الله وهذا يردهم إلى القرآن، قال الله جل وعلا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]؛ لأن نهاية البقرة من أوائل ما أنزل، فيصبح المعنى: أن هؤلاء المؤمنين لما رأوا الأحزاب تذكروا الابتلاءات التي أخبر الله بها، فقالوا: هذا الذي نراه الآن مما وعدنا الله به ورسوله، هذا قول.
وآخرون قالوا: إن المقصود بقول الله جل وعلا: (لما رأى المؤمنون الأحزاب هذا ما وعدنا الله ورسوله) على ما قلنا في اللقاء الماضي: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعدهم في معركة الخندق وهو يحفر: أنه ستفتح لهم فارس والروم وأبواب صنعاء.
والآية تحتمل المعنيين ولا يوجد تعارض بينهما، قالوا: وهذا ما وعدنا الله ورسوله، (وصدق الله ورسوله)، وقد بينا فضيلة الصدق في اللقاء الماضي، (وما زادهم) أي: هؤلاء المؤمنين (إلا إيماناً وتسليماً).
ثم قال الله جل وعلا: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، من أوائل من يدخل في هذا المدح الرباني والتبشير الإلهي: أنس بن النضر رضي الله تعالى عنه وأرضاه عم أنس بن مالك، وكان الناس -كما هو الحال في زماننا- أحياناً يسمون أبناءهم بأسماء قراباتهم، فسمي أنس بن مالك باسم عمه، أي: أن مالكاً هذا أراد أن يبر أخاه أنساً فسمى ابنه باسم أخيه.
وأنس بن النضر رضي الله عنه وأرضاه لم يكتب له أن يشهد بدراً، فأخذ يعاتب نفسه ويقول: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيب عنه لئن شهد النبي صلى الله عليه وسلم مشهداً آخر ليرين الله ما أفعل، ثم خاف أن يزيد عليها، حتى لا يقع منه ألا يبر ما نطق به، فلما كان يوم أحد قابله سعد بن مالك رضي الله عنه في ساحة المعركة، فقال: واهاً يا أبا عمرو! إلى أين؟ قال: إني أجد ريح الجنة دون أحد، وأحد الجبل الذي كانت في أسفله أو دونه أو بجواره المعركة، فـ أنس رضي الله عنه علم الله منه صدقه، قال: إني أجد ريح الجنة دون أحد، وقد يقولها منافق، ولكن هذا الصحابي الجليل المبارك رضي الله عنه وأرضاه استشهد يوم أحد، ووجد وفيه أكثر من بضع وثمانين جرحاً ما بين ضربة أو طعنة أو رمية، وهذا يدل على أنه أبلى بلاءً شديداً رضي الله عنه وأرضاه.
فمن أوائل من يدخل في هذه الآية المباركة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]: أنس بن النضر ومصعب بن عمير وأجلاء الصحابة ممن استشهد يوم أحد أو بعده أو قبله.
ثم قال الله جل وعلا: (فمنهم) أي: من هؤلاء (الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من قضى نحبه)، والنحب -أيها المبارك- ما التزم الإنسان الوفاء به، فلما كان النحب ما التزم الإنسان الوفاء به وكان الموت مما لابد منه، سمي من لاقى الموت: قاضياً نحبه.
وعلى ذكر الموت فقد أدركنا أجلاء في المدينة كبار السنة يربون أبناءهم على حقائق ويقينيات منذ الصغر، حتى ينشأ صلباً في وجه ما يعتريه أكثر من غيره، وكانوا يربون أطفالهم على حقيقتين: لا نجاة من الموت، ولا سلامة من الناس.
يقول حسان: وإن امرأً يمسي ويصبح سالماً من الناس إلا ما جنى لسعيد يعني: إذا كان الناس لا يقولون فيك إلا ما هو فيك فأنت تعتبر سعيداً، لكن محال ألا يقول الناس فيك إلا ما هو فيك، بل تجد منهم من يبالغ في مدحك ومن يبالغ في ذمك، وقلما سمعت قولاً صادقاً يحكم فيك بما هو فيك.
قال: (فمنهم من قضى نحبه ومنهم) رضي الله عنهم وأرضاهم (من ينتظر) أي: ما زال على هذا الطريق العظيم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين قيل فيهم (ومنهم من ينتظر) يدخل فيهم طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه يوم أحد: أوجب طلحة، وقيل: إنه ممن قضى نحبه ولكنه كان يمشي على الأرض رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فقد أبلى طلحة بلاءً عظيماً يوم أحد في الثبات والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الله يمدح أولئك الأخيار الذين كانوا شامة في جبين الأيام، وتاجاً في مفرق الأعوام، قال عنهم: (وما بدلوا تبديلاً) وفي هذا تعريض بحال المنافقين، والذين قال الله فيهم كبعض بني حارثة: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:15].
من حيث الصناعة النحوية: (ما): نافية، (وبدلوا) فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة، وواو الجماعة هذه ضمير متصل مبني على السكون في محل رفع فاعل، و (تبديلاً): مفعول مطلق، وهناك من الفضلاء من ليس بصاحب صنعة نحوية، وهذه الأشياء قد يراها مفاجئة، لكن ثق تماماً أنه مع الدربة ومع الأيام ستصبح جزءاً من شخصيتك، أنت ما هو كيانك الجسدي؟ كيانك الجسدي بناؤه من الغذاء الذي تأكله مع الأيام، ما هو بناءك الثقافي؟ هو العلم الذي تسمعه مع الأيام، فلا يمكن أن تقول: إن الغذاء هذا أو ذاك هو الذي شكل تلك الجزئية من جسدك، لكن مع بعضها البعض، شكلت هذا الجسم المكون بقدر الله.
وكذلك العلم، فما تسمعه يصبح جزءاً من شخصيتك، والذي يتكلم وينطق ويحاضر ويخطب إنما يقول ما استقر في ذهنه من علوم ومعارف سمعها أو وعاها عبر سنين وأيام وشهور، فكلما طال بياته وجمعه للعلم ثبت ورسخ إذا تكلم، أما إذا رأيته طار قبل أن يريش وحاول أن يستوي على سوقه قبل أن يتم تمامه فإنه لن يلبث حتى يسقط عافاني الله وإياكم من السقوط.(67/3)
تفسير قوله تعالى: (ليجزي الله الصادقين بصدقهم إلى قوله: إن الله كان غفوراً رحيماً)
قال الله تعالى: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:23 - 24].
هنا إشكال، وقد قلت في اللقاء الماضي وفي لقاءات سبقت: إن وجود الإشكال دافع للتعلم والبحث.
يقول ربنا وكلنا يعلم ذلك: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، والمنافق كافر، والكافر لا يدخل تحت المشيئة؛ لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]، إنما المؤمن هو الذي إذا عصى الله دخل تحت مشيئته، لكن المنافق كافر لا يدخل تحت المشيئة.
هذا الأصل يحدث عندك إشكالاً لأن الله قال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24]، دائماً في المناقشات العلمية حاول أن تستريح، وخذ الأصل المخيف وأبعده من رأسك، فأنت معك أصل قاطع أن المنافق مخلد في النار، إذاً: هذه الآية لا تتحدث عن الآخرة؛ لأن المنافق في الآخرة مخلد في النار، يعني: من لقي الله يوم القيامة وهو منافق فهو في النار، ولا يوجد شيء اسمه مشيئة هنا؛ لأن الله يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48].
إذاً: أول طريقة تأخذها في السياق العلمي هنا أن تقول لمن سألك: كيف يقول الله: (ويعذب المنافقين إن شاء)؟ فتقول: هذه الآية لا تتكلم عن الآخرة، بل تتكلم عن الدنيا، وهذا الجواب يريحك كثيراً قبل أن تبحث في المسألة، فهناك درجتان تقابلهما ثمرتان: الدرجة الأولى: النفاق، ويقابلها العذاب.
الدرجة الثانية: التوبة تقابلها الرحمة.
فالذي حصل هنا: أنه اختار إحدى الدرجتين وإحدى الثمرتين، وأخفى إحدى الدرجتين وإحدى الثمرتين، قال الله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24]، فالعذاب ثمرة ودرجته: الاستدامة في النفاق، فيصبح معنى قول الله تعالى: (ويعذب المنافقين إن شاء) أي: يبقيهم على نفاقهم؛ لأن العذاب ثمرة لدرجة هي الاستدامة على النفاق.
فالله هنا ذكر الثمرة ولم يذكر الدرجة، لكننا فهمنا الدرجة من الثمرة، فهمنا، ثم قال جل جلاله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24] وهنا لم يذكر الله الثمرة، وذكر الدرجة وهي التوبة من النفاق، والرحمة ثمرتها.
فيصبح معنى الآية إجمالاً: أن الصادقين سيجزيهم الله بصدقهم في الدنيا والآخرة، أما المنافقين فربنا يقول: أنا قادر على أن أبقيهم على نفاقهم فيكونوا أهلاً للعذاب، وقادر على أن أتوب عليهم فيتركوا النفاق فيكونون أهلاً للرحمة.
هذا معنى قول الله جل وعلا: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24]، ولما كان ربنا غلبت رحمته غضبه لين الآية جل شأنه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24] وفي هذا إقامة حجة عليهم، ودعوتهم إلى التوبة.(67/4)
تفسير قوله تعالى: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم وكان الله قوياً عزيزاً)
قال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:24 - 25].
هذه الآية لها ارتباط بالسياقات القادمة، لكني أحاول أن أتكلم عنها سريعاً لأجل الوقت، (ورد الله الذين كفروا بغيظهم) (الغيظ): الحنق والغضب، (ورد الله الذين كفروا) يدخل فيها عموم أهل الأحزاب، (بغيظهم لم ينالوا خيراً) أي: لم يحصلوا على ما يبتغونه، (وكفى الله المؤمنين القتال) (كفى) هنا بمعنى: أغنى وأراح، (وكفى الله المؤمنين القتال) لم يكن في يوم الخندق قتال إلا يسير كقتال علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه لـ عمرو بن ود، قال: (وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً) وهذا التذييل مناسب لما قبله، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25].
أما ما بعدها من آيات فهي متصلة المعنى، نتأملها ونفسرها إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم، هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(67/5)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأحزاب [7]
إن قدرة الله على أعدائه، ونصره لأوليائه أمر يجاوز كل الاحتمالات والتصورات، فإنه يعلم جنوده سبحانه إلا هو.
وقد جاء نصره للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد أن ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، وبلغت القلوب منهم الحناجر، وهكذا تأييد الله لأوليائه في كل زمان ومكان.(68/1)
تفسير قوله تعالى: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقال الله جل وعلا: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25].
بعد أن سلط الله جل وعلا على أهل الكفر ريحاً وجنوداً لم يرها المؤمنون ولا الكافرون، وكفى الله جل وعلا المؤمنين القتال كما عبر القرآن، عاد صلى الله عليه وسلم إلى حجراته، فجاءه جبريل وأخبره أن الله يأمره أن يأتي بني قريظة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم رهطاً من أصحابه قائلاً لهم: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة).
والمفهوم من هذا بادئ الرأي وأول الأمر وهو الحق، أن هذا البعث كان بعد صلاة الظهر، فبعد الفراغ من صلاة الظهر قال النبي صلى الله عليه وسلم لرهط من أصحابه: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، وبنو قريظة كانوا يسكنون في الجنوب الشرقي من المدينة، وهم إحدى قبائل ثلاث من اليهود كانت تسكن المدينة، وهي قبائل بني النضير، وبني قريظة، وبني قينقاع.
فبنو قريظة كان عليهم سيد يقال له: كعب بن أسد، فحاول حيي بن أخطب أن يقنعه بأن يكون مع الأحزاب، رغم أن كعباً هذا سيد بني قريظة لم يكن موافقاً، وكان يقول لـ حيي: إنك رجل مشئوم، لكن حيياً زين له الأمر، وما زال يفتل له في الذروة والغارب؛ حتى أوقعه فيما أوقعه فيه، فمالت بنو قريظة إلى الأحزاب، وائتمروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رد الله جل وعلا أهل الكفر، ورد الأحزاب لم يناولوا خيراً -كما عبر القرآن- أمر الله نبيه بوحي جبريل إليه أن يأتي بني قريظة.(68/2)
تفسير قوله تعالى: (وأنزل الذين ظاهروهم
يقول الله جل وعلا: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الأحزاب:26] ومعنى: {ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الأحزاب:26].
أي: ظاهروا الأحزاب، وهم بنو قريظة، وكلمة (أنزل) تدل على إهباط من مكانٍ عالٍ، وكانت لبني قريظة حصون، تحصنوا بها، فالله جل وعلا أنزل أولئك من حصونهم، فقال الله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب:26].
و (صياصي) بمعنى: حصون، مفردها صيصة، ويقال لقرني البقر صياصي؛ لأن البقر بقرنيه يدافع عن نفسه.
ثم قال الله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب:26] القذف في اللغة: الإلقاء السريع.
ومما آتى الله النبي صلى الله عليه وسلم أنه نصر بالرعب.
ثم قال تعالى: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [الأحزاب:26] أي: من أهل بني قريظة.
{وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26]، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم في بني قريظة سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وسعد بن معاذ سيد الأوس، وهو صحابي جليل معروف، ولما مات فرح أهل السماوات بصعود روحه.
قال ابن القيم معلقاً: فإذا كان هذا فرحهم بصعود روح سعد وهو خير من خير الأصحاب، فكيف فرح أهل السماوات بصعود روح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فـ سعد رضي الله عنه لما حكم قدم به -وكان مريضاً، أصابه سهم- إلى الأنصار، وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم وبنو قريظة ينظرون، فقال عليه الصلاة والسلام للأنصار: (قوموا لسيدكم) فلما طلب منه أن يحكم وكان رجلاً عاقلاً، مع أنه لم يتجاوز السادسة والثلاثين، أي: أنه كان صغيراً، لكنه كان جسيماً رضي الله عنه وأرضاه، رجلاً طوالاً، فقال: هل ينفذ حكمي على هؤلاء؟ يقصد بني قريظة، قيل له: نعم، فتأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: وعلى هؤلاء.
ولم يشر بوجهه إلى النبي عليه الصلاة والسلام أدباً.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم.
ومن هنا يفهم: أنك لا تقبل أن تكون حكماً حتى يرضى بك الطرفان، فإن لم يرض بك الطرفان فلا تقبل أن تحكم أو تقضي، فإن رضيا بك فخذ منهم ميثاقاً على أن يرضوا بحكمك؛ حتى لا يذهب قولك هدراً، وحتى تقيم الحجة عليهم، فلما قيل له ذلك رضي الله عنه وأرضاه، قال: لقد حكمت فيهم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذريتهم ونساءهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (لقد حكمت فيهم بحكم الله يا سعد!) وجاء الحديث بعدة روايات.
والنبي عليه الصلاة والسلام لما قبل حكم سعد في بني قريظة، وكان من السبي فتىً لم يبلغ الحلم بعد، يقال له: كعب القرظي، وكعب كبر وأسلم، وجاء بولدٍ اسمه محمد وأصبح اسمه محمد بن كعب القرظي، وهو من أئمة أهل التفسير، وإذا من الله على الإنسان بالاستمرار في هذا الفن من العلوم وهو فن التفسير، فسيمر عليه كثيراً اسم محمد بن كعب القرظي؛ لكونه أحد أئمة التفسير رحمة الله تعالى عليه، رغم أنه من أصل يهودي.
