ـ[سلسلة محاسن التأويل]ـ
المؤلف: صالح بن عواد المغماسي
مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية
http://www.islamweb.net
[ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 73 درسا](/)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [1]
سورة البقرة هي أعظم سور القرآن بعد الفاتحة، فينبغي الحرص على قراءتها وتدبرها، وقد كان السلف يعظمون من يأخذ سورة البقرة ويعلم بما فيها من الأحكام، وقد بدأت هذه السورة بذكر صفات المتقين، ثم ذكرت صفات الكافرين، ثم ذكرت صفات المنافقين، وفيها ضرب الأمثال لبيان حال المنافقين.(1/1)
سبب تسمية السورة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد: غالباً ما تسمى السورة باللفظ المفرد الذي ورد فيها ولم يتكرر في غيرها، فالبقرة لم يرد ذكرها إلا في سورة البقرة، والأعراف لم يرد ذكرها إلا في سورة الأعراف، والفيل لم يرد ذكره إلا في سورة الفيل، والعنكبوت لم يرد ذكرها إلا في سورة العنكبوت، وهكذا غالب سور القرآن هذا سبب تسميتها إلا بعضها خرج عن هذا مثل سورة هود ويوسف.
سورة البقرة أعظم سور القرآن بعد الفاتحة باتفاق العلماء، وقد ورد فيها أحاديث مشتهرة، والوقت لا يسمح بذكر الأحاديث والإطناب فيها؛ لأن هذا معلوم عند الناس، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران).(1/2)
تفسير قوله تعالى: (الم.
ذلك الكتاب لا ريب فيه)
نشرع الآن مستعينين بالعلي الكبير في بيان تفسيرها: قال ربنا وهو أصدق القائلين: بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2].
الأحرف المتقطعة مرت معنا من قبل، وحررنا القول فيها في دروس سابقة، في تفسير قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1].
قال الله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] المقصود بالكتاب هنا: القرآن، أي: وهذا القرآن، وإنما جيء بلام البعد: (ذلك) للتفخيم والتعظيم.
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) في الوقوف على ريب وما بعدها وجهان: أن يقال: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ) ثم نقرأ: (فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) أو نقول: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) ثم نقرأ: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) أو نصل ولا نقف، والوقف على: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ) جائز لكن الأفضل عدم فعله؛ لأنه يحصر ما بعده، وتصبح: (فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) والأصل: أنه جميعه هدى للمتقين، فلو قلنا: (فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) قد يفهم منها أنه هدى في بعضه لا كله، لكن عندما نقول: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) تصبح (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) شاملة للقرآن كله، وهذا أمر يجب تحريره.
والريب هو: الشك، وهذا خبر أريد به الإنشاء، والمعنى: ذلك الكتاب أيها المؤمنون هو هذا القرآن فلا ترتابوا فيه، فهو خبر أريد به الإنشاء الطلبي.
(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) من الناحية اللغوية النحوية: هدىً منونة بمعنى أنها منصرفة، وهدى إذا كانت مصدراً أريد بها البيان والإرشاد كما في هذه الآية فتنصرف تنون: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، وأما إذا أطلقت علماً على أنثى وسميت بها امرأة فلا تنصرف للعلمية والتأنيث.
فلو أن لك أختاً اسمها هدى تقول: قابلت هدى رأيت هدى جاءت هدى، من غير تنوين، لكنها إذا استعلمت استعمال المصدر تنون، وهذا ينبغي التنبه له من الناحية النحوية.
أما المقصود منها في القرآن: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) فالمتقون: اسم فاعل من اتقى، وقد ذكرت فيها تعريفات عديدة مرت معنا، من أشهرها: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
خل الذنوب كبيرها وصغيرها فهو التقى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى القرآن هدىً وإرشاد وبيان، هذا أمر لا نزاع فيه؛ لأنه من عند الله، فمن أنزل القرآن هو الذي خلق العباد وهو أدرى بمصالحهم ومنافعهم جل جلاله.(1/3)
حال المسلمين عندما أنزلت سورة البقرة
جاء القرآن ليبين من هم المتقون، وقبل أن أبين من هم المتقون، أقول مستصحباً السيرة: هذه السورة مدنية، النبي عليه الصلاة والسلام هاجر من مكة إلى المدينة، وكل من هاجر هاجر اختياراً ولم يهاجر اضطراراً، ومعنى: هاجر اختياراً يعني: رغبة في الدين، ولا يتصور مهاجر مكره على الدين.
استوطن النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان فيها الأوس والخزرج العصبة الكبرى وثلاث قبائل من اليهود بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، هذه القبائل أحلاف للأوس والخزرج الذين هم عرب.
والديانات التي كانت موجودة: الأوس والخزرج يعبدون الأصنام على ما جرت عليه عادة مشركي العرب آنذاك، وقبائل اليهود الثلاث على الملة اليهودية المحرفة، على سالف ما عليه أهل الكتاب من قبل، وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وكان قبله من الصحابة قد وصلوا إليها وآمنوا ونشروا الإسلام، فآمن عدد غير قليل من الأوس والخزرج، وآخى النبي بينهم وأسماهم الأنصار، وإلى الآن لم يكن للنبي شوكة، ومتى يحصل الخوف؟ عندما يكون عند خصمك شوكة، فمن لم يؤمن من الأوس والخزرج لا حاجة أبداً لأن يظهر الإيمان ويبطن الكفر، لا شيء يدعوه إلى هذا؛ لأنه لا يخاف أحداً، واستمر الحال على هذا الأمر حتى كانت وقعة بدر، فلما كانت وقعة بدر وانكسر سيف الشرك، وانتصر المسلمون؛ أضحى للمسلمين شوكة، وللنبي دولة وقوة بالمعنى الحق، وهذه الشوكة هي التي جعلت من كان يظهر الكفر يبطنه ويظهر الإيمان وهؤلاء هم المنافقون.
ومن قبل كانوا قسمين: ملة الشرك وملة اليهود، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أصبحوا ثلاثة أقسام: المسلمون واليهود والمشركون، ولما جاءت موقعة بدر هؤلاء قل المشركون؛ لأن أكثرهم دخل في الإسلام، لكن بعضاً منهم أصبح منافقاً يظهر الإيمان ويبطن الكفر، ما الذي دفعه إلى هذا؟ أنه أضحى للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه شوكة، هذا سبب ظهور النفاق؛ لأنه إذا كانت الأمور متساوية فلا داعي للنفاق، كل يظهر ما يشاء، لكن هذه الشوكة جعلت عبد الله بن أبي بن سلول وغيره من أتباعه يفعلون هذا.
أنزل الله جل وعلا فواتح سورة البقرة وذكر فيها الطوائف الثلاث: ذكر فيها أهل الإيمان، وذكر أهل الكفر في آيتين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7]، أما المنافقون فأطنب في ذكرهم؛ لأن حالهم كان ملتبساً على الناس، فحرر جل وعلا القول فيهم حتى يكشف عوارهم ويهتك أسرارهم ويبين حالهم، وهذا من أوائل ما أنزل في حقهم ثم تتابع الأمر وانتهى بهم المطاف في سورة التوبة، ومعرفة هذا الأمر مهم جداً.(1/4)
تفسير قوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة)
نبدأ في ذكر المؤمنين، قال ربنا: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] جعل أول أوصافهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3] حصر بعض المفسرين الغيب بالجنة والنار وهذا خطأ بلا شك، الله جل وعلا أعظم الغيبيات، فإننا نؤمن بالله ولم نره، ونسأل الله بمنه وكرمه أن يمن علينا برؤيته في الجنة.
فأعظم صفات المتقين: الإيمان بالله وبما أخبر الله عنه، فنحن نؤمن بالجنة والنار؛ لأن ربنا العزيز الغفار أخبر عنهما، فالإيمان بالغيب أعظم صفات المتقين.
(وَيُقِيمُونَ الصَّلاة) الصلاة المعروفة.
(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) وهم بعض أهل العلم فحصرها في الزكاة، والآية أشمل من ذلك، (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) الزكاة، والصدقات، وما كلفوا به شرعاً من الإنفاق على من يعولون، كل هذا داخل في قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)، الزكاة -وهي فرض بشروطها- والصدقات، وهؤلاء المتقون مؤمنون بالغيب، ولا يمكن أن يتركوا الإنفاق العام (الصدقات)، كما يدخل فيها حقوق القرابة ممن يعولوهم كإنفاق الرجل على أولاده على زوجته على والديه إن كانا معسرين، وأمثال ذلك.(1/5)
تفسير قوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4].
هل هذا ذكر لقوم آخرين أو وصف آخر لقوم أولين؟ إذا قلنا: وصف آخر يصبح هؤلاء المتقون: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (يُقِيمُونَ الصَّلاة) (مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) (وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) هذه صفات لموصوف واحد.
الحالة الثانية: وهو اختيار ابن جرير: أن يكون هؤلاء قوم آخرون، والمعنى عند من قال بهذا الرأي: إن المؤمنين قسمان: مؤمنو العرب وهم من ذكر في الأول، ومؤمنو أهل الكتاب وهم من ذكر في الثاني، ودل عليه: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4]، وممكن أن يجاب عنه بأن المؤمنين الآن يؤمنون بما أنزل من قبل، لكن قصد أنهم آمنوا بما أنزل من قبل أن ينزل عليك الإيمان به، هذا تحرير المسألة.
فاختيار ابن جرير أنها ليست أوصاف لموصوف واحد، وإنما هم قومان، واستدل عقلياً منطقياً على صحة قوله فقال: ما بعدها يدل عليها، فقد ذكر الله بعدها أهل الكفر وقسمهم فريقين: كافر أصلي ومنافق فقال: كما قسم الله أهل الكفر إلى قسمين: كافر أصلي: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:6]، ومنافق: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] كذلك هنا قسم المؤمنين إلى قسمين: مؤمن من العرب، ومؤمن من أهل الكتاب من قبل.
والحق أن هذا الرأي له وجه كبير من الصحة، وهو قوي من جهة الاستدلال النقلي والعقلي، ولا تعارض معه مع الأول، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة:4] وهو القرآن، {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة:4] أي: الكتب، ولو قلنا: إن المقصود به أهل الكتاب لا يعفينا هذا من أن نؤمن نحن بما أنزل من قبل، وهذه مسألة مهمة جداً، والله جل وعلا قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] فنحن نؤمن بالكتب كلها التي أنزلها الله ما سمى منها وما لم يسم، ونؤمن بالرسل كلهم ما أخبر الله عنهم ومن لم يخبر.(1/6)
تفسير قوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم)
قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ} [البقرة:5] سواء الموصوفان أو الموصوف الواحد: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5]، وكيف لا يكونون مفلحين وهم على هدى من الله؟ وكيف لا يكونون على هدى من الله وقد آمنوا بما أنزل من كتاب؟ فهي أمور يستلزم بعضها بعضاً، وطرائق يسوق بعضها بعضاً إلى الخير.
إذاً: أعظم صفات المتقين مذكورة في الخمس الآيات الأول من سورة البقرة.(1/7)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)
قال ربنا جل شأنه وهو أصدق القائلين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7].
المعنى ظاهر هنا لا يحتاج إلى مزيد بيان، وقد قلنا: تكلم عن المؤمنين، وهنا يتكلم عن الكفار.
ومعنى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا: أي: من كتب الله عليهم الكفر من قبل.
(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لماذا لا يؤمنون؟ لأن الله جل وعلا كتب عليهم الكفر من قبل، ومن كتب الله عليه الشقاوة أزلاً لا يمكن له أن يسعد.
ثم قال: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) الختم: الكتم الغطاء الطبع كلها بمعنىً واحد، ويكون على القلب والسمع، أما الغطاء الذي على البصر فيسمى: غشاوة؛ ولهذا قال الله بعدها: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7]، وقد ذهب الزمخشري في كشافه، يعني: في تفسير الكشاف، وهو جار الله الزمخشري أحد أئمة المعتزلة، ذهب إلى أن نسبة الختم إلى الله هنا إنما هي لأغراض بلاغية؛ لأن عندهم أن هذا من فعل القبيح والله منزه عن القبيح، وأهل السنة -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- يقولون: إن الله وحده هو خالق الخير وخالق الشر لكنه لا يأمر إلا بالخير، فحكم عقله مقابل النقل، ولوى النصوص مقابل ما استقر في عقله! وهنا مكمن الخطأ من الناحية العلمية، أنه استقر في عقله شيء توصل إليه عقلاً ثم جعل هذا المستقر في الذهن حاكماً على النص، والصواب أن تستقر أولاً النصوص في الذهن، ثم هذه النصوص على هدى من الله تحكم سواها وليس العكس، وغاب عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب)، وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] إلى غير ذلك من الآيات البينة الظاهرة الواضحة في هذا الشأن التي لا يمكن ردها بحال.
ولأن أهل الكفر كفرهم واضح فقد ذكرهم الله جل وعلا في آيتين كما حررنا.(1/8)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر)
انتقل ربنا جل شأنه للحديث عن أهل النفاق فقال وهو أصدق القائلين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8 - 10].
(من) بيانية أو بعضية: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) يعني: بلسانه، والنفاق قسمان: نفاق اعتقادي: ومن مات عليه فهو خالد في النار.
ونفاق عملي: وهو من أكبر الكبائر، مثل ما ذكر في حديث: (إذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا خاصم فجر) وهذه من أكبر الكبائر.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) وقلنا: هذا كله كان بعد بدر، (وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ) معنى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا): أنهم يتصورون أن هذا النفاق الذي يظنون أنه راج على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعصمت به دماؤهم وتم لهم التناكح والتوارث أنه يوم القيامة يروج على الله، وهذا نبه الله جل وعلا عليه في آية أخرى، قال الله وعلا: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة:18] يعني: يعتقدون أن هذه الأيمان التي أعطوكم إياها في الدنيا فنالوا بها العصمة في الدماء وصدقتموهم وأوكلتموهم إلى ظاهرهم أنهم سيعيدونها يوم القيامة، فيظنون في قرارة أنفسهم أنهم خدعوا أهل الأرض وسيخدعون ربهم يوم القيامة! قال الله جل وعلا: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:9] بصنيعهم هذا في اعتقادهم {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] لأنه لن يتحقق شيء من مطلوبهم هذا أبداً {وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] لماذا لا يشعرون؟ لأن الشعور يكون بالحواس، وهؤلاء حواسهم معطلة؛ لأن الله جل وعلا لم يجعلهم ينتفعوا لا بسمع، ولا ببصر، ولا بقلب؛ ولهذا قال الله عن الكافرين: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} [البقرة:7]، قال بعض أهل العلم: طرق العلم ثلاثة: القلب والسمع والبصر، فالقلب محل العلم، يستقر فيه العلم، والرؤية والسمع وسيلتان للحصول على العلم، فإذا كان القلب مختوماً عليه وكذلك السمع والبصر عليه غشاوة فلا سبيل إلى العلم والهدى أبداً؛ ولهذا قال الله جل وعلا عن هؤلاء كذلك: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:9 - 10].(1/9)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)
ثم قال جل شأنه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] كأنهم حصروا الإصلاح في أنفسهم في جوابهم، وهم أصلاً لا يصنعون إلا الفساد.
وهذا قد مر معنا من قبل ومن أعظم الأدلة: أنه لا عبرة بالقول إذا كان يخالف العمل، فقوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ليس بشفيع لهم؛ لأن أفعالهم تخالف ما زعموه، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) فحكم الله عليهم بالفساد رغم دعواهم.
قال جل شأنه: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12].(1/10)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس)
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة:13] الناس هنا: عام أريد به الخاص، فكلمة الناس عامة لكن أريد بها الخاص يعني: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13] السفهاء: جمع سفيه، والسفه: سذاجة في الرأي وخفة في العقل.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة:13] هذا حكم الله {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13].
وهنا تتحرر المسألة: نحن أسميناهم منافقين، وقلنا: إنهم يظهرون خلاف الذي يعتقدون، فكيف يجاب عن قولهم صراحةً: (أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ)، فهم صرحوا هنا بالكفر، ورفضوا الإيمان، فكيف يسمون منافقين وقد صرحوا بالكفر، والمنافق لا يصرح بالكفر، فهم يقولون بنص القرآن: كيف نؤمن كما آمن هؤلاء السفهاء؟ وأنت تقول أيها المفسر: إن هؤلاء منافقون، فكيف تجيب عن هذا؟ الجواب عن هذا له عدة طرائق، ودائماً إذا أردت أن تقنع غيرك بشيء اخرج به عن زحمة ما أنت فيه، وأظهر له الصورة بجلاء بمكان آخر، قال ربنا عن أهل الطاعات: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:5 - 9]، هل وجدت مؤمناً يطعم سائلاً أو ينفق مالاً ويقول للناس: خذها إنما أطعمك لوجه الله، ما أريد منك جزاء ولا شكوراً؟! هل كان الصحابة يفعلون هذا؟ ما كانوا يفعلون هذا، إنما شيء أخفوه فأظهر الله سرائرهم وحالهم إكراماً لهم، والمنافقون لا يقولون هذا الكلام بألسنتهم، يقولونه في قلوبهم فأظهره الله ذلاً لهم، وهتكاً لأسرارهم، فالله عامل أهل القلوب الصالحة بأن أظهر ما انطوت عليه قلوبهم من صلاح، وعامل أهل القلوب المنافقة الفاسدة البغيضة بما انطوت عليه قلوبهم من بغض ونفاق وفساد، هذا الذي أدين الله به جواباً عن هذه المسألة، وقال البغوي في معالم التنزيل في تحرير هذه الإشكال: إنهم يقولون هذا مع بعضهم البعض، لكن ظاهر القرآن لا يدل عليه، وقال بعض العلماء: إنهم كانوا يقولونه للمؤمنين بطرائق ملتوية لا تثبت عليهم النفاق، والأول إن شاء الله أرجح.(1/11)
تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)
قال الله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:14] هذا القول ظاهره أنه بينهم وبين أصحابهم {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] مستهزئون بأهل الطاعات، قال الله يرد عليهم: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] أي: يخذلهم ويتركهم على حالهم دون نصير، وهذا قمة الاستهزاء بهم؛ لأنه يجعلهم يتمادون، ومعنى {يَعْمَهُونَ} [البقرة:15] أي: يترددون ويتمادون في طغيانهم ويمدهم في طغيانهم حتى ينتهي بهم الأمر، قال الله: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:3] متى ينتهي بهم الأمر؟ ينتهي بهم الأمر في جسر جهنم عندما يتساقطون ويقولون للمؤمنين: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]، حينئذ يكشف الأمر كله، ويرفع الحجاب حقيقةً، ويعلمون من كان مستهزئاً بالآخر.(1/12)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى)
قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] (اشتروا الضلالة) أي الكفر والنفاق والطغيان والتردد، (بِالْهُدَى) أي: بدين الله، فأي تجارة رابحة إن كان الإنسان يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!(1/13)
تفسير قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً)
قال الله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ} [البقرة:17 - 19].
هذا مثل مركب تحريره كما يلي: القرآن به حياة الأرواح والمطر به حياة الأجساد، والله يذكر هنا أن هؤلاء المنافقين حالهم كالتالي: ينزل القرآن من السماء فيحيي القلوب لأنه مثل المطر، ينتفع به المؤمنون في الدنيا والآخرة، أما هؤلاء المنافقين فينتفعون ببعضه ولا ينتفعون ببعضه، والمطر فيه برق, وفيه رعد، وفيه ظلمات.
ورعد القرآن زواجره، وبرق القرآن نوره، والظلمات التي في المطر الحقيقي هي الشكوك التي تنتابهم من قراءة القرآن؛ لأنهم معرضون غير مؤمنين بالقرآن، فالشك الناجم عنهم مثاله في المطر مثال الظلمات، والزواجر التي في القرآن التي تخوفهم مثاله في المطر الرعد، أما النور الذي في المطر فبالنسبة لهم ما نالهم من عصمة الدماء، وأنهم يناكحون المسلمين، وأنهم يتوارثون معهم، فهذا انتفعوا به ما داموا قد أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وإن كانوا كافرين، فقد كانت تجري عليهم أحكام أهل الإسلام، فهذا النور هو الذي انتفعوا به.
هذا معنى عام، وللعلماء في ذلك بيانات تفصيلية يطول الحديث فيها، ومنها: أن المنافق مثل شخص أوقد ناراً فكشفت ما حوله فرأى الحيات رأى العقارب رأى ما قرب منه ودنا وتبين له مكانه، فلما شعر بالاطمئنان ذهب ذلك النور، انطفأت تلك النار، وهؤلاء المنافقون انتفعوا بالإسلام ظاهرياً عرفوا من حولهم استطاعوا أن يعصموا دماءهم فإذا جاء يوم القيامة لم ينفعهم ذلك النور على الصراط، بل يسلب منهم، وهذا معنى قول الله جل وعلا: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17]، فجعل بعض العلماء هذه الآية على يوم القيامة.
وللعلماء أقوال مشابهة حول هذا، لكن الذي يعنينا جملة أن هذا مثال مركب ذكره الله جل وعلا في أحوال المنافقين.
وبعض العلماء يقول: إن قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة:20] أنهم إذا انتفعوا من الدين بشيء يقولون: هذا الدين دين خير، وإذا أصابتهم بلايا قالوا: هذا الدين دين شؤم، فهذا معنى قوله: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا) وهذا وإن حرره بعض الأكابر لكنه غير صحيح؛ لأن المنافقين أصلاً لم يكونوا على سنن واحد، والآية تتكلم على المنافقين المستوطنين في المدينة، تتكلم عن الأشداء منهم، ولا تتكلم عن الأعراب الذين يأتون من خارج المدينة، فالمنافقون الأعراب الذين يأتون من خارج المدينة تنطبق عليهم آية الحج: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11]، فقد كانوا إذا دخلوا في هذا الدين يقولون عنه أحياناً: أنه شؤم، وأحياناً يقولون: إنه خير، والمنافقون المستوطنون في المدينة الذين كان لهم في الأصل غلبة، وكانت لهم علاقات قوية من رحم وصهر وتحالف مع أقوياء المؤمنين هم المقصودون هنا، وهم لم يكونوا يقولون أحياناً: دين شؤم، وأحياناً: دين خير؛ لأن قولهم: هذا دين خير، فيه بعض إيمان، فهذا ينطبق على منافقي الأعراب المذكورين في آية الحج، أما الآية التي بين أيدينا فتنطبق على المنافقين الأولين، وسورة البقرة من أوائل ما أنزل في المدينة قبل أن يدب النفاق في البوادي والأعراب الذين كانوا يحيطون بالمدينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم.(1/14)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم)
قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ذكر الله جل وعلا في هذه الآية المباركة دلائل على البعث والنشور، ذكر ثلاثة أدلة: الدليل الأول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) الله خلق الناس، ومن قدر على الخلق قادر على الإعادة، قال الله جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم:27].
الدليل الثاني: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22]، وخلق السماء أكبر من خلق الأرض.
الدليل الثالث: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22] هذا قياس! {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] فهذه الثلاث جمعها الله في آيتين، وهي الأدلة الصريحة في القرآن المتفرقة بعد ذلك في إثبات مسألة البعث والنشور.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21] فمن بدأ الخلق قادر على الإعادة، كما بدأنا أول خلق نعيده، ثم الإشارة إلى خلق السماء، ومن خلق الأعظم قادر على خلق الأدنى، وإن كان الكل عند الله سواء، والأمر الثالث: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22] القياس {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [الروم:50] كما قال الله جل وعلا في أكثر من آية، هذا المعنى إجمال ثم نحرر المعنى عموماً.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) هذا نداء عام، {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] والعبودية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: عبودية بالشرع: وهي الفرق بين الحر والعبد، وهذه لا علاقة لها بالآية هنا.
وعبودية تذلل وانقياد: وهذه يشترك فيها الخلائق كلهم برهم وفاجرهم، قال الله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93].
وعبودية طاعة: وهي المقصودة هنا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:21 - 22] والسماء في اللغة: كل ما علا وارتفع، {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] أين مفعول تعلمون؟ محذوف لدلالة المعنى عليه، أي: وأنتم تعلمون أنه ليس له أنداد، وجعل العبد لله نداً هذا من أعظم الشرك، قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أعظم الذنب: (أن تجعل لله نداً وقد خلقك).(1/15)
تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله)
ذكر الله جل وعلا آية التحدي المشهورة التي هي واحدة من خمس آيات تحدى الله جل وعلا بها كفار قريش والعرب عموماً: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:23 - 24] وهذه لا يقدر على قولها إلا الله، {وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24].
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ قوله، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا به، والصلاة والسلام على رسول الله، والحمد لله رب العالمين.(1/16)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [2]
أمر الله جميع عباده بعبادته وحده، وترك الإشراك به، وتحداهم جميعاً أن يأتوا بسورة مثل سور القرآن، وأخبر بعجزهم عن ذلك، وحذرهم من نار جهنم التي أعدت للكافرين به، وبشر المؤمنين بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً.
والله يضرب لعباده الأمثال في كتابه، فيهتدي بها أقوام، ويضل بها آخرون، وأخبر الله عباده عن بدء خلق أبيهم آدم وقصة إخراجه من الجنة.(2/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس أعبدوا ربكم)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: سبق أن تكلمنا عن فضل سورة البقرة وعظيم شأنها، وانتهينا إلى ذكر الآيتين الدالتين على البعث والنشور، وهما قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] الآيتين، وتكلمنا إجمالاً عن آية التحدي، وهي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، وكان الحديث في آخر اللقاء الماضي مجملاً، وفي هذا اللقاء بإذن الله تعالى سنفصل مبتدئين بقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21]: هذا من أعظم المطالب الشرعية في القرآن؛ لأن عبادة الله جل وعلا هي الغاية من خلق الثقلين، والرب جل وعلا ينادي عباده أجمعين هنا بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ثم استدل بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية، فلما أراد الله أن يثبت أنه وحده المستحق للعبادة ذكر جل وعلا أولاً أنه وحده هو الخالق، فمن أعظم الأدلة على توحيد الألوهية أنه لا خالق غيره.
وقد مر معنا في أمور كثيرة أن الله جل وعلا حكم بين خلقه وقرر بين عباده أن من له الخلق هو الذي يستحق العبادة، وقد استقر عقلاً ونقلاً لكل ذي فطرة أن الله جل وعلا وحده هو الخالق فقال سبحانه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]، وقال تبارك وتعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان:3]، وقال: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11].
فذكر الله جل وعلا أن إيمانهم بتوحيد الربوبية ينبغي أن يكون طريقاً إلى توحيد الألوهية، وأن الإيمان بتوحيد الربوبية وحده دون أن يستدل به على توحيد الألوهية وتطبيقه وإفراد الله جل وعلا بالعبادة لا يقدم ولا يؤخر شيئاً، ولا ينفع صاحبه البتة.
قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21]، ولفظ الألوهية يطلق إذا أريد به الإخبار عن حق الله على عبده، ولفظ الربوبية يطلق إذا أريد به حق العبد على ربه، فالله جل وعلا لما أراد أن يؤوي موسى ويذهب عنه الهم والحزن والخوف قال له: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12] فلما أراد أن يكلفه قال له: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، فلما أراد الله أن يبين ما أفاءه على خلقه قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21]، فذكر جل وعلا هنا فضله ونعمه ومنته على خلقه: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، فذكرهم جل وعلا بأنه وحده هو خالقهم وخالق آبائهم من قبل.
ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة:22] تطئونها وتسيرون فيها، وتغدون وتروحون في فجاجها، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22].
ثم قال: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة:22] والمطر لا ينزل من السماء، وإنما ينزل من السحاب، لكن باعتبار أن السحاب قريب من السماء في العلو -والسماء في اللغة: كل ما علا وارتفع- نسبه إليه.
{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:22] لماذا؟ {رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22] وهذا من تعاهد الله جل وعلا لخلقه، فلما أثبت الرب جل وعلا أنه وحده الخالق، وأنه وحده الرازق، كان حرياً بهم أن يفقهوا أنه ينبغي أن يكون وحده هو المعبود.
وقال جل وعلا بعد ذلك ناهياً عباده أن يشركوا به: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]؛ لأن الند لا بد أن يكون فيه وصف للمندود، فبما أنه قد تقرر عقلاً ونقلاً أنه لا خالق إلا هو، ولا رازق إلا هو، ولا محيي ولا مميت إلا هو، فكيف يكون له ند؟! ولهذا قال: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وقد ذكرنا في اللقاء الماضي أن مفعول تعلمون محذوف لدلالة المعنى عليه، والمعنى: وأنتم تعلمون أنه لا ند له سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
وقلنا: إن هاتين الآيتين تضمنتا أدلة البعث والنشور إجمالاً، ومشركو العرب جملة ما أنكروا شيئاً مثل إنكارهم للبعث والنشور كما قال الله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7]، وقد قامت الأدلة في القرآن على إثبات البعث والنشور، وهي مجملة في ثلاث: الأمر الأول: الخلق الأول، وعبر عنه هنا بقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] وشرحه وأظهره وفصله في سور أخر: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15].
الأمر الثاني: خلق ما هو أكبر منهم، وأشار إليه هنا بالسماء، وفصله في سورة غافر: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57].
الأمر الثالث: النظر في المتشابهات، قال هنا: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22]، وهذا إحياء للأرض الميتة، وفصله في سور أخرى: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39]، وهذا كله من أجل إقامة الحجة وإظهار المحجة حتى لا يكون للناس عذر، ويكون المهتدي على بينة من أمره.(2/2)
تفسير قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا)
قال الله: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] أي شاكون مرتابون أن هذا القرآن الذي جاء به محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ليس من عند الله، فإن كان من عند غير الله كما تزعمون فلابد من واحد من أمرين: إما أن يكون النبي هو الذي قاله من عند نفسه، أو أخذه من أحد مثله يعني: بشر آخر غير محمد صلى الله عليه وسلم، فإما ابتدعه هو أو أخذه من أحد غيره على حسب زعمكم، وهذا استدلال بالمنطق يعني: لا يخرج قولكم عن أحد الأمرين، فإن كان هذا القرآن من عند غير الله كما تزعمون فمعنى ذلك: أنكم قادرون على أن تأتوا بمثله؛ لأن الذي أتى به وفق زعمكم مثلكم، فقال ربنا: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] آية واحد، وفي آية أخرى: عشر سور، وهذه الآية أول آيات التحدي في ترتيب المصحف.
والذين تحداهم الله ليسوا قوماً عيّين، وإنما هم أرباب فصاحة وأئمة بلاغة عرفوا بذلك، ومع ذلك قال الله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88]، فالعرب كان لا يقوم لهم سوق يفتخرون به كسوق البلاغة والفصاحة ومع ذلك تحداهم الله في الشيء الذي يحسنونه ويتقنونه ويجيدونه، لكن أنى لهم أن يأتوا بمثله، وأنى لمخلوق أن يأتي بكتاب يماثل كتاباً أنزله الخالق؟! محال أن يأتي مخلوق بقول أو كتاب يماثل قول أو كتاب الخالق تبارك وتعالى.
{وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] وعبدنا المقصود به النبي صلى الله عليه وسلم {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23].(2/3)
تفسير قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا)
قال ربنا: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24] ثم جاءت جملة اعتراضية {وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة:24]، فالأصل: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ)، (وَلَنْ تَفْعَلُوا) يسمى عند البلاغيين إطناباً، وقد مر معنا تحرير المقام البلاغي وأن الكلام فيه إيجاز، وفيه مساواة، وفيه إطناب، والقرآن جاء بالإيجاز والمساواة والإطناب، إذا كانت هناك مصلحة في الإيجاز كان إيجاز، وإن كانت هناك مصلحة في المساواة كانت مساواة، وإن كانت المصلحة في الإطناب كان الإطناب، كقول الله تبارك وتعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57] فسبحانه هذه زائدة اعتراضية، لكن جيء بها إطناباً لتنزيه الله جل وعلا عما نسبه إليه الغير.
وهنا جيء بـ: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) إطناباً حتى يكون إمعاناً في التحدي وبياناً لعجزهم، وقد قلنا من قبل: إن هذا الأمر أو هذا القول أو هذا الحكم لا يمكن أن يقوله أحد غير الله، ومثله قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] كما حررنا الكلام عنها في موضعه.
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] فالله جل وعلا خلق ناراً أرادها نكالاً ووبالاً لمن عصاه، وسيأتي الحديث عنها عند ذكر الآيات المختصة بتفصيل النار.(2/4)
تفسير قوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
لما ذكر الله مآل أهل الكفر ذكر مآل أهل الإيمان، وغالب القرآن أنه يختم بمآل الصالحين، كما في قوله تعالى: ((يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)) [آل عمران:106] ثم ختم الآية بقوله: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107].
وهنا قال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [البقرة:25] الآمر بالبشارة هو الله، والمكلف بالتبشير محمد صلى الله عليه وسلم، والمبشَّر المؤمنون، والمبشَّر به: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة:25].
قطاف الجنة دانية، يرون الثمرة ويقطفونها ويأكلونها فتنبت غيرها، فإذا نبت غيرها نظروا إليها، فهذه التي نبتت هي في هيئتها مثل التي قطفت تماماً، لكنها غيرها في الطعم، هذا أصح ما قيل في هذه المسألة.
وقيل: إنها مقارنة بين ثمار الدنيا وثمار الآخرة، وقيل غير ذلك، لكن أظهر ما قيل هو ما حررناه: أنهم يرون الثمرة ويقطفونها ويأكلونها وتنبت غيرها، فإذا نبت مكانها غيرها تكون شبيهة بالأول، فإذا استطعموها مرةً أخرى وجدوها مخالفة للأولى، وهذا معنى قول الله: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا)، ولم يقل: متماثلاً، والفرق أن خيار الدنيا حسن وأحسن، أما خيار الجنة لا رذل فيه، وعبارة: خيار الجنة لا رذل فيه منسوبة لـ قتادة بن دعامة السدوسي أحد المفسرين المشاهير، وقد كان أكمه -أعمى- رحمه الله رحمة واسعة.
وقوله: (كُلَّمَا) لغوياً تفيد الاستمرار، ومن الأخطاء الشائعة في الاستعمال أن الناس يكررونها يقولون: كلما ذهبت إلى زيد كلما وجدت عمراً عنده، هذا خطأ، إنما تذكر كلما في الأول فقط ولا تكررها كما قال ربنا: (كُلَّمَا رُزِقُوا) أي: المؤمنون {مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25]، وضمت اللام في (قبل) لأنها مبنية على الضم لانقطاعها عن الإضافة، فإذا أضيفت أصبحت اسماً معرباً تجري عليه الأحكام، كقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} [النور:58] و {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58]، فقبل وبعد هنا جرت وعوملت معاملة الاسم المعرب لأنها أضيفت، فإذا انقطعت عن الإضافة انتقلت من كونها اسماً معرباً تجري عليه الحركات إلى كونها اسماً مبنياً.
قال الله تعالى: {قَالُوا} [البقرة:25] أي: المؤمنون {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ} [البقرة:25] أي: المؤمنون {فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة:25] مطهرة من كل سوء، خذها بعمومها أفضل، {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] لأنه لا ينغص في الدنيا إلا الموت؛ ولهذا ينادى أهل الجنة: (أن حياة بلا موت).(2/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها)
قال ربنا وهو أصدق القائلين: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة:26] مر معنا: أن ضرب الأمثال تريد به العرب ثلاثة أمور: إيجاز اللفظ، ودقة التشبيه، وإصابة المعنى، وهذا مر معنا في شرحنا لقول الله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35].
هنا الله جل وعلا يخبر أن الغاية من ضرب الأمثال: إظهار الحق وإقامة الحجج، والأمثال لا بد أن تكون قريبة من الناس واضحة، فلا يستنكر أن الله قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} [الحج:73] فعبر بالذباب؛ لأن الذباب أمر معروف لا يختلف الناس فيه، وكذلك البعوض، والمقصود إقامة الحجة وإيضاح المحجة، وهذا لا يكون إلا بالشيء المتعارف عليه.
والناس في تلقيهم لخطاب القرآن فريقان: فريق يؤمنون كما قال الله في العظماء من أهل الإيمان: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] وأما غيرهم فيصيبهم الشك: {فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة:26] فيأتي الجواب، قال الله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة:26] إذا نزلت الأمثال القرآنية والحجج الإلهية اختلف الناس فيها، وأهل الفسق يضلون عنها.
ثم ذكر الله جل وعلا جملة من صفاتهم: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27] وأعظم ما أمر الله به أن يوصل الرحم {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27].(2/6)
تفسير قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم)
ذكر الله استفهاماً استنكارياً توبيخياً فقال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28] كيف استفهامية اتفاقاً، والاستفهام هنا يراد به: الاستنكار والتوبيخ.
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا) أي: في العدم، (فَأَحْيَاكُمْ) الحياة التي تعيشونها، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بانفصال الروح عن الجسد (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي: بالبعث والنشور (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وهذا أصوب ما قيل فيها.(2/7)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً)
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29] يؤخذ من هذه الآية قاعدة أصولية وهي: أن الأصل في الأشياء الإباحة، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] خلق الله الأرض قبل السماء، و (اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) يعني: انصرف إلى خلقها، والفعل استوى يأتي متعدياً بحرف الجر إلى، ويأتي من غير تعد بحرف جر، فإذا جاء من غير تعد بحرف الجر فيعني: الكمال والتمام كقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14] كمل ونضج، وإذا تعدى بحرف الجر إلى فيعني: القصد من شيء إلى آخر كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] وإذا تعدى بحرف الجر على فيعني: العلو والارتفاع كقوله: {تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13]، وعلى هذا ظاهر قول الله جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:29] أقرب السماء إلينا تسمى السماء الدنيا؛ لأنها دانية إلينا، وأعلاها السماء السابعة، وهي معمورة بالملائكة.
{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29].(2/8)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)
ثم قال جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
هذه الآية يمكن تناولها من عدة وجوه: هذا الأمر كان قبل أن يخلق الله جل وعلا آدم، أخبر الملائكة أنه سيجعل في الأرض خليفة، قال بعض العلماء: إن آدم خليفة بمعنى: خليفة الله في الأرض في إعمارها، وهذا لا يستقيم شرعاً، ولا أرى أنه ينبغي أن يقال به؛ لأن الخليفة عن الشيء يكون من جنسه، وآدم مخلوق والله خالق، فنستبعد أن يكون المقصود بخليفة أي: خليفة عن الله.
ننتقل إلى مسألة أخرى: هل خليفة هنا بمعنى خليفة عمن سبق فيكون المعنى آدم خليفة عن غيره، أو خليفة اسم جنس أفرد أريد به الجمع، فيصبح الكلام ليس عن آدم بل عن ذريته التي من بعده.
على القول بأنه خليفة عمن كان يعمر الأرض، فقد ذكر المؤرخون أن الجن كانت تعمر الأرض، وهذا يستقيم نوعاً ما باعتبار أن الجن وآدم كلاهما مخلوق، وهذا القول عندي بعيد وإن كان قال به كثير من العلماء.
والظاهر أن خليفة هنا اسم جنس مفرد يراد به الجمع كقوله تعالى: {خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [يونس:14] ويقال: خلفاء الأرض، يعني: سأجعل من آدم ذرية يخلف بعضهم بعضاً، هذا معنى كلام الله لملائكته، فأين الدليل على أن اسم الجنس المفرد في اللغة أو في القرآن من باب أولى يأتي والمقصود به الجمع؟ قال الله في خاتمة سورة القمر: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر:54] فأفرد نهر وقصد أنهاراً؛ لأن جنات جمع وأنهار جمع لكنه أفردها؛ لأنها اسم جنس، والدليل على أنه أراد أنهاراً أنه قال في آيات أخر: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الأعراف:43]، وهذا القول اختاره ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو أن خليفة هنا: اسم جنس أريد به الجمع، والمقصود به ذرية آدم، هذا تفصيل معنى خليفة.
قال القرطبي رحمه الله وغيره من العلماء: إن هذه الآية أصل في أن يتخذ الناس إماماً وخليفة.
ويتفرع عن هذا مسألة: هل اتخاذ الخليفة واجب بالشرع، أو واجب بالشرع والعقل، أو واجب بالعقل؟ قالت الشيعة الإمامية الإثنا عشرية: إنها واجبة بالعقل، وقال بعض العلماء: إنها واجبة بالشرع، والصواب: أنها واجبة بالشرع والعقل، هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية: ما هي طرائق أو صور تنصيب الإمام والخليفة شرعاً؟ لها عدة صور: الصورة الأولى: إجماع أهل الحل والعقد، أو اتفاق أكثرهم عليه، مثاله: خلافة الصديق، فإن الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار أجمعوا على خلافة أبي بكر، هذا على القول بأن أبا بكر لم ينصبه النبي صلى الله عليه وسلم.
الصورة الثانية في تنصيب الخليفة المسلم: أن يوصي له من قبله، مثاله: خلافة عمر، فقد أوصى له أبو بكر بأن يكون خليفةً من بعده، كما وصى عمر للستة من بعده.
فإذا اتفقنا على إمام له بيعة شرعية وأوصى لواحد من بعده فأنت مطالب بما قاله الإمام الأول؛ لأن الأمام الأول له بيعة، فقوله نافذ، فإذا وصى لمن بعده فلا حاجة لأن تأتي بأهل الحل والعقد على الثاني، واضح؟ فلما وصى أبو بكر لـ عمر لم يجتمع الناس ليقرروا هل يوافقون على عمر أو لا يوافقون؛ لأن الأول كان له بيعة شرعية، وبدهي جداً أن يكون مما أمرنا بطاعته فيه اختياره لمن بعده.
الصورة الثالثة: أن يتغلب على الناس بسيفه وقوته، يأتي إنسان ويمكن له في الأرض بسيفه وقوته، ومثلوا بخلافة عبد الملك بن مروان، فإن عبد الملك بن مروان لم يوصي له من قبله، ولم يجتمع عليه أهل الحل والعقد، وإنما غلب الناس بيد الحجاج، فلما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير دانت الأرض الإسلامية لـ عبد الملك بن مروان.
هذه الحالات الثلاث التي يكون بها تنصيب الإمام المسلم، وقلنا: إن هذه الآية أصل في قضية الخلافة.(2/9)
تفسير قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها)
قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] هذه واحدة من أربع خصال شرف الله بها آدم، فقد علمه أسماء كل شيء، وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له، وهذه لم تجتمع لأحد.
وآدم هو أبو البشر عليه السلام، وهو نبي مكلم كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ} [البقرة:31] أي: الأسماء {عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} [البقرة:31] قال الشنقيطي رحمه الله في التفسير: المقصود: المسميات.
{إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ} [البقرة:31 - 32] وهذا من أدب الملائكة عند ربها {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] فالإنسان إذا سئل عما لا يعلم لا يضره أن يقول: لا أعلم، فقد قالت الملائكة بين يدي ربها: (سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
{قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:33] هذا حوار كان في الملأ الأعلى بين الرب جل جلاله وبين ملائكته، ويظهر فيه علم الله جل وعلا الذي يحيط بكل شيء، وعجز علم المخلوقين ولو كانوا ملائكة مقربين، وهذه أشياء ظاهرة لا تحتاج إلى تعليق أكثر من هذا.(2/10)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)
قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
الله جل وعلا يمن على من يشاء بفضله، أمر ملكاً من الملائكة أن يقبض قبضة من الأرض، وهذه القبضة مزجت بطين، ثم خلق منها آدم، ثم نفخ الله جل وعلا في آدم فدبت فيه الروح، ثم أمر الله جل وعلا الملائكة بالسجود له.
والأمر بالسجود له أمر رباني، والملائكة كلهم سجدوا طاعة لله وتحية لآدم، وليس السجود لآدم عبادة له، فنحن مثلاً في الصلاة نسجد تجاه القبلة فنحن لا نعبد الكعبة وإنما نتعبد الله بالسجود إلى جهة الكعبة، ونرفع أيدينا إلى السماء ونحن لا نعبد السماء لكن نتعبد الله برفع أيدينا إلى السماء؛ لأن ربنا في السماء، فسجدت الملائكة إجلالاً لله وإكراماً لآدم.
وكان إبليس وقتها يغدو ويروح مع الملائكة، هذا الذي يدل عليه ظاهر القرآن ولم يكن من الملائكة، يعني: لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين، وقد بينا في سورة الكهف القرائن والأدلة على أنه ليس من الملائكة، فقد عصى والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، وهو مخلوق من نار، والله جل وعلا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مخلوقون من نور، وقد قال الله في القرآن: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف:50].
ولما أمر الله الملائكة بالسجود امتنع إبليس، والسبب في المنع القياس: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فجعل إبليس المخلوق من عنصر النار أفضل من المخلوق من عنصر الطين، فأدخل القياس مقابل النص، ومن هنا أخذ الأصوليون: أن القياس إذا عارض النص يسمى قياساً فاسد الاعتبار، فلو سلمنا جدلياً أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين فلا سبيل إلى أن نرد نصاً وهو قوله: (اسْجُدُوا) بهذا القياس.
والخلف في النص والإجماع دعا فاسد الاعتبار كل من وعى يعني: كل من وعى من العلماء، دعا يعني: سمى مخالفة النص والإجماع قياساً فاسد الاعتبار، وأول من اتخذه طريقاً إبليس.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34] أبى: امتنع، واستكبر: دخله الكبر، والكبر أول ذنب عصي الله جل وعلا به، تلبس به إبليس فاستكبر، كما تلبس آدم بالحرص فأكل من الشجرة، وكما تلبس قابيل بالحسد فقتل أخاه، مع الفوارق في الذنوب، فكل ذنب عصي الله به مرده إلى أحد هذه الثلاث: إما الكبر، وإما الحرص، وإما الحسد، قال ابن القيم رحمه الله: أصول الخطايا ثلاثة: الكبر والحرص والحسد.(2/11)
تفسير قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة)
قال الله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35].
بعد أن خلق الله جل وعلا آدم خلق منه زوجه حواء، واختلف العلماء: هل كان خلق حواء بعد دخول آدم الجنة أو قبل دخولها وهذا حررناه في سورة طه.
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا} [البقرة:35] بألف التثنية الخطاب للاثنين.
{مِنْهَا} [البقرة:35] أي: من الجنة.
{رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة:35] ثم جاء الابتلاء القرآني: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35] والله لم يذكر ما هي الشجرة.
{فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35] لأنفسكما بأكلكما لها.(2/12)
تفسير قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان عنها)
قال الله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [البقرة:36] وهذا عام، وبين الله أنه وسوس لهما، وأنه قاسمهما: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] وهذه كلها مرت معنا.
{فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة:36] أي: من نعيم الجنة.
{وَقُلْنَا اهْبِطُوا} [البقرة:36] بواو الجمع، وحررنا مسألة هل الجنة التي كان فيها آدم هي الجنة التي في السماء السابعة أو جنة في السماء الدنيا أو جنة في الأرض؟ هذا كله مر معنا.
{وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36] قال بعض العلماء: إن مما أهبط الحية، واحتجوا بأن الله قال: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) بقرينة أن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر الحيات قال: (ما سالمناهن منذ حاربناهن) فإبليس عدو بالاتفاق، والحيات دلت السنة على عداوتها، فلا يستبعد أن تكون الحية أهبطت معهم؛ لأن المشهور عند المؤرخين أن إبليس عندما وسوس لآدم دخل الجنة في خياشيم الحية، وهذا من مليح القول لا من متين العلم، ولا يتعلق به أمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب، فلا تعنف إذ لم تقبله ولا حرج عليك إن قبلته.
{وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36] أي: ما كتبه الله جل وعلا للناس أن يبقوا.(2/13)
تفسير قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات)
وهذا من أعظم الأدلة على رحمة الله بعباده أن فتح لهم باب التوبة فقال: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة:37] فآدم عليه السلام لما فاء إلى ربه وندم على ما كان منه، فالذي علمه كيف يعود هو الرب المعبود جل جلاله، وهذه الكلمات لم تتضح في سورة البقرة لكنها ظهرت في سورة الأعراف: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، قال بعض العلماء: إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض فمن حيائه من ربه لم يرفع بصره إلى السماء.
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] أي: ربه، {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] وقد جعل الله جل وعلا باب التوبة مفتوحاً حتى لا يأخذ أحد صورة كاملة عن نفسه قبل أن يموت، يعني: لا توجد نهاية لك تصل إليها، فالإنسان معرض للطاعة، ومعرض للمعصية (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).(2/14)
تفسير قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً)
ثم كرر الله الأمر فقال: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:38 - 39].
وهذه لها نظائر كثيرة في القرآن، مجملها يدل على أن الله جل وعلا أنزل آدم، فلما اجتالت الناس الشياطين بعد عشرة قرون من نزوله أرسل الله الرسل بدءً بنوح وختاماً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل مع هؤلاء الرسل الهدى والنور والبيان، ثم أخبر عباده من قبل ولاحقاً أنه من آمن منهم واتبع ذلك الهدى الذي أنزله فلا خوف يعتريه عند الموت، ولا حزن ينتابه بعده، وأما من غلبت عليه شقوته وكذب ما أنزله الله واتبع هواه وأفرط على نفسه فأولئك أصحاب النار، هي مستقرهم وهم فيها خالدون، أما أهل الجنة فلهم فيها: {أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25] والله جل وعلا حكم عدل، ورب ذو فضل، وهذه أمور أخبر الله جل وعلا بها لتقوم بها الحجة على عباده.(2/15)
تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)
قال الله جل وعلا: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40] الحديث عن بني إسرائيل سيأتي إن شاء الله مستفيضاً في اللقاءات القادمة، لكن أبين هنا أن الله جل وعلا في سورة البقرة لما ذكر الطوائف الثلاث التي حررناها: وهم المؤمنون الخلص، والمنافقون، والكافرون، كان يبين أحوال معاصرة يعيشها المجتمع المدني، وحتى يهتدي الناس كان لا بد أن يتعظوا بمن سبق، فبعد أن بين الله جل وعلا حال المخاطبين ذكر لهم حال السابقين حتى يتعظوا بهم، فما أفلحوا به ونجوا بسببه أخذوا به، وما كان سبباً في هلاكهم وبعدهم عن الله تركوه.
والله جل وعلا جعل الراية في قيادة البشرية راية روحية، فكل أمة حملت الدين صدرها الله جل وعلا، فصدر الله بني إسرائيل في حقبة من الدهر: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] فلما زاغوا، وقتلوا الأنبياء، وانحرفوا عن طريق الله جل وعلا؛ سلب الله منهم هذه الراية وقيادة الناس وزمام البشرية وأعطاه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فحتى تكون هذه الأمة على بينة من أمرها وفي سيرها على طريق الله أكثر الله جل وعلا في القرآن من خبر بني إسرائيل.
وقول الله جل وعلا هنا: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40] هي أول آية وفق ترتيب المصحف الذي بين أيدينا تتحدث عن بني إسرائيل، وستأتي بعد ذلك آيات كثيرة في أحوالهم وأخبارهم مع أنبيائهم على وجه الخصوص حتى تعرف أمة محمد التي أعطاها الله قيادة البشر ما أخطأ فيه السابقون فيجتنبوه، وما ساد به السابقون فيأخذوا بزمامه، وهذا كله من دلائل قول الله في أول السورة {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، فمن هداه ما ضرب الله فيه من أمثال، وما أخبر الله فيه من أخبار، وما قص الله فيه من قصص، وما بين الله فيه من شرائع، حتى يتعظ به الحاضر والباد إلى يوم يقوم فيه الأشهاد ويحشر فيه العباد.
جعلنا لله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وجعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بهذا القرآن ويعمل به، وأسأل الله لي ولكم التوفيق.
هذا ما تهيأ إيراده، وأعان الله على قوله، وهو وحده الموفق والمسدد، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(2/16)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [3]
أكثر الله في سورة البقرة من ذكر بني إسرائيل، وتذكيرهم بنعم ربهم عليهم، وتذكيرهم بما أخذ عليهم من عهود ومواثيق، وإخبار المسلمين بأحوال بني إسرائيل وأخبارهم، تحذيراً للمسلمين من أن يتشبهوا بهم، وقطعاً لطمع المسلمين في إيمانهم.(3/1)
تفسير قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه)
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه وتعالى على آلائه ونعمه، وأسأله جل وعلا المزيد من فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيتجدد في هذا اللقاء التعليق والتأويل لسورة البقرة فسطاط القرآن، وقد ذكرنا: أن هذه السورة المباركة سورة شملت الكثير من الأحكام والمعارف، وشتى ما يمكن أن يتعلق بحياة المسلمين في مجتمعهم المدني؛ ذلك أنها من أوائل السور التي أنزلت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد مر معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام لما خاطب الأنصار يوم حنين أمر منادياً أن ينادي: يا أهل سورة البقرة؛ لأن الأنصار أهل المدينة الأولين كانوا لا يفخرون بشيء بعد إيمانهم أكثر من فخرهم بنزول هذه السورة بين ظهرانيهم في مدينتهم؛ فنسبت إليهم.
وانتهينا في اللقاءات الماضية إلى قوله جل وعلا: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37] وفتح باب التوبة من أعظم الدلائل وأجل القرائن على إرادة الله بعباده الرحمة؛ لأن الله لو لم يرد بعباده الرحمة لأقفل عليهم باب التوبة، لكن وقعت المعصية من آدم عندما استزله الشيطان فكان سماع آدم للشيطان وخضوعه لقوله في جزئية الأكل من الشجرة سبباً في خروجه منها، لكن الرحمن الرحيم تداركه برحمته، قال الله جل وعلا: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:37]، وفي هذا إشعار أن الله أراد أن يرحم هذا العبد الصالح، وقد ذكر الله جل وعلا في سورة طه أنه اجتباه وهداه وغفر له؛ ولذلك لا يقال في حق آدم: عاص على إطلاق، وإنما إذا أريد أن يتحدث أحد عن آدم عليه السلام يتحدث عنه باللفظ والمقدار الذي ذكره القرآن، الأدب معه من جهتين: من جهة أنه أب لنا، فقد نسبنا الله إليه: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف:26].
والأعظم من ذلك أنه نبي، بل ونبي مكلم كما صح عن ذلك الخبر عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.
والله هنا لم يذكر ما هي الكلمات لكن العلماء قالوا: إن الكلمات هن اللواتي ذكرهن الله جل وعلا في سورة الأعراف: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف:23] وقول الله جل وعلا هنا: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:37] ليس فيه ذكر لحواء، لكن هي مندرجة معه، قال أهل العلم ونعم ما قالوا: إن المرأة مستورة لا تذكر إلا لحاجة، وهنا لم يذكر الله جل وعلا توبة حواء؛ لأنها تبع لآدم كما ذكره الله وحده في المعصية، فقال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] ولم يذكر معصية حواء، وإن كانت القرائن تدل على أن آدم إنما أكل من الشجرة بمشورة من حواء، لكن المقصود أن المرأة حرمة مستورة كما قال القرطبي رحمه الله، فعلى هذا لم يذكرها الله لكن كون عدم ذكرها لفظاً لا يعني أبداً أن الله لم يقبل منها شيء، وهذا ما يدل عليه آية الأعراف: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].(3/2)
تفسير قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً)
قال الله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] أول ما يشكل على طالب العلم هنا عندما يريد أن يتأمل هذه الآية هو أن الهبوط تكرر مرتين: تكرر قبل قليل: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36]، وتكرر بعد آية: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة:37] أي: أن آية: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ)) جاءت فاصلاً بين ذكر الهبوط الأول والهبوط الثاني، وقد اختلف العلماء: هل الهبوط الأول هو عين الهبوط الثاني، وإنما اللفظ تكرر، أو أن الهبوط الأول غير الهبوط الثاني؟ من العلماء من يقول: إن الهبوط الأول هو هبوط من الجنة إلى السماء الدنيا، ثم جاءت آية: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) ثم جاء قول الله جل وعلا: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38] فقالوا: هذا الهبوط غير الهبوط الأول، فهو هبوط من السماء الدنيا إلى الأرض.
لكنني أقول: إن هذا بعيد؛ لأن اللفظ جاء على هيئة جمع (اهْبِطُوا) أمر واحد، والأمر الثاني: ذكرت الأرض في الأول ولم تذكر في الثاني، ولو ذكرت في الثاني لكان هذا مسوغاً لقولهم، لكن القول الأول بعيد؛ لأن الأرض ذكرت في الهبوط الأول ولم تذكر في الهبوط الثاني، فحسن حمل الثاني على الأول، وصعب حمل الأول على الثاني.
فنقول: الذي يظهر -والعلم عند الله- أن المسألة بيان لفظي وبلاغي، والمعنى: لما ذكر الله الهبوط فصل عن ذكر ما حصل لآدم بعد ذلك وكلف الله جل وعلا به نبيه بذكر التوبة على آدم؛ فلما ذكر ربنا التوبة على آدم عاد وكرر الهبوط حتى يبدأ السياق من جديد، ويؤخذ بخطام اللفظ بعد أن ترك، قال الله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [البقرة:38] فهنا لم يذكر العداوة وذكرها في الأول {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36].
وقد قلت فيما سلف: إننا نذكر أحياناً شيئاً من متين العلم يتعلق به جنة ونار، ويتعلق به حكم شرعي، ونذكر أحياناً نتفاً من مليح القول يغلب على الظن أنها مقبولة لكن لا يبنى عليها أمر عملي، لكنها تفتق الذهن وتوسع المدارك وتجعل مجالات المعرفة واسعة بين يديك، فتقيس أنت بعد ذلك الأشباه والنظائر، وسيتكرر هذا كثيراً.(3/3)
معنى قوله تعالى: (اهبطوا)
ظاهر الأمر بالهبوط أنه تم لأربعة: لآدم، وحواء، وإبليس، والحية، أما آدم وحواء وإبليس فلا أظن أحداً ينازع فيها، لكن القضية قضية الحية لا بد من قرائن تدل على هذا، والمشهور عند أهل العلم أن إبليس دخل الجنة عندما أراد أن يوسوس لآدم عن طريق الحية، هذا أمر.
الأمر الثاني: النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق الحيات: (ما سالمناهن منذ أن حاربناهن) كما في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في منىً في غار، والقرآن منه مدني ومنه مكي، ومنه ليلي ومنه نهاري، ومنه سمائي ومنه أرضي، ومنه ما نزل في الكهوف، والمعنى باعتبار النزول، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في غار ومعه أصحابه يتلو عليهم: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1] لتوها نزلت، يقول ابن مسعود: (نأخذها رطبة من فيه عليه الصلاة والسلام، فإذا بحية فقال صلى الله عليه وسلم: اقتلوها! قال: فابتدرناها لنقتلها فآوت -يعني: رجعت إلى جحرها- فقال عليه الصلاة والسلام: سلمت من شركم وسلمتم من شرها) شركم يعني: القتل، وشرها: أذاها، فهذه القرائن تدل على أن الحيات عدو، فتؤكد أن الحية هي رابع من نزل من السماء مع آدم وحواء وإبليس.
يتعلق بالحديث هذا نقطة مهمة جداً وهي أن الورع شيء قلبي وليس شيئاً مصطنعاً يصنع ليراه الناس، وإنما الورع ينبثق من ذات الإنسان، فإذا جاء عند المرء ما يغلب على الظن أنه ليس بورع تركه، ولو ظن الناس أن في تركه ترك للورع، فهذا نبي الأمة ورأس الملة يتلو القرآن وحوله أصحابه فتخرج حية فيقطع الوحي ويقول: (اقتلوها)، والصحابة يتركون النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ويذهبون إلى حية ليقتلوها.
لو حدث هذا في زماننا لشنع الناس على فاعليه؛ لأن المدارك تختلف، شتان بين من همه رضوان الناس وكيف يصل إليهم، وبين من همه الحقائق كيف تطبق على الوقائع! يختلف الصنفان اختلافاً جذرياً، العدو عدو لا يمكن أن يتغير ولو لان مرة أو اتفقت مصالحك مع مصالحه مرة، فهو عدو لا يؤمن ولا يوجد عاقل له مسكة من عقل يأمن عدوه قط، فإذا أمن عدوه فقد أسلم نفسه لعدوه يسوقه كيف يشاء، قيل لـ معاوية رضي الله تعالى عنه وأرضاه: ما بلغ من عقلك؟ قال: لم أأمن أحداً قط.
والناس درجات، فإذا كان هذا مع الخلان والأصحاب والخلطاء والقرباء فكيف بالأعداء؟ وإذا كان إبليس قد أقسم لأبوينا أن ينفعهما فأهلكهما بالذنوب فكيف وقد أقسم لله أن يهلكنا؟! ماذا سيفعل بنا؟ فأعظم الأعداء إبليس، قال الله عنه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] على هذا سواءً في عداوتنا مع إبليس فراراً منه وطلباً للآخرة أو مع غيره ممن حولنا فالعدو عدو، والإنسان العاقل يكون واضحاً في تعامله، ثمة أمور يمكن إرجاؤها، وثمة أمور لا تقبل الإرجاء ولا التأخير أبداً كقتل الحية هاهنا.(3/4)
معنى قوله تعالى: (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم)
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] الإنسان أعظم ما يعتريه أن يخاف مما هو قادم عليه، أو أن يحزن من شيء قد فات، هذا أعظم ما يعتري العبد، فلما كان كل بلاء ينطوي تحت هذين أمن الله جل وعلا أهل طاعته منه فتكرر في القرآن كثيراً: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)، ولكن الناس كلما بعد فقههم عن ألفاظ القرآن ومعانيه جعلوها ألفاظاً دارجة على ألسنتهم، فيكثر على ألسنة العامة أنهم يذكرون سياقاً من القول ثم يقولون: (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)، ويرونها كلمة هينة يتمون بها كلامهم لبعد الناس عن المعنى الحقيقي لمراد الله جل وعلا.
والإنسان إذا أتاه الموت يخشى مما بعده: يخشى من القبر يخشى من الصراط لا يدري أين مآله، ويحزن على ما كان لديه من قرابة وأهل ومنصب وجاه ومال وأولاد وضعفاء وزوجة وغير ذلك، فتأمنه الملائكة مما هو قادم، وتطمئنه ألا يحزن على ما قد فات، ومن وفق لهذين فقد سلم، وهو السلام الذي أراده الله بقوله في حق الحبيبين النبيين يحيى وعيسى: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:33].(3/5)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار)
قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39] قال: (هم فيها خالدون) قدم الجار والمجرور على الخلود فأفاد الحصر أي: أنهم خالدون فيها أبداً، وفي أول الآية قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، لماذا قال الله: (وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)؟ معلوم أن الكفار مكذبون بالآيات لكن الله قالها حتى لا ينصرف الكفر الأول إلى كفر النعمة، لو قال: والذين كفروا بآياتنا قد ينصرف إلى كفر النعمة، وكفر النعمة لا يوجب الخلود في النار على إطلاقه، لكن هنا قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) فقول الله جل وعلا: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) دلالة على أنه يقصد الكفار الحقيقيين، وقد دل على أنه يقصد الكفار المنكرين ليوم البعث واليوم الآخر طريقان: الطريق الأول: قوله بعدها: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا).
الطريق الثاني: الحصر في قوله جل وعلا: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أي: النار.(3/6)
تفسير قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)
الآيات السالفة كانت عن أحوال أهل الكفر وتقريعهم وبيان الحق لهم، ثم انصرفت السورة إلى ذكر اليهود، وناداهم ربهم جل وعلا بقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:40]، واليهود كانوا يسكنون المدينة، وكانوا في الأصل على ملة موسى ثم إنهم بدلوا كما هو معلوم، وكان في هؤلاء اليهود حملة كتاب يقرئون كتابهم، مطلعون على أسراره، والقرآن جاء معجزاً بلفظه للعرب، وجاء معجزاً بعلمه لأهل الكتاب، وتحرير ذلك وبيانه على الوجه التالي: العرب كانوا أمة بليغة فلما نزل عليهم القرآن على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم أذهلهم ذلك الرقي في البيان، وهم أهل صنعته ولم يقدروا على أن يحاكوه، فلهذا قالوا عنه: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24].
أما اليهود العبرانيون فلم ينزل القرآن بلغتهم، بل نزل بلغة العرب، لكنهم كانوا أهل علم فكشف الله بالقرآن جماً من العلم الذي كان مكنوناً في صدور علمائهم، فكان الإعجاز بالنسبة للقرآن إليهم أن ما لم يطلعوا عليه أتباعهم أطلع الله هذه الأمة عليه، وأخرج الله جل وعلا ما هو مكنون في صدور أولئك العلماء للناس، فكما كان القرآن معجزاً بلفظه للعرب كان معجزاً بعلمه لأهل الكتاب.
وبعض هذه الأخبار التي ذكرها الله عن بني إسرائيل لا يعرفها إلا قلة من أهل الكتاب، بل إن منها ما لا يعرفه أهل الكتاب أصلاً، وهذا كله يدل على أن هذا النبي هو النبي الموعود الذي بشر الله جل وعلا به، وبشر به الأنبياء من قبل.
قال الله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:40] مقصود من القرآن كسب الناس ووعظهم، فلاطفهم ربهم حتى تقوم عليهم الحجة وتتضح المحجة، فناداهم الله جل وعلا نداءً كريماً: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، ومن ذريته نشأ بنو إسرائيل، فناداهم الله تعالى باسم عبد صالح هو إسرائيل، وبعض العلماء كـ الجوهري في الصحاح يقول: إن الأنبياء الذين لهم اسمان مثل إسرائيل ويعقوب، ومحمد وأحمد جاءت في القرآن، وذكر أن ذا الكفل وإلياس شخص واحد، لكن الجوهري رحمة الله تعالى عليه صاحب الصحاح وإن كان إماماً في اللغة لكنه ليس معدوداً في علماء التاريخ؛ فقوله هذا لا يقبل، أما يعقوب وإسرائيل فنعم، وأما محمد وأحمد فنعم، أما إن إلياس هو نفسه ذو الكفل فلا، فقد فرق القرآن بينهما، ثم ذكر المسيح، والمسيح اختلف هل هو اسم أو لقب؟ والمقصود أن إطلاقه هذا في كتابه غير ظاهر الدلالة.
نعود إلى الآية، قلنا: إن الله نادى هؤلاء اليهود نداء كرامة فنسبهم إلى عبد صالح استعطافاً لهم: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] ولله جل وعلا على كل خلقه نعم، لكن على بني إسرائيل نعم مخصوصة، وهنا ذكرها الله مجملة، وسيأتي التفصيل بعد ذلك، لكن من أعظم النعم نجاتهم من فرعون، والمن والسلوى في الصحراء، وكلها ستأتي تباعاً.
وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) اختلف العلماء في المقصود بالعهد، وضربوا فيه مضارب شتى، وأجمعها عندي أن يقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) أي: بامتثال أوامري، وهذه عبارة البغوي رحمه الله في تفسيره.
(أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي: بالقبول والثواب، (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).(3/7)
تفسير قوله تعالى: (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم)
قال الله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41].
(آمِنُوا) أمر، (بما أنزلت) هو القرآن، (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) التوراة.
(وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) من المعلوم أن القرآن أول ما نزل نزل بمكة، فأول من كفر بالقرآن مشركو قريش، فلا يقولن قائل: إن في القرآن تعارض، وفهم السياق يساعد إلى الوصول إلى الحقائق، الحقيقة تقول: إن هذه الآيات المخاطب بها في المقام الأول: علماء اليهود وأحبارهم مثل كعب بن الأشرف وأمثاله، وهؤلاء كانوا يسوسون الناس، وفي كل ملة الناس تبع لعلمائهم ولهذا قيل: معشر القراء يا ملح البلد من يصلح الناس إذا الملح فسد بالملح نصلح ما نخشى تغيره فكيف بالملح إن حلت به الغير فكعب الأشرف وأمثاله من أحبار يهود آنذاك كانوا رءوساً، ولم يكن هناك يهود في مكة، فلما أنزل الله القرآن على نبيه في المدينة كما أنزله عليه في مكة خاطبهم الله جل وعلا؛ لأن أصل الصدارة لهم: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:40]، فيخاطب الله العلماء من أهل الكتاب: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) أي: فيتبعكم الناس على ذلك الكفر.
(وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) بعض المذاهب المعاصرة تقوم على أن يدفع الأتباع للرؤساء فيجد الرؤساء المتصدرون الآخذون بزمام العلم كسباً من سفلة الناس وعامتهم ودهمائهم، فإذا بينوا للناس الحقائق التي أنزلها الله -لا الحقائق التي أضاعوا الناس بها- يحصل من هذا أن العامة يتركونهم، فإذا تركوهم خسروا ذلك المتاع الذي يجنونه من ورائهم، فالله جل وعلا يقول: لا يمنعنكم -أيها الأحبار- ذلك الكسب الدنيوي الذي تحصلون عليه من الأتباع أن تتقوا الله جل وعلا في هذا النبي فتخبروا أتباعكم بأن هذا النبي حق من عند الله.
وقول الله جل وعلا: (وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) فكل ثمن مقابل القرآن فهو قليل، ولو أن أحداً أعطي الدنيا على أن يتكسب بالقرآن لأجل مسألة دنيوية محضة فهي تعد قليلاً، بل لا يوجد قياس أبداً بين أي كسب دنيوي بالقرآن وبين القرآن، لكن هذا لا يعني عدم أخذ الأجرة على تعلم القرآن، فهذه مسألة أخرى اختلف العلماء فيها، وأكثر العلماء اليوم على الجواز محتجين بحديث: (إن أعظم ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله).
قال الله جلا وعلا: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41] هنا مسألة نحوية تتكرر أحياناً (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) كافر: مجرورة لأنها صفة لموصوف محذوف، والتقدير: ولا تكونوا أول فريق كافر به، وإنما أجبرنا على هذا التقدير أن العرب في اسم التفضيل لا بد أن يوافق ما بعده ما قبله.
(وَلا تَكُونُوا) قبل اسم التفضيل الأول واو جماعة فلا بد أن يكون ما بعدها مجموع، وكلمة كافر مفرد فلا تناسب واو الجماعة في: (وَلا تَكُونُوا) فيصبح التقدير: ولا تكونوا أول فريق أول قوم (كَافِرٍ بِهِ).(3/8)
تفسير قوله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق)
قال الله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42] الحق الذي كتمه أحبار اليهود هو التعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم دعاهم الله جل وعلا للإيمان والدخول في سلك الرحمن، قال جل وعلا: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43].(3/9)
تفسير قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)
قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] يقال في تحقيق هذه الآية والعلم عند الله: إن بعض علماء يهود كان إذا جاءهم عامة اليهود وأخذوا عليهم عهوداً ومواثيق أن يبينوا لهم الحق بينوه لكنهم أي: الأحبار لا يتبعونه فعاتبهم الله جل وعلا بقوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) قال العلماء كـ ابن سعدي وغيره: هذه الآيات وإن جاءت في سياق اليهود وذكر ما يوعظون به ويزجرون إلا أن هذه الأمة مخاطبة بها، فالمؤمن الحق الذي يريد أن يكون رأساً في الدين يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويلتزم جماعة المسلمين، وإذا أمر بشيء بدأ به بنفسه، قال بعضهم: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك وانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم والأبيات تنسب لـ أبي الأسود الدؤلي رحمه الله تعالى، واسمه: ظالم بن عمرو، وله من اسمه نصيب، فإنه دخل المدينة في اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلها كان الصحابة لتوهم قد فرغوا من دفنه عليه الصلاة والسلام، فلم ير أبو الأسود رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلا يعد صحابياً بل يعد تابعياً؛ لأنه رأى الصحابة، وكان إماماً في النحو إماماً في القراءة إماماً في العلم إماماً في الأخبار في شتى شئون الحياة، لكنه كان مبتلى بالبخل، ويقولون: إنه شذ عن القاعدة، فالعرب تقول: لا يسود بخيل، وإنما ساد من البخلاء اثنان: عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى فقد عنه كان فيه نوع من الشح، وظالم بن عمرو الذي هو أبو الأسود الدؤلي، فهذان سادا رغم شحهما وبخلهما، والنبي عليه الصلاة والسلام لما قال للأنصار: (من سيدكم؟ قالوا: الجد بن قيس على بخل فيه قال: وأي داء أدوأ من البخل؟! ليس بسيدكم) لأن طالب المال لا يمكن أن يسود، قال بعضهم: بالعلم والمال يبني الناس ملكهم لم يبن ملك على جهل وإقلال وقال المتنبي: الجود يفقر والإقدام قتال.
فالذي منع الناس من الوصول إلى معالي الأمور: الشح إما بالمال أو بالنفس، وطلاب المجد لا يشحون بأنفسهم ولا بأموالهم.
ذكرنا بيت أبي الأسود الدؤلي: لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله، وتأتي منصوبة لا تنطقها وتأتي؛ لأن الواو هذه جاءت بعد نهي فتضمر بعدها أن وجوباًً، ويصبح الفعل منصوباً بأن وجوباً دل عليه أن الفعل مسبوق بطلب وهو هنا النهي.(3/10)
تفسير قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة)
قال الله جل وعلا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].
الصبر في اللغة: الحبس؛ ولذلك يذكر في كتب التاريخ: قتل فلان صبراً، يعني: قتل وهو ينظر إلى الموت، وليس في ساحة المعركة، وإنما حبس حتى ينتظر الموت، هذا معنى قتل فلان صبراً.
بعض العلماء يقول: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ): الصبر المقصود به هنا: الصوم، ويستدلون على ذلك بدليلين: أحدهما من الأثر والآخر من النظر، أما دليلهم من الأثر فيقولون: إن رمضان يسمى شهر الصبر، وأما من النظر فإنهم يقولون: إن الصلاة ترغب في الآخرة، والصوم يزهد في الدنيا، وهذان من أعظم أسباب النجاة، لكن الحق الذي ندين الله به: أن الصبر هنا بمعناه العام، ويبعد تخصيصه بالصوم.
(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) الله جل وعلا أمرنا أن نستعين بالصبر والصلاة، لكن على أي شيء نستعين بهما؟ نستعين بهما على أن نذكر الآخرة وندفع بلاء الدنيا، (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).
ثم قال ربنا: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] أكثر أهل العلم يرى أن الإفراد هنا ليس مقصوداً، فقوله: (لَكَبِيرَةٌ) عائد على الصبر وعلى الصلاة، ويحتجون بأنه جرت سنن العرب في كلامها أنهم يطلقون المفرد ويريدون به المثنى، أو يثنون ويريدون به المفرد، وقولهم هذا حق، لكني أقول: إن قول الله: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) المقصود الصلاة فقط.(3/11)
تفسير قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم)
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] مر معنا: أن الإنسان كلما تيقن أنه سيلقى الله كان أعظم باعث في نفسه على الطاعة، وإنما تأتي المعاصي، والإسراف في الذنوب، واقتحام الكبائر والسفر إليها، وعدم المبالاة فيها؛ من قلب رجل ليس متيقناً بملاقاة الله، هؤلاء الذي يأكلون أموال اليتامى ظلماً، أو يأكلون الميراث ويمنعون أصحاب الحقوق؛ غالب الظن أن اليقين في قلوبهم بملاقاة الله بعيد؛ لذلك يتجرءون على المعاصي تجرؤاً غير محمود، لكن الله جل وعلا قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45 - 46]، والسياق القرآني دائماً يتكلم عن هذه القضية: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى:18] هذا أسلوب القرآن في تغيير قلوب العباد.(3/12)
تفسير قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً)
قال الله جل وعلا: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48] من أعظم أخطاء أصحاب الملل أنهم يظنون أن المقاييس الأخروية كالمقاييس الدنيوية، فإن الإنسان قد يقع منه الخطأ والتثريب في أمر الدنيا لكنه قد ينجو بعوامل أخرى تساعده كالشفاعة، أو كالفدية، أو كالنصرة، لكن هذه الثلاث كلهن ممنوعات في الآخرة غير موجودة، قال الله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا) هو اليوم الآخر، (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) لا يستطيع أحد أن يتحمل وزر الآخر، (وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) المقصود الشفاعة المنفية؛ لأن المعتزلة ينفون الشفاعات على إطلاقها، وأهل السنة يبينون أن منها ما هو منفي، ومنها ما هو مثبت وقد حررنا ذلك في موضعه.
(وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) هناك عدل بالفتح، وعدل بالكسر: إذا كان الفداء من جنس المفدي فهو عِدل بالكسر، وإذ كان من غير جنسه فهو عَدل، وقد ذكر الله كفارة الصيد حال الإحرام فقال جل وعلا: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة:95] فجاء بها بالفتح؛ لأن الصيام غير الصيد، لكن إذا كان الفداء من الجنس يسمى: عِدلاً كما جاءت في ألفاظ مهلهل ربيعة وهي طويلة: ليس عِدلاً، وهو يتكلم على أنه قتل من بني بكر كثيراً، وقال: مهما قتلت منكم لا يكون مكافئاً ولا فداءً لـ كليب أخي؛ لأن مهلهلاً قاتل أبناء عمومته من أجل قتل أخيه كليب، وكليب قتله جساس، فأسرف مهلهل في القتل، وأئمة اللغة والمفسرون يستشهدون بهذه الأبيات كثيراً؛ لأنها فصيحة عربية، ويزعمون أن مهلهلاً هذا أول من قال الشعر، ومنها قوله: لكن ليس عِدلاً من كليب إذا خاف المخوف من الثغورِ والمقصود منها أنني لو قتلت منكم من قتلت فلا يكون كفؤاً لـ كليب أخي، والشاهد: كسر العين؛ لأنهم كلهم من جنس واحد بشر، لكن لما ذكر الله الصيام وهو من غير الصيد قال جل وعلا: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة:95].(3/13)
تفسير قوله تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم)
قال الله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49].
هذه الآيات مر معنا نظائر كثيرة منها في سورة طه، لكن أحب أن أبين أن الله جل وعلا مليك مقتدر، وما كتبه الله جل وعلا في اللوح سيكون، ففرعون رأى في المنام أن ناراً خرجت فأحرقت أهل مصر كلهم ولم تصب بني إسرائيل بشيء، وكان بنو إسرائيل يوم ذاك مستضعفون في أرض مصر بعد أن دخلها يعقوب أيام ولاية ابنه يوسف.
فقرر فرعون أن يقتل كل مولود منهم، وأراد فرعون بذلك أن يمنع وجود موسى، فمن أجل أن يمنع فرعون وجود موسى قتل اثني عشر ألف صبي وكان موسى في قصره يأكل من طعامه ويشرب من شرابه، قال بعض أهل العلم: فشمر فرعون عن ساق الاجتهاد، وحسر عن ذراع العناد، يريد أن يسبق القضاء ظهوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره فلا يمكن أن يغلب أحد مراد الله، الله يقول: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] وإنما هي سنون تطوى، وأيام تنقضي، ثم ينجلي مراد الله.
فبنو إسرائيل الله جل وعلا يمن عليهم بهذا الأمر: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة:49] ما هو سوء العذاب؟ {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49] يعني: يبقونهن أحياء للخدمة ولأشياء أخر لا تذكر.
{وَفِي ذَلِكُمْ} [البقرة:49] هذه إشارة {بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة:49] عجيب من المفسرين أن يجنحوا إلى أن البلاء هنا بمعنى النعمة، ويقولون: إن المقصود النجاة، فقد امتن الله بها على بني إسرائيل، والحق أنه يجب صرف البلاء هنا على النقمة.
والمقصود: أن الله جل وعلا يبين لبني إسرائيل ما كانوا فيه من بلاء عظيم، والمنة عليكم جاءت بأنكم كنتم في بلاء عظيم فأنجاكم الله منه، كقول الله جل وعلا في حق الخليل إبراهيم: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106]، فجعل الله جل وعلا ما ابتلي به إبراهيم بلاءً عظيماً حتى يكون الفداء لإسماعيل بالكبش له نوع من القبول والموافقة والسياق والاتزان مع عظيم البلاء، فهذه عندي مثلها، ولا حاجة لأن يقال: إن البلاء يأتي في اللغة بمعنى النعمة، ويستشهدون بقول الله جل وعلا: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] هذا صحيح لكنه ينبغي أن يعرف القرآن من سياقه الذي أنزل فيه.(3/14)
تفسير قوله تعالى: (وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون)
قال الله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50] مر هذا معنا مفصلاً في سورة طه، فهنا يمتن الله جل وعلا على بني إسرائيل بما كان من إنجائه إياهم وهلاك عدوهم، ولا ريب أن السلامة من العدو والنجاة منه من أعظم المنن التي امتن الله بها على بعض خلقه لكن الله قال: (وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ) فهذه نعمة مشهودة للآباء وليست للأبناء، والمخاطب في الآية الأبناء بدليل قول الله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:40]، والقرآن لا يخاطب أقواماً قد ماتوا لا تقوم عليهم حجة، والأصل أن الإنسان تبع لمن قبله إن لم يعلن تبرأه منه.
فهؤلاء بنو إسرائيل أمة واحدة في تسلسل النسب، والله جل وعلا هنا يخاطب الأبناء ممتناً عليهم بنعمه على الآباء حتى يقيم الحجة عليهم، ويبين لهم أن الرب الذي امتن على آبائكم يطالبكم أن تتبعوا هذا النبي الأمي الذي ظهر بين أظهركم، وقد مر معنا أن حسان لما قال مفتخراً بمن ولد لامتُهُ العرب وقالت له: افتخر بمن ولدك، هو قال رضي الله عنه: ولدنا بني العنقاء وابني محرق فأكرم بنا خالاً وأكرم بذا ابنما فقال له النابغة الذيباني: يا ابن أخي افتخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدك والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنت ومالك لأبيك)، فنسبها إلى الأعلى، ولم يقل للأب: أنت ومالك لابنك هذا محال! فالمقصود: أن الله جل وعلا يمتن على الأبناء بما أنعم به على الآباء حتى تقوم الحجة وتتضح المحجة على أولئك الأبناء.
ومن أعظم ما من الله به على بني إسرائيل في الزمن السابق والدهر الفائت أنه منّ عليهم بالنجاة من كيد فرعون، وقد كان فرعون يسومهم سوء العذاب، يذبح الأبناء، ويستحيي النساء، فأغرقه الله جل وعلا وهم ينظرون إليه، ولم يعمل بنو إسرائيل لهذا ولا رمحاً واحداً، وإنما أغرقه الله جل وعلا بقدرته، وأنجاهم بفضله ورحمته حتى تقوم الحجة عليهم وقد أقيمت.
وبعض هذا العلم كما سيأتي لم يكن يعرفه حتى الأحبار فذكره الله جل وعلا على لسان الرسول المختار حتى تقوم الحجة، والقرآن حجة علمية على بني إسرائيل كما هو حجة لفظية على العرب، فهو حجة في كل شيء على كل أحد.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصل اللهم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(3/15)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [4]
فضائح اليهود كثيرة، وقبائح أفعالهم مشهورة، وأخبارهم مع أنبيائهم شنيعة، وقد ذكر الله طرفاً من فضائحهم وقبائحهم وأخبارهم في سورة البقرة، وفي ذلك فوائد كثيرة، ودروس عظيمة.(4/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فقد انتهينا إلى قول الله جل وعلا في الآية الخمسين من سورة البقرة: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50]، وذكرنا أن هذه الآيات جاءت تبعاً لنداء الله جل وعلا لبني إسرائيل في قوله سبحانه: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40]، كما ذكر الله جل وعلا بعضاً من أخبار بني إسرائيل ممتناً على الأبناء بما فضل الله جل وعلا به الآباء، فأقام الحجة عليهم وأظهر لهم المحجة.
ثم قال الله جل وعلا: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51] قد مر معنا ذكر الكثير من هذه الأخبار في شرحنا لسورة طه فلا معنى للتكرار، لكننا سنعلق قدر الإمكان مما يستوجبه المقام فنقول: (وَإِذْ وَاعَدْنَا) هذه فيها مفاعلة فكان الأمر من الله والقبول من موسى؛ ولهذا قال الله: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى)، فإن كلمة (واعد) تتطلب اثنان؛ فلهذا قال الله: (وَإِذْ وَاعَدْنَا) فكان الأمر من الله والقبول من موسى.
وبعض العلماء يقول: كان الوعد من الله والوفاء من موسى، واعد الله جل وعلا موسى عند جبل الطور في المدة التي كان فيها موسى يخاطبه ربه عند الميقات الزماني والمكاني، فاتخذ بنو إسرائيل العجل.
واتخذ: فعل يتعدى إلى مفعولين، واللغة مفتاح لفهم القرآن، فأحياناً تجد أمراً تستشكله لغوياً، ووجود الإشكال هو أول طرائق العلم، لأن العلم هو حل الإشكالات الموجودة، فلو قلت مثلاً: اتخذ يزيد التدريس مهنةً، فلو قلت: اتخذ يزيد التدريس، احتاجت الجملة إلى اكتمال إما أن يفهم من السياق، أو أن تقوله لفظاً.
والعجل هو صغار البقر، لو جاء إنسان واتخذ العجل طعاماً لضيفه فلا يمكن أن يحرج عليه فيه بل هذا هدي الأنبياء، فإن إبراهيم ذبح العجل إكراماً لضيفه، والله جل وعلا هنا يقول: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51] اتخذتم: فعل وفاعل، والعجل: مفعول به أول، لكن أين المفعول به الثاني؟ لم يذكره الله، لكن معلوم لكل أحد من سياق الآيات في سورة البقرة وطه وغيرهما أنهم اتخذوا العجل إلهاً يعبد من دون الله.
ومن طرائق القرآن في التشنيع عدم ذكر الشيء لشناعته، إذ لا يتصور عقلاً حتى يقع لفظاً، فالله لم يقل في القرآن: واتخذتم العجل إلهاً، إذ لا يتصور أن أحداً يعبد العجل بعد أن عرف الله؛ ولهذا لم يأت المفعول الثاني لاتخذ هنا ظاهراً، وإنما أضمر لبيان الشناعة في اتخاذه.
قال الله جل وعلا: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:51] في فترة الغياب اتخذ بنو إسرائيل العجل إلهاً.(4/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك)
قال الله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ} [البقرة:52] هذه منة {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة:52] أي: من بعد اتخاذكم العجل إلهاً، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:52] لعله يكون سبباً في شكركم.(4/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون)
قال الله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:53] كل ما مضى من الآيات المبدوءة: وإذ مبدوءة بإذ الشرطية تتعلق بالزمان ومعناها: واذكروا إذ، واذكروا إذ آتينا موسى واذكروا إذ جعلتم واذكروا إذ فرقنا.
قال الله تعالى: (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) من المعلوم أن الواو التي بين الكتاب والفرقان هي واو عطف، والأصل في العطف أنه يقتضي المغايرة، فهل الفرقان هنا غير الكتاب؟ الكتاب الذي أنزل على موسى هو التوراة، وبعض المفسرين يقولون: إن التوراة هي الفرقان، ويحتجون بآية سورة المؤمنون، ويقولون في العطف هنا: هذا عطف في الصفات لا في الذوات، وينزل التغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات، وهذا مر معنا تحريره فيما سبق، والمعنى: أن التوراة التي أنزلها الله على موسى وصفت بأنها كتاب، ووصفت بأنها فرقان، وممن رجح هذا العلامة الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في أضواء البيان، واحتج بقول الله جل وعلا: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1 - 3] فجاء بالعطف، والكلام كله عن إله واحد هو الله جل جلاله، لكن هذا تغاير في الصفات وليس تغايراً في الذات.
هذا ما اختاروه، والحق أنه يصعب علي قبول هذا هنا، فأرى أن الفرقان غير الكتاب؛ لأن الكتاب ليس صفة وإنما هو الاسم الأول الجامع للتوراة، والفرقان أو كونه ضياء صفات، فلو قال: وإذ آتينا موسى الفرقان والضياء لقلنا: إنها صفات لكن هذه تنزل عندي على قول الله جل وعلا: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] فآيات الله: القرآن، والحكمة: ما أعطاه الله نبيه من غير القرآن، وقطعاً مثل ما أوتي نبينا صلى الله عليه وسلم نوراً وفرقاناً غير القرآن يحكم به ويهتدي به فقد أعطي أنبياء الله من قبل كموسى وهارون مع التوراة شيئاً خاصاً بهم غير الكتاب الذي يتلى على قومهم، هذا الذي يترجح والعلم عند الله.(4/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة:54] أي: واذكروا إذ قال موسى لقومه: {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة:54] لم يأت معنا كلمة إله، لكن وضحت هذه الآية معنى (بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) أي إلهاً.
{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة:54] هنا أمرهم الله جل وعلا بقتل أنفسهم، والعلماء يقولون: أمر أن يقتل كل منهم أخاه، ويحتجون بآية: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] وتعبير النفس هنا: على الشخص الآخر، والذي يبدو لي أن المعنى أن كل إنسان أمر بقتل نفسه، {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:54 - 55] وكل هذه الأحداث التي ذكرها الله في كتابه كانت وبنو إسرائيل في أرض التيه بعد نجاتهم من فرعون، فمتى طلبوا أن يروا الله جهراً؟ لما عبدوا العجل وذهب سبعون منهم مع موسى {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف:155]، هؤلاء الذين ذهبوا مع موسى طلبوا من موسى أن يرو الله جهرة، وقال موسى كما في آية الأعراف: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} [الأعراف:155] والمقصود: على تجرئهم على المعاصي، والله قال لنبيه: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153]، والتعداد هنا لما حصل منهم، ولنعم الله جل وعلا عليهم.
ثم قال الله جل وعلا: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:56] وهذا بعث حقيقي بعد موت حقيقي، قال الشنقيطي: ولا يجوز صرف القرآن عن ظاهره إلا بدليل.
ثم قال جل وعلا: ((وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) [البقرة:57] هذا كله مر معنا في سورة طه.(4/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:58 - 59].
التاريخ مهم جداً في تفسير القرآن، مر معنا كثيراً أن بني إسرائيل لم يدخلوا الأرض المقدسة في عهد موسى، ودخلوها في عهد يوشع بن نون بعد موت نبي الله هارون ثم بعد موت نبي الله موسى.
وعندما تفسر توجد أمور متفق عليها، فلا يأتي عاقل يزحزح المتفق عليه ليقيم مقامه شيئاً مختلفاً فيه، هذا ليس بعلم، فمن المتفق عليه بين المفسرين وأهل السير أنهم لم يدخلوا الأرض المقدسة في عهد موسى، مع اختلافهم في القرية هنا، هل هي أريحا أو هي بيت المقدس، وليس هناك كبير فائدة في العلم بأي قرية هي منهما، لكن
السؤال
كيف ذكر هنا دخولهم القرية وأنت تقول: إنهم لم يدخلوها إلا في عهد يوشع بن نون؟!
الجواب
هؤلاء الذين أمروا أن يدخلوا القرية لم يكن معهم موسى، وإنما بعثوا من قبل موسى أشبه بالعيون -الجواسيس- حتى يكتشفوا الأمر قبل أن يبدأ موسى بالجهاد معهم، فهؤلاء الذين بعثهم موسى كأنهم شعروا أن فيهم شيئاً من المزية، وقد أمرهم الله أن يقولوا قبل دخول تلك القرية سواءً كانت أريحا أو بيت المقدس: مسألتنا وطلبنا ورغبتنا حطة، بمعنى: أن تحط عنا ذنوبنا يعني: غاية أمرنا منك يا ربنا المغفرة، فإظهاركم التذلل عند دخول الأرض المقدسة وأن تجئروا إلى الله أن يمحوا ذنوبكم سينجم عنه ما تنفعون به قومكم إذا عدتم إليهم، لكن أولئك القوم عندما ذهبوا بدلوا قول الله فغيروا في اللفظ؛ لأنهم كانوا يستخفون به ولم يروه ذا بال، وهذا -والعياذ بالله- ظن من المرء أن ما عنده حصل عليه بجهده وعلمه، ولو كان الإنسان عبداً حقيقياً فإنه يسلم لله أمره، وقد مر أن النبي لما علم ذلك الصحابي دعاء النوم فقال الصحابي والرسول يعلمه: (اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت, ونبيك الذي أرسلت) والصحابي قال: (ورسولك الذي أرسلت) فأعادها النبي وقال: (لا، قل: ونبيك الذي أرسلت) مع أنه لا يكون رسول حتى يكون نبياً، لكن المراد: أن بعض الألفاظ مقصودة لذاتها، إما تعبداً أو لحكمة خفية، فلا يجوز لأحد أن يقدم رأيه بين يدي الله ورسوله، فالمطلوب منهم كان أن يقولوا: غفران الذنوب مسألتنا، احمل عنا هذا الذي على كاهلنا، لكنهم غيروا في اللفظ، ودخلوا على غير ما أمرهم الله أن يدخلوا عليها، قال الله: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59] الفسق هو خروج عن الطاعة، وتبديلهم اللفظ نوع من الفسق.(4/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر)
قال الله جل وعلا: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة:60] كانوا بصحراء التيه فبدهي أن يعطشوا، والدنيا تتقلب بأهلها ما بين جدب وما بين إمطار، ففي لحظات جدب طلبوا من الله عن طريق موسى الغوث؛ فاستسقى موسى لقومه، فأمره الله أن يضرب بعصاه الحجر، قال الله: (فَانفَجَرَتْ مِنْهُ) تقدير الآية: فضرب فانفجرت؛ لأن الانفجار ما كان بالأمر، الأمر كان لموسى، فنفذ موسى أمر الله فانفجر.