لكن فضل الله جل وعلا يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
الذي يعنينا هنا قول الله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26] وهذا بناء على حكم سعد.(68/3)
تفسير قول الله تعالى: (وأورثكم أرضهم)
ثم قال الله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} [الأحزاب:27]، وهذا واضح، فمنازل بني قريظة ومزارعهم بما كان فيها من مواشي من ثاغية وراغية، كانت للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ثم قال الله: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27].
أي: وأورثكم أرضاً لم تطئوها.
كلمة (أورثكم) تدل على أنه حصل، وكلمة (لم تطئوها) تدل على أنه لم يحصل بعد، مثل قول الله جل وعلا: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] ثم قال الله بعده: {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] وهذا يدل على أنه لم يأت؛ لأن الأمر إذا أتى وانقضى لا يقال له: فلا تستعجلوه.
فقول الله جل وعلا: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ} [الأحزاب:27] وتعقيبه جل شأنه بقوله: {لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27] يدل على أن الأرض لم يحتلها أو لم يملكها المسلمون بعد؛ لأن الله قال: {لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27].
وقد اختلف العلماء فيما هي هذه الأرض، أي: أي أرضٍ عناها الله جل وعلا بقوله: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27]؟ فقيل: هي مكة، وهذا مروي عن قتادة، وقيل: هي أرض فارس والروم، وقيل: هي كل أرض فتحها المسلمون إلى يوم القيامة، وهذا قول عكرمة واختاره أبو حيان، فهذه ثلاثة أقوال، والذي يترجح عندي هو القول الرابع ولم أقله، وهو أنها أرض خيبر؛ لقرينتين: القرينة الأولى: لقرب معركة خيبر من معركة الخندق زمناً، وهذه القرينة ليست هي القرينة القوية.
القرينة الثانية والأقوى: أن الله يتحدث عن أرضٍ كان يسكنها اليهود، وخيبر أرض كان يسكنها اليهود.
فهذا الذي جعلنا نرجح -والعلم عند الله- أن المقصود بقول الله جل شأنه: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27] أرض خيبر، وقد حكيت لك أقوال أهل العلم رحمهم الله.
ثم قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:27] إلى هنا انتهى الحديث عن سياق معركة الأحزاب.
وأفاء الله جل وعلا على نبيه صلى الله عليه وسلم من بني قريظة الشيء الكثير، ومن هنا فهم بعض أجلاء أهل التفسير أن أمهات المؤمنين لما رأين النبي عليه الصلاة والسلام قد أفاء الله جل وعلا عليه ما أفاء من بني قريظة، أصبحن يسألنه النفقة والتوسع فيها بكثرة.
فجاء في الصحيح أن أبا بكر استأذن فلم يؤذن له، واستأذن عمر فلم يؤذن له، ثم أذن لهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حينها صامتاً، فأراد عمر أن يدخل السرور على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (لأضحكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله! لو رأيت ابنة خارجة -يقصد زوجته- وهي تسألني النفقة فوجأت عنقها، فضحك صلى الله عليه وسلم، فقال: هن حولي -أي: نساؤه- يسألنني النفقة)، فاعتزلهن النبي صلى الله عليه وسلم في مشربة له شهراً، وكان ذاك الشهر تسعة وعشرين يوماً.(68/4)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك)
ثم أنزل الله جل وعلا عليه قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29] وهذه الآيات تسمى آيات التخيير.
وقول الله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] تسمى آية الكرسي.
وقول الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1] تسمى آية المجادلة.
وقول الله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران:61] تسمى آية المباهلة.
وقول الله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] تسمى آية السيف.
وقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة:282] تسمى آية المداينة، أو آية الدين.
فهذه الآيات تسمى آيات التخيير، وهي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28].
النبي صلى الله عليه وسلم من كمال بشريته أنه شخص واضح جداً في حياته، فقد اختار عليه الصلاة والسلام أن يعيش مسكيناً، وأن يكون عبداً، ولم يختر أن يعيش نبياً ملكاً، فهنا لم يجبر نساءه على حياته، وإنما عمد بأمر له إلى التخيير، وكلما كان الإنسان واضحاً مع الناس كان أقدر على أن يسير معهم، ولا ينبغي أن يلوم أحدٌ أحداً على وضوحه.
فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم في التخيير بـ عائشة، فقال: (يا عائشة! إني سأعرض عليك أمراً فلا تعجلي علي حتى تستأمري أبويك، فقالت: يا رسول الله! أفيك أستأمر أبوي)، ثم أخبرها، فاختارت رضي الله عنها وأرضاها البقاء معه صلى الله عليه وسلم، على الحال التي هو فيها، واختارها لأن يعيشها عليه الصلاة والسلام.
قال بعض العلماء: لماذا طلب النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة أن تستأمر أبويها مع أن الأصل في مثل هذه المسائل أن ليس للأبوين فيها علاقة؟ قالوا: وهي لطيفة جيدة: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحب عائشة، فخاف أن يغلب عليها فرط الشباب، فتختار الاختيار الثاني، فأرشدها إلى أن تستأمر أبويها لعلمه أن أبويها سيرشدانها إلى أن تبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها لم تحتج إلى أن تستأمر أبويها، وكانت تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً عظيماً؛ فلم تستأمرهما، وإنما أجابت سريعاً، وهي ذكية من أذكى النساء، فقالت: (يا رسول الله! -والمرأة تبقى امرأة ولو كانت أم المؤمنين- لا تخبر زوجاتك بما أنا أجبتك)، يعني: لا تقل لهن: إنني خيرت عائشة وبدأت بها فاختارتني، فربما هي تريد أن تقل النساء مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تحضى لوحدها به صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يبعثني متعنتاً ولا معنتاً، وإنما بعثني معلماً ميسراً، فمن سألتني عنك أخبرتها)، وهذا جواب في منتهى البلاغة والأدب، وحسبك أن ترى محاضرة ما بين خير الخلق وسيد الأمة وإمام الملة صلى الله عليه وسلم وامرأة في مقام عائشة، فتخرج بفوائد لا حصر لها، لا يكذب أحدهما، وإنما كلاً منهما بأدب جم وعبارة ذكية، ولطف في الخطاب يصل إلى مراده.
فخير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترن جميعاً البقاء معه، والسؤال هنا تأريخياً: من هن المخيرات؟ أولاً: كم كان عددهن؟
الجواب
تسع: خمس قرشيات، وأربع غير قرشيات.
الآن ندخل في سياحة تأريخية، أولى القرشيات عائشة، وأبوها أبو بكر من بني تيم، رغم أن بني تيم لم يكن لهم صيت في قريش.
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود لكن أخرج الله منهم هذا الصديق، فوزن الأمة كلها، لا قريش وحدها رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: فـ عائشة قرشية من بني تيم؛ لأن المرأة تنسب لأبيها، وأبوها رضي الله عنه من بني تيم.
القرشية الثانية: حفصة بنت عمر، وعمر من بني عدي.
القرشية الثالثة: رملة، أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهذه قرشية من بني أمية.
القرشية الرابعة: أم سلمة من بني مخزوم، واسمها هند، رضي الله عنها وأرضاها، وبنو مخزومٍ من قريش، ومن مشاهيرهم: الوليد بن المغيرة، وخالد بن الوليد، وأبو جهل، فهؤلاء أربع قرشيات، والخامسة سنؤخر ذكرها.
نأتي لغير القرشيات، الأولى: جويرية بنت الحارث، فهذه خزاعية من بني المصطلق.
والثانية: ميمونة بنت الحارث، وهي هلالية من بني هلال، وليست من قريش.
والثالثة: صفية بنت حيي لها نسبان، فهي صفية بنت حيي بن أخطب النغيرية الهارونية، تنسب إلى هارون بن عمران، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنك ابنة هارون)، فهي نغيرية هارونية.
فالآن مضى معنا من غير القرشيات: جويرية، وميمونة، وصفية.
والرابعة: زينب بنت جحش، وهي غير قرشية بل أسدية.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على إحدى عشرة امرأة، اثنتان ماتتا في حياته، وهما خديجة وزينب بنت خزيمة الهلالية، ومكث مع الأخيرة ثمانية أشهر، فالباقي تسع، وهن اللاتي خيرن، واللاتي توفي النبي صلى الله عليه وسلم عنهن.
أما الخامسة من القرشيات فهي سودة بنت زمعة رضي الله عنها، وهي عامرية قرشية وقد أخرنا الكلام عنها حتى نتفرغ للحديث عنها.
فـ سودة رضي الله عنها كانت بدينة جداً، وهي التي تنازلت عن ليلتها لـ عائشة، فلما أنزل الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم تخرج، لا لمسجد، ولا لحج، ولا لعمرة، وإنما من بيتها إلى قبرها في خلافة عمر، فلما سئلت كانت تقول رضي الله تعالى عنها وأرضاها: إنا أمرنا بأن نقر في بيوتنا، قال الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].
إذاً: فهؤلاء اللاتي خيرن من نساء النبي صلى الله عليه وسلم التسع، وقلنا: إن زينب بنت خزيمة لم تلحق التخيير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمكث معها إلا ثمانية أشهر، وخديجة من أول نسائه موتاً رضي الله عنها وأرضاها.(68/5)
إعراب قوله تعالى (يا أيها النبي قل لأزواجك)
أما من حيث إعراب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأحزاب:28].
فالحياة إعرابها مفعول به للفعل تردن، والدنيا صفة للحياة.
قوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب:28]؛ جزم الفعل في قوله تعالى: ((أُمَتِّعْكُنَّ))؛ لأن قبله (فتعالين) وهو فعل أمر، فأمتعكن جزمت؛ لأنها وقعت في جواب الطلب، أي: الأمر، والفعل من أحوال جزمه أن يقع في جواب الطلب، أو في جواب الأمر؛ لذلك جزم: {أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28].
و (سراحاً) مفعول مطلق للفعل أسرح، و (جميلاً) صفة لسراح، فإذا جاء المفعول المطلق بعده صفة فيصبح هذا من المفعول المطلق مبين للنوع؛ لأن المفعول المطلق له ثلاثة أحوال، إما أن يأتي مؤكداً أو مبيناً للعدد، أو مبيناً للنوع، فالمؤكد مثل: أسرحكن سراحاً، فيصبح تأكيداً، ومنه قول الله جل وعلا: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] فتكليماً: مفعول مطلق مؤكد للفعل كلم.
أما إذا قلت لأخيك: ضربتك ضربتين، فهذا مفعول مطلق مبين للعدد، وأما في قول الله جل وعلا الذي بين أيدينا: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] فجميلاً كما قلنا: إنها صفة لسراح، لكن أصبح المفعول المطلق مبيناً للنوع.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، والعلم عند الله.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(68/6)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [14 - 17]
يذكر الله تعالى في سورة الأنعام بعض صفات كماله ونعوت جلاله، ومن جملة ذلك أنه المتفرد بخلق السماوات والأرض على غير مثال سابق، وأنه غني منزه عما يقوم بالمخلوقات من الحاجة إلى الطعام، بل هو رازقهم والمنعم عليهم به، ولذلك أمر نبيه بإعلان اتخاذه تعالى ولياً دون غيره، والبراءة من الشرك به، وبين تعالى أن من عصاه في ذلك وغيره، فقد أعد له العذاب الأليم الذي لا فوز أعظم من النجاة.(69/1)
تفسير قوله تعالى: (قل أغير الله أتخذ ولياً)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فما زلنا نتفيأ ظلال سورة الأنعام، وهي السورة التي ذكر المفسرون أنها نزلت جملة واحدة، وانتهينا إلى قول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام:14 - 16].
وقد حررنا أن الآية أصل في التوحيد، وإذا كانت أصلاً في التوحيد فإن الله جل وعلا في تناسب آياتها قال في الآية التي قبلها: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12]، فهو مالك قادر، وفي ذات الوقت رحيم، وهذا يجعل العبد لا يتخذ ولياً غير الله، فبين الله جل وعلا أولاً ما له من صفات الكمال ونعوت الجلال، ثم بعد ذلك بعد أن بين هذا بجلاء وأخبر به خلقه وخوفهم بلقائه قال جل وعلا لنبيه: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ} [الأنعام:14] والهمزة للاستفهام {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام:14].
والمرء في حياته وفي مسيرته لا بد له ممن يحفظه ويكلؤه ويرعاه ويهديه ويعينه وينفعه، وهذه كلها منتفية في حق كل أحد إلا في حق الله، فلا يقدر عليها إلا الله، فمن اتخذ ولياً غير الله فلن ينفعه هذا الذي اتخذه مثقال حبة من خردل.
فبعد أن بين الله جل وعلا ما له تبارك وتعالى من نعوت الجمال وكمال الجلال قال لنبيه: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام:14] وهذا استفهام إنكاري على صنيعهم، فهو صلى الله عليه وسلم لا يمكنه أن يقبل بولي غير الله.
قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ} [الأنعام:14] وكلمة (فاطر) مأخوذة من الفعل (فطر)، وهي اسم فاعل، فهو جل وعلا فاطر السماوات والأرض، أي: خلقهما على غير مثال سبق، وقد جرت عادة المفسرين إذا أتوا ليفسروا قول الله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] أن يذكروا خبر ابن عباس أن رجلين اختصما عنده في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، ففهم ابن عباس أن مراده أنني أوجدتها وأنه ليس أحد سبقني إليها، فعرف تفسير الآية، وهذا يدل على أن كلمة (فطر) لم تكن شائعة ذائعة في العرب؛ لأنها لو كانت شائعة ذائعة في العرب لما خفيت على الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ويظهر أنها كانت مستخدمة في بعض البوادي، ولهذا فقه ابن عباس من خبر أولئك الخصمين.(69/2)
الفرح بولاية الله تعالى
فهنا يقول الله جل وعلا: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام:14] وهذا استفهام إنكاري شديد {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:14] ولا ريب في أن الإنسان يجب عليه أن يسلم قلبه لله ويفرح كل الفرح بولاية الله له، وقد جاء في دعاء الصالحين الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي: (اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت).
ونقف هنا قليلاً في شأن الحسن بن علي رضي الله عنه، فـ الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم إلا سبطان: الحسن والحسين، وكان له سبط آخر مات، وهو محسن.
والسبط ابن البنت، والحفيد ابن الابن، فابن الابن يسمى حفيداً، وابن البنت يسمى سبطاً.
والانتساب إلى آل بيته صلى الله عليه وسلم واسع فكل بني هاشم من آل بيته، ولكن الانتساب إليه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون إلا عن طريق الحسن أو الحسين، وقد كانا من فاطمة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، والحسن هو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء القنوت فإذا تتبعت سيرته ستجد منها ما يلي: أولاً: أن النبي كان ينشئه على قيام الليل؛ لأن الحسن عندما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان صغيراً جداً لم يتجاوز تسع سنين، فمعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه القنوت وقيام الليل مبكراً؛ لأن علياً رضي الله عنه ما تزوج فاطمة إلا بعد بدر، وبدر في السنة الثانية، ثم جاءت بـ الحسن، فلو فرضنا أنها جاءت بـ الحسن في آخر السنة الثانية، فسيكون عمر الحسن عندما مات النبي صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز ثمان أو تسع سنين، وهو أحد خمسة يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم في هيئته، وهم الحسن بن علي، وقثم بن العباس، وفضل بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاع، وجعفر بن أبي طالب، فهؤلاء الخمسة كانوا يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم في هيئته الخَلْقية صلوات الله وسلامه عليه.
والحسن أمه فاطمة، ويجري الخلاف بين العلماء فيمن هي أفضل نساء العالمين، والمسألة فيها أربعة أقوال مشهورة: قول بأنها فاطمة، وقول بأنها خديجة، وقول بأنها عائشة، وقول بالتوقف، والذي يترجح عندنا -والعلم عند الله- أنها فاطمة، وأسباب الترجيح ثلاثة: أولها: قوله صلى الله عليه وسلم لها: (أنت سيدة نساء أهل الجنة).
الثاني: أنه جرى تحرير الحديث النبوي في قضية المصائب أن الإنسان إذا فقد أحداً كان المفقود في ميزان من فقده، فإذا كان هناك ابن وأب وكان الأب رجلاً صالحاً فمات، فصبر الابن واحتسبه، كان الأب في ميزان الابن، ولو فرضنا أن الابن مات قبل أبيه كان الابن في ميزان أبيه، فـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كان له ابن يقال له عبد الملك، وكان أشد صلاحاً من أبيه وأعظم تقىً وورعاً، وهو الذي طالب أباه في أول أيام الخلافة بأن يرد المظالم، فقال له عمر: إن قومك بنوا هذه المظالم عقدة عقدة، ولا يمكن حلها إلا بفكها عقدة عقدة.
والشاهد أن عبد الملك في حياة أبيه عمر بن عبد العزيز، فلما وصل إلى قبره ودفنه قال: الحمد الله الذي جعلك في ميزاني ولم يجعلني في ميزانك؛ لأن الميزان ثقيل باعتبار ظاهره.
فهذا الأمر إذا قسناه على فاطمة، فإن جميع أبناء وبنات النبي صلى الله عليه وسلم ماتوا قبله، فكل أبنائه وبناته عليه الصلاة والسلام في ميزانه، أما فاطمة فالنبي صلى الله عليه وسلم في ميزانها، فإن قال لك قائل: إن النبي في ميزاننا جميعاً فقل: نعم، هذا حق، ولكنه في ميزاننا لأننا من أمته، وفي ميزان الصحابة لأنهم من أمته وأصحابه، وفي ميزان أمهات المؤمنين لأنهن من أمته وزوجاته، وفي ميزان فاطمة أشد، لأنه نبيها، وفي المقام الأول هو أبوها صلوات الله وسلامه عليه، فهذا السبب الثاني.
السب الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن فاطمة بضعة مني) ولهذا ذهب بعض المحدثين غير المشهورين في زمن ابن عباس إلى أن هذا وحده كافٍ في ترجيح فضل فاطمة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وقد تنبه الذهبي إلى هذه المسألة لما تكلم على فاطمة رضي الله عنها في كتابه الشهير (الأعلام) فقال: هي الجهة المصطفوية والبضعة النبوية.
والذي يعنينا أن الحسن بن علي علمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء القنوت وفيه طلب الولاية.(69/3)
بيان معنى قوله تعالى (وهو يطعم ولا يطعم)
قال الله جل وعلا: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:14] فهو يطعم ولا يطعم، وهذا من ثناء الله على ذاته العلية، وأعظم ما في القرآن ثناء الله على نفسه، ولا يوجد شيء يرقق القلوب أعظم من أن تقرأ ثناء الله على نفسه؛ لأنه لا أحد أعلم بالله منه.
والله يقول: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110] وهنا يثني على نفسه بقوله: (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ)؛ لأن الله غني عن ذلك.
وقد يقول قائل: إن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون! والجواب أن ذلك جبله خلقهم الله عليها، أما الله تبارك وتعالى فهو غني منزه عن مثل هذا، ولا نقول في حق الملائكة: إن الملائكة منزهون عن الأكل والشرب.
بل نقول: إن الله جبلهم على ألا يطعموا، ولكن في حق الله جل وعلا نقول: الله جل وعلا مقدس منزه عن الصاحبة وعن الولد وعن أن يُطعم، وهو مع ذلك جل وعلا الرزاق ذو القوة المتين، كما قال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].(69/4)
بيان معنى قوله تعالى (قل إني أمرك أن أكون أول من أسلم)
ثم قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ} [الأنعام:14] والكلام للنبي صلى الله عليه وسلم {أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام:14] أي: فلم يتحرر عند أحد حقيقة التوحيد كما تحررت عندي، ولم يقف أحد على البراهين والملكوت كما وقفت عليها، ولم يعط أحد كرامة في العلم من عند الله كما أعطيت، فوجب على هذا أن أكون أول من أسلم؛ لأنني أنا المصطفى من العباد والمقرب من الرسل، فوقفت على ما لم يقفوا عليه ونظرت فيما لم ينظر فيه أحد بكرامة الله علي، فبدهياً أن يكون صلى الله عليه وسلم كما قال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام:14] أي: من هذه الأمة إذا اعتبرنا الترتيب الزمني، فالمقصود أنه أول من أسلم من هذه الأمة، وإذا اعتبرنا العلو فهو عليه الصلاة والسلام أشد الناس وأعظم الخلق إيمانا {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام:14] ولما كان الله قد بين أنه لا إيمان إلا إيماناً مقروناً بالكفر بالطاغوت قال الله جل بعدها: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:14].(69/5)
تفسير قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي)
ثم قال الله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] قال العلماء: إن المعصية هنا معصية الشرك.(69/6)
بيان عظيم فوز الناجي من عذاب الله
قال تعالى: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام:16] أي: هو المرحوم حقاً {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام:16] والفوز المبين يتحقق له حالتان: الحالة الأولى: النجاة من العقاب.
والحالة الثانية: نيل الثواب، فإذا نال المرء الثواب وظفر بالنعيم المقيم في الجنة وزحزح عن النار كما حكى الله من قبل كان هذا هو الفوز المبين الذي لا يعدله فوز، وقد يكون هناك فوز في الدنيا، ولكنه يكون إلى أمد وإلى حين ثم لا يلبث أن ينقضي.
قال الله جل وعلا: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام:16] أي: فقد رحمه الله {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام:16].(69/7)
تقسيمات الفعل
قوله تعالى: ((وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ)) أصل الفعل (طعم)، والفعل أحد أنواع الكلم الثلاث: الاسم والفعل والحرف، والفعل ينقسم باعتبارات، فالمبتدأ يعلم أن الفعل مضارع وماض وأمر، ولكن هذا الجواب محدود.
فالفعل يمكن أن نقسمه من حيث الزمن إلى ماض وحاضر ومستقبل، ومن حيث الصيغة ينقسم إلى ماضٍ ومضارع وأمر، ومن حيث التأكيد ينقسم إلى مؤكد وغير مؤكد، ومن حيث الإثبات والنفي ينقسم إلى منفي ومثبت، ومن حيث الصحة والاعتلال ينقسم إلى صحيح ومعتل، وحروف العلة ثلاثة الألف والواو والياء، ومن حيث العمل ينقسم إلى عامل ومكفوف، والمكفوف هو الذي تدخل عليه (ما)، ولا تدخل إلا على فعل أو فعلين، كـ (طالما)، فكلمة (طالما) فعل، ولكن لا فاعل له؛ لأن (ما) كفته عن العمل.
ومن حيث الإعراب والبناء ينقسم إلى معرب ومبني والنحاة يقولون: إن المضارع هو وحده المعرب والأمر والماضي مبنيان، والمضارع يبنونه في حالتين: إذا اتصلت به نون التوكيد ثقيلة أو خفيفة، وإذا اتصلت به النون النسوة، فإذا اتصلت به نون النسوة يبنونه على السكون، كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة:233]، وإذا اتصلت به نون التوكيد الثقيلة أو الخفيفة بنوه على الفتح، وأحياناً تنقلب نون التوكيد إلى تنوين في الرسم الإملائي في القرآن فقط، ومنه قول الله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق:15] فأصله نون وليس تنويناً؛ لأن التنوين من خصائص الأسماء ولا يدخل على الأفعال.
وينقسم الفعل من حيث كونه مجرداً ومزيداً إلى مجرد ومزيد مجرد ثلاثي ومجرد رباعي، ومزيد ثلاثي ومزيد رباعي.
فهذه بعض أقسام الفعل حررناها عاجلاً؛ لأن الإنسان إذا فقه هذا يستطيع بعد ذلك أن يتعامل مع هذه الآية في فهم كلام الله.(69/8)
اسم الفعل
وهناك شيءٌ قريب من الأفعال يسميه النحاة (اسم الفعل)، وقد احتاروا فيه، فهم لا يجعلونه فعلاً ولا يجعلونه اسماً؛ لقرب خصائصه من الأسماء حيناً وقرب خصائصه من الأفعال حيناً.
ومن أسماء الأفعال في القرآن (هيهات)، وقد وردت في قول الله تعالى في سورة المؤمنون: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:36]، وينبغي أن يعلم أن التكرار هنا لزاماً ليس اختياراً.
وقد سألنا بعض الطلاب ذات مرة عن الكلمات التي جاءت في القرآن متتابعة من غير فاصل، وكان في الطلاب شيء من النباهة، فقال أحدهم: كلمة (فيه) في قول الله جل وعلا: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108]، وقال آخر: وكلمة لفظ الجلالة في قول الله جل وعلا: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] فلفظ الجلالة تكرر مرتين، والوقف لازم على الأولى.
وهاتان الكلمتان في القرآن تكررتا من غير فاصل، فاعترض أحد الطلاب بأدب وقال: لا، فـ (هيهات) في سورة المؤمنون تكررت من غير فاصل، وهنا خطأ في الفهم، فـ (هيهات) الأولى هي الثانية ليست توكيداً، والعرب لا تلفظ (هيهات) وحدها، بل تكررها مرتين، وما ورد عنها من ذكرها مرة واحدة فمن باب الاضطرار، كقول جرير: فهيهات هيهات العقيق ومن به وهيهات خلاً بالعقيق نواصله فقوله في الأول: (هيهات هيهات العقيق ومن به) جرى على عادة العرب، وقوله في الأخرى: (وهيهات خلاً بالعقيق نواصله) اضطرار في الشعر.
وقبل أن ننهي الموضوع ينبغي أن نبه على إن العقيق هنا ليس هو الوادي الذي في المدينة؛ لأن جريراً لم يكن يسكن المدينة، بل هو واد في نجد تغزل جرير به وبأهله وتشبب، فذكره في شعره كثيراً.
فليس هو عقيق أهل المدينة المشهور، ولكن العقيق إذا أطلق من غير تقييد ينصرف إلى وادي العقيق الذي في المدينة الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني الليلة آتٍ من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة).
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول قول تبارك وتعالى {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14] وصلى الله على محمداً وعلى آله، والحمد رب العالمين.(69/9)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الزخرف [1]
سورة الزخرف من السور المكية، وهي داخلة فيما يسمى بالحواميم، والحواميم هي السور اللاتي بدأن بـ (حم)، والحواميم تسمى ديباج القرآن؛ لأنهن يحملن مواعظ ورقائق وأخبار، وليس فيهن أحكام.
وفواتح سورة الزخرف تحدثت عن صدق القرآن وأنه منزل من عند الله جل وعلا.(70/1)
بين يدي السورة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: في هذا اللقاء المبارك سنشرع في تفسير سورة الزخرف، وقبل أن نستفتح تفسيرها نعرّج إجمالاً على هذه السورة المباركة، وهي سورة مكية، وداخلة فيما يسمى سور آل حم، وسور الحم تسمى ديباج القرآن، وسيمت ديباج القرآن لأنهن حملن مواعظ ورقائق وأخبار وليس فيهن أحكام، وكلهن ابتداء بغافر وانتهاء بالأحقاف بدأن بقول الله جل وعلا: ((حم))، ولهذا تسمى آل حم.
وسورة الزخرف هي إحدى هذه السور المباركات، وقلنا: إنها سورة مكية، والزخرف في اللغة كمال الزينة والحسن، وهذه اللفظة المباركة وردت في القرآن في موضع أخر وردت في الإسراء: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء:93]، ووردت: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112] وهي في الأنعام، ووردت كذلك: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس:24]، فهذا الموضع الرابع لذكرها في القرآن، وبها سميت السورة.
قال الله جل وعلا في فاتحتها: بسم الله الرحمن الرحيم {حم} [الزخرف:1] وقد بينا أن هذه فواتح القرآن، وذكرنا أقوال العلماء فيها في حلقات قد مضت.
قال ربنا: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:2] هذا قسم، الواو للقسم، والمقسم به كلام الله جل وعلا، والمبين: الواضح البيّن، وسنقف عند الآية الخامسة ثم نعرج على جملة من القضايا، نبدأ بالأولى:(70/2)
تفسير قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)(70/3)
الرد على المعتزلة في قولهم بخلق القرآن
قال الله جل وعلا: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3] وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية وأضرابها في أن القرآن مخلوق، وليس التغافل عن الرد على أهل الشبهات مما يرد به شبههم، فلابد في مجالس العلم من أن يحرر الخطاب، فهم يقولون: إن (جعل) في القرآن جاءت بمعنى خلق، قال الله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] بمعنى خلق الظلمات والنور، وقال هنا: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3]، فيقول رؤساء المعتزلة وأئمتهم لماذا هذه المكابرة؟ هذا نص صريح في أن (جعل) بمعنى خلق.
وقلنا: إن الزمخشري لما ألف تفسيره قال في مقدمته: الحمد لله الذي خلق القرآن، وقيل له: إن أحداً لن يقرأه، فقال: الحمد لله الذي جعل القرآن، باعتبار أن الخلق بمعنى الجعل عند المعتزلة، وحتى يستقيم الأمر ننيخ المطايا بهدوء ونأتي بنظائر، فهذا منهجنا في التعليم، ثم نطبِّق تلك النظائر على ما نحن فيه؛ حتى يكون هناك حيادية في الطرح، فالأفعال أحياناً لا تظهر إلا من سياقتها؛ فهي تحتمل أكثر من معنى.
قال الله جل وعلا على لسان أهل النفاق: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]، فكلنا نحن والمعتزلة نفهم أن (انظرونا) هنا بمعنى انتظرونا، والفعل نفسه قال الله جل وعلا: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:99]، فعدي بحرف الجر (إلى) فتغير المعنى، فلا يأتي أحد ويقول إن نظر هنا بمعنى تمهل، وإنما المعنى النظر بعين الباصرة، ويقول الرجل منا: نظرت في الأمر، وليس المقصود أنني أبصرته بعيني؛ فقد يكون الأمر معنوياً، لكنني نظرت في الأمر بمعنى تدبرته وتأملته.
ومنه قول الله: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] أي: يتدبروا ويتأملوا، فاختلف المعنى مع أن الفعل واحد؛ لاختلاف الاستعمال، لكن هذا الاستعمال لا بد له من ضوابط وقرائن تدل على كل معنى، فعلمنا أن الفعل (نظر) لما كان لازماً كان بمعنى تمهل، ولما تعدى بحرف الجر (إلى) أصبح بمعنى النظر بالعين الباصرة، ولما تعدى بحرف الجر (في) أصبح النظر بعين البصيرة، وهو التروي والتمهل أو التفكر في الشيء والتدبر فيه.