ويذكر المفسرون هنا أي حجر هذا؟ لأن الألف واللام إما أن تكون للجنس فتشمل أي حجر، أو للعهد، والعهد ينقسم إلى قسمين: عهد لفظي وعهد ذهني، وقطعاً لا يوجد عهد لفظي؛ لأنه لم يذكر الحجر من قبل، فما بقي حمله -إذا قلنا بالعهد- إلا على العهد الذهني، فقال بعض العلماء: إنه حجر كان الله جل وعلا قد آتاه موسى، ونقل عن سعيد بن جبير: أنه الحجر الذي هرب بلباس موسى عندما كان موسى يغتسل، لكن الذي يبدو لي -والله أعلم- أنه حجر غير معين؛ لأنه لم يرد لفظياً؛ ولا يوجد من الحجارة ما يمكن حمل الأمر الذهني عليه، فلم يرد في القرآن أن هناك حجراً اختص به موسى، والمرجع في كلام الله إلى كلامه.
فقوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ} [البقرة:60] أي: ذلك الحجر، {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة:60] وكانت أسباط بني إسرائيل اثني عشر سبطاً، {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] فلا يختلطون، كل قبيلة، كل شعب يشرب من تلك العين، {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} [البقرة:60] كلوا من المن والسلوى واشربوا من الماء، {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60] العثاء في الأرض أشد أنواع الإفساد.(4/7)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة:61] هنا ذكر المفرد والمراد به المثنى، ما الطعام الواحد؟ المن والسلوى، {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة:61] مصراً جاءت منونة والمقصود بها أي مصر، وليس مصر المعروفة، وقد ذكر في القرآن مصر المعروفة، لكنها ليست المقصودة هنا.
وهذا الجواب غير متوقع: (فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) والمقصود منه: إثارة الحياة في الناس ورفع الذل عنهم، فهم تاهوا في الأرض بسبب معصيتهم، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة:22]، فتقاعسوا عن الجهاد: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، فهم لا يريدون أن يعملوا، ويريدون رزقاً فكان
الجواب
( اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ) أي: إن كنتم تريدون البقاء والحياة فلا بد بالأخذ بأسبابها والسعي، ولا تنتظروا أن ينزل الأمر عليكم والرزق لديكم، فأمرهم الله جل وعلا بالسعي، فلأمر ما منع الله منهم تلك المطعومات حتى يحيي في قلوبهم ما يرفعون به الذلة عن أنفسهم (اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ).
نعود إلى قوله جل وعلا: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] الباء هنا لحقت بالمبدل منه لا بالبدل، وقد شاع في أقوال الناس حتى عند بعض أرباب الفصاحة إلحاقها بالبدل، قال شوقي رحمه الله: أنا من بدل بالكتب الصحابا لم أجد لي وافياً إلا الكتاب هو أراد أن يقول: أنني تركت الأصحاب وأقبلت على الكتاب، لكنه جعل الباء في البدل، والصواب أن تكون في المبدل منه، قال الله: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) فالمبدل منه الذي هو خير، والبدل الذي هو أدنى.
والدليل على ما ذكرنا قبل أن الله أراد أن يحيي بهذا الجواب قلوبهم ليرفعوا الذل عن أنفسهم أنه قال بعدها: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة:61]، والضرب في القرآن وفي اللغة يأتي في قضايا الإلصاق واللزوم: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، يقول الفرزدق: ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل الضرب في اللغة: يراد به الإلصاق واللزوم، والله يقول هنا: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:61]، وكلمة (بَاءُوا) لا تأتي إلا في الغضب، لا تأتي في الأمر الحميد، وهذا أمر باق في بني إسرائيل إلى اليوم، فبرغم ما أعطاهم الله وأورثهم من أموال وسلطان ظاهر وقاهر على اقتصاد العالم وإعلامه إلا أنهم أخفياء، لا تكاد تعرف منهم أحداً، فهم غير مشاهير، أذلة في كل مكان، رغم أي سلطان يؤتونه عليهم التعب ولغيرهم أن يجني، وهم الآن متسلطون جداً على قرار اختيار الرئيس الأمريكي، لكن لا يوجد رئيس أمريكي يهودي، فهم يسعون وغيرهم يجني، فهم حتى في تسلطهم قل أن يحصدوا الثمرة العليا، يحصدون ما دونها، وهذا معنى قول الله: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ).
قال الله: {ذَلِكَ} [البقرة:61] أي: بسبب، {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة:61] ومن أشهر من قتلوه زكريا عليه السلام {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة:61].(4/8)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا)
قال الله جل وعلا بعد أن ذكر نتفاً من أخبار بني إسرائيل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62].
هذه الآية مشكلة، فكثيراً ما يحصل السؤال عنها، حتى قال بعض المعاصرين: الله أساغ الأديان كلها ولم يحصرها في الإسلام، الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]، من أين أتيتم بأن الله لا يقبل إلا ديناً واحداً؟! ويردون آية آل عمران! ونحن قلنا دائماً: نقض الشيء لا بد أن يكون بإقامة الحق مكانه، فنقول: هناك فِرَق وقت تنزل القرآن، ووقت نزول سورة البقرة، ونزول هذه الآية، وهم: المؤمنون: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واليهود، والنصارى، وعبدة النار الذين هم الصابئة، والمجوس عبدة النار، وقيل: إن الصابئة عبدة الكواكب، واختلف في تحديدهم، أياً كان الأمر فكان هناك ملل ونحل، والعبرة عند الله بالموافاة أي: بماذا تلقى الله، فلو فرضنا أن إنساناً دخل في الدين الإسلامي ومكث إلى قبل خاتمته ثم أعلن براءته من الإسلام فمات على غير الإسلام فهذا لا ينطبق عليه الوعد الرباني: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]، ولو أن رجلاً يهودياً قبل أن يوافي الله تاب وتنصل من يهوديته وآمن بالله واليوم الآخر فينطبق عليه قول الله جل وعلا: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]، فالله جل وعلا ذكر أهل الإيمان هنا مرتين متغايرين: الأول باعتبار دعواهم، والثاني: باعتبار موافاتهم بالإيمان والبقاء والثبات عليه، فالله يقول: إن الأمر والشأن بيني وبينكم أن تلقوني وأنتم مؤمنون بالله واليوم الآخر، سواء قلتم أنكم مؤمنون أو نصارى أو يهود أو صابئة، فإذا تنصلتم مما أنتم فيه وبقيتم على الإيمان بالله واليوم الآخر انطبق عليكم وعدنا: لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، وعبر الله هنا بضمير الغائب.(4/9)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور)
ثم عاد القرآن ليذكر أخبار بني إسرائيل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:63] رفع الطور كان وعيد حصل لموسى مع السبعين من قومه، رفع فوقهم حتى ظللهم كأنه يراد أن يلقى عليهم فتابوا لما رأوه، قال الله جل وعلا: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة:64] وهذه ظاهرة.(4/10)
تفسير قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت)
ثم خاطب الله علماء بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:65 - 66].
أهل السبت أخبر الله عنهم في سورة المائدة، وعبر عن تلك القرية بأنها حاضرة البحر، وهي مفردة جميلة جداً يحسن بطالب العلم أن يستخدمها، بدل أن يقول: مدينة ساحلية يقول: مدينة حاضرة البحر.
المحرم أحياناً يكون تحريم طريقة، وأحياناً يكون تحريم عين، فلا بد أن ينتبه الإنسان إلى ما هو المحرم حتى يجتنبه، فلا يكون في خلط كما هو حاصل الآن، فمثلاً: بيع التورق المعاصر، يرى بعض أهل الفضل أنه نوع من الربا، ويقولون: لم يتغير في الأمر شيء، أنت وصلت إلى مقصودك لكنك غيرت الطريقة، فإذا ناقشته استدل بآية المائدة: {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] إلى آخر الآيات، ووضع الأمر في نصابه مهم جداً، فالمحرم في التورق: الطريقة قبل وقوعه، أما التورق فلا حرج فيه، فكون الإنسان يريد أن يحصل على مال هذا ليس بمحرم، لكن إن حصل عليه عن طريق الربا فهو محرم، وإن حاد عن الربا ولجأ إلى طريق غير ربوية فلا حرج فيه، فلا تنطبق عليه الآية، وأولئك القوم لم يحرم عليهم الحوت، وإنما حرم عليهم الصيد يوم السبت، فهم احتالوا على أن يصيدوا يوم السبت، فلأنهم صادوا يوم السبت باحتيال جعلهم الله جل وعلا قردة خاسئين، وهذا مهم جداً في تلقي العلم وفهمه، وعدم العجلة في الحكم على الأشياء، وإن كان قد قال بحرمة التورق علماء أجلاء.
قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا} [البقرة:65 - 66] أي: هذا العذاب والنكال، {نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} [البقرة:66] أي: للذنوب الحاضرة، {وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة:66] أي: من ذنوب سلفت، {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:66] أي: ليتعظ بهم غيرهم.(4/11)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] هذه قصتها على الوجه التالي: الله جل وعلا له حكم وله قدرة، وأصل القصة أن رجلاً من بني إسرائيل قتل رجلاً ثم اختلف الناس في القاتل، فحتى يستدلوا على القاتل أمرهم الله أن يذبحوا بقرة، لكن الله لم يذكر قضية القتل في الأول، وإنما قدم قصة البقرة، قال العلماء: حتى يبين الله جل وعلا لعباده الحكمة قبل أن يبين لهم الحدث.
أمرهم الله جل وعلا أن يذبحوا بقرةً ثم يضربوا ببعض تلك البقرة بأي جزء منها ذلك الميت، فإن ذلك الميت سيبعثه الله وسينطق ويخبر بمن قتله، فأخبر موسى بني إسرائيل بذلك، قال الله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) أي: واذكروا إذ قال موسى، والبقرة جاءت هنا نكرة، والبقر: حيوان معروف أحد بهيمة الأنعام الثلاث: الإبل والبقر والماشية، أمرهم الله أن يذبحوا بقرة، فشددوا على أنفسهم: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] وأي جهل أن يخبر الإنسان عن الله ما لم يقله؟ {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ} [البقرة:68]، (ما هي) المقصود السؤال عن سنها بدليل
الجواب
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة:68] ليست مفرطة في السن ولا صغيرة، {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] أي: نصف بين هذين السنين، {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68].
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69]، يقال في الأصفر: أصفر فاقع، وفي الأسود: أسود حالك، وفي الأحمر: أحمر قانئ، وفي الأبيض: أبيض بقق، وفي الأخضر: أخضر ناضر، فالعرب تقول: أصفر فاقع، للدلالة على توهج صفرته، وأسود حالك، وأبيض بقق باء ثم قاف ثم قاف، وأخضر ناضر، وأحمر قانئ بالهمز قانئ، وهذه مفردات لغوية تثري ما أنت فيه.
وبعد أن سألوا عن سنها سألوا عن لونها: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:69 - 70] من الجواب تعرف عن ماذا سألوا، قال: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:70 - 71] يعني: سألوا: أسائمة هي أم عاملة؟ يعني: هذه البقرة علمنا أن سنها نصف، وعلمنا أن لونها أصفر، لكن هل هي سائمة ترعى أو هي عاملة في حرث؟ وقد حكى الله جل وعلا عنهم قولهم: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) والبقر مؤنث، ولم يقل الله: تشابهت، وهذا معاملة للفظ وترك للمعنى، فأحياناً يكون اللفظ دالاً على مؤنث لكن ليس فيه من علامات التأنيث الظاهرة شيء، وأحياناً يدل على مذكر وفيه من علامات التأنيث ما يدل عليه، مثل حمزة اسم لمذكر مع أنه ملحوق بتاء التأنيث، ومعاوية اسم لمذكر لكنه ملحوق بتاء التأنيث.
وكلمة نخل: مؤنث، لكن نخل ليس ملحق بها أي لفظ من ألفاظ التأنيث؛ ولهذا قال الله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20] ولم يقل: منقعرة، عاملها باللفظ لا بالمعنى، وهنا: عامل الله كلمة (بقر) باللفظ لا بالمعنى، باللفظ المذكر، لا بالمعنى المؤنث.
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ} [البقرة:71] لكنها في نفس الوقت لا تسقي الحرث، نصف في كل شيء: في سنها في كونها تثير الأرض حيناً لكنها لا تسقي الحرث، يعني: تعمل شيئاً وتترك أشياء، {تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] أي: ليس هناك عيب فيها هذا قول، وقول: ليس هناك لون يداخل الصفار الذي فيها {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71].
اختلف العلماء في قوله: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) هل هي عائدة على أنهم تعبوا ووجدوا مشقة في الحصول عليها؟ وهذا بعيد وإن قال به بعض أهل الفضل، ونحن نقول: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) أي: أنهم كأنما أكرهوا على هذا الأمر إكراهاً بدليل كثرة سؤلاتهم واعتراضهم على نبيهم.(4/12)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها)
بعد أن تم الأمر قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] وهذا أصل القصة {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73] أي: بعض البقرة {كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73] أراد الله من هذا الأمر بيان قدرته جل وعلا على إحياء الموتى، وهذا في زمن بني إسرائيل، لكن لو حصل هذا في زماننا يلجأ للقسامة، وهي باب معروف في الفقه.(4/13)
تفسير قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة)
قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] بعد أن بين الله لهم هذه الآيات الدالة على وحدانيته وعلى قدرته، وعلى أنه يجب أن يعبد دون سواه، وأن يخضع له بالقول والفعل: أخبر الله جل وعلا أن طول الأمد كان سبباً في قسوة قلوبهم، فعبر الله عن قسوة القلوب بالحجارة ولم يعبر عن قسوة القلوب بالحديد مع أنه قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، لكنك تلاحظ أن الله ألان الحديث لداود، ولم يلن الحجارة لأحد إلا لخشيته، فالنار أعاذنا الله وإياكم منها قادرة على الحديد لكنها غير قادرة على الحجر، فالحجر لا يذيبه الحديد فلما أراد الله أن يشبه قسوة قلوب بني إسرائيل جعل مثلاً لها الحجارة، قال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74].
ثم قال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [البقرة:74] وهذه منافع دنيوية، ثم ذكر مرتبة أعلى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، وهذا نعي على أصحاب القلوب القاسية، فإذا كانت الحجارة التي هي المثل الأعلى في القساوة يحصل منها أن تهبط من خشية الله فأي نعي لقلب من قلوب بني آدم الذي لا يلين من أجل ذكر الله! والله يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] والقلوب الحقة التي على الفطرة لا تلين بشيء كما تلين بذكر الله جل وعلا تبارك وتعالى.
قال الله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].
نعود إلى الحجارة: الحجارة ذكرت في مسودة التاريخ الإسلامي بطرائق شتى، من أشهرها: الحجر الأسود، قد جاء في الأثر أنه نزل أشد بياضاً من اللبن وسودته خطايا بني آدم، هو حجر أعطاه الله لإبراهيم حتى يجعله في ركن البيت، ومنه يبدأ الطواف.
وجعل حجراً من حجار مكة يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم كما قال في الحديث: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي بالنبوة).
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في سننه في حجة الوداع أن الحجر يرمى به، وهي الجمار، وهذا يقودك لشيء عظيم نبه عليه بعض الفضلاء: وأظنه الشعرواي رحمه الله قال: هناك حجر يرمى بأمر من الله ويرمى بحجر مثله بحصاة، وهناك حجر يقبل ويستلم ويبدأ منه الطواف وهو الحجر الأسود، فالعبرة في الأحوال الثلاث ليست ذات الحجر، وإنما العبرة أن نعبد ربنا جل وعلا كما شرع، فنحن نشخص بوجوهنا إلى القبلة في أي مكان نصلي فيه، ونحن لا نعبد الكعبة لكننا نعبد رب الكعبة، وهذه الحقائق التنبيه عليها جلي.
وفي بعض الدول يعلمون أبناءهم أن من عجائب الدنيا: الكعبة، ويريدون بذلك أمراً خفياً، فهم يقولون: إن هذه الكعبة من عجائب الدنيا السبع مثل حدائق بابل المعلقة، وأهرامات مصر، ومنارة الإسكندرية، وبرج بيزا المائل وأمثالها، ويقولون: إن الكعبة لأنها من عجائب الدنيا السبع فالعرب تعظمها، فأرادوا أن يلحقوا ما يحصل من الطواف بتعظيم وثني ناجم عن افتتان العرب بهذا البناء الذي لم يتغير على مر الدهور! لكن المسلمين إنما يعبدون رب الكعبة بطوافهم حول الكعبة، فهم يعظمون شعائر الله، وهذا يقودك إلى قول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32].
وبعض الناس -هدانا الله وإياهم- يقول: كيف لا يعظم النبي صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36]، فيقول في خطابه: ناقة وهي ناقة أمرنا الله أن نعظمها فكيف لا يعظم النبي صلى الله عليه وسلم؟! فنقول جواباً: إننا لا نعترض أبداً على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ينبغي أن يكون هذا التعظيم مصحوباً بالعلم، وشعائر الله كلها تعظم، لكن طرائق تعظيمها تختلف فهي مبنية على الشرع، فمن طرائق تعظيم الهدي نحره، فإراقة دمه وإزهاق روحه هذا نوع من تعظيمه قربة إلى الله، وتعظيم الكعبة بالطواف حولها، وتعظيم الحجر باستلامه وتقبيله، وتعظيم الركن اليماني باستلامه وتقبيله، ويفترق عن الحجر أنه يشار إلى الحجر لكن لا يشار إلى الركن اليماني، وتعظيم القلائد بتقليدها، والهدي أحياناً بإشعاره حتى يظهر فيه علامة تبين أنه هدي.
والمقصود من هذا كله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ريب أنه من أعظم شعائر الله، لكن يعظم صلى الله عليه وسلم بالطريقة الشرعية التي أمرنا الله بها أن نعظمه، فنحن نحبه ونجله، ولا نرى أن قول أحد من البشر يضاهي قوله، وأنه صلى الله عليه وسلم أحب إلينا بعد الله من كل شيء، أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا، لكننا نعظمه بطرائق شرعية مصطحبة، وهذا معنى قول الله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، والعاقل اللبيب يسير في الأمور دون أن تكون الأمور بين يديه مجتزئة يخلط بعضها ببعض، وهذه هي الفائدة العلمية لقضية جمع الأشياء بعضها إلى بعض، وإلحاق الأشباه بالنظائر حتى يسير الإنسان في طريقه إلى ربه على منهج سليم.
قال الله جل وعلا: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] هذا نوع من التهديد والوعيد لبني إسرائيل ولغيرهم.
وما ذكره الله جل وعلا من أخبار بني إسرائيل وإن كنا يخاطب به أبناؤهم الذين عاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الخطاب للأمة كلها أن تتقي الله ربها، وأن تعرف ما حل بالأمم السابقة فتجتنبه، وما كان سبباً في رفعتها فتأخذ به؛ ولهذا ضرب الله الأمثال، وأخبر الله جل وعلا عن السابقين وأنباء الغابرين حتى تتضح المحجة لكل أحد في طريق سيره إلى الرب تبارك وتعالى.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصل اللهم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(4/14)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [5]
ذكر الله في سورة البقرة كثيراً من الآيات التي تبين حقيقة اليهود، ومكرهم وخبثهم، وما انطوت عليه قلوبهم من الحسد والكبر والتمرد والطغيان.
فعلى المسلمين أن يحذروا منهم، وألا يغتروا بهم أبداً، وعليهم أيضاً أن يحذروا من الاتصاف بصفاتهم، فإنها سبب غضب الله عليهم في الدنيا والآخرة.(5/1)
تفسير قوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فما زلنا وإياكم نتفيء ظلال القرآن في سورة البقرة التي هي فسطاط القرآن، وقد انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74]، وذكرنا أن الله جل وعلا شبه القلوب القاسية بالحجارة، بل جعلها أشد قسوة من الحجارة، وبينا أن الله جل وعلا عدل عن تشبيه القلوب القاسية بالحديد؛ لأن الحديد له ما يلينه، قال الله جل وعلا عن نبيه داود: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، والحديد يلان بالنار، ولا يعرف أن الحجارة تلان بشيء آخر.
وقد بين الله جل وعلا أن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، وأن منها -وهو الأعظم- ما يهبط من خشية الله.
ثم ما زال السياق في الحديث عن بني إسرائيل، وسورة البقرة تحدثت كثيراً -خاصة في أولها- عن بني إسرائيل، وناداهم الله جل وعلا منتسبين إلى نبي الله يعقوب بن إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا يخاطب المؤمنين: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75]، مما استقر عقلاً وطبعاً وشرعاً أن الطباع تتوارث، والله جل وعلا يخاطب المؤمنين الذين لديهم طمع في إيمان اليهود المعاصرين لهم القاطنين في المدينة آنذاك، وهم ثلاث قبائل: بنو قينقاع وبنوالنضير وبنو قريظة.
وهؤلاء القبائل الثلاث لابد لطالب العلم من إدراكهم؛ لأن كثيراً من القضايا في القرآن والسنة والسيرة على وجه الخصوص لا يحل إشكالها إلا بالاطلاع في التاريخ كما سيأتي في تفسير الآيات القادمة.
لاحظ أن الله جل وعلا قال: (أفتطمعون) ولم ينه عباده عن الدعوة، وفرق بين الأمرين كبير، والمعنى أن هؤلاء اليهود المعاصرين هم على سنن آبائهم الذين كانوا مع موسى عليه السلام، وموسى عليه السلام هو من أنبياء بني إسرائيل العظام وليس أول نبي لهم؛ لأن يوسف كان نبياً لبني إسرائيل، فإن مؤمن آل فرعون قال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34] واستطراداً اسم موسى مكون من كلمتين: مو بمعنى ماء في العبرانية، وشي بالشاء معناها الشجر؛ لأنه وجد بين ماء وشجر في نهر النيل سمي بهذا الاسم، وفي العربية قلبت الشين سيناً، وأصبحت موسى، وبالعبرانية ينطقونها بالإمالة قليلاً، وهو اسم شائع عندهم إلى اليوم، فـ موشي ديان كان وزير الحرب الإسرائيلي في حرب 1976م، والآن موشى كاستاف الذي هو رئيس دولة إسرائيل، ليس رئيس الوزراء، رئيس الدولة اسمه موشي كاستاف، هذا كله تسمي بنبيهم السابق عليه الصلاة والسلام، فانظر حال القدوة وحال الأتباع، ولهذا نقم الله عليهم بسبب تغير حالهم.
أعود فأقول: الله جل وعلا لم ينكر، وليس في الآيات إنكار أصلاً، لكن هذا -إن صح التعبير- وعتاب رقيق للمؤمنين.
والمعنى أنت مكلف بأن تدعو كل أحد، ولا تحتج بأنه لن يؤمن، لكن لست مطالباً بأن تطمع في إيمان كل أحد، أنت مكلف بأن تدعو كل أحد، ولهذا موسى وهارون عليهما السلام دعوا فرعون مع علم الله جل وعلا الأزلي أن فرعون لن يؤمن، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا جهل بتكليف من الله مع علم الله الأزلي أن أبا جهل لن يؤمن، فالدعوة شيء، والطمع في الإجابة شيء آخر، فما كان في بعض نفوس المؤمنين من طمع دخول اليهود جملة في الدين هذا أبعده الله جل وعلا، وهذا على وجه مخاطبة الأمم على وجه الإجمال لا على وجه الإفراد، وهذا قيد مهم.
وقد ذكر الله علتين في سبب عدم وجود ذلك الطمع، علة أظهرها وعلة أخفاها، فالعلة التي أظهرها قوله جل وعلا: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75] هذه كلها علة واحدة.
والمعنى أنهم سمعوا كلام الله وعقلوه ثم حرفوه وهم يعلمون أنهم محرفون له، أي هم مصرون على التحريف، فإذا اجتمعت هذه الأربعة انتفى الطمع في إيمانهم، والخطاب هنا عن علماء اليهود وأحبارهم، هذه العلة التي أظهرها الله وهي علة مشاهدة للمؤمنين، ويجب أن يستصحبوها حتى لا يقع في قلوبهم طمع في إجابة أولئك القوم.
أما العلة التي أخفاها الله فهي علمه الأزلي أن هؤلاء لن يؤمنوا إذ لو كان في علم الله أنهم سيؤمنون لم يخاطب المؤمنين بألا يطمعوا بإيمانهم، فلو كان في علم الله الأزلي أنهم سيؤمنون لما عاتب الله المؤمنين في الطمع لأنه سيتحقق مراد الله القدري، لكن الله جل وعلا علم قدراً أنه لن يقع منهم إيمان، فكانت هذه العلة الثانية في نفي الطمع عن قلوب المؤمنين، لكنه تعبدهم بالثانية فأظهرها ولم يتعبدهم بالأولى فأخفاها.(5/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم)
قال الله عنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:76].
اختلف الناس في معنى الآية، فذهب فريق من العلماء ومنهم الحسن البصري وبعض السلف إلى أن المقصود منافقو اليهود.
وقال آخرون: إن هذه الآيات تنضم إلى ضميمتها في آل عمران: {آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72].
والذي نختاره أن هذا القول من أحبار يهود لمن لهم به علاقة من الصحابة، يقولون لهم: آمنا بهذا النبي كما في كتبنا لكنهم يستدركون قائلين: إنه نبي للعرب خاصة، ولسنا مكلفين بأن نؤمن به، فإذا عاد أولئك الذين قالوا هذا القول للصحابة يعاتبهم غيرهم ويقولون لهم: كيف تقرون لهم بأنه موجود في كتبكم: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:76].
(فتح الله عليكم) يعني أخبركم في التوراة عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخبرتموهم -أي العرب- المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار والمهاجرين، والأنصار على وجه الخصوص؛ لأنهم أكثر صلة وعلاقة باليهود كان ذلك إقامة للحجة عليكم.
ثم قال ربنا: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:76]، اختلف العلماء في قول الله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:76] هل هو خطاب من الرب للمؤمنين فيكون أشبه بالعتاب أو هو خطاب من الأحبار بعضهم لبعض؟ أنا أميل إلى الثاني أن اليهود يلوم بعضهم بعضاً على ما وقع منهم.(5/3)
تفسير قوله تعالى: (أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون)
قال الله جل وعلا معنفاً إياهم ومخبراً بأنه يعلم السر والنجوى: {أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة:77] أي لا يفزع إلى هذا الطريق، ولا يميل إلى هذه الجادة، ولا يقول بهذا القول من يعلم أن الله جل وعلا مطلع عليه يعلم سره وعلانيته.
وهذا أمر يجب أن يستصحبه المسلم، فالله جل وعلا أجل من أن يخادع: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] فالله يعلم سرهم ونجواهم {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] إلى غيرها من الآيات الدالة على عظيم علمه جل وعلا، وأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، فاستصحاب هذا الشأن العظيم من صفات الرب تبارك وتعالى يعين العبد على أن يصل بنفسه إلى طريق النجاة.(5/4)
تفسير قوله تعالى: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني)
كان الكلام فيما سلف عن الأحبار والعلماء، فانتقل الحديث إلى الدهماء والعامة، ومجمل ما أراد الله أن يقوله للمؤمنين: أمة هذا حال أحبارهم وعلمائهم فكيف يكون حال عامتهم ودهمائهم؟! قال الله: {وَمِنْهُمْ} [البقرة:78] أي غير العلماء.
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] أميون لا يجيدون القراءة ولا الكتابة عامة، ولهذا قال الله: (ومنهم) ليسوا كلهم؛ لأن اليهود يقرءون ويكتبون، لكن من يقرأ ويكتب منهم معدود في العلماء والأحبار، والحديث هنا عن العامة والدهماء.
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] أماني تحتمل معنيين: إما أنها مأخوذة من الأكاذيب والأغاليط والأحاديث، وهذا وارد في كلام العرب، قال كعب بن زهير: فلا يغرنك ما منت وما وعدت إن الأماني والأحلام تضليل فالعرب تجعل الأماني مرادفة للكذب والأشياء المتوهمة التي ليست لها حقائق ولا تثبت على حال.
فلا يغرنك ما منت وما وعدت إن الأماني والأحلام تضليل والبيت من قصيدة لـ كعب بن زهير مطلعها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول.
وكلمة بانت بمعنى بعدت، وليس بمعنى ظهرت، ومن يردد البيت ربما يغلب على ظنه أن المقصود ببانت ظهرت، ولو ظهرت لما قال ما قال في وصف قلبه، ولما ذكر نأي الديار وبعدها عن نظره، وأنه الذي أورثه قلباً مكلولاً وهماً وحزناً.
إذاً: أماني تأتي بمعنى الكذب والأحاديث، وتأتي بمعنى التلاوة، تأتي معنى التلاوة، قال الله تعالى: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] أي في تلاوته، قال حسان: تمنى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر ومعلوم أن عثمان رضي الله عنه قتل والمصحف بين يديه، وقد اشتهر عن عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه كان كثير قيام الليل كما قيل عنه: يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً.
فكان يقرأ في الليل، وحسان أراد أن يقول: إن عثمان استفتح ليله بقراءة القرآن، فقوله: تمنى كتاب الله ليس معناه أنه كان بعيداً عنه وطلبه وإنما كان يتلوه، لكنه آخر الليل لاقى حمام المقادر يعني الموت.
وحسان كان من أكبر المناصرين لـ عثمان، قال في نونيته بعد مقتل عثمان: لتسمعن وشيكاً في دياركم الله أكبر يا ثارات عثمانا إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ما دمت حياً وما سميت حسانا وينسبون إليه وفي نفسي شيء من هذا البيت وهو قوله: يا ليت شعري وليت الطير تخبرني ما كان بين علي وابن عفاناً لكني أظن أن هذا البيت قد زيد في مرحلة تاريخية ما، والتاريخ الإسلامي لا ريب أنه زيد فيه زيادات في كل مرحلة، وسلبت منه حقائق في كل مرحلة، بحسب مصالح أصحاب تلك المرحلة وأهل النفوذ فيها السياسية أو الدينية، ولهذا أحياناً يكتم العالم بعض علمه؛ لأنه لو أظهره لأبطل سلطان أقوام، وإبطال سلطان أقوام يجعلهم يتسلطون عليه، ولهذا ذكر أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن بعض علمه لو أظهره لقتل، أي لقتله بعض ولاة ذلك العصر، فيخسر الناس علمه بالجملة، وهذا من فقه أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، لا كما فهمه المشغبون على أهل الحديث فجعلوا هذه الكلمة مثلبة في حق أبي هريرة، لكن الإنسان إذا نظر إلى الأشياء نظرة باحث عن الحقيقة يوفق، وإن كان أراد أن يبحث ليوافق ما يريد أن يطلبه لن يجد شيئاً فيضطر إلى لي النصوص وإلى إعمال أشياء كثيرة فيها حتى تتفق مع مراده.
لا أريد أن أستطرد كثيراً فنعود للآية فنقول: هذا الاختلاف اللفظي في معنى أماني جعل العلماء يختلفون في معنى الآية.
قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78]، والمعنى أن من هؤلاء اليهود طائفة لا تفقه شيئاً، فهي إذا تلت التوراة أو قرئ عليها الكتاب لا تفهمه إلا كما تفهم الأقاصيص والأحاديث والأغاليط، ولا تقوم منها على بينة، وهذا هو حال الدهماء، وقد مر معنا حال العلماء.(5/5)
تفسير قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم)
قال الله جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] كلمة ويل يراد بها إيقاع الشر والهلاك، ولم يسمع من العرب فعل لها من لفظها، والأصل في اللغة السماع لا القياس، فمن جاء بشيء سمع عن العرب فقد أثبت الحجة.
الله جل وعلا يتوعد هنا قوماً من اليهود كانوا يكتبون الكتاب، وقبل قليل ذكرت أن التاريخ الإسلامي زيد ونقص منه، كذلك حال اليهود، في كل مرحلة زمنية الأحبار الذين كلفوا بحفظ التوراة يزيدون فيها ويضيفون وينقصون بحسب الحال التي هم فيها.
فمثلاً عندما لم يزعم العرب أن نبياً سيبعث منهم لم يلجأ اليهود إلى محو صفات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا حاجة تقتضي لمحوه، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في العرب ولم يظهر فيهم اضطروا إلى أن يغيروا ويكتبوا شيئاً آخر يضيفوه في التوراة ليبدلوا به الوصف الإلهي لنبينا صلى الله عليه وسلم حتى لا يغتر الأتباع به، فيقحمون أنفسهم في التوراة حتى يبقوا على سلطتهم الدينية والتشريعية والتنفيذية، فيتحكموا في أموال الناس، وهذا هو معنى الثمن القليل الذي قاله الله جل وعلا عنهم: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:79]، وقد حررنا ذلك الأمر في لقاء سابق.
فالله جل وعلا هنا يقول: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] فارتكبوا ثلاثة أمور: حرفوا ما سبق، وأضافوا من عندهم، واشتروا بما أضافوه ثمناً قليلاً بعد أن زعموا أنه من عند الله جل وعلا، وهذا من أعظم الفرية على الله تبارك وتعالى.
ومن تأمل هذا لا يتعجب من صنيع اليهود؛ لأنه إذا كان هذا حال آبائهم فحري بهم أن يكون هذا حال أبنائهم وأتباعهم وذراريهم.(5/6)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة)
قال الله جل وعلا بعد ذلك عنهم: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] اختلف في الأيام المعدودة وماذا أراد اليهود بها؟ مع أن الآية واضحة في أن اليهود يعترفون بوجود الجنة والنار وكذلك النصارى، قال الله جل وعلا عنهما: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111]، وقال الله جل وعلا عنهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113]، والذي يعنينا أن الله جل وعلا ذكر عنهم أنهم قالوا أن النار لن تمسنا إلا أياماً معدودة، وأشهر أقوال أهل العلم أنهم قصدوا بها الأيام الأربعين التي عبدوا فيها العجل، قصدوا أنهم يعذبون في النار أياماً معدودة وهن أربعون لعبادتهم العجل، وقال بعض العلماء أقوالاً أخر لكني لا أعلم مستنداً لها لا من النظر ولا من الأثر؛ فضربنا الذكر عنها صفحاً.
نعود فنقول: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80] هذا ترتيب منطقي، يعني زعمكم هذا مبني على أحد أمرين: إما أن يكون لديكم عهد من الله، وإما أن يكون قول افتريتموه على الله، فإذا ثبت أنه ليس لكم عند الله عهد فلم يبق إلا أن يكون قولكم فرية، {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} [البقرة:80] وليس لهم عند الله عهد.
{فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} [البقرة:80] كما تزعمون.
{أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80] يقول بعض العلماء: أم هنا للإضراب الانتقالي يعني بل تقولون على الله ما لا تعلمون، لكن الأفضل جعلها على الترتيب المنطقي الذي بيناه آنفاً.(5/7)
تفسير قوله تعالى: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته)
قال الله جل وعلا مجيباً لهم: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:81] (من) من ألفاظ العموم، فالقرآن أعظم من أن ينزل لقضية واحدة، والله جل وعلا ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، وهاتان الآيتان فاصلتان، قال الله: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة:81]، وقال بعدها: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:82]، والمعنى ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، كل أحد في كل مصر أو في كل عصر إذا اكتسب سيئة وأحاطت به خطيئته أي مات على الكفر فهذا مخلد في النار كائناً من كان، ولو كان والد نبي كأبي إبراهيم، أو ابن نبي كـ كنعان بن نوح، أو عم نبي كـ أبي لهب وأبي طالب، ومن آمن وعمل صالحاً ومات على الإيمان ووافى الله بالإيمان فهذا كتب الله جل وعلا له الجنة؛ لأن الله اشترط فقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:40] (أوفوا بعهدي) أي: امتثلوا أوامري.
(أوف بعهدكم) أي بالقبول والثواب، فهذا مآله الجنة أياً كان والده وأياً كانت أمه.
مثلاً العاص بن وائل السهمي كان من صناديد الكفار وابنه عمرو صحابي، وخالد سيف الله وأبوه الوليد بن المغيرة نزل فيه ما نزل من القرآن، فلا يوجد بين الله وبين خلقه تلك المعايير الموجودة في الدنيا، ليس بين الله وبين أحد من خلقه إلا الإيمان والعمل الصالح، وهذا ينبغي أن يستحضره المؤمن في كل آية يتلوها في كتاب الله.(5/8)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)
عاد الحديث الآن إلى الكلام عن بني إسرائيل الحاليين والسابقين، قال الله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [البقرة:83] وهذا مر معنا كثيراً أن الدعوة إلى عبادة الله وحده هي أس دعوة الرسل، وكل الرسل جميعاً دعوا إليها.
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] وهذه أول آية في القرآن ذكر الله جل وعلا فيها -حسب ترتيب المصحف- بر الوالدين.
{وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] القرآن يربي في الناس فقه الأولويات، فمن لم يعط حق الله لن يعطي حق الخلق، ومن منع الوالدين لن يعطي القريب، ومن منع القريب لن يعطي اليتيم، ولذلك من الفقه الخاطئ أن يوجد في الرجل صفة تدل على كذب الأول؛ لأن من ضيع حق الله وحق والديه والله لن يؤدي حق الناس، فإن صنع ذلك ورأيته بعينك بحيث لا يمكن لك أن تنكره فاعلم أن ما فعله لغرض دنيوي محض لا لهدي هو يقوم عليه، فرتب ربنا حقه ثم حق الوالدين ثم حق ذوي القربى، والعرب كانت تأنف من الرجل الذي يكون شره على قرابته، قال طرفة: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند والله قال لنبيه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، ونوح عليه الصلاة والسلام لما دعا قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] ثم قال الله تعالى: {وَالْيَتَامَى} [البقرة:83] هذا جمع يتيم وقد مر معنا الحديث عنه، والمساكين جمع مسكين، وهو من أذله الفقر وأعجزه فأصبح ساكناً.
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] الناس عامة المؤمنين والكفار، وهذا من تأديب الله للأمم السابقة واللاحقة أن الإنسان يكون قوله هيناً ليناً حتى يقبل منه، وقد قالت العرب: أبني إن البر شيء هين وجه طليق ولسان لين وأعجز الناس من عجز أن يحوي الناس بلسانه، قال المتنبي: لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال فالإنسان العاقل يحتوي الناس بكلامه حتى عندما يقول: لا، فيقولها بأسلوب مقبول تبين أنه لا يجد شيئاً، النبي صلى الله عليه وسلم عندما أتاه ضعفاء المهاجرين والأنصار في غزوة العسرة قال الله عنه: {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:92]، فالتعبير النبوي في الرد تعبير لطيف، وهذا مندرج تحت قول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] وقد كانت العرب تضرب الأمثال برجال معدودين يحسنون الخطاب، وبعضهم كان إذا أتاه سائل يقول له: الآن لا أجد، لكن أعطيك ورقة أن لك علي كذا، فإذا أصابتني حالة يسر عدت فأخذتها بمقتضى هذه الورقة! خالد بن سعيد بن العاص كان من أكرم العرب، أصابته فاقة وعزل من منصبه من المدينة، فذهب إلى قصره في وادي العقيق في عروة من بعض أودية المدينة جهة الغرب، وكان هذا الوادي يسيل وعليه قصور أكثر الناس من أهل الثراء كقصر سعد بن أبي وقاص، وهو راوي حديث: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) كان يقصد نفسه لما جاءه ابنه وأخبره أن الناس يقتلون على الخلافة وهو في قصره، وعندما مات سعد بن أبي وقاص حمل من قصره في غرب المدينة إلى الحرم على أعناق الرجال.
الذي يعنينا أن خالداً هذا لما عزل وكانت دار الإمارة بجوار المسجد النبوي رجع، فلك أن تتصور أميراً يعزل، لن يرجع معه أحد، الناس كانوا يلتفون حوله لإمرته، والآن لا مال ولا إمرة، لكن بعض الناس لا يقدر السلاطين على مناكفتهم بالكلية، فعندما رجع سار معه شاب فطن حتى وصل معه إلى باب القصر، فلما وصل معه إلى باب القصر قال: يا أخي! سم حاجتك، فإنك منذ اليوم ترافقني.
قال: والله! لا أريد شيئاً، قال: ولماذا سرت معي؟ قال: رأيت مقصوص الجناح فأحببت أن أعضدك.
فوقعت هذه الكلمة في قلب خالد موقعاً عظيماً، فقال له: أخرج ورقة، فأخرج ورقة فكتب له أن له عليه عشرين ألف دينار ديناً، ونادى غلاماً له ليشهد، ثم ختمها وأعطاها الغلام، فذهب الغلام، فمات خالد بعدها بقليل، وكان رجلاً من وجهاء بني أمية في عهد معاوية، وقد قال لابنه قبل أن يموت: اذهب إلى معاوية فإنه سيتكفل بديني، وأخبره أنت بنبأي، فلما مات خالد ذهب ابنه إلى الشام وأخبره بموت أبيه، ومعاوية وخالد كلاهما من بني أمية، فلما أخبره قال له: ما أوصاك؟ قال: أوصاني أن آتيك وأخبرك.
فقال: خيراً فعل أو حسناً دلك عليه، فأعطاه آلاف الدنانير ليقضي بها دين أبيه خالد.
فعاد ابن خالد إلى المدينة وأعلن في الناس بطريقة الإعلان آنذاك، حيث ينادي مناد أن يأتي الدائنون ليأخذوا ديونهم، فجاء التجار الذين كان بينهم وبينه معاملات، ثم جاء هذا الشاب ومعه هذه الورقة وفيها عشرون ألف دينار، وهو مبلغ كبير جداً، فلما أخذه الابن قال: ما أظن أبي يكتب هذا، أنت لست بتاجر، وإنما أنت صعلوك من صعاليك المدينة، كيف استحققت أن تأخذ على أبي هذا المبلغ؟ فجاء الشاهد وقال: أنا أشهد أنه صحب خالداً إلى قصره فسأله خالد: لم صحبتني؟ قال: رأيتك مقصوص الجناح فأحببت أن أعضدك فكتب له هذه الورقة، فأعطاه العشرين ألف دينار.
موضع الشاهد: من هذه القصة نص الله عليه في آية مكية؛ لأن البقرة مدنية، والقصة متأخرة في عهد بني أمية، قال الله جل وعلا: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ} أي: المساكين {قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28]، {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} [الإسراء:28] أي: شيء تؤمله من الله، ولا يوجد مؤمن عاقل يعرف الله إلا وهو يؤمل شيئاً من الله، فمقطوع الأمل من الله لا يعرف الله، الذي يعرف الله على حال استعداد أن تأتيه نعمة الله.
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} [الإسراء:28] أي المساكين.
{ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28] أي أجلهم إلى حين، قل لهم: ائتوني بعد غد ائتوني آخر الشهر لعلك تأتيني آخر السنة لعلك تأتيني في رمضان، وما أشبه هذه الكلمات التي تندرج في قول الله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83].
قال الله جل وعلا: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة:83] وهذه ظاهرة مر معنا كثيراً مثلها.(5/9)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم)
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:84 - 85].
الخطاب لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، وهم ثلاث طوائف، وكانت الحرب قبل الإسلام مشتعلة بين الأوس والخزرج، وتنبه جيداً لما سيأتي فلن تفسر الآية إلا إذا عرفت التاريخ، فقد كانت قبائل اليهود تلتزم الحياد، والحرب كانت بين الأوس والخزرج، وكانت الغلبة للخزرج كثيراً، والآن ضع نفسك مغلوباً مكان الأوس، تضطر أن تشرك الذين في الحياد وتجرهم إلى المعركة جراً، فذهبت الأوس تستنصر باليهود فرفضت اليهود وذكروا حيادهم، ولما علم الخزرج أن الأوس تستنصر باليهود ذهبوا إلى يهود قريظة والنضير وقالوا: نخشى أن تكونوا مع أبناء عمتنا، فأعطوهم المواثيق أنهم سيبقون على الحياد، فما اطمأنت الخزرج فطلبوا رهائن، فأعطت اليهود للخزرج أربعين غلاماً منهم حتى يضمنوا أنهم لن يشتركوا في الحرب، وفعلاً لم تشترك اليهود في الحرب، وبقي الأربعون غلاماً مع الخزرج.
والله يقول: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] فلما شعر الخزرج أن أربعين من اليهود تحت أيديهم، وقد غلبوا إخوانهم من الأوس أرادوا أن يتحولوا إلى مواطن سكن بني قريظة وبني النضير، فقد كانت أخصب أرضاً وأكثر نخلاً، فجاءوا لليهود وقالوا: زيحوا عنا قليلاً، نريد أن نسكن دياركم، فغم ذلك على اليهود، وقد هددهم الخزرج فقالوا: إن لم تقبلوا قتلنا الأربعين، فرجع اليهود إلى رجل عاقل فقال هذا الرجل واسمه كعب: يا قومي ابقوا على دياركم ونخلكم وأموالكم ولا تبرحوا منها، أما الغلمان فلا يلبث الرجل منكم أن يأتي أهله فيولد له غلام مثله.
أحد العرب كان مسافراً وترك وراءه زوجه وولدة وأباه وأخاه وجيرانه، فلما جاء قال: كيف حال الأب؟ قالوا: مات، قال: ملكت أمري، قال: أين الزوجة؟ قالوا: ماتت.
قال: تجدد فراشي.
قالت: أين ابني؟ قالوا: مات.
قال: آتي أهلي الجدد ويأتيني الله بغيره.
قال: أين أخي؟ قالوا: مات.
قال: قصم ظهري.
من أين يأتيه أخ؟ الذي يعنينا الآن أنه قال هذا العاقل: الغلمان تلد الأزواج غيرهم، لكن الأرض والديار والنخل ما الذي يعوضها؟ فقتلت الخزرج الأربعين، ودخلوا في حلف بني قينقاع، فاضطر بنو النضير وقريظة أن يدخلوا مع الأوس، وبمقتضى هذين الحلفين أصبح اليهود يقاتل بعضهم بعضاً؛ لأن بني النضير وبني قريظة في كفة، وبنو قينقاع في كفة أخرى.
والحرب لابد أن تنتهي وترتفع، قال الله عن هذا بقوله: {تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4]، ولا يعرف هذا التعبير قبل القرآن، فلما وضعت الحرب أوزارها لجأ اليهود إلى أن يفدوا أسراهم، ففدوا أسراهم، ما علاقة هذا بالآيات؟ أوجب الله عليهم في التوراة فداء الأسرى، وحرم عليهم أن يقتل بعضهم بعضاً، فمحرم أن يهودياً يقاتل يهودياً، فهم بصنيعهم هذا قاتلوا بعضهم، ففعلوا ما نهوا عنه، وقاموا بما وجب عليهم من فداء الأسرى، فعاتبهم الله تبارك وتعالى فقال: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، فأصبحوا فعلوا شيئاً وتركوا شيئاً، وما كان ينبغي عليهم أن يقاتلوا بمقتضى التوراة التي بين أيديهم.
فذكر الله تبارك وتعالى أنه حرم عليهم أن يخرجوا أنفسهم، والمعنى الملة الواحدة، والله جل وعلا جعل كل ملة كالنفس الواحدة، قال عليه الصلاة والسلام: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو) إلى آخر الحديث.
قال الله جل وعلا: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [البقرة:85] من ناحية الصناعة النحوية (تظاهرون) أصلها تتظاهرون بتائبين فحذفت إحداهما، ولا ريب أن هناك تاء زائدة وتاء أصلية، لكن اختلف النحاة البصريون والكوفيون في أيهما التي حذفت هل هي الأصلية أو الزائدة؟ فقال البصريون وإليهم نميل في الغالب: إن المحذوف الأصلية؛ لأن التاء الزائدة دخلت لمعنى، فلا معنى لحذفها، كيف أدخلها لسبب ثم أخرجها؟! وأما الأصلية فلا معنى لها لأنها من الأصل باقية.
وقال الكوفيون: إن المحذوف هو التاء الزائدة؛ لأنها أضعف، والأصلية هي الأقوى، فلا معنى لحذف الأقوى وبقاء الأضعف، واضح؟ وهذا كثير في القرآن، قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4]، والأصل تتنزل، وهذا تعريج نحوي على قول الله تعالى: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] ثم قال جل وعلا: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
(فما جزاء من يفعل ذلك منكم) اختلف في (ما) هذه هل هي استفهامية أو نافية؟ والحق أنها تحتمل الاثنين، ولا أستطيع أن أجزم بإحداهما، تحتمل أن تكون نافية، وتحتمل أن تكون استفهامية.
{فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85] هذه فيها قرينة ودلالة وشاهد على أن من الذنوب ما يعجل الله جل وعلا عليه العقوبة في الدنيا، وما كان سبباً في الذنب لا يمكن أن يكون سبباً في الرفع، فالذنب الذي هو أحد أسباب الابتلاء لا يمكن أن يكون هو نفسه سبب الرفع، مثلاً عندما يحصل الآن حرب أو يحصل أذى للمسلمين في أي قطر في أي مكان، وفي أي زمان، يأتي مجموعة من أهل الفن ومن دعاة الفجور العلني فيقيمون المظاهرات أو يقولون: سنفعل ونفعل، هذا بشرع الله لا يستقيم؛ لأن وجود هذه الأعمال التي يتبناها أولئك الأقوام هي من أسباب تسلط العدو، فلا يمكن أن يرفع البلاء بسببهم هم، إنما الذي يمكن أن يقدموه التوبة، عليكم أنتم أن تتخلصوا من ذنوبكم فيرفع الله عنا البلاء، ولا يعقل أن تكونوا أنتم مقدمين في قضية رفع البلاء عن الأمة! هذا محال؛ لأن أي عذاب وأي ابتلاء وتسلط عدو أو جدب ديار أو غيره هو بسبب الذنوب، ولا يلزم أن تكون محصورة في ذنب واحد، لكن ليس من المعقول أن يكونوا هم السبب في نزول البلاء ويكونوا هم أنفسهم سبباً في رفعه إلا أن يتوبوا، وهذه نقطة يجب أن يتنبه لها الإنسان، ولا يغتر بكثرة النفير الظاهر في الفضائيات والقنوات، علمنا الله وإياكم ما ينفعنا ونفعنا وإياكم بما علمنا.
وقوله تعالى: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} [البقرة:86] الأفضل حملها على عذاب الدنيا لأن عذاب الآخرة مستقر.
{وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:86] هذه يجب حملها على عذاب الآخرة؛ لأن النصرة قد تقع في الدنياـ فقد يسلط أهل الكفر حيناً على أهل الإيمان.
هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(5/10)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [6]
موسى وعيسى عليهما السلام من أعظم الرسل، وقد آذى اليهود موسى وكفروا بعيسى، مع أن الله آتى موسى التوراة وقفى من بعده بالرسل لبني إسرائيل، وآتى عيسى البينات وأيده بروح القدس، ولما جاءهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يعرفونه كفروا به فلعنة الله عليهم، ما أشد كفرهم! وما أقسى قلوبهم! وما ألأم طباعهم!(6/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل)
الحمد لله رب العالمين، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: ففي هذا اللقاء المبارك نتبع ما كنا قد تكلمنا عنه من تفسيرنا لسورة البقرة، وقد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} [البقرة:84] والآيتين اللتين بعدهما وهما في الحديث عن بني إسرائيل.
وقد مر معنا أن الله جل وعلا ذكر بعضاً من شنائع اليهود ثم أردفها ببعض أخبار اليهود المعاصرين لنبينا صلى الله عليه وسلم.
ومنها أن اليهود انقسموا إلى طائفتين في حرب بعاث بين الأوس والخزرج، فكل طائفة منهم مالأت إما الأوس وإما الخزرج، فنشأ عن هذا ضرورة اقتتال طائفتي اليهود؛ لأن كل فرقة منهم تبعت طائفة، ثم إن اليهود بعد أن وضعت الحرب أوزارها فدت أسراها، واليهود محرم عليهم أن يقاتل بعضهم بعضاً كما أنهم مأمورون بشريعتهم أن يفدوا أسراهم، فاليهود بصنيعهم هذا خالفوا تعاليمهم؛ لأنهم قتلوا بعضهم واتبعوا شرعهم بفداء أسراهم، وهذا هو الذي نقمه الله جل وعلا عليهم بقوله تبارك وتعالى: {أََفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، هذا هو معنى الآية، وقلنا: إن استصحاب التاريخ والأحداث معين لفهم القرآن، بل إن بعض آيات القرآن محال فهمها إلا بمعرفة سبب النزول وذكر الخبر وإلا لا سبيل إلى فهمها؛ لأن فهمها لا يتوقف على حل المفردات اللغوية، لكن لابد من خبر يوضح سبب النزول، وسيأتي لهذا أمثلة.
ثم قال الله جل وعلا بعد هذه الآيات: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة:87] قد مضى الحديث عن موسى، لكن جاء ذكر موسى هنا تمهيداً لا تأكيداً، فقال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [البقرة:87] المراد بالكتاب هنا التوراة.
ثم قال جل وعلا: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة:87] أي من بعد موسى {بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة:87] هذه الآية تحدث عند طالب العلم نوع إشكال؛ لأنه معلوم أن أكثر أهل العلم على أن الرسول من أوتي بشرع جديد بخلاف النبي الذي يسوس أمته على شرع غيره، أين الإشكال؟ الإشكال أن الله قال: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة:87] أي من بعد موسى {بِالرُّسُلِ} [البقرة:87]، فأطلق على أنبياء بني إسرائيل أنهم رسل ولم يأتوا بشرع جديد؛ لأنه لا كتاب مشهور لدينا بعد التوراة إلا الإنجيل، والإنجيل أفرده الله جل وعلا بقوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة:87]، وفي آيات أخر أن الله آتاه الإنجيل، هذا هو الإشكال! بعض العلماء يقول: يرفع مقامات بني إسرائيل؛ لأنها تفريع عن التوراة إلى مقام الرسل، وهذا جواب غير علمي، وأرى أن الجواب العلمي أن يقال: ليس الأمر حصر الرسل في بني إسرائيل، وإنما المقصود الحقبة الزمنية التي ما بين موسى وعيسى عليهما السلام، فقد بعث الله فيها رسلاً ليس إلى بني إسرائيل ولكن إلى من جاورهم من أهل بلدان أخرى كإلياس وذي الكفل، فالمعنى: {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة:87] زمناً لا أمة، أي جاءت رسل ما بين موسى وعيسى لكنهم ليسوا مبعوثين إلى بني إسرائيل، ولو كانوا مبعوثين إلى بني إسرائيل ويسوسون بني إسرائيل بالتوراة لا يطلق عليهم أنهم رسل.(6/2)
معنى قوله تعالى (وآتينا عيسى بن مريم البينات)
قال الله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:87] عيسى بن مريم نبي من أنبياء بني إسرائيل، وهو آخر الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، وسينزل في آخر الزمان كما حررنا ذلك في مواضع كثيرة، واسمه بالعبرانية يشوع أو يسوع، حرف العين في الأخير وهو حرف حلقي، ثم نقل إلى العربية عيسى، وصار حرف العين في الأول، وهذا يسمى قلباً مكانياً، والمعنى أن العرب لما نقلت اسمه إلى العربية أجرت عليه قلباً مكانياً، وسبب ذلك أن يشوع عند العرب كلفظة مفردة -لا كنبي؛ لأن العرب لم يكونوا مؤمنين- وجدوها ثقيلة من بابين: ثقل العجمة؛ لأنه ليس له معنى عندهم، وثقل التركيب، ثقل العجمة لأن عيسى اسم أعجمي غير عربي، وثقل التركيب، فأرادوا التخفيف فأجروا قلباً مكانياً، إذ لا سبيل لهم إلى العجمة، فالسبيل في التركيب الحرفي، فبدلوا بالتقديم والتأخير حتى يصبح مساغاً في نطقهم، فجعلوا الحرف الأخير في الأول فقالوا: عيسى، واجتمع عندهم حرفا علة الياء والواو فتخلصوا من أحدهما بالقلب فقلبوا الواو ألفاً وأبقوا الثاني كما هو فقالوا: عيسى.
هذه بعض الإجراءات التي أجراها العرب على الاسم، أما معناه عند العبرانيين فهو السيد المبارك، وهذا النبي اختصه الله بخصيصة لم تعط لغيره، وهو أنه لم ينتقل في أصلاب الرجال، بل كان محفوظاً في مقام لدني عند الله حتى بعث الله روحه مع جبريل لينفخ به في جيب مريم ابنة عمران أمه عليهما الصلاة والسلام.
عيسى بن مريم لم ينسب لأبيه؛ لأنه ليس له أب، ولم يتقلب في أصلاب الرجال، وهي خصيصة له دون من سواه، إذا استثنينا من ذلك آدم وحواء.
ومريم اسم أعجمي، وهو في العبرانية بهذا اللفظ مريم، ولم يجري عليه العرب عند نقله إلى العربية تغييراً مثل عيسى؛ لأنهم لم يروا في اسم مريم ثقلاً؛ فأبقوه على ما هو عليه، هذا من باب الصناعة اللغوية.
ومريم معناها المرأة المتباعدة عن الرجال، والعاكفة على خدمة الرب، وهي أول امرأة خدمت بيت المقدس، ومشهور أن أمها لما حملت بها كانت ترغب أن يكون حملها ذكراً حتى يخدم في بيت المقدس، ولهذا قالت معتذرة إلى ربها كما سيأتي تحريره في سورة آل عمران: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران:36]، فمن حرصها على الخير لما فاتها الشيء الذي لا تقدر عليه وهي أن يكون حملها ذكراً، فهذا لا سبيل لأم مريم عليه، فلما فاتها الذي لا تقدر عليه تمسكت بما تقدر عليه، فتقربت إلى الله أقل شيء بالاسم، فسمتها باسم من معانيه أنها تخدم الرب.
المرأة المتباعدة عن الرجال تسمى مريم، وضده من الرجال في العربية الرجل المتقارب من النساء، فالرجل إذا كان يقرب من مجامع النساء يسمى في العربية الزير، ومهلهل بن ربيعة يسمى الزير سالم، يقول رؤبة بن العجاج أشهر العرب في باب الرجز، والرجز أحد بحور الشعر يغلب عليه التخفيف، ويقوله كثير من الشعراء، يقول رؤبة لـ أبي جعفر المنصور في قصيدة رجز طويلة: فقلت لزير لم تزره مريم أي قلت لرجل له رغبة في محادثة النساء والعكوف لديهن لكن زوجته على النقيض منه، ولهذا سماها مريم؛ لأنها متباعدة عن الرجال.
ومن يبني المجد لنفسه إن كان رجلاً لابد أن يأنف من الرغبة أو المحبة لمحادثة النساء والقرب من مجامعهن، فمن ألف من الرجال مجامع النساء في الغالب يكون أبعد عن ذرى المجد، فمن ألفها بعد، فـ جميل بثينة كان يحب مجامع النساء؛ ولذلك الناس لا ينسبونه إلى مجد أكثر مما ينسبونه إلى امرأة! يقول في داليته المشهورة: يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد لكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيل عندهن شهيد قال الله جل وعلا: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة:87] هذا صفة لموصوف محذوف أي الآيات والمعجزات البينات، ومن أشهرها إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.(6/3)
معنى قوله تعالى (وأيدناه بروح القدس)
قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:87] اختلف العلماء في المقصود بروح القدس على أقوال: منهم من قال: روح القدس هو جبريل، وهذا هو قول الجمهور وكثير من الآثار تشهد له، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ حسان: (اهجهم وروح القدس معك) كما في الصحيح عندما رد على عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقول حسان نفسه: وجبريل أمين الله فينا وروح القدس ليس له كفاء هذا القول عليه الجمهور واختاره ابن كثير.
وبعض العلماء قال: إن روح القدس هو الاسم الأعظم الذي كان ينادي به عيسى عند إحياء الموتى، وهذا منقول عن ابن عباس، لكني لا أعلم سنداً صحيحاً به إلى ابن عباس، وهذا القول بعيد.
ويوجد قول يشهد له القرآن، وهو أن المقصود به الإنجيل، كيف يشهد له القرآن؟ قالوا: إن الله سمى القرآن روحاً {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] فقالوا: كما سمى الله القرآن روحاً فإن الإنجيل يسمى روحاً باعتبار الجمع بين القرآن والإنجيل بأن كليهما كتابان سماويان أنزلهما الله جل وعلا على نبيين رسولين من أنبيائه ورسله.
ومعنى القدس المطهر المنزه.
ثم قال الله بعد هذا التمهيد مخاطباً اليهود: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].
هوى بمعنى رغب وأحب ومال، ويستخدم في الشر أكثر مما يستخدم في الخير إلا أنه لا يعني ذلك أنه لا يستخدم في الخير، ومما يدل على أنه يستخدم في الخير قول عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) أي فيما ترغب من الخير.
هنا عنف الله جل وعلا على اليهود زعمهم أنهم متمسكون بأصل الإيمان، مع أنهم كانوا فيما مضى يقتلون أنبياء الله كزكريا، ويستكبرون على كثير من الأنبياء كموسى.(6/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا قلوبنا غلف)
قال الله تعالى: {وَقَالُوا} [البقرة:88] أي اليهود {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة:88] جمع أغلف، وهو من على قلبه غطاء وغشاوة، أي زعموا أن الذي يمنعنا من اتباعك ما على قلوبنا من الغطاء والغشاوة.
قال الله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88] أعظم ما تدل عليه هذه الآية أن تعلم أن من الجزاء ما يكون أعظم من الذنب، فهؤلاء اليهود اجترءوا على الله وعلى رسله؛ فعاقبهم الله على هذا الاجتراء بأن جعل قلوبهم لا تقبل الإيمان، ولا ريب أن الله جل وعلا إذا طبع على قلب أحد ولم يجعله يقبل الإيمان فهذه عقوبة وجزاء ظاهر القسوة، وقد صرف اليهود عن اتباع الحق لما اجترءوا على المعاصي، وعاقبهم الله جل وعلا بقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88] أي الذي جعلهم حقيقة لا يقبلون الحق ما أقامه الله جل وعلا عليهم من اللعنة حتى أصبحوا مطرودين من رحمة الله.
ونقرأ في كتب التعريفات أن اللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، والحق أن هذا التعبير على إطلاقه في النفس منه شيء، ولا يستقيم شرعاً وإن قال به أكثر أهل العلم؛ لأنه ينبغي تقييده بأن ينظر من الملعون، ثم المسألة مسألة نسبية، فقد يكون الطرد طرداً بالكلية، وقد يكون اللعن منعاً من دخول الجنة، وقد يكون اللعن حكماً على أحد بالنار، وقد يكون اللعن تخفيض منزلة وإنزال من درجة، وهذا أكثره يرد في حق أهل الإيمان، وعليه تحمل الأحاديث التي جاءت في عصاة المؤمنين، خاصة بعض الأعمال التي ليست في ظاهرها من الكبائر، وإن كان بعضهم يقولون: إن ذكر اللعن دليل على الكبيرة، لكن بعض الأحاديث فيها النهي عن شيء من غير الكبائر ومع ذلك ذكر فيه اللعن، فيكون اللعن هنا محمولاً على إنزال من درجة معينة، من درجة المقربين الأبرار أو من درجة أهل الفضائل أو ما أشبه ذلك إلى درجة أصحاب اليمين، لكن لا يكون طرداً كلياً كما هو معنى لعنة الله على الكافرين.(6/5)
تفسير قوله تعالى: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم)
قال الله جل وعلا: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة:89] المقصود بالكتاب هنا القرآن.
{مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:89] أي التوراة.
{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:89] الاستفتاح في اللغة يطلق على معنيين: الأول: طلب النصرة، والثاني الاستدراك على القارئ، فلما يقرأ الإمام في الصلاة ويقع منه سهو في آية تفتح عليه، أي تذكره بما نسي، فتعيد الآية حتى ينتبه من سهوه، هذا المعنى الثاني، والمعنى الأصلي لها والأول هو طلب النصرة، ويصبح معنى الآية على الأول أن بعض العرب كالغطفانيين لما كانوا يحاربون اليهود كان اليهود يستنصرون الله عليهم، فمن جملة ما يستنصر به اليهود ربهم أنهم يتوسلون إليه بأنهم هاجروا من أجل النبي الذي سيخرج في آخر الزمان، هذا معنى قول الله جل وعلا: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:89] أي يتوسلون إلى الله بأنهم خرجوا من أجل ذلك النبي الذي سيظهر في آخر الزمان.
أما على المعنى الثاني أي أن هؤلاء اليهود كانوا يقرءون في كتبهم على غيرهم أن نبياً سيكون في آخر الزمان دون طلب نصرة في الحرب، فالله عز وجل يقول: ذلك النبي والكتاب الذي كنتم تقرءون على الناس خبره جاءكم.
ثم قال: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة:89] بدليل أنهم كانوا يقرءون ذلك على الناس.
{كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89] ولم يبين الله إلى الآن سبب الكفر لكن سيأتي بيانه، {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].(6/6)
تفسير قوله تعالى: (بئسما اشتروا به أنفسهم)
ثم قال ربنا: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [البقرة:90] البغي: تجاوز الحد، ويكون بسبب الظلم، والظلم من أعظم أسبابه الحسد، وإلى الآن لم يصرح الله بالحسد، وإنما ذكر لازمه وهو البغي.
{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ} [البقرة:90] بئس فعل يفيد الذم.
وقوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة:90] أصابهم غضب على غضب، ولابد أن تكون هناك معصيتان: المعصية الأولى: عدم التزامهم بالتوراة، والمعصية الثانية: ردهم للقرآن، ثم قال الله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:90].(6/7)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله)
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [البقرة:91] أي القرآن.
{قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة:91] أي التوراة.
{وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة:91] أي بما سواه.
{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:91] الألف واللام في الحق للجنس، لكن ينبغي أن يفهم أنها تحمل هنا معنى الاشتهار، وأحياناً الألف واللام تتضمن معنى الاشتهار والعرف حتى يصبح كأنه معنى من معاني الحصر، قال حسان يهجو رجلاً: وإن سنام المجد من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد لم يقصد أن العبودية محصورة في والد المذموم، لكن قصده أن والدك اشتهر بالعبد فإذا أطلق لفظ العبد ينصرف إليه بصورة أولية، فالله يقول هنا: (وهو الحق) أي أن الحق إذا أطلق اشتهر به الدين والقرآن الذي جاء به محمد، لا حصر الحق فيه؛ لأن الله جل وعلا حق، فقال الله جل وعلا في هذه الآية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة:91] أي بما سواه.
{وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة:91] حال.
ويصح أن تقول في غير القرآن: مصدقٌ على أنها خبر، لكنها هنا حال مؤكدة على مذهب سيبويه، والحال تقع مؤكدة وتقع مؤسسة.
أراد الله أن يجيب عليهم فقال: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:91] معنى الآية من حيث الإجمال أنهم قالوا: قالوا أليس محمد يقول: إن التوراة حق؟ قلنا: بلى.
قالوا: إذاً بما أن التوراة حق فيكفينا أن نكون مؤمنين بالتوراة، ولا حاجة لنا بالقرآن، لأننا دخلنا في أصل الإيمان! هذا صنيعهم ودعواهم، قال الله جل وعلا لهم: إن التوراة لا يمكن أن تأمركم بقتل نبي، فإن كنتم تعتقدون أنه يكفيكم الإيمان بالتوراة: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:91] أي أن إيمانكم بالتوراة ليس إيماناً حقيقياً.(6/8)
تفسير قوله تعالى: (ولقد جاءكم موسى بالبينات)
قال الله يذكر اليهود ببعض معايبهم: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [البقرة:92] لاحظ ما قال: واتخذتم العجل، بل قال: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} [البقرة:92] أي: جاءتكم البينات فتدبرتموها زمناً، وبقيت في أذهانكم أزماناً، وفي قلوبكم شهوراً وأياماً وأعواماً، ثم بعد استقرارها قلباً وعقلاً ويداً وقراءة وتأملاً اتخذتم العجل! والعرب تقول مثلاً: اتخذ الرجل التدريس مهنة، فمهنة مفعول ثاني لاتخذ، لكن الله هنا لم يقل: ثم اتخذتم العجل إلهاً، بل حذف المفعول الثاني، وليس في القرآن كله ذكر أن اليهود اتخذوا العجل إلهاً، كلمة إله لا تأتي، والسبب في عدم ذكر المفعول هنا التشنيع على من اتخذوه، أي لا يتصور عقلاً ولا نقلاً أن أحداً يترك عبادة الله ويعبد عجلاً، فلما كان أمراً لا يتصور عقلاً ولا نقلاً أعرض القرآن عن ذكره إلا تلميحاً، فيذكر أوله ويترك آخره لشناعته.
قال الله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة:92].(6/9)
تفسير قوله تعالى: (وإذا أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور)
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:93].
هذه بعض الآيات والآلاء والمواثيق والعهود التي أخذها الله عليهم، وقد مرت معنا بالتفصيل.
{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا} [البقرة:93] ماذا قالوا؟ {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:93].
هذه استعارة، شبه الله جل وعلا تأصل حب العجل في قلوبهم وعبادتهم له كالمشروب الذي إذا استساغه العبد سرى في أعضائه، وقد قال العلماء: إن هذا لا يكون في الطعام كما يكون في المشروبات، ولهذا عبر الله عنه بقوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93].(6/10)
تفسير قوله تعالى: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس)
قال الله جل وعلا: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:94].
هذا رد على مزاعم اليهود، فهم يقولون: أن الجنة سيدخلها اليهود، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة، فمن كان على ثقة وبرهان عندهم أنه سيدخل الجنة فبدهي أن يتمنى الموت؛ لأنه لا يحول بين من كتب الله له الجنة وبين دخولها إلا أن يموت، فالله يقول لهم: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:94].
وهذه من الآيات التي تضمها إلى أخرى، فقد مر معنا أن أبا لهب عجز أن يقول: آمنت بمحمد، وهذه الآية أختها، فاليهود العلماء وغير العلماء منهم يعلمون قطعاً أن الأجل لا يقدمه أمنية ولا يؤخره خوف منه، الأجل محدود محتوم مكتوب، فسواء تمنيت الموت أو لم تتمنه، فهو حاصل في وقته، هذا أمر متفق عليه بين العقلاء، فالله يقول لهم: تمنوا الموت إن كنتم صادقين.
واليهود يعلمون أنهم لو تمنوه لن يقع إلا في وقته، ولو لم يتمنوه لن يقع إلا في وقته، فالتمني وعدم التمني بالنسبة لوقوع الموت واحد، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يتمنونه، وإلا لردوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: الله يقول: تمنوا الموت إن كنتم صادقين، وسنثبت لك أننا صادقون، اللهم ارزقنا الموت، لكنهم لم يتمنوه، فالله جل وعلا علم ما في قلوبهم، وقدر على ألسنتهم.
ومثل هذه الآيات تنبيك أن هذا القرآن من عند الله، وتقطع كل وسوسة أو شبهة تأتيك أن القرآن من عند غير الله، فهؤلاء أمة حسدوا النبي وبغضوه وحاربوه وقاتلوه، والله يقول لهم في آيات يسمعونها وهي تقرأ عليهم: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:94]، فعجزوا أن يقولوا: نتمنى الموت مع يقينهم أن تمنيهم للموت لن يعجل به، وعدم تمنيهم له لن يؤخره، هذا يعلمه كل أحد، ومع هذا عجزوا أن يقولوا ذلك حتى تكون رسالة واضحة لكل أحد أن القرآن من عند الله.(6/11)
تفسير قوله تعالى: (ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم)
قال الله: {وَلَنْ} [البقرة:95] هذه نفي.
{يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:95]؛ لأنهم علموا أن مصيرهم الهلاك في الآخرة بسبب أعمالهم، فهم لن يتمنوه.
ويتبادر إلى الذهن أن معنى الآية: لن يتمنوا الموت بسبب خوفهم من الآخرة؛ لأن الباء هنا سببية، فلا يتمنون الموت لأنهم يعلمون أنهم كاذبون في دعواهم أنهم سيدخلون الجنة، وأن مصيرهم إلى النار، وهذا ظاهر جداً، لكنني أقول: ليس هذا هو المعنى، وإنما المعنى: لن يقع منهم التمني حبساً من الله لهم بسبب معاصيهم، يعني أن الله جل وعلا منعهم أن تنطق ألسنتهم بالتمني الذي يردون به على النبي؛ لأن لهم معاصي اجترءوا بها على الله، فخذلهم الله جل وعلا ونكس بهم حتى إنهم لا يقدرون أن يقاوموا نبيه صلى الله عليه وسلم ويجادلوه، وهذا ظاهر.
قال الله جل وعلا: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:95] هنا نقف وقفة مرت مع جار الله الزمخشري في (لن يتمنوه أبداً) وهي منصوبة، فهو يقول: إن رؤية الله جل وعلا مستحيلة شرعاً وقدراً في الآخرة، وهذه الآية تبين خطأ ما ذهب إليه الزمخشري؛ لأن الله أثبت أن اليهود لا يتمنون الموت، قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} [البقرة:95]، وذكر في آية أخرى أن أهل النار يتمنون الموت: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، ومعلوم قطعاً أن اليهود من جملة أهل النار، فكونهم يتمنون الموت واقع لا محالة في الآخرة، ومع ذلك نفاه الله هنا، فالنفي هنا نفي في الحياة الدنيا ولا يستمر في الآخرة؛ لأنه يقع منهم تمني الموت في النار، فعلى هذا تبطل حجة الزمخشري بقوله: إن لن للتأبيد تفيد النفي في الدنيا والآخرة، ولو لم يكن هذا قائماً للحجة اللغوية التي قررناها فإنه محجوج بالنصوص والآثار القاطعة برؤية أهل النعيم لربهم تبارك وتعالى والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم.(6/12)
تفسير قوله تعالى: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة)
قال الله جل وعلا: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96] نسأل الله العافية.
اللام موطئة للقسم واقعة في جواب القسم، والمعنى: والله لتجدنهم، والنون نون التوكيد الثقيلة.
{أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] نكرت حياة لإرادة التنويع، والمعنى أي حياة.
{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [البقرة:96] أهل الإشراك يختلفون عن اليهود في شيء ظاهر، اليهود يؤمنون بوجود الآخرة {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، وأهل الإشراك لا يؤمنون بوجود الآخرة بل قالوا: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]، فإذا كان اليهود يؤمنون بوجود آخرة وأهل الإشراك لا يؤمنون بوجود آخرة فأيهما ينبغي أن يكون أحرص على أن يعيش؟ أهل الإشراك؛ لأن المشرك يعتقد أنه إذا مات انتهى بالكلية، لا بعث ولا نشور، بخلاف من يؤمن بالآخرة فإنه يعلم أن هناك بعثاً ونشوراً سواء كان في الجنة أو كان في النار، لكن أهل الإشراك لا يؤمنون ببعث ولا نشور، فعلى هذا بالعقل والنقل ينبغي أن يكون أهل الإشراك أكثر أهل الأرض تمسكاً بالحياة؛ لأنهم يعتقدون في قلوبهم ضلالة أنه لا حياة بعد هذه الدنيا، مع ذلك يقول الله: هؤلاء اليهود أحرص أهل الأرض على الحياة، بل أحرص من الذين أشركوا الذين لو أنهم كانوا حريصين على الحياة لكان أمراً مستساغاً مع عقيدتهم؛ لأنهم لا يؤمنون بأن هناك بعثاً ولا نشوراً، ومع ذلك هؤلاء اليهود الذين يؤمنون بالبعث والنشور من جهة، ويقولون أنهم أهل جنة، أحرص من أهل الإشراك على الحياة، وهذا يدل على تشبث اليهود بالحياة.
لكن ينبغي أن يعلم أن الحرص على الحياة من حيث الأصل موجود في كل أحد، تقول عائشة: كلنا يكره الموت، لكن المقصود من هذا الحرص هنا الحرص الذي لا طمع فيه مع رحمة الله، ذلك التشبث المبالغ فيه في الحياة الدنيا، وإلا كل إنسان عند نزع الروح يحب أن يبقى، ولذلك لو قدر لكم أن تكشفوا أوراق تحقيق في مسائل الانتحارات لا سيما الذين ينتحرون شنقاً تجد آثاراً تدل على أنه حاول أن يثني نفسه عن الانتحار بعد أن شعر بمنازعة الروح، إذا كان معلقاً في وسط الغرفة لا يظهر هذا، لكن إذا كان بجنب جدار يظهر نوع من ضربات أقدامه أو ظهره في الجدار، مما يدل على أنه كان يحاول قدر الإمكان أن يترك ما عزم عليه، متى يصل إلى هذه المرحلة؟ إذا شعر بمفارقة الروح، فيتشبث بالدنيا أكثر، وهذا من حيث الفطرة عام جبل الناس عليه.
ولو كان لأحد أن يتشبث بالدنيا أكثر مما هو فطري لكان أهل الإشراك؛ لأنهم لا يؤمنون ببعث ولا نشور، لكن يقسم الرب أن اليهود أشد حرصاً، ونحن نؤمن بكلام الله ولو لم يكن مصحوباً بقسم، قال الله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96].
وهنا نتوقف عند (لو) من حيث الصناعة النحوية: لأهل العلم في معنى (لو) هنا ثلاثة أقوال: مذهب سيبويه ومن وافقه من نحاة البصرة أن معناها حرف امتناع لامتناع، فإذا قلنا أنها حرف امتناع لامتناع فلابد لها من جواب، والجواب غير مذكور هنا فلابد أن يقدر، ويصبح المعنى: لو أن أحدهم عمر ألف سنة لسر بذلك، فتقدير
الجواب
لسر بذلك، ومفعول يود محذوف، وجواب لو كذلك محذوف، وقالوا: إن سبب الحذف الدلالة عليه، هذا مذهب سيبويه رحمه الله، وأنا في غالب اختياراتي النحوية أختار قوله إلا هنا.
وقال نحاة الكوفة كـ أبي علي الفارسي وأبي البقاء وغيرهم ممن تبعهم سواء كانوا كوفيين أو لا: إن (لو) هنا بمعنى أن المصدرية، فيصبح المعنى عندهم: يود أحدهم تعمير ألف سنة؛ لأن المصدر المؤول يعوض به عن المصدر الصريح، تقول: أحب أن أنجح أي أحب النجاح، فالنجاح مصدر عوضاً عن أن المصدرية وما بعدها، فهم يقولون: إن لو هنا قامت مقام أن المصدرية فيصبح المعنى: يود أحدهم أن يعمر أي: يود أحدهم تعمير ألف سنة، وهي بهذا المعنى لا تحتاج إلى جواب.
ومن قرائنهم أن يود جاءت مقرونة بأن، فجعلوا لو مقام أن؛ لأنه كثر في القرآن ارتباطها بالفعل يود، {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة:266] هذا مذهب نحاة الكوفة.
ومال الزمخشري هنا إلى أنها بمعنى التمني، وهذا هو القول الثالث أنها هنا بمعنى التمني، وهذا -والعلم عند الله- من حيث الصناعة النحوية أقرب إلى الإجابة؛ لأن تقدير الجواب الذي قال به سيبويه رحمه الله يحدث زلزلة في المعنى.
قال الله: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96] فطول العمر أو نقصانه لا يغير من الأمر شيئاً، وإنما يغير من الأمر العمل الصالح، وهذه مسألة إيمانية طرقناها في وقتها.
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96] الآية ظاهرة في المعنى، فإن الله جل وعلا يعلم الخفيات، ويدرك ما تحويه كل نفس، تبارك اسمه، وجل سلطانه، وعلا قدره، ولا رب غيره، ولا إله سواه.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول هذه الآيات المباركة، ويلاحظ من يسمعنا أو يشاهدنا أننا لم نقف كثيراً عند مسائل إيمانية، ونحن نجمع أحياناً بين الطرق الوعظي وبين الطرق العلمي بحسب ما يقتضيه الحال، وإنما يعرف الطرق جملة إذا ضمت الأشباه والنظائر بعضها إلى بعض، فأنا أتكلم في طريقة جزئية منفكة عن غيرها، ونؤسس لدرس منفرد، وهذه الدروس المباركة ينبغي أن يجمع أولها مع آخرها ووسطها، فيتحرر من ذلك معان جليلة أفاء الله جل وعلا بقولها.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(6/13)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [7]
اليهود لعنهم الله يعادون جبريل وهو الروح الأمين، وجعلوا من إنزاله الوحي على رسول رب العالمين حجة لهم في الكفر بالإسلام، وتكذيب القرآن، فلما تركوا الحق اتبعوا الباطل، وتعلموا السحر، واشتروا الضلالة بالهدى، فحق عليهم غضب الجبار سبحانه وتعالى.(7/1)
تفسير قوله تعالى: (قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى:4 - 5]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فكنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى الآية السادسة والتسعين من سورة البقرة، ونشرع اليوم مستفتحين بقول الله جل وعلا: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:97].
هذا ما زال الكلام في سياق الحديث عن اليهود، واليهود أئمة ضلال، وضلالهم مبني على ردهم للأشياء الواضحات والآيات الظاهرات، وهذا قوام ما هم عليه اليوم، ليس قوام دينهم الذي جاء به كليم الله موسى.
وقد ذكر المفسرون رحمهم الله في تفسير هذه الآية أن فئة من اليهود المستوطنين في المدينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا كثيراً ما يقدمون عليه وينادونه إما باسمه: يا محمد أو بكنيته: يا أبا القاسم، فجاءوه مرة على اعتبار أنهم ينشدون الهدى، فسألوه أسئلة فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم تبليغاً للشرع، وإقامة للحجة عليهم، فلما فرغوا من أسئلتهم وفرغ النبي من إجابته قالوا: بقيت واحدة.
(قال: ما هي؟ قالوا: من وليك من الملائكة؟ قال: وليي من الملائكة جبريل.
قالوا: هذا الذي ينزل بالحرب والقتال، لو كان وليك من الملائكة ميكال الذي ينزل بالقطر والماء لاتبعناك) ففرقوا بهذا القول بين ملائكة الله جل وعلا، وردوا على الله جل وعلا أمره، واعترضوا على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأنزل العلي الكبير قوله: (قل) والخطاب للنبي، {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة:97] ومناسبة الربط بين قول الله جل وعلا: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة:97] أن إنزال القرآن بواسطة جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم يستوجب موالاته لا معاداته عليه السلام، فهم تعاملوا بالنقيض، فجعلوا هذا الخير الذي أعطاه الله لجبريل موجباً للعداوة، ولم يجعلوه موجباً للموالاة وهو الحق، فأنكر الله عليهم صنيعهم هذا قائلاً: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:97] مصدقاً لما بين يديه من الكتب السماوية، ولما سيكون فيه من الأخبار الصائبة التي لا لبس فيها، فهو هدى للمؤمنين يبين لهم معالم الحق، ويحمل في طياته البشارة، وأعظمها وقوع وعد الله تبارك وتعالى.(7/2)
تفسير قوله تعالى: (من كان عدواً لله وملائكته ورسله)
قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:98] هذا تحرير وزيادة تفصيل، وهذا قول الملائكة عام ثم أتى بذكر الخاص فقال: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98] ما دل به على شرف جبريل وميكال عليهما السلام.
{فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] السياق اللغوي يستوجب أن يكون هناك إضمار لكن الله أظهر مبالغة في الشناعة على أولئك القوم، قال الله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] ولم يقل: فإن الله عدو لهم.(7/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليك آيات بينات)
قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة:99] ما جئت به أيها النبي الخاتم من آيات واضح جداً، فبينات صفة لآيات.
{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [البقرة:99] يعرف علماء اليهود قبل عامتهم أنها حق من الرب تبارك وتعالى، فكفرهم بها ليس لنقص في تلك الآيات لكن لما يحملونه في طياتهم من الفسق والخروج على الطاعة.(7/4)
تفسير قوله تعالى: (أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم)
قال الله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100] والتحرز في الخطاب القرآني وارد في أكثر الآيات، يقول الله: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران:113]، وهنا يقول الله: {نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100]، فكلمة فريق لا تعني الكلية، فاليهود كانوا أربع طوائف أشهرهم من كان مؤمناً بالله واليوم الآخر قائماً بالكتاب على أكمل وجه، وهذا سيأتي في قول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة:121]، ومنهم علماء يعلمون أنه الحق لكنهم أبوا الإيمان حسداً، ومنهم جهلة يتبعون علماءهم، ورابعهم فسقة متمردون حتى على شريعة موسى.
قال الله: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا} [البقرة:100] الهمزة هنا للاستفهام، والواو عاطفة، هذا مذهب سيبويه رحمة الله تعالى عليه، وقد تكرر نظير هذا في القرآن كثيراً.
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100] النبذ في الأصل لا يكون إلا بعد استلام وقبول، وهم قبلوا التوراة ثم بعد ذلك نبذوها وتركوها، فيكون النبذ إلقاء لشيء تحمله، وقد ذكر الله عز وجل أنه نبذ فرعون في اليم.
{نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100] وكلمة (بل) هنا للإضراب أي: للإنتقال أي أن الحق في صنيعهم أنهم لا يؤمنون.
ثم قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:101] كتاب الله المقصود به القرآن، تركوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، مع أنهم أهل علم، وكأن تفيد التشبيه، فلما لم يعملوا بعلمهم شبههم الله بمن لا علم له أصلاً.(7/5)
تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)
لما ذكر الله جل وعلا نبذهم للكتاب ذكر ما الذي تحلوا به، وبالعقل والنقل أن الإنسان حين يترك شيئاً لابد أن يملء يده بشيء آخر، فمن ترك السنة سيمتلئ بالبدعة، ومن ترك التوحيد سيمتلئ بالشرك، فلما ترك هؤلاء الهديين هدي التوراة من قبل وهدي القرآن في العصر الذي هم فيه ذكر الله جل وعلا عنهم أنهم اتبعوا الباطل على حال هم فيها تاركين الحق، تاركين التوراة، قال الله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:102] (تتلوا) هنا بمعنى تقرأ وتملي، لكنها تعدت بحرف الجر (على) والعرب إذا عدت القول بحرف الجر (على) يغلب على سنن كلامها أنها تقصد به التكذيب، تقول: تقول علي فلان ما لم أقله، تقصد التكذيب، فعديته بحرف الجر على.
قال الله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102] سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام أحد أعظم أنبياء بني إسرائيل، وبنو إسرائيل بعث فيهم يوسف عليه السلام ثم بعث فيهم موسى عليه السلام، وهو الذي خرج بهم من أرض مصر، ثم مكثوا أربعين سنة في التيه، وخلال الأربعين سنة التي قضوها في التيه مات هارون ثم مات موسى، ثم دخل بهم يوشع بن نون عليه السلام الأرض المقدسة، ثم وجد فيهم أنبياء لم يصرح الله بأسمائهم، لكنه ذكر أحدهم دون اسمه رفيقاً لـ طالوت، قال الله جل وعلا: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ} [البقرة:248] أي: ملك طالوت وهذا النبي في عهده، وعهد الملك طالوت ظهر داود عليه السلام، قال الله: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة:251] فآل الأمر إلى داود عليه الصلاة والسلام ثم آل الأمر بعد داود إلى سليمان.
والله جل وعلا يمايز بين عباده ويجعلهم مختلفين ولا نقول: متفاوتين؛ لأن الله يقول: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3] لكن الله نسب الاختلاف لنفسه، فقال: {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [المؤمنون:80] فالاختلاف لا يعني بالضرورة الذم، ويعطي الله كل أحد بعضاً من المناقب والصفات والخصائص، فأعطى داود حظاً كبيراً من العبادة، أحب الصلاة إلى الله، وأحب الصوم إلى الله، وأعطى سليمان حظاً كبيراً من الملك، وفي كل خير، ولكل أحد منهما مصلحة في زمانه، فربما كان الناس في زمن داود أحوج لملك عابد ونبي عابد يتأسون به، وفي زمن سليمان فتحت الممالك فكانوا أحوج إلى نبي قوي مسخر له وملك حازم فكان سليمان عليه الصلاة والسلام.
ومما أعطيه سليمان أن الله سخر له الجن، يقول الله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ:13] وقطعاً حملت الجن وشياطينهم الكفرة في قلوبهم ما حملوا على سليمان، فلما مات سليمان قامت الشياطين وأخرجت طلاسم كانت قد أخفتها، وزعمت بعد موت سليمان أن سليمان كان يحكمهم بهذه الطلاسم، فأخذوا يقرءون على الناس تلك الطلاسم مؤملين لهم أن يسودوا كما ساد سليمان، والترغيب في أن يسود الناس كما ساد سليمان هو المعبر والممر الذي من أجله قال الشياطين على سليمان ما قالوه، فطمع الإنسان في السيادة ثغرة جعلوها معبراً للقدح في سليمان عليه الصلاة والسلام، والشياطين لم يصرحوا بأن سليمان كان كافراً، وإنما صرحوا بأن سليمان كان ساحراً، والسحر قرين الكفر، ولهذا قال الله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102]، فـ (ما) في قوله جل وعلا: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:102] نافية، يريد الله بها تنزيه نبيه سليمان أن يكون قد تلبس بحال أهل السحر أو حال أهل الكفر.
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ} [البقرة:102] كفروا باتباعهم السحر، يعلمون الناس السحر (وما أنزل) وهذه (ما) موصولة، ولا يصح أن يبدأ بها، وقد حررنا هذا من قبل في دروس قد خلت ومضت، وذكرنا أن ما الموصولة لا يبتدأ بها، إذا ابتدئ بها لا يفهم منها إلا النفي؛ لأن الرسم الإملائي واللفظي واحد، فنقول عندما نقرأ: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:102] يصبح المعنى: يعلمون الناس السحر والذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، والذي أنزل سحر لكنه سحر معني فقط على ظاهر القرآن، ولا أجزم به سحر تفريق، أما السحر الأول فهو سحر موروث من قديم؛ لأن السحر كان منذ زمن موسى، والسحر المذكور في زمن موسى لم يذكر الله أنه سحر تفريق وإنما سحر استرهاب وتخييل.
فهؤلاء الشياطين يعلمون الناس السحر الموروث القديم والسحر الذي جاء به هاروت وماروت، قال الله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] أي أن هذين الملكين لا يعلمان أحداً طرائق السحر حتى يبينا له جادة الصواب، وأنهما بعثا فتنة للناس، والله جل وعلا مليك مقتدر، والخلق خلقه، والأمر أمره، والعباد عبيده، ومن حقه جل وعلا -ولا ملزم له- أن يبتلي عباده، وهو أعلم بمنافعهم ومصالحهم.
{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] وهذا دليل ظاهر على أن السحر كفر.(7/6)
معنى قوله تعالى (فيتعلمون منهما ما يفرقون بيه بين المرء وزوجه)
قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ} [البقرة:102] يعني من يرغب منهم.
{مِنْهُمَا} [البقرة:102] أي من الملكين.
{مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102] أي الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، وهذا نص ظاهر بأن السحر الذي جاء به هاروت وماروت سحر التفريق.
وقول الله جل وعلا: {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ} [البقرة:102] (ما) موصولة، وسمعت من بعض أهل التجربة القائمين على فك السحر من الناس من إخواننا القراء المتقنين، وهذا الباب قد فتح فتحاً واسعاً عياذاً بالله، أن (ما) تحتمل أربعة أشياء: تحتمل في سحر التفريق بغض الرجل لامرأته، وبغض المرأة لزوجها، والثالث عدم القدرة على الجماع، والرابع -وهذا الرابع في النفس من إثباته شيء- عجز المرأة عن الحمل، لكنني أقول إن (ما) في اللغة تحتمل هذا وأكثر، فلو ثبت شيء آخر غير الذي حررناه يدخل؛ لأن (ما) في اللغة تفيد العموم.
{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102] ولما كان الرب جل وعلا خالق الأسباب والمسببات فما كان لها أن تمضي إلا بإذنه.
قال الله: {وَمَا هُمْ} [البقرة:102] أي هؤلاء السحرة.
{بِضَارِّينَ بِهِ} [البقرة:102] أي بالسحر.
{مِنْ أَحَدٍ} [البقرة:102] أي من الناس، و (من) إذا جاءت بعدها نكرة والجملة مسبوقة فهذا من أعظم صيغ العموم.
{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ} [البقرة:102] أي: أي أحد.
{إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] ولا يمكن أن يقع شيء قدراً إلا بإذن الله.
{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ} [البقرة:102] فهم منها أكثر العلماء على أن السحر ضرر محض لا نفع فيه، والقرينة ظاهرة، فإن الله قال: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ} [البقرة:102] فلو سكت جل وعلا لفهم أنه قد يكون في السحر بعض المنفعة، لكن قول الله: {وَلا يَنفَعُهُمْ} [البقرة:102] هذا نفي للمنفعة، فدلت على أن السحر شر وضرر محض خالص، وممن صرح بهذا العلامة ابن سعدي رحمة الله تعالى عليه في تفسيره.