وقال الله جل وعلا: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13] أي: ارتفعتم، وقال ربنا: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] أي: انصرف وقصد، ثم قال ربنا: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14] ولم يتعدى، فنحن متفقون جميعاً على أن الفعل (استوى) في كل آية هنا له معنى مختلف عن الآخر، والفعل (جعل) يسمى من أمهات الأفعال، أي: التي تستخدم في مواطن كثيرة، مثل: عمل، وفعل، وطفق، وأخذ، ومنها جعل، فنقول إن (جعل) في القرآن يأتي على معان بحسب السياق مستصحبين شيئاً لا بد منه وهو: أنا نفيء ونرجع بالمتشابه إلى المحكم، ولا نفيء بالمحكم إلى المتشابه، فلما نص الله جل وعلا في مواطن كثيرة على لفظ التنزيل ما كان لنا أن نفر من لفظ التنزيل ونحن نجد معناً لجعل في غير الخلق، فنقول نعم جاءت بمعنى خلق في القرآن، قال الله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]، وقال: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، وهذا من المترادف؛ لأنه لا يمكن التبديل هنا، فجعل هنا بمعنى خلق، لكنك تلاحظ: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:1]، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189] تعدى الفعل (جعل) إلى مفعول واحد، فإذا تعدى الفعل (جعل) إلى مفعول واحد فهو بمعنى خلق، ويأتي جعل بمعنى التسمية، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19] أي: سموهم إناثاً والدليل قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} [النجم:27]، فقول الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19] أي: سموهم إناثاً.
فإذا تعدى إلى مفعولين لا يكون بمعنى الخلق، وإنما يكون بمعنى التصيّيّر، يعني: صيّره، قال الله جل وعلا يحكي عن العرب الفصحاء في كتابه الفصيح أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] فتعدت لمفعولين: {الآلِهَةَ إِلَهًا} [ص:5]، وواحداً صفة، {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ومعلوم أن القرشيين لم يريدوا أن يقولوا أبداً: إن النبي صلى الله عليه وسلم خلق ربه وخلق الآلهة؛ فهذا غير وارد أصلاً في الخطاب؛ لأن الله أصلاً غير مخلوق فهو خالق، والأمر الثاني: أن قريشاً لم تزعم أن النبي هو خالق آلهتهم، فليست (جعل) هنا بمعنى خلق، إنما هي بمعنى صيّر، فالتصيير غير الخلق، فقد يكون المصيَّر مخلوقاً وقد يكون غير مخلوق، {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ:10] أي صيّرناه لباساً، مع أنه في أصله مخلوق لكنها لوحدها لا تدل على أنه مخلوق، فلا بد من دليل آخر.
فهنا نقول لهم ولمن سار على نهجهم؛ لأن المعتزلة تأثرت بهم بعض الفرق في هذا المعنى، نقول: إن (جعل) هنا ليست بمعنى خلق لأمرين: أولاً: أنه تأباه اللغة؛ فقد تعدى إلى مفعولين، ثانياً: أن السياق القرآني يأباه.
ثم إن القرآن في مواطن كثيرة ذكر الله جل وعلا فيه التنزيل والإنزال والنزول بعدة طرائق، قال الله: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105]، وقال: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2]، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9] وغيرها من الآيات، وهذه المحكمات لا يمكن أن نهدمها جميعاً -فليس هذا بقاعدة علمية- لفعل يحتمل أن يكون بمعنى الخلق، مع أننا بيّنا أنه إذا تعدى إلى مفعولين فلا يمكن أن يكون بمعنى الخلق.(70/4)
تفسير قوله تعالى: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم)
ثم قال الله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4] الأصل في كلمة (أم) أنها تأتي بإزاء الأب هذا هو الأصل، وإذا خرجت اللفظة عن أصلها وأدت معنىً آخر، ودلت قرينها على أننا لا نريد الأصل فهذا ما يسميه البلاغيون استعارة، وسأقرب المعنى إلى فهم المشاهدين، فعندما تذهب إلى رجل لديه فرح وتشاهد هذا الفرح بجوار داره، ثم أعجبك ذلك الفرش الذي أنت جالس عليه فظننت أن هذا الفرش ملك لصاحب الدعوة، ثم لم تلبث أن قلّبت الفرش فوجدت عليه علامة أو ختماً أو أمارة مكتوب عليها: مفروشات كذا وكذا، أو محلات كذا وكذا للتأجير، فإنك تفهم أن هذا الفرش مستعار وليس لصاحب الدار، فقد استعاره من صاحبه الأصلي، والقرينة تلك الورقة أو الختم أو الإشارة أو العلامة، وكذلك في اللغة فالكلمة يكون لها أصل، فإذا وجدناها استخدمت استخداماً غير الذي هو أصلها وجدنا من خلال القرينة ما يدل على أنها استعارة، وتنقسم الاستعارة إلى: استعارة تصريحية، واستعارة تبعية، واستعارة مكنية وهذا باب آخر، لكن نبدأ تدريجياً فهذا معنى الاستعارة، فالأصل في كلمة (أم) أنها التي تلد، قال الله: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ} [طه:40]، فليس ههنا استعارة؛ لأن أم موسى هي التي ولدته، لكن قول الله جل وعلا هنا: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} [الزخرف:4] المقصود أصل الكتب، أي: أصل ما خط في اللوح المحفوظ، فـ {أُمِّ الْكِتَابِ} [الزخرف:4] هو اللوح المحفوظ، فهذا يسمى استعارة، وقد تقول: إنه بمعنى واسع هنا، ولا أريد أن أدخل في ألفاظ حولها إشكال فالمهم المعنى، وأظن أن ابن قدامة أو ابن قتيبة -التبس عليَّ الآن وهذا من الحفظ القديم- يعبّر تعبيرات ويقول: لا عبرة بالمصطلح الذي يتنازع عليه الناس، وهذا كلام جيد فالعبرة بالمعنى، فكلمة (أم) في القرآن وردت على عدة معاني، وردت بمعنى الوالدة: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ} [طه:40]، ووردت بمعنى المرضعة: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23]، وتسمى المرضعة في اللغة ظئراً، ووردت بمعنى المآل، قال الله جل وعلا: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:9] أي: مآله أن يهوي في جهنم، ووردت بمعان عدة منها: قول الله جل وعلا هنا: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} [الزخرف:4]، وأطلق على مكة أنها أم القرى، قيل: بمعنى الأصل، ومنه قول الله تعالى في آل عمران: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7] أي: أصل الكتاب، وغير ذلك مما هو مشهور، فالذي يعنينا أن (أُم) هنا استعير لها المعنى، فأم الكتاب هو اللوح المحفظ.(70/5)
الفرق بين اللوح المحفوظ وغيره من الكتب
والفرق بينه وبين غيره من الكتب: أن ما في أم الكتاب لا يمكن أن يُبدّل، قال الله تعالى في سورة الرعد: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، فقول الله تبارك وتعالى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] أي: ما يُمحى ويثبت خارج أم الكتاب إنما يُمحى ويُثبت ليطابق أم الكتاب.
((وإنه)) الهاء في (إنه) عائدة على القرآن، {فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4] أي: مذكور بالعلو والحكمة، ورفيع المقام، ولا شك أن له السلطان.(70/6)
تفسير قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين)
ثم قال الله: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5] وهذه نختم بها: فالهمزة للاستفهام، والضرب في اللغة يُطلق على عدة معاني: يطلق على الصنف والنوع من الأشياء، ويُطلق على الرجل الخفيف اللحم، قال طرفة: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني خشاش كرأس الحية المتوقد أنا الرجل الضرب أي: الرجل الخفيف، هذا من حيث اللغة, وأما في القرآن فقد ورد الضرب على معان عدة: ورد بمعنى السير في الأرض، قال الله جل وعلا: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:20] أي: يسيرون في الأرض، {يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20]، وقال: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} [البقرة:273] أي: لا يستطيعون سيراً في الأرض.
وجاء الضرب بمعنى الضرب المعهود سواء كان بالسيف، كقوله جل وعلا: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال:12]، أو كان بمعنى الضرب باليد، كقوله جل وعلا: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] في حق النساء، وأما قول الله جل وعلا: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5] فنحرر أولاً معنى كلمة (صفح)، الصفح: هو التغافل عن الشيء إما كبراً، تقول: لويت لفلان صفحة عنقي، أو أن يكون تجاهلاً بحيث يمر بك دون أن تدري عنه، قال الشاعر: تمر الصبا صفحاً بساكنة الغضا ويصدع قلبي أن يهب هبوبها قريبة عهد بالحبيب وإنما هوى كل نفس حيث حل حبيبها والصبا ريح معروفة، فيقول: هذه الصبا تأتي من ديار من أحب فتمر على بني قومي الذين أعيش معهم صفحاً، أي: يتغافلون عنها، وليس ذلك كبراً؛ لأنه لا يوجد كبر مع الرياح، لكن لأنها لا تعنيهم، وأما أنا -يتكلم عن نفسه-: ويصدع قلبي أن يهب هبوبها فهذا الصفح هو الإعراض عن الشيء إما كبراً وإما تغافلاً، {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5] اتفقوا على أن المعنى: ليس إعراضكم سبباً مقنعاً لأن نترك إنذاركم، لكن اختلفوا في معنى الذكر: فذهب ابن عباس في رواية عنه وبعض العلماء إلى أن الذكر هنا المقصود به ذكر العذاب، فيصبح المعنى: أفيعقل أن نترك عذابكم لمجرد أنكم أعرضتم عن ذكر الله! وقال آخرون: إن الذكر هنا بمعنى الوعظ والإرشاد، وهذا الذي أرجحه، فيصبح المعنى: كيف يسوغ لكم أن تطالبونا بأن نترك وعظكم وإرشادكم وبيان الحق لكم بسبب أنكم قوم معرضون! وهذه الآية قريبة من قول الرب تبارك وتعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36]، وهذان المعنيان يرجحن الآخر منهما.(70/7)
تفسير قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين)
ثم قال الله: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الزخرف:6 - 7] (كم) هنا خبرية وقد مرت معنا كثيراً، والمراد بها التكثير، وهي مضادة لكم الاستفهامية، والفرق الجلي بينهما: أن الأولى -أي: الاستفهامية- تحتاج إلى جواب، وأما (كم) الخبرية فلا تحتاج إلى جواب، قال الفرزدق يهجو جريراً: كم خالة لك يا جرير وعمة فدعاء قد حلبت عليَّ عشاري أراد الكثرة.
{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ} [الزخرف:6] (من) هنا لبيان الجنس، {فِي الأَوَّلِينَ} [الزخرف:6] أي في الأمم التي سبقت، {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الزخرف:7] هذه الآية وأضرابها داخلة في باب التسلية والتعزية لنبينا صلى الله عليه وسلم، وفواتيح سورة الزخرف تحدثت عن صدق القرآن، وأنه منزّل من عند الله جل وعلا، وقد أجبنا في حديثنا عن مسائل عدة منها القضية الأساسية العقدية وهي قول المعتزلة بأن القرآن مخلوق، والمعتزلة -من باب الاستطراد- بعض أهل الفرق أخذوا عنهم شيئاً مما تبنوه، والخوارج الأولون أقرب الناس إلى عقائد المعتزلة، فأكثرهم متفقون على القول بخلق القرآن، وبعض الخوارج في زماننا كذلك ما زالوا ينفون رؤية الله يوم القيامة، ويقولون بخلق القرآن، وإن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وأما المعتزلة فيقولون: إنه في الدنيا في منزلة بين منزلتين، وهناك كتاب لأحد خوارج الفرق المعاصرة تبنى قول الخوارج السابقين اسمه (الحق الدامغ)، وهذا الكتاب يقوم على ثلاثة مبادئ: إثبات أن القرآن مخلوق، وإثبات أن مرتكب الكبيرة كافر، وإثبات أن الله لا يُرى يوم القيامة، فأما الرد على أن القرآن مخلوق فقد حررنا كثيراً منه الآن، وأما بيان أن مرتكب الكبيرة تحت المشيئة كما هو قول أهل السنة فهذا قد بيناه في دروس سلفت، وكذلك بينا قضية أن الله تبارك وتعالى يُرى يوم القيامة ورددنا على ما يسمى بلن الزمخشرية.
هذا بعض ما يسر الله إعداده، وأعان الله على قوله حول فواتح سورة الزخرف، نفعنا الله وإياكم بما نقول، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(70/8)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الزخرف [2]
ذكر الله في هذه الآيات أنه أرسل الأنبياء في الأمم السابقة، فما كان من تلك الأمم إلا أن استهزأت بأنبيائها والمرسلين، فأهلكهم الله تعالى بما كانوا يصنعون.
وقد كان المشركون في الجاهلية يؤمنون ويعترفون أن الله هو الخالق الرازق، ومع ذلك لم يعبدوه ويوحدوه، فكان الله تعالى يلزم بإيمانهم بتوحيد الربوبية أن يؤمنوا بتوحيد الألوهية.(71/1)
تفسير قوله تعالى: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اعترافاً بفضله، وإذعاناً لأمره، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: ما زلنا في هذا اللقاء المبارك مع سورة الزخرف، وكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى الآية الخامسة منها إلى قول الله: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5]، واليوم بإذن الله تعالى نبدأ ونشرع مع قول ربنا جل وعلا: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:6 - 8].
فهذه الآيات الثلاث تلوناها مع بعضها البعض لارتباطها مع بعضها البعض، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعاً من الرسل، فقد كانت رسل قبله، كما قال الله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، وسنن الله جل وعلا مع رسله التي آتاها أقوامهم واحدة، فأراد الله جل وعلا في هذا المقطع من هذه السورة المباركة تسلية وتعزية نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال مخاطباً إياه: (وكم) وهي هنا خبرية وليست استفهامية، والمقصود بها: الكثرة.
وقد مر معنا أن (كم) تأتي خبرية وتأتي استفهامية، وهي هنا خبرية لا تحتاج إلى جواب، والفيصل في الفرق بينهما: أن الخبرية لا تحتاج إلى جواب، {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ} [الزخرف:6] أي: في الأمم التي غبرت والقرون التي سلفت، {وَمَا يَأْتِيهِمْ} [الزخرف:7] (وما) هنا نافية قطعاً، {مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ} [الزخرف:7] أي: تلك الأمم، {يَسْتَهْزِئُون} [الزخرف:7] أي: يصدون عن دعوته ويردون رسالته ولا يؤمنون به.
وهذه الآيات ولله الحمد ظاهرة المعنى مندرجة تحت قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن من القرآن ما يفهمه كل أحد، وقال الله: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8]، فما قريش إذا ما قرنت بالأمم التي سلفت والقرون التي غبرت، وكلهم عند الله واحد لكن من باب إظهار ضعف القرشيين، وأن الله جل وعلا جعل من قبلهم عبرة وعظة وأخباراً وأحاديث وأقاصيص يتحدث عنها الناس في مجالسهم بعد أن أهلكهم الله جل وعلا، قال ربنا: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:7 - 8].(71/2)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض)
ثم قال الله جل وعلا وهذا التفات في الكلام: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} [الزخرف:9] أي: يا نبينا! واللام هنا ممهدة للقسم، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} [الزخرف:9] أي هؤلاء الذين يجادلونك، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9].
ظاهر الأمر -والعلم عند الله- أنهم سيقولون: خلقهن الله، لكن الله جل وعلا ذكر جوابهم بالمعنى لا باللفظ، فيبعد أن يقول القرشيون: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، لكنهم معترفون أن الله جل وعلا هو الخالق الرازق، وقد مر معنا أن القرآن يقوم على إثبات أن الله جل وعلا وحده هو الخالق، وبمقتضى هذا الإثبات يجب ألا تصرف العبادة لغيره تبارك وتعالى.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، ثم قال ربنا: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف:10]، فالاسم الموصول (الذي) هذا من كلام الله ليس من جواب القرشيين، وإنما حكى الله الجواب بالمعنى دون اللفظ في قوله سبحانه: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]؛ تمهيداً لما سيأتي بعده.