ثم قال الله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] أي: لا حظ له ولا نصيب، والاسم النكرة إذا جاء مسبوقاً بحرف الجر من والجملة منفية تعني النفي المطلق، وهذا من أعظم صيغ العموم في النفي، وهنا قال الله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا} [البقرة:102] هذا نفي.
{مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ} [البقرة:102] هذا حرف الجر، و {خَلاقٍ} [البقرة:102] اسم نكرة، فلما قال الله: {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] هذا نفي لأي حظ أو نصيب في الآخرة، ولا يقع النفي المطلق للحظ والنصيب في الآخرة إلا للكافر، وعلى هذا لا يتردد في كفر الساحر.
ثم قال الله: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102] هذا سياق ذم؛ لأن بئس من أفعال الذم، وهنا نفى الله العلم قال: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102]، وقبل قليل قال: {وَيَتَعَلَّمُونَ} [البقرة:102]، لكن لما كان هذا العلم لا ينفع جعله الله جل وعلا بمنزلة لا شيء من العلوم.
ثم قال الله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} [البقرة:103] مثوبة هذه أو خير تحتمل معنيين إما مثوبة بمعنى الجزاء فيصبح المعنى: ولو أنهم آمنوا واتقوا كان جزاء الله لهم خير.
وتحتمل معنى العودة والأوبة والرجعة إلى الله، أي أنهم لو آمنوا واتقوا ورجعوا إلى ربهم لكان خيراً لهم.
{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102].(7/7)
الكلام عن هاروت وماروت
قبل أن أطوي صفحة الحديث عن السحر يتكلم الناس كثيراً وبما هو موجود في بطون الكتب، ولولا أنه موجود في بطون الكتب لما عرجت عليه، وهو قضية أن هاروت وماروت عصيا الله جل وعلا، وبعض أهل الفضل على جلالة قدرهم يقبلون تلك المرويات فيشيعونها، وأنا في الدرس هنا بين أحد أمرين إن ضربت عنها الذكر صفحاً ولم أقلها لربما شاهدنا مشاهد كريم فقال لأخيه أو لجاره: إن الملكين هاروت وماروت عصيا الله، فإن قال له من بجواره: إن الشيخ لم يقلها ظن أن المسألة إما جهل أو إقرار، فكشف الأمر يكون أفضل في هذا السياق، فنقول: المرويات تنص على ما يأتي إن الناس في زمن إدريس قل عملهم فلم يرفع لهم كثير عمل صالح، ولهذا ورد أن إدريس كان يرفع له عمل صالح بمقدار عمل أهل زمانهم كلهم، فالملائكة في الملأ الأعلى عاتبت بني آدم على هذا، فذكر لهم الرب جل وعلا أن بني آدم طبعوا على الخير والشر، وليسوا مثلكم -أيها الملائكة- غير مطبوعين على الشر، وأنكم لو طبعتم على طبعهم لعصيتم، فاختارت الملائكة ملكين - وهذا حسب الرواية - هما هاروت وماروت، فركب فيهما التركيب البشري وأهبطا إلى الأرض، فلما أهبطا إلى الأرض تعلقا بامرأة يقال لها بالعربية: زهرة، وبالفارسية: مذخيت، فلما تعلقا بها بتركيبهما البشري طلبت منهما الزنا والشرب والقتل ففعل ذلك هاروت وماروت، ثم ندما، فلما ندما علماها كيف تصعد إلى السماء وكيف تنزل، فلما علماها -وفق الرواية- صعدت إلى السماء ثم نسيت، الذكر الذي علمها الملكان، فمسخت في السماء كوكب الزهرة المعروفة، ولهذا عند بعض الأمم كالإغريق يجعلون الزهرة إله الحب ورمز للحب! أما الملكان فندما وتابا إلى الله وتشفعا بإدريس -وكان حياً- أن يدعو لهما، فقبل الله دعاء إدريس لهما على أنهما يعذبان في الدنيا ولا يعذبان في الآخرة، فوافقا وقبلا، فهما الآن -وفق الرواية- في بئر في بابل تشد شعورهما إلى يوم القيامة.
هذا مجمل الرواية الموجودة في بطون الكتب، وأنا أعرف بعض أهل الفضل من الأحياء -متع الله بهم- يقبل مثل هذه الروايات أو يقول: ليست ببعيد، ونقل عن بعض سلف الأمة ذكرها ولا نقول: قبولها، وأنا أحررها الآن مجملة من عشرات المصادر، فأقول التالي: القصة لم تثبت بسند صحيح أبداً، ومع ذلك نحن من منهجنا أنه لا يشترط السند الصحيح في غير الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن القصة كذلك يردها العقل، فإن الرب تبارك وتعالى نزه الملائكة عن مثل هذه الأعمال، والإشارة القرآنية في ذكرهما عليهما السلام يدل على أن شيئاً من ذلك لم يقع، ولو كان وقع منهما فلن وقع ما يعبر عنهما بأنهما ملكان فيقال: وما أنزل على هاروت وماروت، ثم يمكن للناس بعد ذلك أن يخوضوا فيقولوا: إن هاروت وماروت أصلهما ملكان، لكن لما قال الله: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة:102] فالمستقر في أذهاننا وفق القرآن أن الملائكة لا تعصي الله ما أمرها، وتفعل ما تؤمر به، والله وصفهما بأنهما ملكان، ومادام الله قد وصفهما بأنهما ملكان فنحن نجري عليهما أحكام الملائكة حتى يأتينا دليل نذهب به هذا اليقين، ولا خبر ولا دليل ولا حجة يدفع بها هذا اليقين.(7/8)
تفسير قوله تعالى: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير)
قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:103].
هنا نقف على قضية الندامة، لأن الله ذكر أنهم لو فعلوا كذا لكان خيراً لهم، ومن الفوائد الاستطرادية أن الندامة تقع على أربعة أحوال: ندامة يوم، وندامة عمر، وندامة سنة، وندامة إلى الأبد.
أما ندامة يوم فيقولون: رجل خرج من بيته ولم يتغد فلا يدري هل يجد أحداً يغديه أو لا.
وندامة سنة رجل ترك الزرع في وقته، فليس له حل إلا العام القادم؛ لأن الزراعة موقوتة.
وندامة عمر شخص تزوج امرأة لا توافقه.
وندامة أبد من ترك أمر الله جل وعلا نسأل الله العافية.
ندامة يوم، ندامة عمر، ندامة سنة، ندامة إلى الأبد، وقاني الله وإياكم الأربعة كلها، وإن كانت الأولى أخفها.(7/9)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104].
السحر تمويه وتلاعب يقصد به خداع الناس والضرر بهم، وله حقيقة كما عليه جمهور أهل السنة سلك الله بنا وبكم سبيلهم، وناسب أن يذكر الله بعد السحر المحرم سحراً آخر يشمل نوعاً من التمويه، ولا نقول: سحراً بمعناه الحقيقي، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة:104].
العلماء رحمهم الله في هذه الآية على طريقين: طريق تجنبوا مسألة سبب النزول، وإنما رأوا للفظة ونقشوها مع قرائنها من السنة، ففي السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسموا العنب كرماً) وقال: (لا يقل أحدكم: عبدي وليقل: فتاي) فقالوا: هذا النهي من جنسه، النهي عن كلمة راعنا من جنس النهي عن تسمية العنب كرماً، وعن قول السيد لعبده: يا عبدي، وجعلوا كلمة راعنا مجرد كلمة كان يقولها المؤمنون فكرهها الله وأبدلهم غيرها وهي انظرنا، وهذا المسلك اختاره إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمة الله تعالى عليه.
والآخرون من العلماء نظروا للآية مع سبب نزولها وفق ما ثبت عندهم فقالوا: إن كلمة راعنا بمعنى تأن بنا وأعطنا سمعك وأشفق علينا، وهي توافق بالعبرية في لفظها كلمة سيئة عند اليهود، فلما رأت اليهود أن الصحابة يخاطبون النبي بهذا اللفظ صاروا يخاطبونه بها وهم يقصدون معناها في العبرية، وقال بعضهم لبعض: كنا نسب محمداً سراً واليوم نقدر أن نسبه جهراً، فلما أراد الله أن يقطع دابرهم ويسد الذريعة عليهم قال جل وعلا للمؤمنين في مخاطبة نبيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة:104] دفعاً لتوهم يهود، {وَقُولُوا انظُرْنَا} [البقرة:104] والمعنى في إجماله واحد، نقول للقائم بمصالح الوقف ناظر، والناظر القائم بتدبير مصالح الناس، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قائم بشئون أمته وشئون أصحابه في المقام الأول، فاللفظ قريب من معنى راعنا بل أفضل منه، فقطع الله جل وعلا بهذا الطريق على اليهود وما يريدونه من تلك اللفظة.
وهذا الذي يترجح عندي لسبب خارج عن النص، والمرجح إن كان من خارج النص يكون أقوى، فالآية التي قبلها والتي بعدها تتكلم عن اليهود كذلك تتكلم عن اليهود آية: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة:105]، ووضع هذه الآية بين هاتين الآيتين يرجح أن المسألة تتعلق باستعمال اليهود لهذه اللفظة.
{لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة:104] ولم يحدد الله المفعول، قال العلماء: حتى يعلم أن المؤمن مطالب بأن يسمع كلام الله جل وعلا ويمتثله أياً كان.
{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104].(7/10)
تفسير قوله تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين)
قال الله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105] يخبر الله عما في بطونهم وفي سرائرهم وما أخفوه من بغض وحقد للمؤمنين، وأن النبوة والرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم، والإتباع للمؤمنين، وهذا فضل عظيم من الله حسدتهم عليه يهود كما سيأتي تفصيله.
ثم قال الله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105] الله جل وعلا اختصك أيها النبي بالنبوة والرسالة وختم الأنبياء، واختص هؤلاء المؤمنين باتباعك، وذلك فضل الله جل وعلا يؤتيه من يشاء فكون اليهود أو كفرة أهل الكتاب جملة وكفرة أهل الشرك لا يبتغونه هذا لا يمنع فضل الله جل وعلا عليك.
وهنا مسألة مهمة جداً، وهي أنه من حق نفسك عليك أن ترقى إلى سلم المعالي، ولك في أن ترقى سلم المعالي طرائق من أعظمها ثقتك برحمة الله، وهذا ظاهر تكلمنا عنه كثيراً.
والجانب الآخر أن تكون رفيقاً بنفسك، لا تكن محبطاً لها، فإن وعدك لنفسك بتحقيق المأمول من أعظم ما يساعد على تحقيقه.
والحساد والشمات الذين يكونون حولك أخف عليهم سقطاتك وإخفاقاتك وفشلك؛ حتى لا يزيدوك غماً على غم، مصائب الدهر التي تسمع بها لا تجعلها بين عينيك بكثرة فإنها ستكون سبباً في سقوطك، يقول أبو القاسم الشابي: ركبت المنى وتركت الحذر لا تحاول أن تموت قبل أوانك، فالإكثار من الخوف من الموت هو موت قبل حلول الموت الحقيقي.
وإذا هممت فناج نفسك بالمنى وعداً فخيرات الجنان عداة واجعل رجاءك دون يأسك جنة حتى تزول بهمك الأوقات واستر عيوبك عن جلسائك فإنما جلساؤك الحساد والشمات إلى آخر الأبيات، وهي تدعو إلى أن الإنسان يكون عاقلاً لبيباً في طريقه للحياة، وفي طريقه للوصول إلى مجده، ولا يكثر من ذكر طرق الحوادث والإخفاقات حتى لا يصيبه بالإحباط، فالجنة -وهي أعظم مقصود وأجل مطلوب- هي وعد من الله، ومع ذلك اجعل تلك الأمور التي تنشدها وعد في أن تتبوأ مكاناً مرموقاً في أمتك تريد به وجه الله والدار الآخرة وينفع الله جل وعلا بك أقواماً ويضر بك آخرين من أهل الشرك والعصيان، واعلم وأنت في طريقك هذا أن الله جل وعلا وحده يملك الرحمة، وأن كره الحساد والشمات لرحمة الله عليك لا يمنع من وصولها إليك، قال الله: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2]، ولهذا قال الله في آخر هذه الآيات: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105]، ولا ريب أن علمك بعظيم فضل الرب تبارك وتعالى يعينك على أن تمشي خطواتك إلى الأمام حتى تصل برحمة الله جل وعلا إلى مقصودك.
وهذه الصفة وهي عدم حب الخير للغير صفة مشتركة لكنها بنسب ما بين أهل الكفر وما بين أهل الفسق والبعض من المؤمنين، وإن كان لا يستوي مؤمن وكافر لكنها أصل متحتم عند اليهود وكفرة أهل الكتاب جملة وعند المشركين، وقد يتلبس بها بعض المؤمنين في حسدهم لإخوانهم إذا رأوا فضل الله جل وعلا عليهم، لكنك لست مطالباً بأن تدفع حسد الناس عنك، لكن لا تجعل من شماتة الأعداء وحسد الحساد ما يعيقك عن طريق المجد الذي ترومه، ولكل هدف آلة، فخذ بالآلة وتوكل على الرب تبارك وتعالى وسر ولن يخلو ذو نعمة من حسد، وما أضر بالناس إلا حسد الحاسدين، فقد يقع شنئان حاسدك عليك من مكره بقدر الله لكن ادفعه بقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وكانوا يقولون: إن ملكاً كان عنده وزير مقرب يصغي إليه، وكان الوزير من أدبه إذا اقترب من الملك يدنو قليلاً ويخاطبه، فحسده بعض الوزراء، فقدم أحد هؤلاء الوزراء إلى الملك وقال له: إن الوزير أبا فلان يقول عنك إنك أبخر.
أي ذو رائحة كريهة في الفم، قال: وما دليل ذلك؟ قال: اطلب منه أن يدنو منك فإنك إن طلبت منه أن يدنو منك -أيها الملك- سيضع يده على فيه وأنفه تقززاً منك، فأضمرها الملك في نفسه، فلما كان من الغد وقبل أن يشرع الوزير في الدخول على الملك استدعاه الوزير الأول صاحب الوشاية، فأطعمه طعاماً كله ثوم، فلما دخل الوزير على الملك أراد الملك أن يختبره فأدناه منه وهو يقول له: اقرب اقترب ادن مني، فلما شعر أنه لا محالة من الدنو من الملك وضع يده على فيه حتى لا تخرج منه رائحة الثوم، فتحقق الملك من قول الواشي فغضب، وجرت سنة الملك آنذاك أنه إذا أراد أن يعطي عطية يكتبها في قرطاس، وإن كان يريد أن يعاقب يتلفظ به، لكنه في تلك المرة أخطأ فطلب قرطاساً وكتب فيه لأحد ولاته: إذا أتاك فلان فاقتله وابعث لي بجسده، فأعطاه الخطاب وخرج به، ولما خرج به قابله الوزير الواشي وهو يتلهف: ما الذي حصل؟ فلما رأى الخطاب في يده مختوماً قال: ما هذا؟ قال: هذا كتاب أعطاني إياه الملك إلى عامله فلان، فظن أنه عطية، فأخذ يتوسل إليه أن يهبها له، فوافق فأعطاه إياها، فمضى بها إلى العامل الوالي، فلما مضى بها إلى العامل وفك ختمه وقرأه قال: إن الملك يأمرني أن أقتلك، ولابد من فعل أمر الملك، فأخذ يتوسل إلى الوالي أن الخطاب ليس لي لكن الوالي نفذ رأيه وقطع رأسه.
وفي اليوم التالي دخل الوزير كعادته إلى الملك فلما رآه تعجب الملك لأنه ظن أنه قد قتل، قال: ما الذي عاد بك؟! قال: لم أذهب أصلاً، وأخبره القصة وكيف أن الخطاب أخذه فلان، قال: غريب أن تؤتيه إياه وقد قال عنك ما قال! قال: قد كذب، قال: فلم فعلت ذاك؟ قال: أيها الملك! كنت قد أكلت ثوماً عنده.
هذا مجمل القصة، فنجى الله هذا الوزير المقرب من حسد أقرانه بما انطوت عليه سريرته من حب الخير للغير، ومع ذلك نقول: حتى لو كنت حسناً باراً تقياً قد لا تسلم كما لم يسلم يوسف من حسد إخوته لكن العبرة بكمال النهايات، والله يقول {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] جعلني الله وإياكم من أهل التقوى، ونسأل الله التوفيق لنا ولكم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والحمد لله رب العالمين.(7/11)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [8]
الله عز وجل ينسخ الشرائع السابقة بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ونسخ كثيراً من أحكام القرآن بحكم كثيرة بينها العلماء.
إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أفضل الأنبياء بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أثنى الله عليه في سورة البقرة، وذكر إمامته ومسارعته في طاعة ربه، وذم من يرغب عند اتباع ملته، وهي الإسلام.(8/1)
تفسير قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:106 - 107].
هذه الآية تتكلم عن النسخ، ومناسبتها لما قبلها أن الآيات قبلها كانت تتكلم عن اليهود واعتراضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما كانت اليهود لا تجيز النسخ أصلاً وتمنعه في الشرع بالكلية ذكره الله جل وعلا هاهنا رداً على مزاعم اليهود وبياناً للأمة، قال الله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة:106] الجملة شرطية، والنسخ في اللغة: النقل، قال الله تعالى في سورة الجاثية: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] أي: نكتب وننقل، ويأتي بمعنى الإزالة، والمقصود أن الرب تبارك وتعالى: الأمر أمره، والشرع شرعه، وهو جل وعلا وحده دون سواه أعلم بمصالح عباده، فلما كان تبارك وتعالى أعلم بمصالح عباده، وهو المالك أصلاً حق له جل وعلا: أن ينسخ ما يشاء، وهذا من تسليمنا بكمال ربوبيته وألوهيته، وكمال أسمائه وصفاته، ولابد أن يقر به العبد؛ ولهذا النسخ لم يخالف فيه أحد من أهل الإسلام؛ لأن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ناسخة لما قبلها من الشرائع ومهيمنة عليها، لكن النسخ في القرآن جائز عقلاً وواقع سمعاً بهذه الآية وبقول الله جل وعلا: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل:101]، هذا كله من دلائل وقوعه مع ما جاء من الأحاديث، وليس هذا موضع سرد أدلة، ولم يخالف في مسألة النسخ في القرآن فيما يعلم من علماء المسلمين إلا عالم واحد هو أبو مسلم الأصفهاني رحمه الله، لكنا إذا استثنيناه فالإجماع منعقد على أن النسخ واقع في القرآن.
ويقسم أهل العلم رحمهم الله النسخ في القرآن على ثلاثة أقسام: الأول: منسوخ التلاوة والحكم.
الثاني: منسوخ التلاوة دون الحكم.
الثالث: منسوخ الحكم دون التلاوة، وهذا أكثره.
منسوخ التلاوة والحكم، ومنسوخ التلاوة دون الحكم، وهذا يمثلون له بما ورد في البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [كان فيما كان قد أنزل: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) قال عمر: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي]، فالرجم واقع بالاتفاق رغم أن الآية منسوخة تلاوة.
أما هو منسوخ الحكم مع بقاء التلاوة فهذا هو المقصود بالنسخ إذا أطلق، فإذا قيل: إن فلاناً يعرف ناسخ القرآن من منسوخه، فالمقصود هذا النوع الثالث.
وقد أجاب العلماء عن سؤال يقع: إذا نسخ الله الحكم كما في أكثر الآيات المنسوخة، لماذا أبقى الله جل وعلا التلاوة؟ وقد أجاب الزركشي رحمه الله في البرهان عن هذا التساؤل بإجابتين: الإجابة الأولى قال فيها ما معناه: القرآن كما أنزل ليُعمل به أنزل ليتلى ويتقرب إلى الله جل وعلا بتلاوته؛ لأنه كلام الله، فحتى الآيات المنسوخة حكماً هي من كلام الله.
الإجابة الثانية قال: إن غالب النسخ يكون تخفيفاً، فإذا تلا الإنسان الآية المنسوخة التي فيها التثقيل يرى رحمة الله على هذه الأمة حيث رفع عنها المشقة، وقد يكون هناك أجوبة غير التي حررها (صاحب البرهان) رحمه الله، لكن المقصود أننا نتعبد الله جل وعلا بكل أمر أمرنا به تبارك وتعالى.
قال الله: {أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106] قرئت بالهمز (ننسِئها) والمعنى: التأخير والتأجيل، وقرئت كما هو بين أيديكم: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106] فالنسيان هنا: ضد الذكر، أي أن الله، ينسي المؤمنين إياها، وهذا يدل عليه قول الله جل وعلا: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6 - 7].
ونحن -معشر المسلمين- متفقون على أن القرآن كله كلام الله، وبما أنه كله كلام الله فلا تفاوت فيه من حيث لفظه؛ لأنه جميعاً كلام الرب، فقول الله جل وعلا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة:106] ليس المقصود: أن آية أحكم من آية لفظاً ونظماً، لا، وإنما المقصود خيراً منها بالنسبة للعبد فيما ينفعه؛ لأن الله جل وعلا أعلم بمصالح عباده في العاجل والآجل، فإذا رأينا النسخ فيه نقل الأمة من الأمر الثقيل إلى الأمر الخفيف قلنا: هذا عاجل خير لهم ومنفعة في الدنيا، وإذا رأينا الآية نقلت من خفيف إلى أثقل مثل نقل الناس من صوم يوم عاشوراء إلى صيام رمضان، عرفنا أن فيه خيراً في الآجل، هذه النظرة العامة لقضايا النسخ.
بعد ذلك تتفرع أمور كثيرة ليس هذا مجال سردها؛ لأننا لا نريد أن يطغى فن على فن التفسير، وفن التفسير: هو أن يفهم القارئ مراد الرب تبارك وتعالى، هذه الغاية منه، وإذا تحقق للعالم أو للمتكلم أن يفهم الغير مراد الله تحقق المقصود من علم التفسير.
والعلماء جميعاً متفقون على أن القرآن ينسخ بالقرآن، لكن الخلاف هل تنسخ السنة القرآن، وهذا قال به الجمهور، ومنعه الشافعي رحمه الله تعالى.
والقائلون بأن السنة تنسخ القرآن اختلفوا في أمثلتها: فبعضهم يقول: لا يوجد مثال واضح صريح ظاهر، وبعضهم يمثل بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:180]، وجاء في الحديث: (لا وصية لوارث)، فهل هذا نسخ للآية أو تخصيص لها؟ فمن رأى أنه تخصيص لم يرَ أن الحديث ناسخ للقرآن، ومن رأى أنه نسخ جعل هذا الحديث مثالاً لنسخ القرآن بالسنة، والعلم عند الله.
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106] هذا خطاب للنبي، والمقصود به النسخ؛ ولهذا جاء بعدها: ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير، والولي والنصير بينهما خصوص وعموم، فالولي هو القريب، لكنه قد يكون عاجزاً عن أن ينصرك بمعنى: أنه يحب أن ينصرك لكنه عاجز، وأما النصير، فهو القادر على نصرتك، ولا يلزم أن يكون قريباً، قد يكون أجنبياً عنك.(8/2)
تفسير قوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى)
قال الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة:108]، السؤال يقع على قسمين: سؤال استرشاد وتعلم، وهذا نحن مأمورون به شرعاً، قال الله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43].
وسؤال المقصود به: الاعتراض والتعنت، فهذا نحن منهيون عنه شرعاً، قال الله جل وعلا: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]، وقال: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة:108].
ومن الأسئلة التي طرحها بنو إسرائيل على موسى والتي أرادها الله هنا قولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء:153].
{وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة:108] هذه ظاهرة وقد مرت معنا.(8/3)
تفسير قوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً)
قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109]، هذه الآية سبقت في اللقاء الماضي، في تفسير قول الله جل وعلا: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة:105]، لكنه صرح هنا بالحسد، والحسد يقع محققاً ويقع مقدراً، فالحسد المقدر هو حسدك من لم تصبهم نعمة بعد، وهو أشنع، والحسد المحقق هو حسدك لمن أصابته النعمة فتحب أن تزول عنك.
ثم قال الله جل وعلا: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة:109]، ما أقربها مما قبلها! هذه من الآيات المنسوخة، قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة:109] منسوخة بآية السيف في قول الله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191]، وفي قوله تبارك وتعالى في حق أهل الكتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] إلى أن قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، وقوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109] يدل على أنها منسوخة، فقد أتى الله بأمره في سورة التوبة.
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109] وهذا من تربية القرآن للمسلمين، عندما يعطيهم الأحكام ينبهم أن لا ينشغلوا عن الأعمال الصالحة، فبعد أن بين لهم طرائق أهل الكتاب وبين أن القرآن من عند الله وأن الرب تبارك وتعالى ينسخ ما يشاء ويثبت ما يشاء، قال جل وعلا: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:110] أي: أن معاقد الفلاح أيها العباد الصالحون محصورة في القيام بالأعمال الصالحة.(8/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى)
قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، كل صاحب دعوى يطالب بدليل وبرهان وإلا لا عبرة لدعواه، واليهود تزعم أن الجنة لا يدخلها إلا اليهود والنصارى تزعم أن الجنة لا يدخلها إلا النصارى، فرد الله قولهم، وطالبهم بالبرهان، ولا برهان فأضحوا كاذبين، والله إذا دفع باطلاً أقام الحق مقامه.
قال الله بعدها: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:112] فجمع الله في هذه الآية المباركة شرطي العبادة، {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة:112] المقصود به: الإخلاص {وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة:112] أي: المتابعة بالشريعة، أي: عبد الله بما شرع: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112].(8/5)
تفسير قوله تعالى: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء)
قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:113] لماذا قال الله: (وهم يتلون الكتاب)؟ لأن التوراة تخبر أن الإنجيل حق، والإنجيل يخبر أن التوراة حق، فكل منهم كاذب في دعواه، كل منهم لم يمتثل بالأمر الذي شرعه الله، قال الله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:113] من المراد: بالذين لا يعلمون؟ اختلفت أقوال أهل العلم فيهم: قال ابن جرير الطبراني رحمه الله: هي عامة في كل أحد، ممن قبل اليهود والنصارى، وممن بعدهم، وممن كان بينهم كمشركي العرب، وممن قال ذلك بعدهم من مشركي العرب، {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة:113].(8/6)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114] معنى الآية: لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، وهذا استفهام استنكاري، ومن المقصود به؟ الأولى جعله عاماً، والبعض قصره على بختنصر وما صنعه باليهود، وبعضهم يقولون: هو ما صنعته اليهود في النصارى أيام حكمهم في بيت المقدس، وبعضهم يقول: هو ما أراده أبرهة من هدم الكعبة، وبعضهم يقول: هو ما صنعته قريش يوم الحديبية من ردها للنبي صلى الله عليه وسلم.
والأضبط أن يقال هي في حق كل من سعى في خراب مساجد الله، قال ابن سعدي رحمه الله: الخراب في مساجد الله إما إفساد معنوي، وإما إفساد حسي.
فالإفساد الحسي: بهدمها ونسفها لا مكن الله أحداً من ذلك.
والإفساد المعنوي: بمنع عباد الله من إقامة الصلوات فيها، وهذا صرح الله به في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ} [البقرة:114] فجعل الله جزاءهم أنهم لا يدخلونها إلا خائفين، ولهذا لا يقبل دخول غير المسلم إلى المسجد إلا في حالة أسر أو إذا كان رسولاً من عند ملك، وعليه الذلة، ويعطى أمان مؤقت، قال الله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114].(8/7)
تفسير قوله تعالى: (ولله المشرق والمغرب)
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:115] خص الله جل وعلا هاتين الجهتين؛ لأنهما يتعلق بهما ما يصدع من أنوار، وهو إظهار لكمال قدرة الله جل وعلا وأنه رب الأشياء كلها.
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، هذه الآية: تثبت أن للرب تبارك وتعالى وجهاً على الصفة التي تليق بجلاله وعظمته، وصرح بهذا القرآن من غير نكير ببرهان واضح، قال الله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، وقال: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وهذا تأصيل لابد منه.
لكن: هل المقصود بقول الله جل وعلا: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] صفة الوجه المتكلم عنه أو المقصود الجهة كما يقال: فلان بان من هذا الوجه يعني: هذه الجهة؟ بعض العلماء يقول: إن المقصود هنا: وجه الله، ونحن اتفقنا أن لله وجهاً يليق بجلاله وعظمته، لكن بعض العلماء يقول: إن القرائن في الآية لا تدل على أن المراد هنا وجه الله مع إثباتنا صفة الوجه للرب تبارك وتعالى، لكن نقول في هذا السياق: المقصود بلفظة: (وجه) هنا الجهة، ويحتجون بأن الله ذكر قبلها، قوله: ((وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)) فذكر الجهات قبله، ومال إلى هذا أقوام، ومال إلى هذا أقوام، وكلا الفريقين من أهل السنة ممن قال بأحد هذين القولين متفقون على أن لله جل وعلا وجهاً هو أكرم الوجوه، ولله الاسم الأعظم، والوجه الأكرم، والصفات المثلى.(8/8)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الله ولداً)
ثم قال الله حكاية وتشنيعاً على بعض أهل الكفر: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة:116]، وهذا حررناه من قبل: فاليهود قالت: عزير ابن الله، والنصارى قالت: المسيح ابن الله، ومشركو العرب قالوا: الملائكة بنات الله.
{سُبْحَانَهُ} [البقرة:116] هذا تنزيه مر معنا كثيراً.
{بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:116] لام الملك المطلق.
{كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116] القنوت يقع على ضربين: الضرب الأول: قنوت خضوع وذلة، وهذا يشترك الخلق جميعاً فيه وهو المراد بالآية.
الضرب الثاني: قنوت عبادة وطاعة، وهذا من خصائص عباد الله الصالحين، قال الله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].
ثم قال الله بعدها: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] أي: خلقهما على غير مثال سبق، {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: منشؤهما وخالقهما على غير مثال سبق، {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117].(8/9)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله)
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:118] أي: من جهلة أهل الكتاب، والمشركين، والمنافقين، ومن كان على دربهم، {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة:118] هذا يدل على الكبر من جهتين: أنهم يقولون: نحن لا حاجة إلى أن يبعث إلينا رسولاً يكلمنا أنك رسول، فلما عجزوا عن هذه لجئوا إلى الثانية، فقالوا: أقل القليل أن نكون نحن وأنت سواء، فكما تأتيك الآيات تأتينا نحن الآيات، فإن اعترفت أن الله يكلمنا فلا أقل من أن نكون نداً لك.
{أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة:118] من الأمم السابقة.
{تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118]؛ لأن التشابه فيما يصدر من الإنسان يدل على التشابه فيما تكنه القلوب -عياذاً بالله- {قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة:118].
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة:119] هذه ظاهرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالدين الحق، مبشراً بالجنان محذراً من النار، ولا يسأل عن أصحاب الجحيم أي: ليس عليك شيء لعدم إيمانهم، وإنما أنت مبلغ كما قال الله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22].(8/10)
تفسير قوله تعالى: (ولن ترض عنك اليهود ولا النصارى)
قال الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] هذا قطع بكل علائق أحد أن ترضى عنه اليهود أو النصارى.
{حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] حتى تكون يهودياً مع اليهود ونصرانياً مع النصارى، ومن صنع ذلك خرج من ربقة الإسلام.
{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120]، هذا ضرب مثال فقط، وإن الله جل وعلا يعلم أن نبيه لم يصنع هذا، فالله يقول: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] لكن المقصود منها: بيان أنه لا علاقة بين الله وبين أحد من خلقه إلا بالإيمان والعمل الصالح.(8/11)
تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته)
قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121] لما مررنا على قول الله جل وعلا {نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100] قسمنا أهل الكتاب إلى أربعة أقسام، وقلنا: منهم المؤمنون به وهم المقصودون هنا، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:121] أي: الذين يستحقون أن يطلق عليهم أصلاً أنهم مؤمنون بالكتاب هم العاملون به التالون له.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:121] ثم ذكر الله آيتين هما مثل السابعة والأربعين والثامنة والأربعين اللتان مرتا من قبل، وقد تكلمنا عنها.(8/12)
تفسير قوله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن)
قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، الآن نحاول أن نفقه شيئاً من تعامل هذا العبد الصالح مع ربه، ابتلاه الله بكلمات لم تحدد، لكنها بلا شك أعمال عظام، ومهام جسام، قام بها على الوجه الأكمل، وقدم هنا المفعول على الفاعل وإن كان حقه التأخير لأمور نحوية وأمور بلاغية، أمور نحوية لقضية الضمير وعودته، وأمور بلاغية للتشويق.
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124] أي: قام بهن على الوجه الأكمل، فكافأه الله، قال: إني: الأمور بيدي، أنا خالق الخلق، أنا باسط الرزق، أنا الرب وأنتم العبيد، ((جَاعِلُكَ)) يعني: إبراهيم ((لِلنَّاسِ إِمَامًا))، قال أهل العلم: هذه أعلى المقامات وأجل العطاء، فمن سيأتي بعدك فأنت الإمام له في السير إلينا، حتى قال الله لنبيه عليه السلام: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123].
{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124] فأدركته عاطفة الأبوة ((قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)) ما فيهم؟ أجابه الله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] لا تشمل هذه العطية من ظلم من ذريتك؛ لأن الإيمان لابد أن يكون متحلٍ بحلية الإمامة وهي الصبر واليقين، ومن كان ظالماً لم يكن صابراً ولا تقياً فلا يستحق أن يكون قدوة في الخير: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124].
لكن هذا الرد الرباني الآن سترى أثره بعد قليل، قال الله بعدها: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} [البقرة:125] أي: الكعبة {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125] (مثابة) يقضون منه وطراً، يحنون إليه، (وأمناً) شرعاً وقدراً، الوحوش، الجمادات، الشجر، كله آمن في مكة: إني وإن نظر الأنام لمهجتي كظباء مكة صيدهن حرام يحسبن من لين الكلام فواحش ويصدهن عن الخنا الإسلام موضع الشاهد: كظباء مكة صيدهن حرام المقصود: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125] حتى قريش على كفرها كان الموتور منهم يرى واتره في الحرم ولا يقربه! {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] المقام هو الصخرة التي ارتقى عليها إبراهيم حتى يبني البيت لما علا الارتفاع وظهرت مواضع قدميه على الصخرة، فإبراهيم لما ألان لله قلبه ألان الله الصخرة تحت قدميه، وجعل الله هذا المقام آية عظيمة، وذكره في كتابه: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:97] أي: أولها مقام إبراهيم.(8/13)
معنى قوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)
قال الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] في صحيح البخاري أن عمر أخبر أنه وافق ربه في أمور منها هذه الآية، وعند أبي نعيم في الحلية زيادة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ بيده، وقال: يا عمر! هذا مقام إبراهيم، فقال عمر: لو جعلته مصلى، فأنزل الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125])، وهذا فيه تشريف عظيم لهذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه.
واختلف الناس في موضع المقام الآن على أقوال: قال أقوام: إن المقام موضعه الآن هو موضعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما في إحدى السنين جاء السيل فحركه من مكانه بعيداً، ثم رد إلى موقعه.
وقال آخرون: إنه كان ملتصقاً بالكعبة وأخره عمر إلى موضعه الذي هو عليه الآن.
وقال آخرون: إنه أخر في بعض عهد السلاطين، وقالوا أشياء أخرى، لكن ما عليه عمل الناس اليوم أمر متفق عليه أنه مقام إبراهيم.
(واتخذوا) جعله الله جل وعلا مكاناً للصلاة حتى النبي عليه الصلاة والسلام لما طاف أتى عند المقام وصلى خلف المقام، وقرأ في الركعتين اللتين ركعهما بعد الطواف بـ ((قل يا أيها الكافرون)) و ((قل هو الله أحد)) كما في حديث جابر في صحيح مسلم.
نريد أن نصل إلى قضية حساسة جداً، وهي أن العرب كانت تعظم الأصنام مثل هبل واللات والعزى ومناة وغيرهم ثلاثمائة وستين صنماً، فانظر كيف صرفهم الله فما عبدوا الصخرة التي عليها مقام إبراهيم ولا عبدوا الحجر! علم الله من الأزل: أن هذين سيعظمان في الإسلام، فلو عظمتهما قريش في الجاهلية وعبدتهما لقال الناس: أبقى محمد عليه الصلاة والسلام من الوثنية شيء، فسد الله هذا الطريق فصرف قريشاً مئات الأعوام مع ولائها وشغفها بالحجارة عن أن تعبد المقام وهو مشهور عندهم كما يقول أبو طالب في لاميته المشهورة: وموضع إبراهيم في صخرة رطبة، يعني: موضع قدميه.
فلم ينقل أبداً أن قريشاً عظمت الحجر تعظيم عبادة أو عبدت مقام إبراهيم، وهي التي أتت بهبل واللات ومناة وغيرها، حتى إذا جاء الإسلام -والله أعلم ما كان وما سيكون وما هو كائن- وأمر بتعظيمنا لهما تعظيماً شرعياً مقيداً بأن يصلى عند واحد ويقبل الآخر لم يستطع أحداً أن يقول: أن هذا من بقايا الجاهلية.(8/14)
معنى قوله تعالى (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي)
قال الله تعالى: ((وَعَهِدْنَا)) هذا تشريف لهما {إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا} [البقرة:125] لم يقل: البيت، قال: ((بَيْتِيَ)) حتى تزيد الرغبة لدى إبراهيم وإسماعيل في السعي في كمال تطهير البيت؛ لأن الله أضافه لذاته العلية إضافة تشريف.
{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة:125] بدأ الله بالطائفين؛ لأنهم أولى الناس بالبيت، إذا لا مكان يطاف حوله إلا البيت الحرام، والركع السجود هم المصلون، والاعتكاف يقع في مساجد شتى كما يقع الركوع والسجود في كل مكان.(8/15)
معنى قوله تعالى (رب اجعل هذا بلداً آمناً)
قال الله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:126]، استفاد خليل الله من تعقيب الله الأول عليه، لما قال: (ومن ذريتي) قال له ربه: (لا ينال عهدي الظالمين)، فلما جاء يدعو بالرزق هو بنفسه قيد فقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:126]، أخذها من العتاب الأول، ولا أستطيع أن أجزم بهذا، فهو استنباط ولا يوجد فيه خبر، ولا يوجد فيه حجة، ولا يوجد فيه دليل، فلا نتقول على أنبياء الله ما لم يثبت أنهم قالوه، لكن نقول: ربما استفاد إبراهيم من العتاب الأول.
قال الله: {وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة:126] فمن كان مؤمناً يتمتع ومصيره إلى جنات النعيم، ومن كان كافراً يتمتع إلى حين، قال الله: {وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة:126] أي: سأرزقه! {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126].
فبين الله جل وعلا أن الرزق يدخل فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر، من آمن بي ومن لم يؤمن بي، خلاف الأول الذي هو الإمامة والقدوة والاتباع في الدين، فإن العطايا الدينية يعطيها الله جل وعلا لمن يحب فقط، والعطايا الدنيوية يعطيها الله جل وعلا لمن يحب ومن لا يحب.(8/16)
تفسير قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت)
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، كلف الله الخليل أن يبني لله بيتاً، لكن الخلاف هل بناه أحد قبل إبراهيم أو لم يبن من قبل؟ وأنا أرجح -والعلم عند الله- أن البيت بنته الملائكة قبل نزول آدم تمهيداً لنزوله، ودفعنا إلى هذا أنه لو كان أحد من الخلق بنى البيت قبل إبراهيم من غير الملائكة آدم أو غيره من الأنبياء لأخبر الله جل وعلا به؛ لأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة، وبناء بيت لله تشريف، ويؤيده أن إبراهيم عليه السلام لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج وقد أسند ظهره إلى البيت المعمور، وهذا فهم منه العلماء أنه مكافئة له على أنه بنى لله الكعبة، فلو كان أحداً من الأنبياء غيره بنى البيت لكوفئ بها قبل إبراهيم؛ لأن الله حكم عدل، لكن لما بنته الملائكة، والملائكة أصلاً طاعتهم جبلة، وذلك لا يتعلق به لهم ثواب أو عقاب، فلم يذكر الله جل وعلا ذلك عنهم.
قد يقول قائل: لماذا لا تقول: إن إبراهيم هو أول من بنى البيت؟ فنقول: هذا يعني أن الناس لم يعرفوا الحج إلا بعد إبراهيم، ومعناه أن إدريس ونوحاً وصالحاً وغيرهم لم يحجوا! وهذا في ظننا بعيد، بل أظن أنه توجد نصوص تدل على حج أولئك الأخيار.
قال الله جل وعلا: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:127] قال العلماء فيما يروونه تاريخياً: جاءت سحابة أظلت مكان البيت فعرف إبراهيم القواعد.
وقال آخرون: جاءت ريح فكنست جزءاً من الأرض، والخبر الصحيح أن إبراهيم أشار إلى إسماعيل إلى ربوة، وقال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، قال: يا أبت أجب أمر ربك، قال: وتعينني؟ قال: نعم يا أبتاه، فبنيا البيت.
قال الله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:127 - 128] فحرصا أعظم ما حرصا عليه ألا تلجأ قلوبهما إلى أحد غير الله.
{وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة:128]، وهذا استجداء للرحمن الرحيم، فالإنسان لا يعلم إلا ما علمه الله.
{وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128]، وهذا اعتراف بالتقصير، فحاجتهما هي التوبة ومحو الذنوب وستر العيوب، فلجئا وتوسلا إلى الرب باسمين من أسمائه: {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128].(8/17)
تفسير قوله تعالى: (ربنا وابعث فيهم رسولاً فيهم)
قال الله تعالى: ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ)) أي: أمة العرب، ((رَسُولًا مِنْهُمْ)) وقد وقع {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]، ما الآيات والكتاب والحكمة؟ القرآن -كلام الله- منزه عن التكرار الذي لا معنى له، فما معنى هذه الآية: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129]؟ (يتلو عليهم آياتك) تلاوة وحفظاً، وتشمل القرآن والسنة.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129] يعلمهم إياها معنى، فما تلاه عليهم يعلمهم معناه، مثلاً: (وأقيموا الصلاة) علمهم معناها بأن لها أوقات، وتركع هكذا وتسجد هكذا، (وآتوا الزكاة) علمهم معناها بأن ذكر الأنصبة، وهكذا في كل الآيات.
{وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] أي: يربيهم بالأعمال الصالحة، فاجتمعت الثلاث، فإذا وجد عبد منّ الله عليه بتلاوة القرآن وحفظه والتلفظ به، ثم علم معناه، وكذلك صنع بالسنة، ثم زكى نفسه بالأعمال الصالحة؛ فهذا الذي صار على هدي الأنبياء المقربين وسنن المرسلين.
قال الله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129].(8/18)
تفسير قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم)
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130].
الفعل: يرغب إذا قصد به الطمع في الشيء يتعدى بحرف الجر (في): يرغب في، وإذا قصد به الإعراض وعدم الرغبة في الشيء يتعدى بحرف الجر (عن): يرغب عن، وهنا تعدى بحرف الجر (عن).
قال الله: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130] السفه: نوع من السذاجة والتصرف غير المحمود، وينجم عن نقصان العقل، ولهذا سمى الله الصبية سفهاء.
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130] نقول -والعلم عند الله-: إن قول الله: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130] على أن تلك العطايا العظام التي أعطاها الله جل وعلا خليله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه لم تنقص قدره في الآخرة، فإن العادة أن الإنسان إذا متع كثيراً في الدنيا يكون ذلك على حساب آخرته {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20]، لكن الله أراد أن يبين: أن تلك العطايا العظام التي أعطاها إبراهيم حتى جعله للناس إماماً ليست منقصة له من أجر الآخرة شيئاً، بل إن النصوص أثبتت أنه أول من يكسى يوم القيامة عليه الصلاة والسلام، والله جل وعلا اصطفاه واجتباه على كثير من خلقه، وهو عند كثير من العلماء من أهل السنة أفضل الخلق بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.(8/19)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال له ربه أسلم)
قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131].
قال كثير من أهل العلم: إن من أعظم خصال إبراهيم المسارعة في الخيرات، وعدم التردد في تنفيذ أمر الله جل وعلا، وهذا معلوم من هديه، قال الله جل وعلا عن كليمه موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84].
نقف عند هذه الآية ونقول إجمالاً: إن الرب تبارك وتعالى ذو فضل واسع ورحمة جليلة يختص بها بعض عباده، وممن نال هذا الفضل الإلهي والعطايا الربانية خليل الله جل وعلا إبراهيم، وذكر القرآن إبراهيم في مواطن مدح كثيرة منها قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75]، فجعل القلوب تهفو للتعلق بهذا النبي الكريم بأن تبعه كما قال الله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل:123] وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجله ويعظمه، ولما تكلم عن الأنبياء قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث يوم الفتح: (قاتلهم الله! مال شيخنا وللأزلام؟!) ولم يسمّ الله جل وعلا أحداً من الأنبياء أنه شيخه إلا إبراهيم.
ولما لقيه في رحلة المعراج قال إبراهيم لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم: (مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح)، ولم يقل له هذه العبارة إلا آدم وإبراهيم، أما غيرهما من الأنبياء والمرسلين فكانوا يقولون: (مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح)، فعلينا أن نفهم أن هذا خليل الله اجتباه الله جل وعلا، فننظر في هديه وفي سمته فيما أخبر الله عنه فنقتفي أثره؛ لأن الله جل وعلا أمرنا بهدي الأنبياء جملة، وبهدي إبراهيم على وجه الخصوص، وهذا الذي سنه نبينا صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم.
هذا ما تحرر وتهيأ إعداده، وأعاننا الله جل وعلا على قوله، والله المستعان، وعليه البلاغ.
وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.(8/20)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [11]
نسخ القِبلة من جهة بيت المقدس إلى الكعبة كان حدثاً عظيماً، وأمراً كبيراً، وقد مهد الله له بكثير من الآيات، وأخبر بما سيقوله السفهاء من الناس، وذكر الحكمة من هذا النسخ، وقد هدى الله المؤمنين فامتثلوا أمر الله وولوا وجوههم حيث أمرهم.(9/1)
تفسير قوله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت عليها السموات والأرض، ولأجلها كان الحساب والعرض، هي عماد الإسلام، ومفتاح دار الإسلام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: ففي هذا اللقاء المبارك نستفتح الحديث عن أول آيات الجزء الثاني من كلام ربنا جل وعلا من كتابه العظيم، قال الله وهو أصدق القائلين: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142].
الذي ينبغي أن تستصحبه وأن تقرأ هذه الآية أن هذه الآية مقدمة على النسخ، بمعنى: أنه إلى الآن لم يحصل نسخ، ولم يحصل أمر بالتولية عن بيت المقدس إلى الكعبة، وإنما هذه الآية صدرت في الأول، قال أهل العلم كما نص عليه ابن سعدي رحمة الله عليه في تفسيره: وإنما هذا تسلية ومعجزة له صلوات الله وسلامه عليه، أما كونها معجزة فظاهر، فإن الله أخبره بأمر لم يقع بعد، وأما كونها تسلية فإن الإنسان إذا أخبر بما سيتعرض له من أذى قبل أن يتعرض له فهذا يجعله أكثر تمكناً من تحمل ذلك الأمر، وهذا قد يقع إما بالرؤى أو بوصول خبر له بطريق ما، وهذا في حق البشر، أما في حق الأنبياء فيكون ذلك عن طريق الوحي.
لا بد أن نستصحب أن الله أثنى على إبراهيم، وأثنى على البيت {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125]، وبين ضلال اليهود والنصارى وقبل ذلك كله قال: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]، وكل ذلك من ذكر النسخ ومدح البيت وتعظيم إبراهيم وبيان ضلال اليهود والنصارى توطئة لما سيقع، وينبغي أن تعلم أن نسخ القبلة هو أول نسخ في القرآن، فالنسخ كان في العهد المدني، وسورة البقرة من حيث الجملة من أوائل ما أنزل في العهد المدني، ولهذا مر معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: (يا أهل سورة البقرة!)؛ لأن الأنصار كانوا فرحين بها؛ لأنها أول ما نزل في المدينة، وآياتها كثيرة.
فالله جل وعلا يخبر نبيه أن أمراً سيقع بنسخ توجهك من بيت المقدس إلى الكعبة، ثم انظر كيف وطن الله لهذا في نبيه عند الناس، حتى تنقطع الحجج إلا الحجج الداحضة، فالله جل وعلا أثنى على البيت، وأثنى على بانيه؛ حتى إذا أمر الناس بعد ذلك بالتوجه إليه كان هناك ما يمهد لذلك الأمر الرباني.
نبيكم صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس، ثم هاجر ومكث في المدينة ستة عشر شهراً تقريباً كما في حديث البراء بن عازب، ثم كان يكثر النظر إلى السماء أدباً مع ربه، لا يصرح ولا يخفي أملاً في أن يوجهه الله إلى الكعبة، فأنزل الله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} [البقرة:142] والسين للاستقبال، والسفهاء لا يحسن تخصيصها فيدخل فيها المشركون واليهود والمنافقون وكل من اعترض على تحويل القبلة.
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} [البقرة:142]، لماذا قال الله: {مِنَ النَّاسِ} [البقرة:142]؟ لأن السفه يكون حتى في غير بني آدم، فنقله الله جل وعلا من مجازه المتسع إلى حقيقته المختصرة، فالسفه يكون حتى في الدواب، يكون حتى في الطير، لكن الله جل وعلا عندما قال: {مِنَ النَّاسِ} [البقرة:142] نقله من مفهومه الواسع الذي يمكن أن نصطلح عليه أنه توسع الناس فيها مجازاً إلى حقيقته المختصرة المخاطب بها، وهم كل من اعترض على تحويل القبلة.
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} [البقرة:142] وإلى الآن لم يحصل تحول، {الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142]، فأجابهم الله: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:142]، والمعنى: أننا نحن متعبدون بأن نعبد الله جل وعلا كما أمر، والله جل وعلا له ملك المشرق وله ملك المغرب، وليس في المشرق والمغرب تفاضل في ذاتها إنما نحن عبيد لله نأتمر بأمره.(9/2)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)
قال الله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:142]، والهداية لا تطلب إلا منه.
ثم قال ربنا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] الكاف للتشبيه هذا قول، وقال آخرون: إنها مقحمة زائدة، والذي جعلهم يقولون: إنها مقحمة زائدة أنه لم يذكر شيء قبلها حتى يكون هناك تشبيه، لكن لغة العرب تجوز هذا، قال أبو تمام: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر وهذا أول بيت في القصيدة وليس قبله شيء.
فقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: كما أن لله المشرق والمغرب هذا الملك التام له جل وعلا، فبذلك الملك التام له جعلكم جل وعلا {أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: خياراً عدولاً، ولا بد من الجمع بين هاتين الصفتين: خياراً عدولاً، والناس في زماننا أول ما ينطبع في أذهانهم في معنى الوسط الطول، وهذا مكمن الخطأ في القضية، أما الوسط الذي يعرضه عند العرب فهو الذي يكون في العمق، والشيء الذي يكون في وسط المدن لا يناله الأعداء إلا بعد جهد، ولا يصلون إليه إلا بعد مرحلة، ولا بد أن ينتهوا من أطراف البلدة، فهو ممتنع، والوسط في الوادي كمرعى لا يصل إليه الرعاة ولا الدواب إلا بعد الأطراف، فالوسط دائماً ممتلئ عزيز منيع، هذا معنى الوسط، ومعنى قول الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: خياراً عدولاً، لكن الناس الآن ينقدح في بالهم الطول، فلا يجدون معنى حقيقياً يتلذذون به في خطاب كلمة وسطاً.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] قال الشنقيطي رحمة الله عليه في أضواء البيان -وطريقته تفسير القرآن بالقرآن-: لم يبين هنا متى تكون هذه الشهادة، وبينها في سورة النساء، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:41 - 42] إلى آخر الآيات، فهذه الشهادة تكون يوم القيامة، تشهد هذه الأمة لأنبياء الله كما جاء الخبر الصحيح في الشهادة لنوح ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم على أمته بنص القرآن، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
ثم قال الله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143] هذه توطئة للحدث، يقال: فلان انقلب بمعنى عاد إلى المكان الذي كان فيه، وعاد إلى أصله، فالناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كفاراً، قال الله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:143] أي: يعود إلى سابق الكفر.
ثم قال الله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143]، هنا كبيرة ليست ما بعد الصغيرة، فالله لا يتكلم عن آثام إنما يتكلم عن هذا الأمر، والتشريع فيه شدة ومشقة؟ على النفوس أي: لا تقبله كل نفس.
{وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} [البقرة:143] في وقعها {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143]، ونظيره في القرآن: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام:35] أي: عظم واشتد، وليست (كبيرة) المجاورة للصغير أو المجاورة للمم، الله لا يتكلم عن ذنوب، وإنما يتكلم عن أمر رباني مشقته على النفوس عظيمة لولا هداية الله.
قال الله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] هذا جواب لتساؤل وقع، قال أقوام: ما بال من مات وقد صلى إلى بيت المقدس؟ فأجاب الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، فالإيمان هنا المقصود به الصلاة، وهو حجة واضحة لأهل السنة من أن الإيمان قول وعمل؛ لأن الله سمى العمل هنا إيماناً وعبر به عن الصلاة فقال جل شأنه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143].(9/3)
تفسير قوله تعالى: (قد ترى تقلب وجهك في السماء)
ثم ذكر الله آية النسخ: {قَدْ نَرَى} [البقرة:144] أي: ربما، وهي هنا للتكثير، كذا قال الزمخشري وهذا صحيح.
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144] وهذا من أدب نبينا صلى الله عليه وسلم مع ربه، {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} [البقرة:144] أي: فلنيسرن لك ونشرع لك {قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، فانتقلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] أي: الكعبة، قال بعض العلماء: المسجد الحرام أطلق في القرآن وفي السنة ويراد به أربعة أشياء: يراد به الكعبة، يراد به عين الكعبة، ويراد به المسجد المحيط بالكعبة، ويراد به مكة، ويراد به الحرم مما يشمله حدود الحرم.
الله يقول: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] أي: من أهل مكة، لكن {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] يطلق على حدود الحرم.
قال الله تبارك وتعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] الخطاب في قوله: (فولوا) للأمة، وفي قوله: (فول) للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه على غير عادة القرآن؛ لأن عادة القرآن إما أن يخاطب النبي وتكون الأمة تبعاً له، وإما أن يخاطب الأمة ويكون النبي رأساً، لكن لا يأتي خبر في الغالب يذكر مرة لأمته، والجواب أن الله قال قبلها تمهيداً: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} [البقرة:143]، فلما كان أمراً ذا مشقة أكده الله جل وعلا بهذه الطريقة، وساقه بهذا الأسلوب، فخوطب به النبي وخوطبت به الأمة؛ لأنهم واجهوا عنتاً شديداً في قضية قبوله، فالمشركون يقولون: حن محمد إلى مولده، والمنافقون يقولون: حن محمد إلى مولده، ولما أنزل الله جل وعلا الثناء على البيت وتمجيده وتعظيمه قالوا: إذا كان محمد يمجد هذا البيت كل التمجيد فلم يتوجه إلى بيت المقدس؟ ولهذا قال الله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة:142]، فهنا خاطب الله نبيه، وخاطب أمته صلوات الله وسلامه عليه، فقال: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة:144] والمعنى: أن أهل الكتاب يعلمون فيما أنزل عليهم أن الله جل وعلا سيطلب من نبيه أن يتحول إلى الكعبة، اليهود والنصارى أهل الكتاب يعلمون أن الله جل وعلا سيأمر نبيه بالتحول إلى الكعبة، وأن آخر الأمر سيكون التوجه لكل من آمن بالله إلى الكعبة.
روى البغوي رحمه الله تعالى في شرح السنة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الكعبة قبلة من في المسجد الحرام، والمسجد الحرام قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب.
وقد اتفق المسلمون على أن التوجه للقبلة شرط من شروط صحة الصلاة، ويستثنى من هذا حالتان: الحالة الأولى: حال القتال.
الحالة الثانية: حالة من يتنفل على ظهر الدابة حال السفر، فمن يتنفل على ظهر الدابة قبلته حيثما توجهت به دابته، وعند ابن حزم أنه يجوز حتى في داخل المدن، لكن قول الجمهور هو الصحيح، من يتنفل على دابته في سفر قبلته حيثما توجهت به دابته.
والمقاتل لاسيما المسايف قبلته جهة أمنه، أي وجهة يغلب على ظنه أنه يأمن بها تكون هي قبلته، كما أن الدابة حيثما توجهت هي قبلة من يصلي عليها متنفلاً.(9/4)
تفسير قوله تعالى: (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب)
قال الله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة:145] فلا تطمع في أن يتبعوها؛ لأنهم لو اتبعوها تركوا دينهم وما أصبحوا يهوداً ولا نصارى.
{وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [البقرة:145] المعنى: إذا كان هؤلاء الذين على الباطل يأنفون أن يتبعوك فأنت -وأنت على الحق- أشد أنفة من أن تتبعهم.
{وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة:145]؛ لأن الخلاف بينهم خلاف عقدي وهم قد تتشابك مصالحهم وتلتقي خطوط رضوانهم لكنهم في المسائل العقدية مختلفون، كما قال الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:113].
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:145] ليس المقصود النبي صلى الله عليه وسلم، فقد علم الله أن نبيه لن يقع منه هذا الشيء أبداً، لكنه أسلوب تخويف وترهيب لكل من استبان له شيء من الحق ثم أعرض عنه.(9/5)
تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه)
قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة:146] أي: النبي صلى الله عليه وسلم {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، قوله جل وعلا: (أبناءهم) قرينة على أن المقصود معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لما شاع من ذكره عليه الصلاة والسلام في الكتب المتقدمة.
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ} [البقرة:146] أي: من أهل الكتاب {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146] الحق من ربك، وظاهر الأمر عندي أن الحق هنا المقصود به أن القبلة التي أمرناك باتباعها هي الحق، والدليل عليها أن الله قال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147]؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك في نفسه، وإنما الخطاب هنا زيادة في التأكيد؛ لأن الموضوع كان كبيراً جداً كما بينه الله.(9/6)
تفسير قوله تعالى: (ولكل وجهة هو موليها)
قال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} [البقرة:148] (وجهة) من حيث الصناعة النحوية على غير القياس، أصلها جهة كما يقال في وعد: عدة، وفي وصل: صلة، أما وجهة فهي مأخوذة من وجه، فالأصل أن تكون جهة وتحذف الواو قياساً لكنها أبقيت لتأكيد الأمر والعلم عند الله.
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] على ماذا يعود الضمير هو؟ لا يعود على لفظ الجلالة، بل يعود على لفظ (لكل)، والمعنى: لكل أحد وجهة هو موليها نفسه، يعني: اختارها على بينة من نفسه، اليهود توجهوا إلى قبلتهم على قناعات عندهم، والنصارى توجهوا إلى هذا المشرق على قناعات عندهم، وهكذا غيرهم.
ثم أمر الله نبيه وسائر المؤمنين أن ينصرفوا من هذا الخلاف إلى العمل فقال: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] أي: سارعوا في الطاعات ونافسوا فيها، ثم ذكرهم بيوم الوعيد: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148].
ثم عاد وكرر موضوع القبلة فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:149].
قال صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام حين ذكر الكبائر: (والفساد في البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً)، فجعل الله هذا البيت قبلة للناس أحياء وأمواتاً.(9/7)
تفسير قوله تعالى: (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره)
قال الله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:150].
يبحث العلماء هنا الاستثناء في قوله جل وعلا: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة:150] هل هو استثناء منقطع أو استثناء متصل؟ والمعنى من حيث الجملة واحد أي: من لا يبحث عن الحق لا سبيل إلى إقناعه وإرضائه، لكن رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الاستثناء هنا استثناء متصل، وتفصيل ذلك أن تعلم التالي: الحجة في القرآن وردت بمعنيين: المعنى الأول: الحجة بمعنى الحق، وهي الحجة الصحيحة الواضحة البينة، مثل قول الله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام:83]، ويحمل عليها قول الله أيضاً: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149] أي: الواضحة الصحيحة التي لا ريب فيها.
المعنى الثاني: الحجة بمعنى الجدال سواء كان بالحق أو بالباطل، ومنه قول الله جل وعلا في سورة الجاثية مثلاً: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية:25]، فالمقصود بأنها حجة باطلة وإن ذكرت على أنها حجة.
قال الله جل وعلا: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة:150]، وكونهم ظالمين قد يخشى أذاهم، فحين يخشى أذاهم علق الله أولياءه به فقال جل وعلا: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:150].(9/8)
تفسير قوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً)
قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا} [البقرة:151] الكاف للتشبيه، واختلف العلماء في متعلق الكاف هنا، فبعضهم جعلها فيما قبل، وبعضهم جعلها فيما بعد، فالذين قالوا: فيما بعد المعنى عندهم: فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولاً، (فاذكروني) هي الآية التي بعدها (كما أرسلنا فيكم رسولاً) وهذا بعيد، والراجح أنها متعلقة بما قبلها أي: ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلت فيكم رسولاً.
وتوجد نعم أصلية ونعم متمة للنعم الأصلية، فالنعمة الأصلية أن بعث فيكم رسولاً يهديكم إلى دين الحق، والنعمة المتمة للنعمة الأصلية أن هديتكم إلى أن تتوجهوا إلى الكعبة، فالله يقول: إتمام النعمة التي هي التحول والتوجه إلى الكعبة ليست ببدع من الإنعام والإحسان مني إليكم، فقد سبق مني إحسان من قبل وهو؟ إرسال الرسول.
وبعض العلماء مثل ابن الأنباري وهو ممن يغلب عليه الصنعة النحوية ذكر أنها صفة من مصدر محذوف والمعنى: لعلكم تهتدون اهتداء كما أرسلنا فيكم رسولاً، وهذا من حيث الصناعة النحوية ممكن، لكنه من حيث المعنى -والعلم عند الله- بعيد.
قال الله: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151].(9/9)
تفسير قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم)
قال الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].
الذكر رأس الشكر، فيكون ذكره هنا وعطف الشكر عليه من باب عطف العام على الخاص.
وقول الله جل وعلا: {وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] قرينة على أن المقصود: كفر النعم؛ لأنه ذكر الشكر بعدها.(9/10)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] مر معنا كثيراً أن الصبر والصلاة قرينان في كلام الله.
والصبر من أنواعه الصبر على الطاعات، ومن أعظم الطاعات التي تحتاج إلى مشقة؟ الجهاد، فلما ذكر الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] ذكر مشقة تحتاج إلى صبر وهي القتال في سبيل الله فقال: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154].
العاقل لا يفرط في محبوب إلا إذا وجد شيئاً أعظم منه، والحياة محبوبة لكل أحد، فأنت لماذا تأكل العيش؟ لماذا تشرب الدواء؟ لماذا تبني شيئاً يكنك البرد والحر؟ كل ذلك حتى تبقى حياً، وأنت لا تحيا لتأكل وإنما تأكل لتحيا، ومع ذلك يطلب منك شرعاً أن تهب نفسك لله، فتفرط في ذلك المحبوب الذي هو حب الحياة، والذي أنت تكد من أجل بقائك، وتمنع عن نفسك ما يؤذيك، لكن تفريطك في هذا المحبوب الذي هو الحياة لم تصنعه إن كنت مؤمناً إلا لمحبوب أعظم وثواب أجزل وهو ما عند الله الذي أثبته الله بقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]، فهم يفيئون إلى قناديل معلقة في العرش ويشربون من أنهار الجنة، وسيأتي ذكر الشهداء تفصيلاً في سورة آل عمران التي حوت ذكراً كثيراً للقتال.(9/11)
تفسير قوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع)
قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، هذا الابتلاء يكون للأفراد، ويكون للأمم، ويكون للمجتمعات، والله جل وعلا مضت سنته واقتضت حكمته ومضت كلمته أن الناس يبتلون تمحيصاً؛ ليميز الصابر من الجازع، والمؤمن من الكافر، وأنواع البلاء تختلف، وقد وقع الابتلاء حتى في خير القرون، فالنبي عليه الصلاة والسلام حوصر ومن معه، وزلزلوا زلزالاً شديداً، وفي عهد عمر كان الطاعون، وغير ذلك من الابتلاءات التي تمر بالمسلمين على مستوى الأمم، وعلى مستوى الأفراد، يبتلى الإنسان بفقد ماله، بفقد أهله، بفقد ذويه، بفقد قرابته، وهذا أمر مستفيض لا يحتاج إلى بيان، ثم عند تلقي البلاء تعبد الله عباده الصالحين بأن يقولوا: إنا لله وملك له وعبيد له، ولا حول لنا فننتصر، ولسنا برآء فنعتذر، ولا قوة لنا إلا بالله، وهو ربنا يفعل بنا ما يشاء، {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] أي: منقلبنا إليه فيثيبنا إن صبرنا، ويعاقبنا إن جزعنا إلا أن يرحمنا فهذا المعنى الحرفي لقوله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] فيه منتهى التسليم لرب البرية جل جلاله، وهذه الكلمة يقال: إن الأنبياء من قبل لم يكونوا يعلمونها، ولو كانت شائعة بينهم لقال يعقوب: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولم يقل: واأسفا على يوسف، وقد ورد في آثار ليس فيها ما نعلمه صحيحاً سنداً، لكن العقل لا يمنعه أنها كلمة اختص الله بها هذه الأمة.(9/12)
تفسير قوله تعالى: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة)
قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، الصلوات هنا أي: رفع الدرجات، والرحمة أي: غفران الذنوب، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] أي: عرفوا طريق الحق فلزموه، وما كانوا ليهتدوا لولا أن هداهم الله.
هذا كله يبين أن الإنسان في طريقه إلى الله تمر به النوازل، وتمر به الابتلاءات، فينبغي أن يوطن المرء نفسه على التعلق بالله، وكلما عظم في القلب اليقين بأن العبد عبد لله والله ربه يحكم فيه ما يشاء ويفعل ما يريد سهل عليه بعد ذلك أن يتقبل ذلك البلاء.(9/13)
تفسير قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله)
قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] الجناح في اللغة: الميل.
قال الله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال:61] أي: مل إليها، لكن اصطلح على أن يطلق غالباً في الميل إلى الإثم.
والصفا والمروة جبلان، يجمع الصفا على صف، والمروة على مرو، سعت بينهما هاجر أم إسماعيل ثم تعبد الله الناس بذلك، وقبل الإسلام كثر وضع الأصنام عندها، فكان أكثر ما تعبد الأصنام عند الصفاء والمروة، فلما من الله على المسلمين بالإيمان تحرجوا من أن يأتوا إلى مكانين عرفا بأنهما مظنة وجود أصنام، فرفع الله ذلك الحرج بقوله: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، ورفع الحرج هنا لا يتعلق به حكم شرعي، بمعنى: لا يفهم من هذه الآية أن السعي واجب أو ركن أو سنة، إنما الآية جيئت لدفع ذلك الحرج الذي كان يخافه المسلمون من أن يعيدوا شيئاً قد سبق في خلدهم أنه مظنة عبادة أصنام، لكن قول الله جل وعلا: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] قرينة ظاهرة على أن السعي عبادة لا تؤدى بمفردها نافلة، ويوجد طواف نافلة منفكاً بمفرده عن الحج والعمرة، لكن لا يقع السعي منفكاً عن الحج والعمرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسع حالة انفراد عن حج أو عمرة، وطاف صلى الله عليه وسلم طوافاً منفكاً عن حج وعمرة.
{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ} [البقرة:158] أي: زاد {خَيْرًا} [البقرة:158] أي: من حج أو عمرة.
{فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158] من طرائق معرفة شكر الله جل وعلا -والله من أسمائه الشاكر والشكور- أنه جل وعلا يثيب على العمل اليسير بالجزاء العظيم، (ومن تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً)، (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) هذا من معاني قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158].
وقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] أي: من أعلام دينه، أشعر الشيء يعني: أعلم، والصفا والمروة من أعلام الدين، وتعظيم شعائر الله قوت للقلوب، قال الله جل وعلا: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
هذا ما يمكن أن يقال حول قول الله جل وعلا: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158]، وهذان مكانان من الحرم تعبدنا الله بأن نسعى بينهما، على أنه يتعلق بهذا فائدة أخرى وهي أن البدعة نوعان: بدعة ليس لها أصل شرعي، وبدعة لها أصل شرعي، وهي أن توجد عبادة لها أصل شرعي فجيء بها على وجه غير الذي الوجه الذي جاء به الشرع، فتسمى بدعة، هذا تقسيم عام وسنأتي لكلا الحالتين.
لو جاء إنسان فصام مثلاً من منتصف النهار إلى منتصف الليل فنقول: هذه العبادة ليس لها أصل في الشرع، أما الحالة الثانية فمثل الوقوف في عرفة في غير يوم التاسع، فالوقوف في عرفة له أصل في الشرع لكنه جاء في الشرع على وجه مخصوص وهو اليوم التاسع، ففعلك إياه في غير اليوم التاسع يسمى بدعة.
لماذا ذكرنا هذه الأمثلة وقسمنا البدعة؟ لأن الله قال: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، فجعل الله للسعي وجهاً مخصوصاً، وهو أن يكون إما ملتصقاً بحج أو ملتصقاً بعمرة، والسعي له أصل بالشرع، لكن إن لم يكن ملتصقاً بحج أو عمرة فيعد هذا العمل بدعة غير مقبولة.
وقد اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا والمروة، والآية لا تدل لقول أحد، قال بعض العلماء: إنه ركن، وهذا مذهب الشافعي، وحجته: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا)، وقال آخرون: بسنيته، وقال آخرون بوجوبه، وتفصيل ذلك في كتب الفقهاء، وهذا درس تفسير، والمستفتي على دين مفتيه.
هذا ما تيسر إيراده، وأعاننا الله جل وعلا على قوله في هذا اللقاء المبارك، بارك الله لنا ولكم فيما نقول ونسمع، ونفعنا الله وإياكم بما علمنا، وعلمنا ما ينفعنا، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(9/14)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [12]
لعن الله الذين يكتمون العلم الذي أنزله في كتابه، ولعن الذين كفروا وماتوا وهم كفار، وأعظم العلم: لا إله إلا الله والكفر بها هو أظلم الظلم وأجهل الجهل، ففي ما خلق الله آيات ودلائل تدل على أنه الإله الحق الواحد، لكن الذين كفروا صم بكم عمي فهم لا يعقلون.(10/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى)
الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الكون بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا لقاء مبارك نستكمل ونستأنف فيه ما كنا قد تكلمنا عنه في سورة البقرة، وانتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جلا وعلا: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158].
أما اليوم فسنبدأ بقول الله جلا وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159].
قال أهل العلم رحمهم الله في بيان هذا: أصل سبب نزول الآية أن نفراً من الصحابة ذهبوا إلى أحبار يهود يسألونهم عن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء عنه صلوات الله وسلامة عليه في التوراة، وكان أولئك الأحبار يعلمون ذلك جيداً، قال الله جلا وعلا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، والضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أولئك الأحبار كتموا ذلك العلم الذي علمهم الله جلا وعلا إياه وأبانه لهم جلا وعلا في التوراة فأنزل الله قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} [البقرة:159]، ولذا ذهب بعض العلماء إن المقصود بالكتاب هنا: التوراة، والصواب أن يقال: إن أولها عن التوراة وآخرها في القرآن، وليست الآية محصورة في فرقة بعينها، فكل من كتم علماً دخل في الوعيد الذي تتضمنه الآية، والأصل في ذلك أن الله جلا وعلا أحيا الناس وأحيا قلوبهم بالعلم الشرعي، فإذا أوتي أحد علماً شرعياً فبخل به على الناس وكتمه فإنما تسبب في موت الناس وإفسادهم، وهذا مستحق للعنة.
واللعن عند العرب هو الطرد والإبعاد، لكنه في عرف الشرع الإبعاد عن رحمة الله، وعند العرب كان كل شيء يدعو إلى الوصف بالقبيح يسمى لعناً فكانوا يخاطبون ملوكهم ووجهائهم بقولهم: أبيت اللعن أي: لا تفعلوا فعلاً تستحقوا عليه اللعن، وإنما أنت تفر عن كل سبب موجب لذنبك وقدحك وشينك.
ويوجد فرق بين لعنة الله وبين ما يعير به الناس من باب العرف والتقاليد، فليس ذلك كما يعيرون به من باب الشرع.
كتمان العلم من أعظم الإفساد في الأرض؛ ولهذا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وهو راوية الإسلام الأول لما كان يكثر من نقل الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ونشأ في عصره جيل لا يعرفونه حق المعرفة وقالوا: أكثر أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه وأرضاه: (تقولون: أكثر أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم! الله الموعد -أي: القيامة بيني وبينكم- وايم الله لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحداً بشيء أبداً) ثم تلا هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159].
ثم تأمل سنن الله جلا وعلا في خلقه كيف تتقابل على التالي: العالم الذي ينشر علمه ويدعو إلى الخير ويعرف الناس بربهم تبارك وتعالى يصلي عليه كل أحد، ويستغفر له حتى الحوت في بحره، ومقابل هذا من أوتي علماً وكتمه ولم يبينه للناس وأوقع الناس في ضلال مبين دون أن يسعى في إخراجهم مما هم فيه فهذا يلعن قال الله جلا وعلا: {أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159]، وكلمة اللاعنون عامة ولم تحدد.
وذكر بعض العلماء كما في طريقة الشنقيطي في التفسير أن ما بعدها أن الله تفسرها قال: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة:161]، لكن الصواب أن يقال: كل من يتضرر من كتمان العلم هو مندرج في لعن من كتم ذلك العلم، هذا في ظني أصوب ما يمكن أن يقال في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159].(10/2)
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا وأصلحوا)
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160].
هنا ثلاثة أفعال كلها واقع في صلة الموصول: تابوا وأصلحوا وبينوا، تابوا بمعنى: أقلعوا عن الذنب الذي هو هنا الكتمان، وأصلحوا: عزموا على أن لا يعودوا إليه مرة أخرى، وبينوا: أظهروا ما كانوا قد كتموه من العلم.
فإذا فعلوا ذلك فإن الرب جلا جلاله بسعة رحمته وعظيم فضله يقول: {فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160].(10/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة:161]، قول ربنا: {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة:161] هذا قيد لا ينبغي اطراحه، فاللعنة لا تكون لازمة لأحد ولو كان متلبساً بالكفر حتى يموت على الكفر؛ لأن الله قال في قيده {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة:161] لكن هذا لا يعني أنه لا يجوز لعنهم وهم أحياء، والفرق بين الأمرين أننا لا نقول: نحن يائسون من إيمانه أو أننا نحكم عليه بأنه مطرود من رحمة الله حتى يموت على الكفر.
أما اللعنة العارضة فقد قال السلف كما روى مالك في الموطأ عن أحدهم: ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان، وقد قال البعض إن هذا من حيث العموم لا من حيث التعيين، وللحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى كلام في الفتح دقيق في هذه المسألة، وهو أن الأصل أن من جاز قتاله جاز لعنه، فلعنه من باب طرده وإبعاده لا بأس به، أما الحكم عليه بأنه في النار من معنى اللعن العام بأن الله قد طرده من رحمته وأقصاه من جنته فهذا لا يحكم به عليه حتى يموت وهو كافر، وهو معنى قول الله جلا وعلا: {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة:161].
ومما يدل على صحة هذا الرأي قوله بعدها: (خالدين فيها)، فهذا الخلود لا يكون إلا بعد الموت على الكفر، لكن قد تكون هناك لعنة دون اللعنة العامة الكبيرة وهي الطرد من رحمة الله، والنبي صلى الله عليه وسلم غلظ في مسألة اللعن وقال: (لا تصحبنا ناقة ملعونة)، ولما صلى صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الاستسقاء ثم حذرهم ووعظهم بعدها أمر النساء أن يتصدقن، وقال لهن: (إنكن أكثر أهل النار! قلن: يا رسول الله! بم ذاك؟! فقال عليه الصلاة والسلام: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير)، فقوله عليه الصلاة والسلام تكثرن اللعن: دليل على أن الإكثار من اللعن من أسباب سخط الله جلا وعلا وعذابه أعاذنا وإياكم منه! والعاقل لا يعود نفسه على اللعن.
{خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [البقرة:162] ينظرون هنا: بمعنى يمهلون؛ لأنه دائم، والإمهال كان في الدنيا وقد فات بموتهم على الكفر.(10/4)
تفسير قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد)
قال الله جلا وعلا: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] لما حذر الله جلا وعلا من كتمان العلم ذكر الله جلا وعلا أعظم علم ينبغي أن يظهر للناس وهو توحيده جلا جلاله، والتعريف به تبارك وتعالى، فقال معرفاً بذاته العلية مبيناً أعظم علم ينبغي أن ينشر: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، وقد مر معنى تفسير: {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] في سورة الفاتحة، وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:163] كلمة من أجلها خلق الله السماوات والأرض، ومن أجلها كان الحساب والعرض، ومن أجلها يحشر العباد، ومن أجلها جرد محمد وأصحابه سيوف الجهاد، ومن أجلها أقيمت الحجج والبراهين، ومن أجلها تنصب الموازين يوم القيامة.
قال عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا اله دخل الجنة)، أولها نفي وآخرها إثبات، أولها جحود وآخرها إقرار، ويروى عن بعض المتصوفة ممن علق به شيء من التصوف كـ الشبلي رحمه الله كان يقول: لا أقولها ويقول: الله، ويقول: أخشى أن أبدأ بالجحود فأموت دون أن أصل إلى الإقرار، يعني: أخاف أن أبدأ بالجحود فأقول: لا إله ثم أموت قبل أن أقول: إلا الله، وهذا ورع مذموم، قال القرطبي رحمه الله معلقاً على كلامه هذا: هذا من علومهم الدقيقة التي ليست لها حقيقة؛ لأن الله جلا وعلا تعبدنا بهذه الكلمة، وذكرها مراراً في كتابه العظيم، ووعد عليها الثواب العظيم، والله أرأف وأرحم وأعدل من أن عبداً أراد أن يقول: لا إله إلا الله وهو مؤمن بها قائم بالعمل بها عارف بلوازمها فقال: لا إله وأدركه الموت، فهذا من أهل الجنة قطعاً، فالله جلا وعلا حكم عدل، ورب ذو فضل لكن كما قال القرطبي رحمه الله عنهم: هذا من علومهم الدقيقة التي ليست لها حقيقة، وأي علم تريد أن يثبت نبش عنه، وكثير من الأشياء لا تغرنك بادي الرأي فتزدلف إليها، وأنا أكثرت من القول في الشيعة، فهم يأتون مثلاً لمقتل الحسين بن علي وهو مصيبة ويقولون: أي قلوب قاسية لكم، أنتم تبكون على موت أبنائكم وآبائكم وأمهاتكم، فكيف لا تبكون بموت سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويضعه على فخذه، ثم يقتل وهو صائم، ويفصل رأسه عن جسده، ثم يقدم قرباناً للسلاطين والأمراء؟! هذا القول من أوله يستعطفك وقد يأسرك، فنقول: إن موت النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من موت الحسين، ومقتل علي رضي الله عنه وأرضاه والد الحسين أعظم من مقتل الحسين نفسه، لكن الله جلا وعلا ما تعبدنا بمثل هذه الصنائع قرباناً له، ونحن نعلم أن قتلة الحسين فجرة ظلمة فسقة، اقترفوا إثماً عظيماً لكن ليس التعبير العلمي والصنيع الحقيقي أن نصنع كما يصنع الشيعة في كل عام، نظهر المآسي والمآتم والحزن على وفاته رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان في وفاته عبر وعظات لكل أحد، فإنه كم من شخص يتلبس بالحق وينادي إليه ويزمجر به على المنابر، وكل الذي يدعو إليه عين الباطل! فالذي قتل الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر ويقول: الله أكبر وهو يقتل الحسين سبط رسول الله صلوات الله وسلامه عليه! يقول أحد علماء السنة آنذاك: جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد متزملاً بدمائه تزميلا وكأنما بك يا ابن بنت محمد قتلوا جهاراً عامدين رسولا قتلوك عطشاناً ولم يترقبوا في قتلك التنزيل والتأويلا ويكبرون بأن قتلت وإنما قتلوا بك التكبير والتهليلا من هنا تعلم ما هو العلم؟ هو نور يقذفه الله في القلب، فتكون على بينة من هدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتسير به إلى رحمة علام الغيوب، الإنسان تأتيه الشبهات فيجتنبها بالعلم، ويمشي واثق الخطوة، رافع الرأس، ثابت القدم، متوكل على الله، لا تغره الشبهات، ولا تأسره الشهوات، وهذا إذا اجتمع مع علمه إيمان بالرب تبارك وتعالى.
قال الله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163] جاء في الأثر من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2])، وقوله جلا وعلا: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، ونحن نعلم أن الآثار دلت على أن لله جلا وعلا اسماً أعظم، لكننا نجهل هذا الاسم، وهذا الاسم إذا دعي به الله أجاب وإذا سئل به أعطي، والله جلا وعلا أخفاه، وبعض العلماء ذهب إلى أنه الحي القيوم، وبعضهم ذهب إلى أنه لفظ الجلالة، وبعضهم ذهب إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو، وبعضهم قال: هو الحي مع الله لا إله إلا هو، واستشهد بآية غافر: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:65]، فاختلفت فيه أقوال العلماء، وكل منهم ضرب بعطن في ناحية بعينها، لكن المقصود أن يعلم الإنسان أن لله اسماً أعظم، ووجهاً أكرم، وعطية جزلى، وحجة بالغة، وقوة لا تقهر، ووعداً لا يخلف، وجنداً لا يهزم، فنسأل الله جلا وعلا بأسمائه وصفاته جملة أن يدخلنا الجنة ويجيرنا من النار.(10/5)
تفسير قوله تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض)
في الآية الأولى قال الله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] إخبار، أما الآية التي بعدها فهي دلائل اعتبار، وذكر تفاصيل ما يدل على عظمة الواحد القهار قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164]، العقل مناط التكليف، وتمر عليه ثلاثة أحوال حال عارضة، وحال مؤقتة، وحال مستديمة.
الحال العارضة: النوم فيرتفع قلم التكليف، والحال المستديمة: الجنون فيرتفع حال التكليف، والحال المؤقتة: الصغر فيرتفع حال التكليف إلى أن يكبر، والعناية بالعقل وجعله مناط التكليف دليل عظيم على عناية الإسلام بهذا العقل.
والعقل مكتشف للدليل، وليس منشئاً له، ففي هذه الآيات ذكر الله دلائل الاعتبار على الزمن على قدرة الله الواحد القهار فقال جل شأنه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164]، وخلق السماوات والأرض من أعظم الأدلة والبراهين على قدرة الله، قال الله في سورة غافر: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57].
(واختلاف الليل والنهار) الله جل وعلا يولج هذا في هذا.
(والفلك) أي: السفن (التي تجري في البحر بما ينفع الناس) تسخير من الله جلا وعلا، والعلماء تكلموا في البحر كثيراً، ومن أشهر من ركبه من الأنبياء نوح وموسى ويونس، وقد فصلنا هذا القول في دروس مضت.
{وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} [البقرة:164]، تصريف الرياح تكون أحياناً بينة، وتكون أحياناً عاصفة، وتكون أحياناً حارة، وتكون أحياناً باردة، وتكون أحياناً عذاباً، وتكون أحياناً نصراً، قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور)، وتكون أحياناً ملقحة، وتكون أحياناً عقيمة، هذا كله تصريف للرياح، ولا يقدر عليه إلا الله {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164]، نحن نعلم قطعاً أن الماء ينزل من السحاب، لكن يوجد قول للعلماء أن المطر ليس من السحاب، وإنما السحاب غربال وأمارة على نزول المطر، والمطر ينزل من السماء ويمر عبر هذا الغربال الذي هو السحاب، ثم ينزل للناس، وهذا القول وإن قال به أفراد قليلون إلا أنه موجود، وقالوا: تجتمع فيه الآية؛ لأن الله قال: {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} [البقرة:164]، قالوا: لو كان الماء ينزل من السحاب لما كانت هناك حاجة لأن يعيد الله جلا وعلا قوله: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ} [البقرة:164]، وهذا أظنه منقول عن كعب الأحبار، لكنه رأي مرجوح جداً جداً، والذي عليه العلماء كافة خاصة في القرون المتأخرة ما دل عليه العلم الحديث أنه من السحاب الذي في السماء، لكنني ذكرته حتى لا تفاجأ به إذا قرأته في كتاب، وأذكر أنني سمعته قبل ثلاثين سنة من أحد العلماء؛ فذهلت بمجرد سماعه، ولو أنه رحمه الله قالها تفصيلاً كما حررنها لكم، وهو لا يجهل هذا، ثم مع الأيام تبين مقصده غفر الله له ورحمه.
قوله تعالى: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164].(10/6)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله)
بعد أن ذكر الله أدلة الاعتبار ذكر الله جلا وعلا اختلاف الناس في ربهم، فذكر مسألة محبة الله جلا وعلا وتعظيمه وهي لب الدين، فقال جل ذكره: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة:165].
للعلماء وجهان في تخريج الآية: التخريج الأول: أن هؤلاء المشركين يحبون أصنامهم كحب المسلمين لربهم.
التخريج الثاني: أن هؤلاء المشركين يحبون ربهم ويحبون أندادهم كحبهم لربهم، وهذا التخريج الثاني تدل عليه آية الشعراء، {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98].
وأياً كان المقصود بالمعنى فقد قال الله بعدها: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، وهؤلاء المؤمنون لما كان محبوبهم وهو الله ليس له مثيل كان حبهم لله لا يعدل حبهم لأي شيء آخر؛ لأن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، ومنزلة محبة الله جلا وعلا من أعظم المنازل التي يعطاها العبد؛ لأنها مع الرجاء والخوف هي مدارك الدين كله، ومن رحمة الله جلا وعلا بك أن يجعل قلبك وعاء لحبه تبارك وتعالى، قال الله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165].
ثم قال: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة:165] في الدنيا {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة:165] أي في الآخرة {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة:165].(10/7)
تفسير قوله تعالى: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا)
قاله الله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167].
معناها ظاهر ولا تحتاج إلى شرح، رؤساء لهم أتباع فيوم القيامة يتبرأ الرؤساء من الأتباع، لكن نقف عند قوله: (لو) و (لولا) إذا كان يوم القيامة يرى المؤمن مقعده من النار الذي نجاه الله منه وهو في الجنة قال الله عنهم: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] لاحظ (لولا) تقترن بأهل الإيمان، أما الكفار تقترن بهم (لو) ما الفرق؟ لولا: حرف امتناع لوجود، أما لو: حرف امتناع لامتناع، كيف أطبق هذا على هذه الآية وسائر الآيات؟ المؤمن وهو في الجنة إذا رأى مقعده من النار الذي نجاه الله منه يقول: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]،
السؤال
هل حصلت هداية الله؟ نعم حصلت، فامتنع بحصولها وجود المقعد الذي في النار، فهذا معنى قولنا: حرف امتناع لوجود، الموجود حصول الهداية والرحمة من الله، فهذه الرحمة والهداية من الله لك منعت أن تكون في ذلك المقعد الذي هو في النار.
على النقيض من ذلك يرى أهل النار مقعدهم في الجنة الذين حرموا منه، فيقولون: لو، وقال الله عنهم: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57]، وهنا يقول الله: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة:167]، ولا توجد كرة.
إذا رأى الكافر مقعده من الجنة يقول: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} [الزمر:57]، هل هداه الله؟ لم يهده الله، فامتنع الأول، فامتنع جواب الشرط، امتنع تحقق أن ينال ذلك المنزل الذي يراه في الجنة، وهذا كافي بأن تتعظ به القلوب، هل تكون ممن يقول: لولا أن هداني الله، أو تقول: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] هذا هو الفرق بين لو ولولا، لولا: حرف امتناع لوجود، ولو: حرف امتناع لامتناع.
والمقصود من ذلك: أن من أراد الله له الرحمة في الآخرة سيرحمه في الدنيا بتوفيقه للأسباب المعينة على طاعة الله، ومن لم يرد الله له الرحمة في الآخرة لن يوفق للهداية في الدنيا حتى يصل إليها.
قال الله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، يجب أن يخلد في قلوبنا أن كل سبب يوم القيامة منقطع إلا سبباً واحداً وهو ما كان بين العبد وربه، وهو سبب العبودية المحضة، هذا هو السبب الواحد الذي يبقى يوم القيامة.
قال الله: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ} [البقرة:167] معنى (يريهم الله أعمالهم): يريهم الله الأعمال التي تكون سبباً في نجاتهم لو أنهم سمعوها وفعلوها وآتوها، فإذا رأوها ماثلة أمام أعينهم يوم القيامة تحسروا على أنهم لم يفعلوها؛ لأنهم لو فعلوها لنجوا مما هم فيهم.
{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة:167]، ولو كانت تلك الحسرة إلى أمد تنتهي ويقضى الأمر لهان لكن الله قال بعد ذلك يذكر خلودهم {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167].(10/8)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا} [البقرة:168]، سمي الحلال حلالاً من حِلال عقدة الحاضر عنه يعني: عقدة المنع، وكلمة (حلالاً) بيان للحكم الشرعي، وكلمة (طيباً) إظهار لعلة الحكم الشرعي.
{وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168]، عدو مبين بمعنى: عدو ظاهر، فمبين اسم فاعل لكنها من أبان اللازمة غير المتعدية.
والفعل أبان يأتي لازماً لا يحتاج إلى مفعول، ويكون بمعنى ظهر، وتأتي أبان بمعنى أظهر فتقول أبنته لك تعدى إلى مفعولين، أما أن تظهر أنت فتقول: بان فلان على الشاشة أي: ظهر، وهنا الفعل اللازم وليس من المتعدي؛ لأن الشيطان لن يظهر عداوته لنا، وإنما يتلبس ويوسوس، لكن كيف عرفنا أنه عدو؟ لأن الله جلا وعلا فضحه وأظهر عداوته، فالشيطان عدو لكنه لا يظهر لنا عداوته، وإنما يأتينا متلبساً عن طريق الوسوسة مقرباً لنا مقاسما {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] إلى غير ذلك.
لكن الله جلا وعلا فضحه وكشف عداوته لنا {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208].(10/9)
تفسير قوله تعالى: (إنما يأمركم بالسوء والفحشاء)
قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ} [البقرة:169] أسلوب حصر {بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} [البقرة:169]، فلا يأمر الشيطان بشيء فيه نفع لنا البتة.
ولهذا قال الله: {إِنَّمَا} [البقرة:169] أسلوب حصر {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169]، ولم يذكر الله هنا ما القول على الله بلا علم الذي دعانا إليه الشيطان، لكن جاء بيانها في آيات أخر أعظمها أن الشيطان دعاهم إلى أن يفتروا ويزعموا الله الولد، وأن يحرموا ما أحل الله لهم من الطيبات كما قالوا: {خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام:139] إلى غير ذلك مما حرموه، ونسبوه إلى الله جلا وعلا افتراء عليه، ذلك الذي لقنهم الشيطان إياه فهو مندرج في بيان قول الله جلا وعلا: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169].(10/10)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله)
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].
الله عظم العقل، والمشركون تركوا عقولهم فلم يستفيدوا منها، فمن لم يستفد من جارحة أعطاه الله إياها فكأنه لم يعطاها، ولهذا وصفهم الله بأنهم صم رغم أنهم يسمعون، ووصفهم بأنهم بكم رغم أنهم يتكلمون، ووصفهم بأنهم عمي رغم أنهم يبصرون؛ لأن تلك الجوارح لم يستفيدوا منها الاستفادة التي أرادها ربهم تبارك وتعالى.
هنا يقول الله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا} [البقرة:170] أي: النبي صلى الله عليه وسلم {مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} [البقرة:170] أي: ما وجدنا عليه آباءنا، قال الله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] هذا استفهام تعجب.
والمعنى: على أي حال يصلون بها إلى أن يدعوا عقولهم بلا عمل فيعرضوا عن دعوة الإسلام، ويبقوا على عبادة الأصنام، ملتزمين هدي من سبقهم ولو كان من سبقهم على ضلالة وعياً وبعداً عن الله جلا وعلا، وهذا يحمل التوبيخ مع الإنكار.
قال الله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]، اختلف العلماء في معنى (لو) هنا اختلافاً واسعاً، فقال بعض العلماء: هي بمعنى إن التي لا تحتمل معنى الشرط، وقال آخرون بغير ذلك، لكن القول بأنها لا تحتمل معنى الشرط هو الأفضل والأولى التي لا تحتاج إلى جواب.