وهذا الصنف من الآيات من أعظم ما في القرآن، وقد مر معنا أن القرآن كله عظيم لكن أعظم ما في القرآن حديث الله عن ذاته العلية، فهذا مندرج في حديث الله عن ذاته العلية.(71/3)
تفسير قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض مهداً)
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف:10]، والمهد في الأصل: ما يوضع فيه الصبي، فجعل الله الأرض بالنسبة للناس كالمهد بالنسبة للصبي، وهذا من حيث الصناعة البلاغية يسميه البلاغيون: التشبيه البليغ.
ومعلوم أنه لا بد من مشبه ومشبه به وأداة تشبيه ووجه شبه، فذكر الله هنا: المشبه والمشبه به، فشبه الأرض بالمهد، ولم يذكر الأداة، فلم يقل: الذي جعل لكم الأرض كالمهد، فحذف الكاف وحذف وجه الشبه وهو: إيواؤها للناس، كما أن المهد يأوي الرضيع ويحويه.
فلما حذف ربنا في كلامه أداة التشبيه ووجه الشبه -وفق منطق البلاغيين- هذا يسمى تشبيهاً بليغاً، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [الزخرف:10] أي: طرائق، {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف:10] أي: من خلال هذه الطرائق لعلكم تهتدون بالمقدورات على القادر، بالمقدورات المسخرة المخلوقات المدبرة لكم تهتدون بالدلالة بها على القادر.
وقد عرفوا ربهم لكنهم ما صرفوا العبادة له، فأتوا بتوحيد الربوبية وتوقفوا عنده، فلم ينفعهم شيء بل ازدادت الحجة عليهم، ثم مضت الآيات -وهذا النوع يسمى: الإطناب، وقد مر معنا تقسم الكلام إلى إيجاز ومساواة وإطناب- في حديث الله عن نفسه.(71/4)
تفسير قوله تعالى: (والذي نزل من السماء ماء فأنشرنا به بلدة ميتاً)
{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الزخرف:11]، فالماء الذي جعله الله في الأرض على ضربين: ماء عذب فرات، وماء ملح أجاج.
فجعل الله الماء المستقر مالحاً؛ حتى لا ينتن، فلو أن ماء البحار ليس مالحاً لأنتن وظهرت رائحته، وجعل الله الماء المتحرك الذي ينزل من السماء عذباً، قال تعالى: {عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:53]، فجعل المياه الراكدة الثابتة على الدوام التي لا يحتاجها الناس شرباً جعلها مالحة؛ حتى لا تنتن، وجعل الماء المتحرك الذي يحتاجه الناس سواء كان متحركاً في أصله بنزوله من السماء، أو في العيون والآبار جعله عذباً فراتاً تبارك وتعالى بنعمته ورحمته لعباده.
{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الزخرف:11]، هذا وفق الصناعة البلاغية يسمى: استعارة تبعية؛ لأن لفظ (نشرنا) إنما يقال في الميت إذا أحيي، فجعل الله جل وعلا الأرض التي لا نبت فيها كالجسد الذي هو ميت لا روح فيه، {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11]، فالذي استعصى على القرشيين فهمه: أن الله يحيي الموتى، فانظر كيف عالج القرآن هذه القضية قال ربنا: {فَأَنشَرْنَا} [الزخرف:11]، والناء هنا ناء الدالة على الفاعلين، وقد جيء بها للعظمة في الحديث عن الشيء الذي يرونه بأعينهم، وأما الشيء الخفي الذي هم مطالبون بالإيمان به فلم يقرنه الله بناء الدالة على الفاعلين؛ ليبين لهم أنه أمر هين عليه لم يعظمه الله، فعظم الله جل وعلا المقيس ولم يعظم المقيس عليه، عظم الله جل وعلا ما يرونه: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الزخرف:11]، فلما ألقموا في أفواههم حجراً وسقط ما في أيديهم قال لهم ربهم: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الزخرف:11]، ولم يقل: كذلك نخرجكم؛ لبيان أن هذا من حيث مفهوم خطابكم أهون وإلا فالأمر عند الله سواء.(71/5)
تفسير قوله تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم)
{وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12].
الأزواج مفردها: زوج وهي بالتعبير اللغوي: كل ما صار به الواحد ثانياً، وبعض العلماء يجعلها في المعنويات، وبعضهم يجعل الأزواج في المحسوسات، والصواب جعلها هنا في المحسوسات والمعنويات، مثلاً: جعلها الله جل وعلا في الفقر والغنى، والجسد والروح، والذكر والأنثى، والصحة والمرض، والليل والنهار، والفرح والحزن، وهذه الأمور بعضهن معنويات وبعضهن محسوسات، وخالقهن جميعاً هو الله تبارك وتعالى، {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12].
فالفلك تركب كلها، وأما الأنعام فمنها ما يركب ومنها ما لا يركب، ولهذا جاء في الحديث: (أن الرجل الذي ركب البقرة اعترضت عليه فقالت له: ما خلقنا لهذا) مع أن البقرة من بهيمة الأنعام، لكن الله قال -والقرآن ضمائم لو ضممت بعضه إلى بعض تبين لك- قال ربنا: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل:8]، ولم يذكر الله بعض الدواب الأخر.
وهنا قدم الله الفلك على الأنعام لأن إظهار القدرة يتضح هنا أكثر، فالفلك تجري على الماء، والجريان على الماء أعظم إظهاراً لقدرة الله من مشي الأنعام على أرض مستقرة، وإن ظهرت فيها القدرة لكن ظهورها في الفلك أقوى من ظهورها في مشي الأنعام على الأرض المستقرة، ولهذا قدم الله الفلك، ثم قال ربنا والقرآن يزاوج ما يسلبه من لفظه يعطيها بدلاً منه، قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:12 - 13].
فجاءت المزاوجة هنا، فالظهور من علائق الأنعام أكثر منها أن تكون من علائق الفلك؛ لأن الفلك في الغالب يسمى: بطناً ولا يسمى ظهراً، وإن ظهر للصناعات الحديثة فلك لها ظهر لكن ذكرها الله من باب التغليب.(71/6)
معاني الاستواء
قال ربنا: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف:13]، وقد مر معنا أن الفعل استوى إما أن يتعدى بحرف الجر (على) أو بحرف الجر (إلى) أو لا يتعدى بحرف جر، وإن تعدى بحرف الجر (على) فمعناه: العلو والارتفاع، ومنه هذه الآية: {تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13] أي: إذا ارتفعتم، وإذا تعدى بحرف الجر (إلى) يصبح معنى القصد، نحو {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:11] أي: قصدها.
وإذا لم يتعدى بحرف جر لا (على) ولا (إلى) واكتفى بعدم التعدية وأصبح لازماً دل على الكمال والتمام والنضج، قال ربنا عن كليمه وصفيه موسى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14] أي: كمل ونضج وتم أمره.
{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} [الزخرف:13] أي: بقلوبكم، فيقع في قلبك أولاً تعظيم هذا الرب الجليل الذي سخر لك هذا، والتسخير في اللغة: التذليل والتطويع، فإذا وقع في القلب الاعتراف بفضل الله وأن القوة الجسدية التي نملكها ليست هي التي سخرت لنا الفلك، وليست هي التي سخرت لنا الأنعام، واستقر هذا في القلب جاء الأمر الإلهي بأن يترجم ما وقع في القلب من يقين إلى أن يكون نطقاً باللسان منصوصاً عليه، قال ربنا: {وَتَقُولُوا} [الزخرف:13] أي: بألسنتكم، {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] أي: مطيعين طوع الأمر، بمعنى: ذلك.
وقد كان هذا يقال على ظهور الدواب واليوم يقال على مقاعد السيارات والطائرات، وأما استخدامه أو قوله عند المصاعد فليس له دليل؛ لأن المصاعد حلت بديلاً عن السلالم ولم تحل بديلاً عن الدواب، وأما السيارات والطائرات فقد حلت بديلاً عن الدواب، والتقيد بالنصوص أمر محمود وإن كان كل هذا سخره الله جل وعلا للعباد.(71/7)
معاني الانقلاب إلى الله تعالى
{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14].
الانقلاب في اللغة: عودة الإنسان إلى المكان الذي فارقه، وقد كان بدء خلق أبينا آدم في السماء عند ربه فلا بد من العودة إلى الله، فيستقيم هنا المعنى الشرعي مع المعنى اللغوي: الانقلاب عودة الإنسان إلى المكان الذي فارقه، وهذا الأمر نسبي، تقول: انقلبت إلى داري، وانقلب فلان إلى بيته، أي: عاد إلى بيته؛ لأنه توه فارقها.
وأما الانقلاب العام: فهو الأوبة والرجوع إلى الله قال ربنا: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:8]، {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:14]، وتذكر الإنسان للآخرة منهج قرآني عظيم يجعله الله جل وعلا مطرداً في كل أمر أن يتذكر الإنسان اليوم الآخر، حتى لما ذكر الله الطلاق وذكر الرضاع وذكر غيرها كانت الآيات تأتي مقيدة: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:232].
ومن أعظم البواعث على العمل الصالح: تذكر الآخرة قال الله جل وعلا في حق بعض من اصطفاهم من رسله: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} [ص:46]، جاءت منونة حتى تشرئب الأعناق إلى معرفتها، وعادت منقطعة عن الإضافة: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46]، والتقدير: هي ذكر الدار.(71/8)
تفسير قوله تعالى: (وجعلوا له من عباده جزءاً)
قال ربنا: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15]، ما زال الخطاب متوجهاً لكفار قريش، (وجزءاً) هنا الصواب أنها بمعنى: حظ ونصيب وقسم، إلا أنه ورد عن إمامين من أئمة اللغة وهما: المبرد والزجاج، وقدمنا المبرد لأنه أقدم ظهوراً من الزجاج، وله كتاب مشهور اسمه (الكامل في الأدب) واسم المبرد محمد بن يزيد، وكان له حساد، وقد قيل فيه أبيات يراد بها منقصته.
هذان العلمان من علماء اللغة قالوا: إن جزءاً في اللغة بمعنى: بنت، وأتوا بشاهد شعري، ومن رد عليهما لم يطعن في إمامتهما في اللغة؛ لأن إمامتهما لا تقبل القدح؛ فهما متفق على إمامتهما في اللغة، فيكون الطعن ليس في ذاتهما لكن فيما قالاه أو فيما نقلاه، فيقال: إن هذا البيت مصنوع وليس قديماً، فإذا كان مصنوعاً وليس قديماً فلا يصح الاحتجاج به، وممن حمل راية إبطال ما زعماه الزمخشري في الكشاف، فقد أبطل ما زعماه من أن جزءاً بمعنى: بنت، والحق -بحسب دراية الإنسان البسيط- أنه يبعد جداً في علم اللغة أن يكون جزءاً بمعنى: بنات، أما المعنى: فصحيح، وسيأتي، لكن اللفظ (جزءاً) بمعنى: بنات غير وارد، ورد في القرآن جزء وبعض؛ الجزء شيء يمكن تحديده يمكن إخراجه يمكن انفكاكه، وأما البعض فلا يمكن تحديده، فمثلاً: القرشيون زعموا أن الملائكة بنات الله، فسهل جداً أن نميز الملائكة عن الإنس والجن، لكن كلمة بعض تأتي في الأشياء الممزوجة التي يصعب تحديد الفوارق بينها، قال الله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف:15]، وأنا أتوقف هنا في قضية الملائكة بنات الله؛ لأن سيأتي التفصيل فيها.
{إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15] قال بعض أهل التفسير: إن الإنسان هنا عام أريد به الخاص وهم كفار قريش، لكن الصواب إبقاؤه على ما هو عليه، فنقول: إن الإنسان في أصله كفور مبين؛ لأن الله جل وعلا ذكر هذا في أكثر من موضع وأكثر من آية، لكن نبقى على أن أول المخاطبين به وأول ما ينصرف هذا الوصف إليهم هم كفار قريش، {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:15 - 16].
وهناك مصطلحات أحياناً يستخدمها أهل التفسير ومصطلحات يستخدمها أهل النحو، فأهل التفسير يتأدبون أكثر؛ لأنهم يتعاملون مع ألفاظ قرآنية، وأما النحاة فلا يتوخون الأدب؛ لأنهم يتعاملون مع أقرانهم، مع أئمة في اللغة أو مع شعراء أو مع خطباء، فلا يكونون مطالبين بالتأدب كما هو مطالب به أئمة التفسير.
{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ} [الزخرف:16] أهل التفسير يقولون: إن الميم هنا صلة؛ تأدباً مع الله، وأما النحويون فيقولون: إن الميم هنا زائدة، فإن أسميناها زائدة كما قال النحويون أو أسمينها صلة كما قال المفسرون فالمعنى واحد، ومقصودهم أنها يراد بها التوكيد والاستفهام للاستنكار.
قال سبحانه: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:16]، نكر البنات وعرف البنين ليطابق حال البنين والبنات عند العرب، {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف:16]، وأنا هنا أؤكد على اللغويات، وأما المعاني فنأتي لها في قول الله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19]، في نفس السورة؛ حتى لا يتكرر الأمر.(71/9)
تفسير قوله تعالى: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن)
ثم قال الله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:17 - 18]، فهنا الله جل وعلا لما نقم عليهم أنهم جعلوا الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ذكر شيئاً لا يرتضونه لأنفسهم ومع ذلك نسبوه إلى ربهم، فحكى عن بعض الطوائف من العرب: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} [الزخرف:17]، فهنا ذكرها بالكناية أو بغير التصريح، وصرح بهذه في قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58]، الكظيم: هو من يكظم كربه وحزنه، {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [الزخرف:17]، وظل هنا بمعنى: صار، {وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:17]، قال الله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، وهنا نسيح لغوياً في هذه الآية وسنختم بها حلقتنا.(71/10)
الأصل في التجمل أنه للنساء
{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] يستفاد من هذه الآية أن الأصل في النساء أنهن يتجملن، والأصل في الرجال ألا يتجملوا، فالزينة أليق بربات الحجال وأبعد عن الرجال، قول الله جل وعلا: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ} [الزخرف:18] يعني: يربى، {فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18]، أي: في الزينة، {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ} [الزخرف:18] وهذا قيد في ظني لا بد منه، {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فمتى يكون غير مبين؟ في الخصام، فلا يقدح في المرأة على إطلاقه، لكن المقصود من الآية: أنكم نسبتم إلى الله من لو خاصم بقوله لما غلب فكيف يغلب في الحروب؟ فإذا كان لا ينفع لا في حرب ولا في خصام القولي فكيف تكون هناك منفعة من اتخاذه ولداً؟! ونحن نعلم أن الله غني عن هذا كله لكن نتكلم من باب الفرض الجدلي، فإن الله يخاطبهم على فرضهم الجدلي، فإذا كانت الأنثى جنساً نوعاً لا تقوى على أن تظهر خصومتها القولية فهي من باب أولى لا تظهر ذلك في المخاصمة الحربية العسكرية في ميادين القتال، فإذا كانت لا تجدي نفعاً في دفع ضر ولا أذى عمن تتولاه لا بلسانها ولا بسنانها فلا منفعة إذاً باتخاذها ولداً، فإذا لم تكن هناك منفعة أبداً في اتخاذها ولداً فكيف تنسبونها إلى ربنا جل جلاله!؟ فالله منزه عن هذا كله.(71/11)
عدم إبانة النساء إنما هو في الخصام
نعود فنقول: إن قوله: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] قيد لا بد منه، ونحن نعلم أن في النساء فصيحات بليغات شاعرات، والقرآن لا يمكن أن يخالف الواقع فالواقع أعظم الشهود، وقد قال معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه في حق أم المؤمنين عائشة: إنها كانت فصيحة بليغة، وأنها ما فتحت باباً وشاءت أن تغلقه خطاباً إلا فعلت، ولا أغلقت باباً وشاءت أن تفتحه خطاباً إلا فعلت، ولئن قلنا: إن المرأة لا تبين ولا تفصح ولا تفهم فكيف نقول في الكثير من الأحاديث التي روتها صحابيات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فنجم عن هذا القول وحمل هذه الراية رد كثير من السنة.
لكن نقول: إن التعبير القرآني جاء مقيداً، قال الله جل وعلا: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، وأما في غير خصام فقد يكون مبيناً، فمثلاً أحياناً قد يكون الحديث إن كان هذا من الإفراد أن مسلم رحمة الله تعالى عليه روى في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا) إلى آخر الحديث، وهذا الحديث سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وزينب أخبرت بهذا الحديث أم حبيبة، وأم حبيبة هي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي بنت أبي سفيان، وأم حبيبة أخبرت به ابنتها حبيبة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أمها فأصبحت من ربائبه، وحبيبة أخبرت به زينب بنت أم سلمة التي هي زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
وزينب أيضاً ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا حديث اجتمع في سنده أربع صحابيات، اثنتان زوجتان للنبي صلى الله عليه وسلم وهما أم حبيبة وزينب بنت جحش، واثنتان من ربائب النبي صلى الله عليه وسلم وهما حبيبة وزينب بنت أبي سلمة، والأسماء هنا تدور في فلك زينب وحبيبة: زينب بنت جحش وأم حبيبة وحبيبة وزينب بنت أبي سلمة.
فلو قلنا: إن الآية على إطلاقها لوقفنا ضعفاء في قبول هذا الحديث، لكن نقول: إن الله قيد ويجب اعتبار تقييد القرآن، قال الله جل وعلا: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18].
وينجم من هذه الآية فقهياً أن الأصل في زينة النساء الإباحة، إلا ما استثناه الشرع نصاً من زينة النساء فيترك ويجتنب؛ للنهي الشرعي، وما لم يأت فيه نص شرعي فإنه يبقى على أصله، ويؤخذ بعموم هذه الآية وهي قول الله جل وعلا: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18].
جعلنا الله وإياكم ممن إذا خاصم أبان ولا يفجر، فيدافع عن حقه ولا يقع فيما وقع فيه أهل النفاق، هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وفي اللقاء المقبل بإذن الله تعالى نبدأ بقول الله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19].
وصل الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(71/12)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الزخرف [3]
ذكر الله تعالى في هذه الآيات الفرية التي افترتها قريش في زعمها أن الملائكة الكرام هم بنات الله تعالى، فتوعدهم الله تعالى بأن فريتهم هذه ستكتب وسيسألون عنها.
ثم ذكر الله عنهم احتجاجهم بالقدر في عبادتهم للأصنام، وتلك الحجة داحضة عقلاً وشرعاً، فلا يصح مطلقاً الاحتجاج بالقدر في الذنوب والمعاصي.
ثم ذكر الله عنهم أنهم تشبثوا بشبهة أخرى وهي اتباع الآباء والأجداد فيما كانوا عليه، فرد الله عليهم ذلك بأن ما جاءهم به الرسول هو أهدى مما كانوا عليه.(72/1)
تفسير قوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فنستأنف في هذا اللقاء المبارك تفسير سورة الزخرف، وكنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، والآية التي بعدها شديدة الارتباط بها، قال الله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19].
فكل من نازع الله فهو مغلوب، والله يظهر ضعف عدوه وتناقضه قولاً أو عملاً، وقد زعم القرشيون أمرين: الأمر الأول: زعموا أن الملائكة بنات لله.
والأمر الثاني: ينجم عن هذا أنهم جعلوا الملائكة شركاء لله؛ لأن الابن جزء من والده، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها)، على هذا جمع هؤلاء القرشيون النقيضين، والنقيضان في قولهم أنهم رفعوا أولاً: الملائكة من مقام العبودية، ولهذا قال الله: {الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الزخرف:19]، رفعوهم إلى مقام أنهم جعلوهم بنات لله، وجعلوهم شركاء مع الله، وهذا ارتفاع وارتقاء بمقام الملائكة، وفي نفس الوقت جعلوهم بنات! والذكر أفضل من الأنثى، فرفعوهم من وجه ووضعوهم من وجه آخر، وهذه قمة التناقض، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف:19] الشهادة هنا بمعنى: الحضور، {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]، وهذا فيه تخويف للناس؛ لأن الله قد علم من غير تدوين شهادتهم أن مآلهم إلى النار، ومع ذلك حاكمهم الله على هذا الأمر.(72/2)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم)(72/3)
إبطال الاحتجاج بالقدر عقلاً ونقلاً
فالكفار جزماً حتى ولو لم يقولوا هذا القول فهم من أهل النار، ومع ذلك قال الله: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف:19 - 21].
فاحتج القرشيون بالقدر، ومن احتج بالقدر يبطل احتجاجه عقلاً ونقلاً، فكل من احتج بدليل عقلي فإنه يلزمه البقاء عليه في كل أحواله، وقد تبين عقلاً أن أي أحد لا يستطيع أن يحتج بالقدر في كل أحواله، فهم يقولون: لو كان هذا الدين حقاً لما شاء الله أن نعبد غيره، قال الله جل وعلا عنهم: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]، فاحتجوا بالقدر، فنقول لهم من الناحية العقلية: لو سلمنا لكم بصحة هذا الاحتجاج هل تقبلون به في كل أحوالكم؟ لا يقبلون.
فلا يمكن أن تأتي أعراضهم فتنتهكها، أو أموالهم فتسرقها ويقبلون احتجاجك بأنك انتهكت أعراضهم وسرقت أموالهم بقدر الله، بل سيعاقبونك ويثأرون لأنفسهم، فهذا يبطل به الاحتجاج بالقدر عقلاً.
وأما إبطاله نقلاً فهو في الآية التي بعدها قال الله جل وعلا: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف:21]، وقطعاً ليس لهم كتاب من قبله، قال الله جل وعلا: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44]، فهذه الآية عظ عليها النواجذ، واعقد عليها خنصرك فسيأتي الحاجة إليها فيما بعد.(72/4)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية)
لكن الله ساقها لبيان رد دليلهم نقلياً، وهم لا يملكون دليلاً نقلياً ولا دليلاً عقلياً لكن لديهم شبهة، والقرآن إذا حاكم فإنه يحاكم بالتفصيل، والشبهة هي قول الله جل وعلا كما حكاه الله عنهم: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، فشبهتهم التي تمسكوا بها بعد أن أبطل الله احتجاجهم بالقدر هي أنهم وجدوا آباءهم على أمة، وقالوا -كما قال الله-: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، فقال الله: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:23]، إذاً فالاحتجاج بالقدر فيما يبدو خصيصة قرشية، وأما الاحتجاج بأنهم وجدوا آباءهم على أمة فليست خصيصة قرشية وإنما مضت في ملل وأمم وأقوام قبلهم، والدليل عليه أن الله لما حكى احتجاجهم بالقدر لم يقل سبحانه: إنه كان موجوداً في الأمم التي سلفت، ولما ذكر احتجاجهم بأنهم وجدوا آباءهم على أمة قال سبحانه وهو أصدق القائلين: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، فقال كل رسول لأمته: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا} [الزخرف:24] أي: كل أمة لرسولها، {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24]، قال الله: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف:25].(72/5)
النهي عن التبعية بغير علم
والآن نعود للآية من أولها وننيخ المطايا فيما يجمل عنها من فوائد، وأعظم الفوائد فيها: أن الله نهى عن التبعية بغير علم؛ لأن الله قال: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف:24]، وعلى هذا فباب الاجتهاد في الشرع مفتوح ولا يلزم، والناس عندما فتحوا لأنفسهم باب الاجتهاد ظنوا أن الطريقة المثلى إليه هي حفظ المتون، وهذا خط منهجي عظيم، فإن الحفظ وإن كان حسناً إلا أن الذي ينبغي في المجتهد أن يعرف مواضع الأحكام ويفهمها، وأما حفظها فليس له علاقة بالاجتهاد، فإذا كان يسهل عليه أن يعرف موطن الحكم ويفقهه ويفهمه وينزله التنزيل الصحيح فهذا مجتهد، وأما الحفظ فلا علاقة له؛ لأننا لو قلنا: إن الحفظ ركن من أركان الاجتهاد لوصل إلى تلك المنزلة أو إلى نصفها أو قارب منها مئات الحفاظ، وأنت كما ترى كثيراً منهم لا يملك الآلة العلمية، وحسبك مثلاً أن ابنك في المرحلة الدراسية قد يكون في الثانية عشرة من عمره، وحفظ القرآن أو حفظ الصحيحين، ولا يمكن أن يكون قد خطا خطوة واحدة في طريق الاجتهاد، قال الناظم: وموضع الأحكام دون شرط حفظ المتون عند أهل الضبطِ والمعنى: أن يعرف المجتهد موضع الأحكام دون أن يشترط حفظ المتون عند أهل الإتقان والصنعة.(72/6)
معاني كلمة (أمة) في القرآن
فنجم عن هذا كله أن التقليد والاتباع من غير دليل أمر منبوذ شرعاً كما دل عليه قول الله جل وعلا، {وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22]، الأمة هنا هي الطريقة والمسلك الذي يسيرون عليه، والهدي الذي كان عليه آباؤهم، وكلمة أمة جاءت في القرآن على معانٍ عدة، لكن عرفنا المراد هنا من السياق، قال الله جل وعلا: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود:8] أي: إلى أجل وزمن، وقال الله جل وعلا: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ} [القصص:23] أي: جماعة، قال بعضهم: دون الرجال، {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، أي: جماعة، فيدخل فيها الرجال والنساء، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] أي: رجلاً جامعاً لصفات الخير.(72/7)
بعض الألفاظ المتفقة خطاً والمختلفة معنىً في القرآن
إذاً: فيا من تفسر القرآن ثمة ألفاظ تتفق في أحرفها وتختلف في معناها، وإن كان الجرم الأول لمعناها هنا لكن تأتي لها دلالات، فمثلاً قال الله جل وعلا: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة:30]، وهو أخوه لأبيه وأمه؛ لأن الحديث عن قابيل، وهابيل، وقال الله في هود: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [هود:50] وليس أخاهم لأمهم وأبيهم، لكنه أخوهم في القبيلة، وقال الله تبارك وتعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] أي: شبيهتها ومثيلتها في الجرم، وقال الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، أي: إخوة الدين، وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص:23] أي: شريكي وصاحبي، وقال الله جل وعلا: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202] أي: أولياؤهم، فاللفظ واحد والمعاني مختلفة.
ومثال أخر كلمة آية، قال الله جل وعلا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} [هود:103] أي: عضة وعبرة، وقال الله جل وعلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:20] هنا آية بمعنى برهان ودليل، وقال الله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128] أي: البناء الرفيع.
وتأتي آية بمعناها في المصحف، قال الله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل:101].(72/8)
معنى (آية) اصطلاحاً
ونعرج الآن هنا في علم التفسير على معنى آية في الاصطلاح الشرعي، فقد أخذنا نماذج على آية في المعنى اللغوي فقلنا: تأتي بمعنى عظة، وتأتي بمعنى برهان، وتأتي بمعنى: البناء الرفيع، وتطلق في المصطلح الشرعي على جملة من الكلام ذات مبدأ ولها مطلع ومقطع، مختومة بفاصلة، وموجودة في سورة.
والفاصلة: هي جملة من الكلام تختم به الآية، وهي قرينة القافية في الشعر، واللازمة في السجع، إلا أن الفارق الأعظم أن الفاصلة في القرآن يؤتى بها لمعنىً.
وقد قال أهل صناعة التفسير الذين لديهم حظ في البلاغة: إن الفاصلة سر من أسرار القرآن.(72/9)
أقسام الفاصلة في القرآن
ويمكن تقسيم الفاصلة إلى أربعة أقسام: الأول: التمكين، ويقصد به: تلك الفاصلة التي يكون ما قبلها ممهداً لها، مثل قوله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} [الأحزاب:25]، فأنت تكتب صدر الآية والفاصل: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25]، والفاصلة هي قوله: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25]، وما قبلها كان ممهداً لها.
فحتى لا يفهم أن رد الذين كفروا كان قدراً واتفاقاً جاءت الفاصلة لتبين التمكين، فظهر من لفظها قدرة الله جل وعلا؛ ليطمئن المؤمن ويغاظ الكافر هذا أول أقسام مدلولات الفاصلة وهو التمكين.
الثاني: التصدير، وهو أن يكون صدر الآية دالاً على آخرها، فتصبح هذه الفاصلة مأخوذة لفظاً من صدر الآية، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [نوح:10]، فهذه الآية فاصلتها: {إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10].
الثالث: التوشيح، وهو نظير التصدير، لكن التصدير مأخوذ لفظاً، وأما التوشيح فمأخوذ معنىً، قال الله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك:13]، فختمت بقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13].
الرابع: الإيغال، من أوغل فلان في الأمر، أي: زاد فيه ودخل وتعمق، فكل هذه المعاني تدور في فلك الزيادة.
والإيغال في الفاصلة: أن تتضمن الفاصلة معنىً زائداً على صدر الآية، قال ربنا مثلاً وهو أصدق القائلين: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88]، فقد انتهت الآية من حيث المعنى وتم معنى الآية، ثم قال الله بعدها في فاصلة ختمت بها هذه الآية: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].
فهذه الفاصلة زادت معنىً وهو أنهم لا يأتون بمثله مجتمعين، أي: حتى ولو اجتمعوا فلا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فهذه الفاصلة زادت معنىً زائداً عن صدر الآية، فيسمى هذا النوع إيغالاً.
ويأتي الإيغال وله جرم آخر وموضع آخر عند البيانين وأهل البديع ضمن الإيجاز والإيغال وأمور أخر غير علاقته بالفاصلة؛ يأتي في الآية.
إذاً فالإيغال يأتي على ضربين: يأتي جزءاً من أقسام الفواصل، ويأتي محسناً بديعياً في الآية نفسها، فكيف يأتي محسناً بديعياً في الآية نفسها؟ إن الآية تقطع على من يسمعها الزيادة، فبعض الشعراء وهذا يظهر عند ابن المعتز كثيراً: يأتي بأبيات تتضمن معان تلزمك ألا تسأل، فكل ما خطر ببالك سؤال ألجمك الكلام الذي تسمعه، مثاله: يقول الله جل وعلا: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة:266]، ومعلوم أن الجنة لا بد أن يكون فيها نخيل وأعناب، فهذه من نخيل وأعناب زيادة على أنها جنة، قال الله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:266]، والأنهار أصلاً من لوازم كلمة جنة، لكن هذا إيغال، وزاد إيغالاً آخر فقال: {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:266]، فهذا إيغال آخر تكفي عنه كلمة جنة.