وقال البيضاوي قولاً ليس له فيه سلف، محتجاً ببيت لـ رؤبة بن العجاج: قالت بنات العم يا سلمى وإن كان فقيراً معدماً قالت وإن لكن القول الأول -وهو أنها بمعنى إن التي لا تحتمل معنى الشرط- هو الذي عليه أكثر أهل العلم، والعلم عند الله جلا وعلا.(10/11)
تفسير قوله تعالى: (مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق)
قال الله جلا وعلا يبين حال أهل الإشراك: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171].
هذا تشبيه حالة الكافر بحالة راع الضأن ينادي عليها، فهي من حيث سماعها النداء تسمع، لكن من حيث تدبرها لما يقال لها لا تعي، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم ويرشدهم فهم حال سماعه كحال الضأن تسمع ما تنادى به، وهم يسمعون القرآن والآيات إلا أنهم لا ينتفعون كما أن الضأن لا تفقه كلام الراعي، هذا تخريج.
وبعض العلماء يقول: ليس المقصود هذا، وإنما المقصود حال المشركين مع أصنامهم عندما ينادونها، فإنها لا تسمع منهم شيئاً، ولا تعي ما يقولون {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]، لكن هذا بعيد؛ لأن الله قال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة:171]، فأثبت السمع، ومعلوم قطعاً أن الأصنام لا يمكن لها أن تسمع، فجعل المثل مثلاً لأهل الإشراك -وهو تشبيه تمثيلي- أفضل من جعله مثالاً للأصنام.
يعني: حال كونهم هم يسمون النداء ولا يفقهون شيئاً مما يقال لهم أولى من حمل التشبيه على الأصنام وأنها تنادى ولا تعي ما تنادى به؛ لأن الله أثبت هنا السمع والأصنام قطعاً لا تسمع شيئاً مما تنادى به فقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171].
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعان الله جل وعلا على قوله، والله الموفق لكل خير.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد الله رب العالمين.(10/12)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [13]
أمر الله المؤمنين بالأكل من الطيبات وشكره عليها، وتوعد الذين يكتمون ما أنزل الله، وبين أن البر هو بالإيمان والعمل الصالح، وشرع لعباده القصاص في القتلى، وفي ذلك حياة لهم.(11/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم)
الحمد لله وحده حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171]، وذكرنا أقوال العلماء فيها.
قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:172 - 173].
مرت معنا آية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ} [البقرة:168]، وهذا النداء عام، والآن خص الله جل وعلا أهل الإيمان بالنداء فذكر المباح، وذكر المحرم، وبدأ بالحلال المباح؛ لأنه أكثر، وأخر المحرم؛ لأنه محصور، واستخدم في حصره إنما وهي تدل على الحصر.
قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ما دمنا معترفين أننا عبيد لله، وأن الله أفاء علينا الخير فإقبالنا على الخير نوع من الاعتراف بعبوديتنا لربنا وعدم إعراضنا عنه.
ومن هنا تفقه أن الإنسان كلما كان يظهر فقره لله ومسكنته كان قريباً من الله، جاء في الحديث الصحيح: (أن أيوب عليه الصلاة والسلام بعث الله إليه رجل جراد من ذهب)، رجل جراد تعبير مثل سرب طيور، أي: مجموعة من جراد من ذهب، فأخذ وهو نبي الله المذكور في القرآن المقول عنه: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30]، (فأخذ يحثو الجراد في ثوبه، فأوحى إليه ربه: يا أيوب ألم أكن قد أغنيتك عما ترى؟! قال: يا رب! لا غني لي عن فضلك).
فالله جل وعلا هنا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4]، يبنى على هذا قواعد فنقول: كل ما أباحه الله وأحله فهو طيب، وكلما حرم الله فهو خبيث، لكن ليس كل خبيث محرماً، قال عليه الصلاة والسلام: (وكسب الحجام خبيث)، مع أنه أعطى الحجام، وسمى البصل والثوم شجرتين خبيثتين مع أن الناس يأكلون منها، وقال جل وعلا: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]، مع أننا نأكله، فالعبارات تختلف، ولذلك يتحرر الإنسان علمياً قبل أن يتفوه بكلمة.
قال الله: {إِنَّمَا} [البقرة:173] أداة حصر، {حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة:173]، الميتة ما مات حتف أنفه أو ذبح بطريقة غير شرعية، ويسمى: يسمى ميتة، وهو أعظم المحرمات وأولها.
والثاني: الدم، وهذا الإطلاق قيدته آية: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:145]، وخصصه الحديث كما خصص الميتة: (أحلت لنا ميتتان السمك والجراد، وأحل لنا دمان الكبد والطحال).
فالكبد دم والطحال دم لكنه غير مسفوح، والسمك والجراد خصص من الآية بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن ماء البحر فقال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته).
الثالث: لحم الخنزير والمراد به: الخنزير جملة عند جمهور العلماء.
واختلفوا لماذا ذكر الله اللحم، وقد ذهب مالك رحمه الله إلى أن عين الخنزير ليس نجساً أو قال به بعض العلماء، حتى يصبح لقوله: (أو لحم الخنزير) له معنى، وقال جمهور العلماء: بالإطلاق.
الرابع: ((وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ)) الإهلال رفع الصوت، يقال للوليد إذا استهل صارخاً: أهل، ويقال للحاج: مهل؛ لأنه يرفع صوته بالتلبية.
كانت لقريش أصنام يأتون بذبائحهم إليها فيقولون: باسم اللات، باسم العزى، ينحرونها لآلهتهم، فأي شيء أهل به لغير الله لا يقبل حتى لو كانت من صنيع أهل الكتاب، فالأصل في طعام أهل الكتاب أنه حل لنا.
لكن لو كان عندهم عيد يهلون به لغير الله وذبحوا فيه لا يجوز لنا أن نأكل منه لآية البقرة، ونبقي آية المائدة على عمومها.
قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] الباغي في اللغة هو الطالب للشيء إن كان خيراً أو شراً، لكن المقصود هنا: الطالب للشر.
{وَلا عَادٍ} [البقرة:173] أي: ولا متجاوز للحد، واختلف العلماء في معناها: منهم من حصرها بالبغي وهو الخروج على الأئمة، وجعل العاد قطاع الطريق، والحق أن الباغي والعادي ليست مرتبطتين بقطاع الطريق أو بالخارجين على الأئمة، وإنما الباغي هو من يريدها من غير اضطرار، والعادي من يتجاوز الحد في أكلها.
ثم قال الله بعدها: {فَلا إِثْمَ} [البقرة:173] أي: إن كان مضطراً، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173].(11/2)
تفسير قول الله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174]، هذه عودة لذم أهل الكتاب.
{وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:174]، وهذا زيادة على العذاب السابق وهو اللعنة المذكورة في الآيات السالفة، مما يدل على أن كتمان العلم شيء عظيم ومنكر فضيع.
قال الله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175]، ثمت شيء في المنازع البلاغية يسمى: تنزيل المحصول المتحقق منزلة الحاصل، فالله جل وعلا -وهو أصدق القائلين- قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:174]، والمؤمن إذا سمع هذا يعلم يقيناً أن هذا سيقع لا محالة؛ لأن المخبر به هو رب العالمين، فنزل هذا منزلة ما وقع فيقول لهؤلاء الكفرة ما أصبركم على النار أي: ما أشد صبركم على النار، وسياقكم إليها رغم علمكم بحرها! هذا لسان المخاطب بالقول، والقائلون هم الناس، وهذا الأمر لم يقع لكن هذا منزع بلاغي، وهو تنزيل المحصول المتحقق منزلة الشيء الحاصل.
قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175] هذا قول في تخريج التعجب في ما، {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:175].
ويوجد تخريج آخر وهو أن ما هنا ليست تعجبية وإنما استفهامية، ويصبح المعنى: أي شيء أصبرهم على النار؟ أي: ما الذي دفعهم إلى هذا حتى يصار بهم إلى النار؟ ثم قال الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة:176]، هذا جواب لهذا كله والمعنى: أن الله جل وعلا أنزل الكتاب بالحق لينفع به العباد.
فلما جاء هؤلاء العلماء وكتموه كان حقاً عليهم أن ينالوا ما أخبر الله جل وعلا عنه قال الله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176].(11/3)
تفسير قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم)
قال الرب تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177]، هذا عود على بدء، كان الله جل وعلا قد تحدث في صدر هذا الجزء عن قضية تحويل القبلة فلما أكثر الناس على أهل الإيمان من أهل النفاق والإشراك واليهود والنصارى، وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142]؛ قال الله جل وعلا: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177].
والبر قرئت بالنصب والرفع، فعلى النصب تكون خبراً متقدماً لليس، واسم ليس المرفوع هو المصدر {أَنْ تُوَلُّوا} [البقرة:177].
والأصل في المبتدأ والخبر أن يقدم في الترتيب الأقوى، والمصدر أولى من المعرف بأل؛ لأنه إضمار والإضمار من أقوى المعارف، فعلى ذلك جعلت: {أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177] الخبر، لكن الترتيب في التقديم والتأخير هذه مسألة أخرى، وقدم الخبر رداً على أهل الإشراك، وهذا على قراءة: {لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة:177]، وعلى قراءة: (ليس البر) المسألة واضحة، البر اسم ليس، و {أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177]، مصدر منسبك من أن وما دخلت عليه في محل نصب خبر لليس.
نعود إلى الغاية من الآية وهي منزع إيماني قال الله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، من أراد القرب من الله فليقرأ هذه الآيات.
يسأل الناس أين البر؟ أين معالي الأمور؟ أين مدارك الجنة؟ أين النجاة من النار؟ أين طرائق الحق؟ أين معالم الهدى؟ فيجيبهم الرب تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ} [البقرة:177]، وهذا استدراك عظيم من رب رحيم، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة:177]، آمن بأن الله جل وعلا لا رب غيره، ولا إله سواه، في السماء عرشه، في كل مكان رحمته وسلطانه، يحكم ما يشاء، يفعل ما يريد، يقدم من يشاء بفضله، يؤخر من يشاء بعدله، لا يسأله مخلوقاً عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، أنزل الكتب، بعث الرسل، هو الرب وحده لا رب غيره، ولا إله سواه، هو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الرازق وما سواه مرزوق.
ثم جاء بعد ذلك ما يتبع الإيمان بالله ولا يمكن أن ينفك عنه، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:177] يحشر الله فيه العباد، ويقوم فيه الأشهاد، ويظهر فيه الشهداء، تنصب فيه الموازين، ويكون فيه الصراط، ويقام فيه الحوض، وفيه من الأهوال ما يشيب له الغلمان، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
والملائكة خلق من خلق الله خلقهم الله جل وعلا من نور، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وفي الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط، والله ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجئرون إلى الرب تبارك وتعالى).
وقد أثنى الله جل وعلا عليهم ثناء عاطراً، وذكر أنهم {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:16].
ثم قال جل وعلا: (والكتاب) كتب أنزلها الله جل وعلا فيها الهدى والنور، سمى الله منها التوراة، والإنجيل، والقرآن، والزبور، فيها من المواعظ والرقائق والهداية للخلق ما لا يمكن أن يحيط به أحد.
(والنبيين) بشر من الخلق اصطفاهم الله جل وعلا، خصهم بخصائص: تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، ما منهم من أحد إلا ورعى الغنم، يقبرون في المكان الذي يموتون فيه، خصهم الله جل وعلا، بأعظم خصيصه: وهي الوحي ينزل عليهم من السماء، هم دعاة إلى الحق ومعالم على طريق الخير، ورحماء بالخلق، وأكرمهم وأعظمهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه، سمى الله منهم في القرآن 25 نبياً، والإيمان بهم جملة من أعظم أركان الدين.
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:177]، وكلمة على حبه أي: أن يكون الإنسان صحيحاً شحيحاً يخشى الفقر، ويرجو الغنى، وهي أعظم مواطن العطاء، ومن أعطى وهذه حاله كيف به إذا اغتنى؟! وهذا أمر تعرفه العرب في سنن كلامها، كما ذكره زهير في مدح هرم بن سنان، والمقصود من هذا أن الإنسان إذا أعطى المال على حبه وقت تعلقه بالمال فكيف به إذا اغتنى؟! يكون عطاؤه أعظم.
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:177]، من؟ {ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة:177]، قدم الله ذوي القربى، {وَالْيَتَامَى} [البقرة:177] الذين لا كاسب لهم، وهم من مات آباؤهم وهم لم يبلغوا الرشد بعد، {وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة:177] الذين يتعرضون للناس أو يكونوا أخفياء، {وَابْنَ السَّبِيلِ} [البقرة:177] المنقطع الذي انقطعت به السبل، {وَالسَّائِلِينَ} [البقرة:177] والسائل غالباً لا يسأل إلا عن حاجة، {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة:177] أي: المكاتبون.
{وَأَقَامَ الصَّلاةَ} [البقرة:177] أعظم أركان الدين على الإطلاق، {وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} [البقرة:177]، وهي منصوبة على الاختصاص أي: وأخص الصابرين، {فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة:177]، البأساء: الفقر والعوز، والضراء: الأسقام، والأمراض، والبلايا، وحين البأس: أي: وقت القتال وملاقاة العدو، كل هذه الصفات لا يمكن أن تكون إلا في قوم صدقوا، والصدق مع الله جل وعلا أعظم المطالب وأدل البراهين على الانضمام لجند الله الغالبين، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقال الله هنا: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} [البقرة:177] أي: صدقت أفعالهم أقوالهم، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، والتقوى لباس عام وجامع لكل خير، وهي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، ترجو عقاب الله، ومثل هذه الآيات لا يمكن أن تشرح لغوياً ولا بلاغياً؛ لأنه خلق يتمثله المسلم ويؤمن به، وعقيدة يسلك بها المؤمن، وطريقة إلى ربه تبارك وتعالى، وآداب وقيم وصلوات وعبادات ومعالم يرشد الله بها الأخيار من عباده الطالبين معالي الأمور، وحفظها والعمل بها من أعظم الضروريات للوصول إلى أعالي الجنات.(11/4)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص)
بعد أن بين الله ذلك كله، نشأ مجتمع متدين، فيه هذه المنزلة العالية من الإيمان جاءت الأحكام الشرعية التي لابد من إيضاحها للناس، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178].
القصاص: هو المماثلة والإتباع، {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:11] اتبعي أثره، كما هو ظاهر الآية، وقد ورد قول الله: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64] أي: يتبعون آثار قد سلفت ومضت، فهذا معنى المماثلة والإتباع في أصل اللغة.
يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] أي: فرض، {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:178]، هل صدر الآية منفك عن عجزها أو أن صدر الآية متصل بعجزها؟ هذا مربط الفرس، ومعقد الأمر في فهم العلماء للآية، فمن فهم أن صدر الآية منفك عن عجزها وما بعدها بمعنى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] شيء مستقل لم ينظر إلى ما بعدها ولا إلى غيرها؛ جعل القصاص في كل قتيل حتى بين الكافر والمسلم؛ لأنه أخذها بالعموم وجعل ما بعدها إنما هو تأكيد، وأجرى الكلام على مجراه وفق سنن العرب.
وجمهور العلماء يجعلون صدر الآية مؤسس لما بعدها، فلا يقنعون بأن نقف عند قول الله جل وعلا وننهي الحكم في قولنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، فلهذا استثنوا من ذلك أمور.
والحق -والعلم عند الله- أن الله قال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، وقال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} [الإسراء:33]، ولم يحدد {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33]، فلا يستثنى إلا من استثنته السنة، ومن استثنته السنة اثنان: الأول: الكافر إذا قتله مؤمن، فلا يقتل مؤمن بكافر، إذا لا يقتل ولي الله بعدوه.
الثاني: الوالد مع الولد، وكلمة الوالد تشمل الأجداد وإن علوا، فلا يقتل والد بولده، إلا أن مالكاً رحمه الله استثنى من هذه واحدة وهي أن الوالد إذا أخذ ابنه وأضجعه فذبحه بهذه الصورة متعمداً وليس عن حالة غضب ولا عن حالة تأديب وإنما باختياره فإنه يقتل به، وهذا القول تميل إليه النفس؛ لأن الأب في مثل هذه الحالة التي يفعلها جهاراً عامداً تخلى عن أبوته، لكن الجمهور على أنه لا يقتل والد بولده.
قول الله جل وعلا: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:178] هذا على سنن العرب في كلامهم فلا يعني ذلك أن الأنثى لا تقتل بالذكر أو أن الذكر لا يقتل بالأنثى، كما أنه لا يعني أن الفرد لا يقتل بالجماعة أو أن الجماعة لا تقتل بالفرد؛ لأن هذا فيه استباحة للدماء، وقد رفع لـ عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن غلاماً من أهل صنعاء قتله سبعة فقتلهم به، وقال رضي الله عنه وأرضاه: لو تمالأ عليه أهل صنعاء كلهم لقتلهم به؛ لأنه لو قلنا: إن الجماعة لا يقتلون بالفرد يأتي إنسان له عدو فيذهب إلى رفقاء له ويتفق معهم على قتل غريمه حتى يستحيل شرعاً قتلهم جميعاً بهم، فتهدر الدماء، وتضيع أموال الناس، لكن يقتل الجماعة بالفرد كما يقتل الفرد لو قتل جماعة من باب أولى.
قال الله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] هذه الآية العلماء يستدلون بها على أن أخوة الإيمان لا ينزعها شيء.
{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، والمعنى: أن الإنسان إذا تنازل عن حقه في القصاص فإن له أن يقبل ويعطى الدية، فيكون الأداء من نفس صاحب الجناية بإحسان إليه.
والناس في زماننا هذا سلكوا بها مسالك غير محمودة، وأنا وقفت على بعض أمور شرعية أو إدارية لا يحسن نشرها، لكن المبالغة في طلب الفدية أمر غير محمود شرعاً، وصحفنا -للأسف- تعج بأخبار لا تحمد في هذا الشأن، فيقال: مثلاً إن أهل الميت يتنازلون إذا دفع لهم كذا كذا من الأموال، وهذا أمر غير محمود، ولا أؤيد أن يسهم البعض فيه، وقد بينت هذا كثيراً في دروس لنا سلفت؛ لأن هذا فيه نوع من المتاجرة، لا بأس بالشيء المعقول أو أن يطلب الإنسان القصاص الذي هو له، أما أن يأتي أولياء دم ويريدون أن يغتنوا على حساب ميتهم فهذا أمر غير محمود أبداً.(11/5)
تفسير قوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة)
قال الله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
شرع الله القصاص حفظاً للدماء، والناس إنما يحتكمون في ثلاثة أمور: في الفروج، والدماء، والأموال، ولا ريب أن المقصود من الآية أن الإنسان إذا علم أنه إذا قتل يقتل خاف على نفسه فامتنع عن القتل فحفظ نفسه ونفس غيره، قال الله جل وعلا: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، والتاريخ العربي الأدبي والسياسي مليء بقضايا عفو عند القصاص وأخبار من ثبتوا عند الموت، أو قضايا طلب القصاص، منها: أن رجلاً قتل رجلاً وكلاهما من أهل المدينة، فلما كانت ولاية معاوية رضي الله عنه وأرضاه كان ورثة الميت قد بلغوا سن الرشد.
فذهبوا إلى معاوية فأقدم القاتل بين يديه فلما سأله معاوية ليعترف قال: يا أمير المؤمنين! تريد أن أعترف شعراً، أم نثراً؟ قال: بل شعراً، فاعترف شعراً، فلما اعترف شعراً سلمه معاوية إلى ورثة القتيل ليقتلوه على ما جرت به عادة الناس يوم ذاك؛ لأن هذا أمر مفوض للسلطان.
فأخذه أولياء الدم فلما خرجوا به إلى ساحة القصاص جاءت زوجة القاتل المحكوم عليه بالقتل تودعه وودعته أنها لن تتزوج بعده، وكان فيها لمحة من جمال، فقال: والله ما هذا وجه من تريد أن تحرم من الرجال بعدي، فالمسكينة علبت على أمرها آمنت بقوله فذهبت وجدعت أنفها، فلما رآها قال: نعم، الآن اطمأنت نفسي؛ لأن مثلها لا ينظر إليها، وحضر أمير المدينة آنذاك القصاص، فجيء بالسياف الذي هو من الورثة، وجاء الأمير، فرفع القاتل بصره إلى السماء وقال: أذا العرش إني عائذ بك مؤمن مقر بزلاتي إليك فقير وإني وإن قالوا أمير مسلط وحجاب أبواب لهن صرير لأعلم أن الأمر أمرك أن تدن فرب وإن ترحم فأنت غفور ثم نادى صاحبه وقال: كيف تضربني؟ فأخبره قال: ليس هكذا، فإنني ضربت أباك ضربة لم يتحرك منها، وعلمه كيف يقتله يعني: أين يكون حد السيف، فقال من شهدوه: فضرب وهو ثابت لم يتحرك منه عضو ومات، وهذه يذكرها المؤرخون إما في العقد أو في الكامل أو في غيرهما، هذا من المحفوظ القديم والشاهد منها الثبات عند الموت.
وقدم رجل للموت وكان فصيحاً بليغاً فإذا به بين كفن وجلاد وسيف وقبور محفورة فارتج عليه، فقال له الناس: أين فصاحتك؟ قال: من أين الفصاحة؟ قبر محفور، وكفن منشور، وسيف مشهور، من أين تأتي الفصاحة؟! وهو معذور.
وقد مر معنا في دروس عدة أن أحد وجهاء العرب وفصحائها كان من الخارجين على المعتصم، فقدمه المعتصم للموت، فأراد المعتصم أن يعلم أين جنانه من لسانه، وإذا بالنطع والجلاد فقال: يا أمير المؤمنين! قبح الذنب، وكبرت الجريرة، والظن بك أن تعفو ثم قال: أرى الموت بين السيف والنطع كامن يلاحظني من حيث ما أتلفت وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت يعز على الأوس بن تغلب موقف يسل علي السيف فيه وأسكت وما جزعي من أن أموت وإنني لأعلم أن الموت شيء مؤقت ولكن خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم من حسرة تتفتت كأني أراهم حين أنعى إليهم وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة أذود الردى عنهم وإن مت موتوا فقال المعتصم: تركتك لله ثم للصبية وعفا عنه.
أقول: التاريخ العربي والمعاصر مليء بأحداث مثل هذه تبين أن الرجال يتفاوتون في هذه المواقف، موقف أن يرى الموت عياناً، وقتل الميت عياناً يسمى في اللغة: قتل الصبر، والنبي صلى الله عليه وسلم قتل أحد خصومه صبراً في وادي الصفراء وهو عائد من غزوة بدر، كان يغلظ عليه ويسبه أيام دعوته الأولى فقتله، وينسبون أشعاراً إلى أخته تعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن في نسبة تلك الأشعار إليها شيء من الضعف في السند.
وجريمة القتل يتعلق بها ثلاثة حقوق: حق لله، وحق للورثة، وحق للميت، وحق الله يسقط بالتوبة أو بمغفرة من الله بمشيئته؛ لأنه مندرج في قول الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وحق الورثة يخيرون بين القصاص أو الدية أو العفو، وحق الميت لا سبيل لنا إلى معرفته، وهو يكون يوم القيامة، حتى لو قتل القاتل عمداً واقتص منه لا يسقط حق الميت؛ لأن الميت في قبره لم يستفد شيئاً من القصاص، وإنما استفاد الورثة، وكذلك إن أخذوا الدية، فيبقى حق الميت قائماً فإذا كان يوم القيامة يسوقه إلى ربه ويقول: يا رب سل عبدك هذا فيم قتلني؟ فإن كان الله قد تاب على هذا القاتل سيوجد مخرج لهذا القاتل ويرضي الله المقتول، وهذا لا يمكن أن يقع إلا بين يدي الله وحده، وهو المتكفل أن يرضيك ويرضي خصمك، أما عند الناس لا يمكن أن يقع شيء من هذا أبداً.
والقتل على وجه الإجمال له ثلاثة أحكام: قتل العمد، وقتل شبه عمد، وقتل خطأ، وقد نص الله في القرآن على اثنين: العمد، والخطأ، أما شبه العمد فلم يتعرض الله له في القرآن، فلذلك أنكره مالك، ولكن جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة على أن القتل ثلاثة: عمد، وشبه عمد، وخطأ، وقالوا: العمد: قتله بآلة يغلب على الظن أنها تقتل، وشبه العمد: ضربه بآلة يغلب على الظن أنها لا تقتل فقتله، والخطأ: ألا يتعمد قتله أصلاً.
ومن شبه العمد الذي لم ينص الله عليه في القرآن لكن ألمح الله إليه قتل موسى للغلام القبطي، قال الله: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15]، فإن موسى تعمد ضرب القبطي ولم يتعمد قتله، فهذا يسمى قتل شبه عمد، ولا يسمى قتل خطأ.
وينجم عن جريمة القتل ثلاثة أمور بالنسبة للقاتل: أولاً: الإثم، وهذا أعظم الأشياء، وقتل النفس المحرمة من أعظم الذنوب.
ثانياً: أنه يحرم من الميراث إن كان ممن يرث من مقتوله.
ثالثاً: أنه ينفذ فيه القصاص إن طالب به ورثة القتيل أو الدية أو العفو عنه، فهذه الثلاثة تتعلق بالقاتل عمداً، أما قتل شبه العمد فيسقط القصاص لكن يبقى الإثم وتكون الدية مغلظة.
أما قتل الخطأ فلا يوجد إثم، لكن توجد دية مخففة يتحملها عصبة القاتل، ولا يوجد إثم لكن على القاتل الكفارة إما عتق رقبة أو صيام شهرين.
وبعض العلماء في المدينة جاءه رجل لم يكن مشهوراً بالصلاح وذكر أنه قتل أحداً خطأ بسيارة فقال: ما علي؟ والشيخ تفرس في هذا، وعتق رقبة غير موجود، فقال: صم شهرين متتابعين، قال: فقط؟ فاستغلها الشيخ وقال: لا، بزيادة، قال: ما الزيادة؟ قال: أن تفطر في الحرم، فذهب الحرم وكان يسمع فيه قرآن، ودروس؛ فتغير حاله بالكلية، وهذا جواب يقبل إذا كان الشيخ على يقين أنه ممكن أن يبين بطريقته للرجل تعديل الحال لو تبين له أنه عاجز أو تسبب في أنه أفطر، وهذه أمور تربوية يلجأ إليها أحياناً.
والمقصود من هذا أن الله جل وعلا حرم الدماء، وقول الله جل وعلا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178]، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، كل ذلك حتى يسود في المجتمع الأمن، وتعم فيه الحياة، وأن يأنف الناس من أن يقتل بعضهم بعضاً؛ لأن في إبقاء حياتهم نفع لأنفسهم وطاعة لربهم.
هذا ما تيسر إعداده، وأعان الله على قوله.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق، ونعتذر إليكم عن التقصير، وصل اللهم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(11/6)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [14]
الوصية مشروعة للأقربين من غير الورثة، فلا وصية لوارث، وللوصية أحكام بينها العلماء، وهذه وصية مخلوق لمخلوق، ثم أعقبها الله بوصية لعباده.
وقد فرض الله الصوم عليهم؛ لتحقيق التقوى، وهو من أركان الإسلام، فيجب عل كل مسلم بالغ عاقل أن يصوم شهر رمضان، وإن عجز عن صيامه لكبر أو مرض مزمن فعليه كفارة طعام مسكين عن كل يوم، والمسافر والمريض يفطران ويقضيان.(12/1)
تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد.
فهذا لقاء متجدد ضمن تأملاتنا في كلام ربنا جل وعلا، وكنا قد انتهينا في اللقاء السابق إلى قول الله جل وعلا: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179].
واليوم نزدلف إلى قول الرب جل شأنه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:180 - 182].
هذه الآيات الثلاث تلوناها جميعاً لارتباط أحكامها ببعضها، وهذه الآية صدرها مما أشكل على كثير من المفسرين، واختلفت فيه كلمة الفقهاء، وربما وصل إليك بعض علم عن هذا كله، وسنشرع في بيان الآية فقهياً ولغوياً، واسترشادياً من حيث الجملة.
أوجب الله جل وعلا الوصية هنا بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180]، والوصية: هي القول المبين لما يراد العمل به، وهي هنا مخصوصة بما بعد الموت؛ فمعنى قولنا: أوصى فلان، أي: ذكر قولاً يبين ما يطلب من غيره أن يفعله بعد موته، هذا معنى الوصية.
والتعبير القرآني باللفظ (كتب) يدل على الفرض، والذين طلب الله أن نوصي لهم بنص القرآن هنا هما الوالدان والأقربون.
والإشكال أن الله جل وعلا ذكر حق الوالدين وحق الأقربين في آيات المواريث، فمن هنا جاء الإشكال عند أهل العلم، وهل هذه الآية محكمة أم منسوخة؟ سلك الشافعي وكثير من العلماء المسلك التالي في فهم الآية: فقالوا: إن الله جل وعلا كتب وفرض الوصية هنا للوالدين والأقربين بآية الوصية، وفرض حقا للوالدين والأقربين في آية المواريث، قالوا: فنحن بين آيتين إما أن نجمع بينهما فنعطي الوالدين ما فرضه الله لهما في آية المواريث، ويحق لنا أن نوصي لهما، بل يجب علينا أن نوصي لهما، أو أن ننسخ المتقدم بالمتأخر، فلما احترنا بينهما عمدنا إلى مرجح خارج عن محل النزاع؛ فوجدنا في السنة حديثاً اتفق الناس على نقله نقلاً متواتراً وإن كان في أصله حديث آحاد، لكنه لا اختلاف حول متنه، فجعلناه هو المرجح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث) فحكمنا به على آية الوصية أنها منسوخة، وهذا القول اختاره جمع من العلماء، ومن أشهرهم من المفسرين ابن كثير رحمه الله.
وسلك آخرون مسلكاً آخر فقالوا: لا نقول: إن آية الوصية منسوخة، ولكن نقول: إن آية الميراث مخصصة لآية الوصية، فنأتي لمن فرض الله لهم في آية المواريث فنخرجهم من الوصية، ونبقي الوصية للقرابة، ولمن لم تخرجهم الوصية، ولمن لم تخرجهم آية المواريث، وآية المواريث لا يمكن أن تخرج الوالدين إلا في حالة واحدة: إذا كان كلاهما أو أحدهما كافراً، فإذا كان أحدهما كافراً أو كلاهما استطعنا أن نجمع ما بين إعمال آية المواريث وإعمال آية الوصية؛ فجعلوها مخصصة لآية الوصية.
والقاسمي -رحمه الله- صاحب كتاب (محاسن التأويل)، نقل ما ذكره العلماء كما صنع غيره من المفسرين، ثم كتب في كتيب عنده خاص أسماه (الموارد والسوانح العلمية)، وهو ما يطرأ عليه بعد التأليف، فكتب رأياً آخر لم يدونه في محاسن التأويل، وقد اطلع عليه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمة الله تعالى عليه وأدخله في متن التفسير عندما أخرج تفسير القاسمي (محاسن التأويل) للناس، وهذا الرأي يقول فيه: إن الوصية هنا للشيء المعهود، ولا تنازع ما بين آية المواريث وآية الوصية، فليست الوصية هنا بمعنى أن الله يلزمنا أن نكتب لفلان كذا، وفلان كذا، وإنما معنى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:180] أي: فليتق الله وليعمل بما أوصى الله به في آية المواريث، فيعطي كل ذي حق حقه، ولا يأتي بطرائق أو سبل يحيد بها عن التقسيم الشرعي الذي نص الله عليه في آية المواريث.
وقال القاسمي رحمه الله -في معرض ما قال-: ولا أدري إن كان أحد قبلي ذكر هذا أم لم يذكره.
وأنا على اطلاعي لم أقف على أحد قاله قبل القاسمي، وقد يكون -كما قال القاسمي- قد قاله غيره، والذي يعنينا أن هذه تخريجات العلماء من حيث الجملة.
وقال آخرون -وهو في ظني رأي بعيد جداً-: يعمل بكلتا الآيتين، وأن كلتيهما محكمة، فجمعوا ما بين آية المواريث وآية الوصية، وهذا وإن اختاره قلة لكنه موجود، وإن كنت أراه بعيداً في الترجيح.(12/2)
تفسير قوله تعالى: (فمن بدله بعدما سمعه)
قال الله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:181].
ينبغي أن تعلم أن المخاطب بهذه الآية ثلاثة، وهم أولاً: الشهود، فيكون الخطاب لهم بألا يكتموا الشهادة، وثانياً: الوصي القائم على تنفيذ الوصية، ويكون الخطاب له بألا يغيرها ويجور فيها، ثالثاً: الورثة، ويكون الخطاب لهم بألا يحولوا بين المال وبين وصوله لمن أوصى له به صاحب المال.(12/3)
تفسير قوله تعالى: (فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً)
أما قول الله جل وعلا: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:182].
الجنف: هو الميل والعدول عن الاستواء، والفرق بين الجنف والإثم: أن الجنف هو الخطأ من غير عمد، وأما الإثم: فهو الجور بعمد.
ومعنى: (خاف) في قوله جل وعلا: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة:182] أي: توقع وغلب على ظنه وعلمه، فمثلاً: تريد أن تخرج الساعة الثانية ظهراً والسماء ملبدة بالغيوم، فقررت أن تخرج الساعة الواحدة والنصف، فسألك بعض من يعرف موعدك: لم بكرت؟ فتقول: أخاف أن تمطر السماء، والمعنى: أتوقع أن تمطر السماء، أو يغلب على ظني أن تمطر السماء فتعيقني، فهذا معنى قول الله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة:182] ويصبح المعنى هنا: أن الوصي أو من كان حاضراً إذا غلب على ظنه أو توقع أن الميت -ونسميه ميتاً باعتبار ما سيكون، وإلا فعند ما يوصي الإنسان فإنه يكون في حالة رشد وقدرة- يريد أن يضر بالورثة، فيوصي بأكثر مما ينبغي، أو أن يكون المال قليلاً لا يحتمل أن يوصي منه، فتدخلت بكلام طيب هين لين تخشى فيه من وقوع هذا الميت في الخطأ إما بعمد أو بغير عمد، فهذا ليس كالأولين الذين خوطبوا بقول الله جل وعلا: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [البقرة:181]، فقد اختلف الوضع، فالأولون يريدون الإفساد؛ فلذلك حذرهم الله وقال: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:181]، وأما الآخر في الآية الأخرى فقد أراد الإصلاح والذي أشكل على أهل العلم هو أن المصلح يأتي التذييل على أنه يثاب، فلِمَ قال الرب جل وعلا: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:182]؟ ويمكن توجيه الاسمين الكريمين من أسماء الله الحسنى هنا على الأمرين، فيصبح: أن الموصي -وهو الميت- لو أخطأ أو تعمد الخطأ فحذره أو نبهه من هو عنده فرجع عن خطئه، فكأن الله يقول: فإن الله غفور له ما كان منه في الأول؛ لعودته إلى الحق، ورحيم بمن أرشده ودله على أن يعدل عن الخطأ والإثم، فينصرف (غفور) إلى الذي أخطأ ثم آب، و (رحيم) إلى من أرشده ودله على الخير، وبهذا فيما يبدو لنا يستقيم المعنى.(12/4)
من فوائد آيات الوصية
نعود للصناعة اللغوية في الآية، يقول الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة:180] أي: إن حضرت مقدمات الموت، وإلا فالموت إذا حضر فلا يمكن لأحد وقته أن يتحدث أو يوصي أو يقول شيئاً، والإنسان عند الموت تغلب عليه جبلّته ويفيء إلى أصل نبتته، فالذي هو ذو غرس جيد، ومعدن محكم، وأصل في الناس، حتى ولو صاحب حياته أخطاء على بعض قراباته ومن حوله، فإنه إذا دنا الموت يشعر بالندم، فيحاول أن يعوض ويتراجع، وأما والعياذ بالله من كان سيء السريرة أصلاً وخبيث النفس، واللؤم فيه متحكم، فإنه حتى لو دنى الموت يزيد الأمر وبالاً.
والخير في القرآن ورد كثيراً بمعنى: المال، ومنه قول الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] لكن هنا {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة:180] فيها إشعار لغوي أنه ليس كل مال يوصى منه، إلا ما اجتمع فيه أمران: الأول: الكثرة، ومرد القلة والكثرة إلى العرف.
والأمر الثاني: أن يكون مكتسباً من وجوه حسنة مباحة، فالمال إذا كان وفيراً مكتسباً من وجوه حسنة فهو الذي يتأتي فيه الأمر القرآني بأن تكون فيه الوصية، وهذا الذي يفهم من السياق اللغوي لقول الله جل وعلا: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180].
وقد جاء في أثر عند الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: (أن أحد الصحابة جمع أكبر بنيه وقال له: ادع إخوتك، فدعاهم، فقال لهم: إنني أريد أن أوصي وأبدأ بيتيم في حجري، ولما قال: يتيم، معناه: أن هذا اليتيم ليس ابناً لهذا الموصي، فأوصى له بمائة من الإبل والنياق، وكانت تسمى المطيبة عند العرب، فقال الأبناء وهم يتهامسون: إننا وإن رضينا بهذا في حياة أبينا فلن نقبل به بعد وفاته، فذهب الأخ الأكبر وأخبر أباه، فقال الأب: -وما أسعدهم من جيل لأنهم يحتكمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- بيني وبينكم رسول الله، فحمل أبناءه ومعه اليتيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له القضية، فلما قال: مائة غضب صلى الله عليه وسلم وتغير وجهه، وقال: (لا لا لا) ثم قال: (خمسة، عشرة، خمسة عشر) ويرتفع حتى أوصلها صلى الله عليه وسلم كحد أقصى إلى أربعين فقال: (فإن أبيت فأربعون) وهو أراد أن يعطيه مائة، وهذا من دلالة كمال عقله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا يفضي إلى النزاع، ويفضي إلى سوء ظن الأبناء بأبيهم، وقد يفهم منه أنه أراد الفخر والخيلاء؛ إذ حرم من لهم الحق فوزعه في غير مكانه، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن أبيت فأربعون)، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه أعجب باليتيم؛ إذ معه هراوة يضرب بها الجمال، فقال: (ما أعظمها من هرواة بيد يتيم!).
ثم إن الرجل قبل أن يودع النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا نبي الله إن لي أبناء وإن منهم ذوي لحى -أي: كباراً- وإن أصغرهم هذا وكان اسمه حنظلة وهو غير اليتيم -فادع له، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على جبهته وقال: بارك الله فيك) ثم إن هذا الشاب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى له بالرجل الذي فيه ورم، أو بالبهيمة التي في ضرعها ورم ليقرأ عليهما أو على أحدهما فيضع يده، ثم يسمى الله، ثم يتفل فيها، ثم يضع يده على موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهه، ثم يضع على الورم سواء كان في رجل أو في بهيمة فيزول ذلك الورم.(12/5)
تفسير قوله تعالى: (يا آيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام)
قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:183 - 184] إلى آخر الآيات.
قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:183] هذا نداء كرامة مر معنا نظائر له من قبل، ومعنى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] أي: فرض.
والصيام في اللغة كما تعلمون: الإمساك، سواء كان عن كلام أو عن غيره، ويقال: صامت الريح إذا ركدت وسكنت، ويقال: صامت الخيل، إذا لم تعلف، ومنه قول رؤبة بن العجاج: خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما وأما في الشرع: فهو الإمساك عن المفطرات من وقت مخصوص إلى مثله؛ يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ} [البقرة:183] أي: فرض {عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
ما وجه الشبه بين صيامنا وصيام من قبلنا؟ هل ذلك في الكيفية؟ أم في الأيام؟ كل ذلك محتمل، لكن لا نستطيع أن نجزم به، بمعنى أن الصيام فرض على الذين من قبلنا لكن هل فرض عليهم رمضان؟ هذا ظاهر القرآن لكن لا نجزم به، فهل كانوا يصومون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؟ هذا ظاهر القرآن أيضاً لكن لا نستطيع أن نجزم به، وإنما الذي نجزم به أن الصيام عبادة تعبد الله بها من قبلنا.
ثم قال تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] وقال بعدها بآية: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]، وجمهور المفسرين على أن شهر رمضان في الآية المذكورة والمبدوءة بالمبتدأ هو تفصيل وإزالة إبهام من قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184]، وعندي أن هذا خلاف الصحيح.
والمعنى أن {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] أي: في أول الأمر، ثم عقب بقوله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] فقد تكون يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم قال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] يقضي فيها صيام الثلاثة أيام، فليست لها علاقة برمضان.
ثم قال سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: يطيقون صيام ثلاثة أيام {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] بمعنى: أنه مخير وليس بواجب عليه، لكنه لو أفطر يعجل إلى الفدية، ثم قال سبحانه: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184] إما أن تكون زيادة في الفدية، أو جمع ما بين الصيام والفدية {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184] والمعنى: أنكم إذا كنتم تقدرون على الفدية، وتقدرون على الصيام فالصيام في حقكم أولى، {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:184].
ثم ارتفع الأمر وارتقى إلى تكليف أكبر، فنسخت الثلاثة الأيام، وحل بدلاً منها شهر رمضان، فليس شهر رمضان هو الأيام المعدودات، ويصعب عندي في لغة العرب أن يقال لشهر لا ينقص عن تسعة وعشرين يوماً: إن أيامه أيام معدودات وقول بعض الوعاظ بهذا هو قول جمهور المفسرين، لكنني لا أستحسنه.(12/6)
تفسير قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)
قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} أي: حضره {فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] أي: فليصم الشهر.
فهذا النص أوجب صيام رمضان، وليس قوله جل وعلا: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184]؛ لأن الأولى تتكلم عن الثلاثة الأيام لا عن شهر رمضان.
ثم قال الله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] أي: من حضره الصيام وهو من أهل رمضان وهو في سفر أو كان مريضاً {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185]، وبهذا يفهم أن التكرار هنا يتكلم عن قضيتين، لكننا لو جعلنا شهر رمضان بدلاً من أيام معدودات يصبح التكرار مرتين، وهذا ينزه عنه كلام الله، لكن الأولى في قول الله جل وعلا: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] أن تحمل على أن المراد الثلاثة الأيام، وأما قول ربنا في الثانية: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] فهو يتكلم عن شهر رمضان؛ لأن الآية عندنا في الأول منسوخة.
وقوله تعالى: ((وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ)) بتقدير فأفطر، {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، ويلاحظ هنا أنه لا ذكر لقضية التخيير، ولا ذكر لقوله جل وعلا: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184] ولا ذكر كذلك للفدية؛ لأنه لا يوجد إلا صيام وقضاء.
ثم قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]، قوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة:185] تعليل لأمره جل وعلا بالقضاء في قوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، وقوله تبارك وتعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] هذا عند إكمال العدة.
وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] أي: على ما أباحه لكم من الفطر حال السفر، أو حال المرض، وبهذا في ظننا تستقيم الآيات، ويمكن تجنب ظن تكرار {مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة:184]، وهذا خلاف ما عليه جمهور أهل التفسير، فالجمهور على أن شهر رمضان هو نفسه المقصود بأيام معدودات، ويقولون: إن بعض الآيات منسوخة وبعضها غير منسوخ كما هو محرر في كتب الفقهاء.(12/7)
المراد بقوله تعالى: (أنزل فيه القرآن)
هذا الإطلال العام للآية، وأما الإطلال الخاص فإننا نقول قال الله جل وعلا: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] اختلف العلماء في المقصود بـ {أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] على قولين: القول الأول: أن القرآن نزل كاملاً من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا في شهر رمضان، وهذا قول لـ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
القول الثاني: -وهو الذي أرجحه-: أن المقصود ابتداء نزول القرآن على نبينا صلى الله عليه وسلم، وكان في شهر رمضان، وقد جاءت آثار تدل على أن كتب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كالتوراة والإنجيل والزبور كلها أنزلت في شهر رمضان.
ثم جاء تكرار في الآية وهو أن الله جل وعلا قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} وقال بعدها: {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
والجواب عن هذا التكرار أن يقال: إن الهدى الأول هو الهدى الذائع العام الذي يكاد يعرفه كل أحد في القرآن، ولهذا قال: {هُدًى لِلنَّاسِ} [البقرة:185]، وأما الهدى الثاني فهو من غوامض القرآن الذي لا يدرك إلا بالاستنباط، فلا يعرفه إلا العلماء.(12/8)
قاعدة: المشقة تجلب التيسير
أخذ العلماء من قول الله جل وعلا -ونحوه في القرآن-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] القاعدة التي تقول: إن المشقة تجلب التيسير.
وقال بعضهم: قد أسس الفقه على رفع الضرر وأن ما يشق يجلب الوطر والوطر: معناه السعة والتخفيف، هذا مما استنبطه العلماء من قول الله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
وكذلك يمكن القول في هذه الآيات المباركات جملة ما قاله الإمام الذهبي رحمه الله -ويحسن أن يستشهد بها الخطباء إذا خطبوا عن رمضان-: وعند المؤمنين مقرر أن من أفطر يوماً من رمضان عمداً من غير عذر فهو شر من الزاني ومدمن الخمر، ويظنون به الزندقة والانحلال.
وهذه العبارة عندما قرأتها للذهبي عددتها من أفضل ما قرأت للعلماء في الاستنباط من أحكام الشرع، وتقنينه بلغة فقهية وعظية راقية.(12/9)
تفسير قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب)
ثم قال العلي الكبير: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
فالله تبارك وتعالى قريب في علوه، وعلي في دنوه، وهذه العبارة قالها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهي من أجمل ما نقل عنه عند الكلام على باب الأسماء والصفات.
فما ذكره جل وعلا من علوه وفوقيته لا يتنافى مع ما ذكره جل وعلا من قربه ومعيته.
وقال الصحابة رضي الله عنهم -فيما ورد عنهم في سبب نزول هذه الآية-: يا نبي الله! أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله جل وعلا قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} [البقرة:186] فأضافهم إليه إضافة تشريف، ولم يقل فقل لهم، وإنما اختصرت الطرائق اللفظية؛ لتبين لك اختصار الطرائق المعنوية، قال الله جل وعلا: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ولم يأت في القرآن جواباً بالسؤال هكذا إلا في هذا الموضع.
ثم قال سبحانه: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وهنا لا بد من تحرير وجه الخلاف في المعنى ما بين الاستجابة والإيمان، فنقول: هما متلازمان، فلا استجابة إلا بإيمان، والإيمان يدل على الاستجابة، لكن من حيث التحرير اللفظي الاستجابة تتعلق بالجوارح، والإيمان يتعلق بالقلوب.
ثم قال الله: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] ولا ريب أن الاستجابة لأمر الله مع الإيمان به جل وعلا ودعائه هو منتهى الرشد، فلا حصول للرشد الحق إلا بالإيمان به جل وعلا، واستجابة الجوارح لأوامره ونواهيه، مع دعائه تبارك وتعالى.
والآية ظاهرة المعنى في فضل الدعاء والثناء على الرب تبارك وتعالى، وهذا قد بسطنا القول فيه كثيراً في أكثر من موضع.(12/10)
تفسير قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)
قال الله جل وعلا بعدها في ختام آيات الصيام: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:187] إلى آخر الآية.
قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ} [البقرة:187] فيه إشعار أنه كان محرماً وإن كنا لا نملك دليلاً صريحاً على ذلك، لكن قال جمهور المفسرين: كان المسلم آنذاك في عهد الصحابة يحق له إذا أفطر أن يأكل ويشرب ويجامع إلى أن ينام، فإذا نام ثم استيقظ لا يحق له بعد ذلك أن يأتي أهله، هذا المشهور عندهم، وخالف فيه بعض العلماء، لكن لا شك أن قول الله جل وعلا: {أُحِلَّ لَكُمْ} [البقرة:187] فيه دلالة على أنه كان محرماً.
وقوله: {الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] الرفث: في الأصل ما قبح من القول وفحش، وهو هنا مقدمات الجماع.
وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] يذكر العلماء هنا لطيفة حسية ولغوية، فقالوا: يفهم منه الالتصاق والقرب، والالتصاق والقرب يصعب معه البعد، فمعنى الآية: إذا كان حالكم مع أزواجكم حال مخالطة والتقاء بشرة ببشرة، فمن الصعب أن تصبروا عنهن، فرحمة بكم أحللنا لكم أن تأتوهن ليلاً في رمضان، فتصبح هذه الآية مبينة لقول الله جل وعلا: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:187] أي: يحصل منكم رغبة في الوصول إلى الزوجات، وربما وقع من بعضكم وصول إلى الزوجة؛ فيكون قد خالف الأمر الشرعي.
وقوله: (تختانون) مأخوذ من الخيانة، كما أن الاكتساب مأخوذ من الكسب، يقال: خان الرجل الرجل، إذا غدر به، وخان الرجل العهد إذا نقضه، وخانني الدهر إذا تغير حاله من خير إلى شر، وخان السيف إذا نبا، ومعنى: نبا السيف، أي: لم يقطع، ويقولون: لكل صديق جفوة، ولكل عالم هفوة، ولكل سيف نبوة، ويقولون: خانتني رجلاي فلم أمش عليها، إما لخوف أو لفزع، والأصل أنك تمشي عليها.
وكان شوقي -رحمه الله- محباً لـ مصطفى كامل، وهو زعيم مصري سياسي، وبينهما علاقة وطيدة، ولكن شوقي كان يمنعه من بره شعراً أن صديقه خارج على حكومته، ومؤسس لحزب معارض للقصر، وشوقي نشأ في قصر، ولقد ولدت بباب إسماعيل.
فلما مات مصطفى كامل توقع شوقي أنه سيرثيه بمرثية قل سماعها؛ لما بينهما من صحبة، ولأنه ينتظر هذا اليوم، ولأن أصحاب القصر لن يعنفوا شوقي على رثاء مصطفى كامل؛ لأن مصطفى كامل قد أمن شره بموته، فعندما أراد شوقي أن يرثيه لم يرق بمرثيته إلى ما يريد، والمرثية مطلعها: المشرقان عليك ينتحبان قاصيهما في مأتم والداني إلى أن قال: وأنا الذي أرثي الشموس إذا هوت فتعود سيرتها إلى الدورانِ ماذا دهاني يوم مت فعقني فيك القريض وخانني إمكاني وموضع الشاهد قوله: وخانني إمكاني، فقلنا: إن الخيانة أن تؤمل شيئاً فلا يقع كما كنت تؤمله.(12/11)
أهمية إلجام النفس بلجام التقوى
إذا ضعف إيمان العبد -وهذا إذا تأملته في الناس تجدها ظاهراً- وشعر بالنقص في أي مكان ترقب الناس فيه كمالاً ثم وقع منه نقص أو هفوة أو جموح أو عدم وصول إلى مقصود فإنه تضطرب نفسه، فإذا اضطربت نفسه جمحت إما لسيئ الأفعال أو الأقوال، فإن كان تقياً ألجمته التقوى ألا يخرج منه ما ليس محموداً؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في المنافق: (إذا خاصم فجر)؛ لأنه يشعر بالغلبة فتؤزه نفسه إلى أن ينتصر، ولا يوجد لجام من التقوى، فيحصل فجور في الخصومة، فـ شوقي -رحمه الله وعفا عنه- عندما قال هذه القصيدة وخانه إمكانه، وعقه قريضه، ولم يستطع أن يقل شيئاً يرقى إلى ما رأد أن يرثي به مصطفى كامل، جنح إلى الآثام فقال: لو كان في الذكر الحكيم بقية لم تأت بعدُ رُثيت في القرآن مصر الأسيفة ريفها وصعيدها قبر أبر على عظامك حاني أقسمتُ أنك في التراب طهارة ملَك يهاب سؤاله الملكان وهذا فحش من القول وكفر، لكن ما الذي دفع شوقي إليه؟ هو إباء كبره الشعري إلا أن يظهر، وقلت: لا لجام تقوىً حقيقي يمنعه فأطلق لنفسه العناء، وهذا قابل لأن يعترينا جميعاً، ولذلك لا لجام مثل لجام التقوى، ولما مر عمر رضي الله عنه على تلك المرأة فسمعها تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني ألا حبيب ألاعبه فوالله لولا الله لا شيء غيره لحرك من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يكفني وإكرام بعلي أن تنال مراكبه ففي هذه الأبيات أمور غير مقبولة، لكن لما ذكرت مخافة الله قال عمر رضي الله تعالى عنه: نعم اللجام لجام التقوى.
فأنت عندما تريد أن تنشئ أحداً تحت عينيك: ابنك أو طالبك فإنك لن تسقيه شيئاً أعظم من لجام التقوى، وأما المعلومات والمعارف فسيصل إليها ذات يوم، لكن أعطه المنهج العام والطرائق التي يصل بها إلى مقصوده، ثم عظم الله جل وعلا في قلبه، وليكن خطابك الدعوي والعلمي مبني على أن تعظم الله جل وعلا في القلوب، وأما المعلومات والمعارف، أو نثر الأحكام، أو رفع الصوت في الوعظ فهذا كله لا يقدم ولا يؤخر إن كان الذي تخاطبه محروماً من معرفة الله جل وعلا؛ إذ أن القضية عنده ليست قضية علم، وإنما هي قضية ألا لجام من التقوى يمنعه من أن يصل إلى المعاصي.(12/12)
معنى قوله تعالى: (وابتغوا ما كتب الله لكم) الآية
قول الله جل وعلا: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187] هذه آية عامة، لكن أول من تنصرف إليه هو الولد.
وقوله سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] هذه ظاهرة، وإن كانت أشكلت على بعض الصحابة، لكن المقصود حتى يتبين الفجر الصادق من الفجر الكاذب.
ثم قال الله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فالإسلام يرقى بأتباعه في قاعدة تحتمل الجميع، لكن القواعد -كلما علت المنازل- لا تحتمل إلا القليل، حتى تصبح لا تحتمل واحداً.
فالصيام منزلة جبرية، بمعنى: أنه فرض علينا جميعاً في حالة الصيام ألا نأتي أهالينا إلا ليلاً، وأما المعتكف فليس له أن يأتي أهله ليلاً، وهي منزلة أضيق، فقال: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] وقبل قليل قال: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187]، ومعلوم لديكم أنه ليس كل الناس عاكفين في المساجد.
وظاهر القرآن أن أي مسجد يعتكف فيه، فالاعتكاف من الناحية الفقهية يقع على ثلاثة أوجه: يقع سنة، ويقع مندوباً، ويقع واجباً.
فيقع سنة في العشر الأواخر من رمضان، ويقع مندوباً في كل وقت، إلا العيدين؛ لأنه لا صيام فيهما، ويقع واجباً إذا نذر، فألزم نفسه.
ثم قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة:187] الحمد لله الذي بين لنا آياته، فنسأل الله كما بين لنا آياته أن يرزقنا التقوى والعمل بها، هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، والله المستعان، وعليه البلاغ، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(12/13)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [15]
لقد حذر الله المؤمنين من أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل، أو أن يستميلوا الحكام إليهم بالمال ليأخذوا مال الغير.
وكذلك نبههم الله تعالى إلى أن يسألوا الرسول في الأمور الدينية التي تنفعهم وتقيم دينهم، وعدم السؤال في أمور الدنيا التي تعرف بالتجربة والخبرة.
وكذلك حذرهم من أن يلقوا يأيدهم إلى التهلكة، فالتهور ليس بمنقبة كما أن الإحجام في غير وقته ليس بمنقبة، فالإقدام يكون في الوقت المناسب، والإحجام يكون كذلك في الوقت المناسب.
ثم أمرهم بالإنفاق في سبيل الله تعالى فإن ذلك طريق من طرق الفلاح والنجاح.(13/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: كنا قد انتهينا في اللقاء الماضي إلى آيات الصيام, ونزدلف اليوم إلى قول الله جل وعلا: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188].
معلوم أن الإنسان -إذا أجرينا الأمور على حقيقتها- له أن يأكل من مال نفسه, لكن قول ربنا جل وعلا: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} [البقرة:188] هذا ما يسمى بإقامة الأخ مقام النفس, فأقام الله هنا الأخ مقام النفس, وفي هذا إشارة إلى أن المجتمع المسلم مجتمع يختلف كثيراً عن غيره من المجتمعات, ذلك أن الإسلام يربي أتباعه على أن يكونوا كالجسد الواحد، وقد تظافرت نصوص القرآن والسنة على هذا.
وقوله سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] له من الناحية الفقهية صورتان: الصورة الأولى: صورة ناتجة عن الظلم، كالسرقة والنهب والغصب والاختلاس, فهذه صور تحمل معنى القوة, وتحمل معنى الظلم في الوصول إلى أموال الناس.
والصورة الأخرى: صورة لا تحمل معنى الظلم ولا التسلط، وإنما يكتسب من خلالها حراماً، مثل صورة بيع الخمر, أو لعب القمار, وأمثال ذلك من المكاسب المحرمة التي لا تحمل معنى القوة والتسلط, لكنها تحمل معنى الطرائق المحرمة التي لو تمت بالاتفاق لكانت من أكل الأموال بالباطل، كأخذ أموال الناس ربا, فلو تم الربا باتفاق وتراض فإنه كون من أكل الأموال بالباطل؛ لأنه طريق محرم في كسب المال.
فقول الرب تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة:188] معناه: أن هذه الأموال التي إذا قدر أن جمعتموها بالباطل تكون أشد إثماً وأعظم جرماً مما إذا كنتم تتوصلون بها إلى ميل الحكام وجورهم لأجلكم, والحكام يدخل فيها الحاكم أولاً, ومن ينيبهم من القضاة, والذين لهم حق الفصل بين الناس, ومن جعل الله بيدهم أمراً أو نهياً أو نواصي الخلق.
ثم قال تعالى: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} [البقرة:188] فالمال الذي نتشفع ونتوصل به إلى استهداء الحاكم أن يكون معنا ضد غيرنا ينجم عنه أن الحاكم سيمالئنا ويميل إلينا لو رفعت إليه خصومة نحن أحد طرفيها, وهذا كله بسبب ما قدمناه له من أموال، وتسمى في عرف الشرع: رشوة, وألبسها اليوم الناس لباس الهدايا وغير ذلك من التذكار وأشباهه, فيكون الوصول إلى ما نريد عن طريق إقامة علاقات مالية غير جائزة شرعاً يراد بها أن يغض الطرف عنا.
وقد جرت سنة الله في خلقه عموماً إلا من ألجم بالتقوى، أن من أطعمت فمه غضت عنك عينه, ولذلك فالأحرار من الرجال يأنفون أن يكون لأحد عليهم منة؛ حتى لا تدفعهم تلك المنة إلى أن يغضوا طرفاً عما لا يليق, قال البارودي -وهو يعتبر عند أهل الأدب مجدداً للشعر العربي بعد كبوته-: خلقت عيوفاً لا أرى لابن حرة علي يداً أغضي لها حين يغضبُ والمقصود من الآيات: أن الله جل وعلا يريد من المجتمع أن يكون الحق هو السائد فيه, والمهيمن عليه, وأن الناس لا يأكل قويهم ضعيفهم, وطرائق هذا الأمر ألا يكون للحكام ومن ينيبونهم طريق إلى الغير, وهذا الطريق إلى الغير يكون بعدم إعطائهم ما يستدرجون به حتى يكونون في صفنا على غيرنا, هذا مراد الله جل وعلا من الآية, وقد جاءت بعد آيات الصيام التي حذرت من شهوتي الفرج والبطن.
ولما كان حب المال متأصلاً في الناس قال الله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، فحرم الله جل وعلا الباطل في كسبه، واستخدامه فيما هو أشنع منه, كالوصول إلى رضى الحكام الذي ينجم عنه أن تؤكل أموال الناس بالباطل, قال الله: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188].(13/2)
تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة)
قال ربنا -وهو أصدق القائلين-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189] وجاء الجواب القرآني: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189].
ثمة في أسلوب العرب في كلامها أسلوب يسمى أسلوب الحكيم, وأسلوب الحكيم يمكن إجماله في جملة واحدة وهي: تلقي السائل بخلاف الذي يطلبه, فأنت تجيبه جواباً غير متوقع من لدنه, لكن هذا الجواب أشد فائدة له.
ومنه أن جماعة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -قيل: إنهم بعض الصحابة, وقيل: إنهم بعض اليهود, ولا يتعلق بمعرفة القوم كبير علم أو خلاف- فسألوه عن الهلال: لماذا يبدو دقيقاً ثم يكتمل ثم يعود كما كان؟ فالله يجيبهم على ما ينبغي أن يكون عليه السؤال، فليس السؤال عن علة كونه يبدو هكذا بأحق من السؤال عن الغاية من كونه على هذه الحالة، فنقلهم الله من السببية إلى الغائية أو الغاية, فبين الله جواب ذلك بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، وذكر الحج بعد قوله: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189] وهو ذكر خاص بعد عام, فالحج يدخل في قول الله جل وعلا: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189] ومواقيت: جمع ميقات, كما أن مواعيد جمع ميعاد، والميعاد بمعنى الوعد, والمواقيت بمعنى: الوقت, فهي {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189]، فالزكاة تعرف بالأهلة إذا حال الحول, والعدد للنساء تعرف بالأهلة, وما يكون بين الناس من مواعيد تضبط عن طريق الأهلة, وجميع مصالح الشرع معلقة بالأهلة.
وقد مر معنا أن المصالح الدنيوية المحضة معلقة بالشمس, وأما المصالح الشرعية فهي معلقة بالهلال, والشمس والقمر كلاهما آيتان من آيات الله، ويسميان: القمران.
ولماذا أفرد الله الحج؟ جرت عادة العرب في الشيء الذي تملكه وتعرفه من قبل أن تقدم وتؤخر فيه, فالزكاة والصلاة لم يكن للعرب عهد بها, فلهذا لا تملك تغييرهما, وأما الحج فكانت العرب تعرفه قبل الإسلام، كما كانت تعرف الأشهر الحرم كذلك قبل الإسلام, وقد أدخلوا التقديم والتأخير والزيادة والنقصان في الأشهر الحرم, ولهذا قال الله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] فحتى لا يحصل لأشهر الحج ما حصل للأشهر الحرم قال الله جل وعلا -مفرداً للحج وحده-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، وهذا نوع من التوطئة والتمهيد لما يأتي بعدها.
ثم قال ربنا: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189].
فأي شيء تطلبه على غير وجهه فهو من إتيان البيوت من ظهورها, فإذا طلبته من وجهه كان من إتيان البيوت من أبوابها, فيقول ربنا: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة:189] والنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم يسأل عما يتعلق بمصالح الدين والآخرة، وأما ما لا يتعلق بمصالح الدين والآخرة أصلاً فلم يبعث من أجله, فالمسألة إما بر أو شأن دنيوي محض.
فكأن الله يقول: الشأن الدنيوي المحض ليس لكم أن تسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه؛ لأنه لم يبعث لهذا, فكون الهلال يبدأ صغيراً ثم يكبر ثم يعود كما كان وهذا شأن دنيوي محض أنتم -أيها الأخيار من أصحاب محمد- منزهون أن تسألوا نبيكم عن مثل هذا, فلم يبق إلا الشأن الديني الذي تجمعه كلمة بر.
والبر: اسم جامع لجميع صفات الخير، وهناك طرائق للبر ينبغي أن يسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا نهاهم أن يأتوا البيوت من ظهورها، أي: أن يسألوه من غير الوجه اللائق، وإنما إدراك الأشياء يكون باتخاذ الأسباب الموصلة إليها, فلذا قال الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189].
لكن القرآن دائماً يجعل التقوى في طيات الأوامر الشرعية كلها؛ لأنها هي المقصود الأسمى من العباد.(13/3)
تفسير قوله تعالى: (واقتلوهم حيث ثقفتموهم)
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191].
معنى: {ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191] أي: ظفرتم بهم {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191] وقد أخرجوا المسلمين من مكة, وقد وقع هذا للمسلمين بأن فتحوا مكة, فحققوا قول الله: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:191] فما وقع منهم من فتنتكم في الدين حتى يردوكم عن دينكم إلى الشرك؛ أعظم من كونكم تقاتلونهم لتسفكوا دماءهم.
ثم قال تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة:191] وهذا من إطلاق المسجد الحرام على مكة, وفيه بيان لحرمة مكة عند الله, وفي الحديث: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض).
وهذا نزدلف به إلى الخلاف القائم بين العلماء: أيهما أفضل مكة أم المدينة؟ جماهير العلماء على أن مكة أفضل من المدينة, ولهم في ذلك دلائل وقرائن من أشهرها: أن الله جل وعلا جعلها موئلاً للخليلين: محمد وإبراهيم عليهما السلام.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف).
ولأن الكعبة في مكة وهي بيت الله.
ولأن الله جل وعلا أوجب الحج إلى مكة وإلى بيته العتيق لا إلى غيره, وغيرها من القرائن كثير.
وذهب الإمام مالك رحمه الله -وهو المشهور عن عمر وابنه عبد الله - وجمهور أتباعه إلى أن المدينة أفضل من مكة؛ لسكنى النبي صلى الله عليه وسلم فيها, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة).
وقال في حديث آخر: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) فقالوا: إذا كان موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها, فكيف ببلدة فيها روضة من رياض الجنة! وبعض العلماء يفصل فيقول: إن مكة أفضل، ولا يمكن لما فقهه مالك أن يصادم تلك النصوص الشرعية, لكن يقولون: إن المجاورة في المدينة أفضل من المجاورة في مكة.
والعلم عند الله.
يقول الله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191]؛ لأن هذا نوع من القصاص {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:191 - 192].
وقطعاً أن الشرك لا يدخله الغفران, فما معنى قول الله {فَإِنِ انتَهَوْا} [البقرة:192]؟ أي: انتهوا عن الشرك لا عن القتل، وهذا قيد لا بد لك أن تفقهه؛ لأنهم إن بقوا على شركهم ولم يقاتلونا فلن يغفر لهم.
فقوله: {فَإِنِ انتَهَوْا} [البقرة:192] أي: عن قتالكم وعن الشرك {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:192].(13/4)
تفسير قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة)
قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193].
قوله: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] قال العلماء: حتى لا يكون تقول ينجم عنه اضطهاد الناس في دينهم, ولما حصلت ولاية ابن الزبير اقتتل الناس كثيراً مع أتباع يزيد، وجيء لـ عبد الله بن عمر الصحابي المعروف, ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقيل له: ألا تقاتل والله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193]؟ فقال رضي الله عنه وعن أبيه: لقد قاتلنا حتى لا تكون فتنة وكان الدين لله -يقصد: أيام النبي صلى الله عليه وسلم-، وأنتم اليوم تقاتلون حتى تكون فتنة, وشتان ما بين القتالين.
قوله: وأنتم -يخاطب الخوارج- تقاتلون اليوم حتى تكون فتنة.
ومعلوم أن هذا حصل أيام عبد الله بن الزبير ويزيد بن معاوية، وأيام خروج عبد الله بن الزبير على يزيد، فقد أرسل يزيد مسلم بن عقبة المري , وأراد أن يرسل أولاً عبيد الله بن زياد , لكن عبيد الله بن زياد باء بمقتل الحسين , فأراد أن يبعثه يزيد إلى مكة، لكنه أخذ درساً من الأولى, فقال -أي: عبيد الله بن زياد -: والله لا أبوء بهما جميعاً, أي: قتل الحسين وغزو مكة، اعفني, فسلم القيادة لرجل اسمه مسلم بن عقبة المري، وكان شيخاً كبيراً في السن, فبدأ بقتال أهل المدينة, ثم انتقل إلى ابن الزبير، فقاتل أهل المدينة حتى وقعت موقعة الحرة، فأسماه أهل المدينة مسرفاً بدلاً من مسلم , يقول قائلهم: هم منعوا ذماري يوم جاءت كتائب مسرف وبني اللكيعة وعلى يده استبيحت المدينة، ثم أراد أن يتوجه إلى مكة -وقلنا: إنه خرج وهو شيخ كبير- فمات, فوكلت القيادة إلى غيره, ومات يزيد بعده أو قبله.
المهم أنه قبل أن يصل جيش الشام إلى مكة مات يزيد، وأعلن ابن الزبير رضي الله تعالى عنه الخلافة على الحجاز, وتبوأ الخلافة في الشام معاوية بن يزيد، ثم مروان بن الحكم، ولما ولي سب ابن زوجته, وهو شاب نشأ في حجره، فلما سبه وعيره بأمه التي هي زوجته -وهذا الابن من رجل آخر- ذهب الرجل يشتكي مروان بن الحكم عند أمه, فاغتاضت الزوجة وقالت له: إنه لن يسمعك إياها بعد اليوم, يعني: بيتت قتله، فلما قدم إليها قتلته خفية في داره، وذلك أنها اجتمعت عليه هي وخدمها، فلما مات مروان أعلن عبد الملك الخلافة له, فانتقلت الخلافة -كما يقول المؤرخون- من البيت السفياني إلى البيت المرواني نسبة إلى مروان بن الحكم، فصار الأمويون بعدها يقال لهم: بنو مروان، وهذا معنى قول شوقي: مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى أو المحراب مروانُ فيقصد بالمصلى والمسجد مسجد بني أمية.
فلما ولي عبد الملك أمر الحجاج فحاصر ابن الزبير في مكة، وضربها بالمنجنيق حتى احترقت أستارها، وهو لا يريد حرق الكعبة فهذا كفر، لكنه أراد قتال ابن الزبير، حتى قتل ابن الزبير رضي الله عنه وآل الأمر إلى الحجاج، وبالتالي إلى عبد الملك بن مروان.(13/5)
تفسير قوله تعالى: (الشهر الحرام بالشهر الحرام)
قال الله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:194].
الحرمات: جمع حرمة، كما تقول: حجرات جمع حجرة، والحرمة: الشيء الذي ينبغي أن يحفظ ويصان ولا ينتهك, فكلما ينبغي أن يحفظ ويصان ولا ينتهك يسمى حرمة.
أما تفسير الآية: فأنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، وكلهن في ذي القعدة, وذو القعدة شهر حرام, والأشهر الحرم ثلاثة سرد وواحد فرد, فالثلاثة السرد ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وأما الفرد فهو رجب.
فالنبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة، وذو القعدة شهر حرام, وفي ابتداء عمرته في يوم الحديبية ردته قريش, فلما ردته انتهكت ثلاث حرمات: حرمة الشهر الحرام الذي هو ذو القعدة، وحرمة البلد الحرام الذي هو مكة, وحرمة العمرة التي أحرم لها.
فرجع النبي صلى الله عليه وسلم وحل من إحرامه, فقريش بهذا انتهكت ثلاث حرمات, لذا قال الله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:194]، ولاحظ كلمة (قصاص) يعني: مساواة, وقلنا آنفاً: إن قريش انتهكت حرمة الشهر، وحرمة البلد, وحرمة الإحرام, ونظيره في السياسة قول عائشة -لما قتل عثمان: لقد انتهك الخوارج ثلاث حرمات: حرمة الشهر الحرام ذي الحجة، وحرمة البلد وهو المدينة، وهي بلد حرام, وحرمة الخلافة.
فأمر الخلافة شرعاً أمر معظم, ولهذا الصحابة رضي الله عنهم قبل أن يدفنوا نبيهم عليه الصلاة والسلام أجمعوا أمرهم على أبي بكر؛ لعلمهم بحرمة الخلافة ومكانتها, فقتلة عثمان انتهكوا ثلاث حرمات، والذين صدوا النبي صلى الله عليه وسلم انتهكوا ثلاث حرمات كما قدمنا.
لكن النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر ذلك العام، فعمرة الحديبية كانت عام ستة, وما يسمى بعمرة القضاء كانت عام سبعة، وعمرة الجعرانة كانت عام ثمانية، والرابعة كانت مع حجه عليه الصلاة والسلام في السنة العاشرة.
والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أخلت قريش مكة له دخلها عليه الصلاة والسلام، ونزحوا إلى الجبال, فهذا معنى قول الله: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة:194]، وكأن الله يقول: ردوك يا نبينا عام ستة فأدخلناك إياها عام سبعة, فكل الثلاث عادت، فأحرم صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة, ودخل البلد الحرام وبقي على إحرامه عليه الصلاة والسلام.
وهذه الآية -وهي: قول الله تعالى-: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] يطنب فيها الفقهاء؛ لأنها تحتمل عدة أشياء, فإنسان أخذ مالك ثم ظفرت بماله أتأخذه أم لا تأخذه؟ فيها أقاويل خلاصتها: لو تسلط أحد ما على مالك ثم وقفت على ماله بقدر الذي أخذ منك جاز لك أن تأخذه, ولا يسمى سرقة ولا نهباً ولا ظلماً؛ لأن الله يقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194].
فمثلاً: إذا خدعك شخص ما فأخذ منك عشرين ألفاً, ثم اكتشفت بتعاملك معه أنه أراد خداعك, فقال: أقرضني, ثم أنكر, وأنت وثقت به فأعطيته عشرين ألفاً, فما لبث أن أنكرها وجحدها، ثم لم يلبث أن وقفت على عشرين ألفاً له: إما وجدتها على مكتبة أو في درج سيارته، أو ما أشبه ذلك, واستطعت أن تحصل عليها، فلك أن تأخذها بدلالة الآية.
وهناك حالة واحدة لا يجوز أن تأخذ فيها وهي: إذا نسي وأعطاك إياها أمانة, أي: نسي صنيعه الأول وأعطاك إياها أمانة، فليس لك أن تأخذها إذا طلبها؛ لأن النبي قال: (ولا تخن من خانك).
إذاً: فإذا كانت على وجه الائتمان فلا ينبغي أن تأخذها وإن قال به بعض العلماء, لكن أحب إلينا ألا تفعل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تخن من خانك).
هذا كما في قول الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] وفي قوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ} [الأنفال:30] وفي قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال:58] فلم يقل: خنهم, وإنما قال: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58] أي: بين لهم الأمر على جلاء.(13/6)
تفسير قوله تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
قال الله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195].
هذه الآية دائماً تصبح محل نزاع، فيأتي الإنسان المحجم يستدل بظاهر قول الله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195].
ويأتي الباذل المقدام فيفسرها بأثر أبي أيوب عند أن قال: نزلت فينا معشر الأنصار أننا آثرنا الزرع على الجهاد.
والحق أن يقال ما يلي: الإنفاق لا يسمى إنفاقاً إلا إذا كان في وجه يسمى إصلاح مال, وأما تضييع المال فلا يسمى إنفاقاً.
وينبغي أن تعلم أن الله أمر بالإنفاق وأمر بالجهاد, وبين الإنفاق والجهاد طرفي نقيض, فيقابل الإنفاق إما البخل وإما الإسراف، فقول الله تبارك وتعالى: {وَأَحْسِنُوا} [البقرة:195] تعود على الإنفاق, والمعنى: لا تنفقوا إنفاقاً يصل إلى حد الإسراف، ولا تكونوا بخلاء.
وفي قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] أي: لا تقعدوا عن الجهاد، وأيضاً: فلا تلقوا بأنفسكم إلى المهالك على وجه يغلب على الظن أنه الهلاك المحقق, فيصبح الإقدام غير التهور، فتصبح الآية {وَأَحْسِنُوا} [البقرة:195] ضابطاً لقوله تبارك وتعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195].
فالقعود عن الجهاد إلقاء للنفس في التهلكة؛ لأنك قصرت في واجب شرعي فتهلك بتركه، والتهور في المعركة بإلقاء النفس في التهلكة المحققة على وجه مذموم، منتقد شرعاً.
والإنفاق إذا كان إسرافاً فهو إلقاء للمال في التهلكة على وجه مذموم، كما أن القعود عن الإنفاق بخل يلقي النفس في التهلكة؛ لأن البخل لا يورث إلا ذماً.
إذاً: فالمعنى: فيما يغلب على الظن أنه هلاك.
والعرب كانت تعيب التهور في المعارك ولا تعده شجاعة, ويقولون: إن الأعشى مدح أحد الملوك في زمانه فقال: وإذا تجيء كتيبة ملمومة خرساء قد كره العدو نزالها كنت المقدم غير لابس لمة بالسيف تضرب معلماً أبطالها يقول: إذا جاءت كتيبة خرساء من الحديد الذي عليهم فكأنها صماء، فيتحاشى أحد أن ينازلها، فأنت أيها الملك كنت المقدم غير لابس لمة، أي: غير لابس درع.
فعابت العرب الأعشى على هذا البيت الذي قاله في الملك, وقالوا: ما زدت على أن وصفت الملك بالتهور, وهذه ليست بشجاعة.
فالضابط القرآني جاء مبيناً لمسالك الناس في الإنفاق: ألا يكون إسرافاً ولا بخلاً، وفي الحروب ألا يكون قعوداً ولا تهوراً.
وهذا هو معنى قول الله: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195].(13/7)
تفسير قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله)
قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196].
اختلف العلماء هنا في معنى الإتمام, فذهب ابن عباس إلى أن المقصود بالإتمام: أن تحج وتعتمر من دويرة أهلك.
وأكثر المفسرين على أن المقصود: إذا شرعت في حج وعمرة ولو كانا نفلين فيجب عليك أن تتمهما.
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196].
مجمل ما دلت عليه الآيات ما يلي: الإحصار، وهو في اللغة: الحبس والمنع, لكن هل يكون الإحصار بغير العدو، أم لا يسمى إحصاراً إلا بالعدو؟ اختلف العلماء في ذلك: فذهبت طائفة إلى أن الإحصار الذي جاءت به الآية لا يكون إلا بالعدو, ودليلهم قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنتُمْ} [البقرة:196]، والأمن لا يكون إلا من خوف عدو.
وأجمل الأقوال أن يقال: إن الآية جاءت في حصر العدو, لكن كل ما نجم عنه حرج وضيق وحبس عن البيت فيقاس عليه قياساً جلياً لا شبهة فيه, وهذا حتى نخرج من نزاع العلماء.
فإن أحصر الإنسان عن الوصول إلى البيت لأي سبب كان فإن الله يقول: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، والهدي: هو ما يساق ويقرب ويذبح في مكة من بهيمة الأنعام، فأعلاه بدنه وأدناه شاة.
قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196].
اختلف العلماء في المقصود بمحل الهدي: فقال بعضهم في الإحصار: إن دم الإحصار حيثما أحصرت، وقال آخرون: يبعث بالهدي إلى الحرم، فلا يكون منه حج حتى يصل الهدي إلى محله، وذهبوا إلى أن المقصود بأن الحرم هو محل الهدي؛ لقول الله جل وعلا: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، وقول الله جل وعلا: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] والمراد مكة.
والأصل أن منى هي الأصل في النحر وإن دخلت في مكة, هذا قول.
والذين قالوا: إن دم الإحصار يكون في موطن الإحصار استدلوا بقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196].(13/8)
كفارة من فعل محظوراً في الحج
قال الله جل وعلا: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة:196] فالأصل أن هناك محظورات في الإحرام، فقال الله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196].
فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة نصف الصاع، والنسك أصله العبادة, ولكن لما كان النحر من أعظم القربات أطلق على التقرب إلى الله ببهيمة الأنعام, لكن هذا يكون على التخيير، ومما يقع فيه الخطأ في الفتوى بين بعض طلبة العلم: أنهم لا يفرقون بين ترك الواجب وفعل المحظور.
فما الذي يترتب على فعل المحظور؟ وما الذي يترتب على ترك الواجب؟ يكون التخيير في كفارة فعل المحظور, فمن فعل محظوراً من محظورات الإحرام وجاءك يستفتيك فقال: حلقت رأسي، أو تطيبت, أو فعل أي محظور من محظورات الإحرام, فهذا تقول له: أنت مخير بين ثلاثة أمور: بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين كل مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة؛ لقول الله جل وعلا: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، فـ (أو) هنا للتخيير.
وأما من ترك واجباً فإنه يهرق دماً وليس هناك تخيير، لكنه إن عجز عن الدم ينتقل إلى صيام عشرة أيام, وهذا مما يقع به الخطأ في الفتوى، فلو جاء إنسان وقال: أيها الشيخ المبارك! أو يا طالب العلم! تجاوزت الميقات دون أن أحرم، فنقول له: أنت لم تفعل محظوراً، وإنما تركت واجباً فعليك دم, ولو جاءك من يقول: لم أبت في مزدلفة, فتقول له: تركت واجباً عند جماهير العلماء، فعليك دم.
لكن لو قال: حلقت، أو قلمت أظفاري، أو مسست طيباً، أو لبست مخيطاً، فهذا تقول له: أنت مخير بين الثلاثة الأمور في الآية؛ لأنك فعلت محظوراً.
قال الله: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196].
وهل هو دم جبران أو غير ذلك؟ هذا فيها خلاف بين العلماء, لكن معلوم أن الأنساك ثلاثة: إفراد وتمتع وقران, فعلى قدر ما تأخذ على قدر ما تعطي, والعكس كذلك.
فهذا الذي ذهب يحج وأفرد الحج بسفرة لوحدها، ولم يعط زيادة من طاعة وهي العمرة, فلا يؤخذ منه دم، وأما من قرن ما بين الحج والعمرة في سفرة واحدة فعليه دم؛ عوضاً عن الجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد.
ومن تمتع فقد مكث أياماً يلبس ويتطيب ويأتي النساء، فعوضاً عن هذا التمتع يهرق دماً؛ فلذا قال الله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] أي: إلى أهلكم {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196]، ومعلوم أن الثلاثة والسبعة: عشرة, فلماذا نص الله على ذلك وقال: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196]؟ اختلف العلماء, والأظهر عندي والعلم عند الله: أن هذه الآمة أمة أمية لا تحسب، وهم المخاطبون الأولون بالقرآن, فبينه الله بياناً جلياً حتى لا يقع منهم خطأ, فقال: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}.(13/9)
القول فيما يعود عليه حرف الإشارة
قال الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196].
{ذَلِكَ} [البقرة:196] اسم إشارة، فعلى ماذا يعود؟ تأمل الآية، قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196].
فـ: {ذَلِكَ} [البقرة:196] يعود إلى أحد اثنين: إما للتمتع، أو لما يترتب على التمتع من هدي وصيام, فإذا قلنا: إنه يعود إلى التمتع فمعنى قول الله: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196] أنه ليس لأهل مكة أن يتمتعوا، فيصبحوا مقصورين على نسكين إفراد وقران.
وإذا قلنا: إن {ذَلِكَ} [البقرة:196] عائد على ما يترتب على التمتع من الهدي أو الجزاء الذي هو الصيام بدلاً منه, فيصبح المعنى: أن الجزاء على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، فيكون لهم التمتع وليس عليهم هدي.
والمراد بحاضري المسجد الحرام سكان مكة، فإذا كانت هناك عمارة نصفها في الحرم ونصفها خارجه فلا يعقل أن من كانت غرفته في أول الدار ليس عليه هدي، ومن كانت غرفته في آخر الدار عليه هدي، فهذا ينزه عنه كلام الله.
ثم قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196].
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول هذه الآيات المباركات.
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحب ويرضى, وأن يلبسنا وإياكم لباس العافية والتقوى, وصلى الله على محمد وعلى آله, والحمد لله رب العالمين.(13/10)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [18]
إن القرآن الكريم جاء بلسان عربي فصيح، يصعب على من لم يتمعن في معانيه أن يفهمه، ولهذا اهتم جمع كبير من سلف الأمة وعلمائها بتأويل آيات القرآن، وتفسير كلماته، وتوضيح عباراته(14/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا لقاء من لقاءاتنا الموسومة بمحاسن التأويل، وهي تأملات في كلام ربنا رب العزة والجلال جل جلاله، وتذكيراً للإخوة الذين يكتبون معنا نبين ما يلي: كنا في اللقاء الماضي أو الذي قبله نتحدث في سورة الأحزاب، ثم انتقلنا إلى الحديث في سورة البقرة؛ حتى يتيسر لنا الحديث عن آيات الحج التي كنا قد توقفنا عندها في العام الماضي، ومن هذا اللقاء إن شاء الله تعالى إلى أن نختم القرآن سنمضي تدريجياً، أي: أننا وقفنا في اللقاء الماضي عند قول الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204].
وتكلمنا عنها إجمالاً، ولم نفصل بسببين: الأول: ضيق الوقت، والثاني: أنها كانت مرتبطة بآيات الحج فعرجنا عليها بما يتناسب مع ما تبقى.
وأما الآن: فنفرد لها الحديث، ونستمر في الشرح إلى ما شاء الله، نسأل الله أن ييسر لنا أن نختم تفسير كتابه.
قال ربنا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204].
فيما مضى أيها المبارك مر تقسيم الناس إلى قسمين في الحج، فقال الله: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200] فهذا قسم، ويقابله قسم آخر، يقول الله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، فهذان القسمان كان الرب جل وعلا يتكلم عنهما حال كونهما في الحج، ثم إن الآيات التي ستأتي تتحدث عن قسمين آخرين عامين في الحج وفي غير الحج، بل إن الأصل أنهما في غير الحج، فقال ربنا: {وَمِنَ النَّاسِ} [البقرة:204] (من) هذه تبعيضية والمعنى: بعض الناس، {مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204].
أكثر المفسرين على أنها نزلت في الأخنس بن شريق، فقد كان فصيحاً بليغاً يظهر الإيمان ويبطن النفاق، والصواب: أنها -أي: الآية- عامة في كل من هو مبطن كذب أو نفاق أو كفر أو حسد أو غل على أهل الإيمان، هذا الصواب.
يقول ربنا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204] الإعجاب: هو استحسان الشيء والميل إليه مع التعظيم، وإذ لم يكن هناك شيء من التعظيم ولو يسير فلا يسمى هذا إعجاباً، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة:204]، وهذا يعجبك قوله بسبب جرأته على الله، ومن جرأته على الله أنه يشهد الله على ما في قلبه وهو يعلم أن الله يطلع على غير الذي يقوله، فالذي يقوله شيء يستخدم فيه فصاحته وبلاغته ورونق كلامه، ومع ذلك حتى يقنعك يشهد الله على ما في قلبه، وهذه جرأة على الله؛ لأنه يعلم أن ما يقوله ليس هو الذي يبطنه، ثم يقول الله جل وعلا: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] أي: شديد الخصومة، مع هذا الذي يظهره، وإذا قدر فإنه كما قال الله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة:205].
وسنقف وقفة مع الفعل (سعى) وقفة لغوية في معانيه، قال ربنا: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ} [البقرة:205]، فحقيقة السعي المشي الحثيث، ومن هنا: سمي المشي بين الصفا والمروة سعياً؛ لأنه مشي حثيث، ثم إن الفعل (سعى) يستخدم في اللغة بحسب تعبير القرآن وتعبير اللغة في أمور عدة: منها ما يلي: يطلق السعي على كسب الإنسان وعمله، قال ربنا جل جلاله: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء:19] أي: قام بالعمل والكسب الذي يؤدي إلى الآخرة، {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء:19]، وهذا دليل على أن السعي يكون بمعنى: الكسب والعمل.
كما يأتي السعي بمعنى الإصلاح بين الناس، ورفع الإضرار، قال عمرو بن كلثوم: وأنا منا الساعي كليب ومقصوده بالساعي كليب أن كليباً كان يسعى في الصلح بين الناس، ورفع الإضرار عنهم.
كما يأتي السعي بمعنى: العزم على تحصيل الشيء، ومنه قول الله جل وعلا في حق فرعون: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات:22] أي: يعزم على تحقيق مراده.
وهنا يقول الله تعالى عن هذا وأضرابه: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة:205] الحرث: هو الزرع، وسمي الحرث زرعاً لأنه بعد أن يحصد يحرث من جديد، والنسل يطلق على كل الأولاد سواء أولاد بني آدم، أو أولاد الحيوانات؛ لأنه ينسل من بطن أمه، والمقصود هنا: أولاد الحيوانات في المقام الأول؛ لارتباط أولاد الحيوانات بالحرث، ثم قال الله جل وعلا: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].
والقرآن في المقام الأول كتاب موعظة وهدى، فينبغي على المؤمن أن يتجنب الفساد؛ لأن الله لا يحبه، ومن الفساد في الأرض: سفك الدماء، ورفع السيف على المسلمين، أو إنشاء قنوات تبث الأذى والشرور، أو تبني التجارة بملابس ينجم عنها الخلق إذهاب القويم في الأمة، فهذه وأضرابها كلها تسمى فساداً في الأرض، والفساد لا يحبه الله، قال الله جل وعلا: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].(14/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:206] قرنت كلمة العزة هنا بكلمة الإثم، وهذا يسمى في عرف البلاغيين الاحتراس، فليست العزة على إطلاقها مذمومة، فهناك عزة محمودة، قال الله جل وعلا: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، فالعزة المحمودة هي العزة التي ينالها المرء بالدين وباعتصامه بربه، والعزة المذمومة التي تكون مصحوبة بالإثم، فلهذا جعلها الله جل وعلا مصحوبة بالإثم هنا حتى يكون هناك احتراس من أنه ليس كل عزة مذمومة، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ} [البقرة:206] أي: هذا الذي يبطن ما لا يظهر، ويظهر ما لا يبطن، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ} [البقرة:206] والعزة هنا بمعنى: حمية الجاهلية، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206].
وهنا ينبغي للمرء أن تتواضع نفسه، ويطمئن قلبه، وتستكين جوارحه إذا قيل له: اتق الله، ولهذا قيل: إن من أبغض الخلق إلى الله رجل يقال له: اتق الله، فيقول: عليك نفسك، ولا ينبغي لأحد أن يستكبر عن هذه الكلمة، وقد قيل: إن الخليفة العباسي هارون الرشيد وقف أحد اليهود عند بابه يريد أن يرفع مظلمة إليه عاماً ويرده الحجاب، وهارون لا يدري، فرصد هذا اليهودي لـ هارون في بعض طرقه، فلما قابله على عنفوان هارون المعروف، قال له: يا أمير المؤمنين اتق الله، فنزل هارون من فرسه وأرخى نفسه، أي: تطامن وتواضع وأخذ يسمع لليهودي، فلما فرغ من هذا قيل له: ما هذا يا أمير المؤمنين؟! قال: إنني خفت أن أدخل فيمن قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206].
(حسبه جهنم) أي: تكفيه جهنم، {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206] هذا عند العرب أسلوب ذم، فبئس للذم، ويقابلها في المدح نعم، {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206]، فهذه طائفة من الناس.(14/3)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله)
ويقابل هذه الطائفة قول الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207] ويشري هنا: بمعنى: يبيع، والأظهر: أن الفعل يشري في القرآن لم يرد إلا بمعنى يبيع، قال الله جل وعلا في خبر نبيه يوسف: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف:20] أي: وباعوه بثمن بخس، فهنا قول الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي} [البقرة:207] أي: من يبيع نفسه، وهذه الآية اختلف فيمن هو المراد فيها، وأكثر أهل العلم على أنها تنصرف أول ما تنصرف إلى صهيب بن سنان المعروف بـ صهيب الرومي، وكنيته أبو يحيى رضي الله عنه وأرضاه، وقد كان في أول أمره أسيراً، ثم نشأ صعلوكاً في مكة، وصعلوك بمعنى: فقير قليل الحال رث المال، ثم ما لبث أن اغتنى، فلما جاء الإسلام كان صهيب من السابقين الأولين، فلما أراد الهجرة منعته قريش، ومما احتجت به في منعه أن يخرج أنهم قالوا له: إنك أتيتنا صعلوكاً لا مال لك، فوالله لن تخرج وقد جمعت المال، فتنازل عن أمواله مع الاختلاف كيف تنازل عن أمواله: هل دلهم على أماكنها، أو أعطاهم إياها، وهذا كله ليس له علاقة في تحقيق المناط في القضية، لكن المقصود: أنه أراد أن يبيع ذلك كله من أجل أن يفوز برضوان الله، وهذا من أعلا المقامات، وأرفع الدرجات، قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
والرأفة: أرق الرحمة وألطفها، وصهيب رضي الله عنه كان في زمن ما عبداً لقريش، فلما باع نفسه لله رأف به الرءوف الرحيم رب العباد جل جلاله، وقد ذكر الله هنا اسمه رءوف دون أسمائه الحسنى الأخرى، وكل أسماء الله حسنى، ومن مظاهر رأفته جل وعلا بعباده أمور نذكر منها اثنتين، ثم نذكر الثالثة المتعلقة بـ صهيب، فغير المتعلقة بـ صهيب من مظاهر رأفة الله التي هي أرق الرحمة وألطفها: أنه يضاعف الحسنات ولا يضاعف السيئات.
ومن مظاهر رأفة الله: أنه لو قدر أن أحداً أذنب وكفر مائة عام أو أقل أو أكثر، ثم تاب وصدق مع ربه أسقط الله عنه كل ما مضى، فهذان اثنان غير مرتبطين ارتباطاً مباشراً بموضوع صهيب، لكن موضوع صهيب يتعلق بالمظهر الثالث، وقد قلنا: إن صهيباً أخبر الله عنه، وهذا قلنا إنه ينطبق على صهيب وعلى غير صهيب، هذا على القول إنها نازلة في صهيب؛ أن أخبر الله عن هذه الطائفة التي يمثلها صهيب هنا بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة:207] أي: يبيع نفسه (ابتغاء مرضات الله) فعندما يبيع المرء نفسه فإن المشتري هو الله، والثمن هو الجنة، فهذه النفس وهذا المال الذي ضحى به صاحبه في أصله هو ملك لله، وهذه الجنة التي يدخلها الله من باع نفسه من أجله هي ملك لله، فمن مظاهر رأفة الله: أنه يشتري ملكه بملكه؛ رأفة ورحمة بعباده، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فالمشتري الله، والمشترى: النفس والمال، والثمن: الجنة، وينطبق هذا على حال صهيب هنا، لكننا نلحظ ونعلم يقيناً أن النفس والمال والجنة كلها خلق لله، وملك لله، فمن مظاهر رأفته جل جلاله وعظم خيره: أنه يشتري ملكه بملكه؛ رحمة بعباده، ورأفة بهم، وهذا من أعظم مظاهر رأفة الله، ولهذا فهذه الآية التي صدرت بقول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة:207] ذيلت بقول الله: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].(14/4)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)
ثم قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:209].
السلم هنا بمعنى: الإسلام والمسالمة، وأهل العلم رحمة الله تعالى عليهم اختلفوا في المخاطب أصلاً بهذه الآية، فقال بعضهم: إن المخاطب بها المنافقون، فهذه دعوة لهم في أن يدخلوا في جميع شرائع الدين، وهذا عندي أضعف الأقوال؛ لأن الآية صدرت بقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:208].
القول الثاني: أن المخاطب بالآية أولاً هم أولئك الذين اسلموا من اليهود كـ عبد الله بن سلام وأضرابه، فنقل بعضهم -ولا أعلم لهذا دليلاً قوياً سنداً-: أن عبد الله بن سلام وغيره ممن أسلم من اليهود شق عليهم في الدين أمران: الرضاء بعدم محبة يوم السبت؛ لأن اليهود تعظم السبت، فشق عليهم ألا يعظموا يوم السبت، وشق عليهم أن يحبوا الإبل، ويأكلوا من لحومها؛ لأن الإبل محرمة في ملة بني إسرائيل، قال الله جل وعلا: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران:93] وإسرائيل هو يعقوب، والذي حرمه إسرائيل على نفسه هو لحوم الإبل وألبانها، فاليهود لا تأكل لحوم الإبل، ولا تشرب ألبانها، وهذا القول في ظني ضعيف أن يقال: إن عبد الله بن سلام كان يعظم يوم السبت، وكان لا يحب الإبل؛ إبقاءً على شيء من اليهودية، هذا لا يتفق مع ما جاء في سيرته العامة رضوان الله تعالى عليه، خاصة إذا حملنا آية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف:10] أن المقصود به: عبد الله بن سلام.
والصواب والعلم عند الله: أن هذا خطاب لكل مؤمن أن يقبل شرائع الدين كلها، ولا يفرق بين شيء منها، (كافة) أي: في الإسلام جميعاً في الإسلام كله، هذا هو معنى قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208].
{وَلا تَتَّبِعُوا} [البقرة:208] (لا) ناهية، والقرينة على أنها ناهية حذف النون، {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208]، وهذا يسوقنا إلى مسألة وهي: أن من قواعد الترجيح أنه إذا اختلف النحاة في شيء فينظر إلى رسم القرآن، فيكون رسم القرآن مرجحاً إن وافق قول أحدهما، والمثال على هذا قول الله جل وعلا: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6]، فـ (لا) هنا اختلف فيها هل هي ناهية أو نافية، والفرق بين (لا) الناهية و (لا) النافية من حيث الأثر: أن (لا) الناهية تجزم، و (لا) النافية لا تجزم ولا تنصب فليس لها أثر نحوي على الفعل، في حين أن (لا) الناهية تجزم، قال بعض العلماء: إن (لا) هنا: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6] إنها ناهية، بمعنى: أن الله جل وعلا يقول لنبيه: أنا سأقرئك القرآن ويجب عليك ألا تنسى، فنهاه عن النسيان.
وقال آخرون: إن (لا) هنا نافية، والمعنى: أن الله جل وعلا تكفل بإقرائه لك، وتكفل بألا تنساه، إذاً: تنازع النحويون هنا: هل هي (لا) الناهية، أو (لا) النافية، ومن المتفق عليه: أن تنسى جاءت مختومة بالألف المقصورة، فوجود الألف المقصورة يدل على أن (لا) ليست ناهية؛ لأنها لو كانت ناهية لما وجدت هذه الألف، فيصبح مجزوماً بحذف حرف العلة، فبقاء حرف العلة في رسم المصحف دليل على أن (لا) هذه نافية وليست ناهية، وهذا من قواعد الترجيح أن ينظر إلى رسم المصحف إذا اختلف النحاة.
والكلام هنا على قول الله جل وعلا: {وَلا تَتَّبِعُوا} [البقرة:208]، لكنني جعلت منها طريقاً لتبيين مسألة مهمة وهي معرفة بعض قواعد الترجيح، {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208].
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، ونكمل في اللقاء القادم بعون الله تعالى الآية هذه والتي تليها: (فإن زللتم من بعدما جاءتكم البينات) وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(14/5)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [197]
قصد بيت الله عز وجل للتعظيم بشرط وجود الزاد والراحلة المعبر عنه بالاستطاعة: هو الحج، وقد بين الله في سورة البقرة بعضاً من الأحكام المتعلقة بالحج لمن أراد أن يتفقه في دين الله تعالى.(15/1)
تفسير قوله تعالى: (الحج أشهر معلومات ولا جدال في الحج)
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197].
وقبل أن نشرع في تسير هذه الآية نبين أن الآية التي قبلها تقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189] فجاء الجواب القرآني: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، فأشعر قول الله: إن الأهلة مواقيت للناس والحج، على أن أشهر الحج طوال العام؛ لأن كلمة: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] عائدة على الأهلة، والأهلة طوال العام، فأشعرت أن جميع أشهر السنة أشهر حج، وهذا غير صحيح، فهذا الإشعار الذي يظهر لك بادي الرأي أنه عام هذه الآية أشبه بالموضحة له، وبعض أهل العلم يراها مخصصة لذلك التعميم الذي قال الله فيه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189]، فهنا لم يحدد أن أشهر الحج محددة، لكنه هنا قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ومعنى الآية: وقت الحج أشهر معلومات، ومن المهم: أن تفقه مراد الله: أن الله جل وعلا هنا لم يذكر لنا ما هي أشهر الحج، واكتفى بقوله جل شأنه: (أشهر معلومات) جمع معلومة، أي: معروفة لا يكاد يجهلها أحد، في حين أن الله جل وعلا لما ذكر الصيام قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ثم قال بعدها بآيات: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [البقرة:185] فلماذا عين؟ هنا لم يقل: شهر شوال، شهر ذي القعدة، شهر ذي الحجة؛ لأن رمضان لم يكن معروفاً آنذاك بأنه شهر صيام، فالعرب لا تعرف صيام رمضان في الجاهلية، لكن العرب في الجاهلية تعرف الحج، فقد كانت تحج وتعتمر، لكن كانت لهم شركيات مع أصل حجهم الذي أخذوه إرثاً عن إبراهيم عليه السلام، فقول الله جل وعلا: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] يحيل إلى شيء معروف في الذهن، والتعبير بقوله جل وعلا: {أَشْهُرٌ} [البقرة:197] هذا جمع قلة، والعرب إذا جمعت جمع قلة من ثلاث إلى تسع تأتي على وزن أفعل، تقول: نجم، وتجمعها جمع قلة فتقول: أنجم، وشهر جمعها جمع قلة: أشهر، أما نجم فجمعها جمع كثرة: نجوم، قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75].
والشهر جمعها جمع كثرة: شهور، قال ربنا: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة:36] فلما قال: اثنا عشر شهراً قال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} [التوبة:36] ولم يقل: إن عدة الأشهر، وهذا الكلام يسمى تحت باب الصناعة الصرفية: الصناعة الصرفية؛ لأننا قلنا: إن الكلام في الكلمة نفسها يسمى: صناعة صرفية، أما الكلام في الكلمة وسط الجملة فيسمى: صناعة نحوية، أما الكلام عن أحرف الكلمة وأوزانها في ذاتها فيسمى: صرفية، قال ربنا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ومع ذلك اختلف فقهاء الملة رحمهم الله في تحديد الأشهر المعلومات على أقوال ثلاثة: القول الأول يقول: إن أشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، ومن الأول إلى التاسع من ذي الحجة، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله، وحجة هؤلاء ظاهرة، فهم يقولون: إن الحج يفوت بفوات يوم عرفة بالاتفاق بين المسلمين، فالمسلم إذا فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج، قالوا: فلا معنى إذاً أن نقول: إن من يوم عشرة إلى يوم ثلاثين من أشهر الحج، وصاحبها إن لم يقف بعرفة فاته الحج، فجعلوا أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وإلى التاسع من ذي الحجة.
القول الثاني: إن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وإلى العاشر من ذي الحجة، وحجة هؤلاء: أن الله سمى العاشر من ذي الحجة بيوم الحج الأكبر؛ لأن فيه من شعائر الحج ما ليس في غيره، ففي العاشر من ذي الحجة: رمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة، وهذه الأربع لا تجتمع إلى في عاشر ذي الحجة، فقال أصحاب هذا القول: ليس معقولاً أن نقول: إن عاشر ذي الحجة ليس من أشهر الحج، وهذه الأعمال كلها فيه.
القول الثالث والأخير يقول: بل أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وذو الحجة بكامله، وحجتهم: أن أقل الحج في كلمة: (أشهر) ثلاثة.
ونلحظ من هذه الاختلافات: أنهم متفقون على أن شوال، وذو القعدة من أشهر الحج، فلو أن إنساناً أحرم بالعمرة في رمضان، ولم يرجع إلى بلده، ثم بدا له أن يحج هل نلزمه بالتمتع أم لا؟ لا يلزم؛ لأن عمرته لم تكن في أشهر الحج، لكنه لو اعتمر في يوم العيد وبقي في مكة ثم أهل بالحج فهو متمتع، ما لم يرجع إلى دويرة أهله، أو إلى إحرامه الحقيقي؛ لأن دويرة أهله المقصود بها هنا: إحرامه الحقيقي، وليست على إطلاقها، نأتي بمثال: رجل من أهل مصر يسكن الرياض أو يسكن المدينة، ثم إنه أحرم في شهر شوال بالعمرة، فاعتمر ورجع إلى مقر عمله في الرياض أو في المدينة، فهذا يعتبر قد رجع إلى دويرة أهله؛ لأن عمله وميقاته الأصلي هو الرياض أو المدينة، ولا علاقة لنا ببلده الأصلي وهو مصر مثلاً، على هذا قال الله جل وعلا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، الحج في اللغة هو: القصد، لكنه هنا: قصد مكان من أجل التعظيم، ولا يسمى حجاً إلا إذا كان قصد ذلك المكان للتعظيم، والمكان هنا: هو بيت الله الكعبة، قال الله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، وهذا ظاهر.(15/2)
ذكر بعض من شروط الحج
قال ربنا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] قلنا: التقدير هنا أي: وقت الحج أشهر معلومات، حتى يأتي الذي بعدها، فقال ربنا بعدها: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ} [البقرة:197] أي: في هذا الوقت، {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة:197] أي: ألزم نفسه بالحج، والحج خامس أركان الإسلام كما هو معروف، وهو ثابت ركناً في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ} [آل عمران:97] وفي هذا دلالة إيجاب، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97].
فالاستطاعة: شرط في إلزام المرء بالحج، إضافة إلى الشروط التي تكون غالباً في جميع العبادات من الإسلام والعقل والبلوغ، لكن الاستطاعة في الوصول إلى البيت شرط في إلزام العبد بالحج، وهذه الاستطاعة فسرت: بالزاد والراحلة، وفسرت بغيرها، والصواب: أن تفسر بكل ما يمكن أن يبلغ بالمرء بيت الله الحرام على إطلاقه؛ لأن هذه القضايا مثلاً: الزاد في عصرنا قد لا يحتاج إليه المرء كثيراً؛ لأنه يوجد كثير من الصدقات، لكن لا يلزم المرء بالصدقات، وسنأتي بلطيفة هنا في التفسير قبل أن نشرع في معنى قول الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة:197] في قضية الاستطاعة، فلو أنك سئلت عن إنسان من الناس لا يملك مالاً حتى يحج، والحج الآن يكون عن طريق الشركات، فيأتي إنسان لا يملك مالاً حتى يحج، فالحج ركن لكن هذا الرجل لا نستطيع أن نلزمه بالحج؛ لأنه لا يملك المال، أي: أنه عاجز، عاجز مالياً لا بدنياً، فلو جاء إنسان من الناس وقال له: كم يكلف الحج؟ فقلنا: إن الشركات المتوسطة تأخذ مثلاً أربعة آلاف فقال: هذه سبعة آلاف، وما عليك إلا أن تحج، السؤال هنا: هل يصبح الحج في حقه واجباً؟
الجواب
لا، فليس شرطاً أن يقبل إلا في حالة واحدة: إذا كان المعطي هو ابنك، وهذا على قول الشافعي لا على قول الجمهور؛ العطية الأولى فيها شيء من المنة، وأنت حر تقبل أو لا تقبل، أما ابنك إذا أعطاك فليس فيها منة؛ لأن ابنك من كسبك ومالك: قبول ما يهدى إليك سنة والترك أولى إن رأيت المنة أي: إن غلب على ظنك أنها منة فلا تقبلها.
وقول الشافعي هنا فيما يغلب على ظني قوي جداً، ولذلك أحد السفيانين -وكلاهما حجة حافظ مجتهد مجمع على جلالته- كان يقول: أقبل هدايا السلطان، ولا أقبل هدايا الإخوان، فقيل له: لماذا؟ قال: لأن الأخ يمن، والسلطان لا يمن.
يعني: أخوك إذا أعطاك فإنه كل أسبوع أو أسبوعين يذكرك بها، لكن السلطان يعطيك ويعطي غيرك، بل ولا يدري أنه أعطاك، ولا يمن عليك بها، والناس يختلفون في هذا، فلا توجد قاعدة مطردة، والإنسان بحسب حالته، فلا نقول لمن يقبل: إنه لا يجوز لك أن تقبل، ولا يقول لمن يرفض: إنه لا يجوز لك أن ترفض، فأحوال الناس ووضعهم في المجتمع يختلف، ومن يعطى خفية غير الذي يعطى علناً، ولا يوجد لها ضابط.
نعود للآية قال ربنا: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ} [البقرة:197] أي: في هذه الأشهر، ولا هذه عند النحويين: نافية للجنس، تعمل عمل إن وأخواتها، فتنصب الاسم وترفع الخبر، {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197].
الرفث: الجماع ومقدماته، ومن الصناعة الفقهية: إنه لا يوجد شيء يفسد الحج إلا الجماع.
(ولا فسوق)، الفسوق: العصيان، وأصله: كلمة معناها: الخروج عن طاعة الله: {وَلا جِدَالَ} [البقرة:197] أي: لا مماراة ولا نزاع في الحج: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197].
ولا ريب أن من أراد أن يقدم على بيت الله ينبغي عليه أن يقدم قدوم الخائف الوجل المشغول بذنبه، الراجي عفو ربه، المؤمن من الله جل وعلا بالقبول، ليس المشغول بمن حوله، ومن يطلق النكات هاهنا وهناك، ومن ينازع الناس في الدينار والدرهم، أو أن يتخذ شركة ينجم من خلالها جمع أموال الناس، وأكلها بالباطل، أو أن يبحث عن صدارة وشهرة، فيتكلم في كل وقت وحين، يرجو أن يشار إليه بالبنان، أمور كثيرة تحدث وأغاليط، لكن الإنسان يتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويخلص لله جل وعلا نيته: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] والرفث إذا وقع -وهو الجماع- يفسد الحج، أما الفسوق أو المعصية ما لم تكن شركاً والجدال فهذا لا يفسد الحج، لكن يقلل من أجره، ثم قال الله جل وعلا: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة:197] وما هنا: شرطية، وفعل الشرط: تفعلوا، وجوابه: يعلمه، ولذلك جاءت (يعلم) مجزومة.(15/3)
تفسير قوله تعالى: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)
ثم قال الله جل وعلا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197] أول ما يتبادر إلى الذهن -والإنسان قد فرض على نفسه الحج- الزاد الذي يحتاج، فلما كان الحج سفراً إلى مجمع عظيم هو يوم عرفة، ذكر الله جل وعلا بالسفر الحقيقي إلى يوم لقائه، إلى يوم العرض الأكبر، فنبه إلى الزاد الحقيقي الذي يعين في ذلك اليوم، وهو تقوى الله جل وعلا فقال سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].(15/4)
تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تبتغوا من عرفات)
ثم قال ربنا: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [البقرة:198] قلنا: الجناح: الإثم، {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] وسبب النزول: أن العرب كانت تتحرج من التجارة في الحج، فبين الله جل وعلا أن لا حرج في ذلك فقال جل شأنه وهو المشرع: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198] وعرفات: بقعة، وقد اختلف في سبب تسميتها بذلك إلى عدة أقوال من أشهرها: أن آدم التقى بـ حواء فيها فعرفها.
وقال آخرون: إن جبريل عليه السلام عرف إبراهيم المناسك في عرفات.
واختار ابن عطية رحمه الله: أنه اسم وضعي لا سبب له.
والتنوين في عرفات من حيث الصناعة النحوية: تنوين مقابلة، لا تنوين تمكين، ومعنى تنوين مقابلة أي: هذا التنوين يقابل شيئاً آخر، وهو النون في جمع المذكر.
مثاله: مسلمون جمع مذكر سالم، يقابل نونه التنوين الذي في كلمة: عرفات، وقلنا: إنه تنوين مقابلة؛ تنوين التمكين لا يلحق الأسماء غير المنصرفة، وعرفات: اسم غير منصرف في الأصل لسببين: العلمية والتأنيث.(15/5)
تفسير قوله تعالى: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام
قال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] المشاعر: منى، وقد انتهينا من مكة نفسها، فمنى ومزدلفة مشعر، وفي نفس الوقت حرم، وعرفة مشعر لكنها حل بخلاف منى، وبخلاف مزدلفة، ووادي المحسر حرم لكنه ليس بمشعر، قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة:198] وخير من وقف بعرفة نبينا صلى الله عليه وسلم، وجابر رضي الله عنه وأرضاه في حديث في صحيح مسلم قص علينا حجته صلى الله عليه وسلم وهي طويلة ليس هذا موضع سردها، لكن قلت مراراً: هناك ثلاث مواطن: نمرة، وعرنة، وعرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم نزل في نمرة، وخطب وصلى في عرنة، ووقف في عرفة، ونمرة: قرية شرق عرفات، وعرنة: واد يمر من بطن عرفة، قال جابر: فوجد القبة قد ضربت له بنمرة صلى الله عليه وسلم، ثم قال جابر: ثم أتى بطن الوادي فخطب الناس وصلى، أي: وادي عرنة، قال: ثم أتى الموقف، أي: عرفة، وقال: وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف، وهنا يقول الله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198].
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله.
والحمد لله رب العالمين.(15/6)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [198 - 205]
في هذه الآيات ذكر الله تعالى بعض الآيات التي فيها بعض أحكام الحج كذكر الله عند المشعر الحرام، والإفاضة من حيث أفاض الناس، وذكر الله تعالى في أيام معدودات.
ثم ذكر صنفاً من الناس ممن ينمق كلامه ويحسنه وهو في ذلك كاذب يخالف ظاهره باطنه، فإذا تمكن سعى في الأرض فساداً وإفساداً، وأهلك الحرث والنسل، وإذا نُصح أخذته حمية الجاهلية، ولم يقبل النصح واستمر في طغيانه وإفساده، ثم توعده الله تعالى بجهنم وبئس المهاد.(16/1)
تفسير قوله تعالى: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقبل أن أشرع في اللقاء أذكر أنني حولت من الحديث في سورة الأحزاب إلى الحديث في سورة البقرة، وأننا منذ اللقاء الماضي تحدثنا بدءاً من قول الله جل وعلا: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] وانتهينا إلى قول ربنا جل جلاله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة:198]، وحررنا ما يمكن الحديث عنه من عرفات، وقلنا هناك ثلاثة مواطن: نمرة، وعرنة، وعرفة، وبينا أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة، وخطب وصلى بعرنة، ووقف بعرفة، هذا ما انتهينا إليه.
ثم قال الله جل وعلا: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] المشعر الحرام في أصله جبل في مزدلفة، ويطلق أحياناً ويراد به مزدلفة كلها.(16/2)
حكم من نفر من مزدلفة قبل الغروب
وتصور المسألة على النحو الثاني: الوقوف بعرفة الجمهور يرون أنه يبدأ بعد زوال الشمس، لكن اختلفوا فيمن نفر من عرفة إلى مزدلفة قبل الغروب، ومسألة النفرة من عرفة قبل الزوال فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه لا حج له، وهذا أضعف الأقوال، وهو قول مالك رحمه الله تعالى: أن من نفر من عرفة قبل مغيب الشمس فلا حج له.
قال ابن عبد البر: ولا أعلم أحداً وافق مالكاً في هذا.
القول الثاني: وهو قول الجمهور: إنه يجب الوقوف بعرفة إلى مغيب الشمس، وحجتهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيجمع بين النهار والليل؛ لأنه لو جلس لحظة بعد الغروب فقد جمع بين النهار والليل، فينفر بعد مغيب الشمس تماماً، فإن نفر قبل الغروب -عند الجمهور- فحجه صحيح وعليه دم؛ لأنهم يرون أنه ترك واجباً، وأما لو ترك ركناً بطل الحج، لكنهم يرون أنه ترك واجباً، والواجب عندهم ليس هو الوقوف بعرفة، فالوقوف بعرفة ركن باتفاق، لكن الجمع بين النهار والليل هو الركن عندهم، أو أن لا بد أن يقف فيها ليلاً؛ لأنهم يقولون: لا يحتاج إلى دم لو مكث في الليل فقط.
ثالث الأقوال: أن من نفر قبل الغروب فحجه صحيح ولا شيء عليه، وإنما خالف الأولى، وهذا القول مال إليه الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في (أضواء البيان)؛ لحديث عروة بن مضرس الطائي الذي رواه أبو داود بسند صحيح.
فـ عروة بن مضرس صحابي جاء من جبلي طي -في حايل- فقابله النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة، فقال: يا رسول الله! إني أكللت راحلتي وأتعبت نفسي فما تركت جبلاً إلا ارتقيت عليه، فهل لي من حج؟ وأنت عندما يأتيك إنسان أوراقه مبعثرة لمها وأعطه المفيد، ولا تخاطبه في كل صفحة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (من شهد معنا صلاتنا هذه -أي: الفجر في مزدلفة- وكان قد وقف في عرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه)، فقالوا: قوله عليه الصلاة والسلام: (ساعة من ليل أو من نهار) فيه دلالة على أنه لا يلزم الجمع بين الليل والنهار.
وأجاب الجمهور عن هذا: أن هذا مبين للإجزاء، لكن لا يلزم منه أنه يجب عليه أن يقف، وقالوا: لا نقول إن حجه باطل لحديث عروة، لكن نلزمه بالدم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف إلى أن غابت الشمس، ثم قال في جملة أحاديث: (خذوا عني مناسككم).
قال الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] فالنبي عليه الصلاة والسلام أتى مزدلفة ولم يأت المشعر، وقال: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف)، ثم صلى المغرب والعشاء جمع تأخير، ثم اضطجع، ثم صلى الفجر في أول وقته، أي: بعد دخول الوقت لكن في الأول، ثم أتى المشعر الحرام، وهو الجبل الذي عنده الآن مسجد، وأظنه الآن في طريق ستة وأنت داخل إن كنت لم أنسَ، وفي المشعر الحرام مسجد لا يوجد مسجد وعلم غيره، وهذا المسجد هو المشعر الحرام الذي وقف عنده النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد كان وقوفه بعد صلاة الفجر، ووقف يدعو كثيراً ويذكر الله مستقبلاً القبلة؛ عملاً بالآية، ((فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ))، ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن ذكر الله عند المشعر الحرام ركن من أركان الحج، وبعضهم يقول: لا أقول بالركنية وإنما أقول بالوجوب، وهذه خلافات فقهية ليس لها علاقة بالآية، لكن هذا معنى قول الله تعالى: ((فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)).
ثم قال ربنا: {كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198] (كما هداكم)، أي: لهدايته لكم.(16/3)
تفسير قوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)
قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]، وهذه فيها إشكالات كبرى، لكن جملة ما يقال: ما المقصود بالناس هنا؟ بعض أهل العلم يرى: أن الناس معهود ذهني والمقصود خليل الله إبراهيم وابنه إسماعيل، أي: اصنعوا صنيعهما، قالوا: ويبعد أن يأمر الله المؤمنين بتتبع أحوال قريش في جاهليتها، يعني: لو قلنا: إن الناس المقصود بها العرب غير قريش؛ لأن الناس أصلاً لا يذهبون إلى عرفة، فهذا بعيد، فيحمل الناس على إبراهيم وابنه.
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] وفي قوله جل وعلا (واستغفروا الله) دلالة إيمانية على أن الإنسان لا يركن إلى عمله، وأنه يبقى مقصراً على كل حال، قال الله عن قوم سبأ: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ:15]، لكن ليس معنى ذلك أنهم خالين من القصور؛ لذلك قال بعدها: (ورب غفور)؛ ليشعر أن هؤلاء وإن مدحوا بأنهم بلدة طيبة إلا أنه يقع منهم الذنوب والخطايا.
وهنا قال الله: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199]، وقد جرت سنة الله في شرعه أن كثيراً من عظائم العبادات تتبع بالاستغفار، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته قال: (أستغفر الله ثلاثاً).(16/4)
تفسير قوله تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله)
ثم قال ربنا: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:200] وهذا سيأتي تكراره في منى، {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:200] وفيها إشعار إلى أن الأصل أن الإنسان يكثر من ذكر آبائه، والمخاطب الأول بهذه الآيات كفار قريش، أو المخاطب بها المؤمنون الذي كانوا إلى عهد قريب كفاراً من قريش، والمجتمع الجاهلي قديماً كانت فيه هذه المفاخر، فكانت لا تقوم الأسواق ويقول الشعراء أشعارهم إلا ليذكرون مفاخرهم ومفاخر آبائهم.
لنا حاضر بادٍ وماض كأنه شماريخ رضوى عزة وتكرما ولدنا بني العنقاء وابني محرق فأكرم بنا خالاً وأكرم بذا ابنما وعنترة يقول: ألفيت خيراً من معم مخول.
فهذه القضايا كانت مما تتعلق بحياتهم، فقال الله جل وعلا: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة:200].(16/5)
أحوال الناس في الدنيا
ثم بين الله جل وعلا أحوال العباد في الدنيا فقال: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} [البقرة:200] فلا همّ له عياذاً بالله إلا البغية الدنيوية المحضة؛ ولهذا رتب الله على ذلك جزاءً عظيماً فقال: {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200] أي: لا حظ له ولا نصيب ولا مقامة ولا مكانة، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [هود:16]، جعلنا الله وإياكم من أهل الفريق الآخر.
ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، وهذا من أعظم جوامع الدعاء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من أن يقوله ويختم به دعاءه.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
قال الله: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:202] (أولئك) عائدة على الآخرين.(16/6)
تفسير قوله تعالى: (واذكروا الله في أيام معدودات)
ثم قال الله جل وعلا: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203] والذي مضى هي الأشهر المعلومات، وأما الأيام المعدودات فالراجح أنها أيام التشريق، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله)، {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203] ومن القرائن كذلك ما بعدها، وأيام التشريق تكون في منى بالاتفاق، والمبيت في منى واجب ليومين لمن تعجل، وثلاثة أيام لمن لم يتعجل، ومنى مشعر عظيم من أعظم المشاعر، ولا يمكث الحجاج في مشعر أكثر من مكوثهم في منى.
وقد مر معكم في دروس سبقت أن في منى مسجد الخيف، والخيف في اللغة: ما انحدر من الجبل ولم يلامس الوادي، فإذا جعلت جمرة العقبة خلفك ستصبح مكة خلفك، وسيكون عن يمينك جبل وعن شمالك جبل، فالجبل الذي على يمينك الذي في سفحه مسجد الخيف هو جبل ثبير الأثبرة، وهناك خمسة جبال في مكة اسمها ثبير، فمن أجل هذا قلنا ثبير الأثبرة، فالجبل المقابل لثبير يسمى الصابح، وهو مواجه له، وفي سفح جبل ثبير الأثبرة هذا قبل أن ينحدر إلى الوادي يوجد مسجد الخيف، قال صلى الله عليه وسلم: (صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً)، وكفى بك شرفاً ومن الله فضلاً ونعمة عليك أن تصلي في مسجد صلى فيه قبلك سبعون نبياً آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى جميع صلواته في منى في مسجد الخيف في أيام التشريق، وأيام التشريق التي قال الله فيها: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203] ومع الذكر يكون رمي الجمار، وما وجد رمي الجمار إلا ليذكر الله.
ثم قال ربنا: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] إذاً: أين المناط يا ربنا؟ قال الله: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] فالعبرة بتقوى القلب، فمن كان تقياً وتعجل خير ممن لم يتعجل ولم يرزق تقوىً؛ ولهذا قال الله: (لمن اتقى)، ومن جمع التقوى مع عدم التعجل فهو أفضل لسببين: السبب الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعجل.
والسبب الثاني قطعاً: أن زيادة يوم تعني زيادة عمل، وزيادة العمل تعني زيادة الأجر إذا قُرن العمل بالإخلاص، فمن تعجل فلا إثم عليه بنص كلام الله، ونحن لا نتكلم في أن عليه إثم لكن نتكلم في أيهما أرفع درجة، وقطعاً من لم يتعجل أعلى أجراً.
قال ربنا: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] فالعبرة بتقوى القلوب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، وقال في حديث آخر: (التقوى ههنا ويشير إلى صدره)، صلوات الله وسلامه عليه.
{وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة:203]؛ لأن ضمة الجمع في أيام الحج تذكر بالحشر الأكبر، فالإنسان إذا لم يلن قلبه في تلك المواطن فربما يلين في غيرها، فلا نحجب التوبة عن أحد، لكن يكون أبعد في أن يلين في موطن آخر؛ لأن هذه المواطن تذكر بجمع الناس؛ ولهذا قرنها الله جل وعلا بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة:203]، ومن علم أن إلى الله جل وعلا المحشر، وإلى الله جل وعلا المآب، وإلى الله المرجع خف تعلقه بالدنيا وزهد فيها، اللهم إلا أعمالاً يغلب على ظنه أنها ينفع الله بها البلاد والعباد، فهذه لا حرج أن يسابق فيها؛ لأن إيصال الخير للمسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونفع الناس مادياً ومعنوياً إذا قرن بالإخلاص فهو مما ترفع به الدرجات، ولئن يتمكن أهل الفضل والصلاح خير من أن يتمكن أهل الفساد والشر.
قال الله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة:203] قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعجل، فرمى الجمار فبدأ بالصغرى، ثم بالوسطى، ثم بالكبرى.(16/7)
هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يرمي ثم يصلي الظهر أو العكس؟
و
السؤال
قلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام صلى في مسجد الخيف، فهل كان يرمي ثم يصلي، أو يصلي الظهر ثم يرمي؟
و
الجواب
أنه كان ينتظر حتى تزول الشمس فيرمي ثم يعود إلى المسجد فيصلي بالناس، وخيمته بجوار مسجد الخيف، فيخرج ثم يرمى الجمرة الأولى الصغرى التي تلي مسجد الخيف، ثم يأخذ ذات اليمين فيقف يدعو بعد أن يتقدم قليلاً، ثم يأتي الجمرة الوسطى فيرميها، فيأخذ ذات الشمال ويتقدم ويدعو طويلاً، ثم يأتي جمرة العقبة التي هي حد منى من تلك الجهة، ثم لا يدعو ولا يقف صلوات الله وسلامه عليه، ويعود إلى المسجد ليصلي بالناس، فالرمي يقع وقتاً بعد الزوال وقبل صلاة الظهر، هذا إذا أردت أن توافق السنة، لكن لا يعني أنه لا يقبل إلا في هذا الوقت، فمن كان لوحده ليس كمن معه رفقة، ومن كانت رفقته رجالاً ليس كمن رفقته نساء، ومن رفقته نساء ضعيفات ليس كمن رفقته نساء نشيطات، فيختلف الوضع، والإنسان على نفسه بصيرة.
وفي ثالث الأيام انتهى صلى الله عليه وسلم من الرمي وذلك يوافق الثالث عشر، فرمى الجمرة الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى كما بينا، ثم لم يعد إلى مسجد الخيف وإنما مضى لسبيله، وأتى خيف بني كنانة، وخيف بني كنانة مكان اجتمعت فيه قريش لما تآمرت على النبي صلى الله عليه وسلم على أن يحبسوه في شعب أبي طالب؛ في الشعب الذي جمع فيه بنو هاشم، وقد قال قبلها: (إنا نازلون غداً في خيف بني كنانة)، واختلف العلماء في نزوله صلى الله عليه وسلم هذا، فذهبت عائشة وأظنه قول ابن عباس أنه شيء في طريقه صلى الله عليه وسلم، وذهب بعض العلماء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم تعمد هذا، والذي يعنينا أنه لم يقل أحد بوجوبه، لكن قيل بسنيته، وهو الذي يظهر لي، فيأتي الإنسان هناك فيصلي الظهر في وقته ركعتين، والعصر في وقته ركعتين، والمغرب في وقته ثلاثاً، والعشاء في وقته ركعتين، هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رقد رقدة خفيفة واستيقظ قبل طلوع الفجر، وذهب إلى المسجد الحرام، وطاف بالبيت صلوات الله وسلامه عليه طواف الوداع قبل أن يصلي الفجر، ثم صلى بالناس الفجر إماماً، ثم رجع إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه، ونحن هنا بما أننا نفسر القرآن ولا يفسر القرآن بأعظم من السنة ذكرنا شيئاً من حجته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يتناسب في مقامنا هذا قبل دخول الناس في مناسك الحج، وهذا أفقه للناس وأنصح لهم؛ وحتى يعان المرء علمياً على كيفية الحج إلى بيت الله.
أظن خيف بني كنانة الآن منطقة المعابدة في مكة، وهي أقرب المناطق التي تحويها ما يسمى قديماً بخيف بني كنانة، وكان يسمى بالمحصب، وفي الحديث: (أن النبي عليه الصلاة والسلام رقد رقدة بالمحصب)، وبينا خلاف العلماء في هذه الرقدة هل كان طريقاً مر به صلى الله عليه وسلم لا أكثر من ذلك ولا أقل، أو أنه تعمد صلى الله على وسلم فيه، ورجحنا أن النبي عليه الصلاة والسلام تعمد فيه.
قال ربنا: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله جل وعلا).
{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة:203].(16/8)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا)
ثم قال الله تعالى بعدها: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:204 - 205].
(من الناس) من هذه بعضية، (من) موصوله، (يعجبك قوله في الحياة الدنيا) أي: يعطى بلاغة ويؤتى بياناً، ومع جرأته على الله يكذب ويقول: إنني أقصد كذا ويشهد الله على ما في قلبه.
ثم قال الله: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204] فالتجاوز دائماً غير محمود في الشرع حتى في الفصاحة، فإذا كان الإنسان يتفيقه في كلامه ويلوي لسانه حتى يظن أنه بليغ وفصيح فهذا أمر مذموم، فالتكلف مذموم شرعاً، و (ألد الخصام) أي: شدة الخصومة، وقد بينا هذا في دروس لغوية مضت وقلنا: إن الحزن هو شدة التضجر، وبينا أن البث هو شدة الحزن، وذكرنا أن ابن خالويه قاله في كتابه (فقه اللغة وسر العربية).
ثم قال الله: {وَإِذَا تَوَلَّى} [البقرة:205] أي: لم يَحُل بينه وبين أغراضه ومكامن قلبه شيء.
((وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ))، قال بعدها: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]؛ لأن الذي يصلح الأرض هو الله، فالإفساد في الأرض مصادمة لله الذي أصلح الأرض، فالإفساد في الأرض مصادمة لمراد الله؛ ولهذا قال الله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56]، وأعظم إفساد في الأرض هو الشرك، كما في الحديث: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وقد خلقك).
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(16/9)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [210 - 213]
لقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات مجيئه يوم القيامة والملائكة في ظلل من الغمام، وذلك لفصل القضاء بين الناس في ذلك الموقف بين العباد.
والمجيء من الصفات الثابتة لله تعالى، فيؤمن بها من غير تحريف ولا تأويل ولا تشبيه، ثم ذكر الله تعالى أن الكفار زينت لهم الحياة الدنيا، وأنهم اغتروا بها فصاروا يضحكون من المؤمنين، مع أن المؤمنين فوقهم يوم القيامة، وذكر أن الناس كانوا أمة واحدة، وكان ذلك من لدن آدم وإلى عهد نوح، ثم اختلفوا فأرسل الله الرسل والأنبياء وأولهم نوح.(17/1)
تفسير قوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فكنا أيها المباركون قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208]، وبينا ما يتعلق بها، ونبين أمراً قد ذكرناه من قبل في لقاءات مضت ودروس سلفت أن الشيطان أخفى عداوته، لكن الله جل وعلا أظهرها، وهنا كان قول الله جل وعلا: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208] وصف ظاهر لا التباس فيه، وإلا فالأصل أن الشيطان أخفى عداوته، {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، وليس هذا صنع من يريد أن يظهر عداوته، لكن الله جل وعلا كشفه وفضحه؛ فلهذا قال الله جل وعلا: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208]، ثم قال الله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة:209]، والأصل أن الزلل هو في الأقدام، ثم استعير فأصبح يوصف به كل زلل في المعتقدات والآراء وغير ذلك.
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة:209] أي: بعد الحجج الظاهرة والبراهين القاهرة.
{فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:209] أي: لا يمنعه شيء من أن يعذبكم، (حكيم) أي: لا يعذب إلا من يستحق العذاب، وهذه ظاهرة، وقد مرت معنا كثيراً.(17/2)
منهج السلف الصالح في التعامل مع آيات الصفات
ثم قال الله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210]، وهنا ننيخ المطايا؛ لأننا نخاطب طلبة علم في المقام الأول، فهذه الآية هي إحدى الآيات التي تتكلم عن آيات الصفات، وهي آيات كما تعلم زلت فيها أقدام، وحارت فيها أفهام، ولا نجاة في مثل هذا التفسير وهذا المنحى إلا باتباع منهج السلف الصالح رحمهم الله في التعامل مع آيات الصفات، ومنهج السلف الصالح في التعامل مع آيات الصفات يقوم على أسس ثلاثة: الأساس الأول: تنزيه صفات الله أن يشبه شيء منها صفات المخلوقين، ودليله قول الله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
وقوله جل ثناؤه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، فهذا أول الأسس في منهج السلف في التعامل مع آيات الصفات.
الأساس الثاني: الإيمان التام بما وصف الله به نفسه؛ لأنه لا أحد أعلم من الله بالله، ودليله: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140].
ويتبع هذا الأساس-يعني: ما زلنا في الأساس الثاني- الإيمان بما وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه؛ لأنه لا أحد بعد الله أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم، ودليله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
الأساس الثالث -وهذا مهم جداً-: قطع الطمع في إدراك الكيفية، والمعنى: أي: لا سبيل أبداً إلى معرفة كيفية هذه الصفات، ودليله قول الله جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110].
هذه الأسس الثلاث حررها شيخنا الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه في كتابه القيم (أضواء البيان).
وهنا يأتي إشكال، فلو أخذنا مثال آية: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وهي غير موجودة معنا هنا -يعني: ليست في سورة البقرة- لكني أريد أن أخاطب الناس كيف يتعلمون ما ينجم عن هذه القضية من أمور.
فقد ذهب القاضي عبد الجبار أحد رءوس المعتزلة إلى أن (استوى) هنا بمعنى استولى، وقال: كما تقول: استوى الأمير على العراق، وأتى ببيت شعر لو صح فليس له علاقة بالدليل: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق فمفهوم كلامه: أن العرش ما ضرب إلا كمثل، والمقصود: استيلاء الله على كل شيء، فترك النقل وقدم العقل، هذا أمر.
والأمر الثاني: ترك ما وصف الله به نفسه وأتى هو بوصف من عنده، وكأن اللفظ القرآني قاصر عن أن يوصل المعنى إليك، ثم إن هذا -شاء أم أبى- يدل على كيفية ذلك الاستواء؛ لأنه حصره بمعنى الاستيلاء.(17/3)
النصح لدين الله تعالى
فنحن الآن لسنا بصدد نقض كلامه؛ لأن كلامه منقوض، وليس الإشكال بيني وبينكم في أن كلامه منقوض، لكن جمعاً من المفسرين من علماء الأمة ممن شهد لأكثرهم بالصلاح تبعوه على هذا القول كـ الزمخشري في الكشاف، وابن عطية في (المحرر الوجيز)، والبيضاوي في تفسيره، والثعالبي في تفسيره، وأبي السعود في تفسيره، والألوسي في (روح المعاني)، والمراغي في تفسيره، وسيد قطب رحمة الله عليه في (ظلال القرآن)، فهؤلاء الجمع كثر، وقد قالوا بمثل ما قال به القاضي عبد الجبار -عفا الله عنا وعنهم، وغفر الله لنا ولهم-، لكن ما الذي ينتابك علمياً هنا؟ ينتابك أمران، أو يتنازعك أمران، وهذا كلام مهم جداً علمياً، وأرجو الله أن ينفع به الخلق.
يتنازع في المسألة أمران: الأمر الأول: النصح لدين الله.
والأمر الثاني: معرفة حقوق علماء الإسلام.
أولاً: النصح لدين الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: لله ولكتابه ولرسوله وللأئمة المسلمين وعامتهم)، فهذا يجعلك لا يمكن أن تقبل أو تقر قولاً خطأ في دين الله خاصة في الاعتقاد، فلا يمكن أن تقول للناس: هذه مقبولة، ويسع الناس فيها الخلاف، فهذا محال؛ لأن هذا ليس نصحاً لدين الله، وأنت مأمور بأن تنصح لدين الله، ومن النصح لدين الله: أن تبين القول الخطأ، وتبرئ ساحة الدين من الأفكار الدخيلة.(17/4)
العدل في رد الأخطاء مع من ظهر صلاحه
والأمر الثاني: معرفة حقوق أهل الإسلام، فلا يمكن أن تأتي لمسلم فسر القرآن، وظهر عليه الصلاح، وصلى وصام وقام وعبد واتقى، وبذل جهده وعمره في تفسير كلام الله، فمن أجل خطأ تشنع عليه شناعة تذهب كل محاسنه، فهذا حتى لا يتفق مع العدل الذي أمر الله به، فماذا نصنع؟ نتكلم عن الخطأ ونحرره، ونبين للناس الصواب، وأن هؤلاء أخطئوا وسلكوا مسلكاً هم في غنىً عنه، وواجهتهم عقبة كئود، فلا هم بالذين استطاعوا أن يرجعوا، ولا هم بالذين استطاعوا أن يتجاوزوها، فلا هم تجاوزوها ووصلوا إلى المقصود، ولا هم الذين رجعوا فسلموا، وإنما أوقعوا أنفسهم بخروجهم عن منهج سلف الأمة في التعامل مع آيات الصفات.
فتحرير هذا يدفعنا إليه النصح لدين الله، ونحن إذ بينا هذا الخطأ ونهينا الناس عن اتباعهم فيه نتوقف على أن نزيد فيه وندخل في أعراضهم ونقول فيهم ما لا يحل، فإن أعراض المسلمين ودماءهم وأموالهم حرام، قال صلى الله عليه وسلم: (كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا).
يتفرع على هذا مسألة أخرى، وهي أنك أحياناً -وقد لا يكثر هذا، لكن قد يوجد- قد يأتي أحد من مشايخك فيتحدث عن أحد الناس قدحاً فيه، فمثلاً لو قدر -عافنا الله وإياكم، وعصمنا الله من كل سوء- لو أنني على مقعدي هذا ذممت أحد علماء المسلمين الصالحين، فأنت أيها الطالب! في هذه الحلقة المباركة، أو من يأخذ العلم عنا خلف التلفاز أمام ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يقبل قدحي في غيري موالاة لي، وهذا باطل.
الحالة الثانية: أن يقول لا يؤخذ منه علم؛ لأنه قدح في قرينه -والقدح غالباً يكون في القرين-، فتنفض يدك وتحرم نفسك من العلم الذي آتاه الله إياه، وهذا خطأ آخر.
والصواب: ألا تقبل القول الخطأ في أي أحد، ولا القدح في الناس، ولو كان هذا شيخك أو رجلاً له فضل عليك، فالباطل يرد على كل أحد، لكن كن لبيباً فلا تحرم نفسك من شيء من علمه أن تحصله بسبب هذا.
فالإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه سئل: أين نذهب بعدك؟ فدلهم على رجل، فقيل له: إن يتكلم فيك، فقال: رجل صالح ابتلاه الله بي.
فكونه مبتلىً بي ويحسدني على منزلتي شيء، وكونه عالم شيء آخر، فلا تقبل قدحه فيّ ولا حسده إياي، وخذ من علمه؛ حتى تستفيد.
تطبيق علمي على أصلنا: (الجامع لأحكام القرآن) كتاب تفسير للقرطبي، وقد وقع فيه القرطبي رحمه الله في مسائل مشابهة لهذه وهنات كبرى، كقوله عند تفسير الله جل وعلا: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، قال: أمره أو ملائكته أو جنده، فأول الآية، لكن لا يمنع هذا أن تفسير القرطبي من أمتع كتب التفسير، وليس هناك حرج أن تقول بملء فيك -وليس هذا قدحاً في القرطبي -: إن القرطبي في تلك المسائل أخطأ؛ لأن هذا يفرضه النصح لدين الله، فإذا ضبطت -في ظني المسألة- وفق هذا التصور سلم الناس كثيراً من التخبطات، وأما أن يأتي إنسان فيجامل ويترك النصح للدين فهذا لا يجوز، وأن يأتي إنسان فيضع أئمة المسلمين في الحضيض بحجة النصح للدين فهذا لا يجوز.(17/5)
حكم الاختلاف في المسائل الفقهية الفروعية
ثمت مسائل أيها المبارك لا ترقى إلى هذا وهو الاختلاف في الفروع الفقهية، فإن الاختلاف في الفروع الفقهية عادة يصعب الترجيح فيه؛ لأن السلف أنفسهم اختلفوا فيه، بخلاف الأول وهو المسائل العقيدة فإنه يوجد منهج للسلف قد أجمعوا عليه، فلا يحق لنا وقد جئنا بعدهم ونحن نقتات على بقايا موائدهم في العلم أن ننبذ قولهم، لكن في أفرع الفقه هم أنفسهم قد اختلفوا، فلا نطبق القاعدة الأولى، وإنما نقول: يقبل هذا ويقبل هذا، وهذا هو المعني بقوله: وواجب عند اختلاف الفهم إحساننا الظن بأهل العلم أرجو أن تكون هذه المسألة قد حررت تحريراً جيداً.
يقول ربنا وهو أصدق القائلين: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210] فعلينا إمرارها كما جاءت، فتفسيرها إمرارها.
((فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ)) ظلل نكرت للمهابة والتهويل.
{وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210] أي: انتهى الأمر.
{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210] فالله قد ملك الناس شيئاً من أمورهم، ثم في الآخرة ينتهي الملك الصوري كما حررناه كثيراً ويبقى الملك الحقيقي.(17/6)
تفسير قوله تعالى: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة)
قال الله جل وعلا بعدها: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:211] السؤال هنا ليس المقصود منه الاستفهام، وإنما الإقرار، وبنو إسرائيل هم ذرية يعقوب، فإسرائيل هو يعقوب، وهو ابن لإسحاق، وإسحاق ابن لإبراهيم، ويعقوب وأبوه إسحاق وجده إبراهيم دل القرآن على التلازم فيما بينهم قال الله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45] ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن الكريم ابن الكريم قال: (يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)، وهذا نسب تليد في المجد، نبي ابن نبي ابن نبي ابن خليل الله، وهذا لم يعطاه أحد فيما نعلم.
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ} [البقرة:211] (كم) خبرية وليست استفهامية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما هي الآيات التي جاءت بني إسرائيل، وهو لا يريد منهم أن يجيبوه، بل يريد أن يقررهم على ما وقعوا فيه.
{كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة:211] وتنقسم إلى قسمين: آيات قدرية كونية، وآيات شرعية، فالآيات الشرعية في المقام الأول: التوراة، وفي الآيات القدرية الكونية انفلاق البحر؛ لأنه أمر قدري.
والله جل وعلا أخبر أن آتى موسى تسع آيات؛ ليقيم بها الحجة على فرعون وآله، فتكون تأييد له وللمؤمنين الذين معه، وحجة على من معه، وهذه التسع من باب الاستطراد هي حسب ترتيب ظهورها: العصا، واليد، والسني، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، هذه أربع.
ثم قال جل وعلا: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133] وهذه خمس ومضت أربع فأصبحت كلها تسع.
{وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:211] أظهر ما قيل: المقصود بها الإسلام.(17/7)
إشكال وجوابه
{وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} [البقرة:211] وهنا إشكال: فقد يأتي إنسان ويقول: قوله: (من بعد ما جاءته) زائدة، فلو قلنا له: لماذا زائدة؟ لحاجك وقال لك: لا يمكن أن يكون هناك تبديل حتى تأتي أول الآية، فإذ لم تأت الآية فكيف أبدلها؟ إذا لم تأت النعمة فكيف أبدلها؟ فلماذا قال الله: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} [البقرة:211] ولا يمكن تبديلها أصلاً حتى تجيء؟ والسبب أو التعليل لذكر: (من بعد ما جاءته) أمران: الأول: التشنيع والتقريع.
والثاني: حتى لا يتوهم أن تبديله كان عن جهل بها، {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:211].(17/8)
تفسير قوله تعالى: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا)
ثم قال ربنا: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212] من نقمة الله جل وعلا بأهل الكفر أن الدنيا تزين لهم، فيظنون أنهم خالدون، وتكثر سخريتهم بأهل الإيمان، ومن يمشون في تفسيرهم -كما هو صنيع الشنقيطي في (أضواء البيان) - على تفسير القرآن بالقرآن يقولون: إن قول الله جل وعلا: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:212] لم يحدد الله كيفية السخرية، وحددها في سورة المطففين: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30] فقد كانت السخرية بالغمز والضحك على أهل الإيمان.
ثم قال الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ} [البقرة:212] وعيَّن فقال: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212]؛ لأن الدنيا ليست دار انتصار ولا فوز، وإنما الحياة الأبدية إنما تبدأ يوم القيامة.
{وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212]، ثم قال الله جل وعلا: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212] أي: أن هؤلاء أهل الطاعات أعد الله لهم من الرزق يوم القيامة ما لا يمكن أن يقدر بقدر.(17/9)
تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله)
ثم قال ربنا تبارك وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213] إلى آخر الآية.
قوله: (كَانَ النَّاسُ) هذا عام أريد به الخاص؛ لأن كلمة الناس عامة، لكنه يقال: عام أريد به الخاص،
و
السؤال
من الخاص؟ لأنه لو قلنا عام فالناس واضحة، لكن لما خصصناه قلنا: عام أريد به الخاص، فينصرف إلى القرون التي كانت من آدم إلى نوح، فالناس لفظ عام أريد به الخاص هنا، أي أريد به أناس خاصون وهم القرون التي عاشت من لدن آدم إلى نوح، وكانت عشرة قرون، فهؤلاء كانوا على الفطرة لا يشركون مع الله غيره، وهذا معنى قول الله: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)) أي: على دين واحد.
ومن معاني (أمة) الدين والملة، وقد مر معنا كثيراً تحرير كلمة أمة.
((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً)) فهناك إيجاز حذف وهو أنهم اختلفوا وحادوا عن الفطرة، وغيروا الدين، قال الله بعدها: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213]، وأولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(17/10)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [213 - 217]
يخبر الله تعالى أن الناس كانوا أمة واحدة على التوحيد والخير، ثم اختلفوا واجتالتهم الشياطين إلى الشرك والفرقة، فأرسل الله تعالى الرسل مبشرين ومنذرين.
وذكر الله تعالى أيضاً أن دخول الجنة ليس بالأمر الهين، فهو أمر يحتاج إلى عمل وتضحية، وقد تصيب الإنسان في سبيل ذلك الفتن والابتلاءات.
ثم ذكر الله تعالى حرمة الأشهر الحرم، وأنه لا يجوز فيها الاقتتال، وأعظم من ذلك الصد عن دين الله، والكفر به.(18/1)
تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المباركون! كنا قد انتهينا إلى قول ربنا جل جلاله وتباركت أسماؤه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213].
وقلنا في صدر هذه الآية: إن (الناس) هنا لفظ عام أريد به الخاص، والخاص المراد به هنا هم تلك القرون التي عاشت من لدن آدم إلى نوح عليه الصلاة والسلام، فهذه الحقبة من آدم وإن كان آدم نبياً إلا أنها كانت على الفطرة، وكانت على دين واحد على ملة الإسلام، وهذا من أعظم الدلائل وأجل القرائن على أن الإسلام دين الفطرة، ثم لما دب فيهم الاختلاف، وعظموا الصالحين، ونشأ الشرك في الأمم كان من رحمة الله جل وعلا بعباده أن بعث الأنبياء، وأنزل الكتب؛ حتى تقوم الحجة، وتتضح المحجة، ولهذا قال الله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213]، وهذا يسمى عند البلاغيين إيجاز حذف، واختلفوا فبعث الله النبيين، إذ لا مصوغ لبعث النبيين إلا اختلاف الناس، فبعث الله الرسل وأولهم -كما قلنا- نوح وآخرهم وخاتمهم نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وقدمت البشارة على النذارة؛ لأنه أليق وأقرب بالقبول، والتقديم والتأخير في النذارة والبشارة في القرآن يحكمه السياق العام الذي يأتي للآية، والإنذار من باب الزيادة في الفهم والعلم، وهو الإعلام لكنه يكون مصحوباً بوعيد، {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة:3].
فالإعلام إذا كان مصحوباً بوعيد فهو الإنذار، وأما إن لم يكن مصحوباً بوعيد مثل الإعلام بدخول الوقت في الصلاة فهذا يسمى إذاناً، إذاً يتحرر من هذا أن كل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً.(18/2)
كل أمة كان لها كتاب
وقوله جل وعلا: {وَمُنذِرِينَ} [البقرة:213] قلنا: مأخوذة من النذارة، {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ} [البقرة:213] عائد على النبيين، (الكتاب بالحق)، فما دام أنه من عند الله فلا بد أن يكون ملتبساً بالحق ومتضمناً له، ولهذا قال الله جل وعلا: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105]، والكتب التي أنزلت على الأنبياء والمرسلين الأظهر أن كل أمة كان لها كتاب؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة:213]، وقد تكون صحفاً، ولا يمنع هذا من تسميتها كتاباً، لكن تعبدنا الله بالإيمان بها جملة والإيمان ببعضها تفصيلاً، ومما سماه الله جل وعلا صحف إبراهيم، والتوراة، والإنجيل، والزبور، فهذه مما أمرنا أن نؤمن بها تفصيلاً، وقد أخبرنا الله جل وعلا ببعض ما كان فيها، يقول الله جل وعلا: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:36 - 38].
إذاً: فقوله جل وعلا: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:38] كما هو الآن في القرآن كان موجوداً في صحف إبراهيم وصحف موسى، {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213]، والبغي هنا يشمل ثلاثة أضرب: الحسد، والظلم، والتكذيب، وهي متلازمة فيما بينها، وهذا ينشأ غالباً عياذاً بالله بين الأقران، فيبغي بعضهم على بعض.(18/3)
هداية الله هذه الأمة إلى يوم الجمعة دون اليهود والنصارى
قال الله جل وعلا: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:213]، وليعلم الإنسان أنه لا سبيل إلى وصول المقصود ومعرفة الحقائق إلا بالله، فالمؤمن يستعين بالله، ويتضرع إليه، ويسأله أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (نحن الآخرون) أي: أمماً، (السابقون يوم القيامة).
ثم يتكلم عن يوم الجمعة، وأن الله أضل اليهود والنصارى عنه فقال: (فهو لنا)، ومعلوم أن النصارى تعظم يوم الأحد، واليهود تعظم يوم السبت، فقال عليه الصلاة والسلام: (والناس لنا في ذلك تبع) أي: بعد، فاليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد.
فكل تلك الأمم كانت تعلم أن هناك يوماً عظمه الله، فلم يهد له اليهود ولم يهد له النصارى، وهديت له هذه الأمة.(18/4)
تعدّي الفعل (هدى) بحرف وبغير حرف
فقول الله جل وعلا: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:213] يشمل كل مؤمنين خاصين بكل أمة، ويشمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم في سائر الأمم، ثم قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
و (يهدي) قد مر معنا ذكرها من قبل، فقلنا: تعدى بحرف الجر (إلى) كقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213]، وقوله جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، وتأتي غير متعدية، كما في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، فهي غير متعدي بحرف جر، والفرق بينهما أنه إذا كان الحديث عن نقل الناس من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن حالة سيئة إلى حالة حسنة فإن الفعل (يهدي) يتعدى بحرف الجر (إلى)، وأما إذا كان المقصود من إمرار الفعل وذكره الزيادة في الطاعة والزيادة في الهداية فلا يتعدى بحرف جر إنما يتعدى بنفسه، ومنه قول الله جل وعلا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، فلا يوجد حرف الجر (إلى)؛ لأن الذي يقرؤها ويتلوها مؤمن، وإنما يريد زيادة الهداية، فقول الله جل وعلا مثلاً في أول فاتحة إبراهيم: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1] كان يتكلم عن الانتقال من مرحلة الكفر إلى مرحلة الإيمان، لكن في قوله جل وعلا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، فإنه يتكلم عن فئة تتلو القرآن، وتقيم الصلاة، وتريد الزيادة من الهداية.(18/5)
تفسير قوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم)
قال الله جل وعلا بعد ذلك: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214]، فـ (أم) هنا بمعنى بل، والمقصود منها الإضراب، أي: الانتقال من خطاب إلى خطاب آخر، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ} [البقرة:214].
و (لما) أخت للم، إلا أن الفرق بينهما أن (لم) نفي للشيء الذي لا يترقب وقوعه، في حين أن (لما) نفي لحصول الشيء الذي يترقب وقوعه، فكون هذه الأمة ستبتلى بالبأساء والضراء هذا مما يترقب وقوعه، قال الله جل وعلا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214].
ما الذي أتاهم؟ قال الله: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [البقرة:214]، والفرق بين البأساء والضراء أن البأساء: هي ما يصيب الإنسان في غير ذاته، مثل: التهديد الأمني، الإخراج من الديار، نهب ماله، فهذا كله يسمى بأساء.
والضراء: هي ما يصيب المرء في نفسه، مثل: الأمراض والجراح والقتل، {وَزُلْزِلُوا} [البقرة:214]، وأصل الزلزلة التحريك، والمقصود أنهم ابتلوا بأنواع البلايا، {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]، ليس المقصود من (متى) هنا الاستفهام المجرد، وإنما المقصود استجداء نصر الله، ثم قال الله: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، وليس بعد العسر إلا اليسر: وراء مضيق الخوف متسع الأمنِ وأول مفروح به غاية الحزنِ ألم تر أن الله ملّك يوسفَ خزائنه بعد الخلاص من السجنِ(18/6)
تفسير قوله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم)
ثم قال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215].
الآن جاء ضرب آخر من الحديث يتعلق بالتشريعات، وسورة البقرة مر معنا في فاتحتها أنها سورة مدنية، وهي من أوائل ما أنزل في المدينة، ولهذا كان أهل المدينة يفتخرون بها افتخاراً عظيماً، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضيق عليه في يوم حنين أمر العباس أن يدعو الناس، فأخذ العباس يقول: يا أصحاب سورة البقرة! يقصد الأنصار، فيذكرهم بالجهاد الذي فرض في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216].
فسورة البقرة سورة مدنية، وهي أطول سورة في القرآن، ومن أوائل ما نزل في المدينة، وكان الأنصار يفتخرون بها افتخاراً عظيماً، وهنا يأتي الحديث عن قضايا تشريعية، فيقول جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة:215]، يقول المفسرون: إن السائل عمرو بن الجموح رضي الله عنه وأرضاه، وهو الذي مات شهيداً في أحد، وأُحد جبل يقع شمال المدينة، وسمي أحداً لتفرده عن الجبال، وقد جاء في حقه: (أحد جبل يحبنا ونحبه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، فـ عمرو هذا أحد أعظم الشهداء في أحد، والشهداء في أحد كانوا سبعين شهيداً، والله يقول: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران:165]، فالمصيبة التي أصابتهم ما كان من قتلهم يوم أحد، وقد قتل منهم سبعون، وأصابوا مثليها في بدر، فقد قتلوا من المشركين سبعين وأسروا سبعين، وهذا خروج عن الآية لكن هذا بسبب ذكرنا عمرو بن الجموح، يقولون إنه سأل: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة:215]، والأظهر من أقوال العلماء أن المسئول عنه صدقة التطوع؛ بقرينة أن الله قال: {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:215]، ومعلوم أن الوالدين لا يعطيان من الزكاة الشرعية، ولكن الكلام هنا على صدقة التطوع، فقال الله جل وعلا: {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:215] قلَّ أو كثر، {فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:215]؛ لأنهما أعظم حقاً، {وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:215]، والأقرب هو الأدنى، أي: الأدنى إلى المنفق، {وَالْيَتَامَى} [البقرة:215]، يتامى جمع لكل يتيم ويتيمة، فإذا قلنا: يتامى فالمراد جمع من الذكور والإناث ممن يتم، وإذا قلنا: أيتام فنتكلم عن ذكور لم يبلغوا الحلم ومات والدهم، والقرآن هنا يتكلم عن كونهم ذكراناً أو إناثا فجعلها يتامى.
قال الله تعالى: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [البقرة:215] أي: الفقراء، وسموا مساكين؛ لأن الفقر أسكنهم، فلا ريب أن قلة المال في الغالب تضفي على صاحبها شيئاً من السكون، والعرب تقول: حتى الكلاب إذا رأت ذا ثروة حنت إليه وحركت أذيالها وإذا رأت يوماً فقيراً معدماً هشت إليه وكشرت أنيابها لكن العبرة بما عند الله، وابن السبيل هو المسافر المنقطع، ولا بد من تقييده بالمنقطع؛ لأنه إذا كان غنياً فليس بحاجة إلى أن يأخذ من أحد.
ثم بعد أن بين الله جل وعلا كيف تنفق الأموال، بين الله تبارك وتعالى أن كل خير يصنعه العبد فإن الله مطلع عليه، فقول ربنا: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]، فهذا إجمال بعد تفصيل، وعام بعد خاص.(18/7)
تفسير قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم)
قال الله جل وعلا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216] أي: فرض، والقتال هنا بمعنى الجهاد، {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] أي: شاق عليكم، وليس المعنى أن الصحابة يكرهون أوامر الله؛ لأن هذا ما ينسب إلى أمثل رعيل وأجل جيل، وإنما فيه من المشاق ما الله به عليم مما لا تطيقه النفوس إلا النفوس الصادقة؛ لما فيه من بذل المهج والأموال والمرابطة، وما لا يخفى عليكم من قضايا الجهاد، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216].
ولم يكن القتال قد فرض عليهم في مكة، وإنما فرض عليهم في المدينة، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216] باعتبار المآل؛ لأنه ينجم عن الجهال إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة، {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
ومما ينبغي التنبيه عليه أن الجهاد في سبيل الله من أعظم وأجل القربات، والدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر، فقال الصحابة: ولا الجهاد في سبيل الله؟) فلم يذكروا إلا الجهاد؛ لما استقر في أذهانهم وقلوبهم رضوان الله عليهم أن الجهاد من أعظم القربات، فالله يقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، فالله أعلم بما يصلح العبد وما فيه فلاحه، فيجب الإذعان لأمره، والتوكل عليه.
وأنا عجلت في ذكر التفسير؛ لأن المعاني ظاهرة.(18/8)
تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه)
ثم قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217] والمعنى: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، ويسمى عند أهل الصناعة النحوية بدل اشتمال، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217] والمعنى: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام، وقبل أن نعرج على الآية نقول: إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن جحش، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية في أخريات جمادى، فأهلّ رجب وهو شهر حرام دون أن يعلموا، فأصابوا طائفة من أهل الإشراك، فقتل من القرشيين رجل يقال له: ابن الحضرمي، فتبين لهم بعد قتله أنهم قتلوه في أول رجب في شهر حرام، وكانت العرب على شركها تعظم الشهر الحرام ولا تتقاتل فيه، والأشهر الحرم واحد فرد وأربعة سرد، فالفرد رجب والثلاثة السرد ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وكانت العرب تعظمه، فلما قتل ابن الحضرمي عيرت قريش المسلمين بأنهم يسفكون الدم في الشهر الحرام، وشق ذلك على عبد الله بن جحش ومن معه في السرية، فأنزل الله جل وعلا وهو أحكم الحاكمين قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217] أي: عن القتال في الشهر الحرام، {قُلْ} [البقرة:217] أي: يا محمد! {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة:217] أي: القتال في الشهر الحرام إثم كبير، ثم قال الله وهذا كلام مستأنف: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:217] أي: ولكن الصد عن سبيل الله والكفر به -أي: الكفر بالله-: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:217].
جاءت مجرورة؛ لأنها معطوفة على سبيل، فيصبح المعنى الصد عن سبيل الله، والكفر بالله، والصد عن المسجد الحرام، فيصبح المسجد الحرام معطوف على سبيل عند جماهير أهل البصرة من النحاة، وذهب الفراء أحد أئمة أهل الكوفة في النحو إلى أنه معطوف على الضمير في (به)، فيصبح المعنى على قول الفراء: كفر به وكفر بالمسجد الحرام، لكن قواعد البصريين تقول: إن المعطوف على المجرور لا بد أن يعاد العامل معه، أي: يعاد حرف الجر، وهنا لم يعاد حرف الجر، فذهبوا إلى أنه معطوف على كلمة (سبيل)، فيصبح المعنى: وصد عن سبيل الله وصد عن المسجد الحرام، وبينهما: كفر بالله.
{وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} [البقرة:217]، وهذه مسألة أخرى لذلك جاءت مرفوعة: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} [البقرة:217] أي: أهل المسجد الحرام، والمقصود به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} [البقرة:217] أي: من المسجد الحرام من مكة، {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:217] أي: أكبر من القتل في الشهر الحرام، وأكبر من قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام، أي: ما صنعه عبد الله بن جحش -مع أنهم في غالب الظن لم يكونوا يعتقدون أنهم في شهر حرام- من قتل ابن الحضرمي فأن الصد عن المسجد الحرام أكبر عند الله من هذا القتل القائم على غلبة الظن في الشهر الحرام، {أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:217].
ثم قال جل وعلا: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217]، الفتنة معناها: اضطهاد الناس في دينهم، وحملهم على ترك الدين وتعذيبهم، وقد وقع هذا من قريش، فهذا أكبر من القتل، أي: الذي وقع من عبد الله بن جحش وأصحابه.
ثم قال الله: {وَلا يَزَالُونَ} [البقرة:217] والفعل زال غالباً إذا سبقته (ما) ما زال يتحدث به عن الخير، وإذا سبقته (لا) يكون في الأمور غير المحمودة.
قال الله: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:217] يخبر الله نبيه عن أهل الإشراك: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، لكن
السؤال
هل استطاعوا أو لم يستطيعوا؟ ف
الجواب
لم يستطيعوا، وهل دب إليهم اليأس أو لم يدب؟ إلى وقت هذه السورة لم يدب، لكنه دب بعد ذلك في قوله جل وعلا: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة:3] أي: يئسوا أن يردوكم عن دينكم، وهؤلاء هم كفار قريش.(18/9)
من ارتد ثم آمن فما حكم عمله في حال الإسلام الأول؟
ثم قال جل وعلا: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217]، والكلام عن الردة قد لا يتسع له الوقت لكن نتكلم عنه إجمالاً؛ حتى يستفيد الناس، فإذا كان هناك مؤمن قد ارتد فإن بقي على ردته حتى لاقى الله فلا خلاف أنه في النار خالد مخلد فيها، لكن الإشكال لو أنه ارتد ثم آمن فهل عمله الأول يحبط أو لا يحبط؟ فمن قال: إنه يحبط استدل بقول الله جل وعلا: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65].
ومن قال: إنه لا يحبط احتج بقول الله جل وعلا بالقيد: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة:217]، قالوا: فهذا عائد للإيمان، وأثر الخلاف في المسألة لو أن رجلاً آمن وحج، ثم ارتد، ثم آمن فهل يطالب بالحج أو لا يطالب؟ فمن قال: إن المطلق يحمل على المقيد قال: إن حجه الأول لا يحبط؛ لأنه لم يمت على الكفر، ومن قال: لم يحمل المطلق على المقيد جعله كأنه لم يحج، وألزمه بالحج بناء على أن الله قال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5].
والذي أختاره -والعلم عند الله- أنه لا يطالب بالإعادة، لكن لا أجر له على ما قد مضى؛ جمعاً بين الأدلة؛ لأنه أحبط أجره بالكفر، لكنه لا يطالب بالإعادة؛ لأنه عاد إلى الإيمان ولم يمت على الكفر، لخصتها إجمالاً مراعاة للوقت.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، شكر الله لكم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(18/10)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [218 - 219]
ذكر الله تعالى في هذه الآيات أن القتال في الأشهر الحرم منكر كبير، وأن أكبر من ذلك هو الصد عن سبيل الله تعالى، والكفر به سبحانه.
وذكر أيضاً أن من كان مسلماً ثم ارتد على عقبيه إلى الفكر فإن أعماله تحبط في الدنيا والآخرة.
وذكر سبحانه أن الذين آمنوا وجاهدوا في سبيله وهاجروا يرجون رحمته ورضوانه، وأنهم يتاجرون تجارة لن تبور.
ثم ذكر الله تعالى الخمر والميسر وذكر ما فيهما من الإثم والفساد.
وقد فُسرت الآيات بأسلوب سهل شيق رائع يشد القلوب، ويأسر الألباب.(19/1)
تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا لقاء متجدد من برنامجنا محاسن التأويل، وكنا قد انتهينا في اللقاء الأول إلى قول الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:217]، إلى آخر الآيات، فنجمل الآن ما حررناه في ذلك الوقت، ثم نزدلف إلى قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:218]، وهي الآية التي سنبدأ بها تفسير حلقة هذا اليوم، والأشهر الحرم أربعة: ثلاثة سرد وهن: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وواحد فرد وهو رجب، والآية جاءت في أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية بإمرة عبد الله بن جحش ولم يأمرهم بقتال، ثم تعرض لهذه السرية قوم من قريش فأقدمت السرية على قتلهم دون أن يدروا أو يعلموا أنهم دخلوا في الشهر الحرام، وكان ذلك في آخر جمادى الذي هو قبل رجب، ورجب شهر حرام، فلما تبين بعد ذلك أن القتال كان في الشهر الحرام جعلت قريش ذلك سبة وعاراً على المؤمنين, وقالوا: كيف يدعو محمد إلى مكارم الأخلاق وقد نقض شيئاً العرب كانت متفقة عليه من قبل وهو عدم الاقتتال في الشهر الحرام!! فهذا هو مجمل سبب النزول، فأنزل الله جل وعلا قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة:217]، الذي نريد أن نصل إليه هنا هذا كله تم تفسيره، لكن ما سيأتيك بعد ذلك مصدر بقوله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ} [البقرة:217]، أو: {وَيَسْأَلُونَكَ} [البقرة:219].
فحتى يتمكن طالب العلم من فهم كلام الله لا بد -كما قلت قديماً- من الإجمال، ثم من الإجمال ندرج إلى التفصيل، والسؤال في القرآن يأتي دائماً بحسب سائله، ولما كان السائلون يختلفون كان لا بد أن يكون الغرض من السؤال يختلف، فلما سألت اليهود عن الروح فهذا سؤال للتعنت، وهذا أول مقاصد السؤال، وهناك سؤال للاحتجاج وهو سؤال أهل الإشراك هنا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة:217]، فإذا انتهينا من أسئلة اليهود وأسئلة أهل الإشراك لم يبق إلا أسئلة أهل الإيمان، وأهل الإيمان يسألون للاسترشاد؛ حتى يكونوا على بينة من أمرهم عندما يأتيهم الجواب الإلهي.
إذا تحرر هذا فقول الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة:217] الأصل أنه جاء على لسان كفار قريش، فهو سؤال للاحتجاج، وقول الله تبارك وتعالى في الإسراء: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85] هذا للتعنت؛ لأن السائلين هنا هم اليهود، وأما قول الله جل وعلا كما سيأتي عن الخمر والمحيض ماذا ينفقون، فهذه أسئلة المؤمنين الذين كانوا يحيطون بالنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فهذه أسئلة للاسترشاد.(19/2)
حكم عمل الإنسان حال إسلامه إذا ارتد بعد ذلك
انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الرب تبارك وتعالى في نفس آية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة:217]، إلى قضية الردة، وقلنا: إن الله جل وعلا قيدها بقوله تبارك وتعالى: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة:217]، وقلنا: إن العلماء اتفقوا في أن الإنسان لو ارتد ومات على الردة كافراً فلا ريب أن أعماله جميعاً قد حبطت؛ لأن هذا نص كلام الله، وقد قلنا في تحرير سابق: إن الآيات المحكمة لا يمكن أن يختلف العلماء فيها؛ لأنها ظاهرة، ولهذا لم يأتينا أحد من أهل العلم يقول: إن الإنسان إذا مات كافراً بعد أن كان مؤمناً أن شيئاً من علمه يبقى؛ لأن هذا أمر قد أوضحه القرآن، فالله جل وعلا يقول: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة:217]، ويقول في آيات أخر: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65].(19/3)
من ارتد ثم آمن فما حكم عمله في حال الإسلام الأول
لكن الإشكال في أن إنساناً كان مؤمناً ثم ارتد، ثم تاب عن ردته وعاد إلى الإيمان، فهل العمل الذي كان قبل الردة يبقى أم يحبط؟ هذا هو السؤال، فمن أخذ بالقيد قال: إن العمل يبقى؛ لأن الله قيده بقوله: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة:217].
ومن جعلها مطلقة قال -وهذا الأظهر-: إن الإنسان يكتب له الأجر، لكن لا يسقط ذلك الشيء المفروض عليه، مثال ذلك: لو أن إنساناً حج ثم ارتد ثم تاب وعاد إلى الإسلام فهل حجته الأولى يلزم عليه أن يعيدها أو لا يعيدها؟ هذا التي فيها تنازع بين العلماء.(19/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله)
والآن نزدلف إلى قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]، بدءاً قال ابن سعدي رحمة الله تعالى عليه: هذه الثلاث هي قطب رحى الدين، وعنوان السعادة، فمن وفقه الله للقيام بالإيمان والهجرة والجهاد فقد وفق لقطب رحى الدين، وعنوان السعادة؛ لأن أي عمل صالح بعد هذه الثلاث أهون منها، ومن قدر على العظيم قدر على اليسير، فأما الإيمان فأكبر دلائل فضله أن الله جعله قسيماً بين أهل الجنة وأهل النار، {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، وأما الهجرة فليس المراد بها هجران الذنوب، ولكن المراد هجرة الشيء المألوف المحبوب، كهجرة الوطن، والمال، والخلان، ومن تركن إليهم؛ من أجل الله، وأما الجهاد فإن التلبس به من أعظم ما يدل على أن الإنسان يقمع أعداء الدين، وبوده أن ينتشر الإسلام، فالصورة الأولى لانتشار الإسلام هي الجهاد، وهذا أمر لا ينبغي أن يتغير بالظروف وبالأحوال؛ لأن من تتبع السنة الصحيحة والسيرة العطرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم سيجد عياناً بياناً أن السبب الأعظم لانتشار الدين هو الجهاد في سبيل الله، فيقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218].(19/5)
كيفية ظهور التقويم الهجري
قبل أن أزدلف إلى قوله: {أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]، نحن الآن نسجل هذه الحلقة وفق التقويم الهجري للثامن والعشرين من شهر ذي الحجة، وبقيت ليلتان على نهاية عام هجري وهما ليلة التاسع والعشرين وليلة الثلاثين إذا كان الشهر تاماً، فحسب التقويم وحسب الرؤيا فإن اليوم هو اليوم التاسع والعشرين وهذه ليلة الثلاثين، والهجرة قطعاً كانت في ربيع الأول باتفاق المسلمين، ولكن الصحابة رضي الله عنهم في عهد عمر أرادوا أن يصطلحوا على حدث يؤرخون به، فبعد مشورة منهم عرضوا، ولا يمكن أن يكون هناك تشاور إلا إذا كان هناك عرض، لكن إذا كان هناك خيار واحد فلا يمكن أن يكون هناك تشاور ولا مشورة، فلا بد أن يكون هناك آراء متعددة يختار الناس منها، فوضعوا البعثة والمولد والهجرة والوفاة، يعني: هل يؤرخون بمولده صلى الله عليه وسلم؟ أو يؤرخون ببعثته؟ أو يؤرخون بهجرته؟ أو يؤرخون بوفاته؟ فاستقر أمرهم -وهم أمثل جيل وأكمل رعيل- على أنهم يؤرخون بالهجرة، ولا ريب أن اتفاقهم دليل صوابهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
ونقول مزيداً على هذا: إن الإسلام ما ظهرت عزته ولا نقول: لم يكن عزيزاً فهو عزيز من أول يوم، لكن ما ظهرت عزته إلا بعد الهجرة، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم استطاع أن يبني مسجد قباء أول مسجد أسس على التقوى، لكنه قبل ذلك لم يستطع أن يبني مسجداً واحد، ثم بنى مسجده صلى الله عليه وسلم بعد أن بنا مسجد قباء، فاختاروا الهجرة، فلما اختاروا الهجرة أرادوا أن يبدءوا، فلم يختاروا شهر ربيع، ووضعت عروض أخر من أي الشهور نبدأ؟ فاستقر أمرهم أن الناس بعد ذي الحجة ينصرفون إلى ديارهم: فيعود أهل الشام إلى شامهم، وأهل العراق إلى عراقهم، وأهل اليمن إلى يمنهم، وأهل نجد إلى نجدهم، ويعود أهل الأقطار، فقالوا: إن شهر محرم يكون فيه استقرار الناس في أوطانهم، فجعلوا من شهر الله المحرم بداية للعام الهجري، إذاً ليس معنا آية ولا حديث يقول: إن العام الهجري يبدأ من محرم، وليس معنا آية ولا حديث تقول: إنه إذا ختم ذو الحجة ختمت صحائف الأعمال، فالدين لا يؤخذ من فقه الوعاظ، وإنما يؤخذ من نصوص الكتاب والسنة المحكمة، فلا يوجد دليل لا من قريب ولا من بعيد، ولا بإشارة ولا بتصريح تدل على أن صحائف الأعمال تطوى مع نهاية هذا العام، فعندما تقرأها قراءة دنيوية سياسية يصح أن تقيم أحداثاً مضت من عام إلى عام، لأن المسألة أصلاً سياسية، فاختيار عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه هذا مندرج في السياسة الشرعية، ومنبثق مما يسمى بالمصالح المرسلة، وهذا ليس له علاقة بقضية أن صحائف الأعمال تطوى، فلا يوجد شيء في الدين يدل على أن صحائف الأعمال تطوى مع نهاية كل عام، هذا أمر يجب أن ننتبه إليه، لكن قول الوعاظ في محاسبة النفس له مدخل؛ لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر:18].
فإن محاسبة النفس مطلوبة في كل آن وحين، ولئن كان التجار أرباب الأموال يحاسبون أنفسهم مع نهاية العام مالياً فليس هناك حرج على المؤمن أن يحاسب نفسه دينياً فيما مضى، لكن لا يقول: لأن صحائف الأعمال تطوى فأنا أحاسب نفسي لا؛ لأنه لا يوجد دليل على أن صحائف الأعمال تطوى مع نهاية العام الهجري، هذا مهم.(19/6)
فضل المهاجرين الأولين
كذلك في قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} [البقرة:218] دليل صريح على فضل المهاجرين الأولين، والقرآن دل على ذلك في مواطن عدة، قال الله في التوبة: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100].
وقال في الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:8]، ثم قال في الآية التي بعدها: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9].
فذكر الطائفتين ولم يذكر إلا طائفة واحدة بعدهم وهي الثالثة، وهم من اتبعوهم بإحسان، فهذا تعبير القرآن في التوبة، وعبر عنه القرآن في الحشر بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10].(19/7)
الهجرة قرينة البعثة
والهجرة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قرينة البعثة، لكن الهجرة تأخرت واقعاً وحدثاً، وإلا فقد قال ورقة بن نوفل لنبينا صلى الله عليه وسلم: (يا ليتني أكون جدعاً إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟) وهذا كان في أول أيام البعثة.
فعلم صلى الله عليه وسلم بما أخبره به ورقة بن نوفل أن الهجرة ستكون قائمة واقعة لا محالة، وذلك عندما قال: (أومخرجي هم).(19/8)
الفرق بين الهجرة إلى المدينة والهجرة إلى الحبشة
والهجرة إلى الحبشة كانت هجرة إلى أرض أمن، فهناك ملك صالح يعدل ولا يضام في ملكه، فخرج المسلمون إليه، وأما الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان وفق تعبير القرآن، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9]، وقصد الأنصار.
فالمدينة كانت دار إيمان قبل أن يدخلها نبينا صلى الله عليه وسلم، بخلاف الحبشة آنذاك فإنها لم تكن دار إيمان، وإنما كانت دار أمن.
قال ربنا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218].
وفي هذا دليل على أن الإنسان مهما زكا عمله، واشتد صلاحه، وتتابعت حسناته إلا أن المعول الأكبر يكون على رحمة الله، وهذا دليل كذلك على أن الإيمان بالعمل لا بالتمني ولا بالتحلي، فإذا قال الله جل وعلا عن هؤلاء الأخيار الذين جمعوا بين الإيمان والهجرة والجهاد قال عنهم: {أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218] فما عسى من دونهم، لكن لا يعني ذلك أن يقنط أحد من رحمة الله، {أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]، وهذه ظاهرة وقد مرت معنا كثيراً، والغفور الرحيم اسمان كريمان من أسماء الله الحسنى.(19/9)
تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير)
ثم قال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، وهذا قد يحتاج وقتاً طويلاً فسأبدأ فيه تمهيداً في هذا اللقاء وأكمل في اللقاء القادم.(19/10)
تعريف الخمر وذكر ضررها
نبدأ أولاً في معرفة الخمر والميسر، ومنهجنا في التفسير أن الآية هي الحاكمة في طريقة التفسير، فالآيات تختلف فبعضها في العقائد، وبعضها في الأخبار والقصص، وبعضها في التشريع، فلا يعقل أن تتعامل معها جميعاً بطريقة واحدة، وإنما من أوتي حظاً في فهم كلام الله ينبغي أن ينوع الطرائق التي يتناول بها كلام الرب تبارك وتعالى دون أن يخرجه ذلك من علم التفسير، فالبيئة الجاهلية كانت بيئة لا ترجو جنة ولا تخشى ناراً، بل يمشون كما تفرضه العادات والتقاليد والذائع والشائع، والفراغ في الوقت كان أكثر ما يعاني منه الجاهليون، ولهذا انصرفت هممهم إلى اللذات؛ لأن اللذات بها تقضى الأوقات، فكانت الخمر مشروباً ذائعاً عندهم للغني والفقير، ولا يكادون يتركونها في ليل ولا في نهار، وليس أدل على ذلك من أن الصحابة وهم الصحابة مكثوا يشربونها حتى بعد الهجرة، فكان أنس يسقي كبار الصحابة كـ عبد الرحمن بن عوف وأبي أيوب الأنصاري قبل أن تنزل آية تحريم الخمر كما سيأتي.
وهذا يدل على كرامة الله لهذه الأمة، فالله لما علم أن الناس يوم ذاك قد بلغ منهم شرب الخمر مبلغاً عظيماً جاء بالتدرج في تحريمها كما سيأتي.
والخمر في اللغة: ما خامر العقل، أي: خالطه أو غطاه، فالتغطية من باب قوله صلى الله عليه وسلم: (خمروا آنيتكم) بمعنى غطوها، وتأتي خامر بمعنى خالط، فيخالط السكر العقل فيكاد يغطيه، ولا يكون هناك تغطية إلا بعد مخالطة، قال كثير عزة: هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت فقوله: هنيئاً مريئاً غير داء مخامر، أي: غير دائن مخالط.
ولا نحتاج أن نقول في الخمر: هي مشروب يسكر؛ فلا يكاد يجهله أحد، وفي عصرنا هذا أخذ أنواعاً عدة، لكنه سابقاً كان أكثر ما يأخذونه من التمر ومن الأعناب، وهو من العنب أكثر منه من التمر، قال الله جل وعلا: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:66 - 67].
وسيأتي لماذا قال الله: (سَكَراً) وقال: (رزقاً حسناً) بعد قليل، لكن نبقى فيما يؤخذ منه الخمر، وقلنا: إنه يؤخذ من ثمرات النخيل والأعناب.
فإذا شربوها فإن الفقير منهم يرى نفسه غنياً، والجبان منهم يرى نفسه شجاعاً، قال حسان: ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداًَ لا ينهنهنا اللقاء وكانت في الشام قصران اسمهما: الخورنق والسدير يضرب بها المثل، كما تقول الآن: البيت الأبيض والكرملن فكانت في أذهان الناس في ثقافتهم أن هذين القصرين لا يدخلهما أحد، فكان الفقير منهم راع الغنم الذي لا يملك شيئاً إلا بضع غنيمات يقول: وإذا شربت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير يعني: وأنا في عالم السكر أذهب في خيالات عدة، فأحسب نفسي صاحباً وملكاً على الخورنق والسدير وهما قصران في الشام، وإذا فقت من سكري وعدت إلى حقيقتي فأنا لا أملك إلا بضع شويهات وبضعة من الإبل أو غيرها.
والمقصود أنهم كانوا يفرون من مشاكلهم وقضاياهم إلى الخمر، ويسمون من يشرب معهم ويحتسي يسمونه: نديماً، ويدار الكأس بينهم، وهذا جل حياتهم، قال الأعشى: في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل نازعتهم قضب الريحان متكئاً وقهوة مزة راووقها خضل فثقافته أنه يريد هؤلاء ألا يعبئوا بشيء، والآن في الثقافة الغربية أكثرهم وإن كان مسيحي الديانة لكن طغت عليهم العلمانية، فزلفت بهم إلى الإلحاد، فلما زلفت بهم إلى الإلحاد ضعف يقينهم بالجنة والنار، فإذا ضعف اليقين بالجنة والنار فإنه لا يبقى إلا التشبث بالدنيا، فهم يعظمون نهاية الأسبوع؛ لأنه إجازة لهم، ويستمتعون بحياتهم على أقصى حد، والذي يدفعه إلى أن يستمتع بحياته إلى أقصى حد إيمانه الخاطئ أنه لا حياة بعد هذه الحياة، فيتشبث بهذه الحياة، فـ الأعشى يقول: وفتية كسيوف الهند يعني: يقصد نحول أجسامهم وتثنيها.
كسيوف الهند قد علموا والمهم عنده: أن هالك كل من يحفى وينتعل أي: أن الناس موتى لا يبقون، فيقول: ثقافتنا تنطلق من قناعتنا أننا سنموت وسنبلى ولن يبقى أحد لا غني ولا فقير، ولا حافي ولا منتعل، فإن كنت أعلم أنني لا أبقى وأنه لا حياة بعد حياتي -فالقرشيون كانوا لا يؤمنون بالبعث والنشور- فعلامَ أنا أحبس نفسي عن متع الدنيا، فيكون هذا دافعاً قوياً لأن يحتسي الخمر، قال: نازعتهم قضب الريحان متكئاً وقهوة مزة راووقها خضل والقهوة كانت تطلق عندهم على الخمر.(19/11)
تعريف الميسر وصورته وبيان ضرره
فحديثي هذا كله حول الخمر، وبقينا في الميسر، والميسر مشتق من أحد أمرين: إما مشتق من اليسر وهو السهولة، وهذا بسبب أنهم يحصلون على المال من غير كد ولا تعب، وهي مغامرة يأتي بها فينجم عنها مال.
وإما مشتق من اليسار وهو الغنى، أي: أنه يغنى بعد فقر، والمعاني متقاربة جداً.
والقرشيون لهم طرائق عدة في الميسر، وقد نشأت كلمة الميسر كما يلي: الياسر في اللغة هو الجزار الذي يذبح الجزور، فيأتون بالجزور فيذبحونه ويجعلونه ثمانية وعشرين قسماً، والآن سندخل في الرياضيات فمهم أن تفهم ذلك، ثم يأتون بكيس، وهذا الكيس يضعون فيه عشرة أقداح، وهي على هيئة أعواد، وكل قدح من هذه الأقداح له اسم، فسبعة منها تعمل وثلاثة لا تعمل، أي: سبعة فيها حظ، وثلاثة لا يجعلون فيها حظاً، فيسمون التي ليس فيها حظ غفلاً، ويسمونها الوغد والسفيح والمنيح، والسبعة سآتيك بأسمائها، ثم يضعون العشرة في هذا الكيس ويخلطونها، ثم يأتون برجل أمين فيقول مثلاً: هذا حظ عبد الرحمن ويأخذ قدحاً، فإذا طلع يقرؤه فإن كان سفيحاً أو منيحاً أو وغداً فلا يأخذ شيئاً، وليتهم يقفون عند هذا الحد، فإنه لا يأخذ شيئاً وعليه قيمة شراء الجزور، والسبعة الباقون يأخذون نصيبهم.
والأقداح السبعة يسمون أحدها الفذ، ويأخذ واحداً، والثاني يسمونه التوأم، ويأخذ اثنين، والثالث يسمونه الرقيب ويأخذ ثلاثة، فيصبح قد ذهب ستة، والرابع يسمونه الحلس ويأخذ أربعة، والخامس يسمونه النافس، ويأخذ خمسة، فيصير المجموع خمسة عشر، والسادس يسمونه المسبل، ويأخذ ستة، فيصير المجموع واحداً وعشرين.
والسابع يسمى القدح المعلى، فالناس إذا مدحوا أحداً يقولون: له القدح المعلى، ويأخذ سبعة، فتصير مع واحد وعشرين ثمانية وعشرين، انتهت كلها، ولهذا تسمع في التعبيرات الأدبية: أن فلاناً له القدح المعلى، أي: أوفر أهل الميسر حظاً، فهذه نشئت فكرة الميسر، وفي اللقاء القادم إن شاء الله تعالى نكمل الارتباط ما بين الخمر والميسر، والحد الذي في الخمر، والتعزير الذي في الميسر بإذن الله تعالى، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(19/12)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة البقرة [219 - 221]
ذكر الله تعالى في هذه الآيات أن الإثم في الخمر والميسر كبير، وقد كانت هناك مراحل عدة لتحريم الخمر، فلم يحرمه الله مرة واحدة، وذلك لأن الناس في الجاهلية كانوا قد أدمنوا عليه بصورة كبيرة، فمن رحمة الله بهم أن تدرج في تحريمه عليهم.
ثم ذكر الله تعالى مرشداً لعباده أن ينفقوا ما زاد على حاجتهم وما فضل على ذلك، فلا يكلفوا أنفسهم ما لا يطيقون.
ثم ذكر اليتامى وأنه يصلح لهم في جميع أحوالهم من الناحية المالية والتربوية وغيرها.(20/1)
تفسير قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فما زلنا وإياكم نتفيأ كلام ربنا جل وعلا، وقد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قوله جل ثناؤه وتباركت أسماؤه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219]، وحررنا لغوياً معنى الخمر ومعنى الميسر، وحال أهل الجاهلية مع هذين الإثمين الكبيرين.(20/2)
مراحل تحريم الخمر
والآن ننتقل إلى الارتباط بين الخمر والميسر، لقد كانت الأجواء في الجاهلية كما بيّنا في اللقاء الماضي يغلب عليها الفراغ في الوقت والفراغ الروحي من باب أولى، فكان التغامر بينهم والمغامرة والشرب يذهب الكثير من أوقاتهم، وينجم عنه نوع من التسلية، ويجازفون بأهليهم وأموالهم عياذاً بالله؛ لهذا جاء القرآن بتحريم الخمر تدريجياً، وهذه الآية التي بين أيدينا هل هي الأولى أم الثانية؟ على قولين للعلماء: فمن جعل من العلماء تحريم الخمر مر بثلاث مراحل يجعل هذه الآية هي الآية الأولى، والثانية هي: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43]، والثالثة وهي الخاتمة {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91] والتي صدرها: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90].