لكن المقصود -والمقصود غير الوصف- منه هنا إظهار شدة التأسف والتحسر على جنة بهذا الوصف، قال الله تعالى: {لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} [البقرة:266]، لما قال: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} [البقرة:266] يأتي
السؤال
أهم شيء ترك ذرية وإلا ما ترك ذرية؟ قال الله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ} [البقرة:266]، فيأتي
السؤال
أضعفاء هم أم أقوياء؟ فيأتي الإيغال: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ} [البقرة:266]، قال الله: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} [البقرة:266]، ولم يكتف: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ} [البقرة:266]، وكلمة (فيه نار) من لوازمها الاحتراق، لكن قد يقول قائل: ربما لا تحترق، فيأتي السؤال: هل احترقت؟ قال الله: {فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة:266].
فهذا الإطناب الذي يجيب عن كل سؤال ربما يخطر على البال يسمى في الصناعة الشعرية: إيغالاً، والقرآن قرآن عربي، فما يقال من أساليب العرب في كلام أهل الشعر ينزل على أساليب القرآن، لكن لا يقال للقرآن شعراً، وقد قلت مراراً: إن طه حسين الأديب المعروف على ما فيه وليس هذا مقام القضاء بين عباد الله المقام استفادة من الكلام والمقام اشتشهاد، طه حسين عرف الشعر والنثر، فقيل له: والقرآن شعر أو نثر؟ فأجاب بكلمة بليغة فقال: القرآن قرآن ليس له اسم إلا قرآن، فلا يسمى شعراً ولا يسمى نثراً، لكنك إذا كنت قوياً في معرفة أساليب العرب في كلامها أعطيك مفاتح من مفاتيح عدة لتدبر كلام الله جل وعلا، وأن تكون فارساً مقدماً فيه.(72/10)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه)
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف:22 - 29].(72/11)
الاختلاف في اسم أبي إبراهيم
إبراهيم هو خليل الله المعروف، والمعنى: واذكر {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ} [الزخرف:26] قيل: اسمه: تارخ أو تارح بالحاء، وهذا قول أهل التاريخ، وذكر الله في القرآن: أنه آزر، واضبط الأقوال عندي أن يقال: إن اسمه تارخ، ويعرف بـ آزر؛ خروجاً من الإشكال، فجمهرة المؤرخين اتفقوا على أنه تارخ، وهو قول ابن عباس، والقرآن يقول: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام:74]، ويمكن الجمع بأن اسمه: تارخ ويعرف بـ آزر.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26 - 27] وهذا استثناء منقطع بمعنى: لكن الذي فطرني أتولاه، فكما أتبرأ مما تعبدون فإني أتولى من {فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:27].(72/12)
تفسير قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه)
{وَجَعَلَهَا} [الزخرف:28] الفاعل عند جمهور أهل العلم هو إبراهيم، وبعض العلماء على أن الضمير يعود على لفظ الجلالة، ومن قال: إنه يعود على لفظ الجلالة يغلب بأنه جاء في آخر الآية: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ} [الزخرف:28]، وكلمة (لعل) هنا لا تناسب أن تسند إلى رب العزة، فنرجح أن فاعلها عائد على إبراهيم، ولها مفعولان الهاء في (جعل)، و (كلمة) مفعول ثاني، وأما (باقية) فهي صفة، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28]، والعقب في اللغة هو مؤخر الرجل، وفي الاصطلاح: كل قوم ليس بينهم وبين أبيهم أنثى.
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] الكلمة: هي كلمة التوحيد والبراءة مما يعبد من دون الله، وأنا الآن أفصل حرفياً وسأجمع شتات هذا كله؛ لأن هذه الآية يهمنا جداً فهمها.
سنقول ما قال المفسرون ثم نقول رأينا، فأهل التفسير يقولون: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام تبرأ من أهل الأوثان، وهذا حق، وتولى ربه، وهذا حق وظاهر، وجعل هذه الكلمة في عقبه باقية يرجعون إليها إذا حادوا جعلها علامة وإشعاراً لهم، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28]، وقالوا من الدلائل: أن الله قال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [البقرة:132].
معنى الكلام عندهم (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) قالوا: إن هذا الأمر الذي رجاه إبراهيم لم يتحقق كله، فآمن بعض ذريته ولم يؤمن بعضهم، قال الله جل وعلا: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] في خطابه لإبراهيم، ثم قال الله: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف:29] أي: أن هؤلاء الآباء الذين هم آباء قريش لم ينتفعوا بكلمة من إبراهيم باعتبار أن إبراهيم أن لإسماعيل، وإسماعيل أب لـ عدنان، وهؤلاء عرب عدنانيون؛ لأن نسب النبي ينتهي إلى معد بن عدنان.
وعلى هذا نجم أنهم فهموا أن ثمة شيئاً من الدين كانت قريش مطالبة به حتى توسعوا، فقال الطاهر بن عاشور غفر الله له ورحمه: ومما يستروح من الآيات من قول الله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] إلى قوله: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الزخرف:29] أنه لم يكن هناك مشرك في عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أجداده كانوا يضمرون الإيمان ويخفونه ولم يصرحوا به؛ مخافة الفتنة من قومهم.
وهذا أمر عندي في غاية الغرابة والبعد، وقد قلت في درس خلا تنبه لقول الله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف:21]، وقلنا: إن هذا استفهام إنكاري أنه لم يأتهم كتاب، ولئن كان الأمر ينطبق عليهم كما قال الطاهر بن عاشور أو غيره فإنهم يكونون مطالبين بالصحف التي أنزلت على إبراهيم، والله قد نفاها عنهم وبين أنهم لا يملكون دليلاً نقلياً.
والعلماء يربطون ما بين قول الله جل وعلا: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28]، وبين قوله: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الزخرف:29]، والذي أراه والعلم عند الله: أن قول الله جل وعلا: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] لا علاقة لها بقول الله: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الزخرف:29]، فهناك انفكاك تام، والمعنى: أن إبراهيم جعل هذه الكلمة في ذريته التي كانت على مقربة ممن كفر به؛ لعلها إذا شاعت في ذريته يرجع من لم يؤمن به عن الكفر، ومن أعظم القرائن على ذلك: أن قوم إبراهيم لم يهلكوا، وبقيت الأمور معلقة في أذهانكم لكن الوقت انتهى، وسأبينها تفصيلاً في أول اللقاء القادم، هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصل الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(72/13)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الزخرف [4]
لقد تبرأ أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام مما كان يعبد قومه من الأصنام، والتجأ إلى الله تعالى وحده، فهو الذي بيده الهداية والإضلال، والنفع والضر.
ثم جعل ذلك التوحيد والهدى في عقبه يرجعون إليه.
وقد كان إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، وكان وحده أمة، فقام في وجه الشرك والباطل لوحده، وصارع قومه وناظرهم وحاجهم.
فلما لم يقدروا أن يردوا حجته لجئوا إلى القوة، فأوقدوا النيران العظيمة وألقوا إبراهيم فيها، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وأنجاه من كيدهم.(73/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: كنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26]، ووافق ذلك أن كان في آخر الحلقة، فنجم عنه أن المعنى لم يتحرر تحرراً كاملاً، فكان لزاماً أن نستفتح به لقاءنا هذا.
فنذكر أولاً المسلك اللغوي، فإذا انتهينا من المسلك اللغوي نعيد إجمالاً معنى الآية، ونحرر ما قاله المفسرون، ثم نذكر رأينا إن كان لنا رأي غير ما قالوه.
فالله يقول: {وَإِذْ قَالَ} [الزخرف:26] أي: واذكر إذ قال؛ لأن (إذ) هنا ظرفية تحتوي الحدث، وإبراهيم هو أبو الأنبياء، وأفضل خلق الله بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (فأقوم مقاماً يرغب إلي فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم)، فقوله عليه الصلاة والسلام: (حتى إبراهيم) قرينة ظاهرة على أن إبراهيم أفضل الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} [الزخرف:26] قدم ذكر الأب ليبين عظيم تبرؤ إبراهيم من الأصنام، والخطاب لقوم يعبدون الأصنام، فأخبرهم عن خليل الله إبراهيم، وأما القول: بأن إبراهيم أب لهم فيحتاج إلى أعادة نظر، وأما من حيث أصله فنعم، لكن ليس صحيحاً تاريخياً أن ننسب الناس لكل أب لهم، بمعنى لا بد من شخصية ما تكون فاصلة بين ما بعد وما دون وما قبل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أرموا بني إسماعيل) ولم يقل بني إبراهيم؛ لأنه لو قال: ارموا بني إبراهيم لدخل بنو إسرائيل معنا، لكنا قال صلى الله عليه وسلم: (أرموا بني إسماعيل) حتى يخرج بنو إسحاق؛ لأن بني إسحاق منهم يعقوب، ويعقوب منه بنو إسرائيل، ومن إسحاق كان العيص، ومن العيص كان الروم، فلو نسبنا الناس إلى إبراهيم كما جرى عليه بعض المفسرين دون أن يلحظ هذا في معنى الآية فإننا سنقع في الخطأ والخلط في فهم الآيات، وهذا لا يتضح لك الآن إلا إذا أكملنا تحرير المعنى، وأنا قلت: سأبدأ بداية تروّي في قضية اللغة.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ} [الزخرف:26] (براء) لغة في بري، وكان أهل عالية نجد آنذاك يستخدمونها، كما يقولون: طويل وطوال، ويقولون: بريء وبراء، {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26]، مما هذه مكونة من (من) و (ما)، فأدغمنا في بعضهما البعض، فأما (من) فحرف جر، لكن (ما) تحتمل هاهنا أن تكون مصدرية، وأن تكون موصولة، فإذا قلنا: إنها مصدرية فيصبح المعنى: إنني براء من عبادتكم لغير الله؛ لأن عبادة مصدر من الفعل عبد، وهنا (ما) تصبح مصدرية، وإن قلنا: إنها موصولة يصبح المعنى: إنني براء من معبوداتكم، موصول، أي: من الذي تعبدونه، ولا يتحرر من هذا كبير اختلاف، فإبراهيم بريء منهم؛ بسبب عبادتهم لغير الله، {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26]، {إِلَّا} [الزخرف:27] استثناء منقطع في قول الجمهور، وهو الحق، بمعنى لكن، أي: لكن الذي فطرني أي: خلقني، فإن سيهدين.
وهنا إشكال وهو: أن السين جاءت هنا ولم تأتِ في آية الشعراء: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78].
قال الشيخ الهرري أمتع الله به -وهو ما زال موجوداً في مكة- قال: بعد عناية ودراسة فيها الذي يظهر أن هنا جيء بالسين لا للتسويف ولكن للتأكيد؛ لأنه هناك في آية الشعراء ذكر أن الأصنام عدو له، قال: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء:75 - 77]، وأما هنا فأراد إبراهيم أن يخبر بالبراءة من قومه ومن آلهتهم فجيء بالسين للتأكيد لا للتسويف، ثم قال كلمة نرددها الآن: والله أعلم بأسرار كتابه.
قوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:27] إلى الآن لا يوجد خلاف بين العلماء في المعنى؛ لأنه ظاهر.(73/2)
تفسير قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه)
{وَجَعَلَهَا} [الزخرف:28] الجاعل هو إبراهيم على الصحيح، وقد ذكرنا في اللقاء الماضي أن الخلاف قائم في فاعل جعل هل هو عائد على لفظ الجلالة أو عائد على إبراهيم، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28].
والمفسرون من حيث الجملة يقولون: إن هذه الكلمة العظيمة -وهي البراءة من الشرك وأهله؛ موالاة الله رب العالمين جل جلاله، وهي كلمة التوحيد وقيلت بمعنى: لا إله إلا الله- جعلها إبراهيم علامة وشعاراً لدينه، وجعلها باقية في عقبه؛ رجاء أن قومه إذا حادوا عن الطريق رجعوا إلى تلك الكلمة، الكلمة، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الزخرف:28 - 29]، (هؤلاء) أي: المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، (وآبائهم) أي: الذين لم يشهدوا نبوته من آباء من كان حياً زمن النبي صلى الله عليه وسلم، (بل متعت هؤلاء وآبائهم) أي: بالنعم والعطاء، ومن كثرت عليه النعم وطول الأمد قسا قلبه، فحادوا عن الكلمة التي جعلها إبراهيم باقية في العقب، {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ - أي: القرآن- وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف:29] أي: محمد صلى الله عليه وسلم، {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:30]، هذه سذاجة.
نعود إلى قول الله جل وعلا: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28]، هذا الذي عليه أهل التفسير، ونقول: إن المعنى هنا غير واضح؛ لأننا نؤصل أولاً أن هناك إنفكاكاً وانقطاعاً تاماً بنص القرآن ما بين نبوة إبراهيم ورسالته وبين كفار مكة، ولا يمكن أن يؤخذ هذا القول، وجعل الأمر كالطريق الواحد محال؛ لأن الله جل وعلا قال في آيات محكمة: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44]، ومر معنا في اللقاء الذي قبل أن الله تبارك وتعالى قال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف:21]، وقلنا: إن هذا دليل نقلي على أنه ليس لديهم كتاب يخبرهم عن شيء، فإذا نفى الله عنهم النذارة، ونفى الله عنهم الكتب انقطع اتصالهم الديني بإبراهيم، فيكون قول الله جل وعلا فيما يبدوا لي: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] أي: في خواص عقبه وفي أقرب أهله إليه: في إسماعيل وإسحاق ومن كان آنذاك معاصراً له في العراق وبلاد الشام؛ حتى يكون سبباً في نشوء هذه البيئة الصالحة، وتكون سبباً ومؤثرة فيمن جاورهم.
وقلت في اللقاء الماضي: إن من القرائن على صحة الرأي أن الله لم يذكر أنه استأصل من كفر بإبراهيم بالكلية، فلم يرد في القرآن فيما نعلم ولا في السنة فيما نحفظ أنه جاء ذكر أن الله استأصل خصوم آل إبراهيم بالكلية، فالله لما ذكر أنهم حاولوا حرقه ذكر أنه نجاه، ولم يذكر هلاكهم، وإبراهيم مر على العراق الشام ومصر، فكل هذه الديار طافها، فلم يكن له بيضة معينة، بيضة بمعنى حوزة أي: ليس له مكان مستقر واحد، وإنما كان طوافاً، ولذلك تبنته الأمم كلها.(73/3)
تفسير قوله تعالى: (بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق)
فنقول على هذا: إن قول ربنا: {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ} [الزخرف:29] إن (بل) هنا للإضراب الانتقالي وليست للإبطال؛ لأننا لو قلنا: إنها للإبطال لأصبح هناك اتصال فيبطل المعنى، لكن (بل) هنا للإضراب الانتقالي، فيصبح الكلام بعد أن ذكر الله خبر إبراهيم يقول لنبيه: أما هؤلاء وآبائهم فقد متعتُهم ما شئت أن أمتعهم دون نبي أو رسول، ولا علاقة لهم بإبراهيم، {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ -أي: القرآن- وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف:29] أي: أنت يا محمد.