وفريق يقول: الأصل أنها أربع مراحل بدأت من القرآن المكي؛ لأن القرآن المكي فيه سورة النحل، والله قال في سورة النحل: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل:67] ولم ينعته، ولم يصفه بأنه حسن، ثم قال: {وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67]، فأثنى على الرزق وقيده ووصفه ونعته بالحسن ولم يصف ولم يقيد السكر، فكأن هذا إرهاصاً أن ثمة أمر سيأتي في مسألة السكر.
وعلى هذا فنحن نعتد بهذا القول ونرى أن هذه الآية هي الثانية في مراحل التحريم.
هذا من حيث تحريم الخمر.(20/3)
حد شرب الخمر
لقد أوجب الله جل وعلا في الخمر الحد، والأصل في حد الخمر أنه أربعون جلدة، ويجوز للإمام تعزيراً رفعها إلى ثمانين، فمن الحدود الشرعية المعروفة حد الخمر، وحد الزنا، وحد السرقة، وحد القذف، وحد البغي، والقتل ليس حداً وإنما يسمى قصاصاً، فالحد حق لله، والقصاص حق لأولياء الدم، والتعزير حق لولي الأمر.(20/4)
الحدود لا تدخلها الشفاعة
والحدود لا تدخلها الشفاعة أبداً؛ ولهذا جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: أن قريشاً أهمها شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يجترئ -بمعنى من له القدرة- على أن يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان الصحابة مؤدبين، فقالوا: وهل يجرئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبنو مخزوم لشرفهم في قريش جعلوا من أسامة شفيعاً لهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة!)، ثم خطب الناس فقال: (أيها الناس! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها).(20/5)
الحالات التي يجوز فيها تأخير إقامة الحد
وهذا معناه: أن الشفاعة لا تدخل في الحدود، لكن يجوز تأخير الحدود لا إلغاؤها، فإلغاءها لا يجوز البتة، لكن يجوز تأخيرها لمصلحة عارضة، وهذه المصلحة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: مصلحة للإسلام، كتأخير إقامة حد أثناء لقاء العدو، وهذا ظاهر السبب؛ حتى لا يشمت الأعداء بالمسلمين، فمثلاً كتيبة مسلمة أرادت أن تلاقي كتيبة كافرة ساعة حرب ومعركة، فقدِّر أن أحد هؤلاء المجاهدين -وهذا ربما يقع لأن المجاهدين بشر- زنى وهو بكر، أو سرق، فهذا عليه الحد، لكن الإمام لا يريد أن يقيم الحد الآن، فليس له أن يسقطه لكن يؤخر إقامته حتى تنتهي المعركة؛ حتى لا يُعطل ذلك من قوة المسلمين، ولا يشمت بهم أعدائهم، فهنا يجوز تأخيره لمصلحة الإسلام.
الحالة الثانية: لمصلحة تعود لمن أقيم عليه الحد، مثاله: هذه الأيام التي نعيشها فهي أيام برد، فلو أن أحداً حكم عليه بحد القذف مثلاً ثمانين جلدة، فالجلد مع شدة البرد يؤذيه أكثر من اللازم، فتأخيره حتى يعتدل المناخ مصلحة شرعية يجوز للإمام فعلها، وهي تعود لمصلحة من أقيم عليه الحد.
الحالة الثالثة: مصلحة تعود لمن له علاقة بمن يراد أن يقام عليه الحد، مثاله: امرأة حامل وعليها أحد، فلا ريب أنه يؤخر إقامة الحد عليها لا شفقة عليها وإنما رحمة بالجنين، فالمصلحة هنا لا تعود عليها مقصودة كأصل، وإنما تعود على الجنين.(20/6)
بماذا يثبت إقامة الحد على شارب الخمر
مسألة أخرى: بم يثبت إقامة الحد على شارب الخمر؟ بأحد أمرين: شهادة عدلين أنه شرب الخمر.
والثاني: باعترافه هو، فإذا اعترف أحد أنه شرب الخمر أقيم عليه الحد، أو شهد عدلان من المسلمين على أحد أنه شرب الخمر يقام عليه الحد، وهذا ظاهر.(20/7)
مفاسد شرب الخمر ولعب الميسر
قال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]، والمنافع هنا أول ما تنصرف إلى التجارة، والإثم الكبير هو ما ينجم عنها عياذاً بالله عن شربها من تلوث للعقل، وجنوح لأعمال لا يقبلها ولا يقرها أحد، وكذلك في الميسر يحدث بينهم الضغائن، ويفقد الإنسان ماله بكل يسر وسهولة بعد أن كد فيه أعواماً وشقي فيه سنين، ويناله من لا كد عليه ولا تعب، ((قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)).
ثم قال الله تبارك وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] قل العفو، وهذه كما نقول باللغة الدارجة: ما تيسر، وهذه دلالة على أن الشرع ليس فيه تشديد على أتباعه، فالصحابة يسألون: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219]، والعفو في اللغة: الزيادة والفضل، والمراد هنا ما تيسر من فضول أموالكم ولا تكلفوا أنفسكم مالا تطيقون.(20/8)
تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير)
{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة:219 - 220] واليتيم قد مر معنا في اللغة، وهو في الاصطلاح: من انفرد عمن يرعاه، هذا في الاصطلاح، وقد مر معنا أن اليتيم من بني آدم هو من فقد أباه، ومن الطير: من فقد أمه وأباه، ومن البهائم: من فقد أمه دون أبيه؛ لأن البهائم لا تجد أباً يعولها، فالمعيار فيها والمناط جميعاً هي قضية الرعاية، فلما كان عالم الطيور يشترك الذكر والأنثى في الرعاية سُمي من يفقد الاثنين يتيماً.
نعود للآية ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى)) قال الله تعالى: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة:220]، وأنزل الله جل وعلا قبلها: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] فشق ذلك على الصحابة، فعزلوا أموالهم عن أموال اليتامى، فأنزل الله جل وعلا بعدها: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة:220] ولغة القرآن واسعة، ومظلة عظيمة، فالإصلاح هنا يندرج فيه أمور عدة: إصلاح قلبي بمعنى أن تشفق عليه وترحمه ولو كان غنياً؛ لتجبر كسره في فقد والده؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (خير بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يُحسن إليه، وشر بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه)، رواه البخاري في (الأدب المفرد)، وجعل صلى الله عليه وسلم من أسباب لين القلوب وذهاب قسوته المسح على رأس اليتيم، وهذه كلها منافع تعود على اليتامى قلبياً ونفسياً وروحياً، ومن حيث الإصلاح الاقتصادي، وهو المقصود بالآية {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة:220].
فقد أباح الله لأولياء اليتامى أن يُخالطوا أموالهم إلى أموالهم، لكنه بيّن جل وعلا أن العبرة كل العبرة في ذلك بالمقصد، ومن هنا فهم العلماء من قول الرب تبارك وتعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فمن خالط اليتيم في ماله رجاء أن يصلح مال اليتيم وينفعه فهذا يؤجر، ومن خالط اليتيم في ماله رجاء أن يأكل مال اليتيم ويستولي عليه فهذا يأثم، وإن كانت الحال الواحدة؛ لأن المخالطة تنقسم إلى قسمين: مخالطة يُراد بها الإفساد، ومخالطة يُراد بها الإصلاح، ومن هنا فهم العلماء من قول الله جل وعلا: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] أن الوسائل لها أحكام المقاصد، {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة:220] أي: لشق عليكم، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:220].(20/9)
نظرة تاريخية في اليتامى وأحوالهم
ندخل الآن تاريخياً في عالم اليتامى إن صح التعبير، فأشهر اليتامى هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت قريش تعرفه بأنه يتيم أبي طالب؛ لأنه نشأ في بيت أبي طالب، فـ أبو طالب كفل النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة جده عبد المطلب، قال شوقي: ذُكرت باليتم في القرآن تكرمة وقيمة اللؤلؤ المكنون في اليتم فاللؤلؤ إذا له نظائر لا يُصبح له مزية، لكن انفراده يجعل له مزية، فأنت أيها النبي الكريم إنما كان تفردك لأن الله جل وعلا هو الذي آواك، قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6]، فأشهر يتيم هو نبينا صلى الله عليه وسلم.
ثم وجد في العلماء والمشاهير عبر التاريخ يتامى كان لهم حض كبير، ومن أشهرهم الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه، فقد نشأ يتيماً، والذي يعنينا هنا أن عصور التربية الحديثة تقول باصطلاح التربويين -وهذا كذلك لـ شوقي فيه باع-: إن اليتيم ليس الذي فقد أباه، هذا في الاصطلاح الشرعي، لكن في الاصطلاح الحقيقي: هو الذي لا يرعاه أبوه وإن كان موجوداً وإن كان حياً، قال شوقي: ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا فأصاب في الدنيا الحكيمة منهما وبحسن تربية الزمان بديلا إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا(20/10)
طرق تربية الأولاد
هذا ولا أريد أن أخرج عن عظمة كلام الله لكنني أزدلف تربوياً، حتى وأنت تربي لا تُعلِّق من تربيه بك، فإن الإنسان لا يتعلم من شيء أكثر من شيء يكتشفه بنفسه، وإنما الصواب عندنا في التربية أن يكون المربي والراعي والقائم على الأمر موجه من علو ومن بعد، ولا يحاول أن يجعل ممن يربيه صورة منه، ثم إن العاقل في تربيته يتغافل عن أمور، ولا يحسن التنقيب عن كل شيء، فدع من دونك أو من تحت يدك، بل دع صديقك، بل دع زوجتك يُخطئ أو تُخطئ وتعود لوحدها أو يعود لوحده إلى صوابه، فذلك أبقى لماء وجهه عندك، أما إن اكتشفت أنت خطأه وثرَّبت عليه ولمته فلو عاد فإن ماء وجهه قد أُريق من قبل يوم أن أخطأ، وعلم أنك اطلعت على خطأه، فإنه يخشى أن تُعيره يوماً به، فإذا أذن لي من يراني من الآباء والأمهات فليس من الصواب في ظني -وهذا مسألة من باب الاجتهاد- أن يتفقد الإنسان أو الوالد أو الوالدة في كل آن وحين جوال ابنه، بحجة أن يخشى عليه من المهالك؛ فإنه لا بد أن نُبقي من دوننا أو من تحتنا في عالم خصوصية لهم، وأما كون المرء يطّلع على خصوصية كل أحد فهذا يتنافى مع ما دل الشرع عليه.
ولقد شُرع الاستئذان في الدخول على أطهر بيت وهو بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في بيت النبوة ما يُخفى ولا يُستحيى منه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قدوة في كل أمره، لكن من باب أن الإنسان أحياناً لا يُحب أن يطّلع أحد على بعض شأنه، وحتى أنت أيها المبارك! في إقامة العلاقات مع غيرك فثمة أمور لا تحاول أن تصل إليها بالسؤال! فإن من معك: أستاذك أو شيخك أو قرينك أو من دونك إذا كان ذا عقل فإنه إذا أراد أن يُطلعك فسيُطلعك من غير أن تسأله، وما كتم الأمر عنك إلا لأنه يرغب ألا تطّلع أنت عليه، فلو قدِّر أنك اطّلعت عليه فلا تُظهر له أنك قد اطّلعت عليه.
وقد ذكروا أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بعث أحد رسله -يعني: أحد حشمه وخدمه- إلى ابنه عبد الملك، وكان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز شامة في جبين الدهر، وقد مات قبل أبيه، ولهذا قال عمر لما مات ابنه عبد الملك قال: الحمد لله الذي جعلك في ميزاني ولم يجعلني في ميزانك.
وموضع الشاهد أنه حصل بينه وبين من بعثه أبوه نوع من الكلام، وأراد الرجل أن يُخفي هذا عن عمر، فقال له عبد الملك: لا تُخبر أمير المؤمنين بهذا، فقال الرسول المبعوث: وإن سألني أمير المؤمنين؟ فقال عبد الملك: لا تخبره فإن أبي لن يسألك عن شيء لم تخبره به، أي: أنه أعرف الناس بأبيه، فإذا علم أبي يعلم مني أنني إذا أريد أن أُطلعه أطلعه، وهو لن يتفقد بالطريقة التي يصل بها إلى الحد الذي يخرجه عن مكنون التربية الحقة، واعتماده على نفسه.
ونحن نلحظ من بعض الفضلاء الذين حولنا -وهم كثر- أنه من حرصه أجزل الله مثوبته على تربية ابنه أنه إذا سافر يتصل بأولاده؛ ليطمئن أنهم أقاموا صلاة عظيمة كشعيرة الجمعة، وهذا حق ومسئولية لكن يمكن أن تتأكد من أنهم صلوا الجمعة من غير أن تجرحهم، وذلك إما بعض الفضلاء يسأل ابنه ليتأكد، فيقول له: ماذا قال الخطيب؟ وأما أنت فقد جعلت ابنك أمام خيارين: إما أن يتجرأ ويقول: لم أذهب، وإما أن يكذب، وفي كلا الحالتين أقررته على خطأ، لكن مثل هذه الأمور تغفل عنها، ولا يعني ذلك أبداً ولا يقول بهذا عاقل أن تترك تربيته، لكن بطريقة أخرى تُقنعه وتبين له أهمية صلاة الجمعة من غير أن تجعل المسألة بينك وبينه بهذه الطريقة؛ لأن السؤال على قسمين: سؤال اتهام لا يقبله حر، وسؤال استفهام وهذا أمر مفتوح، فقد تقابلني ولا أعرفك فتسألين: أين الطريق إلى المكان الفلاني، فأخبرك، فهذا سؤال استفهام، أما أن يتأتي أحد إلى شخص أكبر منه أو دونه ويسأله سؤال اتهام ويريد إجابة؛ فالحر الأبي هنا لا يجيب؛ لأنه لا يقبل أن يسأل أسئلة اتهام، وليس من التربية في شيء أن تسأله أسئلة اتهام، فمن تحبه علّقه بالله، وأول طرائق أن تُعلّقه بالله أن تقطع علائق تعلقه بك؛ لأنه ما دام أنه متعلقاً بك فلن يكمل تعلقه بالله، لكن ابدأ بأن تعلقه بالله.
وقد يقول قائل: وكيف أطمئن عليهم؟ فمن الممكن أن تقول حتى تبين له فضل صلاة الجمعة وعظيمها: أنا يا بني الآن في سفر، ووالله إني متعب لكن تعرف يا بني أن صلاة جمعة ليس هناك عاقل يتركها، فقد ذهبت إليها وحضرتها وأنا في سفر متعب جداً؛ لأنه ليس هناك مسلم يترك صلاة الجمعة فصليت ثم جئت، ثم وأنتم كيف أنتم؟ وكيف أموركم؟ فثق تماماً أن الرسالة قد وصلت، وسيجلّك لأدبك، وسيأتي في أيامه القادمة يخشى أن تطّلع عليه على عورة أو مثلبة، فيقول في نفسه إن لم يكن صلى: الحمد لله الذي ستر عليّ ولم يسألني أبي أصليت أم لم أصلي، ويتداركها فيما سيأتي، وأما إن تجرأ اليوم وكذب فإن السيئة تقول: أختي أختي، وسيأتي بكذبات بعد، وإن تجرأ اليوم وقال: لن أصلي، فإذا انتصر عليك وبينك وبينه مفازات، فماذا ستفعل به أكثر من أن توبخه وتعنِّفه في الهاتف؟ فهي دقائق! ساعات! ثم لا يلبث أن تضع سماعتك، فيصبح الشيء الذي يخشاه قد وقع، وإذا وقع على المرء الشيء الذي يخشاه فلا يضره بعد ذلك أي شيء، فإن من يخشى منك أن تصفعه لا يزال منحياً، فإذا صفعته رفع رأسه.
أيتها النفس أجملي الجزع إن الذي تخشين قد وقع هذا استطراد في قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة:220]، والكلام عن اليتامى وتربيتهم، وقد تكلمنا فيه كثيراً، وهذا منهج قرآني ندين الله جل وعلا به.(20/11)
تفسير قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير)
نعود للآيات قال الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:220]، ثم قال ربنا: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة:221].
كما فعلنا في اللقاء الماضي نزدلف عن النكاح عموماً ثم نفصّل في الآيات في اللقاء القادم، النكاح فطرة جعلها الله في قلوب الناس، وهو سنة عظيمة من سنن الأنبياء، وقد تزوج الأنبياء وتزوج نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو من أعظم المباحات، وأهل الصناعة الفقهية يقولون: إن النكاح تجري عليه الأحكام التكليفية الخمسة، فيكون واجباً في أحوال، ومكروهاً في أحوال، ومندوباً في أحوال، ومباحاً في أحوال، ومحرماً في أحوال، وهذا اجتهاد فقهي منهم، لكن من حيث الجملة هو من أعظم المباحات، قالت العرب: سلام الله يا مطر عليها وليس عليك يا مطر السلام فإن كان النكاح أحل شيء فإن نكاحها مطراً حرام فطلقها فلست لها بكفء وإلا يعلو مفرقك الحسام فهذه الأبيات فيها عدة شواهد نحوية لكن الذي يعنينا هنا قوله: فإن كان النكاح أحل شيء فإن نكاحها مطراً حرام فالنكاح سنة فطر الله جل وعلا عباده عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (النكاح من سنتي)، وما تشرئّب إليه أعين الرجال من النساء شيء يطول ذكره، ولا نجد له ضابطاً والنبي صلى الله عليه وسلم حدد أربعة معايير، فقال: (تنكح المرأة لجمالها) وهذا سبب عظيم، وقال: (تنكح لحسبها)، وقال: (تنكح لمالها)، وقال: (تنكح لدينها)، ثم أوصى فقال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك).
قلت: هذا الكلام يطول، وهو تمهيد للقاء قادم لكن من حيث الجملة لا يمكن جمع الناس على شيء واحد، والأعين المشاهدة تختلف، فقد يزين في عين زيد ما لا يزين في عين عمرو، وأحدهم يقول: تعلقتها شمطاء شاب وليدها وللناس فيما يعشقون مذاهب يعني: لا يستطيع أن يلومني أحد على هذا الحال، ولو علمت أخبار عشاق العرب قديماً لعرفت أن من تعلقوا بهن من النساء لم يكنّ أجمل أهل زمانهم، لكن زينها الله جل وعلا في عينيه؛ وهذا أمر يجب التسليم به، وقد لا يقع من المرأة تسليم هي منها لذلك الآخر وإن كان أعظم، قال المجنون: فيا رب إن صيرت ليلى هي المنى فزني بعينيها كما زينتها ليا وفي الخبر الصحيح أن مغيثاً كان يجري وراء بريرة، فكان قد امتلأ قلبه حباً لها وفتنة وإعجاباً بها، وهي لم تكن ترغب منه في شيء، فلما كلمها فيه النبي صلى الله عليه وسلم قالت: هل أنت شفيع أم هذا أمر لا أستطيع رده؟ فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه شفيع، فقالت وهي صحابية: لا حاجة لي به، فهو كان يمشي وراءها كما يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الأسواق ويبكي، فهذه أمور بقدر الله، لكن عموماً النكاح من أعظم المباحات، فبه يكثر سواد الأمة، ويُغض البصر، ويُحفظ الفرج، وسيأتي في اللقاء القادم التفصيل لقول الله جل وعلا: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة:221].
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين(20/12)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [فاتحة السورة]
مما يعجب المرء له أشد العجب أن يرى الله تبارك وتعالى قد أقام الحجج الدامغة، والبراهين المعجزة، والآيات الباهرة، الشاهدة بألوهيته وربوبيته، ثم يجد بعد ذلك كله من يعدل بالله شريكاً قد لا يسمع ولا يبصر، بل ولا يغني عنه شيئاً، وهذا هو الظلم العظيم، والضلال المبين، فلا إله إلا الله، ولا معبود سواه، ولا مألوه إلا هو سبحانه جل جلاله.(21/1)
الكلام على تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
فهذه أوبة حميدة وعودة مباركة بإذن الله لبرنامجنا ولقاءاتنا الموسومة: بمحاسن التأويل، والتي مضت السنة فيها ولله الحمد والفضل والمنة ونحن نتأمل كلام ربنا جل وعلا، ولا مجلس أعظم ولا ملتقى أشد وأكثر بركة وفضيلة من مجلس وملتقى يتأمل فيه كلام رب العالمين جل جلاله، وقد من الله علينا بفضله ورحمته بالشفاء، وهانحن نعود معكم -أيها المباركون- فنسأل الله جل وعلا ألا يكلنا لأنفسنا طرفة عين، وأن يجعلنا من الشاكرين لنعمته، المثنين عليه تبارك وتعالى.
ونقول: إننا في هذه الأوبة سنشرع في التأمل في سورة الأنعام، وسنأخذها إن شاء الله تعالى في لقاءات تكون أقل وقتاً مما سبق وجرت العادة عليه، فنقول: قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين مستفتحاً سورة الأنعام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
بداية: سورة الأنعام سورة مكية وقد ذكرنا أن الانطلاقة في الوصول إلى أي غاية تبدأ بالعموم، وعما يقال فيها: إنها سورة مكية تظافرت روايات ليس فيهن رواية لها سند صحيح، لكنها متنوعة الطرائق، ولهذا قبلها المفسرون وهي أن السورة نزلت في مكة جملة واحدة وشيعها سبعون ألف ملك، وهذا لا نجزم به، لكن نقول: أكثر أهل العلم من المفسرين عليه، والصناعة الحديثية لا ينبغي أن تطبق بالكامل في مثل هذا المنحى، ما دمنا لم ننسب ولم نرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً.(21/2)
ذكر السور التي افتتحت بالحمدلة والتي اختتمت كذلك بالحمدلة
قال أهل العلم: والسورة هذه أصل في الاحتجاج على المشركين، وقد تضمنت أسلوبين: أسلوب التقرير، وأسلوب التلقين، وسيأتي تفاصيل ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه، استفتحها ربنا جل وعلا بحمده والثناء على ذاته العلية فقال جل جلاله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:1]، وهنا نقول: إنه من باب الاتفاق لا من باب الإلزام جاءت في القرآن خمس سور استفتحهن الله بحمده، وخمس سور ختمهن الله بحمده، فأما الخمس سور التي استفتحهن الله جل وعلا بحمده فهي: سورة الفاتحة، وسورة الأنعام، وسورة الكهف، وسورة سبأ، وسورة فاطر، فهذه السور الخمس افتتحهن جل وعلا بحمده، قال ربنا في الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وقال تباركت أسماؤه في الأنعام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:1]، وقال جل وعلا في الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1]، وقال تبارك اسمه في سبأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [سبأ:1]، وقال جل وعلا في فاطر: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1].
وختم خمس سور بحمده: قال جل وعلا في الإسراء: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء:111]، وقال جل وعلا في النمل: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [النمل:93]، وقال جل وعلا في الصافات: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:181 - 182]، وقال جل وعلا في الزمر: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، وقال جل وعلا في الجاثية: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ} [الجاثية:36].
فهذه خمس سور: الإسراء والنمل والصافات والزمر والجاثية ختمهن الله جل وعلا بحمده تبارك وتعالى.
نعود للسورة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:1]، أهل الصناعة النحوية يقولون: إن الألف واللام هنا للجنس، فإذا ابتدئ بها تضمنت معنى الحصر، فتصبح الألف واللام في الحمد هنا على سبيل الحصر أي: لا يستحق الحمد أحد غير الله، فإذا قلنا: معنى الحصر أي: لا يستحق الحمد أحد غير الله تبارك وتعالى، والحمد يمكن تحرير معناه بالقول: أنه ما يصدر من فعل على وجه التعظيم للمنعم، وقولهم: للتعظيم احترازاً من الإهانة؛ لأن الله جل وعلا قال في باب التهكم بمن عصاه: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، فهذا ليس فيه حمد ولا إجلال وإنما جرى مجرى التهكم ولهذا قالوا: هو فعل أو قول يصدر على وجه التعظيم للمنعم، ولا يستحق الحمد أحد غير الله، ويمكن صرف الشكر إلى غير الله.
قال صلى الله عليه وسلم: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله).
قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، المعنى العام للآية: أن الله تبارك وتعالى يثني على ذاته العلية، ويبين أن من عظيم قدرته وجليل حكمته وسعة رحمته خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ومع هذه القرائن الظاهرة والأدلة الباهرة هناك من يجعل معه غيره، أي: يجعل له نظيراً ومثيلاً ونداً وهو صنيع أهل الإشراك، هذا المعنى العام للآية، لكن جرت العادة أننا لا نتوقف عند هذا، بل نبحر في الآية ونستنبط ما فيها، ونحرر المعنى على الوجه التالي: فهم العلماء من الآية: أن الجمع مقابل الإفراد يدل على فضيلة الفرد، ودليلهم: أن الله جمع الظلمات وأفرد النور، ومما يؤيده في أسلوب القرآن: قول الله جل وعلا في سورة النحل: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ} [النحل:48]، أفردها، {وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل:48]، فجمع الشمائل مع الاتفاق على فضل اليمين على الشمال.
هذه واحدة.
ثم اختلف العلماء هنا في معنى كلمة: يعدل، وهو فعلها الأصلي، عدل -أيها المبارك- تأتي على معنيين إذا قلنا عدل عن الشيء أي: مال عنه وانحرف، وإذا قلنا: عدل به أي: ساواه بغيره، فأي المعنيين أراده الله مبدئياً حتى لا تتحمل ثقلاً على ظهرك وتخشى أن تقع في محظور؟ أي المعنيين اخترت فهو صحيح؛ لأن أهل الإشراك عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة غيره، وهذا هو المعنى الأول.
وعدلوا مع الله غيره بأن جعلوا له شركاء وأنداداً فكلا الأمرين وقعا من أهل الإشراك، ولا ريب أن الإنسان إذا خشي أن يقع في محظور دفعه هذا إلى التقدم والمجازفة في الكلام؛ لأنه أمن الوقوع في المحظور، لكن تحرير الكلام علمياً يأتي على كلمة {بِرَبِّهِمْ} [الأنعام:1] فالباء هنا: هل هي للإلصاق أو بمعنى عن؟ فإذا أخذنا أن عدل بمعنى: انحرف ومال، فستصبح بمعنى: ثم الذين كفروا عن ربهم يعدلون.
وقد جاء في القرآن وفي كلام العرب: أن الباء تأتي بمعنى عن، قال تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1]، والمعنى: سأل سائل عن عذاب واقع، فالباء هنا بمعنى عن، وجاء في لغة العرب قول عنترة الشاعر الجاهلي المعروف: هلا سألت الخيل يا ابنة مالك وهي عبلة محبوبته وابنة عمه.
إن كنت جاهلة بما لم تعلم وجاهلة خبر لكان، بما لم تعلم أي: عما لم تعلم، أي بمعنى: عن، وهو الذي نبحث عنه الآن.(21/3)
أثر الإسلام على الشعر العربي
إذا خرجنا عن هذا الشاهد قليلاً من باب السياحة الثقافية نقول: إنك تلحظ في بيت الشعر هنا الشعور بالخصوصية وعنترة يتكلم عن نفسه، ولهذا قال في نفس المعلقة: ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم وهذه الفردية والأنانية كانت ذائعة عند الجاهليين، فلما جاء الإسلام أثر في الخطاب الشعري عند العرب، ولهذا جاء في أبيات حسان: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء وقوله: فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء وقوله: وجبريل أمين الله فينا فروح الجماعة والاتحاد والإخاء موجودة في شعر حسان خلافاً لما كان عليه شعر الجاهليين، وهذا من أثر الإسلام على العرب، ونقلهم من حياة الجاهلية الفردية إلى حياة الإخاء والإخوة في الإسلام سياحة ثقافية بعض الشيء.
قال عز وجل: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، فعدل إذا قلنا: إنها بمعنى: مال وانحرف تصبح الباء بمعنى عن، وإذا قلنا: إنها بمعنى: الإشراك أي: يجعلون مع الله نداً فتبقى الباء على أصلها، وهناك فرقة خرجت عن المألوف الذي عليه أهل الإشراك، فأهل الإشراك وإن كانوا يعبدون مع الله غيره إلا أنهم يعترفون أن الخالق والرازق هو الله، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، هذا الأصل في أهل الإشراك فشركهم شرك عبادة، وليس شرك ربوبية، لكن ليس هذا حال جميع أهل الكفر، فهناك فرقة تسمى: المانوية، وهي في العراق أكثر ظهوراً، وهؤلاء ينسبون كل خير إلى النور، وينسبون كل شر وأذى إلى الظلمة، ولا يقولون بوجود الله، وأحياناً يرد عليهم، لكن ليس كل من يرد عليهم ينتصر لعقيدته، وإنما بعض الناس يحكي تجاربه: فـ المتنبي يرد عليهم بقوله: وكم لظلام الليل عندك من يد تُخبِّر أن المانوية تكذب هو أراد أن يقول: كم من نعمة حصل عليها في الليل وكان الليل شفيعاً له في النجاة من محظور، فهو بالتجربة يقول: إن هذه التجارب التي عشتها وعاشرتها تخبر أن ادعاء المانوية: أن الظلمة سبب كل شر لا أصل له، فـ المتنبي رد عليهم لكن من منطلق ذاتي وليس من منطلق عقدي، ومشكلة المتنبي أنه يخرج أو يبعث شعره أو يتكلم من مشكاة نفسه لا من مشكاة معتقدات دينية يحملها، وإنما ما تمليه عليه تجاربه أو ما تمليه عليه قراءته فيقولها للناس.(21/4)
تأثر العرب والمسلمين بحضارة اليونان وتأثيرها على علومهم
وأنت تعلم -أيها المبارك- أن الترجمة جاء ذكرها في أيام العباسيين لكن العرب عندما ترجموا عن الكتب اليونانية أكثر ما عنوا به: علم المنطق، وما يعنى بالأدب، فلهذا استفاد الأدباء من تجارب اليونان فظهر في شعرهم ذلك وهو في شعر المتنبي أظهر، واستفاد النحاة في تحرير النحو وتقسيمه ونشوئه من علم المنطق الذي أخذوه عن اليونانيين، فارتقى علم النحو وساد وتفرعت مدارسه، وأغفل العرب آنذاك عمداً أو جهلاً علمين في النقل عن اليونانيين كانا شائعين في الحضارة اليونانية: وهما الفن والسياسة، فلم يترجموا شيئاً في السياسة، ولم يترجموا شيئاً في الفن، ولهذا فالحضارة العباسية بقيت ضعيفة في قضية السياسة؛ لأن علم السياسة لم يؤخذ من اليونانيين، ولم يترجم، فما ارتفعت حياة العرب السياسية في عهد العباسيين، ولهذا لما جاء هولاكو لم يجد دولة قائمة على سوقها لا خليفة يأمر وينهى، ولا جيش منظم يدافع، وإنما هي الخيانة؛ وزير ينتمي إلى مذهب الرافضة تضيع دولة بأكملها بسببه، ولو كانت هناك قوة سياسية منظمة لما أمكن لهم ذلك، ومن أسباب عدم الارتقاء السياسي أمران: أولاً: عدم اللجوء إلى الاستفادة من أحداث الصدر الأول وهذا السواد الأعظم.
والأمر الثاني: عدم الاستفادة من الحضارة اليونانية في علم السياسة، أما الفن فخيراً فعلوا في أنهم لم ينقلوا ولم يترجموا تقدم اليونانيين فنياً.
هذا استطراد دخلنا فيه من باب قول الله جل وعلا: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، وذكرنا أن المانوية فرقة تؤمن بأن الظلمة أصل كل شر، وأن النور أصل كل خير.
على التعريج بالظلمة والنور أهل الشرع الباحثون في كلام الله -جعلنا الله وإياكم منهم- يقولون: إن الله جل وعلا خلق الليل قبل النهار، واستدلوا بآية يس، قال الله تبارك وتعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37]، فأخبر الله جل وعلا أن الليل هو الأصل في النهار، وأن النهار مأخوذ منه، لكن الآية التي بين أيدينا الآن في سورة الأنعام لا تدل على هذا، بل تدل على الاقتران، قال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، (ثم) المستقر ذهنياً وفق صناعة النحو أنها: للتراخي، تقول: حضر عبد الرحمن ثم طارق فهذا تراخ زمني، لكن العلماء يقولون هنا: ليس المقصود منه التراخي الزمني؛ لأن هناك بوناً شاسعاً بين خلق السموات والأرض وبين كفر كفار قريش؛ لأن كفار قريش آخر الأمم، والله جل وعلا خلق السموات والأرض قبل أن يخلق أبانا آدم، فجاء على هذا: أن التراخي هنا المقصود به التراخي بين الرتبتين، أي: على طريق الاستبعاد، بمعنى: أن الآيات ظاهرة، والدلائل قائمة، والشواهد واضحة، في أن الله لا ينبغي أن يعبد معه غيره، ثم مع هذا الظهور الجلي الواضح يأتي أهل الإشراك فيعدلون مع الله غيره أو يعدلون عن عبادة ربهم، فالتراخي هنا للتراخي بين رتبتين، وليس للتراخي الزمني، وإن كانت تتضمن التراخي الزمني لزاماً؛ لأن هناك تراخ زمني كبير ما بين خلق السموات والأرض وكفر كفار قريش.(21/5)
معنى كلمة (جعل) في القرآن
قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، قلنا: إن يعدل هنا تأتي بالمعنيين، وقلنا: إنه لا حرج في اتخاذ أحد هذين المذهبين، كذلك في قوله تبارك وتعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، هنا جعل بمعنى: خلق، لكنها ليست دليلاً للمعتزلة في: أن جعل تأتي بمعنى: خلق على الإطلاق، وهذا حررناه في لقاءات سابقة، لأن المعتزلة الفرقة المعروفة تقول: إن جعل في القرآن كله بمعنى: خلق، وهذا مما يحاولون به الوصول إلى أن القرآن مخلوق، والقرآن قطعاً منزل، لكن جعل تأتي أحياناً بمعنى: خلق، وتأتي أحياناً بغير معنى خلق، قال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19]، فهذه ليست بمعنى خلق اتفاقاً، فلا يمكن لأهل الكفر أن يكونوا خالقين للملائكة، لكنهم اعتقدوا هنا أن الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، فقول الله جل وعلا: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] إنما هو تفنن في الخطاب، وإلا فخلق السموات والأرض هو عين خلق الظلمات والنور.
هذا ما تحرر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، حول الآية الأولى التي افتتح الله جل وعلا بها سورة الأنعام.
سائلاً الله لي ولكم التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله، لحمد لله رب العالمين.(21/6)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [2 - 3]
يبين الله جل وعلا في هذه الآيات عظم جحود المشركين وكفرهم، ويذكرهم بأصل خلقهم، وأنه التراب، ويذكرهم بالآجال التي يتبعها البعث والنشور، ويذكرهم بعلمه المحيط بالسماوات والأرض، وأنه إله من في السماء وإله من في الأرض، ثم يأبى هؤلاء إلا أن يشكوا في قدرة الله وقوته على البعث والحساب، بل ويشركون معه من لا يسمع ولا يعقل ولا يغني لهم شيئاً.(22/1)
تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين ثم أنتم تمترون)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا اللقاء الثاني المخصص لسورة الأنعام: وكنا قد تحدثنا في اللقاء الأول عن فاتحة السورة، وهي قول الله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
فالآية الأولى هذه كانت تتحدث عن إثبات الألوهية، ثم انتقلت الآيات الآن إلى إثبات غرض آخر مما يتعلق بعقائد الناس وهو: البعث والنشور، قال الله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:2].
وهذا انتقال إلى غرض آخر تريد السورة إثباته وإقامة الحجة به على أهل الإشراك وهو: البعث والنشور.
بقي في اللقاء الأول: أن نعرج على كلمة (يعدل)، وقد تحدثنا عنها تفصيلاً لكن ينبغي أن تعلم -أيها المبارك- أن كلمة (يعدل) بمعنى: يوازي ويماثل ويجعله نداً، فإذا كنا نتكلم عن مثيل من نفس الجنس فإنها تكسر فيقال: (عِدل)، ومنه قول مهلهل ربيعة يعير قاتلت أخاه كليباً: على أن ليس عدلاً من كليب أي: لا مثيل لـ كليب من جنسه.
أما إذا فتحنا العين وقلنا: (عدل)، فلا يقصد بها المثيل من الجنس، وإنما يقصد بها: الفدية، والله جل وعلا ذكر الصيد، وأنه محرم في حال الإحرام، ثم قال: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة:95] ففتح العين؛ لأن الصيام ليس من جنس الصيد، {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:48] أي: ولا يؤخذ منها فدية.
ثم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2]، هنا يمتن الله جل وعلا عليهم وهو يحاورهم في قضية: إنكارهم للبعث والنشور، قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2] نأن، والخلق في القرآن على ضربين: إما تذكير بخلق آدم، وهنا يقول: (خلقكم من طين)، أي: من تراب من صلصال، وأحياناً يتكلم عن الإنسان الناشئ عن أبيه آدم، فيتكلم الخلق عن ماء أو عن نطفة، فيأتي الله بذكر الخلق عن ماء أو عن نطفة.
لكن ما السر في قول الله تعالى هنا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2] نأن.
قلنا: إن الغاية من الآية: إثبات البعث والنشور، وأهل الإشراك يستبعدون إذا أصبحوا تراباً أن يبعثوا، فذكرهم ربهم تبارك وتعالى بأن أصل خلقهم من الطين، فهذا الطين أو التراب الذي تزعمون أننا نعجز أن نعيدكم منه نحن خلقناكم منه أصلاً، قال تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15].
وقد حررنا في دروس مضت، وأيام خلت الكثير من قضايا البعث والنشور، مما لا حاجة إلى تكراره، لكن نؤكد هنا على قضية السر في إيراد كلمة (طين).
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2]، وقد مر معنا: أن آدم عليه السلام مر ثلاث مراحل: خلق من تراب، ثم مزج هذا التراب بالماء فأصبح طيناً، ثم ترك هذا الطين حتى يبس فأصبح فخاراً، وهي: المرحلة الفخارية، فهي ثلاث مراحل مر بها خلق أبينا آدم عليه السلام.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام:2]، هنا ذكر الله أجلين اختلف العلماء في تحديدهما، وجمهور أهل التفسير على أن الأجل الأول في الآية: هو الموت.
والأجل الثاني: هو المدة ما بين الموت إلى البعث والنشور.
وقال آخرون: إن المقصود بالأجل الأول: النوم.
والأجل الثاني: الموت.
وهذا القول حكاه ابن كثير وعقب عليه بقوله: وهذا قول غريب.
قال: (ثم قضى أجلاً) أكثر أهل التفسير: يرى أن (قضى) هنا بمعنى: قدر وحكم، واعترض الطاهر بن عاشور رحمة الله تعالى عليه في (التحليل والتنوير) على هذا المفهوم وقال: إن قضى هنا بمعنى: أنهى وأمات، وقوله وأدلته أظهر من قول من سبقه؛ لأن التقدير إن لم يكن مقترناً بالخلق فهو سابق عليه، والآية هنا لا تشعر بهذا؛ لأن الله قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} [الأنعام:2].
فجعل التقدير -على اعتبار أن قضى بمعنى: قدر- متأخراً عن الخلق، وهذا غير مقبول، فما ذهب إليه ابن عاشور رحمة الله تعالى عليه أقرب إلى الصواب، فجعل قضى هنا بمعنى: أنهى، واستدل بإتيان مثل هذا في القرآن، قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ:14]، أي: أنهيناه بالموت، والمعنى هنا يستقيم مع الآية: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام:2]، و (عند) هنا: تفيد الحصر، والضمير عائد على ربنا جل وعلا، والمعنى: أن هذا الأجل الثاني لا يعلمه أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
مثاله: عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، صحابي جليل، كان سنه عند موته 63عاماً؛ وهذا لا يخفى على أحد، فكلنا نعرف بعد موت عمر أن أجله كان 63عاماً؛ فلهذا لم يقل الله في الأجل الأول: إنه عنده؛ لأنه أصبح ظاهراً للناس، لكننا لا نعلم أجله الثاني، من موته إلى قيام الساعة، فهذا أمر أخفاه الله عنا واستأثر بعلمه، وبهذا يتحرر معنى قوله سبحانه: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ} [الأنعام:2].
ثم انتقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب، وهذا يسمى: التفافاً في الصناعة البلاغية، قال سبحانه: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:2]، لكن ينبغي أن تقيد أن قول الله جل وعلا: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:2] من الامتراء وهو: الشك، وليست من المماراة: وهي الجدال والمحاورة، والمعنى: أنكم مع خلقي لكم من طين، وجعلي الأجلين لكم، ما زلتم تشكون في مسألة البعث والنشور، وعدم الإيمان بالبعث والنشور من أعظم ما تلبس به أهل الإشراك: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7].(22/2)
تفسير قوله تعالى: (وهو الله في السموات والأرض ويعلم ما تكسبون)
ثم نأتي إلى آية من متشابه القرآن حيث يقول الله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3]، الأصل: أننا نؤمن أن الله جل وعلا له علو ذاتي، وأنه تبارك وتعالى مستو على عرشه، بائن من خلقه، قال العلامة ابن عثيمين رحمة الله تعالى عليه: أجمع السلف على إثبات علو الذات لله، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
وللعلماء في الآية ثلاثة أقوال: القول الأول: أن معنى الآية: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3]، أي: وهو المألوه المعبود في السماء والأرض، أي: يعبده أهل السماء وأهل الأرض، وهذا القول عليه جماهير أهل التفسير، ورجحه العلامة الشنقيطي في أضواء البيان، واختاره من قبله الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن.
ومن الآيات التي تؤيد هذا المعنى: قول الله جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، أي: هو إله من في السماء وإله من في الآرض.
القول الثاني -واختاره النحاس النحوي المعروف- يقول: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3] أي: في السموات وفي الأرض، فجعلها متعلقة بـ (يعلم)، فيصبح معنى الآية: وهو الله يعلم سركم في السموات وفي الأرض.
قال النحاس: وهذا أفضل ما يقال في الآية، لكننا قلنا: إن الجمهور على خلاف ذلك.
ومما يؤيد هذا المعنى من القرآن: قول الله جل وعلا: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان:6].
القول الثالث -وهذا اختيار إمام المفسرين: ابن جرير رحمة الله تعالى عليه- يقول: إن هناك وقفاً تاماً عند قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ} [الأنعام:3]، ثم نستأنف: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3]، يعني: يعلم سركم وجهركم في الأرض، رغم أنه مستو على عرشه في السماء، ومن أدلة هذا القول: قول الله تبارك وتعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16].
نعود فنقول: ذهب الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه إلى القول الأول، لكنه استشهد على صحة الأقوال بما ذكرناه من الآيات، ونحن نقول، إن هذه الطريقة غير صحيحة؛ بصحة ما ذهب إليه هؤلاء الكبار، لكن لا يلزم من صحة المعنى صحة الطريقة، كمن تعطيه مسألة في الرياضيات فيأتيك بالحل، لكنه لم يتخذ الطريقة الصحيحة، فأنت تقر له بأن الحل صحيح، لكنك لا تقر له بصحة الطريقة، فنقول: إن المسلك الذي سلكوه فيه نوع من التكلف، والأصل: بقاء الآية على معناها الظاهر الذي يتبادر أول الأمر، والعجب أن ابن جرير رحمة الله تعالى عليه ممن يأخذ بظواهر الآيات أولاً، ومع ذلك لجأ في هذه المسألة إلى القول بالوقف التام في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ} [الأنعام:3].
نعود فنقول: إن المعنى الحقيقي للآية في ظننا: أن الله جل وعلا إله من في السماء، وإله من في الأرض، لكن هذا المنحى يدخل على مستوعب التفسير إشكالاً يجب الرد عليه: وهو أننا قلنا في مثل قول الله تعالى في سور كثيرة: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6]: إن ذكر اليسر نكرة مرتين يدل على أن هذا اليسر خلاف اليسر الأول، وأنتم تقولون: إن النكرة إذا تكررت تغايرت، ثم من القواعد المشتهرة -كما قال السيوطي في منظومته- أن النكرة إذا تكررت تغايرت، فعلى هذا المعنى يكون قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، دالاً على وجود إلهين وليس إلهاً واحداً؟ فنقول: لا يلزمنا هذا أبداً؛ لوجود الأصل العام أولاً وهو أن الله إله واحد.
والأمر الثاني: أن القاعدة تقول: إن هذا تغير في الصفات لا في الذوات، قال ربنا يثني على نفسه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1].
ثم قال: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2].
وقال: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3]، فليست الصفات صفات لغير الله، وإنما هي صفة لله، لكنها صفة أخرى لغير الله، فيحتاط المرء عندما يفهم أن التغاير يكون في الصفات لا في الذوات.
قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3]، سركم أي: ما تخفون، وجهركم أي: ما تظهر الجوارح، وما تكسبون، الكسب: هو ما يقع حقيقة من فعل أو قول، وحتى تتضح الصورة يقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34]، ثم قال: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:34]، ولم يقل: وما تدري نفس ماذا تعمل غداً؛ لأن الإنسان يبيت سلفاً ما سيعمله، لكنه يجهل إمكانية وقوع هذا العمل الذي بيته، هذا الذي يجهله الإنسان ولا يعلمه إلا الله، فنحن قبل أن نصل إلى هنا مدركون منذ البارحة أو قبلها بأيام أننا إن شاء الله سنلتقي هاهنا لنؤدي هذه الحلقة المباركة، هذا عمل، لكن حصوله يعد كسباً لا عملاً، فما تضمره السرائر، وتكنه الضمائر يعلمه الله، ويعلم كذلك إن كان هذا الذي أكننته سيقع أم لا؛ ولهذا قال الله جل وعلا: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3].
وقد مر معنا: أن الله يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، ويعلم جل وعلا ما لم يكن لو كان كيف يكون.
والمقصود من هذا كله: إظهار قدرة الله، أما الآية الأولى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:2] ففيها: إقامة الحجة على أهل الإشراك في قضية البعث والنشور، وقد حررنا أن الله ذكر الطين حتى يذكرهم بأصل خلقتهم.
مما يمكن اقتباسه من الآيات: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ * وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:2 - 3]: أن الإنسان كلما ازداد علماً ومعرفة بعظمة ربه جل وعلا كان أقدر على طاعته، وأبعد عن معصيته، وقد حررنا هذا الكلام مراراً في دروس سلفت، وأيام خلت، لكن التأكيد عليه من أعظم اللوازم؛ فليس المقصود من تفسير القرآن: إظهار القدرات، وبيان ما يملكه الإنسان من ملكات، لكن القرآن في المقام الأول واعظ وهاد إلى أعظم سبيل، فأحياناً ينبغي على الإنسان أن يفرق ما بين الشيء نفسه والغاية من الشيء، مثاله: النبي صلى الله عليه وسلم مدحه ربه، ومدحه الخلق، لكن مدح الخلق للنبي صلى الله عليه وسلم ليس بزائد في مدحه صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ إذ يكفيه مدح ربه له صلى الله عليه وسلم، لكن ينجم عن هذا: أن هؤلاء الناس الذين مدحوه صلى الله عليه وسلم هم أنفسهم ينتفعون.
فالإنسان إذا قدر له أن يعطى علما جماً في علم الآلة ينبغي أن يوظف ذلك العلم في إظهاره للناس، ثم لا ينسى الحقيقة الهامة، والغاية الجليلة من الأمر، وهي: أنه يجب أن تكون تلك الملكات سائقة له -قبل أن يعلم الناس- إلى أن ينتفع بالقرآن.
لو كان في العلم غير التقى شرفاً لكان أشرف خلق الله إبليس والله نعى على أهل الكفر: أنهم يعلمون -كاليهود مثلاً- لكنهم لا ينتفعون بعلمهم، نفعنا الله وإياكم بما نقول.
هذا ما تحرر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصل الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(22/3)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [4 - 9]
يذكر الله تعالى نبأ الكفار الذين عميت قلوبهم عن إبصار الحق فأعرضوا عن آياته وكذبوا بالحق لما جاءهم، واقترحوا على رسول الله ما ظنوا أنه معجز له عن الإتيان به، وكل هذا سببه تأصل العناد في قلوبهم، وحيادهم عن طلب الحقيقة بالتجرد إلى الإصرار على الباطل، وقد توعدهم الله تعالى مجازاتهم على صنيعهم مذكراً لهم بحال من سبق من المكذبين وعاقبتهم، وما هؤلاء بأكرم على الله منهم.(23/1)
تفسير قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرحمن على العرش استوى.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن على أثارهم اقتفى، وبعد: فهذا هو الدرس الثالث حول سورة الأنعام المباركة التي ذكر المفسرون أنها نزلت جملة واحدة.
فنقول مستعينين بالله جل وعلا: قال الله جل وعلا: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:4 - 5].
هذا إخبار عن حال أهل الإشراك، والسورة مكية تصور حال أهل مكة، و (ما) في قوله تعالى: {َمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} [الأنعام:4] نافية.
وذكرت (من) هنا مرتين، حيث قال تعالى: {َمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} [الأنعام:4].
وأما (من) الأولى فهي لاستغراق الجنس، أي: للعموم.
وأما الثانية فتبعيضية.
ومن تلك الآيات انشقاق القمر.
وقوله تعالى: {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام:4] أي: إننا أظهرنا لهم الآيات، ومن أعظمها القرآن، ومنها انشقاق القمر، فكانوا عنها معرضين، أي: أعرض أهل مكة عنها، وهذه ظاهرة المعنى.(23/2)
تفسير قوله تعالى: (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم)
قال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [الأنعام:5] فبصنيعهم هذا ردوا الحق وهو ظاهر بين {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:5].
و (سوف) هنا للتراخي؛ لأنا للمستقبل البعيد، وهذا من وعيد الله لهم بالهلاك في الدنيا والآخرة، أو بالثبور في الدنيا والآخرة، وقد وقع هذا يوم أحد، ووقع يوم الفتح، ويوم بدر، وسيقع أعظم منه وأشد لمن مات كافراً يوم القيامة.
والنبأ في اللغة: الخبر المفجع الذي تفزع منه النفس، وجمع الأنباء ليعلموا أن الله جل وعلا أخفى لهم شتى أنواع الهلاك.(23/3)
تفسير قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن)
ثم قال الله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الأنعام:6].
الهمزة هنا للاستفهام اتفاقاً، ولكن اختلفوا في الغرض من الاستفهام هنا.
فقال بعضهم: إن الاستفهام هنا إنكاري، وهذا القول ذهب إليه الشوكاني رحمه الله تعالى في فتح القدير، وهو خلاف الصواب.
والصواب أن الاستفهام هنا استفهام تقريري من جنس قول الله جل وعلا: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]؛ لأن الاستفهام إذا دخل على نفي يفيد التقرير، و (لم) نافية بالاتفاق.
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا} [الأنعام:6] معناه: ألم يعلموا، وليست رأى هنا هي البصرية، ومعلوم أن (رأى) إذا جاءت بمعنى (علم)، فهي من أخوات ظن.
وأما إذا جاءت (رأى) بمعنى (أبصر بعيني رأسه) فإنها تتعدى إلى مفعول واحد، وأما الأولى فهي بمعنى (علم)، من أخوات ظن، تدخل على الجملة الاسمية فتنصب المبتدأ والخبر، وكلاهما يسمى مفعولا لها.
ولقرينة على أنها علمية وليست بصرية أننا نعلم جميعاً أن الله جل وعلا قال: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام:6]، وأن القرشيين لم يروا بأم أعينهم هلاك الأمم قبلهم، فلما انتفى الثاني وجب صرفها إلى الأول.
قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} [الأنعام:6] (كم) هنا خبرية، وليست استفهامية.
و (كم) الاستفهامية تحتاج إلى جواب، وأما (كم) الخبرية فلا تحتاج إلى جواب، وإنما يراد بها الكثرة، قال الفرزدق يهجوا جريراً: كم خالة لك يا جرير وعمة فدعاء قد حلبت علي عشاري قصد بها الكثرة ولم يقصد جواباً من جرير على سؤاله.(23/4)
بيان معنى القرن
قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام:6].
كلمة (قرن)، فيها قولان: الأول: أن المراد بها المدة الزمنية، ومن قالوا بهذا اختلفوا في تحديد هذه المدة، فالأشهر على أنها مائة عام، وقال آخرون: إنها ثمانون، وقال آخرون: إنها ستون.
والقول الثاني: أن القرن كل قوم عاشوا في عصر واحد طال أو قصر، فهم كل قوم عاشوا مقترنين مع بعضهم في عصر واحد، طال هذا العصر أو قصر، ومن الأدلة على صحة هذه القول قوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرن) يقصد من عاش معه، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش في عمره كله إلا ثلاثة وستين عاماً، منها ثلاثة وعشرون عاماً كان فيها نبياً ورسولا، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني).
فالله تعالى هنا يقول: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام:6].
والمقصود أهل القرن، وهذا مما يسميه بعض البلاغيين بالمجاز المرسل، ويجعلون له علاقات.(23/5)
بيان معنى قوله تعالى (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم)
قال تعالى: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [الأنعام:6] أي: تلك القرون {مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} [الأنعام:6]، أي: يا أهل مكة، وزيادة على ذلك {وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ} [الأنعام:6]، أي: على تلك القرون التي أهلكناها {مِدْرَارًا} [الأنعام:6].
وهذا إيضاح بأن حال تلك القرون كان من حيث المعيشة الظاهرة أفضل من حال أهل مكة؛ لأن مكة بلد شحيح المطر {وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} [الأنعام:6] ومكة بلد جبلي.(23/6)
بيان إهلاك الله تعالى المكذبين بعد بسط نعمته عليهم
قال تعالى: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام:6].
أي: بسطنا لهم في الأموال والجاه والأجساد والبنين، فلم يحل ذلك بيننا وبين إهلاكهم {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام:6].
أي: أوجدنا وخلقنا قوماً آخرين يعمرون الأرض بعدهم، ولا ريب في أن المسوغ لإهلاك أهل مكة أعظم من المسوغ لإهلاك من سبق، والمسوغ هنا هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن قبله من المرسلين، فإذا كان أولئك القوم كذبوا برسل؛ فقد كذبتم أنتم بأعظم رسول، فالهلاك في حقكم أكبر، ولكن الله جل وعلا أبقاهم؛ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33].
والآيات -وإن دلت على الزجر والوعد والوعيد لأهل الإشراك- قد تضمنت ثناء الله جل وعلا على نفسه، وأعلم أن القرآن دل على أن سبب هلاك الأمم أمران: الأمر الأول: التكذيب بالرسل ومعاندتهم.
والأمر الثاني: البطر في المعيشة وغمط الحق، فغمط الحق وبطر المعيشة من أعظم أسباب هلاك الأمم، قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ} [القصص:58].(23/7)
تفسير قوله تعالى: (ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس)
ثم قال جل وعلا: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7].
إن الكفر ملة واحدة، ومما توارثه أهل الكفر العناد والاستكبار، وادعا أن ما يقوله الرسل سحر، كما أخبر الله تعالى عن قوم فرعون أنهم قالوا لموسى: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:132].
فهذا الأمر توارثته الأجيال من عهد نوح، فكل قوم يقولون لرسولهم: {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52].
فربنا جل وعلا يقول: إن العناد شيء متأصل، وليست القضية -أيها النبي- أنك لم تحسن عرض الدين عليهم، والدليل -والله يعلم ما سيكون- قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام:7].
والحواس خمس: البصر، والذوق، والسمع، والشم، واللمس، وأقوى الحواس الخمس اللمس؛ لأن الإنسان قد يعتريه ما يضعف قوة شمه، أو يطعم الماء الزلال مراً، أو يُسحر سحر تخييل، أو يلتبس عليه سماع الكلمات لأجل اللغط، فأقوى حواسه ما يلمسه؛ إذ يقل أن يدخل شيء يؤثر على حاسة اللمس، بخلاف الحواس الأخر.
فهنا ذكر الله أقوى الحواس، فقال: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام:7].
ولم يقل جل وعلا فرأوه؛ إذ لو رأوه {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:15]، ولكن قال: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7].
فذكر الله جل وعلا اللمس هنا ليثبت جل وعلا أن هؤلاء القوم تأصل العناد والاستكبار فيهم، فيقول تعالى: لو أنك -يا نبينا- أتيت بكتاب من عندنا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال اللذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين.
على أنه ينبغي أن يعلم أن اللمس في القرآن له معنيان: المعنى الأول: اللمس بظاهر البشرة، وهو اللمس المعروف.
والثاني: البحث، كما قال الله تعالى عن مؤمني الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8]، والجن لم تمس السماء، وقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32].
فالجن لم تلمس السماء، ولكنهم بحثوا في السماء فوجدوا أن السماء {مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8].
والقرطاس اسم له نظائر، وهي الطرس والكاغد والورق، فالورق والطرس والكاغد بمعنى واحد، وهو ما يكتب عليه، فإذا كتب عليه سمي قرطاساً، فلا يسمى القرطاس قرطاساً إلا إذا كتب عليه.
وتسميته ورقاً وكاغداً وطرساً تسمية فصحى، فجاء الله جل وعلا هنا بأرفع الأربعة فقال: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام:7].
أي: مكتوباً في قرطاس.
والقاف في (قرطاس) مثلثة، فيجوز فيها الثلاث الحركات، فتقول: قُرطاس، وقَرطاس، وقِرطاس، وأفصحها بالكسر؛ لأن القرآن جاء بها.
فاللغة فيها فصيح وأفصح، وتعرف الفصاحة بأسلوب القرآن، فاختيار القرآن هو الأفصح.(23/8)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك)
ثم ذكر الله اقتراحاً ذكره أهل الكفر فقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} [الأنعام:8].
فمن الاقتراحات التي اقترحها مشركوا قريش أن ينزل الله جل وعلا ملكاً على نبينا صلى الله عليه وسلم.
ولهم اقتراح آخر، وهو أن يكون الرسول نفسه ملكاً.
و (لولا) تأتي للحض، فهم يظنون بجهلهم أن هذا أمر معجز، أي: يعجز الله عن أن يبعث ملكاً، ولذلك طلبوا هذه الآية على سبيل التعجيز.
والعاقل لا يقبل أن يقع في الفخ الذي نصبه له عدوه، كما أن العاقل لا يسلم نفسه إلى عدوه أيا كان ذلك العدو، فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل على حمزة وهو ثمل قبل أن تحرم الخمر يعاتبه على أن نحر ناقتي علي رضي الله عنه، فدخل علي وزيد مع النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة وهو في نفر من الأنصار سكارى.
فلما عاتب النبي صلى الله عليه وسلم حمزة قال حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟! ففهم عليه الصلاة السلام من العبارة أن حمزة ثمل، فرجع القهقراء حتى لا يغتر حمزة، فإذا رأى أظهرهم فقد يصيبه نوع من الإثارة فيؤذيهم، فخرج صلى الله عليه وسلم ووجهه إلى حمزة حتى خرج من الدار.
والمقصود أن الإنسان يحتاط لنفسه ولا يسلم نفسه لغيره من أعدائه، مع الفارق بين حمزة رضي الله عنه وغيره.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده في هذا الدرس المبارك حول سورة الأنعام، وفي الدرس القادم -إن شاء الله- سنعرج على كيفية رد الله جل وعلا في آياته المباركات على اقتراح القرشيين أن ينزل مع النبي صلى الله عليه وسلم ملك.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(23/9)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [10 - 11]
يذكر الله تعالى في سورة الأنعام بعض مقترحات الكافرين على نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن تلك المقترحات نزول ملك ليكون رسولاً أو عاضداً للرسول البشري، ولما كان منشأ هذا الاقتراح هو العناد والمكابرة، وهو الأمر الذي يحزن النبي صلى الله عليه وسلم سلّى الله تعالى نبيه وتوعد المكذبين ببيان عاقبة المستهزئين، أمراً لهم بالسير والنظر في ما بقي من آثار أولئك الظالمين.(24/1)
بيان أسباب ضلال المشركين عن اتباع الحق
الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد انتهى بنا المطاف في الدرس السابق إلى قول الله جل وعلا: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:8 - 9]، والآيات من سورة الأنعام.
وكنا قد قلنا في فواتح تفسيرها: إن هذه السورة المباركة أثبتت الأصول الثلاثة: الإلهية لله جل وعلا، والرسالة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والإخبار عن البعث والجزاء، وأنها تضمنت أسلوبين هما أسلوب التقرير وأسلوب التلقين.
وإن استصحاب السيرة مهم في دراسة القرآن، فالمجتمع القرشي في مكة كان قد طبع على العناد وطبع على الأنفة، إضافة إلى حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وثمة عوامل مجتمعة كلها تدور حول فلك واحد، وهو أن الله جل وعلا لم يكتب لهم الهداية، ولكن أسباب عدم كتابة الهداية لهم كان لها عوامل كثيرة، ومن ذلك اعتراضات كانوا يعترضون بها على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الاعتراضات أنهم اقترحوا أن يضم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ملك، أو قالوا: كان من المفترض أن الله إذا أراد أن يبعث رسولاً أن يبعث ملكاً يصدق ويقبل عند الناس، ولا يبعث رسولاً من الناس.
فما جعله الله رحمة طالبوا بنقضه؛ لأن الله جل وعلا من رحمته بعباده أن جعل الرسل منهم، ولهذا قال الله جل وعلا ممتناً على أهل الإيمان: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164].
فالنبي صلى الله عليه وسلم من أنفسنا، وهذا من رحمة الله جل وعلا بنا، ولكن أهل الإشراك بما طبعوا عليه من العناد اقترحوا أن يكون مع الرسول ملك، أو أن يكون الرسول ملكاً، فحكى الله تعالى قولهم فقال: {وَقَالُوا} [الأنعام:8] أي: أهل الإشراك {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ} [الأنعام:8]، أي: على محمد، {مَلَكٌ} [الأنعام:8]، أي: يعضده ويكون معه حتى نصدقه بزعمهم، قال الله جل وعلا: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} [الأنعام:8]، أي: ثم لا يمهلون.
وقول الله جل وعلا: {لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8]، معناه من حيث الحرفية: انتهى الأمر، ومنه قول الله جل وعلا عن يوسف: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41]، أي: انتهى الأمر.
ولكن ما معنى (قضي الأمر) إذا ارتبط بالملك؟ وما معنى (قضي الأمر) في الرسالة؟ إن لأهل العلم رحمهم الله في تحرير قوله تعالى: (لقضي الأمر) ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن يقال: إن سنة الله جل وعلا في خلقه أن الأمم إذا اقترحت آية ثم لم تؤمن بها جاءهم عذاب استئصال، وقد مضى قدر الله أن هذه الأمة باقية؛ لأنها آخر الأمم، فلو جاء هذا الملك كما اقترحوا ولم يؤمنوا به وقد سبق في علم الله أنهم لن يؤمنوا به فستكون العاقبة تبعاً للسنن التي لا تتبدل ولا تتغير أنهم سيستأصلون.
وهذا يتنافى مع ما قدره الله جل وعلا لهذه الأمة، وهو أن تبقى، قال الله جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وهذه الأمة هي آخر الأمم، فلا يعقل أن تستأصل؛ لأن هذا يعني فناء الناس.
وهذا وجه قاله العلماء في معنى قول الله جل وعلا: {لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8].
والوجه الآخر: أن يقال: إن هؤلاء الناس لا تقدر قواهم على رؤية الملائكة، فيصبح قوله: (لقضي الأمر) يعني: بمجرد أنهم يرون الملائكة سيفنون.
وهذا القول فيه شيء من الضعف، ولكن ثمة قرائن عند من قال به تؤيده، ومن قرائن ذلك قولهم: إن أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم -وهم الصفوة من الخلق الذين هم في كنف الله جل وعلا وحفظه ورحمته بهم- لما رأوا الملائكة على هيئتهم خافوا وفزعوا.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أصابته رعدة عندما رأى جبريل على صورته قد سد الأفق، وقال الله عن داود: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} [ص:21 - 22]، قالوا: لأنهم كانوا ملائكة، فقالوا: إذا كان بعض أنبياء الله لم يقدر على أن يلقى الملك إلا بما آتاه الله فكيف لو مشى الملك بين الناس؟! فتوجيه قول الله جل وعلا: {لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8]، عندهم: أن هؤلاء الناس لا تطيق قواهم رؤية الملائكة، وهذا عندي أضعف التوجيهات.
والتوجيه الثالث: التكليف مبني على الاختيار، فرؤية الملائكة آية ملجئة ينتفي معها الاختيار، وإذا انتفى الاختيار انتفى التكليف، وإذا انتفى الاختيار انتفى التكليف.
فالملائكة غير مكلفين؛ لأنهم ليس أمامهم إلا الطاعة، كما قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، والتكليف: أن تعرض على المكلف أمرين ويختار أحدهما بعد أن تخبره بعاقبة هذا وعاقبة هذا.
فالعلماء يقولون: إن رؤية الملائكة آية ملجئة، فالإنسان إذا رأى الملائكة وقالت له: نحن من عند الله فإنه سيؤمن، ولن يكون أمامه خيار آخر ألا يؤمن، فإذا انتفى الخيار انتفى أس التكليف، والأصل أن الجن والأنس مكلفون.(24/2)
تفسير قوله تعالى: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً)(24/3)
بيان معنى قوله تعالى (وللبسنا عليهم ما يلبسون)
ثم قال الله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9].
المعنى: أن الرب جل وعلا يقولون: إن حكمتي تقتضي أنني لو أرسلت ملكاً أجعله في هيئة رجل، فيعود هؤلاء الأشرار بدءوا؛ لأن الملك إذا جاءهم في صورة رجل يبقى اللبس والاختلاط عليهم كما هم عليه الآن لماذا؛ لأنهم أرادوا الوصول من غير طريق الحق، فهم الآن يرون نبيهم، ومع نبيهم آيات ظاهرة ومعجزات باهرة أعظمها القرآن فلم يقبلوها ولم يقتنعوا بها ولم يلتمسوا التدبر فيها، فحادوا عن الطريق الذي يصلون به إلى معرفة الله إلى شخص الرسول فطلبوا أن يكون ملكاً.
فلو أن الرب أجاب اقتراحهم وجعل الملك في هيئة رجل لعادوا من حيث بدءوا، فلا يدرون هل هو ملك أو هو رجل، فإذا أتاهم بالبينات وقعوا في نفس اللبس الذي وقعوا فيه مع محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أقوى توجيه للآية.
وذكر توجيهان آخران: الأول: أن رؤساء أهل الإشراك يلبسون على الضعفاء دين محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون معنى قول الله جل وعلا: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9]، أي: نعاملهم بالمثل، فنلبس عليهم الدين كما يلبسون الدين على من يتبعهم، وهذا ظاهر.
والثاني ذكره بعض العلماء أخذاً بظاهر اللفظ، فقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9] أي: هؤلاء الملائكة لو قدر أننا بعثناهم فإننا سنبعثهم في هيئة رجال، فسيلبسون ما يلبسه الرجال عادة.(24/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك)
ثم قال الله جل وعلا: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:10 - 11].
هذا من تسلية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن تثبيت قلبه ومن تعليمه سنة الله في الرسل من قبله، فليست -أيها النبي- أول من استهزئ به، والإنسان إذا عرف مصيبة غيره هانت عليه مصيبته، تقول الخنساء في رثاء أخيها صخر: يذكرني طلوع الشمس صخرا وأذكره لكل مغيب شمس ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي ولهذا جاء في الزخرف أن الله جل وعلا يعاقب أهل الكفر في النار بمنعهم من التأسي بمصائب بعضهم، فقال تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39].
فالمقصود من قول الله جل وعلا: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام:10] تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت جنانه، وهذا من أغراض القرآن ومقاصده الكبرى، وهو إخباره صلى الله عليه وسلم بسنة الله جل وعلا في الأمم قبله.
ومن يتتبع مناهج المفسرين يجد أن لهم طرائق في تفسير القرآن، فمن كان منهجه تفسير القرآن بالقرآن يجد في قول الله جل وعلا: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام:10]، طريقاً رحباً؛ لأنه سيعرج على الآيات والسور التي ذكر الله جل وعلا فيها استهزاء الأقوام برسولهم، وهذه طريقة الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان، ولذلك تجده في آيات لا يبحر، وتجده يترك آيات ويعرض عن تفسيرها؛ لأن كتابه أسماه: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن.
ومن الطرائق العلمية في التأليف أن الإنسان إذا وضع قاعدة يسير عليها لا يستطيع أحد أن يلومه.
ولذا فإنك إذا أردت أن تقرأ كتاباً فلا تبدأ بشيء قبل مقدمته، فمن مقدمة الكتاب يتضح لك قدرة المؤلف أو طريقته، وسيكون بينك وبين القراءة فصل خطاب، فإما أن تستمر وإما أن تترك؛ لأنك تعرف من المقدمة الذي أراد صاحب الكتاب أن يبلغك إياه.
فـ السيوطي رحمه الله تعالى من أئمة العربية الكبار، ومن أئمة العلم الشرعي، فألف كتباً عديدة لا حصر لها من باب المبالغة في نفع الناس، وألف كتاباً أسماه: (همع الهوامع)، وفي هذا الكتاب يعتمد السيوطي على ثقافة من يقرأ الكتاب، فإذا جاء ببعض الأبيات فقد يأتي بها مجزوءة، أو يأتي بأول المثل ويكتفي به، وهو لا يجهله، ولكنه اعتمد على كونه ألف هذا الكتاب لكبار الطلبة، وكبار الطلبة مظنة حفظ هذا.
ولما ضعف العلم بعده أخذ من يطلبون العلم يقرءون همع الهوامع فيجدون فيه إشكالاً من طريقين: أولهما أنه قل في الناس من يحفظ ما كان السيوطي يحفظه، وثانيهما أن بعضهم كان يقرؤه وهو لا يعرف منهج السيوطي في التأليف، حتى جاء علامة شنقيطي رحمه الله تعالى اسمه الشيخ محمد الشنقيطي توفي قبل اثنتين وتسعين سنة، فألف كتاباً أسماه: (الضوء اللامع على همع الهوامع) فما جزأه السيوطي رحمه الله تعالى ولم يفصل فيه فصله الشنقيطي رحمه الله في كتابه هذا، وأبان في المقدمة أن السيوطي رحمه الله ألف كتابه لكبار الطلبة.
وبعد ذلك الاستطراد أعود فأقول: إن الله جل وعلا أراد أن يعلم نبيه سنته جل وعلا في خلقه وأنبيائه الذين سبقوا، فقال تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:10].(24/5)
تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض)
ثم قال الله جل وعلا: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11].
والسير في الأرض إما بالأبدان، وإما بالقلوب والأبدان.
فإذا سار الإنسان في الأرض ببدنه لا بقلبه فقد تقر عينه بما ترى، ولكنه لا ينتفع، وأما إذا سار ببدنه وقلبه انتفع فذوو الأبصار والألباب المحمودون والممدوحون شرعاً يسيرون في الأرض بقلوبهم وأبدانهم، وهذا السير هو المقصود في الخطاب الشرعي هنا، حيث قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:11]، أي: بقلوبكم وأبدانكم {ثُمَّ انظُرُوا} [الأنعام:11] بأبصاركم {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11].
فإذا نظرتم بأبصاركم وقلوبكم اعتبرتم بما رأيتم، والله تعالى قد قال: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر:76]، فذكر قوم لوط وأنهم أهلكوا، وقوم صالح وأنهم أهلكوا، ثم بين أن آثارهم ما زالت بطريق مقيم، أي: ما زالت باقية، مع أنه تعالى أذهب آثار بعض الأمم بالكلية ليظهر من ذلك عظيم قدرته، فكم من أمم ذكرها الله في القرآن لا نعلم أين كانت ولا نرى لها أثراً، وكم من أمة في القرآن ذكرها الله جل وعلا ما زالت آثارها باقية، ولهذا قال الله: {مِنْهَا قَائِمٌ} [هود:100]، يعني: منها ما زال قائماً، كآثار ثمود والبحر الميت الذي كان موضع قرى قوم لوط {وَحَصِيدٌ} [هود:100] أي: لم يدل عليه أثر.
والمقصود من الآيتين: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:10 - 11]، تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العظة والاعتبار وتسليته، وهذه مقاصد شرعية تناولها القرآن واعتنى بها، ومن ذلك تعليم هؤلاء المخاطبين الأولين بالقرآن وهم كفار قريش بنحو قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11].(24/6)
بيان ما يجب على المرء فعله
والعاقل من اتعظ بغيره ممن غلب عليهم الكبر وطغى عليهم العناد وبقي فيهم الشك والريب لأمور تختلف عواملها من شخص إلى آخر يجمعها كلها ما كتبه الله في الأزل وما خطه الله في القدر وما أراده الله من قبل {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام:34]؛ لأن الله جل وعلا كتبهم من أهل الشقاوة، ومصيرهم إلى النار، ومن هنا يعلم العبد أن الهداية بيد الله كما أن الضلالة بيده.
فيجب على الإنسان أن يكون في قلبه سريرة حسنة يجدد فيها رغبته فيما عند الله تبارك وتعالى، ولا يغره علمه ولا ثناء الناس عليه، ولا أنه يستطيع أن يصل إلى مقصوده أو أن يمنع من يريد أن يؤذيه، فالمرء في باب الهداية على وجه الخصوص يبقى معلقاً قلبه بالله يتقلب ليل نهار يخشى أن يصرفه عن صراط الله المستقيم، وأحداث الزمان المعاصر والتاريخ الذي شهدناه كان برهاناً على كثير ممن مضوا في هذا الطريق ثم رجعوا، وأقوام بدءوا بداية الله أعلم بها ثم ختم لهم بخير، وقد قال ابن تيمية رحمه الله: ليست العبرة بعثرة البدايات، إنما العبرة بكمال النهايات، وحفظ عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، هذا ما تحرر إيراده وأعان الله على قوله حول الآيات الأربع من سورة الأنعام.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(24/7)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [12 - 13]
يبين الله تعالى في كتابه بأسلوب السؤال والجواب ملكه لجميع ما في السماوات والأرض، ملكاً مطلقاً، كما يبين تعالى عظيم منته على عباده بكتابته الرحمة على نفسه ولا ملزم له تعالى، ومن تمام ملكه لعباده أنه يجمعهم ليوم القيامة ليجازي المحسن بإحسانه والمسيء على إساءته، كما أن من تمام ملكه تعالى أن له ما سكن في الليل والنهار وما تحرك فيهما، وهو الموصوف بالصفات العلا، وله الأسماء الحسنى.(25/1)
تفسير قوله تعالى: (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد انتهينا في الدرس الماضي إلى قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11]، وقلنا: إن السير يكون سير اعتبار إذا كان بالأبدان والقلوب، ثم قال الله جل وعلا: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:12 - 13].
قلنا في درس سبق: إن السورة تتبع أسلوب التلقين والتقرير، ومن أساليب التقرير السؤال والجواب، فالله يقول لنبيه: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:12]، أي: سل هؤلاء، والجواب تكفل الله به؛ لأنهم سيجيبون به حتماً، ولكنهم سيمتنعون عن الإجابة حتى لا يقعوا في لوازمها، فقال الله جل وعلا: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:12]، واللام هنا لام الملك المطلق، قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12]، فاللام هذه -وإن كانت جارة في الصناعة النحوية- هي لام الملك.(25/2)
بيان معنى قوله تعالى (كتب على نفسه الرحمة)
ثم قال الله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12].
وهذا من رحمة الله بعباده: فاللفظ نفسه مشعر برحمة الله جل وعلا بعباده، فعندما يأتي سؤال قرآني إلهي: {لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:12]، ويأتي الجواب الإلهي: {قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام:12] يصيب ذلك القلوب التي تعرف الله بالخوف، فلكي تسكن تلك القلوب وتطمئن يبين الله جل وعلا أن رحمته واسعة، فقد أخبر الله جل وعلا بلازم فضل ألزم به نفسه؛ لأن الله لا ملزم له، فقال: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12].
وهذه الآية جاءت مصدقة بالأحاديث، فقد قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -: (إن الله كتب كتاباً عنده فوق العرش أن رحمتي تسبق غضبي)، أو (أن رحمتي غلبت غضبي)، ومنهج كثير من العلماء المفسرين عند هذه الآية إيراد الآثار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن الله جل وعلا غلبت رحمته غضبه، فيوردون حديث المرأة التي رأت رضيعاً في السبي فضمته إلى صدرها، فقال صلى الله عليه وسلم لمن حوله من الصحابة: (أتظنون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟! فقالوا: لا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها)، وغيره من الآثار.
والمهم بالنسبة لنا نحن -المخاطبين بالقرآن- أن نفهم ونفقه معنى قوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12]، حيث يدفعك قول الله جل وعلا: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12] أول ما يدفعك إلى حسن الظن بالله جل وعلا، ومن حسن الظن بالله: أن تحسن الظن بالناس، فإن الإنسان أحياناً إذا رأى بعض الناس على معصية أساء الظن بهم، والدافع إلى سوء الظن هنا أنه يغلب على ظنه أن الله جل وعلا لن يرحمه، ويأخذ ويتصور ويتخيل هذا العاصي وهو يعذب؛ لأنه غلب على ظنه أن الله لن يرحمه، فيصبح يرى هذا العاصي كالعدو له، وتأتي منه ألفاظ وأفعال وأقوال يشعر منها الإنسان الآخر بالغلظة والجفاء، وهي ناجمة عن حالة نفسية تصورها؛ لأن هذا الرجل في الأصل لا يحسن الظن بربه.
فلما رأى من تلبس بالمعصية لم يغلب عليه أنه قد يرحم، وإنما قطع جوانب الرحمة كلها، ولم يبق في ذهنه إلا أن هذا الرجل سيعذب لا محالة، فلما علم في نفسه أن هذا الرجل معذب لا محالة عاداه، وهكذا أحوال يتبع بعضها بعضاً، كالفتاوى المرتبة، حتى يصل إلى ألفاظ وأقوال وأفعال ناجمة في أصلها -لو بحثت فيها- عن سوء الظن بالله جل وعلا، والله يقول: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12].
ولهذا أثر ونقل عن كثير من السلف عبارات تدل على عظيم حسن ظنهم بالله، فقد قيل لـ أبي حازم وقد أراد أن يتبع جنازة رجل مدمن خمر: أتتبع جنازة هذا؟! فقال: والله إني أستحي من الله أن أظن أن رحمته عجزت عن ذنب عبد مؤمن.
فالله جل وعلا يقول عن نفسه: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12]، وهذا أشبه بالتوطئة لما بعده، فما الذي بعده هو الوعيد، حيث يقول تعالى {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام:12].
وإذا كان الله قد كتب على نفسه الرحمة؛ فحري بالعبد أن يرحم نفسه وأن يرحم من حوله.(25/3)
أثر الرحمة بالناس على قلوبهم تجاه راحمهم
والإنسان يكون قريباً من الناس إذا شعر الناس بأنه موئل رحمة، فإذا شعر الناس بأنه موئل رحمة تعلقت قلوبهم به، وإذا شعر الناس بأن زيداً أو عمراً من الناس ليس فيه رحمة تمنوا خلاصه والانفكاك منه، ومما يستظرف في هذا أن الإنسان أحياناً من جهله قد لا يرحم نفسه، فقد ذكر الجاحظ الأديب المعتزلي المعروف في كتاب البخلاء عن رجل اسمه: الثوري -وهو غير سفيان الثوري المعروف- أنه كان فيه بخل شديد، فأصابته حمى هو وأهل بيته وغلمانه، فنجم عن هذه الحمى أن أهل بيته أصبحوا لا يستطيعون الأكل، فما كان مهيئاً مقدراً لأن يأكلوه في أيام لم يأكلوه، فزاد عنده شيء من الدقيق، فوجد أن الحمى قد نجم عنها غنيمة؛ لأن الدقيق قد زاد، فمن عدم رحمته بنفسه أصبح يقول: يا ليت منزلي بسوق الأهواز أو بنطاة خيبر أو في ديار الجحفة! والأهواز: منطقة في إيران حالياً مشهورة بأنها موبوءة كثيرة الحمى، وخيبر بلد حمى، ونطاة خيبر موضع في خيبر أشد خيبر حمى ووباء، والجحفة قد ثبت فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بأن تنتقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، فهي أرض موبوءة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهي خربة موجودة إلى اليوم، وهي ميقات، ولهذا يحرم الناس من رابغ؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يبقى في الجحفة، وإن كان فيها سكان قليلون.
فالمقصود أن هذا الرجل لما وجد النفع من الدقيق الذي زاد تمنى أن يكون مسكنه في إحدى هذه الديار الثلاث؛ لأنها ديار حمى، لتكون الحمى فيه وفي أهله طيلة، لينجم عن ذلك زيادة في الطعام.
وهذه القصة ذكرها الجاحظ في باب في كتاب دونه أسماه: (البخلاء) دون فيه أحوال أهل عصره، وقد كان من سير الأدباء آن ذاك أنهم يدونون أحوال عصرهم، فدون الجاحظ حال البخلاء ودون حال المعلمين ولكل طريقته في الأدب، وكان الأدب يوم ذاك في حالة تأسيس، وحين يكون الأدب في حالة تأسيس فإنك لا تستطيع أن تضبطه؛ لأنه بعد ذلك يأخذ طرائق ومناهج قددا.
والذي يعنينا هنا أن هذا الرجل أتي من أجل رحمته بنفسه، ولكن الإنسان إذا رحم نفسه فأول ما يخط لها توحيد الله؛ لأن توحيد الله جل وعلا أعظم المنجيات، بل لا منجي غيره، فيكون من رحمة الإنسان بنفسه توحيد الله، ثم بعد ذلك ينتقل الإنسان إلى نفع الغير فيكون رحمة، ولهذا لما أراد الله أن ينعت نبيه قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
فمن كان ولياً في بيته -رجلاً كان أو امرأة- أو كان معلماً، أو مسئولاً في إدارة، أو أميراً في مدينته، إن لم ير الناس منه جانب الرحمة تمنوا زواله، ومن كان رحيماً فنه سيموت قطعاً، ولكن الرحيم في الناس إذا مات بكى الناس عليه دماً قبل أن يبكوا عليه دمعاً وذكر بخير.(25/4)
بيان معنى قوله تعالى (ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه)
ثم قال تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام:12]، والذي أقسم هنا هو رب العالمين، وهو -جل وعلا- أصدق القائلين.
ويتحرر من هذا أن أصدق القائلين أقسم على أن هناك جمعاً، فمن أعظم اليقينيات الكبرى في حياتنا أن هناك بعثاً ونشوراً، فإن قيل لنا: لماذا؟ قلنا: لأن أصدق القائلين جل جلاله أقسم على أن هناك جمعاً وبعثاً ونشوراً فقال تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام:12]، وهذه اللام هي لام القسم.
وهناك لامات أخر، منها لام الجحود، ولام الجحود كائنة في القرآن كثيراً، تأتي في خبر كان المنفية، كقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى} [هود:117]، فـ (كان) سبقت بـ (ما) النافية، فأصبحت (كان) هنا منفية، و (رب) اسمها، والكاف مضاف إليه، و (يهلك) خبرها جملة فعلية، فسبق الفعل باللام، وهذه اللام اصطلح أهل النحو على تسميتها بلام الجحود.
وهناك لام أخرى اسمها: اللام المزحلقة، أي: استقر في الذهن أنها تحركت من من مكان إلى مكان، فيقولون: إن (إن) التوكيدية التي تنصب اسمها وترفع الخبر إذا جاءت اللام في خبرها فإن الأصل أن هذه اللام كانت موجودة في الاسم، فانتقلت من الاسم إلى الخبر، ولذلك أسموها اللام المزحلقة، وأحياناً لا تعمل (إن)، بل تخفف، فإذا خففت دخلنا في إشكال، وهو أنه يوجد (إن) نافية تعمل عمل (ليس)، فإذا خففت (إن) اشتبهت مع (إن) النافية، فوجب التفريق بينهما، فيأتون باللام في خبر (إن) المهملة، ويسمونها اللام الفارقة، قال الله -وهو أصدق القائلين- في القرآن: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [المؤمنون:30]، فـ (إن) هنا ليست نافية، وإنما هي مخففة من (إن)، ولذلك جاءت اللام في خبرها، وأصلها هي اللام المزحلقة، ولكن لما خففت (إن) أصبحت اللام تسمى اللام الفارقة.(25/5)
بيان معنى قوله تعالى (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون)
قال الله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام:12]، ثم قال: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:12]، ومن جميل ما حرره السعدي هنا في المناسبة بين قول الله جل وعلا: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الأنعام:12]، وبين قوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:12] أنه قال: إن هذا اليوم الذي أقسم الله بوقوعه يؤمن به أهل الطاعة وأهل الإيمان، ويجحده أهل الكفر، ولهذا قال الله بعدها: الذين لا يؤمنون بي هم {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [الأنعام:12]، أما عبارة: {خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [الأنعام:12]، فتحرير خسارة النفس من حيث الإجمال في الدنيا فساد الفطرة، ففساد الفطرة هو أعظم خسران للنفس، وبحسب فساد الفطرة وبلوغ المرء فيه يكون خسران النفس.(25/6)
تفسير قوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار)
قال الله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:13]، واللام: لام الملك.
والمقصود منها: أن جميع العالم علويه وسفليه في قدرة الله تبارك وتعالى وتحت مشيئته ونفعه.(25/7)
بيان وجه إفراد الساكن بالذكر دون المتحرك
وهنا إشكال، وهو أن المخلوقات قسمان: ساكن ومتحرك، والله نص هنا على أحدهما فقال: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:13].
وتوجيه هذا الإشكال عند العلماء ينقسم -كما حكاه ابن العربي - إلى ثلاثة أوجه: فقال بعضهم: لما كانت المخلوقات الساكنة أكثر من المتحركة اكتفى الله جل وعلا بذكر الساكن، فيندرج هذا التوجيه تحت ما يسمى بباب التغليب.
فالذين ذهبوا إلى هذا التوجيه أصحاب صناعة تعتمد على التغليب، ولهم قرائن، ومنها أن التغليب موجود في اللغة.
وقال بعضهم: إن الله جل وعلا نص على الساكن لأنه ليس كل ساكن يتحرك، ولكن كل متحرك يسكن، فنص الله على الساكن لأنه سيندرج فيه المتحرك لزاماً، ولهذا جاءت الظرفية في قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام:13]، فما كتب الله له أن يتحرك نهاراً سيسكن ليلاً، وما كتب الله له أن يتحرك ليلاً سيسكن نهاراً، فقالوا: إن هذه الظرفية حلت الإشكال؛ لأن كل ساكن لا يلزم منه أن يتحرك، ولكن كل متحرك سيسكن، فإن لم يسكن ليلاً فسيسكن نهاراً، وهذا التوجيه يحتاج إلى إثبات؛ فنحن لا نعلم أن جميع المخلوقات لا بد من أن تسكن.
وقال بعضهم: إن هذا يسمى وفق الصناعة البلاغية اكتفاء، والاكتفاء: أن تقول شيئاً تكتفي به، فلازمه محرر أصلاً لا حاجة إلى التلفظ به، فقالوا: إن الله جل وعلا اكتفى بذكر (ما سكن) اكتفاء بأن كلمة (ومتحرك) ستأتي لا محالة، ومن نظائر هذا في القرآن أن الله قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81]، ولم يذكر الله البرد، والناس يحتاجون إلى التوقي من البرد أكثر من الحر، فقالوا: هذا من الاكتفاء.
فالله ذكر أحد الأمرين واكتفى به ودخول الآخر فيه لازم لا بد منه.
وليس المقصود من الآية هذا الذي أطلقناه من باب اللغة والبلاغة، وإنما المقصود من الآية إثبات أن العالم كله تحت مشيئة الله جل وعلا، لا يقع فيه إلا ما أراد الله.(25/8)
بيان معنى قوله تعالى (وهو السميع العليم)
ثم قال الله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:13]، السميع لأقوالهم، العليم بما تكنه ضمائرهم وسرائرهم.
وهذا أمر نزدلف به إلى قضية الموعظة العامة، وهي أن الإنسان إذا علم أن كل ما سكن في الليل والنهار لله تبارك وتعالى وحده أذعن لله وأسلم لله جل وعلا قلبه.(25/9)
أثر الاستشفاء بقوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار)
وهناك علم يسمى العلم التجريبي، يقوم على التجربة، والآيات في القرآن حينما نتعبد الله بها نتعبده تعبداً محضاً لا يدخله التجريب، فنحن محكومون بالشرع ومحكومون بالأثر.
ولكن نقول: إن الله تعالى قال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82]، وقد دلت تجارب الناس وأهل الصلاح منهم على وجه الخصوص على أن هذه الآية: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:13]، لها أثر حميد إذا تليت على الشيء الذي يؤذي، كألم الضرس أو أشباهه من آلام الأعصاب التي تتحرك ولا تجعل المرء يرتاح في مقامه، فإذا تلي عليها قول الله جل وعلا: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:13]، يكون في ذلك أثر حميد.
قلت: هذا يندرج تحت ما يسمى بالطب، والطب علم تجريبي، فلا يتنافى هذا مع قداسة القرآن، خاصة مع قول الله جل وعلا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82].
هذا ما تيسر إيراده وتحرر إعداده وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(25/10)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [18 - 21]
لقد أخبر الله تعالى في كتابه الكريم أن مرد الأمور جميعها إليه، فكشف الضر، وإيصال الخير إلى العباد إنما هو بيده، كما أخبر تعالى بأنه علي على عباده ذاتاً ومكاناً وقهراً وغلبة، وأمر تعالى رسوله وأتباع رسوله شهادة أنه لا إله إلا هو، والبراءة من شرك المشركين، وبين تعالى عظيم الظلم، وهو افتراء الكذب على الله والتكذيب بآياته، وفاعل ذلك خاسر سالك غير سبيل الفلاح.(26/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو)
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو الدرس السابع حول سورة الأنعام، وكنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام:16] وحررنا أن الفوز يكون بنيل الثواب والنجاة من العقاب.
ثم قال الله جل وعلا بعدها: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18].
والضر يلحق الإنسان من ثلاثة أوجه: ضر في النفس، وضر في البدن، وضر في الحال.
فالضر في النفس: كالجهل والحمق وما أشبه ذلك.
والضر في البدن: كنقص بعض الأعضاء أو مرضها.
والضر في الحال: كقلة الجاه والمال، فهذه الثلاثة يمكن أن يجمع بها أنواع الضر، وقد يكون هناك ضر لا تحويه هذه القاعدة.
فالله يقول لنبيه في أسلوب شرط: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام:17] فالله جل وعلا هو الولي، فلما كان جل وعلا هو الولي لم ينبغ لأحد أن يلجأ في كشف ضره إلى غير الله؛ لأنه لا يكشف الضر إلا الله، قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ} [الأنعام:17].
والنبي عليه الصلاة والسلام هو أعظم المصدقين بكلام ربه، فعندما تنزل عليه آية كهذه لن يخشى بعد ذلك ضر أحد من أهل الإشراك.
قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17].(26/2)
ذكر مناسبة ختم الآية ببيان قدرة الله تعالى
قال العلماء في بيان مناسبة ختم الله الآية بقوله: {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]: ذلك ليستقر في قلب المؤمن أن الله إذا أراد به خيراً وفضلا لا يقدر أحد على منعه منه، وقد قال تعالى في سورة يونس: {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107] والمعنى واحد.
والمقصود من هذا كله أن سياق سورة الأنعام يتحدث عن القدرة الإلهية، ولذلك جاء التذييل فيها بذكر ما لله من صفات الجلال والجبروت والكمال، بخلاف غيرها من السور، فقال الله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17] والمراد والمقصود الأعظم من الآية تربية النفوس على ألا تتعلق بأحد غير الله جل وعلا، وأن الإنسان يرفع إلى الله حاجته ويبث إلى الله شكواه، ويرفع إلى الله نجواه، وهو يعلم أنه لا يقدر على نفعه ولا ضره إلا رب العزة جل جلاله، كما قال صلى الله عليه وسلم لابن عمه ابن عباس: (يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) ثم قال له: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).(26/3)
تفسير قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده)
ثم قال الله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18].
وبعض المفسرين يتجنب أن يقول: إن الفوقية مكانية، والحق الذي لا محيد عنه أن الآية يعنى بها تعظيم الله من وجوه ثلاثة، فالله جل وعلا علي في ذاته، علي في مكانه، علي في قهره لعباده؛ لأنه جل وعلا فوق عرشه مستو على عرشه بائن عن خلقه، والعرش فوق السموات، ولا مجال للتردد في نفي الفوقية المكانية عن الله جل وعلا.
وقد استدل على ذلك بعض علماء الإسلام إضافة إلى النصوص الظاهرة بما هو في الفطرة؛ فإن الإنسان بفطرته -كما حرره الهمداني رحمه الله تعالى في محاورته لـ أبي المعالي الجويني - إذا أراد أن يبث شكواه إلى ربه يرفع بصره إلى السماء، وهذا أمر لا ينبغي أن يكثر النزاع فيه.(26/4)
بيان معنى قوله تعالى (وهو الحكيم الخبير)
قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18]، فهو جل وعلا حكيم يضع الأمور في مواضعها الصحيحة، خبير بأحوال عباده مطلع عليها، وهذان اسمان من أسماء الله الحسنى، والله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلى.(26/5)
تفسير قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة)
وقد مر معنا أن السورة واردة في إثبات التوحيد والبعث والجزاء ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وقلنا: إنها تضمنت أسلوبين: التقرير، والتلقين، فهنا يقول تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} [الأنعام:19] فالله يأمر نبيه أن يسألهم، ثم قال: {قُلِ اللَّهُ} [الأنعام:19]، وقد علم الله أنهم سيقولون هذا، فالله جل وعلا أعظم الشهداء، وانظر إلى الانتقال والعرض في الحوار {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19] فأنتم تكذبونني وتقولون: إن هذا القرآن أساطير الأولين ومختلق من عندك، وإنك لست برسول، وإن هناك آلهة مع الله، وأنا أقول إنني رسول، وإن الله أمرني بأن أبلغكم بهذا القرآن، وأمرني بأن أقول لكم: إنما الله إله واحد.(26/6)
طرق شهادة الله تعالى لنبيه بالرسالة
وشهادة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه رسول لها ثلاث طرائق: الطريقة الأولى: الإخبار في كتابه الكريم بأن محمداً رسول الله، قال الله تعالى في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] وقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45] فهذا كلام الله جل وعلا شهد الله فيه لنبيه بأنه رسول، وقد مر معنا أن النص على أن محمداً رسول الله نزل بعد صلح الحديبية؛ فإن قريشاً لما صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة سهيل بن عمرو قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي: (اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو) فقال سهيل معترضاً وكان يوم ذاك مشركا وأسلم بعد ذلك: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بأن يمحوها فأبى علي أن يمحوها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إنك ستدعى لمثلها فتفعل).
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بأن يخبره بموضعها، فالأمة كلها تتعلم منه عليه الصلاة والسلام وهو لا يعلم أين موضع كلمة (رسول الله)، فالأمية في حقه رفعه ومنقبة وفي حق غيره مذمة، وصدق القائل: يا أيها الأمي حسبك رتبة في العلم أن دانت بك العلماء والقائل: أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم فمحاها صلى الله عليه وسلم وكتب اسمه واسم أبيه، وتمت بعد ذلك كتابة شرائط الصلح، وانتهى الصلح، وحل النبي صلى الله عليه وسلم من إحرامه وعاد قافلاً إلى المدينة، فأنزل الله عليه {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29]، فإن لم يشهد الكفار فالله يقول: أنا أشهد، والله خير الشاهدين {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29]، فهذا إحدى الطرائق في شهادة الله لنبيه بالرسالة.
الطريقة الثانية: تأييده بالمعجزات الظاهرة، والله جل وعلا أجل وأعلم وأحكم من أن يأتي رجل يكذب على الله ويتقول على الله ويقول أنا رسول وهو ليس برسوله، ويقول أنا نبيه وهو ليس بنبيه، ويقول: هذا كلامه وهو ليس بكلامه، ويدعوهم إلى شيء فيقول: إن الله دعاهم إليه وهو غير صحيح، ثم بعد ذلك يؤيده الله بمعجزات ظاهرة وبراهين قاهرة، وينشأ نشأة حميدة، ويمن عليه بعطايا، فهذا محال يتنافى مع الحكمة، فتأييد الله له بالمعجزات الظاهرة والبراهين وإكرامه من دلائل أنه رسول الله، وهو الطريق الثاني في الشهادة من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قال: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46].
الطريقة الثالثة: ما أخبر الله به في كتبه التي سبقت القرآن، وما جاء على ألسنة رسله الذين سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ذكر في الكتب، وبذلك تمت طرائق ثلاث في شهادة الله لمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام بأنه رسول من عند الله.
فلهذا قال صلى الله عليه وسلم كما قال الله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ} [الأنعام:19]، فذكر القرآن على أنه أعظم معجزاته.(26/7)
بيان معنى قوله تعالى (لأنذركم به ومن بلغ)
وهذه الأمة منذرة بالقرآن، حيث قال تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، ولهذا نقل عن بعض السلف أنه قال: كل من بلغه القرآن فكأنما لقي الرسول.
ولا يقصد بذلك أنه أصبح صحابياً، ولكن يقصد أن الحجة أقيمت عليه، ولهذا قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان: ومن لم يبلغه القرآن ولا دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولو كان من أهل زماننا، فحكمه حكم أهل الفترة؛ لأن الأمر مبني على قضية وصول البلاغ من عدمه، ونحن نعلم أنه في مجاهيل أفريقا وبعض الدول وأمريكا الجنوبية وغيرها قد يوجد أمم لم يصلهم شيء عن الإسلام، فيحكم عليهم بأنهم من أهل الفترة؛ لأن الله قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وهذه مسائل لا ينبغي أن يجادل فيها، ولكن يجب أن تكون على يقين بأن الله لن يظلم أحداً، وأن الله جل وعلا أرحم بخلقه منا، فكل العباد إلى ولا تجعل بمثل هذه المسائل مادة مجلسك تخوض فيها ليل نهار، فيقسو قلبك ويكثر بحثك عن مواضيع لا تقدم ولا تؤخر ولن يسألك الله طرفة عين عنها.(26/8)
بيان ما شهد به رسول الله وأتباعه وما شهد به المشركون
نعود فنقول: قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ} [الأنعام:19] أي: أيها القرشيون {لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} [الأنعام:19] فهؤلاء المشركون يقولون إن مع الله آلهة، ومعلوم أن هذه الآلهة موجودة في الواقع، ولكنها باطلة، قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم:23].
قال الله جل وعلا: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} [الأنعام:19] فوصل الأمر الآن إلى فصل الخطاب بشهادة رسول الله بأن الله لا إله غيره، وشهادة هؤلاء المشركين أن مع الله آلهة، فأمر الله نبيه أن يقول: قل لا أشهد شهادتكم {قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ} [الأنعام:19] فشهد النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لا رب غيره ولا إله سواه، وفي نفس الوقت تبرأ من صنيعهم {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:19] وهذا كله خطاب لي ولك ولو لم نخاطب به لفظاً، وهو أننا رأينا شهادة الله ورأينا شهادة أهل الإشراك، ورأينا ما ارتضاه الله لرسوله، فلم يبق لنا إلا أن نتبع رسولنا ونشهد بشهادة ربنا، فنقول: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، حتى تفقه كيف وصل الدين إليك، وما هو فصل الخطاب بينك وبين أهل الكفر، ولهذا كانت كلمة (لا إله إلا الله) كلمة عظيمة كريمة على الله.
ومن جميل المقدمات التي يقولها بعض المؤلفين أو بعض الخطباء: وأشهد أن لا إله إلا الله، كلمة قامت عليها السماوات والأرض، ولأجلها كان الحساب والعرض، هي عماد الإسلام ومفتاح دار السلام، وهي أساس الفرض والسنة، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة.
حتى يعلم كل واحد عظيم هذه الكلمة عند رب العالمين جل جلاله.(26/9)
تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه)
ثم قال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام:20] وهم اليهود والنصارى {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [الأنعام:20] التشبيه في قوله تعالى: (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) لبيان أن لديهم علماً جماً عن هذا المضمر، والخلاف عند العلماء كائن في عود الضمير، فقال بعضهم: هو عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن اليهود والنصارى يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا حق.
وقال بعضهم: إن الضمير عائد على القرآن، فهم يعرفون أن القرآن من عند الله، وقال فريق من العلماء: إنه عائد على الشهادة، أي: على التوحيد.
والآية تحتمل المعاني الثلاثة كلها، والترجيح هنا يصعب، ولكن ينبغي أن يعلم أن إثبات أي واحد منها إثبات إثبات للآخرين، فإذا قلنا: إنه عائد على الرسول فهو إثبات لكون الرسول من عند الله، وأنه جاء بالتوحيد، وإذا قلنا: إنه عائد على التوحيد فالتوحيد هو مفهوم أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإذا قلنا: إنه عائد على ربنا جل وعلا، فالله جل وعلا أخبر بأنه بعث رسوله بالتوحيد.(26/10)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً)
ثم قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21].
(من) هنا للاستفهام، أي: لا أحد أظلم، فهو استفهام إنكاري.
وقد جمع أهل الإشراك خصيصتين ملومتين: الأولى: تكذيبهم للرسول.
والثانية: كذبهم على الله بزعمهم أن لله ولداً، وأن لله شريكاً، وأن الله جل وعلا ما أنزل القرآن، وما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم.
فهذا كذب على الله، وفي نفس الوقت كذبوا من بعثه الله ليبلغ دينه عليه الصلاة والسلام، فقال الله: {وَمَنْ أَظْلَمُ} [الأنعام:21] أي: لا أحد أشد ظلماً {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21] وهذا من أعظم الذنب، ولذا ينبغي أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أمته إلى الصدق.(26/11)
أهمية صدق الإنسان مع نفسه وغيره
وأعظم ما تنال به المراتب العالية: أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه، فإذا وصل الإنسان إلى مرحلة استعجال الثمرة الدنيوية واضطر إلى أن يكذب على نفسه فعما قريب سيقع في وبال عمله، وسينقطع به السبب؛ لأنه سبب لا يمكن أن يوصل، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الكذب يهدي إلى الفجور، وأن الصدق يهدي إلى البر، فالصادقون مع أنفسهم -جعلني الله وإياكم منهم- خطاهم في الأرض ثابتة، وأثرهم في الناس واضح، ولا يلتفتون يمنة ولا يسرة.
لقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة، فقال أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه: وإن زنى وإن سرق؟! قال صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق، قال: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟! قال عليه الصلاة والسلام: وإن زنى وإن سرق، فقال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟! فقال صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر).
فـ أبو ذر لصدقه وجلالة قدره ورفيع مكانته وثقته بنفسه يحدث بهذا الحديث، فكان إذا أتى إلى الثالثة قال: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق رغم أنف أبي ذر) رغم أن جملة (أنف أبي ذر) زائدة في الخطاب ليس لها علاقة بالحكم الشرعي، فهو يقول: (وإن زنى وإن سرق رغم أبي ذر) لأنه ينقلها بصدق، وينقل للناس شيئاً ينفعهم، وأكثر ما نعانيه اليوم أننا نفتقد الصدق مع أنفسنا، فإذا افتقد الإنسان الصدق مع نفسه ولا يمكن أن يبني أحداً أو يبني أمة أو أن يسهم إسهاماً حقيقياً، فإن أسهم فإن إسهامه سيكون إلى أمد قريب ثم يقع، وقد لا يصل إلى شيء مما يريد، ولو ظهر ذلك شكلياً لنفسه أو لغيره، وليعلم أن ما عند الله لا يوصل إليه إلا بما شرع الله.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده وأعاننا الله على قوله.
وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد الله رب العالمين.(26/12)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [22 - 26]
يذكر الله تعالى في سورة الأنعام ما يكون من المشركين حال معاينتهم العذاب، حيث يرون عفو الله تعالى عن أهل التوحيد فيبادرون إلى نفي الشرك عن أنفسهم كذباً على أنفسهم، وهم الذين أشركوا بالله في الدنيا وكذبوا رسله، فأعمى الله أعينهم عن إبصار الحق، وأصم أسماعهم عنه مع سماعهم لآيات القرآن، وطبع على قلوبهم، فدفعوا الحق بكل سبيل ونهوا غيرهم عن ابتاع الهدي وابتعدوا عن اتباعه، فضلوا وأضلوا.(27/1)
بيان عظمة المنة بالقرآن
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو الدرس الثامن في تفسير سورة الأنعام، وقد سبقته -ولله الحمد- سبعة دروس، وآخر الآيات التي تأملنا فيها هي قول الله جل وعلا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21]، وقلنا: إن الاستفهام هنا استفهام إنكاري، والمعنى: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته.
وقبل أن أشرع في الآيات التي بعدها أذكر مقولة تكتب في سويداء القلب قبل أن تكتب في صفحات الواقع، وهي في قول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:87 - 88].
حيث يتحرر من الربط والمناسبة بين الآيتين مقولة تقول: من أوتي القرآن ثم ظن أن أحداً أوتي من الدنيا أعظم مما أوتي فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً.
بمعنى أنه جعل للدنيا أكثر من قدرها، وصغر عظيماً فلم يعرف قدر القرآن؛ لأن الله قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]، ثم نهى نبيه عليه الصلاة والسلام عن أن يمد عينيه إلى متاع الدنيا، وقال له: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت:51]، فمن حمل القرآن حملاً صحيحاً حفظاً ووعياً وتدبراً فهو سيد العلماء بلا شك، وفي هذا مقولات ذكرها الأئمة كما نص عليها الزركشي رحمه الله تعالى في البرهان.
والذي يعنينا هنا أن استصحاب هذا الأمر يهون على طالب علم التفسير الكثير من الصعاب إذا تفكر في كونه يتدارس كلام الله جل وعلا، ومن عظمة كلام الله أنه يمكن لأي رجل بحسب ما أعطاه الله من علم أن يبحر في شتى الفنون وجميع العلوم من خلال آيات الكتاب؛ لأن القرآن مهيمن، وكذلك علم التفسير مهيمن على سائر العلوم، وقد قال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى: كل العلوم تفيء إلى القرآن، ثم قال: ما السنة كلها إلا في آية واحدة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].(27/2)
تفسير قوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم)
يقول الله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:22 - 24].
التكذيب بالبعث والنشور من أعظم ما كان عليه أهل الإشراك، وإذا علمنا أن سورة الأنعام مكية فإنها ستعالج الخلل العقدي في أهل مكة، وأعظمه الشرك بالله وإنكار البعث والنشور، كما قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7].
فالله جل وعلا يقول لنبيه في غيب لا يعلمه عليه الصلاة والسلام، أذكر يا محمد، ونبئ هؤلاء القوم بأنه سيأتي يوم نحشرهم فيه جميعاً بلا استثناء، فالخلائق يحشرون جميعاً إنساً وجناً وملائكة ودواباً، (ثم نقول) أي: في يوم الحشر {لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22]، فهل تحشر أصنامهم معهم ثم يحال بينهم وبينها؟ إن هذا وارد يدل عليه قول الله جل وعلا: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام:94]، فهذا دليل على أنهم كانوا يرونهم، ولكن لا سبيل إلى الوصول إليهم، وقيل: إنهم لا يحشرون، ولكن الذي أراد القرآن أن يثبته هو أن تلك الآلهة والأصنام التي كانوا يتعلقون بها ويعدونها لساعة ما تخذلهم يوم القيامة، ولهذا قال الله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22]، وهذا لا شك في أنه استفهام توبيخي، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل زعم في القرآن فهو كذب.(27/3)
تفسير قوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين)
ثم قال الله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} [الأنعام:23]، هذا نفي بعده استثناء، وهذا يسمى أسلوب حصر.
واختلف العلماء في معنى (فتنتهم) هنا على أقوال، والقول الذي يغلب على الظن أنه أقرب هو أن الفتنة هنا بمعنى الشرك، ولكن لا بد من تقدير مضاف، فيصبح المعنى: ثم لم تكن عاقبة شركهم {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، فالذي يقول: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] هم أهل الشرك، وهذا منهم كذب؛ لأنهم كانوا مشركين.
وكيف يجمع الإنسان بين هذه الآية وبين قول الله جل وعلا: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42]؟! فقول الله جل وعلا: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42] فيه أنهم يخبرون بكل شيء فعلوه على وجه الحقيقة والصدق، والله يخبر هنا أنهم يقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، وهذا كذب، لأن الله قال بعده: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأنعام:24].
لقد طرح هذا السؤال على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقال رضي الله عنه وأرضاه في الجواب عن هذا: إن أهل الإشراك إذا رأوا منة الله بالعفو على أهل التوحيد والإسلام، ورأوا أن الله يعفوا ويخلص أهل التوحيد يقول بعضهم لبعض: لم يبق إلا أن نتبرأ من الشرك، لعله يعفى عنا كما عفي عن غيرنا، فعندها يقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، فيختم الله على أفواههم بعدها، فتنطق جوارحهم وتشهد، فهذا معنى قول الله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:42].(27/4)
تفسير قوله تعالى: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم)
قال الله: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:24]، كلمة (ضل) لها معان في القرآن، وهي هنا بمعنى: غاب واضمحل، أي: لم يكن موجوداً، وقوله تعالى: (مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، أي: ما كانوا يزعمونه من نفع الآلهة لهم.(27/5)
تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك)
ثم قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25].
قوله تعالى: (منهم) أي من أهل الإشراك، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في مكة، وكان الملأ والأشراف كـ أبي سفيان وأبي جهل وأمية بن أبي خلف وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وأمثالهم من صناديد قريش يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم سراً حيناً وعلانية حيناً، فالله يقول: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام:25]، و (من) بعضية، لكن الله جل وعلا قد علم في الأزل، وقدر وشاء أن لا تتعظ هذه القلوب، وأنه لا يمكن أن يصل إليها سمع التدبر، فقال الله لنبيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام:25] والأكنة: جمع كنان، كأعنة جمع عنان، وأزمة جمع زمام، وهي في اللغة بمعنى الغطاء والستر، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الأنعام:25]، أي: حتى لا يفقهوه، {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام:25]، والوقر: الثقل والصمم في الأذن.
قال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام:25]، فمهما أتيت لهم بالآيات، وأظهرت لهم المعجزات، وأخرجت البراهين فإنهم لا يمكن لهم أن يؤمنوا؛ لأن الله قد كتب في قدره وأزله أنهم لن يؤمنوا، ويعلم بهذا كل أحد أن الهداية بيد الله.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25] فلم يكفهم أن يردوا ولم يقبلوا قولك، بل زعموا أن قولك هذا من أساطير الأولين.(27/6)
ذكر أوجه تصريف العرب لألفاظ الدلالة على الخروج
وقد كان بعضهم يقول لبعض: ألا تأتون إلى هذا الصابئ؟ يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمة صابئ فعلها (صبأ)، والعرب في طيات كلامها تفرق الشيء الواحد في إطلاق لفظ العبارة عليه، فمن خرج من دين إلى دين يقال له: صبأ، وقريش كانت تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على دينها، فلما رأوه أتى بدين جديد ظنوا أنه قد خرج عن دينهم، فلهذا قالوا: (صابئ)، وهي اسم فاعل من (صبأ)، والقرآن نزل بلغة العرب، فهم لا يستخدمون هذا اللفظ لكل شيء، فإذا خرج الرجل من داره يقولون: خرج، ولكن إذا خرج من دينه يقولون: صبأ، فإذا كان الرجل بين قوم، ثم خرج لا يقولون عنه: خرج، بل يقولون: انسل، فهنا ثلاثة ألفاظ: فيقال: (خرج) إذا خرج من الدار، و (صبأ) إذا خرج من الدين، و (انسل) إذا خرج من المجلس، فإذا الخارج سهماً خرج من الرمية يقولون: مرق، ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين ذكر الخوارج: (يمرق أحدهم من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، فإذا خرج السهم من الرمية لا يقولون: خرج السهم من الرمية، بل يقولون: مرق السهم من الرمية، فإذا صاد صائد سمكة ثم تفلتت من يده لا يقولون: خرجت من يده، بل يقولون: تملصت من يده، وهذا يدل على سعة لغة العرب وبها نزل القرآن.(27/7)
تفسير قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه)
ثم قال الله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:26].
اختار ابن جرير شيخ المفسرين أن الآية تبع لما سبق، فيصبح قوله تعالى: (وهم) عائد على من كان الله جل وعلا يتحدث عنهم، أي أن هؤلاء من أهل الإشراك ينهون الناس عن الدخول في الدين، وفي نفس الوقت يبتعدون هم عن الدين.
والقول الثاني ينسب إلى ابن عباس، نقله عنه سفيان الثوري بسنده، وحرره ابن كثير في تفسيره، وهو أن المقصود بالآية أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قلنا: إن أبا طالب هو المقصود بالآية فإن معنى الآية حينئذٍ: ينهون الناس عن أن يؤذوا نبينا صلى الله عليه وسلم {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26]، أي: ينأون بأنفسهم عن أن يدخلوا في الدين، فالخطاب -وإن جاء للجمع- يقصد به فرد واحد هو أبو طالب.
وأكثر أهل العلم على أن الضمير عائد على المشركين السابقين، أي: ينهون الناس عن الدخول في الدين، ويبتعدون بأنفسهم، فجمعوا بين الضلال والإضلال.
وقد ذكر ابن أبي حاتم في الآية قولاً، ونقله عنه الحافظ ابن كثير ولم يعقب عليه، وكان الأولى أن يعقب، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أعمام عشرة ينصرونه في العلانية ويعادونه في السر.
وهذا غير صحيح؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له أعمام عشرة، واستصحاب التاريخ مهم، ولكن ستة منهم لم يدركوا بعثته عليه الصلاة والسلام، وإنما أدرك البعثة من أعمامه أربعة: أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، آمن اثنان: حمزة والعباس، وكفر اثنان: أبو لهب وأبو طالب، فـ أبو لهب عاداه، وأبو طالب والاه.
فما ذكره ابن أبي حاتم بسنده من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أعمام عشرة يعادونه في السر وينصرونه في العلانية لا أصل له، ولا يمكن أن يصح متناً؛ لمخالفته الروايات التاريخية المشهورة المحفوظة.(27/8)
ذكر حال أبي طالب
وقد كان أبو طالب بين أمرين، وكان شديد الموالاة لما يعتقد، وقد يضرب به المثل في نصرة الإنسان لما يعتقد، فكان شديد الموالاة لدين قومه، فلذلك لم يؤمن، وكان شديد الموالاة لمبادئ قومه، وهناك فرق بين الدين والمبدأ، فدين قومه كان الإشراك، فلذلك بقي على الشرك، وقال: لا أرغب عن ملة عبد المطلب.
ومبادئ قومه التي كانت شائعة ذائعة هي نصرة القريب بدافع العصبة، وقد كان مخلصاً لهذا المبدأ، فلذلك نصر النبي صلى الله عليه وسلم وحماه ودافع عنه رغم أنه لم يكن مؤمناً؛ ولهذا نشفع النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فهو أهون أهل النار عذاباً.(27/9)
ذكر شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم
والنبي صلى الله عليه وسلم له ثلاث شفاعات خاصة به، وله شفاعات يشاركه فيها غيره، فله شفاعة في أهل الموقف ليفصل بينهم، وهذه شفاعة في دفع ما يضر، وله شفاعة في دخول أهل الجنة الجنة، وهذه شفاعة في جلب ما يسر، فدخول أهل الجنة الجنة شيء يسرهم بشفاعته صلى الله عليه وسلم، وأهل الموقف في كرب عظيم يريدون أن يدفعوه عن أنفسهم، فشفاعته صلى الله عليه وسلم دفعت عنهم الضر، وهذا من إكرام الله لنبيه، وله شفاعة في عمه أبي طالب خصصت مانعاً قرآنياً، قال الله جل وعلا: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، ومع ذلك يشفع صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(27/10)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [27 - 30]
يصور القرآن الكريم مشهداً من مشاهد يوم القيامة بالنسبة للكافرين، وهو مشهد عرضهم على النار، إذ يتمنون عنده الرجوع إلى الدنيا للتصديق بالآيات وقد شاهدوا ما كفروا به وكذبوا، ويخبر الله تعالى في آياته الكريمات أنه قد علم منهم فساد قلوبهم، حيث لو قدر لهم الرجعة لوقعوا فيما عملوه في الدنيا، ويذكر تعالى مشهداً آخر من أهوال يوم القيامة في بيان أحوال الكافرين وهو عرضهم على الله ربهم وتقريرهم بالحق الذي أنكروه ليردوا بعد ذلك موارد العذاب ولا يهلك على الله إلا هالك.(28/1)
أهمية نصرة المبادئ والعقائد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه، وبعد: فقد انتهينا إلى قول الله جل وعلا: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:26]، وحررنا أن للعلماء رحمة الله تعالى عليهم قولين في الآية، فاختار جمهور العلماء -ومنهم ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى- أن الآية أشبه بما سبقها، وأن الحديث ما زال موصولاً بالآية التي قبله، وهي قول الله جل وعلا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام:25]، وقلنا: إن سفيان الثوري نقل بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المقصود بهذا الحديث أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وحررنا حينها نصرة أبي طالب للنبي عليه الصلاة والسلام، وانتهينا إلى أن الآية تدل على أن ثمة فريقاً من الناس ينتصرون لمبادئهم وإن كانت غير صحيحة.
يفدون رأيك في الحياة مجاهداً إن الحياة عقيدة وجهاد فأما نصرة الإنسان لمبادئه فهي حق لا مرية فيه، ويجب على العقلاء والفضلاء أن يتحلوا به، ولكن تبقى القضية في المعتقد الذي يعتقده الإنسان ويستحق أن يدافع عنه، وقد عرف التاريخ على مستوى الأفراد وعلى مستوى الأمم أقواماً ضربوا أمثلة لا تُصدق في نصرتهم لمذاهبهم حتى وإن كانت باطلة، كنصرة الخوارج لمذهبهم وموتهم في سبيل ذلك، حتى إنه كان أحدهم يعقل خيله قبل الحرب ويأتي ويحارب ويقول وهو على غير هدى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84]، كما أن أبا جهل -وهو عدو الله المعروف- لما صعد عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه على صدره لم يستعطفه ولم يستدر رحمته، وقال قولته الشهيرة: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم.
هذا على مستوى الأفراد.
وأما على مستوى الأمم فإن أبناء الأمة اليابانية في العصر الحديث عُرفوا بانتصارهم لمذهبهم لما وقعت الحرب بين روسيا واليابان قديماً قبل أن تُضرب اليابان بالقنابل، أي: قبل ضرب ناجازاكي وقبل هيروشيما حيث أظهر اليابانيون إخلاصاً شديداً لمبدئهم والتفافاً حول ملكهم الذي كان يسمى الميكاد، وكانوا يعظمون الوطن، وكان حافظ الشاعر المصري رحمه الله تعالى يشكوا من أن العرب لم يكن فيهم ألفة ولا اجتماع ولا نصرة لقضاياهم، حيث يقول: لا تلم كفي إذا السيف نبا صح مني العزم والدهر أبى أمة قد فت في ساعدها بغضها الأهل وحب الغرباء والشعراء يحكون أشياء لها واقع فعلي في الجملة، ولكن ليس لها واقع تفصيلي.
فالمقصود أن حافظاً أراد أن يبلغ الرسالة للعرب أن اليابانيين ينتصرون لمذاهبهم، فَتَوَّهم أن هناك فتاة يابانية تعيش في مصر، وأنه تعلق بها، وأنه فتن بها، وفجأة يقول: حملت لي ذات يوم نبأ لا رعاك الله يا ذاك النبا يعني: جاءته فزعة تريد أن تترك أرض مصر فسألها، فأخبرته بأن الروس يريدون أن يحاربوا اليابان، وأنه يستحيل أن تبقى في مصر والروس يحاربون اليابان، فهي تقول: نذبح الدب ونفري جلده أيظن الدب أن لا يُغلبا والدب رمز للأمة الروسية كما أن التنين رمز لليابان، والنسر رمز لألمانيا، والأسد رمز لإنجلترا، والذي يعنينا هو قضية ولاء هذه المرأة لوطنها، تقول: هكذا الميكاد قد علمنا أن نرى الأوطان أماً وأباً ونخلص من هذا كله أن قول الله جل وعلا: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] إن كان المقصود به أبو طالب يصبح دالاً على أن أبا طالب كان يحمي مذاهبه واعتقاداته، ولهذا كان يحمل وصية عبد المطلب في أن يحفظ هذا اليتيم، والحق أن أبا طالب حفظ النبي صلى الله عليه وسلم حفظاً شديداً مبالغاً فيه، فنصر النبي صلى الله عليه وسلم نصرة عظيمة رغم أنه كافر، حيث جلس ثلاث سنين في شعب بني هاشم يذوق الجوع هو وأبناؤه وهو على كفر لا يرجو بهذا جنة، ولكنه ينتصر لمبدأ، وهو نصرة ابن عمه اليتيم، والعاقل يستفيد من مثل هذه التقاليد الاجتماعية كما استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من نصرة عمه أبي طالب له، فيستفيد من كل الأعراف والتقاليد والموروثات الموجودة في حياته، وكذلك التقاليد العالمية أو الأعراف السياسية، فيستطيع أن يوظفها لمصلحة إذا كان يملك مسكة من عقل، أما من غلب عليه حماسه وجهله فلم ينظر إلى الأمور إلا بنظرة ضيقة، أو كان يقرأ عبارة أو متناً في ورقة تقويم أو في كتاب ثم بعد ذلك أراد أن يطبقها من غير أن يستصحب ما حولها فإنه سيقع في حرج عظيم، وسيأتي إن شاء الله في قوله الله جل وعلا: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35] قضية أهمية معرفة سنن الله الكونية.(28/2)
تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على النار)
نعود فنقول: قال الله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:26] ثم قال الله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27].
(لو) تحتاج إلى فعل وإلى جواب شرط، ولكن الله جل وعلا هنا لم يذكر الجواب، حيث قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]، فحذف الله تعالى الجواب مبالغة في تعظيمه، يعني ولو ترى لرأيت أمراً عظيماً شنيعاً يحل بهم.
فقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى} [الأنعام:27] أي: بعين البصر {إِذْ وُقِفُوا} [الأنعام:27] أي: حبسوا {عَلَى النَّارِ} [الأنعام:27] أي أهل الإشراك {فَقَالُوا} [الأنعام:27] حينما يرون النار {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] والسؤال هنا: هل قالوا ذلك عن اعتقاد وتوبة وخلوص نية أم لا؟ لقد اتفق العلماء على أنهم لم يقولوه عن توبة وخلوص نية واعتقاد، بدليل أن الله جاء بـ (بل) بعدها، و (بل) للإضراب، والإضراب هو الانتقال، فقال الله بعدها: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:28] أي الشيء الذي أنكروه وكفروا به -وهو النار- ظهر لهم عياناً.(28/3)
بيان معنى قوله تعالى (ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه)
ثم قال الله بعد ذلك: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] أي: كاذبون في دعواهم أنهم لو ردوا فلن يشركوا، حيث قالوا: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] والله يقول: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، ومن هنا تعلم أنه لا يهلك على الله إلا هالك، ومعنى ذلك أن الله لا يعذب إلا من كان راضياً بكفره معانداً لربه فرحاً بما هو عليه، قال الله: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106] وهذا يجعلك لا تحمل في قلبك كثيراً من اللوم والعتب على من أخطأ من علماء المسلمين؛ لأن هذا العالم عندما أخطأ كان يعتقد ويظن أنه على صواب، قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات: وواجب عند اختلاف الفهم إحساننا الظن بأهل العلم قال الله جل وعلا: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:28] فانقطعت (قبل) عن الإضافة، ولذلك بنيت على الضم، {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] أي: في دعواهم أنهم لو ردوا لما أشركوا.
وقد جرت عادة العلماء ببيان أمر متعلق بهذه الآية، وهو أن الله جل وعلا يعلم ما قد كان، وما هو كائن، وما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ومن الآيات التي استدل بها العلماء على صحة هذا القول هذه الآية؛ لأن الله قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] وقد علمنا كما أعلمنا الله أنهم لن يردوا ولن يعودوا إلى الدنيا مرة أخرى، ولكن الله يقول لو ردوا سيحصل كذا وكذا وسيحدث كذا وكذا، وهذا لا يقدر على القول به إلا الله؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا هو جل ذكره.(28/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا)
ثم قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام:29] وهذا تأكيد منهم على النظرة التي ينظرون بها إلى الدنيا، أي أنه لا بعث ولا نشور بعدها، فلما غلب على ظنهم أنه لا بعث ولا نشور بعدها لم يرقبوا بعد ذلك أن يُظهروا ويجهروا بعداوتهم لنبينا صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29]، والله جل وعلا قد ساق الأدلة على أنه جل وعلا قادر على أن يحيي الموتى في مواطن كثيرة من كتابه.(28/5)
قطوف لغوية
يقول تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ} [الأنعام:28] (بدا) هنا بمعنى: (ظهر) {مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:28] قلنا: إن (قبل) بنيت على الضم لانقطاعها عن الإضافة، فالظروف مثل (قبل) و (بعد) إذا أُضيفت تظهر عليها الحركة، كقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} [النور:58]، فإن لم تضف بنيت على الضم.
وقوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام:28] اللام في (لعادوا) واقعة في جواب لو، وهنا أظهر جواب (لو)، بخلاف الآية التي سبقت {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام:27] فلم يأت بالجواب، فهنا أظهره تأكيداً، وهناك حذفه للمبالغة في الأمر الشنيع والعظيم الذي وقعوا فيه.
وقوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام:29] (إن) هنا نافية بمعنى (ما) يعني: ما هي إلا حياتنا الدنيا، وتأتي مثلها في الرسم الإملائي (إن) الشرطية، ويظهر الفرق بينهما من سياق الكلام، مثل قول الله جل وعلا: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة:118] فهذه شرطية، أما (إن) هنا فواضح من سياق الكلام أنها نافية.
وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا} [الأنعام:27] (ليت) للتمني، وتقابلها لعل، ولكن لعل تستخدمها العرب في الذي يغلب على الظن أنه يقع، أما ليت ففي الذي يغلب على الظن أنه لا يقع، قال قائلهم: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب وقد تقرر عقلاً ونقلاً وشرعاً أن الشباب لا يعود.
و (لعل) للترجي، و (لعل) على كثرة ذكرها في القرآن وردت في موضع واحد في القرآن بمعنى (كأن)، قال الله جل وعلا: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، إذ لم يقل أحد من الأمم الذين كانوا يتخذون البنيان الفاره: إن هذا من أسباب بقائهم، فلم يقل بهذا أحد، ولكن المعنى أنه كلما أفرط الإنسان في المسكن وبالغ فيه فكأنه يبني بنيان من يظن أنه يخلد، فـ (لعل) في القرآن على بابها في الترجي إلا في موضع واحد، وهو قول الله جل وعلا: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129]، فإنها بمعنى (كأن).(28/6)
بيان المراد بـ (الآية)
قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] والآيات تُطلق على القرآن، وتطلق على المعجزات، والله جل وعلا سمى في كتابه ما أفاءه على الرسل من معجزات آيات، كقوله تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً))، والآية تأتي بمعنى العبرة، كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات:26]، وفي آية أخرى أخبر بأنها آية، أي: عبرة للناس، وتأتي بمعنى المعجزة، فقول: (معجزات الرسل) اصطلاح ذكره أهل التاريخ والسير والمحدثين بعد عصر النبوة، أما في القرآن فلا يطلق على الآية لفظ المعجزة، بل تسمى آية، قال الله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل:12] أي في تسع معجزات إلى فرعون وقومه، وقال تعالى: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} [النازعات:20] أي المعجزة الكبرى، فلغة القرآن لا تستخدم كلمة (معجزة)، بل تستخدم كلمة (آية).(28/7)
تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم)
قال تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام:28 - 30]، فوصلوا إلى مرحلة الصدق، فلما تبين لهم أن الكذب لا يُجدي لجئوا إلى الصدق، حيث يقول تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ} [الأنعام:30] أي: الله جل وعلا {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام:30].
وهنا نحرر أن لقاء الله جل وعلا حق لا مرية فيه، والله سائل كل نفس عما صنعت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع) وذكرها، وأهل الإشراك يقفون بين يدي ربهم، فيقرر الله جل وعلا ما كانوا يصنعونه في الدنيا، كما جاء في الآية {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} [الأنعام:30] ولا يكون الجواب لهم رحمة، بل يقول الله تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام:30]، فيحرر من هذا معنى عظيم، وهو أن التوحيد أعظم المنجيات، وأن من مات على التوحيد محال خلوده في النار، ومن مات على الشرك حال دخوله الجنة، فلا ينبغي للمؤمن أن يُقدم على توحيد الله شيئاً كائناً ما كان؛ لأن أي عمل سيُحبط إن لم يكن مصحوباً بتوحيد الله جل وعلا، كما أن كل عمل لا ينفع إذا كان مقروناً بالشرك بالله، قال الله في حق أوليائه الصالحين من عباده المتقين ورسله: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] لكن كلمة التوحيد ليست متناً يُحفظ فقط، ولا شيئاً تتطاول به على الناس وترقى منبراً فتقوله، بل يجب أن يقر في قلبك أن الله جل وعلا عظيم لا رب غيره ولا إله سواه، وأنك لا يجوز لك أن تضع جبهتك لأحد غيره جل وعلا، وحين تضع جبهتك له تذكر أنك تضعها بفضل منه ورحمة، وأن الذي هداك لأن تسجد له هو الذي ترجوه أن يقبل منك هذا السجود، وكلما رأيت شيئاً في الدنيا عظيماً فتذكر أن عظمة الله أعظم، وكلما رأيت في الكون شيئاً ناقصاً دلك ذلك على كمال ربك تبارك وتعالى، واستصحاب هذا الأمر في حياة الإنسان غدواً ورواحاً، ذهاباً ومجيئاً يزيد من رقة قلبه، ويزيده علماً بربه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أحق الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه) والإنسان لا يدري أي ساعة يكون فيها مقبولاً عند الله، فكلما انقلب على جنبه أو ركب دابته، أو مكث منفرداً بنفسه يُردد هذه الكلمة، ويحاول أن تكون ممزوجة بالإخلاص يواطئ فيها قلبه لسانه، حتى يكون ذلك مقبولاً عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة) قال أبو ذر: وإن زنا وإن سرق؟! فقال: (وإن زنا وإن سرق)؛ لأن (لا إله إلا الله) كلمة جليلة عظيمة كريمة على الله، وكل الذي ذكره الله جل وعلا من آيات سلفت، وما سيأتي من آيات في هذا المقام في سورة الأنعام خاصة، كل ذلك ورد في قضية أن هؤلاء القوم ضُربت عليهم الذلة، وسينالون ما سينالون في الآخرة بسبب أنهم أشركوا مع الله آلهة أخرى، وقد قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} [الأنعام:19] فأمر الله نبيه أن يقول: {قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:19]، فيجب استصحاب الكفر بالطاغوت، وألا يقع في القلب -ولو مثقال ذرة- أن الله جل وعلا معه شريك أو له ند، وينجم عن هذا ويلزم منه استصحاب أن الله جل وعلا لا رب غيره ولا إله سواه، وهذه نفحات إيمانية يضعها الله جل وعلا في قلب من يشاء من عباده، ثم إن مضى إنسان في مسيره وفي حياته وفي مقابلته للناس غدواً ورواحاً فسيأتيه من الأحداث والوقائع والصنائع ما يُختبر فيه توحيده لربه تبارك وتعالى، فسيشفى من مرض، فهل سيشكر الله أم يظن أن هذا عائد لنجابة الطبيب؟ وسيُحرم من خير، فهل سيلجأ إلى ربه لعلمه أنه لا يقدر على إعطائه إلا الله؟ وسيرى نعمة من الله على غيره، فهل سيحسدهم ظناً أن هؤلاء الناس نالوها بقوتهم فينازعهم فيها، أم يعلم أن هناك رباً لا رب غيره ولا إله سواه يُعطي ويمنع فيغبط الناس ويلجأ إلى ربه يسأله من خيري الدنيا والآخرة؟ وسيرى ملوكاً يتوفون، ويرى دولاً تتهدم، ويرى قبور في أسفاره فيتدبر، ويعلم أن هناك رباً عظيماً جليلاً لا يحول ولا يزول، وفي ذات الوقت أنعام سيقع بعين بصيرته على أقوام أوتوا حظاً كبيراً من متاع الدنيا، فيقر في قلبه أن الله جل وعلا أخبر أن ذلك إلى فناء، وأن منتهاه إلى زوال، وأنه مهما عظم وجل في العينين فإن ما عند الله جل وعلا خير وأعظم، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45] فالله جل وعلا يخاطب الناس في واقعهم، ثم يقول: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ} [الكهف:46] ولم يقل الله: ذلك كذب وافتراء، بل قال: {زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، وهذا حق لا يماري فيه أحد، ولكن الله لما أوجد عباده لعبادته قال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46].
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعان العلي الكبير على قوله، وصلى الله على محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(28/8)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [31 - 32]
يبين الله تعالى في كتابه الكريم عظيم خسارة المكذبين بلقاء الله حين تقوم الساعة، وشدة ندامتهم على تفريطهم وما كسبوا من الذنوب وما حملوا من الأوزار على ظهورهم، وانشغالهم بلهو الدنيا ولعبهم عن خير الآخرة الذي أعده الله تعالى لعباده المتقين.(29/1)
تفسير قوله تعالى: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد كنا قد انتهينا في تفسير سورة الأنعام إلى قول الله جل وعلا: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام:30].
ثم قال الله بعدها: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31].
إن التكذيب بلقاء الله ينجم عنه عدم استعداد للقائه، فيصاب الإنسان الكافر بالخسران؛ لأنه جاء له يوم لم يرقبه ولم يقدم له، قال الله: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24].
والآية زاخرة بالكثير من المعاني التي يمكن الإبحار فيها، ولكنها في الجملة تبين ندامة أهل الشرك يوم القيامة، وهذا ظاهر في هذه الآية وفي الآيات التي قبلها، وهو ظاهر في الآيات التي بعدها، ولهذا قد لا تحتاج إلى مزيد بيان لمعناها الإجمالي.
و (قد) حرف تحقيق إذا جاء بعده الماضي اتفاقاً، ولكن الاختلاف فيما إذا جاء بعده المضارع، والصواب أن يقال: إذا كان الكلام عن الله فهي حرف تحقيق لا محالة في الماضي والمضارع، أما إذا كان عن غير الله فهي في الماضي للتحقيق وفي المضارع للظن.(29/2)
بيان المراد بالساعة
يقول تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَة} [الأنعام:31]، والساعة في اللغة: الوقت القصير المعين، وتطلق على موت الإنسان نفسه، وتسمى قيامة صغرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات فقد قامت قيامته)، وتطلق على اليوم الذي قدر الله فيه فناء الخلق، وتطلق كذلك على البعث والنشور، وهذه الأحوال الثلاثة -موت الإنسان، وفناء الناس، وبعثهم- من الغيبيات التي استأثر الله جل وعلا بها.
والساعة لا تأتي إلا بغتة، قال تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187].
يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا} [الأنعام:31]، أي: أهل الكفر {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31]، والحسرة: أشد الندامة.(29/3)
ذكر ما في الآية من حيث الصناعة النحوية
وسنبحر هنا إيجازاً نحوياً وبلاغياً ولغوياً بقدر الإمكان.
أما من حيث الصناعة النحوية فالياء: حرف نداء، والمنادى هو الحسرة، والتقدير: يا حسرة أحضري، أو يا حسرة هذا أوانك.
وهذا قول سيبويه، وتبعه أكثر الناس عليه.
والعرب في النداء يأتون بحرف نداء، وقد يحذفونه ويقدرونه، ومن أحرفهم الشهيرة: الياء و (هيا) و (أي) و (الهمزة)، ثم إن المنادى يقسمونه في إعرابه وبنائه، فيجعلون منه المفرد، ويقصدون به ما ليس مضافاً ولا شبيهاً بالمضاف، مثل قول الله جل وعلا: {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} [هود:48]، {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35]، فهذا يسمونه منادى مفرداً، ولا يقصدون بالمفرد أنه لا ثاني له ولا جمع.
ويجعلون منه المضاف، كما في الآية التي بين أيدينا: {يَا حَسْرَتَنَا} [الأنعام:31]، فكلمة (حسرة) مضافة إلى (نا) الدالة على الفاعلين.
ويجعلون منه الشبيه بالمضاف، كقول الشاعر: أيا راكباً إما أعرضت فبلغن نداماي من نجران أن لا تلاقيا فقوله: (راكباً) نكرة غير مقصودة، ومنه قولك: يا راكباً إبلاً، أو يا طالعاً جبلاً، فهذا يسمونه شبيها بالمضاف.
وإذا كانت النكرة محددة فإن النحاة يسمونها نكرة مقصودة، فيبنونها على الضم تشبيهاً لها بالمنادى المفرد، ومنه قول الله تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فبنيت على الضم؛ لأن النكرة هنا نكرة مقصودة، وهي النار التي كانت قد أعدت لإحراق إبراهيم، ولو قال الله: (يا نارً) على العموم لأطفئت حينها كل نار، ولم تنفع.
فهذا بيان في علم النحو، وينبغي لطالب العلم الناظر في القرآن السائر في ركب الفقهاء أن يكون على دراية بهذه الأمور.(29/4)
ذكر ما في الآية من حيث الصناعة البلاغية
وهنا إشكال يجيب عنه البلاغيون، وهو أنه جرى في العادة أن الذي ينادى هو الذي يعقل، ليجيبك، والحسرة لا تعقل، ومع ذلك نوديت، فلا يقبل البلاغيون أن يقولوا: إن هذا على الحقيقة، بل يقولون: نوديت على المجاز، ويسمون ذلك مجازاً مرسلاً؛ لأن الحقيقة تدل على أن غير العاقل لا ينادى، فإذا نوديت مع الاتفاق على أنها غير عاقل كان ذلك من المجاز، وقد تقتنع بأن في القرآن مجازاً، وقد لا تقتنع بأن في القرآن مجازاً، ولكن الذي يعنيني هنا أن أبين لك الرأي وأنسبه إلى قائله، أما قناعتك بهذه الآراء فهذه مسألة أخرى.
فهذا من حيث الصناعة البلاغية، وقد تكلمنا على الصناعة النحوية.(29/5)
ذكر ما في الآية من حيث الصناعة اللغوية
وبقي هنا ذكر الصناعة اللغوية، فقد قلنا: إن الحسرة أشد الندامة، والندامة منها ندامة يوم، كمن خرج والنداء في بيته غداء فقال: سأمر في الطريق على زيد أو عمرو وسأتغدى عنده، فلم يجد زيداً ولا عمراًن فهذا يندم يوماً كاملاً؛ لأنه لن يتغدى إلا في اليوم التالي، فهذه ندامة يوم.
وهناك ندامة عام، ويضربون لها مثلاً فيقولون: غالب الزروع لها مواسم فيها تزرع ومواسم فيها تحصد، فيزرعون في وقت معين ويحصدون في وقت معين، ولذلك تجد المزارعين يطرأ عليهم الكدح والتعب والنصب وهم يزرعون، فتكون أيام الحصاد بالنسبة لهم أيام عيد؛ لأنهم يجنون فيها ثمرة جهدهم، وهي صورة للحياة الدنيا والآخرة تماماً: أنا لست أنسى قرية السمراء في عيد الحصاد والسنبل المتجمد الشرقي يحلم بالرقاد وخطى الكماة الكادحين تروح تضرب في هي ذكريات لم تزل محفورة في خاطري هي ذكريات لم تزل تسقي خريف الشاعر يا واحة العمر الجديد على الطريق الساحلي أنا عائد يوماً إليك مع الربيع الزاخر في نسمة الشمس الوضيئة في النسيم العابر في لهفة خفقت بها روح المحب الذاكر فالذي لم يقدر له أن يزرع إذا جاء الناس يحصدون سيشعر بالندامة، فعليه أن ينتظر عاماً كاملاً حتى يلحق بركب الحاصدين.
وهناك ندامة عمر، وهي في حق من تزوج امرأة لا تلائمه، فما يزال يشتكي منها ولا يجرؤ على طلاقها والفكاك منها، فيبقى نادماً، فهذه ثلاث ندامات وكلها هينة لينة؛ لأنها تدور في فلك التعويض، والندامة الحقيقية هي ندامة الكافر والفاسق، وإذا لقيا الله جل وعلا، وهي المقصودة بالآية: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا} [الأنعام:31]، أي: يا أشد ندامتنا.
والعرب قد تسمي الشيء بأشده، فأشد الجزع يسمونه هلعاً، قال الله: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج:19]، فالهلع اشد الجزع، كما أن الحسرة أشد الندامة، والحس: أشد القتل، قال الله: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران:152]، يعني: تقتلونهم قتلاً شديداً بإذنه، والنصب: أشد التعب، قال تعالى عن موسى عليه السلام: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62].(29/6)
بيان معنى قوله تعالى (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم)
قال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا} [الأنعام:31] أي: قصرنا فيها {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام:31]، والمقصود بالأوزار الذنوب اتفاقاً، وعبر الله عنها بأنها تحمل على الظهر لأن العرب تسند كل شيء من الأفعال إلى بعض الجوارح، فالكسب يسندونه إلى اليد، كما قال تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، والحمل يسندونه إلى الظهر، ولهذا قال الله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} [الأنعام:31]، فإذا كان مكشوفاً قيل له: حمل بكسر الحاء، وإذا كان مخفياً قيل له: حَمل بفتح الحاء، فالجنين في بطن أمه لا يرى، فيقال له: حمل؛ لأنه شيء مخفي، والرطب إذا كان في أكمامه يقال له: حمل؛ لأنه لا يرى، فإذا كان الحمل ظاهراً يقال له: (حِمل)، ومنه قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف:72]؛ لأنه شيء ظاهر على متن الدابة.(29/7)
بيان معنى قوله تعالى (ألا ساء ما يزرون)
نعود فنقول: قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31]، ويقال للوزير: (وزير)؛ لأنه يتحمل أعباء عن كاهل الملك؛ إذ لم يكن للملوك قديماً إلا وزير واحد، والله جل وعلا يقول عن موسى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} [طه:29]، وفي الحضارة المعاصرة الوزراء، ولكن في عهد بني العباس وفي عهد العثمانيين وما قبلهم من الدول ما كان للملك إلا وزير واحد، وكما كان هارون وزيراً لموسى كان هامان وزيراً لفرعون.
وهؤلاء الوزراء على النمط القديم كانوا مطلعين اطلاعاً كثيراً على شخصية الملك، وهم أعرف الناس بالملك، ولهذا جاء في المثل الدارج: (على هامان يا فرعون) يقولون: أصله أن فرعون كان يكذب على الناس فيزعم أنه إله، فكلما طلب منه أحد طلباً قال: دعني حتى أخلقه لك، دعني حتى أصنعه لك، فذات طلب هامان وزيره منه طلباً، فنسي فرعون فقال له كما يقول للعامة: انتظر حتى أخلقه لك، فقال له هامان: على هامان يا فرعون؟! يعني: هذا المنوال في الحديث لا ينفع معي؛ لأنك بالنسبة لي شخص مكشوف.
وهذا يقودنا إلى قضية، وهي أن خديجة رضي الله تعالى عنها كان سبب إيمانها أنها من أعلم الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام كان الله قد اصطنعه لنفسه قبل أن يبعثه، ففي الحديث: (إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته)، فكان عليه الصلاة والسلام عظيم الخلق قبل أن يبعث، وخديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها كانت ترى هذه العظمة قبل النبوة، فلما جاءها وقال: إنني رأيت ملكاً فقال لي: إنني نبي، وحدثها بالقرآن الذي أنزل عليه لم تتعجب ولم تستغرب، بل قالت: والله لن يخزيك الله أبداً.
ولكن الإنسان إذا كان -والعياذ بالله- بين خاصته وأهله وذويه له شأن، وله مع العامة شأن آخر فلا يمكن أن يكون يوماً من الأيام شخصاً مرضياً عند الله، فقد يغلب الناس بطريقة، ولكنه لا يستطيع أن يغلب ربه؛ لأن الله غالب وليس بمغلوب.
وكون الإنسان لا يتحرج أمام خاصته في بعض ألفاظه أو عباراته أو حديثه وينزع الكلفة هو مما لا حرج فيه، ولا علاقة له بالعامة والخاصة، ولكن العبرة بالمبادئ والقيم التي يحملها المرء في نفسه، فمن كان يحمل مبادئاً وقيماً يصنعها في السراء كما يصنعها في الضراء، ويؤمن بها في السر كما يؤمن بها في العلانية كان من الذين يستحقون أن يقودوا الركب ويحتلوا المناصب العليا في الأمة، وقد تلقى النبي صلى الله عليه وسلم مبادئه وقيمه التي يحملها عليه من ربه، وهي دين قبل أن تسمى مبادئاً وقيماً، وكان عليه الصلاة والسلام يصنعها في الملأ كما يصنعها في الخلاء، وقد قال: (وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (فاطمة بنت محمد) يقطع الطريق على كل أحد يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بدين يطبق على قوم ولا يطبق على آخرين.
قال الله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31]، هذا تبيين لعظمة وشناعة الأمر الذي تقلدوه.(29/8)
تفسير قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو)
وقد ذكر الله جل وعلا عن أهل الكفر أنهم قالوا لا بعث ولا نشور، وهنا يبين الله جل وعلا لهم المعنى الحقيقي للحياة، فيقول الله جل وعلا: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام:32]، واللعب: ما يشتغل به المرء ويعلم أنه لا عاقبة له، كلعب الصبيان، فالصبيان يلعبون وهم يعلمون أنه ليس وراء هذا عاقبة، أما اللهو فهو الاشتغال بما لا ينفع عما ينفع، وهما متقاربان، ولكن اللهو -فيما يبدو- أعم، فبين الله جل وعلا أن الدنيا لعب ولهو، ثم قال سبحانه: {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ} [الأنعام:32]، واللام هنا تشعر أن هناك قسماً، أي: وعزتي وجلالي إن الدار الحقيقية هي الدار الآخرة، ولكن الله قيد فقال: {خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأنعام:32]؛ لأن الحياة الآخرة وإن كانت في حق الكفار موجودة ليست خيراً لهم، فمقامهم في الدنيا أفضل من مقامهم في الآخرة؛ لأنه ليس لهم في الآخرة إلا النار ولهذا جاء التقييد، وينبغي أن تعلم أن ما أطلقه الله لا يقيد إلا بالسنة، وما قيده الله لا يمكن لأحد أن يطلقه، فهنا قيد الله فقال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنعام:32] والهمزة في قوله: ((أفلا تعقلون)) همزة استفهام، والاستفهام هنا للإنكار.
وقد اختلف العلماء في قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام:32]، فهل الآية عامة أو خاصة؟ فللعلماء فيها أقوال، أظهرها أنها للكافر لعب ولهو، ولا توصف حياة المؤمن بأنها لعب ولهو، بل هي مزرعة لآخرته، فيقول العلماء: إن منطوق القرآن في آيات عدة يبين أن المقصود هنا حياة الكفار الذي لم يعرف ربه، أما المؤمن فما حياته الدنيا إلا مزرعة لآخرته وعون له على لقاء الله، فلم تخلق لتعمرها ولكن لتعبرها، فجد لما خلقت وسل من ربك التوفيق فيها: وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده، وأعان العلي الكبير على قوله.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(29/9)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [33 - 35]
لقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته الأذى الكثير فسلاه الله تعالى بجملة من الأمور التي تخفف وطأة التكذيب، حيث أخبره تعالى بأن تكذيب الكافرين له إنما هو تكذيب لربه جل جلاله، وأن المرسلين قبله قد أوذوا بالتكذيب فصبروا حتى جاء وعد الله.
كما ضمن تعالى كتابه في خطاب نبيه بيان كرامته عند ربه ولطف الله به، بياناً لعدم تأثير ذم الذامين وبعض الباغضين له صلوات الله وسلامه عليه.(30/1)
تفسير قوله تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:33 - 34].(30/2)
بيان معنى قوله تعالى (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)
قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] الجحود هو نفي ما في القلب إثباته، أو إثبات ما في القلب نفيه.
وأما قوله تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك) فقد سبق أن (قد) للتحقيق مع الماضي باتفاق، ويجب أن تكون للتحقيق في المضارع إذا كان الحديث عن الله فـ (قد) في قوله تعالى: ((قَدْ نَعْلَمُ)) للتحقيق ((إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ))، فما الذي كانوا يقولون؟ يقول أهل التفسير: إن أبا جهل على وجه الخصوص كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! لا نكذبك، ولكننا لا نصدق بهذه الآيات التي تأتي بها، ولا نؤمن بهذه المعجزات، ونقول: إنها سحر.
فالإشكال هنا أنه يوجد إثبات ويوجد نفي، فالله يقول: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ)) وهذا نفي، ويقول في نفس السياق: ((وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ))، ولذا حاول العلماء التوفيق بين الأمرين، وينقل أغلبهم -خاصة المتأخرين- عن الفخر الرازي أربعة أوجه في تحرير المسألة، اثنان منها ضعيفان لا يقبلان، والوجهان القويان أحدهما أنهم كانوا يجحدونه في العلانية ويؤمنون به في السر، وجعلوا هذا نظير قول الله جل وعلا: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، والحق أن هذا في قصة فرعون مع موسى، ولا يمكن حملها على العموم؛ لأن ذلك يحتاج إلى إثبات، خاصة أن القرشيين لم يكن يعلمون قصة موسى وفرعون لو لم يخبرهم القرآن.
وقال آخرون: إن المقصود أن القرشيين بتكذيبهم لك إنما يردون على الله قوله؛ لأن الله هو الذي أعطاك المعجزات وآتاك هذه الآيات الظاهرات البينات، فتكذيبك ورد هذه المعجزات تكذيب لله.
قلت -والعلم عند الله-: هذا هو الحق، ويجب اطراح أي وجه آخر، فإن القرشيين كانوا يزعمون سراً وعلانية أن الرسول كذاب، فأراد الله أن يقول لنبيه من باب التسلية: إن صنيعهم هذا ليس تكذيباً لشخصك، وإنما هو تكذيب لربك، فإذا تجرءوا على تكذيب ربك فلك أن تصبر على كونهم كذبوك؛ لأنك لست بأعظم من الله، كما يقول السيد لغلامه عندما يهان الغلام في السوق أو في أي محفل: إنهم لم يهينوك، ولكن أهانوني؛ لأنك غلام لي.
وهذا واضح ومطرد في علم الواقع وحياة الناس وفي كلام العرب، وهذا الوجه عندي هو الوجه الذي لا ينبغي أن يعدل المرء إلى غيره.(30/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا)
ويمضي السياق في تعزية الله جل وعلا لنبيه، فيقول: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام:34]، فكما أنك لست بدعاً من الرسل، فبدهي أن ينالك ما نال الرسل من قبل، ((وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا)) أي: أولئك الرسل ((عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا)) فنصر الله جل وعلا ثابت في نصرته لرسله.(30/4)
بيان معنى قوله تعالى (ولا مبدل لكلمات الله)
ثم قال الله: ((وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)) وتبديل كلمات الله له وجهان: الأول: تغييرها حرفياً، ومنه قول الله جل وعلا: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:59] يعني: أتوا بأحرف وكلمات غيرها، وهذا النوع ليس هو المقصود في آية الأنعام.
التبديل الثاني: هو ردها؛ بمعنى: الحيلولة بينها وبين أن تقع، وهذا لا يقدر عليه أحد، وهو المقصود بآية الأنعام.
إذاً: المقصود بكلمات الله في آيات الأنعام وعده ووعيده.
فلو جاء إنسان من مجتمع بادية أو مجتمع أمي لا يوجد فيه أحد يحفظ القرآن، ثم قال: أنا أريد أن أثبت لك أنني أستطيع أن أغير كلام الله، فقرأ الآية عمداً خطأ وأدخل آية مكان آية أو أتى بأحرف من عنده، فهذا بدل كلام الله، ولكنه ليس المقصود بقوله تعالى: ((وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ))؛ لأن كلمات الله في آية الأنعام المقصود بها وعده ووعيده، بل هذا يندرج في قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:59]، وفي قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:41] ولكن قوله تعالى: ((وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ))، المراد به أن الله وعد أهل الإيمان بالنصر وتوعد أهل الكفر بالاضمحلال والنهاية والانهزام، فهذا الأمر لا يقدر أحد على تبديله.(30/5)
بيان معنى قوله تعالى (ولقد جاءك من نبأ المرسلين)
ثم قال تعالى زيادة لتطمين نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34] أي: من أخبار المرسلين ما يثبت لك أن الله نصرهم، فنفذ في أممهم وعيده وأعطى الأنبياء وعده، ولم يقدر أحد على أن يبدل كلمات الله.(30/6)
تفسير قوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم)
ثم قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ} [الأنعام:35] أي: عظم وشق {إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام:35] أي: إعراض أهل الكفر، حيث كانوا يطالبونه بالآيات، فالله يقول له: ليست القضية قضية آيات، فهؤلاء كتب أزلاً أنهم لن يؤمنوا، فقال الله لنبيه: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35].
والنفق: السرب في الأرض، والسلم في اللغة المصعد والمرقاة.
والآية تدلل على عظيم شفقة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، وحرصه على هداية الناس، فالله جل وعلا يقول له: إن استطعت ذلك فافعل، ولو فعلت فلن يجدي ذلك شيئاً؛ لأن الله قد كتب عليهم الكفر، وهذه الآية مر معنا نظيرها، وهو قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام:25]، ولكنها تبين حرصه صلى الله عليه وسلم وشفقته بأمته.(30/7)
بيان معنى قوله تعالى (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى)
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام:35] هذا كله من تأديب الله لنبيه، فالله اقتضت حكمته ومشيئته أنه لا يمكن أن يؤمن الناس جميعاً، ولو أراد الله أن يؤمن الناس جميعاً لجمعهم على الهدى.
إذاً: أنخ مطاياك، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وكن على بينة من أنه لابد من أن يكون في الناس مؤمن وكافر وعاص وطائع، وبر وفاجر، والإنسان العاقل ينظر إلى ما حوله بعين القدر وبعين الشرع، فبعين الشرع يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وبعين القدر يعلم أن الله جل وعلا قد كتب أنه لابد من أن يكون في النار كافر ومؤمن، وقد أمر عمر بن عبد العزيز بتنقيص الجباية عن أهل الذمة، فكتب له الوالي: إن هذا يضر ببيت مال المسلمين، فقال: إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً.
فكتب إليه مرة أخرى فكتب عمر: إن عمر ليعلم أنه أحقر عند الله من أن يهدي الخلق كلهم على يديه.
وهذا يمنح الإنسان سكينة وعدم انفعال وهو يدعو إلى الله جل وعلا.(30/8)
بيان معنى قوله تعالى (فلا تكونن من الجاهلين)
ثم قال الله: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]، ولم يقل: فلا تكن جاهلاً، والمعنى: إظهار كرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه، ولطف مخاطبة الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا جمعت هذا مع ما سلف من حرصه صلى الله عليه وسلم وشفقته بأمته تبين لك أنه عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يضره بعد مدح الله وملاطفته له ما يقوله أهل الكفر فيه، سواء ممن سبق وأدرك حياته صلى الله عليه وسلم ككفار قريش، أو من تراه في عصرنا هذا، فكل يوم ينعق في إحدى الدول ناعق.
والله لن يصلوا إليك ولا إلى ذرات رمل من تراب خطاكا كنت الخشاش على الثرى ومقامكم مثل السماء فمن يطول سماكا وإذا كان مدح الناس له صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إليه لأن الله مدحه، فكيف يضره ذم الناس؟! والله جل وعلا قد عصمه.
وهنا مسألة عقدية، وهي أن الله جل وعلا لا يضره ذم أحد ولا ينفعه مدح أحد ولا طاعته؛ لأن الله استغنى بذاته {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينفعه مدح أحد ولا يضره ذم أحد، وليس ذلك لذاته، بل لأن الله جل وعلا مدحه، ولأن الله جل وعلا حماه، فماذا سيقول المادحون فيه وقد مدحه الله؟! وماذا سيذمه الناس وقد عصمه الله، وقال له: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95]؟! فالله جل وعلا لا يبلغ مدحه قول قائل، ولا يجزي بآلائه أحد؛ لأن الله هو الغني الحميد.(30/9)
ضرورة الأدب في مخاطبة الآخرين
يقول تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]، ولم يقل تعالى: ولا تكونن جاهلاً.
وعلى هذا ينبغي على الإنسان أنه إذا خاطب غيره، خاصة من يحب عليه أن يتأدب في الخطاب معه، والمعلومة قد تكون واحدة، لكن سياقها للناس قد يكون مختلفاً.
ولذلك يروى أن ملكاً رأى في رؤيا أن أسنانه جميعاً سقطت، فاستدعى معبراً، فجاءه المعبر فقال: ماذا تقول؟ فقال: كل أهلك يموتون.
فاشتاط غضباً، ثم قال: هل من معبر آخر، فجيء بمعبر آخر، فقال: هنيئاً لك طول العمر يا أمير المؤمنين، أنت آخر أهلك موتاً، والمعنى واحد، ولكن العبارة اختلفت.(30/10)
أهمية التأني في الحكم على الخطاب
ويستفاد من الآية أن الإنسان يجب أن يعرف مراد المتكلم قبل أن يتعجل في الحكم؛ لأن الحكم ببادي الرأي لا يصلح، فأحد العرب ضاعت غنمه فقال: (يا رب سلط عليها الذئب والضبع)، فهل دعا لها أم دعا عليها؟ وهنا يقف الإنسان بهدوء، فيقول: إن كان قد قصد أن يسلط عليها الذئب والضبع في وقت واحد فقد دعا لها؛ لأن الذئب والضبع لا يتفقان، فيدفع كل منهما الآخر، فإذا التقيا والغنم حاضرة تدافعا وهلكا ونجت الغنم، وإن قصد أن يسلط عليها الذئب والضبع متفرقين فقد دعا عليها بالهلاك والثبور.
فكل عاقل يلقى عليه خطاب يجب عليه أن يتأتى فيه.
وهنا فائدة لغوية، وهي أن العرب لها نظم لا يختل وسنن لا تتبدل في طريقة تقديمها الذكر على الأنثى، فهم يقولون: القمران، يقصدون الشمس والقمر، وإنما قالوا: القمران؛ لأن القمر مذكر والشمس مؤنث؛ إلا في حالتين قدموا فيهما الأنثى على الذكر، وهذا من نفائس العلم: الأولى: فإذا ثنوا الضبع، فيقدمون الأنثى على الذكر؛ لأن الضبع اسم للأنثى، والذكر يقال له: ضبعان، فإذا ثنو على اسم الذكر اجتمعت الألف والنون مرتين، فاسمه ضبعان وهو فرد، فكيف إذا ثني؟! فتحرجوا من هذا التكرار، ولجئوا إلى تثنيته على اسم الأنثى، فقالوا: ضبعان ويقصدون الذكر والأنثى، فاختاروا اسم الأنثى، ولم يختاروا اسم الذكر، فاختل هنا نظم كلامهم في أنهم يقدمون الذكر على الأنثى.
الحالة الثانية: في التاريخ، فإنهم يقدمون ويؤرخون بالليلة دون اليوم؛ لأن الليلة تسبق اليوم.
هذا ما تحرر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(30/11)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [65 - 66]
لقد بين الله تعالى في كتابه الكريم عظيم قدرته على هلاك الأمم وعذابها، ولذا أشفق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من ذلك، فدعا الله تعالى ألا يصيب أمته بعذاب استئصال فأجابه، ومنع الله تعالى إجابته في دعوته بألا يصيب الله أمته بعذاب إذاقة بعضهم بأس بعض، فوقع في الأمة أحداث قتل عظيمة ولا زالت تقع إلى يومنا هذا.
كما بين تعالى في كتابه الكريم موقف كفار قريش مما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم وهو التكذيب، آمراً نبيه بأن يعلن أنه ليس عليه إلا البلاغ، وعلى الله الحساب.(31/1)
تفسير قوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو الدرس الثاني عشر في تأملات في سورة الأنعام؛ إلا أن الأحد عشر درساً التي مضت كنا نتوخى فيها ترتيب الآيات في السورة، أي: أننا نعرج على جميع الآيات دون استثناء.
أما في هذه المرحلة من التأملات فإنه قد تبين لنا مما سلف أن السورة تعنى بالجانب العقدي، وأن التوحيد أصل عظيم فيها كما هو أصل الدين، وعلى هذا فإننا سنختار بعض الآيات التي سنتأمل فيها ولا نلتزم الترتيب في عرضها، والآيات التي سيكون فيها درسنا -بإذن الله تعالى- هي قول الله جل وعلا: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:65 - 66].
وينبغي أن تعلم أن لله جل وعلا قضاء كونياً قدرياً، وقضاء شرعياً، وقد يجتمعان في آن واحد، ولكن لا يلزم اجتماعهما.(31/2)
ذكر مناسبة الآية لما قبلها
ومناسبة الآية لما قبلها أن الله جل وعلا ذكر في الآيتين السابقتين لطفه وكشفه لكربات من يسأله فقال: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام:64]، فلما ذكر الله لطفه ذكر الله هنا عظيم قدرته.(31/3)
ذكر صنيع النبي صلى الله عليه وسلم عند تلاوة جبريل الآية عليه
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ عليه جبريل هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قال: (أعوذ بوجهه) أي: استعاذ بوجه الله جل وعلا من هذا، ثم تلا جبريل: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، فقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهه) ثم تلا جبريل يكمل الآية: ((أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ))، فلم يجر الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ كما استعاذ في الأوليين، وإنما قال: (هاتان أهون وأيسر)، وذلك لأن الأولى كانت تتكلم عن عذاب استئصال بالكلية، أي: لا يبقي على الأمة، وأما الثالثة فليست من عذاب الاستئصال، ثم إن الله جل وعلا كتبها في الأزل، فستجري لأن الله كتبها، فما كان الله ليمنعها لدعوة أحد كائناً من كان، ولو كان الداعي نبينا صلى الله عليه وسلم.(31/4)
ذكر ما منع النبي صلى الله عليه وسلم إجابته من دعوته لأمته
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح وغيره- أنه قدم من عالية المدينة حتى أتى مسجد بني معاوية، ومسجد بني معاوية هو المعروف اليوم بمسجد الإجابة في جهة شمال غرب الحرم تقريباً، وهو إلى الشمال أقرب منه إلى الغرب، بجوار مستشفى يسمى مستشفى الأنصار، وهو مبني على طراز حديث، ويعرف عند الناس بمسجد الإجابة.
وبنو معاوية بطن من الأوس، وكان أكثر البطون من الأوس والخزرج لهم مساجد، فالنبي صلى الله عليه وسلم دخل هذا المسجد ودخل معه أصحابه، فصلى صلاة طويلة، ثم دعا دعاء طويلاً ثم انصرف إلى الناس بوجهه وقال: (إني سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت الله ألا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها، وسألت الله ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألت الله ألا يذيق بعضها بأس بعض فمنعنيها)، فانظر كيف أن الله جل وعلا منع نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة ليجري قدره، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد الحدب والشفقة على الأمة، والله جل وعلا أجرى هذا الأمر لحكمة، فالله جل وعلا حكيم عليم، وهو أرحم بنا من نبينا صلى الله عليه وسلم، ونبينا رحمته من رحمة الله بنا، ولكن علم الله أعظم وأجل من علم نبيه صلى الله عليه وسلم، بل لا علم له صلى الله عليه وسلم إلا ما علمه الله، والنبي عليه الصلاة والسلام في تربيته لأمته يتوخى أسلوب الوضوح، ولهذا قال: (فمنعنيها)، ولم يدر بخلده عليه الصلاة والسلام أن الناس سيتكلمون في منع الله جل وعلا نبيه دعوةً؛ لأنه عليه الصلاة والسلام عبد لربه جل وعلا، فهو عبد الله ورسوله، يبلغ دعوة ربه كما أتته، قالت عائشة رضي الله عنها وأرضاها: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم مخفياً شيئاً من القرآن لأخفى قول الله جل وعلا: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37]، وهذا عتاب من الله لنبيه لاتباعه خلاف الأولى، ومع ذلك تلاه صلى الله عليه وسلم على الناس، ومكث شهراً لا ينزل عليه الوحي في أمر عائشة، فلم يستطع أن يدلي بدلوه في إثبات براءتها أو تهمتها حتى نزل الوحي من السماء: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11]، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة وبلغ الرسالة على الوجه الأتم والنحو الأكمل.(31/5)
بيان عظيم قدرة الله تعالى
فالله جل وعلا كما بين لطفه في الآية التي سلفت بين هنا عظيم قدرته فقال: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] كالرجم، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65]، كالخسف والزلازل، ونحن لا نتكلم عن الخسف والزلازل المحدودة بمكان ما، وإنما نتكلم عن عذاب الاستئصال، كما أن الله تبارك وتعالى أهلك قوم نوح بالطوفان فكان استئصالاً، وأهلك قوم لوط بأن جعل قريتهم عاليها سافلها، فكان استئصالاً لهم.
وهذه الأمة هي آخر الأمم، فكان بدهياً أن الله جل وعلا يبقيها.(31/6)
بيان صور من إذاقة الله تعالى بعض الأمة بأس بعضها
والمهم من ذلك أنه بقيت الثالثة، وهي قوله تعالى: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] أي: يقع القتل في الأمة، وهذه مسألة منع الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤتاها رغم حرصه صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا جرى ما جرى في التاريخ الإسلامي منذ أن قتل عمر رضي الله تعالى عنه، فبدأت الأمة يذيق بعضها بأس بعضاً بدءاً من يوم الدار، فالذين تسوروا الدار مسلمون يدعون الإسلام، ولا يستطيع أحد أن يقول: إنهم كفار، رغم أنهم قتلوا عثمان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأصوب القول أن يقال: إن عثمان مات وهو أمير البررة، أي: المؤمنين، والذين قتلوه يصعب أن نقول: إنهم كفار، ولكن نقول: إنهم قتلة فجرة، فالذين قتلوه قتلة فجرة، فمن الصعب أن يقال: إنهم كفار، بل قيل: إن بعضهم كانت له صحبة، كـ عمرو بن الحمق.
ثم كان بعد قتل عثمان موقعة الجمل، لما اجتهدت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وخرجت من المدينة ومعها ركب من مكة حتى أتت العراق، فكانت المقتلة بين فريقين كلاهما مسلم.
ثم كانت موقعة صفين بين علي في أهل العراق ومعاوية في أهل الشام، وقتل فيها خلق كثير على رأسهم عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اهتدوا بهدي عمار)، ومع ذلك قتل رضي الله عنه وأرضاه، فليس قتله على يد فارس ولا الروم، ولا على يد اليهود والنصارى، وإنما على يد مسلمين؛ لأن الله قال: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65].
ثم جرت أحداث وأحداث، منها موقعة الحرة، سلط فيها يزيد بن معاوية على المدينة رجلاً يقال له: مسلم المري، وأهل المدينة آنذاك كان يسمونه مسرفاً، فتسور مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ودخلها من ناحية الشرق، وفعل الأفاعيل في أهلها، وقتل خلقاً كثيراً، ومنهم كثير من الصحابة، حتى إنهم دخلوا على أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأبو سعيد صحابي جليل معروف القدر، ومع ذلك أمسك ذلك الرجل بلحيته حتى كاد أن ينزعها كلها لا يعرف لـ أبي سعيد قدراً للجهل الذي فيه.
واستطراد تاريخ أهل الشام خارج عن الشأن، ويقال: إن فيهم ثلاثة أمور: شدة الطعن، وشدة الطاعة لمن يتولاهم، وفي بلدهم أمراض الطاعون، فأهل الشام في الغالب أكثر الناس طاعة للأمراء، ويقال: إنهم أشد الناس معصية للخالق، وهذه لا أتحملها، وإنما يقولها المؤرخون، ولكن فيهم سمع وطاعة عجيبة لمن يتولى أمرهم، ولذلك رضخوا لـ معاوية عشرين عاماً، في حين كان العراقيون يخالفون علياً بين الحين والآخر، رغم أن علياً أفضل من معاوية، وفي كل خير رضي الله عنهم أجمعين.
كما أن فيهم شدة الطعن، أي: في الحرب والقتال، وفي بلادهم تكثر الطواعين، كطاعون عمواس الذي مات فيه كثير من الصحابة، ومنهم أبو عبيدة ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما.
والذي يعنينا هنا أن أهل الشام لما دخلوا المدينة كانوا أشد الناس سمعاً لأمرائهم، فكانوا يفعلون ما يقول لهم الأمراء، ولم يرفع الأذان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، فهذا كله لقول الله جل وعلا: ((وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)).
ثم كانت دولة بني العباس، وفي أولها دخل عبد الله بن علي عم أبي جعفر المنصور على دمشق حاضرة بني أمية، فقتل في ضحى ذلك اليوم أكثر من أربعين ألفاً كلهم مسلمون، والقاتل مسلم، وأسس دولة للإسلام، وهذا كله تحقيق للأمر القدري الذي منع الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤتيه إياه.
وعلى هذا لو قرأت تاريخنا المعاصر ستجد في آخره ما وقع بين فتح وحماس، وكلهم مسلمون، وقبل ذلك ما سمي بأحداث أيلول الأسود التي وقعت في الأردن بين الفلسطينيين والأردنيين، وقبله ما حصل بين العراق والكويت، وهم في الجملة مسلمون، فهذه كلها أحداث تبين لك أن الله جل وعلا قضى قضاء، وقد قال لنبيه: (إنني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد)، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم عاقبة هذا، فسأل ربه، ولكن الله جل وعلا منعه لحكمة أرادها جل وعلا، وهو العليم الخبير والعزيز الحكيم جل جلاله.
والمقصود: أن هذه الإطلالة التاريخية تعين طالب العلم على فهم هذه الآيات، وعلى فهم أن لله جل وعلا سنناً لا تتبدل، وصبغة لا تتغير، والناظر في التاريخ والمتأمل فيه يكون أقدر من غيره على نفع الناس وعلى قيادتهم وعلى توجيههم؛ لأنه من تلك الأحداث والأيام والليالي والصروف يستلهم الإنسان العظات والعبر، فيكون ما يوجه به أو يقرره أو يرشد به أو ينصح به متوافقاً في الغالب مع الوجهة الحقيقة؛ لأن هذه ثروات يجب اكتنازها، وموروثات يجب الاطلاع عليها، وهذا أمر مستفيض يطول ذكله، ولكنني اقتبست منه بعضاً، وأنا أتكلم عن قول الله جل وعلا: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65].(31/7)
بيان معنى قوله تعالى (أو يلبسكم شيعاً)
وقوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام:65] الشيعة في الأصل: كل قوم اجتمعوا على أمر، ولكنها في المصطلح العام أصبحت تطلق على كل من يوالي علياً رضي الله تعالى عنه وأرضاه وآل بيته موالاة غير شرعية، فالذين والوا علياً وآل بيته موالاة غير شرعية يطلق عليهم الشيعة من باب الاصطلاح.
ولكن الشيعة في اللغة: كل قوم اجتمعوا على أمر ما، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] في آخر سورة الأنعام كما سيأتي.
والذي يعنينا هنا أن قول الله جل وعلا: ((أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا)) أي: يخلط بعضكم ببعض خلط اختلاف وافتراق واضطراب لا خلط اتفاق، فينجم عن ذلك أن تكونوا شيعاً، كما قال الله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32].(31/8)
موقف العاقل من سفك الدماء
فالعاقل هنا إذا استذكر هذا كله يعرف أن رفع السيف على أهل الإسلام من أعظم كبائر الذنوب، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه، ومن كمال نصح المسلم لدين الله ولرسوله ولكتابه وللأئمة المسلمين وعامتهم ألا يرفع سيفاً على الأمة، ولا يتجرأ على أن يتسبب في سفك دمائها، ولهذا كان عثمان رضي الله تعالى عنه مظلوماً، واجتمع الخوارج على داره، وهب كثير من الصحابة وأبناء الصحابة للدفاع عنه، ومع ذلك أمرهم بأن يتركوا الدار ويخلوا بينه وبين أعدائه خوفاً من أن يسفك دم بسببه رضي الله تعالى عنه وأرضاه؛ لعلمه أن سفك الدماء شيء شديد غلَّط الشرع فيه، فالعاقل يسمع ويطيع ولا يرغب عن جماعة المسلمين، ويكون فرداً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم.(31/9)
بيان معنى قوله تعالى (انظر كيف نصرف الآيات)
قال الله جل وعلا: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65].
قوله تعالى: ((نُصَرِّفُ الآيَاتِ)) أي: في القرآن، فيكون هناك تنويع في ذكرها بالانتقال بين الوعد والوعيد والأمر والنهي والترغيب والترهيب، كل ذلك لعله يكون سبباً في أن يفقهوا عن الله كلامه جل وعلا.(31/10)
تفسير قوله تعالى: (وكذب به قومك وهو الحق)
ثم قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:66].
قوله تعالى: ((قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)) أي: لا أملك جبركم على اعتقاد أن القرآن حق، فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس عليه إلا البلاغ، قال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7]، وقال تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ} [النحل:35].
وأما قوله تعالى: ((وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ)) فالأصل أنه ينصرف إلى القرشيين؛ لأن الآية المخاطب بها في المقام الأول كفار مكة، وإن كان كل من كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورد على الله قوله يدخل في قوله تعالى: ((وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ)).(31/11)
ذكر بعض ما ترشد إليه الآية الكريمة
فالآية ترشدنا من حيث الإجمال إلى أن الإنسان عليه أن يعلم أن هذا الكتاب المبين نور جعله الله جل وعلا في الأرض، وأن الإنسان حظه من العلم والفهم والإدراك والفوز بقدر حظه من القرآن، وينبغي أن يعلم أن إجلال القرآن ليس وقفاً على أهل القرآن وليس وقفاً على العلماء، بل على كل مسلم أن يجله.
فقد ذكروا أن أبا عثمان المازني كان نحوياً شهيراً في البصرة، فجاءه رجل عربي من أهل الذمة، أي: ليس بمسلم، بل نصراني، فأراد أن يتعلم كتاب سيبويه، وكان أبو عثمان ممن يحسن شرح كتاب سيبويه، وكان ذا فاقة وضيق وقلة ذات يد، فجاءه الذمي وكان موسراً، فقال: اشرح لي كتاب سيبويه، فرفض، فقال: أعطيك مائة دينار، وهو مبلغ عظيم آنذاك مع حاجة الرجل، فسأله أبو العباس المبرد أديب زمانه عن عدم قبوله ذلك، فقال: إن في كتاب سيبويه أكثر من ثلاثمائة آية، وإنني -والله- لم أُرِد أن أمكن ذمياً منها غيرة على كتاب الله وحمية له.
ثم إنه قدر أن الواثق الخليفة العباسي كان في مجلسه، فأنشدته إحدى جواريه بيتاً للعرجي وأوله: يا ظلوم إن مصابكم رجلاً فاختلف النحاة الموجودون عند الواثق في نصب كلمة رجل، وأصرت الجارية على إنشادها بالنصب، فلما سئلت قالت: إن أبا عثمان المازني أنشدني إياها هكذا.
فأمر الواثق بإشخاصه إليه، فأتي به من البصرة إلى بغداد، فلما وقف بين يدي الواثق أخذ الواثق يسأله، والقصة طويلة، وفيها عرف الواثق حذاقته، وأنه متمكن في اللغة فأعجب به، فقال له: عندما خرجت من البصرة هل تركت أولاداً؟ قال: نعم، بنية، فقال: ماذا قالت عندما خرجت، فأخبره بأنها تمثلت ببيت للأعشى يذكر فيه الوداع، فقال له الواثق: بماذا أجبتها؟ فقال: أجبتها ببيت جرير: ثقي بالله ليس له شريك ومن عند الخليفة بالنجاح فقال له الواثق: لقد وفقت، وأعطاه ألف دينار، فلما عاد إلى البصرة نادى أبا العباس المبرد الذي نصحه بأن يقبل المائة، فقال: انظر يا أبا العباس: رددنا لله مائة -أي: من أجل الله- فعوضنا الله ألف دينار.
أي: عوضه الله عشرة أضعافها.
ومن هذا تفقه أن المؤمن ينبغي عليه أن يعظم كلام ربه جل وعلا ويجله، ولا ينتظر شيئاً من الناس، فإنك إن أخلصت النية وأحسنت السريرة فإن الله جل وعلا أعلم بك، وربك يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120].
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله حول هاتين الآيتين المباركتين من سورة الأنعام.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(31/12)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [83 - 86]
يذكر الله تعالى في سورة الأنعام ما أفاء الله تعالى به من الفضل على إبراهيم عليه السلام، حيث وهبه الحجة في مقارعة قومه، ورفعه درجات، وجعل النبوة في ذريته، وذكر بعض أبنائه من الأنبياء، جامعاً لكل عدد منهم اختصه بمزية في آية، وخاتمهم هو ابنه نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وكفى به رفعة وشرفاً.(32/1)
علة إيراد قصة إبراهيم عليه السلام في سورة الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فما زلنا نتفيأ ظلال سورة الأنعام، والآيات التي سنتحدث عنها في هذا الدرس هي قول الله جل وعلا: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:83 - 86].
هذه الآيات من سورة الأنعام جاءت بعد قول الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام:74].
والسورة تتحدث عن التوحيد، وإبراهيم هو أعظم الموحدين، فالله تعالى نسب الملة إليه فقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، فكان بدهياً أن تتحدث السورة كثيراً عن إبراهيم.
وقد ذكرت الآيات قضية محاجة إبراهيم لأبيه آزر، ثم محاجته لقومه، وقوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام:81]، إلى أن قال إبراهيم عليه السلام وهو يحاج قومه ويثبت لهم التوحيد: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81].
وهنا نأتي إلى قضية أساسية، وهي أن إبراهيم لم يقل: فأينا أحق بالأمن بل قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} [الأنعام:81]، قال العلماء في بيان هذا: أراد إبراهيم أن يبين أن المقابلة مقابلة عامة تشمل كل موحد ومشرك، وليست محصورة في والذي فصل وحكم في أحق الفريقين بالأمن هو الله تعالى، حيث أنزل قوله: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) أي: بشرك {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
وهذا ما دفع القرطبي رحمه الله إلى أن يقول: إن هذه الآية أرجى آية في كلام الله؛ لأن الله أثبت فيها أن من مات على التوحيد ولم يشرك بالله شيئاً تكفل الله له بالأمن يوم القيامة، وبالهداية في الدنيا فقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].(32/2)
تفسير قوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه)
ثم قال الله جل وعلا: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام:83].
معنى: (وتلك حجتنا) أي: هذه الحجة الدامغة المظهرة للحق المضيعة للباطل إنما آتاها الله جل وعلا إبراهيم.
ثم ذكر تعالى ما وهبه لإبراهيم من الأنبياء من ذريته، والمذكورون هنا ثمانية عشر نبياً، وفي القرآن خمسة وعشرون نبياً، منهم سبعة في غير هذه الآية نظمهم الشاعر فقال: في تلك حجتنا منهم ثمانية من بعد عشر ويبقى سبعة وهم إدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ففي القرآن خمسة وعشرون نبياً ورسولاً، منهم ثمانية عشر مذكورون في سورة الأنعام في آية: (تلك حجتنا)، وسبعة في مواطن متفرقة، كما أن هؤلاء الثمانية عشر ذكروا كذلك في آيات أخر.(32/3)
تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب)
قال الله جل وعلا: {وَوَهَبْنَا لَهُ} [الأنعام:84] أي: لإبراهيم ((إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)) ولم يذكر الله هنا إسماعيل ((كُلًّا هَدَيْنَا)) أي: إسحاق ويعقوب {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:84] ونوح ليس من ذرية إبراهيم، وإنما هو جد لهم، فأراد الله أن يبين أنه أعطى إبراهيم شرف الأجداد وكرم الأبناء، وأكرم أبنائه نبينا صلى الله عليه وسلم، ونبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم مع أنه منه عليه الصلاة والسلام.
وأحياناً تفتخر القبيلة كلها بواحد، يقول ابن الرومي -وهو شاعر عاش في عصر بني العباس- وكان رجلاً يتقلد الشؤم ويتطير-: كما علت برسول الله عدنان فعدنان عزها هو كون النبي صلى الله عليه وسلم منها، ولذلك يقال: النبي الهاشمي العدناني.(32/4)
بيان مرجع الضمير في قوله تعالى (ومن ذريته)
قال تعالى: ((كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ)) يحتمل أن يعود الضمير إلى إبراهيم ويحتمل أن يعود إلى نوح، فالذين قالوا: هو عائد على إبراهيم قالوا: إن الكلام عن إبراهيم، وما قول الله جل وعلا: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:84] إلا جملة اعتراضية.
والذين قالوا: إن الضمير يعود على نوح قالوا: دليل ذلك الصناعة النحوية، وذلك أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو نوح، واحتجوا كذلك بأن الله جل وعلا ذكر لوطاً، ولوط ليس من ذرية إبراهيم؛ لأنه ابن أخيه.
فأجاب الأولون فقالوا: إن كون لوط ابن أخ له لا يمنع أنه ابن له، فإن الله سمى في كتابه العم أباً، قال الله جل وعلا: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:133]، ومعلوم أن القائلين هنا هم أبناء يعقوب، وإسماعيل عم ليعقوب؛ لأن أباه إسحاق، فسمى الله العم أبا في كتابه العظيم، وهذه حجة من قال: إن الضمير يعود على إبراهيم.
ولا يوجد مرجح نجزم به في الآية، فالآية تحتمل هذا وتحتمل هذا، وإن كان أكثر العلماء على أنها عائدة على إبراهيم باعتبار أن السياق يتحدث عن إبراهيم.(32/5)
ذكر أوجه تصنيف الأنبياء في الآيات
ونلحظ في الآيات أن الله ذكرهم على ثلاث مراتب، والآيات لم تقصد الترتيب الزمني قطعاً، فقد قال الله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا} [الأنعام:86]، وقبله قال: {وَعِيسَى} [الأنعام:85]، ومعلوم أن عيسى بعد لوط.
إذاً: لم تعن الآيات بالترتيب التاريخي، ولم تعن الآيات بترتيب الفضل ومنازلهم؛ لأن الله جل وعلا ذكر داود وسليمان ثم ذكر عيسى، وعيسى أفضل من داود وسليمان؛ لأنه من أولي العزم من الرسل، فإما أن يقال: إن الآية لم يكن يقصد منها التصنيف، وإما أن يقال: يقصد منها تصنيف تاريخي، وقد نفيناه، أو تصنيف حسب الفضل، وقد نفيناه.
فإن قال قائل: يقصد منها التصنيف فلابد من أن يقول لنا: على أي شيء صنفت.
والأظهر -والعلم عند الله- أنها صنفت على القياس التالي: فالله يقول عن المجموعة الأولى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} [الأنعام:84]، فهؤلاء الخمسة يجمعهم شيء واحد، وهو أن الله أعطاهم سيادة في الدنيا، فداود وسليمان كانا حاكمين، وموسى وهارون كانا حاكمين لبني إسرائيل، وأيوب كان مريضاً مبتلى ثم أصبح غنياً مطاعاً، قال الله: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الأنبياء:84]، انتهى به الأمر إلى الثراء، وجاء في الحديث: أن الله أنزل عليه رجل جراد من ذهب، فهؤلاء أعطوا حظاً كبيراً من الدنيا.
ثم قال الله بعدها: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام:85]، وهؤلاء يجمعهم الزهد وترك الدنيا، والانقطاع التام إلى الله، والانقطاع التام إلى الله حاصل في كل الأنبياء، ولكن هؤلاء لا يعرف عنهم ثراء، ولا يعرف عنهم جاه باعتبار الأمر والنهي والقضاء بين الناس.
ثم قال الله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:86]، فهؤلاء ليسو معدودين فيمن أوتي حكماً وسلطاناً وليسو معدودين في الزهاد من الأنبياء الذين انقطعوا، فجاءوا في المرحلة الوسطى، ولهذا أفرد الله ذكرهم فقال: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:86].
إذاً: أصبح التقسيم بحسب ما أفاء الله جل وعلا به عليهم وما خصهم به، وليس بقضية الفضل ولا بقضية التأريخ، وهذا التقسيم ارتضاه المراغي في تفسيره، وهو تقسيم جيد، والعلم عند الله.(32/6)
حكم عد ابن البنت ابناً
وهنا مسألة، وهي أن الله جل وعلا قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} [الأنعام:84] أي: إبراهيم، وذكر منهم عيسى ابن مريم، ومعلوم أن عيسى ابن مريم ابن بنت وليسب ابن ابن.