ثم قال الله: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف:30] والكلام الآن عن كفار قريش ولا علاقة لإبراهيم بالمسألة، {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:30]، وهذا قد مر معنا: أنهم وصفوا القرآن بأنه سحر؛ لما ينجم عنه في زعمهم من التفريق بين الرجل وزوجته، والوالد وولده.(73/4)
تفسير قوله: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)
ثم قال الله عنهم: {وَقَالُوا -أي: القرشيون- لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فالجار والمجرور نحوياً تملك قوة في ضعفها، فالمرأة قوتها في ضعفها، فبعض الضعفاء قوتهم في ضعفهم، فقد يأتيك رجل ولا يوجد له مقعد، ويأتي معه بصبي صغير، فأين قوة الصبي الصغير؟ في ضعفه؛ لأنه من السهل أن تجد له مكاناً، ومثلها أيها المبارك الجار والمجرور، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، ولو سألتك ما إعراب كلمة (عظيم).
فستقول: صفة لكلمة رجل، والمعنى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ} [الزخرف:31] عظيم من القريتين، ومعلوم قطعاً وجود الاتصال ما بين الصفة والموصوف، وقد فصل بينهما الجار والمجرور (من القريتين)، فهو شبه جملة أقحمه هنا، ويعطي نوعاً من الصياغة اللفظية والسبك بما لا مزيد عليه، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ} [الزخرف:31] والقريتان المقصودتان هنا هما مكة والطائف بالاتفاق وكل لفظ قرية في القرآن يعني بها مدينة، وقول الجغرافيين ليس له علاقة بقول رب العالمين؛ قول الجغرافيين: إن القرية هي كذا كذا وتقل عن المدينة في وصف معدود، هذا اصطلاح لا مشاحة فيه، لكن القرية في اللفظ القرآني بمعنى المدينة، قال الله تعالى: {لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92].
وكانوا القرشيون يزعمون -في قول جمهور أهل العلم- أن القرآن هذا أحق به رجلان: الأول: عروة بن مسعود من أهل الطائف، والوليد بن المغيرة من أهل مكة، وأياً كان من قصدوه بهذه الطريقة التي قالوها وهي باطلة في أصلها فقد أخطئوا في أنهم لم يعرفوا ما هو المعيار في قدر الرجال، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم حتى بالمقاييس غير الشرعية كان أفضلهم صلوات الله وسلامه عليه.
نعود فنقول: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، مر معنا أن الجواب الإلهي يتحرى ويتوخى إبهام الخصم، وبينا في مسألة: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19] أنهم ارتقوا بالملائكة وفي نفس الوقت وصفوهم بأنهم إناث، وهنا يقول الله لهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32]، ومعنى الآية أن الله يقول لهم: أنتم تعترفون أن الأرزاق إنما يقسمها الله، وهذا لا خلاف فيه عندكم، ومعلوم أن عطاء النبوة أعظم من عطاء الأرزاق، فإذا كنا لن نسند إلى أحد من الخلق تقسيم الأرزاق فكيف نسند إليه تقسيم النبوة؟! هذا هو المعنى المقصود من الآية.
إذاً فكلمة (رحمة) في الأول بمعنى النبوة، {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ) هنا المقصود بها النبوة، (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ} [الزخرف:32] اللام هنا للتعليل؛ ولهذا نصب الفعل، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32] أي: أن الله جل وعلا لم يجعل الناس على منزلة واحدة: خادم ومخدوم، وأمير ومأمور، ملك ومملوك، عبد وحر؛ حتى تستقيم الحياة، وعلى هذا طبعت الدنيا وجبل الكون، حتى يستقيم الأمر وينتفع الناس جميعاً.
{لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32]، والرحمة هنا الصواب عندنا أنها بمعنى الجنة، رحمة الأولى بمعنى النبوة، ورحمة الثانية بمعنى الجنة، قال الله تعالى: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].(73/5)
تفسير قوله تعالى: (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا)
ثم هذه الآية ممهدة للآيات ومقاطع بعدها، وهي قضية إظهار حقارة الدنيا، فلما أراد الله أن يظهر حقارة الدنيا قال مخاطباً عباده: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
فلا بد من تقدير شيء ما في المسألة، والتقدير: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف:33] التقدير: ولولا كراهة أن يأتي الناس الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن، والمعنى: أن الله جل وعلا يبين أن الدنيا إعطاؤها للكافر يدل على حقارتها عنده، ومجرد أن الله جل وعلا أذن للكافر أن ينعم في الدنيا فهذا دلالة على أنها حقيرة عند الله؛ لأن الكفار ليسوا أولياء لله، فتنعمهم في الدنيا يدل على أن الدنيا ليست بشيء، فالله جل وعلا يبين مخافة أن يظن الناس أن الكفر هو السبب في النعيم، فأصبح الناس بذلك كلهم كفار؛ رجاء أن ينعمهم، لكن كراهة أن يظن الناس ذلك منعنا جريان الأمر على إطلاقه بدون تقييد، {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33]، و (معارج) جمع معراج، وهي بمعنى السلالم، وقد مرت معنا قبل في آيات سابقة.
{عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33] أي: يصعدون، {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا} [الزخرف:34 - 35]، وهذا كله المقصود منه إظهار المتاع الذي يعيشه الناس في حياتهم، {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:35]، ثم بين الله جل وعلا أن الحقيقة التي لا مناص منها أن المتاع الباقي هو متاع الآخرة، فقال ربنا: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ} [الزخرف:35] وليس هذا محل خلاف، لكن يأتي محل تساؤل: لمن؟ فجاء الجواب القرآني: {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35].(73/6)
تفسير قوله تعالى: (ومن يعش عند ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين)
ثم قال الله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف:36]، (يعش) هنا جملة شرطية بمعنى يعرض ويصد، وجواب الشرط (نقيض) أي: نهيئ، وهو فعل مستقى من اسم جامد، وأصل التقييض ذلك الذي يحيط بغشاء مخ البيضة.
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ} [الزخرف:36 - 37] أي: الشياطين، {لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف:37] عن الهدى، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:37]، وهذا قمة البلاء، فإن قال قائل: ألا يكون هذا عذراً لهم أنهم تأولوا على جهل؟ يقال في الجواب عن هذا: لا يعد هذا عذراً؛ لأن جهلهم هنا بسبب إعراضهم عن ذكر الله.(73/7)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين)
{حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف:38]، فلماذا قال: (بيني وبينك)؟ ولماذا قال: (بعد المشرقين)؟ فأما (بيني وبينك) فكان يغني عنها أن يقول: يا ليت بيننا، لكن أراد قمة البراءة منه، ويسعى حثيثاً للتخلص منه، وفصل حتى في الألفاظ، قال: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف:38]، ومعلوم أن هناك مشرقين ومغربين، والأمر للتغليب، ومر معنا نظائره، لكن لماذا اختار المشرقين دون المغربين؟ قال بعض أهل العلم من اللطائف: إن المشرق يكون منه ظهور قرن الشيطان، فلهذا قال: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38]، فهو أسلوب ذم، فبئس فعل ماضي جامد لا تصرف.(73/8)
تفسير قوله تعالى: (ولن يتعلم اليوم إذا ظلمتم أنفسكم أنكم في العذاب مشتركون)
{وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، فهذا من أعظم ما عذب الله به أهل النار: أن الله قطع عنهم حتى التأسي بغيرهم، فإن المصائب في الدنيا يهونها أن تجد أحداً مثلك أو أعظم منك في المصيبة، لكن أهل النار حرمهم الله جل وعلا من التأسي الذي يخفف عنهم به العذاب، وهذا له نظائر في كلام الناس وأحوالهم، وأنتم تسمعون عن الخنساء، وهي صحابية يقال لها: تماضر، فقد كان لها أخ غير شقيق يسمى صخراً، وكان باراً بها، فكانت وفية به، وقد جرت عادة الفضلاء والعقلاء أن الإنسان إذا أحسن إليهم سبقاً دون نعمة يربّها فقد طوّق أعناقهم، وتقول العوام في أمثالها: الأول لا يلحقه شيء، أي: صاحب النعمة الأولى لا يدرك.
فهذا صخر أثنى على أخته الخنساء قبل أن يعرف قدرتها الشعرية، وقبل أن يموت، وقبل أن ينال منها فضلاً، وهو غير شقيق، فوقع في قلبها هذه المكانة ببره لها، ومات في بعض حروبه، فلما جاءت ترثيه قالت فيه رثاءً جماً: قذىً بعينيك أم بالعين عوار أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدارُ ثم أطنبت في ذكره، وإلى يومنا هذا والناس تردد شعرها.
هباط أودية شهاد أندية حمال ألوية للجيش جرارُ إلى آخر القصيدة.
والعلاقة بين الآيات والأبيات هي: التأسي، قالت في مقطوعة لها: يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل مغيب شمسِ ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي فهي تتأسى بمن ترى حولها من أخوات وقريبات وجارات فقدن إخوانهن كما فقدت أخاها، فجعلها ذلك تتأسى، فالتأسي بالغير نوع مما يخفف به الكلم والمصيبة والجرح، فهذا محروم منه أهل النار، قال الله جل وعلا: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} [الزخرف:39] أي: اشتركتم في الظلم تحملتم الأعباء بعضكم عن بعض، فما قمتم به من ظلم فربما أصبح بينكم تعاون في تحمل أعبائه، لكن ليس ثمة تعاون في حمل البلاء، قال الله جل وعلا: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، نعوذ بالله جل وعلا من جهنم وحرها بالكلية.(73/9)
الاختلاف في اسم والد إبراهيم عليه السلام
هذا ما تيسر حول هذه الآيات ذات المقاطع الواحدة، والآن نعيد الكرة في قراءتها تاريخياً بعد أن قرأناها تفسيرياً؛ لأن ما بعدها منفك عنها، نعود لقضية إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وهذا ينفعنا تاريخياً في أن نقول: إنك تسمع بأن الله جل وعلا قال في القرآن: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام:74]، وقد رجحت في اللقاء الماضي أن آزر لقب له، وأن اسمه تارخ، فلماذا اختلف العلماء؟ من حيث الصناعة العلمية يجب أن تعلم أنه في الغالب لا يمكن أن يكون هناك اختلاف إلا إذا وجد سبب قوي في ذلك، فمن سبق كان أتقى منا وأشد علماً وأعلم باللغة، فلا يمكن أن يكون حملهم على الأقوال التي ذكروها مجرد الهوى، فعندما لا يكون لك إلا خال واحد فإنه لا حاجة لأن تسميه إذا تحدثت عن خال، وأما إذا كان من يحيط بك يعلم أن لك عدة أخوال فلا بد أن تعينه باسمه؛ حتى تميزه عن باقي أخوالك.
فالذين قالوا: إن آزر ليس أباً لإبراهيم بل هو عم له قالوا: إن الله قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام:74]، فقالوا: لو كان أباً لصلبه فلا حاجة لأن يسميه؛ لأنه ليس للإنسان إلا أب واحد، وأما الذين قالوا: إن اسمه آزر فقالوا: هذا صريح القرآن ولا انفكاك عنه، ومن أعظم الأدلة على أنه أبوه لصلبه أن الله ذكره في عدة مواضع ولم يقل: إنه عمه، فلو قال: إنه عمه لأصبح لقولهم حجة قوية، لكن كون الله جل وعلا ذكر أبا إبراهيم في مواطن عدة ولم يقل في واحدة منها: إنه عم دل ذلك على أنه أب له لصلبه.
وإبراهيم عليه السلام ترك إسماعيل -وهو الأكبر- وإسحاق، وترك العيص، ومن ذرية إسماعيل جاء نسب ممتد إلى عدنان، ومن عدنان إلى إبراهيم، فهناك آباء وأجداد قطعاً، لكن لا يوجد دليل ثبت على أسمائهم، أما من عدنان إلى هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم فهذا متفق عليه بين علماء الأنساب.
وأحياناً يمر معك في كتب التاريخ كلمة معد وكلمة عدنان، وتطلق أحياناً بمعنى واحد؛ لأنه ليس بين معد وعدنان أحد، فـ معد هو الابن المباشر لـ عدنان، فيقال: معدي ويقال: عدناني والمعنى واحد، قال روح بن زنباع: يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني وهذا قاله روح بن زنباع عندما هرب من عبد الملك بن مروان، فأهدر دمه، فأصابه خوف، فقال: ما أدرك الناس من خوف ابن مروان أي: عبد الملك، فهو لما أصابه الخوف يقول: أنا إذا قابلت رجلاً من أهل اليمن قلت: أنا يمني، أي: قحطاني من العرب العاربة، فإذا لقيت رجلاً عدنانياً قلت: أنا عدناني، أي: من العرب المستعربة، وموضع الشاهد أنه قال: يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لقيت معدياً فعدناني وما قال فمعدي؛ لأن معداً هو ابن عدنان.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول الخطباء والكتاب في مدحه: والصلاة والسلام على سيد ولد عدنان، هذه اللفظة تنبه لها الشعراء، فأحياناً تكون المعلومة والمعنى مطروح من يستله ويصوغه هذا هو العقل، والخامة واحدة، لكن التعامل مع الخامة هو الذي يفرق الناس، ويفاضل بينهم، إن كانت في العلم كمعلومة أو كانت في اللفظ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أطبق الناس على أنه من ولد عدنان، فجاء ابن الرومي الشاعر العباسي فقال: إن الناس إذا انتسبوا فإنهم يفتخرون بآبائهم، فيقول فلان: أنا من قبيلة قريش، أو أنا هاشمي، أو أنا قرشي، أو أنا من بني سهل، كلٌ بحسبه، فقال: أما عدنان ففخرت بأن النبي صلى الله عليه وسلم منها، وهذا فخر والد بولد لا ولد بوالد، قال ابن الرومي في آخر البيت: كما علت برسول الله عدنان فالذي جعل مزية لعدنان على قحطان هو أن النبي صلى الله عليه وسلم منها، وهذا إن أطنبت في الفهم يريك أن رحمة الله جل وعلا مقسمة، فالعدنانيون ليسوا عرباً عاربة، فعوضوا بأن منهم محمداً صلى الله عليه وسلم، والقحطانيون ليس منهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعوضوا بأنهم عرب عاربة، ومثل هذا قد تظنه ليس بكبير علم، لكن إذا كان متوقداً في ذهنك وأنت تسير في الحياة فإنه يجعلك تقل الطمع؛ لأنك تعلم أنه من الصعب أن تجمع الحسنيين.
أيضاً الله قال لنبيه: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} [الأنفال:7]، {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]، فهذا يجعلك حتى في مسيرتك لا تحاول أن ترى أن كل شيء محال، تتخذ شيئاً جرماً وامض عليه، وتقلده، واجعل ما بقي فروعاً وحواشي، فلا تهدم ذلك الجرم الذي تريده، فمن يريد كل شيء لن يحصل على شيء.
فقد خرج الحسين بن علي ينشد الخلافة، والحسين إذا تكلم يقول: جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمي يقول عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم: (بضعة مني)، ففقه المسألة ابن عمر: فقال له وهو يودعه: إنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يعطيكم الله الملك والنبوة، أي: لن يكون لك حظ فيها، ووقع كما قال ابن عمر، فحرم الحسين باستشهاده في العاشر من محرم من الوصول إلى الحكم، فيأتي الاستثناء، والاستثناء يكون في الخواتيم؛ لأن الأمور إذا تمت انتهت، فـ المهدي من ذرية نبينا صلى الله عليه وسلم، لكنه علامة من علامات الساعة يكون بها الخواتيم، وهذه سنة الله في خلقه، كم يفضل المشرق على المغرب في أن الشمس تشرق منه، فإذا جاءت الشمس من المغرب تقوم الساعة.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(73/10)