وعلى هذا تتحرر مسألة، وهي هل ابن البنت يعد ابناً أو لا يعد ابنا؟ أما كونه يعد ابناً من حيث العموم فهذا ظاهر دلت عليه الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن بن علي: (إن ابني هذا سيد).
وتظهر فائدة الخلاف في مسائل الوقف، فلو أوقف موص مالاً على أبنائه، فهل يدخل ابن البنت أو لا؟ والفصل هنا عند القضاء، فطائفة من العلماء قالت بدخوله، وطائفة من العلماء لم تقل بدخوله، وقد قيل: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد هذا كلام العرب، يقول أحدهم: الابن الحقيقي هو ابن ابني، أما ابن بنتي فليس ابناً لي، بل هو ابن رجل بعيد، فأبناؤنا الحقيقيون هم بنو أبنائنا، وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد.
ليسوا أبنائي واضح؟ مع أن المرأة تقرب -كما هو معلوم- لكن من حيث العموم هؤلاء قوم يقولون: إن ابن البنت لا يسمى ابناً، وفصل الخطاب في هذه القضايا في المحاكم الشرعية بحسب ما تختار من فتوى، ولكننا نحرر هنا أن الآية لما ذكر فيها ابن مريم عليه السلام ذكر فيها قول الله جل وعلا: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} [الأنعام:84]، فهو من ذرية إبراهيم رغم أنه ابن بنت.(32/7)
أقسام المخلوقين من الآدميين
فالله جل وعلا خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من آدم، وخلقنا من أب وأم، وخلق عيسى من أم من غير أب.
ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كان له ابن اسمه عبيد الله بن عمر، فجاءته ذات يوم امرأة تقول له: إن زوجي لا يطعمني ولا يكسوني، فقال: ومن زوجك؟ قالت: أبو عيسى، فقال مازحاً: سبحان اللهَ! وهل لعيسى أب؟! ثم قال لها: من زوجك؟ قالت: ابنك عبيد الله.
فغضب، وأرسل أسلم غلامه، وقال: اذهب إليه وقل له: إن أباك يريدك، فذهب أسلم إلى عبيد الله بن عمر فوجده يتغدى على دجاجة وديك هندي، فقال له: إن أباك يريدك، وكان عمر إذا بعث أحداً إلى أحد أبنائه يقول له: لا تقل له ما يريدك له أبوك حتى لا يلقنه الشيطان كذبه، فإذا عرف ما يريد منه أبوه بيت ما يجيب، ولكنه إذا قدم بين يدي أبيه وسأله أبوه فجأة لا يستطيع أن يحتال لنفسه، ولكن عبيد الله فطن لها، فقال لـ أسلم أخبرني، فقال: إن أمير المؤمنين منعني.
فقال: أعطيك الدجاجة والديك.
فطمع أسلم وهو يومئذٍ غلام فيهم، فقال: على ألا تخبر أمير المؤمنين.
فقال: على ألا أخبر أمير المؤمنين.
فأخبره بالقصة، وهي أن زوجته جاءت تشتكي إلى عمر، فعاد أسلم إلى عمر، فسأله عمر: أوجدته؟ قال: نعم، ففطن عمر لكون أسلم أخبر عبيد الله، فقال: أخبرته؟ فمن هيبة عمر لم يستطع أسلم أن ينفي، فقال: نعم يا أمير المؤمنين.
فقال: أرشاك؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين، فضربه بالدرة، ثم لما قدم إليه ابنه عبيد الله عاتبه عمر وقال له: تتكنى بـ أبي عيسى، وهل لعيسى أب؟! وذلك لأن الله سماه عيسى ابن مريم، فالكنية هنا غير ملائمة.(32/8)
فضل الأنبياء على سائر المخلوقات
وأنبياء الله جل وعلا هم سادة الخلق، والذروة في الناس، وهم أفضل الخلق أجمعين، والدليل على ذلك أن الله جل وعلا قال: ((وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا)) يعني: ممن تلي ذكرهم {فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:86]، وكلمة (العالمين) تطلق على كل أحد سوى الله جل جلاله.
فأنبياء الله جل وعلا هم في الذروة من الخلق، وأفضل من الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(32/9)
الصلة بين اليهود والعرب
وقد ذكر الله جل وعلا إسحاق، وذكر إسماعيل، وإسحاق عليه الصلاة والسلام أخ لإسماعيل، وبين إسماعيل وإسحاق يدور الخلاف حول الذبيح؛ والاتفاق قائم على أن الذبيح ابن لإبراهيم، ولكن هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ وفي المسألة خلاف مشهور، ولا نريد أن نرجح.
ومن ذرية إسحاق جاء يعقوب عليه الصلاة والسلام، ويعقوب هو المسمى في القرآن إسرائيل، وبنو إسرائيل أبناء ليعقوب، وهم أبناء لإسحاق، وإسحاق أخ لإسماعيل، والعرب من ذرية إسماعيل، وفي الحديث: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً).
وبذا أصبح اليهود والعرب أبناء عمومة؛ لأن إسحاق عليه السلام كان أخاً لإسماعيل على الخلاف في أيهما الذبيح، وهذا لا يعنينا هنا.(32/10)
الملوك من الأنبياء
وممن ذكر الله جل وعلا هنا: داود وسليمان، وهذان نبيان صالحان من أنبياء بني إسرائيل، وسليمان ورث عن أبيه الملك والنبوة كما هو ظاهر.
وذكر تعالى أيوب ويوسف وموسى وهارون، ويوسف عليه الصلاة والسلام وصل إلى مرتبة الوزارة، ولكنه وصل بخلاف وصول داود وسليمان، فقد وصل إليها بعد ابتلاء، وحلقات دامية من العناء، حتى أجلسه الله جل وعلا على الكرسي فاشتاق إلى ربه فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:101].
وبقي أن نختم بفائدة، وهي أن إخوة يوسف صنعوا بيوسف ما صنعوا ثم استعطفوه فقالوا: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91]، ومع ما صنعوه معه عفا عنهم، فإذا كانت هذه رحمة يوسف بمن صنع معه ذلك، فكيف برحمة من خلق يوسف؟! فالذل والانكسار والاعتراف لله بالتوحيد والإذعان لله جل وعلا مع الاستغفار باب عظيم لنيل رحمته تبارك وتعالى، قال الله جل وعلا عن نبيه الصالح: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46]، فنستغفر الله ونتوب إليه.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعاننا الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(32/11)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [121]
من الأحكام التشريعية التي تضمنتها سورة الأنعام نهي الله تعالى عن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه، وللفقهاء مذاهب في اشتراط التسمية حال التذكية، كما تضمنت السورة بيان ما ألقاه كفرة الفرس على كفرة مكة حول تحريم أكل الميتة، وإذ إن ذلك إنما هو من صنيع الشياطين الذي توحي به إلى أوليائها.(33/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فما زلنا نتفيأ ظلال سورة الأنعام، وكنا قد بينا أن لنا سنناً جديداً في التأمل فيها، فسنتعرض للآيات فرادى أو مثنى، وندع التوخي الفردي للآيات المتتابعة محاولة للوصول إلى أكثر معاني هذه السورة المباركة.
والآية التي نحن بصدد التأمل فيها في هذا الدرس المبارك هي قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، فنعوذ بالله من الشرك.
ومن الآية يظهر أن هناك إطلالتين تفرضان نفسيهما علينا ونحن نتأمل: الإطلالة الفقهية والإطلالة التاريخية، أما الإطلالة الفقهية فهي ضرب لازم؛ لأننا نتحدث عن حلال وحرام؛ لأن الله قال: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] و (لا) هنا ناهية بالاتفاق، و (تأكلوا) فعل مضارع مجزوم بحذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والأفعال الخمسة سميت بذلك؛ لأنها تأتي على خمس صيغ: (تفعلان، ويفعلان، وتفعلون ويفعلون، وتفعلين)، وهذا كله استطراد.
والآية صريحة في النهي عن أكل ما لم يسم الله جل وعلا عليه عند ذبحه وتذكيته، حيث يقول تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، وذيلت تذييلاً مبدئياً بقول الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121].(33/2)
ذكر خلاف العلماء في حكم التسمية عند التذكية
واختلف العلماء رحمة الله تعالى عليهم في اشتراط التسمية عند التذكية على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن التسمية شرط في التذكية؛ لأن الله جل وعلا قال: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118]، وقال هنا: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، وهذا القول ينسب إلى الجمهور، وهم يقولون: إن تارك التسمية -أي: الذابح التارك للتسمية- لا يجوز أكل ذبيحته، سواء أترك التسمية عمداً أم نسياناً، فالإنسان إذا لم يذكر اسم الله -سواء كان عامداً أم ناسياً- تدخل ذبيحته في قول الله جل وعلا: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، وهذا مروي عن أكابر السلف وكثير من الصحابة.
والقول الثاني هو قول الشافعي رحمه الله، والشافعي أحد الأئمة الأربعة، وكان موصوفاً بالذكاء، وإليه ينسب تأسيس علم أصول الفقه، فـ الشافعي رحمه الله تعالى حمل هذه الآية على ما ذبح وأهل به لغير الله، ورأى أن التسمية عند التذكية مستحبة وليست شرطاً، وما دام قد جعلها مستحبة فالتارك لها عمداً أو سهواً يجوز أكل ذبيحته، فمن تركها عند الشافعي عمداً أو سهواً جاز أكل ذبيحته؛ لأنه يرى -رحمه الله- ومن وافقه من أصحابه أن التسمية مستحبة وليست شرطاً كما فهمها الأولون.
والأولون لهم أدلة، منها حديث عدي بن حاتم وغيره، وإذا كان القرآن قد نص على المسألة فلا حاجة إلى ذكر كثير من الأحاديث، ولكن الأحاديث الواردة تعضد القول الأول.
وقول الإمام الشافعي هو بعده عن أحمد رحمه الله تعالى ذكرها عنه حنبل، وأنت تعلم أن الإمام أحمد متأخر زمناً قليلاً عن الشافعي، ولكن أحمد رحمه الله أدرك الشافعي، كما أنه رواية عن مالك، نص عليها أشهب بن عبد العزيز أحد أئمة المذهب المالكي.
القول الثالث: هو قول أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه وأصحابه، وهذا القول كذلك مروي عن أكابر الصحابة، وهو أنه إن تركها عمداً فذبيحته لا تحل، وإن تركها نسياناً فنسيانه لا يضر.
وقول أبي حنيفة هذا يميل إليه أكثر المتأخرين؛ لأنه يجمع بين الآيات وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وعموم قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، فيمكن الاستشهاد بالآية والحديث لقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وبعض الفقهاء له تفريق جيد، فيقول: ننظر في الذبيحة، فإن كانت الذبيحة ذبيحة صيد، فنسي أن يسمي، فإنه لا يؤكل منها، وإن نسي وهي ذبيحة غير صيد، فذكاها تذكية شرعية؛ فإنه يؤكل منها.
ووجه التفريق عنده: أن الذبيحة من غير الصيد حصلت فيها الذكاة الشرعية من أولها.
أما الصيد فلم يذك في أول الأمر ذكاة شرعية، فقد يكون صيد عن طريق جارحة، وقد يكون عن طريق رصاص كما في عصرنا الحاضر.
والمقصود أنه يقول: إذا لم يسمّ اجتمع فيها أنه لم يكن أصلها ذكاة شرعية، وفي نفس الوقت تركت التسمية، فمن باب أولى أن يترك، وللنص الوارد في حديث عدي بن حاتم: (إذا أطلقت كلبك فصد وسم الله وكل)، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي وغيره التسمية.
والذي ينبغي على طالب العلم أن يفهم أن النصوص في الغالب واحدة، ولكن طرائق فهمها والاستنباط منها تختلف، والله جل وعلا ما جعل العقول على سنن واحد، وما جمع الناس في عقولهم على شيء واحد، وهناك مثل عند العامة، حيث يقولون: (إن الناس في رزقهم كلهم معترضون)، فكل واحد يرى أنه فقير، فيريد زيادة، (وفي العقول أغلبهم راضون بعقولهم) والذي يعنينا هنا: أن العلماء رحمة الله تعالى عليهم أرادوا خيراً، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم في جملتها أمة خير، فكيف بعلمائها، ولكن لهم طرائق في الاستنباط، وقد يعطى إنسان حظاً من فهم في مسألة لا يعطاه آخرون، وقد قال الله جل وعلا في نبيين كريمين: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79].
فمثل هذه المسائل لا إنكار فيها باختلاف الأكابر من صالح الأسلاف فيها، فلا ينكر أحد على أحد، لكن الإنسان يحاول أن يستبصر أدلة كل فريق ويحاول أن يفقه النظرة التي يعتمدها الإمام زيد دون الإمام عمرو في الوصول إلى المسائل، وكيف يجمع بين هذا وهذا.
قال الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]، وبعض الفقهاء أراد أن يقول بصحة مذهب الشافعي، فجعل الواو هنا واو حال، وقال: إنه لا يصح مطلقاً أن تكون الواو واو عطف، فقال هذا لأننا لو قلنا: إن الواو هنا حالية لأصبح المعنى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] حال كونه فسقاً أهل لغير الله به، فيكون المقصود ما يذبح للأوثان، وما يذبح لغير الله، فهذا المحتج قال في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121]: لا يصلح أن تكون الواو عاطفة قولاً واحداً، واحتج بأن الآية طلبية؛ لأن قول الله جل وعلا: {وَلا تَأْكُلُوا} [الأنعام:121] طلب، وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121] ليس بطلب، بل هذه جملة خبرية، فقال: إن الجملة الخبرية لا تعطف أبداً على الجملة الطلبية.
ويحتج عليه بالآية التي بعدها، فإن الله جل وعلا قال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121]، وهو يقول عن هذه الجملة: إنها معطوفة، فوقع في نقيض قوله؛ لأنا متفقون على أن جملة: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121] خبرية، ومتفقون على أنها لا يمكن أن تكون حالاً، فالاستدلال هنا بالطريقة النحوية طريقة غير صحيحة.(33/3)
بيان فضل التسمية
والذي يعنينا قول الله جل وعلا: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، وهذا يبين لك فضيلة وبركة ذكر اسم الله على الأشياء، بصرف النظر عن وجوب التسمية أو عدم وجوب، وقد قال صلى الله عليه وسلم لما ذكر حديث البطاقة: (ولا يثقل مع اسم الله شيء).
وقال عليه الصلاة والسلام لـ عمرو بن سلمة: (سمِّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك)، وعمرو بن سلمة هو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أمه أم سلمة، والمقصود أن التسمية بركة وشيء عظيم جليل.(33/4)
بيان معنى قوله تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم)
ثم قال الله جل وعلا: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
الآيات التي سلفت في سورة الأنعام -وهي سورة مكية- حرمت الميتة، وأوجبت التذكية وذكر اسم الله، ولما علم بعض الكفار في فارس -حيث كان العرب يترددون على العراق- قالوا لكفار قريش: جادلوا محمداً وقولوا له: ما ذبحته أنت وأصحابك وقتلتموه حلال، وما قتله الله غير حلال؟! يعنون أن الميتة إذا ماتت فقد قتلها الله، فقالوا: كيف يكون ما قتله الله حراماً، وما قتلته أنت وأصحابك حلالاً؟! فهذا أمر نسبه الله جل وعلا إلى الشياطين، فقد يكون المراد شياطين الإنس وقد يكون المراد شياطين الجن، ولكنه أُلقِمَه القرشيون ليحاجوا به النبي صلى الله عليه وسلم.
والجواب عنه ظاهر، وهو أن ما قتلناه بأيدينا ذكرنا اسم الله عليه، وما قتل رغم أنفه ومات رغم أنفه لم يذكر اسم الله عليه، فالذي سوغ الأكل ليست قضية الموت وكيفيته، وإنما سوغ الأكل أن ذلك ذبح وذكر عليه اسم الله، وذلك لم يذكر عليه اسم الله، فالفاصل والفارق هو ذكر اسم الله.(33/5)
ذكر استدلال ابن عباس بالآية رداً على كذب المختار بن أبي عبيد
ويروى أن ابن عباس حبر الأمة رضي الله تعالى عنهما جاءه رجل بعد مقتل الحسين، وبعد مقتل الحسين حدث في الأمة فتن، لأن قتل الحسين ليس بالشيء اليسير، بل هو أمر جلل وخطب عظيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجل الحسين إجلالاً عظيماً، وقطع خطبته من أجل الحسن والحسين، ومع ذلك قتل الحسين ظلماً وعدواناً بلا شك.
جاءوا برأسك يا ابن بنت محمد متزملاً في دمائه تزميلا فكأنما بك يا ابن بنت محمد قتلوا جهاراً عامدين رسولاً قتلوك عطشاناً ولم يترقبوا في قتلك التنزيل والتأويلا ويكبرون بأن قتلت وإنما قتلوا بك التكبير والتهليلا وعندما تأتي مظلمة يتسلق في الحدث عشرات الناس، هذا يريد الحق، وهذا يريد الباطل.
فجاء رجل اسمه المختار بن أبي عبيد الثقفي، وأوهم الناس بأنه يدافع عن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ينتقم لقتلة الحسين، وما زال يشيع ذلك في الناس حتى زعم أنه يوحى إليه، حتى زاره بعض الناس وكان عنده وسادة، فكان ينظر إليه يريد أن يرمي له بالوسادة، فقال: والله لولا أن جبريل قام من عليها لأعطيتك إياها! يعني: أنها طاهرة مقدسة لا تصلح إلا للأنبياء.
فجاء رجل إلى ابن عباس وقال له: إن المختار بن أبي عبيد يزعم أنه يوحى إليه! فقال: صدق، فانتفض الرجل، فقال: أقول لك: إن المختار بن أبي عبيد يزعم أنه يأتيه الوحي؟! قال: صدق! الوحي -يا بني- وحيان: وحي رحمن ووحي شيطان، فوحي الرحمن على محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه من النبيين، ووحي الشيطان على المختار بن أبي عبيد وأمثاله، ثم تلا ما نحن فيه: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121].
فهذه الآية: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121]، يحفظها كل من يحفظ سورة الأنعام، فـ ابن عباس حين قال له الرجل: إن المختار بن أبي عبيد الثقفي يزعم أنه يوحى إليه استحضر الآية مباشرة، وأجاب، فلما نفر الرجل وتعجب هدأ ابن عباس من روعه بالقرآن؛ لأن ابن عباس حبر الأمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد دعا له، فتلا الآية ليسكن الرجل ويقتنع بكلامه.
فالله تعالى يقول: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، وذلك لأنهم ذكروا قضية تحليل وتحريم سيأتي بيانها إن شاء الله في درس آخر.
وطاعة الناس في قضايا تحليل وتحريم إشراك بالله جل وعلا، فالتحليل والتحريم ليس لأحد غير الله.
فالمقصود أن المختار بن أبي عبيد فتن الناس في زمنه، وكان متزوجاً بنت النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله تعالى عنه، ثم إن مصعب بن الزبير لما هزم المختار بن أبي عبيد جاء إلى بيته فأمّن أهله ثم قتله، وكان ممن قُتل بنت النعمان بن بشير زوجة المختار بن أبي عبيد، ثم قُدر أن رجلاً يأتي فيقتل مصعب بن الزبير ويحمل رأسه إلى عبد الملك بن مروان، وعبد الملك بن مروان كان خليفة، وهناك أناس يتاجرون في الأحداث.
فعندما قتل مصعب بن الزبير جاء رجل وحمل رأس مصعب بن الزبير وقدمه هدية لـ عبد الملك بن مروان، وكان مصعب بن الزبير بالنسبة له خصماً ينافسه في الملك، فلما رأى رأس مصعب خر ساجداً، لأنه يبحث عن ملك.
وهذا الذي قتل مصعباً ما قتله حباً في عبد الملك بن مروان، فلما سجد عبد الملك بن مروان جاء في باله أن يقتل عبد الملك بن مروان، ليقول الناس: إنه قتل ملكي العرب في يوم واحد.
أفألقيتها في النار بكر بن وائل وألحقت من قد خر شكراً بصاحبه يعني: ألحقت هذا الذي يسجد بصاحبه الأول، فقام عبد الملك بن مروان من سجوده قبل أن يعزم هذا على ما خطر بباله.
والمقصود أن الفتنة إذا جاءت يأتي معها أناس كثيرون، فهذا يريد الإصلاح، وهذا يريد أن يتكسب، وهذا يريد أن ينتفع، وهذا لا يدري أين يرمي الله به.
فالعاقل لا يقبل أن يكون كلما ارتفعت راية متحمساً لها جارياً وراءها.
ولست مقاتلاً رجلاً يصلي على سلطان آخر من قريش له سلطانه وعليّ إثمي معاذ الله من جهل وطيش وإذا أراد الله بعبد خيراً علمه السكينة والروية وتدبر القرآن، جعلني والله وإياكم من أهل ذلك.
هذا ما تهيأ إيراده، وأعاننا الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(33/6)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [141 - 142]
يرد الله تعالى في كتابه الكريم على المشركين في تشريعهم ما لم يأذن به الله في شأن بهيمة الأنعام ببيانه تعالى تفرده بخلق الأشجار المختلفة المتنوعة، وإذا كان كذلك فإنه لا يحق لغيره أن يشرع، وفي معرض بيان ذلك يمتن الله تعالى على عباده بخلق تلك الأشجار وإيجادها لهم ليأكلوا منها، ثم يشكروا نعمة الله عليهم بأداء ما أوجب الله في ثمارها عند الحصاد.
كما امتن تعالى على عباده تسخيره الأنعام للركوب والأكل والاحتلاب، ناهياً لهم عن اتباع خطوات الشيطان، ومنها سلوك مسلك التشريع والقول على الله بغير علم.(34/1)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار أهل التقوى، وصلى الله على محمد وعلى آله.
أما بعد: فما زلنا نتفيأ ظلال سورة الأنعام، والآية التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا الدرس المبارك هي قول الله جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام:141 - 142].
فنقول والله المستعان: إن القرشيين قالوا فيما سلف كما حكى الله عنهم: {هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ} [الأنعام:138] أي: زرع {حِجْرٌ} [الأنعام:138] أي: ممنوعة، {لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام:138]، وحكى الله عنهم أنهم قالوا: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام:139]، وهذا فيه منازعة لله جل وعلا في ربوبيته، والسورة تتكلم عن التوحيد، فهم أشركوا مع الله جل وعلا غيره بأن شرعوا حتى أقحموا أنفسهم في الأمر، فأراد الله جل وعلا أن يقيم عليهم الحجة ويثبت أنه وحده هو الخالق، وإذا كان هو وحده الخالق فهو وحده المشرع، فقال جل وعلا رداً عليهم: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ} [الأنعام:141] من غير اقتداء ولا احتذاء {جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام:141]، والمعروشات: ما لا يقوم على سوقه، أي: ما يحتاج إلى عيدان يلتف عليها، كالعنب، وغير المعروشات ما يستغني بنفسه، كالنخل، فقال الله جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ} [الأنعام:141] والنخل يدخل في غير المعروشات، ولكن هذا من باب ذكر الخاص بعد العام، ولأن النخل كان أكثر زرع عند العرب، قال تعالى: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام:141]، متشابهاً في منظره وغير متشابه في طعمه، وهذه كلها ظاهرة لا تحتاج إلى تعليق.(34/2)
بيان دلالة قوله تعالى (كلو من ثمره إذا أثمر)
وقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:141] دلالة على أن الإذن بالأكل يبدأ من أول النضوج فلهذا يؤكل التمر بسراً ويؤكل رطباً ويؤكل تمراً، وليس الأكل مقصوراً على واحدة من هذه الثلاث؛ لأن الله قال: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:141]، فإذا أثمر كان لكم الحق في أن تأكلوا منه.(34/3)
بيان معنى قوله تعالى (وآتوا حقه يوم حصاده)
قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، والسورة مكية، والفقهاء يقولون: إن الزكاة لم تشرع إلا في المدينة، وعلى هذا اختلفوا في قول الله جل وعلا: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، فمن قائل: إنها الزكاة، وهذا مروي عن أكابر السلف، كـ سعيد بن المسيب، ومن قائل إنها الصدقة، والحق أن يقال -والعلم عند الله- إن هذه الآية مكية، وإنها أصلت للزكاة تعليماً، وجاء التفصيل في المدينة.(34/4)
ذكر ما يجب في بعض أموال الزكاة
ومن أموال الزكاة ما يجب فيه ربع العشر، ما يجب فيه وهذا في زكاة النقدين وعروض التجارة.
وفي الثمار المدخرة العشر إن كانت تسقى بلا مئونة، وأما الثمار والمدخرات مثل الحبوب التي تسقى بمئونة ففيها نصف العشر.
وفي الركاز الخمس؛ لأنه ألحق بالزكاة إلحاقاً.
وأما المواشي فالزكاة فيها ليست مشاعة، وإنما هي مقدرة شرعاً.
كلمة وتنقسم المواشي إلى ثلاثة أقسام: قسم فيه زكاة، وهو ما اتخذ للدر والنسل والتسمين، فهذا فيه الزكاة بنصابه.
وقسم اتخذ لعروض التجارة فهذا نقدر فيه الزكاة، بمعنى أنه تعرف قيمته ثم نستخرج ربع العشر.
وقسم لا زكاة فيه، وهو ما اتخذ للعمل والاستعمال، كرجل عنده بقرات يحرث عليها، فهذه ليست للدر والنسل والتسمين، وليست عروض تجارة، فلا زكاة فيها.
يقول الله جل وعلا: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141]، فنهى الله جل وعلا عن الإسراف.(34/5)
تفسير قوله تعالى: (ومن الأنعام حمولة وفرشا)
ثم قال الله جل وعلا: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام:142]، الحمولة من الأنعام هي ما يركب عليه كالخيل والبغال والإبل، وأما الفرش فقال ابن جرير رحمه الله: إنه الغنم، ووجه تسميتها فرشاً عند ابن جرير هو دنوها من الأرض.
ونقل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أحد المفسرين من السلف أن الحمولة ما اتخذ للركوب، والفرش من بهيمة الأنعام ما اتخذ للأكل والحلب.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى معقباً على قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: وهذا القول يشهد له ظاهر القرآن.
وذلك في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:71 - 72]، فالآيتين من سورة (يس) تشهدان بقوة لما ذهب إليه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من أن الحمولة ما اتخذ للكوب أياً كان، والفرش ما اتخذ للأكل والحلب.
يقول الله تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام:142]، أي: كما أنه جل وعلا أنشأ الجنات، فليس لكم حق في حجرها على أحد؛ كذلك أنشأ الأنعام وخلقها، فليس لكم حق في حجرها على أحد.
قال تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأنعام:142]، فلا يُجهَل تحريم ما أباحه الله جل وعلا من الطيبات لعباده.(34/6)
بيان معنى قوله تعالى (ولا تتبعوا خطوات الشيطان)
ثم قال سبحانه: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [الأنعام:142]، فبين سبحانه أن القرشيين بتحريمهم اتبعوا طرائق الشيطان؛ لأنهم افتروا على الله الكذب ووضعوا أنفسهم مقام المشرع، فمنعوا أقواماً وأعطوا آخرين، وجعلوا السائبة والوصيلة والحامي، وسموا أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، وقالوا: هذه لأزواجنا وهذه لنا، وهذه فيها شركاء وهذه ليس فيها شركاء، وأخذوا يشرعون ويفترون على الله الكذب وهم يعلمون.
فلهذا نهى الله المؤمنين عن ذلك فقال: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام:142].
والشيطان يخفي عداوته ويزين، ولا يظهر عداوته، ومع ذلك سماه الله عدواً مبيناً، فالله جل وعلا كشف أمره وفضحه لعباده، وأخبرنا بأن الشيطان عدو مبين حتى نكون على حذر منه، ومع هذا كله يقع الكثير منا -إن لم نكن كلنا- في خطوات الشيطان، وقد نهى الله عن ذلك فقال سبحانه: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام:142].(34/7)
ذكر بعض ما يتعلق بالمركوب من الدواب
ونعود لقول الله جل وعلا: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام:142]، فما يتخذ للركوب كان في الزمن الماضي يحمل أثقال الناس إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، كما قال الله جل وعلا.
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء وتسمى القصواء، وهي التي حج عليها صلى الله عليه وسلم، وكان قد هاجر عليها، وقال يوم الهجرة: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة)، وفي يوم الحديبية بركت، فقال الناس: خلأت القصواء، فقال صلى الله عليه وسلم: (والله ما خلأت، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)، ففهم صلى الله عليه وسلم أن هذه الناقة ما خلأت إلا لأمر عظيم، فقال قبل أن يأتيه وفد قريش: (والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها)، ولهذا قبل صلى الله عليه وسلم الصلح.
وكان له صلى الله عليه وسلم فرس اسمه السكب، وكانت له بغلة تسمى دلدل أهداها إليه المقوقس حاكم مصر صلوات الله وسلامه عليه.
وما زال الناس في ذلك العصر يركبون الإبل والخيل والبغال حتى ظهرت دولة بني أمية، وصار هناك نوع من التلاقي الحضاري بين الشام وفارس، فعرف الناس البراذين ولم يكونوا يعرفونها والبغال الشهب ولم تكن مشهورة في الحجاز، فلما دخل معاوية رضي الله عنه المدينة على بغلة شهباء افتتن الناس بها، كمن يركب اليوم سيارة غير مألوفة، ولذلك يروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وأرضاه أنه قال: إن ابن الزبير إنما أعجبته الخلافة منذ أن رأى معاوية رضي الله تعالى عنه على بغلته الشهباء.
وإن كان في إسناده إلى ابن عباس نظر.
والذي يعنينا أن الناس جبلوا على حب المتاع الدنيوي، والإنسان يستطيع أن يستغني عن هذا بأن يربي نفسه على حب القرآن، فإذا تمكن القرآن منه من قلبه فإن أمثاله من المباركين ينفضون أيديهم عما في أيدي الناس، قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [الحجر:87 - 88]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.(34/8)
بيان معنى قوله تعالى: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)
قال تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141]، أوغل بعض العلماء في تفسير هذه الجملة فقالوا: هي في الزكاة، ونسبوا إلى أحد الصحابة من الأنصار أنه كان إذا جاء يوم حصاده تصدق بماله كله وبقي فقيراً، وهذا القول مردود من باب أن هذه الآية مكية ولم تكن وقت إسلام الأنصار في المدينة، فلا يمكن حملها على الأنصار، ثم أنه ليس لها علاقة بما يؤتى الفقراء من الزكاة، فليست متعلقة بقوله جل وعلا: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]، وإنما هي متعلقة بقوله جل وعلا: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:141].
والفرق بين الإسراف والتبذير أن الإسراف: الزيادة في الشيء الذي له أصل، أما التبذير فهو الزيادة في الشيء الذي لا أصل له، فالتبذير أعظم من الإسراف، ولهذا قال الله جل وعلا: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141]، وقال في حق التبذير: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27].
وإذا أردت دائماً أن تعرف الفرق بين أمرين فانظر في وصف الله جل وعلا لهما ولعاقبتهما، فالزنا ونكاح زوجة الأب كلاهما محرم شنيع، ولكن الزنا أهون من نكاح زوجة الأب، فإن قال قائل أين الدليل؟ قلنا: التفريق القرآني، حيث قال الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، ولما ذكر الله نكاح زوجة الأب قال: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22]، فزاد جل وعلا قوله: (مقتاً)، وهذا التدبر في القرآن والنظر في الفوارق بين آياته يضفي على كلامك عندما تنصح أو ترشد علماً جماً، فيورثك ثقة بنفسك، وهذا أمر مهم جداً، أعني أن تنطلق من قناعة عن نفسك؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان من يتصدر للبحث العلمي وللكلام مزعزعاً لا يقف على أرضية صلبة فمحال أن يقتنع الناس به، ومحال أن يملك تأثيراً في القلوب، اللهم إلا في الضعفاء، فلتبدأ قوتك من ذاتك، والحصانة العلمية تعطيك القدرة على التصدر ومعرفة الشيء وإدراكه قبل التفوه به للناس.
ولا تتعجل في كل شيء تسمعه فتنقله إلى غيرك قبل أن تمحصه؛ لأنك إن لم تمحصه لم تزل في دائرة في التقليد، ولكنك إن محصته وعرضته على عقلك المستند على شرع الله جل وعلا كنت قوياً حين عرضه، حتى لا يرد الناس عليك كلامك، وهذه هي حقيقة العلم.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، وألبسني وإياكم لباسي العافية والتقوى.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(34/9)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الأنعام [143 - 144]
لقد ابتدع أهل الجاهلية بدعاً في الدين لم يكن لهم فيها من الله برهان، ومن جملتها تحريم بعض الأنعام، وهي كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فأبطل الله تعالى ما صنعوه لكونهم لم يأتهم بذلك نبي، ولم يتلقوه عن الله تعالى، وبأنه يلزمهم بتحريم بعض ذكور الأنعام تحريم جميع ذكورها، وبتحريم بعض إناث الأنعام تحريم جميع إناثها، وكل ذلك لبيان منزلة التشريع من العقيدة، وإذ لا يملكه غير الله تعالى، فليس للبشر الدخول في باب التشريع بأهوائهم.(35/1)
تفسير قوله تعالى: (ثمانية أزواج من الضأن اثنين)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد ولياً مرشداً، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فهذا درس يتبع ما سبق من النظر والتأمل في كلام الله جل وعلا في سورة الأنعام تحديداً، وكنا قد انتهينا إلى قول ربنا تبارك اسمه وجل ثناؤه: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام:142].
وسنشرع هنا في قول الله جل وعلا: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:143 - 144].
هاتان الآيتان على وجه التحديد يلتبس معناهما على الناس كثيراً، خاصة إذا قرئتا في صلاة التراويح؛ لأن فيهما بعض الألفاظ غير الواضحة للعامة، ولكنها -بلا شك- واضحة لطلاب العلم؛ لأن هذا وعد قرآني، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].
وكلمة (زوج) في اللغة تطلق على الفرد الذي هو متعلق بغيره، ولا يقصد بالزوج التثنية ابتداء، فقول الله جل وعلا: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام:143] ليس المقصود منه أن العدد ستة عشر، فالإشكال يأتي في فهم هذه الآية إلى الناس عندما يقرءون أو يتلى عليهم قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍَ} [الأنعام:143]، فيظنون أن العدد ستة عشر، وكذلك في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} [النجم:45]، فيفهم بعض الناس أنها أربعة، وقد قال جل وعلا بعدها: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [النجم:45]، فالذكر وحده لارتباطه بالأنثى يقال له زوج، والأنثى وحدها لارتباطها بالذكر يقال لها زوج.
ففي الإبل يقال للجمل: زوج؛ لأنه لابد له من ناقة، والناقة يقال لها: زوج؛ لأنها لابد لها من جمل، فهذا أمر مهم في العبور إلى فهم الآية.
أما الآية من حيث العموم فقد قال الله تعالى قبلها: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام:142]، فهذا إجمال، ثم فصل بعد ذلك.(35/2)
بيان أوجه إبطال ما شرعه أهل الجاهلية في الأنعام
وقد كان في العرب كان رجل يقال له عمرو بن لحي، قال صلى الله عليه وسلم عنه -كما عند مسلم في الصحيح-: (رأيت عمرو بن لحي أخا بني كعب يجر قصبه في النار)، أي: أمعاءه، فـ عمرو بن لحي كان مكياً، وعاش أيام ولاية خزاعة على مكة قبل قريش، وكانت لهم السيادة والإمرة، والعرب تقول: الناس على دين ملوكها، أي: على دين سادتها وعلى دين من لهم الشرف، فخرج عمرو إلى الشام فرآهم يعبدون الأصنام، ورأى عندهم عادات في الأنعام بنيت على ضلال، فنقلها عمرو بن لحي إلى مكة، فلما نقلها إلى مكة جاء إلى الناقة فبحرها، أي: جدع أنفها، فسميت بحيرة، ثم حرم لبنها، ثم جاء إلى الفحل من الإبل، فإذا كان قد طرق الأنثى مراراً وتكراراً حتى توالد منه الكثير حرم أكله وسماه حاميا، ثم جاء إلى بعض بهيمة الأنعام فسيبها وأطلقها ومنع الناس من أن يأكلوا منها، فسيب السوائب، وأتى بشرائع من عنده مزجها بحضارة من لقيهم من أهل الضلالة، ثم قننها وجعلها شرعاً، والتشريع والتحليل والتحريم لا يكون إلا لله، فهذا عين الشرك، قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عدي: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحللون ما حرم الله فتحلونه؟! قال: نعم.
قال: فتلك عبادتهم).
فأقام عمرو حضارة في مكة على هذا المنوال، وتوارثها القرشيون عنه، فكانوا يأتون إلى الذكر من الإبل أحياناً فيحرمونه في مرحلة ويبيحونه في مرحلة، ويأتون إلى الأنثى ويصنعون معها مثل هذا الصنيع، ويقولون: (ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا) فهذه الشرائع التي سنوها جاء الشرع بإبطالها رغم أن سورة الأنعام سورة مكية، ولكن لما كان هذا الخطأ خطأ عقدياً لم يؤجل إلى العهد المدني، وإنما جاء التحريم في العهد المكي؛ لأن هذا داخل في العقائد، والنبي صلى الله عليه وسلم مكث ثلاثة عشر عاماً يبني العقيدة في مكة، وهذا حق، ومن العقيدة أنه لا أحد يملك التحريم والتحليل إلا إلا الله، وإذا فقه المؤمن هذا يفهم علة قول الله هذه الآيات، وبعض الناس يقول: أتعجب من إيرادها في سورة مكية لولا أنها قرآن، والعلماء يقولون لنا: إن السورة المكية تعنى بالعقائد.
والحق أن هذا من أعظم ما يتعلق بالعقائد؛ لأنهم شرعوا وحللوا وحرموا، وليس لهم ذلك.
فأراد الله بهذه الآية أن يبطل ما ذهبوا إليه، فجاءهم بما يسمى بالسبر ثم التقسيم، بمعنى أنه يُستقصى الموضوع ثم يبين بطلان كل شيء، فقال الله لهم جملة: إنه لا سبيل إلى صحة قولكم عقلاً ولا نقلاً.
أما النقل فأن يكون نبي من أنبيائي أخبركم بهذا التحريم، وهذا ما ذكره الله في قوله: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143]، وأنتم لا تؤمنون بخير الأنبياء، فكيف تؤمنون بأنبياء قبله؟! ولم يأتكم نبي يخبركم بهذا التشريع الذي اتبعتموه، فهذه واحدة.
والثانية أن تكونوا قد أخذتم هذا عن الله مشافهة، وهذا ذكره الله في قوله جل وعلا: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام:144]، فإذا انتفت مسألة كون النبي واسطة بينكم وبين الله لم يبق إلا أنكم أخذتموه عن الله مشافهة، وهذا لم يقع، فانتفى بهذين الدليلين النقليين ما فعلتموه.
وبقي الدليل العقلي، وهو أن الله جل وعلا قال: إن الأنعام ثمانية أزواج، ثم فصلها فقال: من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الإبل اثنين، فهذه الثمانية لم يحرم الله جل وعلا شيئاً منها.
ثم إن ما في البطون لا يخلو من أن يكون ذكراً وأنثى، ولم يحرم الله جل وعلا شيئاً منها، فإن حرمتم ذكراً وجب أن تحرموا جميع الذكران، وأنتم لا تحرمون جميع الذكران، فالذكر تارة تبيحونه وتارة تحرمونه، وإن حرمتم الأنثى -سواء أكانت في البطن أم خارج البطن- وجب أن تحرموا جميع الإناث؛ لأن الزوج لا يخلو من أن يكون ذكراً أو أنثى، وأنتم تحرمون نوعاً من الإناث وتدعون غيره، فانتفى بذلك كل دليل لهم على صحة ما ذهبوا إليه، فلم يبق إلا شيء واحد، وهو أنهم كذبوا على ربهم، وإذا كذبوا على ربهم أصبحوا ظلمة، والظلمة لا يفلحون، ولهذا ختم الله الآيتين بقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:144].(35/3)
ذكر بعض ما ورد في الضأن والمعز
قال الله جل وعلا: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام:143] وقد بينا مسألة الزوج {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] الضأن الذكر منه يسمى كبشاً، والأنثى منه تسمى نعجة؛ فالنعجة يقول عنها بعض من له علاقة بمثل هذه العلوم: إنها من أكرم الحيوانات على الله؛ لدليل عقلي، وهو أن الله ستر عورتها، وقد ورد في شعر العرب إطلاق النعجة على المرأة، وهذا لم يرد إلا في بيت أو بيتين، ولم يكن شائعاً على الصحيح، وهذا ما تمسك به من يقول: إن آية ص: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص:23]، المراد بالنعجة فيها المرأة، وهذا عندي بعيد، والأصل إجراء القرآن على ظاهره، لا أن يحمل على بيت قيل في الجاهلية، فهذا لا يتفق مع سنن فهم القرآن.
وأما الكبش فيطلق أحياناً على السيد والرئيس، يقول عمرو بن معدي كرب: نازلت كبشهم ولم أر من نزال الكبش بدا هم ينذرون دمي وأنذر إن لقيت بأن أشدا كم من أخ لي صالح بوأته بيدي لحدا ما إن جزعت ولا هلعت ولا يرد بكاي زندا وموضوع الشاهد قوله: (نازلت كبشهم) أي: سيدهم وفارسهم والقائم على أمرهم، فيطلق على السيد والرئيس.
والكبش هو ما فدى الله به؟ إسماعيل على القول الشائع بأن إسماعيل هو الذبيح، والله جل وعلا يقول: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107]، وهنا جاء خلاف بين العلماء في قضية أي الأضاحي أفضل، هل الكبش أم الإبل أم البقر؟ فمذهب مالك أنه الكبش؛ لأن الله اختار أن يفدي به إسماعيل، وهذا قول قوي، ويدل عليه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في المدينة يضحي عشر سنين فلم يضح إلا بالكبش من الضأن.
فهذا الكلام كله عن الضأن ذكر وأنثى.
ومن المعز التيس، وهو الذكر، والعنز هي الأنثى منه، وقد جاء ذكر العنز في حديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أعرابي فأكرمه، أي أن الأعرابي أكرم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سفر، فقال عليه الصلاة والسلام للأعرابي وهو يعلم الأمة كيفية رد صنع المعروف: (ائتنا)، يعني: إن جاءتك فرصة لأن تأتي المدينة فتعال حتى نكرمك، فقدر للأعرابي أن يدخل المدينة، فاحتفى به صلى الله عليه وسلم وقال: (سلني حاجتك؟)، وثقافة الأعرابي محدودة، والعلم والإيمان عنده لم يكن بذاك؛ لبعده عن موطن العلم، فقال: أسألك أعنزاً يحلبها أهلي.
فقال صلى الله عليه وسلم: (عجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟! فقالوا: يا رسول الله! وما عجوز بني إسرائيل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن موسى لما أراد أن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر قال له علماؤها: إن يوسف أخذ علينا العهد والميثاق أن إذا خرجنا أن نخرجه معنا، فقال: ومن يدلني على قبر يوسف؟ قالوا: لا يعرفه إلا عجوز في بني إسرائيل.
فأتى موسى عليه السلام إلى تلك العجوز فقالت: لا أدلك حتى تؤتيني سؤلي؟ فقال: وما سؤالك؟ قالت: أن أكون مرافقتك في الجنة).
فضرب النبي عليه الصلاة والسلام هذه القصة لبيان أن الإنسان يجب عليه أن ترتفع همته كما ارتفعت همة عجوز بني إسرائيل، وهذا الأعرابي لقلة علمه لم يكن يطلب إلا أعنزاً يحلبها أهله.
قال الله تعالى: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام:143]، والله لم يحرم الذكر من الضأن ولا الذكر من المعز، ولا الأنثى من الضأن ولا الأنثى من المعز، {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} [الأنعام:143]، وليس في الرحم إلا ذكر أو أنثى {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143] هذا بينا أن هذا دليل نقلي ممتنع عندهم، وهو أنه لم يكن لديهم نبي يأخذون عنه علماً.(35/4)
بيان معنى قوله تعالى (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين)
ثم قال الله جل وعلا: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:144]، والإبل جمع لا مفرد له من جنسه، والذكر منها يسمى جملاً والأنثى منها تسمى ناقة.
قال الله جل وعلا: {وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:144]، والبقر ذكره الثور وأنثاه البقرة، وهناك سورة في القرآن عظيمة جليلة تسمى سورة البقرة، وغالب الظن أن الحيوان إذا ذكر في سورة فإن السورة تسمى به في غالب الأمر، كالبقرة، مع أن البقرة لم ترد إلا في آيات معدودات في سورة البقرة على طول السورة، والعنكبوت، فلم ترد ذكره إلا في آية {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41]، والفيل سميت به سورة، والنحل لم يرد ذكره إلا في {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل:68].
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الثور في أشراط الساعة، حيث يرتفع ثمنه ويقل ثمن الخيل؛ لأن الأرض يعمها الإيمان، فلا حاجة إلى الجهاد، وإذا كان الأمر كذلك كان الناس في نعيم، فيأكلون ويطعمون أكثر مما يركبون، فلا حاجة إلى شراء الخيل، فيقل تهافت الناس عليها، ويقل ثمنها، ويتسابق الناس على شراء ما يطعمون، فيرتفع ثمن الثور.(35/5)
ذكر بعض ما يتصل بالثمانية من العدد
قال الله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الأنعام:143]، كلمة (ثمانية) غالباً ما تقال في الأشياء المحمودة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أبواب الجنة ثمانية، في حين أن أبواب النار سبعة كما هو معلوم.
وقد ارتبط هذا الرقم بالخليفة العباسي المعتصم كثيراً، فأي صاحب صنعة تاريخية إذا ذكر له رقم (ثمانية) يتذكر الخليفة العباسي المعتصم.
فالمعتصم ثامن أولاد الرشيد، وثامن خلفاء بني العباس، وحكم ثمان سنين وثمانية أيام وثمانية أشهر، وولد في برج العقرب، والعقرب ثامن البروج، وخلف ثمانية ذكور وثمان إناث، وكان عمره عندما مات ثمانية وأربعين عاماً، فرقم (ثمانية) تعلق بحياته تعلقاً غريباً بقدر الله، وفي اليوم الذي مات فيه كان قد بقي من نهاية شهر ربيع ثمانية أيام، أي: مات لثمانية أيام بقين من شهر ربيع الأول، وهذا كله يدل على أن هذا الرجل سمي بالمثمن لارتباطه برقم (ثمانية) وقد كان دعبل الخزاعي على خلاف طويل مع المعتصم، فقال يهجو المعتصم: ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة خيار إذا عدو وثامنهم كلب وإني لأعلي كلبهم عنك رتبة لأنك ذو ذنب وليس له ذنب هذا ما قاله دعبل الخزاعي في هجاء المعتصم، وهذا يدخل على قضية الشعر السياسي.
والمهم أن دعبلاً هذا كان خزاعياً، فأصابه الغبن؛ لأن بني العباس وهم يريدون أن ينزعوا الخلافة من الأمويين كانوا يدعون إلى الرضا من آل البيت دون تحديد، فلما آلت الخلافة إليهم نحوا أبناء علي وجعلوها في أبناء العباس، بحجة أن أبناء عمومة النبي صلى الله عليه وسلم أولى من أبناء البنت؛ لأن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فأصاب ذلك العلويين عموماً بالحنق، ومن أشهر من والاهم دعبل هذا الذي هجا المعتصم، فأهدر دمه، وأخذ يدور في الفيافي.
ومتأخروا الشيعة الذين عاشوا في عصر بني العباس يعظمون دعبلاً تعظيماً شديداً لما قاله من أبيات في مدح أهل البيت، وهو القائل: ديار علي والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفنات أرى فيئهم في غيرهم متقسماً وأيديهم من فيئهم صفرات بنات زياد في القصور مصونة وآل رسول الله في الفلوات ألم تر أني مذ ثلاثين حجة أروح وأغدو دائم الحسرات وقد كوفئ على هذه القصيدة، وهذا الشعر يفتح باب الشعر السياسي، وأول من فتحه قبله الكميت الأسدي في مدحه لآل البيت واحتجاجه على بني أميه بأن الحكم يمكن أن يورث.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله.
وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.(35/6)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الإسراء [1 - 3]
أيد الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالآيات والمعجزات والبراهين الدالة على صدق دعوته وما جاء به، ومن هذه الآيات: حادثة الإسراء والمعراج، فقد أسرى به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماوات العلى، حتى سمع صريف الأقلام عند سدرة المنتهى، وقد كانت هذه الحادثة حقيقة بجسدة وروحه الشريفين صلى الله عليه وسلم، ولا ينكر هذه الحادثة إلا من هو أضل من حمار أهله، فإن الآيات القاطعات، والبراهين الدامغات، لتدل على قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه، فمن أراد التشكيك في محبة الله لنبيه فليناطح الجبل، وليسد عين الشمس بيده الحقيرة، وأنى له ذلك.(36/1)
الكلام عن أسماء سورة الإسراء والإرهاصات التي سبقت الحادثة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فنشرع في هذا اللقاء المبارك -إن شاء الله تعالى- في تأويل سورة الإسراء، فنقول بداية: سورة الإسراء سورة مكية بالاتفاق، إلا بعض آيات منها كانت محل خلاف، ومنها قول الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85].
أما بالنسبة لاسمها: فلها اسم توقيفي، واسمان اجتهاديان، أما الاسم التوقيفي فهو: سورة الإسراء، وبه دونت كثير من المصاحف، أما الاسمان الاجتهاديان فأحدهما أشهر من الآخر، فالاسم الاجتهادي الأول: أنها تسمى سورة بني إسرائيل، وقد جاء هذا على أقوال بعض الصحابة، كقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -كما عند البخاري -: إن بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، لمن تلاد ومن العتاق الأول.
والعتاق: جمع عتيق، والمقصود بها: إما ما بلغ الغاية في الجودة، أو ما كان حسناً قديماً، كما أن كلمة (تلاد) تأتي ضد كلمة طارف، فالعرب إذا ملكت شيئاً حاضراً جديداً تسميه طارفاً، وإذا تكلمت عن ملك قديم سمته تلاداً.
ومقصود ابن مسعود بكلامه عن هذه السور المباركات: الإسراء، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: أنها من أوائل ما أنزل، ومن أوائل ما أخذه عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.
أما الاسم الأخير الاجتهادي فهو: سورة سبحان، وهذا وجد عند بعض المفسرين كـ ابن عطية والثعالبي، فقد أطلقوا عليها اسم: سورة سبحان، هذا بالنسبة لتحرير الأقوال في تسمية السورة.
وقد سميت بالإسراء لأن الله جل وعلا ذكر في أول آياتها المعجزة التي كرم بها نبينا صلى الله عليه وسلم؛ وذلك بأن أسرى به جسداً وروحاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
نلج الآن إلى باب التأويل: قال ربنا وهو أصدق القائلين: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]، بداية نقول: إنه لا يمكن أن نفسر القرآن بمعزل عن السيرة، ثم لا بد أن نفسر القرآن ونحن نعلم أنه من عند الله مع استصحابنا لعظمة الله، فجمع هذه الأمور بعضها إلى بعض يعينك في التفسير.
لقد بعث الله جل وعلا نبيه عليه الصلاة والسلام بالهدى ودين الحق، فاضطهده قومه وأصحابه، لكنه قلب جميع الطرائق في الوصول إلى هداية الناس، ومن تلك الطرائق التي اتبعها أن ذهب إلى الطائف، فلما ذهب إلى الطائف رده أهلها، فلما عاد من الله عليه بسماع الجن له: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1]، ثم دخل مكة بعد أن منعته قريش بجوار المطعم بن عدي، وقد كان صاحبه في تلك الرحلة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم صاحب تلك الأحداث موت خديجة كنصير داخلي، ومات عمه أبو طالب كنصير ظاهر رغم شركه.
ومات عمك والأعداء في الأجم.
في هذه الأجواء عرج به صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى، بعد أن أسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فقدم الله في القرآن هذا الخبر القرآني بقوله: {سُبْحَانَ} [الإسراء:1]، وهي: مصدر لازم للإضافة يراد به تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به، ولا يمكن لمن يفقه لغة العرب، ويرى أن الله قدم لهذا الحدث بقوله: {سُبْحَانَ} [الإسراء:1]، إلا يستبين له أن الحدث حدث عظيم، خارج عن المألوف، معجزة وكرامة لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا قدم الله جل وعلا بقوله: {سُبْحَانَ} [الإسراء:1]، وهذا يدفع قول من يقول: إن الإسراء والمعراج كان رؤيا، فالرؤيا المنامية التي يراها الإنسان -أياً منا- مهما عظمت وبلغت لا تعد أمراً خارجاً عن المألوف، فلا حاجة لأن يتصدر الخطاب القرآني بقوله جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء:1]، والسرى: المشي ليلاً، يقال: أسرى، ويقال: سرى، تقول: أسريت وسريت.
ولما كان الإسراء هو المشي في الليل ومع ذلك ذكر الله كلمة (ليلاً)، هذا دفع البلاغيين لأن يجيبوا عن هذا الإشكال بقولهم: إن كلمة (ليلاً) جاءت نكرة، فإما أن تكون للتقليل فيصبح المقصود: إظهار القدرة، بمعنى: أن هذا الإسراء تم في برهة وجيزة من الليل، وإما أن يكون المقصود من تنكيرها: التعظيم، والمعنى: ليل وأي ليل فيه دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه، هذا تخريج.(36/2)
حادثة الإسراء والمعراج كما جاءت في السنة المطهرة
بعد هذه الإطلالة نلج إلى موضوع الإسراء من السنة ثم نعود للآيات.
- نقول إجمالاً مستنبطين ما في الإسراء والمعراج من دروس: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان نائماً، فجاء جبريل والملائكة ليأخذونه، وقد تخيروه ممن كان نائماً معه، وقد استفاد العلماء من هذه القضية: أن الملائكة تعرف أعيان بني آدم، ولهذا عرفوه من بين النائمين، هذه واحدة.
الثانية: عندما شق صدره شقاً حسياً من النحر إلى أعلى مرقاة البطن، وأخرج القلب -وهذا ثابت في الصحيح- وغسل في إناء من ذهب، وملئ القلب إيماناً وحكمة، فهم منها العلماء: أن الحكمة أجل شيء يعطاه المرء بعد الإيمان، قالوا: لأن النبي مهد لأن يرقى الدرجات العلى، وأن يصعد إلى سدرة المنتهى، فملئ قلبه إيماناً وحكمة، ففهموا أن الحكمة أجل ما يعطاه بنو آدم بعد الإيمان، وهي إصابة الشيء، أو وضع الشيء في موضعه الصحيح.
ثم إنه غسل قلبه بماء زمزم، وفيه دلالة: على فضل ماء زمزم، وقد شهدت بهذا آثار تكلمنا عنها مراراً، ثم إنه عليه الصلاة والسلام قدم له البراق، وهي: دابة ينتهي حافرها حيث ينتهي بصرها، وكان معه جبريل، فأتى المسجد الأقصى، وهو مسجد إيليا، مسجد بيت المقدس، ويسمى: المسجد الأقصى الآن، وهذا اسم الشهرة، وكان قد جدد بناءه داود وسليمان عليهما السلام، لكنه وضع في الأرض بعد أن بنيت الكعبة بأربعين عاماً.
وقول الله جل وعلا في القرآن: {الأَقْصَى} [الإسراء:1] وهو يتكلم عن المسجد الحرام لا يجعل المعنى متفقاً، إلا إذا كان هناك مسجد ثالث بينهما، وهذا فيه إرهاص مبدئي على أن هناك مسجداً سيعمر، وهو الذي كان بعد ذلك المسجد النبوي، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم بإخوانه النبيين إماماً في المسجد الأقصى: في موطنهم، فالشام أرض النبوات، وفيها أكثر الأنبياء مع أن الإنسان لا يقدم عليه أحد في سلطانه، فلما تقدم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في سلطانهم ومحلهم دل ذلك على فضله، وهو مراد شرعي عظيم من ربنا، يخبر الله من خلاله هؤلاء الأنبياء أن محمداً صلى الله عليه وسلم وإن كان آخركم عصراً إلا أنه أرفعكم وأجلكم وأولكم شأناً وقدراً، وقد جاء في بعض الروايات التي لم تثبت سنداً: أنه التفت بعد أن صلى، فوجد مشيخة آبائه: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وعظماء الأنبياء، فقال لهم: إن الله أمرني أن أسألكم: أأمركم الله أن تدعوا إلى عبادة غيره؟ قالوا: لم يدعنا الله إلا أن نعبده، وندعو إلى عبادته وحده: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وفي قراءة: (يعبدون) فهذا الخبر يعضد سؤال هذه الآية، لكن لا أعلم سنداً صحيحاً في إثباته، لكن الثابت: أنه صلى بالنبيين إماماً، ولقيهم بعد ذلك كما سيأتي في السموات.
وهنا سؤال مهم: هل صلى بهم أجساداً وأرواحاً، أم أجساداً دون أرواح، أم أرواحاً فقط؟ المترجح: أنه صلى بهم أرواحاً، وإن اختار بعض أهل العلم: التوقف، والتوقف أقوى.(36/3)
والحق ما شهدت به الأعداء
وقد ربط صلى الله عليه وسلم دابته في مربط كان الأنبياء قبله يربطون فيه دوابهم، وهذه الفائدة جاءت عند أبي نعيم في الحلية، إذ جاء فيها خبر أبي سفيان: أنه قدم على هرقل قبل إسلامه، فأخذ هرقل يسأله -وهو قيصر الروم- عن محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان يحاول أن يجد ثغرة يبين فيها كذب النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه كان دبلوماسياً جداً، فقد خاف أن يقول كذبة يكتشفها هرقل فلا يصدقه فيما سيقوله بعد ذلك من حديث، وهو في قلبه مغبون على أنه مضطر لأن يصدق، حتى جاء عند هذه النقطة، فقال أبو سفيان لـ هرقل: إنه زعم -أي: محمد- أنه جاء مسجدكم في إيليا في برهة من الليل فصلى وعاد.
لعله أن يجد بذلك تسفيهاً لرأي النبي صلى الله عليه وسلم عند هرقل، لكن الله يقول وقوله الحق: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفتح:4]، فقد أنطق الله البطريق الواقف على رأس هرقل فقال بعد أن ترجم الكلام لـ هرقل من قبل أبي سفيان: وإني لأعلم أي ليلة تلك، فتعجب هرقل والتفت إلى بطريقه وأعرض عن أبي سفيان، قال: وما يدريك؟ قال: إنه لما كنت في إحدى الليالي أعمل ما جرت العادة أن أعمله، أغلق أبواب المسجد، فعجزت عن باب من أبوابها أن يغلق، فاستعنت عليه بخدمي وعمالي ومن حضرني من أهل تلك الليلة فعجزوا، فبعثت إلى النجاجرة -أي: المعنيين بإصلاح الأبواب- فلما قدموا قالوا: إن هذا الباب سقط عليه شيء من النجاف والأبنية، فإذا أصبحنا رأينا أين علته، فدعوه إلى الصباح، يقول: فتركته، فلما أصبحت بدأت بالباب فإذا بالصخرة التي توضع عندها الدواب مثقوبة، وفيها أثر مربط الدابة، فقلت لأصحابي يومها -أي: صبيحتها-: إن الباب ما حبس الليلة إلا على نبي، يعني: أن الله جل وعلا منعنا أن نغلق الأبواب إكراماً لنبي، والبطريق وقتها لا يعرف أي نبي سيأتي في تلك الليلة، لكن العلم الذي عنده من الكتاب ومعالجته لبيت المقدس وللمسجد من سنين عديدة جعله يفقه هذا الأمر.
وفي هذا فوائد عظيمة جليلة من أهمها: أن الله رتب الأسباب على مسبباتها، فأنت تعلم -أيها المبارك- أن الله جل وعلا أسرى بنبيه في برهة من الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والله لا يعجزه شيء، ومن أكرم نبيه بهذا الإسراء قادر على أن يفتح له الباب ولو كان مغلقاً، لكن الله أعجز البطريق عن فتح الباب؛ حتى يصبح البطريق بعد ذلك شاهداً على دخول نبينا صلى الله عليه وسلم المسجد، وقد كان بالإمكان أن يغلق الباب فيأتي جبريل ويفتحه، لكن البطريق عجز عن الباب حتى يصبح فينظر في الباب، فإذا نظر في الباب رأى آثار النبي صلى الله عليه وسلم ودابته البراق، فيكون شاهداً على صدق قوله، فأصبح البطريق شاهداً عند قيصر على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم.(36/4)
العروج بالنبي إلى سدرة المنتهى
ثم بعد ذلك عرج به إلى سدرة المنتهى، ومن المعلوم أن السموات أبنية وسقف محفوظ كما قال الله، ولهذا دخل القائلون باستحالة وصول الإنسان إلى القمر من باب القرآن، فقالوا: قد ذكر الله بأن القمر في السموات فقال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح:16] أي: في السموات، وقال جل وعلا: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء:32]، فقالوا: لا سبيل إلى القمر؛ لأن القمر في السموات، والله يقول عن السموات أنها سقف محفوظ، لكن الذين يقولون بوصول الإنسان إلى القمر من علماء الملة يجيبون عن هذا الإشكال بأن (في) هنا لا تعني بالضرورة أن تكون ظرفية، أي: يكون القمر داخل السموات، وليس هذا المقام مقام التفصيل، لكنني استطردت قليلاً.
ثم قابل صلى الله عليه وسلم في السماء الأولى: أباه آدم، وآدم هو أبو البشر، وقد نسبنا الله إليه فقال: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف:26]، وحول آدم أسودة عن يمينه وشماله، فمن كتب الله لهم الجنة ينظر إليهم فيبتسم، ومن كتب الله عليهم النار ينظر إليهم فيحزن ويبكي، وحق له ذلك فهو أبوهم، وكان الذي عرف آدم بمحمد، ومحمد بآدم هو جبريل عليه السلام، فقد استفتح قبل ذلك جبريل، فسأله الخازن: من أنت؟ قال: أنا جبريل، قال الخازن: أومعك أحد؟ قال: نعم، معي محمد، وقد فهم منها العلماء فائدة عظيمة وهي: أن الإنسان يجب عليه أن يستأذن إذا دخل على أصحاب دار ولو كان أفضل منهم؛ لأن جبريل ومحمداً عليهما السلام خير من خزنة السماء، ومع ذلك عرفا بأنفسهما، فقال: جبريل، ومعي محمد، وقد جاء الشرع بكراهة أن الإنسان إذا استأذن فسئل: من أنت؟ أن يقول: أنا، وليست كلمة أنا مكروهة لذاتها، إلا إذا خلت من التعريف، وبعض العامة اليوم يقول إذا تكلم عن نفسه: وأعوذ بالله من كلمة أنا، وهذا لا أصل له في الشرع، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه أنهم كانوا يقولون: أنا، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر وعمر لما خرجا وقد أخرجه الجوع، قال: (ما الذي أخرجكما؟ قالا: أخرجنا الجوع، قال: وأنا أخرجني الجوع) فتكره في الاستئذان إن لم تكن أعقبت بالتعريف، أما في الأمور العادية فإن الله نقمها من فرعون لما بعدها، وليس لذاتها، فإنه قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ونقمها جل وعلا من إبليس لما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فالإشكال عند إبليس وفرعون ما بعد كلمة أنا، ليس في لفظ كلمة أنا، إذاً ما تقوله العامة: وأعوذ بالله من كلمة أنا، ليس له دليل شرعي يعضده.
إذاً: استأذن جبريل ومحمد فلقيا آدم، ثم ارتقيا إلى السماء الثانية فوجدا ابني الخالة: يحيى بن زكريا، وعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام، فيحيى بن زكريا وعيسى بن مريم كثيراً ما يقرن الله بينهما في القرآن كما ورد في سورة مريم، وهما ابني خالة؛ لأن زكريا زوج لخالة عيسى بن مريم، ولذلك كفل مريم عليه الصلاة والسلام، ثم انتقل للسماء الثالثة فوجد يوسف عليه الصلاة والسلام وقد أعطي شطر الحسن، وبينا مراراً في هذا الدرس المبارك وفي غيره من الدروس أن المقصود بأن يوسف أعطي شطر الحسن أي: شطر حسن آدم، فآدم أجمل خلق الله من بني آدم؛ لأن الله خلق آدم بيده، فيوسف عليه السلام على الشطر والنصف من جمال أبيه، ولقي في السماء الرابعة أخاه إدريس وتلا: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]، وإدريس لما رحب بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ففهم منها العلماء: أن إدريس ليس من عمود نسبه صلوات الله وسلامه عليه، أي: أن إدريس ليس جداً للنبي عليه الصلاة والسلام، إذ لو كان جداً في عمود نسبه لقال: أهلاً بالابن الصالح، لكنه قال: أهلاً ومرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، كما قال يوسف وكما قال عيسى بن مريم وكما قال يحيى، وكل هؤلاء ليسوا في عمود نسبه صلوات الله وسلامه عليه.
ثم أتى السماء الخامسة فوجد هارون بن عمران أخو موسى وأكبر منه سناً، وقد جاء في بعض الروايات أنه قال: (وجدت رجلاً تكاد تلامس لحيته سرته، قلت: من هذا يا جبريل؟! قال: هذا المحبب في قومه هارون بن عمران)، وقد كان هارون شخصية محبوبة جداً لبني إسرائيل، ثم في السماء السادسة قابل كليم الله وصفيه موسى بن عمران، ورحب به: (أهلاً بالأخ الصالح والنبي الصالح، وبكى -أي: موسى- فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي)، وقد فهم منها العلماء: جواز الغبطة في الخير.
ثم أتى السماء السابعة فقال: (فوجدت رجلاً لم أجد أحداً أشبه بصاحبكم منه ولا منه بصاحبكم، وقد أسند ظهره إلى البيت المعمور، قلت: من هذا يا جبريل؟! قال: هذا أبوك إبراهيم)، وإبراهيم أب للنبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق، فرحب به قائلاً: (أهلاً بالابن الصالح والنبي الصالح)، وكل هذا الاحتفاء ليظهر الله لنا كرامة نبيه صلى الله عليه وسلم عنده.
ثم رأى البيت المعمور، وهو بيت في السماء السابعة، يقول العلماء -والعلم عند الله- إنه مواز للكعبة، وقد أقسم الله به في الطور، قال: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:1 - 4].
ثم إن الله جل وعلا قربه وأدناه وكلمه وناجاه، لكننا نجزم -وإن كان في المسألة خلاف- على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ليلة الإسراء والمعراج، وسيأتي معنا -إذا عدنا للآية- الدليل الظاهر على هذا، ثم إنه صلى الله عليه وسلم رجع فسأله موسى عن الصلوات فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فإن أمتك لن تطيق ذلك، وقد عالجت الناس قبلك، فما زال يتردد بين ربه وبين موسى، ثم قال عليه الصلاة والسلام لموسى: (إنني استحييت من ربي) فنادى مناد: أنني أمضيت فريضتي وأبقيت أجري، فأعطى الله هذه الأمة خمس صلوات في اليوم والليلة بأجر خمسين صلاة.
يقول العلماء: لقد اجتمع في النبي صلى الله عليه وسلم أمران: حياؤه من ربه، وشفقته على أمته، فاختار الحياء من ربه على الشفقة على الأمة، فأكرمه الله بأن أبقى له الحياء مع ربه، وأعطاه سؤله في الشفقة على أمته، وتحقق ما كان يقصده صلى الله عليه وسلم من شفقته على أمته.
ثم بعد ذلك عاد عليه الصلاة والسلام من ليلته إلى فراشه، وهذا مجمل ما ورد في السنة.(36/5)
تفسير قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً السميع البصير)
يقول ربنا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1] قلنا: إن ليلاً هنا نكرت للتعظيم، أي: ليل وأي ليل، {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء:1] قلنا: إن المسجد الحرام يطلق في القرآن ويراد به واحد من أربعة: يراد به: مكة، ويطلق ويراد به: الحرم، وحدود الحرم جملة، ويطلق ويراد به: المسجد المحيط بالكعبة، ويطلق ويراد به: الكعبة.
قال تعالى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]، وكلمة الأقصى وحدها لا تفيد تشريفاً بخلاف الحرام فتفيد تشريفاً، ولهذا قال الله بعدها: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، فشرف المسجد الأول بقوله: {الْحَرَامِ} [الإسراء:1]، وفي الثاني بوصفه بقوله: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، أرض الشام أرض مباركة، قال: ((لِنُرِيَهُ)) اللام للتعريف، أي: لنري نبينا صلى الله عليه وسلم، {مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1]، وهنا نعود لما كنا قد أجلنا الحديث عنه، فنقول: لا ريب أن رؤية الله أعظم من رؤية آياته، فلو كان في رحلة الإسراء والمعراج أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى ربه، والمقام مقام مدح وثناء وامتنان، لكان الذكر بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه أعظم من الثناء عليه والامتنان عليه بأنه رأى آيات ربه: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]، والسميع والبصير اسمان من أسماء الله الحسنى، وقد اختارهما الله هنا بالتحديد لأن هذه الرحلة التي أكرم الله بها نبيه جاءت بعد عودته من الطائف، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو أثناء سيره من الطائف إلى مكة، فكانت مناسبة ذكر السميع: أن الله سمع دعاء نبيه واستجاب له: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي)، وأما البصير: فإن الرحلة كانت ليلاً، والله جل وعلا قادر على أن يحفظه ليلاً ونهاراً، لكن لما ذكر الليل كان أكمل؛ لأنه إذا قدر الله على حفظه بالليل فمن باب أولى أنه قادر على ذلك في النهار، والله على كل شيء قدير، ولهذا ذكر هذان الاسمان دون غيرهما في السياق: {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].
إليك بعض المقارنات، فإن العرب تقول: وبضدها تتميز الأشياء: كان رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج هو جبريل، بدلاً من زيد، وهذا لا يقلل من شأن زيد، ثم إن الطائف كانت أرضاً مرتفعة ومع ذلك رده أهلها، وجبالها عالية على مكة يصطاف فيها الناس منذ القدم، وعن تلك الدار العالية عوضه الله بالسماوات السبع، وشتان بين سدرة المنتهى والطائف، ثم إنه دخل مكة بجوار المطعم بن عدي، يعني: لم يستطع أن يدخلها لوحده، بل دخلها في جوار رجل كافر مات على كفره، قال حسان: فلو كان مجد يخلد اليوم واحداً من الناس أبقى مجده الدهر اليوم مطعماً أي: لو حصل ذلك لكان هذا الشأن من شأن المطعم بن عدي.
هذا المطعم بن عدي دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في جواره، لكن في السماوات السبع لم يحتج صلى الله عليه وسلم أن يدخل في جوار أحد، إنما احتفى به الأنبياء والمرسلون لبيان كرامته عند ربه جل وعلا ولتكون معجزة ظاهرة له.(36/6)
الإسراء والمعراج في أعين شعراء المسلمين
وهذا الحدث الجليل تغنى به الشعراء الإسلاميون عبر التاريخ، قال البوصيري -وإن كان في ميميته ما فيها من الشركيات عياذاً بالله، لكن نأخذ منها بيتاً واحداً-: سريت من حرم ليلاً إلى حرم كما سرى البرق في داج من الظلمِ وإن كان قوله: إلى حرم غير صحيح؛ لأن المسجد الأقصى ليس بحرم، لكنه أرض مقدسة، وهناك فرق بين المقدس والمبارك والحرم، وقد تجتمع هذه الأوصاف في مكة والمدينة، وقد يكون مباركاً ومقدساً كالمسجد الأقصى، وقد يكون مقدساً مثل قوله تعالى لموسى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12] أي: في أرض سيناء، لكنه ليس حرماً، وقد يكون مباركاً؛ لأنه من لوازم التقديس أن يكون مباركاً، هذا ما قاله البوصيري.
أما شوقي فله في الإسراء والمعراج ذكران، الذكر الأول في الميمية، مطلعها: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم رمى القضاء بعيني جؤذر أسداً يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم والجؤذر بقر الوحش، تضرب به العرب المثل في جمال العينين لاتساعهما، والأسد معروف، وهو يقصد أن النساء وإن كن ضعافاً فإنهن يغلبن الرجال بأعينهن، وهذا من السياقات التي كانت العرب تعتمدها في شعرها، فهم يبتدئون أشعارهم بالغزل، كقول كعب: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول والقصيدة فيها ضروب شتى من مدح النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الذي يعنينا منها ما تكلم عن حادثة الإسراء والمعراج، فقد ذكر رحمه الله تعالى قضية الإسراء والمعراج، وقال قبلها: الله قسم بين الخلق رزقهم وأنت خيرت في الأرزاق والقَسمِ إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله في لا منك أو نعمِ أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدمِ لما رأوك به -أي بالمسجد- التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم -أي: من الأنبياء- كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتممِ ثم قال: جبت السماوات أو ما فوقهن دجى على منورة درية اللجم ركوبة لك من عز ومن شرفٍ لا في الجياد ولا في الأينق الرسم حتى بلغت سماءً لا يطار لها على جناح ولا يسعى على قدم ثم بين أن هذا كله منحة ربانية وعطية إلهية: مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتُّهمِ وفي الهمزية قال رحمه الله: يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاءُ يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراءُ بهما سموت -أي: روحاً وجسداً- مطهرين كلاهما رَوُحٌ وريحانية وبهاء تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراءُ والذي يعنينا: أن هذا الأمر وإن كان معجزة ظاهرة وكرامة لنبينا صلى الله عليه وسلم إلا أن أمته يلحقها من هذه الكرامة شيء؛ لأن إكرام النبي إكرام للأمة، وإكرام الأمة إكرام لنبيها.
هذا ما يتعلق بقول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].(36/7)
تفسير قوله تعالى: (وآتينا موسى الكتاب من دوني وكيلا)
ثم قال الله بعدها: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء:2] وموسى هذا: موسى ابن عمران، والكتاب هنا: التوراة بالإجماع، {وَجَعَلْنَاهُ} [الإسراء:2] أي: التوراة، {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء:2]، وإسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وإليه ينسب أبناؤه فيسمون بني إسرائيل، والذين منهم موسى عليه الصلاة والسلام.
قال: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء:2] أي: وقلنا لهم: لا تتخذوا من دوني وكيلاً، ومن هنا يفهم: أن اللواء الأعظم الذي حمله الأنبياء عبر التاريخ البشري كله هو: ألا يعبد أحد من دون الله جل وعلا، وهذا يعيدنا إلى الآية الأولى؛ لأن من أخطائنا في دراسة السيرة: أننا ندرس الإسراء والمعراج لنبين مقام نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا حق، لكن ينبغي قبل أن نعرف الناس بفضل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم وبيان مكانته أن نبين عظيم قدرة الله جل وعلا، وحتى يشعرك -وهذه هي الغاية من ذكر الإسراء والمعراج- أن أولياء الله لا يمكن أن يكون عليهم خوف ولا حزن، أنت تقوم الليل وتقول في دعائك: اللهم إنه لا يعز من عاديت، ولا يذل من واليت، وهذه الأخيرة فقط استمسك بها جيداً وتأمل دائماً وأنت تراجع معنى: ولا يذل من واليت، فكل مكان دخلته، وكل طريق سلكته، خفت فيه من الذل لن ينالك ذل إن كان وليك الله، وليس بين الله وبين أحد من خلقه إلا الأعمال الصالحة، وأنا أعرف بعض من أثق في رشدهم إذا دعوا يقولون: اللهم ارزقنا رضاك؛ فإنه لا يضر مع رضاك سخط أحد، وارزقنا ولايتك؛ فإنه لا يذل من واليت، فإذا تولاك الله فلا يمكن أن تذل أبداً.
فنبينا صلى الله عليه وسلم ضربته العرب عن قوس واحدة، فأكرمه الله جل وعلا بهذه الكرامات الجليلة حتى نفقه -عندما يخبرنا الله بها- أي خير نؤمل فيه إذا تولانا سبحانه، وهذا المقصود الأسمى من ذكر مثل هذه الأخبار في القرآن بصورة أولية، وهي بيان عظمة الجبار جل جلاله، ولذلك استفتح الله الآيات بقوله: {سُبْحَانَ} [الإسراء:1].
قال تعالى: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ} [الإسراء:2] أي: التوراة، {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء:2] وسيأتي معنا في درس قادم -إن شاء الله- التفريق ما بين قول الله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] وبين قوله: {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:2 - 3] يقول أكثر المفسرين هنا: إن معنى الآية: يا ذرية من حملنا مع نوح! يقولون في نصبها: إنها منادى لحرف نداء محذوف، والمعنى: يا ذرية من حملنا مع نوح! والحق: أن هذا عندي غير مقنع، لكنني لا أملك بديلاً عنه، لكن قولهم: إنها منادى لحرف نداء محذوف أراه منسجماً مع بلاغة القرآن، فنقول: ذرية من حملنا مع نوح، ونوح عليه الصلاة والسلام أول الرسل إلى الأرض، وهو الذي حمله الله جل وعلا في السفينة ونجاه كما قال: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15]، فكل من جاء بعدهم -أي: بعد من نجوا- هو من ذرية من حمل الله جل وعلا مع نوح، لكن هذا تعميم، وتشكل علينا هنا آية الصافات، وهي قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، فهنا حصر للخليقة بعد نوح في أبنائه الثلاثة؛ لأن أبناء نوح أربعة: يافث، وكنعان، وسام، وحام، فكنعان على المشهور هلك في الطوفان، فبقي الثلاثة: سام، وحام، ويافث، فعلى آية الصافات: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، فالناس ينسبون إلى هؤلاء الثلاثة، لكن آية الإسراء لا تساعد على هذا؛ لأن الله قال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3]، وممن حمل مع نوح أبناؤه وغيرهم، وليس مقصوراً على أبنائه فقط: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، وهذا من نعت الله جل وعلا لهذا النبي الكريم عليه السلام؛ لأنه كان شاكراً، وقد مر معنا أن قواعد الشكر عديدة، لكن من أهمها: أن تعلم أن النعمة من الله، هذه أول قاعدة في الشكر.
القاعدة الثانية: أن تثني على الله بها.
والثالثة: أن تستعملها فيما يحب الله.
والرابعة: أن تحدث بها غيرك.
قال تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، هذا ما يتعلق بالتفسير.(36/8)
نظرة على الصناعة النحوية في الآيات السابق تفسيرها
ثم نأتي بعد ذلك إلى الصناعة النحوية فنقول: إن (سبحان) مصدر ملازم للإضافة، ويضاف للضمير كما يضاف للاسم الظاهر، فمثال إضافته للضمير قولنا: الله سبحانه، فأضفنا المصدر إلى الهاء وهي ضمير، أو نقول: سبحان الله، فأضفناه إلى اسم ظاهر، أو عندما تناجي ربك فتقول: لا إله إلا أنت سبحانك، فأضفته إلى ضمير، لكن الذي ينبغي أن يعلم: أن كلمة (سبحان) مصدر لا يخاطب به غير الله، ونظيره في الأفعال فعل: (تبارك)، فإن تبارك لا يخاطب به غير الله.
قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1]، قليلاً: ظرف زمان، وجاء منكراً إما للتقليل -كما مر معنا- فيكون المعنى: برهة العظمة، أو للتفخيم فيكون المعنى: ليل وأي ليل، والعلماء يقولون في كلمة (عبد) إنها من الأدلة على أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد، قال: {بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ} [الإسراء:1]، قلنا: إن اللام لام التعريف، ولذلك نصب الفعل بعدها: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].
ثم قال: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء:2] هدى: مفعول ثان لجعلنا، والمفعول الأول: هو الهاء في قوله سبحانه: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى} [الإسراء:2].
وقد جاءت هدى هنا منونة، والاسم الذي ينصرف ينون، أما الاسم الذي لا ينون فهو الممنوع من الصرف وهدى هذه -كفائدة نحوية-: إذا أطلقت على امرأة، وأردت به علماً على امرأة كما تسمى بعض النساء: هدى، فلا تنون؛ لأنها ممنوعة من الصرف لسببين: للعلمية والتأنيث، أما إذا جعلناها مصدراً ولم نطلقها على علم بعينه من الإناث فيجوز تنوينها كما قال الله: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} [الإسراء:2] فجاءت منونة.
ثم قال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء:3]، قلنا: إن الجمهور يقول: إنها منادى بحرف نداء محذوف، أي: يا ذرية من حملنا مع نوح! وفيه نظر.
قال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، هذه واضحة: فإن: حرف ناسخ، والهاء: اسمها، وكان وما بعدها واقعة في خبرها، ونوح: اسم كان محذوف مرفوع، وعبداً خبرها، لذلك جاءت منصوبة، وشكوراً: صفة لعبد.
هذا ما تيسر إيراده، وأعاننا الله جل وعلا على قوله، خضنا فيه شيئاً من التاريخ، وختمناه ببعض الصناعات النحوية على عجل، سائلين الله لنا ولكم التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(36/9)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الإسراء [4 - 14]
لقد تحدث الله في كتابه عن علوين وإفسادين يقعان ببني إسرائيل، واختلف أهل العلم في زمن حصول هذين العلوين والإفسادين، ثم أخبر تعالى عن مصير هؤلاء في الآخرة والدنيا، وأخبر عن هداية هذا القرآن وما فيه من الحكم الدامغة، والبراهين الشاهدة على تفرد الله ووحدانيته، فلا إله غيره، ولا رب سواه، وهو أرحم الراحمين سبحانه.(37/1)
تفسير قوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب إلى قوله: وليتبروا ما علوا تتبيراً)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسائر من اقتفى آثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: كنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:2 - 3].
ثم قال الله جل وعلا بعد هاتين الآيتين الكريمتين: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:4 - 8].
نقول بداية: الله جل وعلا يخلق ما يشاء ويختار، ونحن متفقون مع بني إسرائيل على أنهم في حقبة من الدهر اختارهم الله، فلا نرد كلام الله لأي عاطفة في قلوبنا، قال عز وجل: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، أي: عالم زمانهم.
وهذا كقول الله جل وعلا في حق كليمه موسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، أي: أهل زمانه، فموسى ليس أفضل من إبراهيم وهو قبله، وليس أفضل من محمد وهو بعده.
نعود فنقول: إن الله جل وعلا يعطي الرايات لأمم يختارها، وهذه الرايات تسوق بها هذه الأمة الأمم، وليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، فكلما كانت أمة من الأمم أقرب إلى الله ديناً أناط الله بها قيادة العالم.
فلما كانت الأرض في زمانهم مليئة بالوثنيين والطواغيت، وأخرج الله منهم كليمه موسى بن عمران واتبعوه وآمنوا به جعل الله جل وعلا الولاية في الأرض لهم دينياً، وهذا معنى قول الله: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32].
فلما غيروا وبدلوا، وسفكوا الدماء، وردوا على الله قوله، وقتلوا أنبياءه، أخذ الله منهم الولاية والزعامة، وأعطاها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم ما زالوا على أحلامهم، فهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مصطفون، وعلى أن غيرهم أميون على حد زعمهم، ولهذا قال الله حكاية عنهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75].
قال الله تعالى: {وَقَضَيْنَا} [الإسراء:4]، والقضاء -أيها المبارك- في القرآن ورد بصيغ يجب أن تحررها حتى تفهم: فقد ورد القضاء بمعنى: الخلق في قوله سبحانه: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:12] أي: فخلقهن سبع سماوات.
وورد القضاء بمعنى: الحكم: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} [النمل:78]، أي: يحكم بينهم.
وورد القضاء بمعنى: الأمر، ومنه قول الله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، أي: أمر ربك.
هنا الله جل وعلا يخبر أنه قدر وأخبر بني إسرائيل: أن لهم علوان في الأرض يصحبهما إفسادان، وأن الله جل وعلا سيعليهم ذات مرة ثم يرد كيدهم بواسطة عباد له، ثم يجعل الغلبة مرة أخرى لبني إسرائيل، ثم يرد الكرة عليهم، وتكون كرة أخيرة؛ إذ ظاهر القرآن أنه لا يكون لهم بعدها ظهور.
وقد اتفق المفسرون: أن بني إسرائيل سيعلون مرتين، وهذا نص القرآن: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:4]، وأنهم سيقهرون مرتين كذلك، فإن قيل: هل وقع لهم العلوان أم لا؟ ف
الجواب
بكل قال العلماء، وسنذكر بعض الأقوال دون النظر إلى من قال بها، ثم نبين موضع الإشكال في الآية الذي يردها.
قال بعض العلماء: إن كلا الأمرين وقعا قبل الإسلام، وهذا الجواب يرد عليه بالقرآن: فقد ذكر الله المسجد، ولا يعلم حسب تاريخ اليهود أن فريقاً واحداً حاربهم حول المسجد؛ لأن الله يقول: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:7]، فالله تكلم عن طائفة واحدة.
وبعضهم يقول: إنه جالوت، وقول: إنه نبوخذ نصر ملك بابل، ستة قرون تقريباً قبل الميلاد.
وبعض الناس يقول: إنه حصل الأول، لكن الثاني لم يحصل، بل سيحصل في زماننا هذا، على ما نحن فيه من علو بني إسرائيل الموجود عالمياً اليوم.
وهؤلاء يقولون: إن العلو الأول قد ظهر لكن يبقى
السؤال
على يد من قهروا؟ فإذا قلنا: إنه قبل الإسلام، فهذا لا يستقيم مع القرآن؛ لأن القرآن - كما قلنا - يتكلم عن طائفة واحدة، لأن الله يقول: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [الإسراء:4 - 6] أي: على الأولين الذين جاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً.
ثم قال جل وعلا: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء:6] ثم ذكر الثانية: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:7] فهم نفس الطائفة الأولى.
إذاً: يفهم من الآية أن الآية تتحدث عن صراع اليهود مع طائفة واحدة، ومعلوم قطعاً: أن عمر بن الخطاب فتح القدس سلماً، ولم تكن القدس أيام عمر تحت حكم اليهود، وإنما كانت تحت حكم النصارى.
وهناك قصيدة ذائعة أظنها للشاعر الفلسطيني خالد أبو العمرين التي يقول فيها: اضرب تحجرت القلوب فما لها إلا الحجر اضرب فمن كفـ ـيك ينهمر المطر في خان يونس في بلا طة في البوادي والحضر من فتية الأنفال والشورى ولقمان وحفاظ الزمر ثم يقول: في القدس قد نطق الحجر لا مؤتمر لا مؤتمر أنا لا أريد سوى عمر يقصد بلا مؤتمر لا مؤتمر: أي: للسلام هذا قصد الشاعر، لكن الشاعر هنا في ما أعلم أنه فلسطيني ولست متأكداً، لكنه يدل على أنه لم يحفظ السياق التاريخي؛ لأن قوله: لا مؤتمر لا مؤتمر، أنا لا أريد سوى عمر خطأ علمي؛ لأن عمر دخلها سلماً ولم يدخلها حرباً، ولم ينزعها من اليهود بالحرب، وأنت تتحدث عن اليهود والحرب، فهذا يجب استصحابه.
وقال آخرون: الإشكال كذلك في قول الله جل وعلا: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:8]، وعسى من الله واجبة.
يقول المفسرون: وهذا يدل على أنهم داخلون في الرحمة، ومعلوم أن اليهود بعد الإسلام لا يسمون يهوداً إذا آمنوا، بل يسمون: مسلمين، ولا يمكن أن تصلهم رحمة بمفهومها الخاص وهم كفار.
والله يقول: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] فقال بعضهم: إنهم كلما عادوا للإفساد عاد الله جل وعلا للتذليل والتنكيل بهم، ويستشهدون بأنهم في عصرنا هذا ظهر إفسادهم فسلط الله عليهم هتلر.
هذه كلها أقوال منثورة، لكنها إذا طبقت على الآية ومع السياق التاريخي فلا يمكن أن تتفق، والذي يترجح عندي: أن {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:8] ليس لها علاقة باليهود، ولا تتحدث عن بني إسرائيل؛ لأن عسى من الله واجبة، والله قد علم أن اليهود لن تعود لدين الإسلام، والتاريخ يشهد بهذا، وسنقاتلهم حتى قبيل قيام الساعة، ولو عادوا لما سموا يهوداً.
فـ {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8]، المخاطب بها: كل من آمن بالقرآن، هذا الذي أفهمه من الآية.
وإن قلت في بعض الدروس: إن المفسرين يقولون: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] أي: كلما عدتم إلى الإفساد عدنا للتنكيل والعذاب، واستشهدوا بقضية هتلر، وقالوا: فسدوا في أول الزمان فسلط الله عليهم نبيه وأصحابه فأخرجوا بني النضير وبني قينقاع وبني قريظة، لكن قلنا: هذا لا يستقيم مع الآيات، الآيات تتحدث عن مسجد ولا تتحدث عن شيء عام.(37/2)
الكلام على العلوين والإفسادين اللذين يحصلان لبني إسرائيل
هذا يدفعنا للحديث في أمور كثيرة، والذي يظهر ولا أستطيع أن أجزم به: أن كلا الإفسادين والعلوين لم يقعا، وربما -والعلم عند الله- وقد قال به بعض المؤرخين المعاصرين: أن ما يحصل الآن هو العلو الأول لبني إسرائيل، ثم في ما يبدو - والعلم عند الله - أنه يتم إخراجهم من المسجد الأقصى دون أن تذهب دولتهم بالكلية بمعنى: إلى حدود سبع وستين.
ثم بعد ذلك فيما يظهر: أنهم يستعينون بقوى العالم فتعينهم فيخرجون المسلمين من المسجد الأقصى، ثم إن الله جل وعلا يهيئ للأمة آنذاك من يرد كيد اليهود وهي الملحمة الأخيرة التي فيها الحديث: (ستقاتلون اليهود، وفيها ينطق الحجر والشجر إلا الغرقد) هذا الذي يبدو والعلم عند الله.
دولة إسرائيل المعاصرة سميت بإسرائيل: نسبة إلى يعقوب الذين هم من ذريته، وقد أعلنت عام 1948م، والذي أعلن من رؤساء إسرائيل قيام الدولة: بن غوريون أول زعيم إسرائيلي، وهناك مطار باسمه.
بعد إحدى عشر دقيقة من إعلان بن غوريون قيام دولة إسرائيل أعلن ترومان الرئيس الأمريكي آنذاك اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بقيام دولة إسرائيل، مما يدل على أن الأمر كان متفقاً عليه، وهذا لا يحتاج إلى شواهد ولا إلى دلائل.
حينذاك لم يكن المسجد الأقصى تحت حكم دولة إسرائيل، ففي عام 48م كانت تل أبيب وما حولها، ولم تدخل ما يسمى الآن بالضفة الغربية وقطاع غزة في الحكم الإسرائيلي.
ثم حدثت حرب 5 حزيران 67م، في تلك الحرب دخلت القدس وبالتالي المسجد الأقصى في حكم بني إسرائيل، فيصبح الإفساد المقصود به في الآية: الحيلولة بين الناس وبين المسجد الأقصى.
قال: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:4] أنت ترى الآن أن أكثر قرارات رؤساء العالم في الغرب في أمريكا يتحكم فيها اليهود، لكننا نقول ونتكلم بإنصاف حتى نستفيد: الله جل وعلا له سنتان: قدرية وشرعية، وله حبلان: حبل متصل به، وحبل متصل بالناس، والتمكين في الأرض يكون بالأخذ بالسنتين والحبلين، الله يقول: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112] فقطعاً اليهود حبلهم مع الله ضيعوه بكفرهم، فبقي الحبل مع الناس.
قبل مائة عام تقريباً كان يمنع اليهود من دخول مواطن معينة في أمريكا، ينظر إليهم على أنهم أراذل الناس، ولا يقبل أن يدخلوا أماكن يرى أصحابها أنه من العار أن يدخلها اليهود، فأخذوا بحبل من الناس.
من الذي أعطى الإسرائيلين الفكر الصهيوني أصلاً؟ من الذي أعطاها وعداً بأن تقوم دولة إسرائيل في فلسطين؟ بريطانيا، وكلنا درسنا في التاريخ وهذا ما يعرفه عوام المسلمين ما يسمى بوعد: بلفور، لكن الصهاينة كانوا يقرءون التاريخ السياسي قراءة صحيحة، فما تمسكوا ببريطانيا رغم أنها هي التي أعطتهم الوعد.
بل كانوا يقرءون أن الرياح العالمية تميل نحو الولايات المتحدة، فضربوا أوتاد خيامهم في أمريكا وأصبحوا يحاولون أن يصلوا إلى صناع القرار في الكونجرس والبيت الأبيض، وتركوا بريطانيا لعلمهم في القراءة السياسية أن القوة ستميل ناحية أمريكا.
فالمقصود: أن الصهاينة قرءوا السياسة جيداً، وعلموا أن القرار العالمي سيصبح مصدره الأول في الولايات المتحدة، فسحبوا بساط النفوذ من بريطانيا، وجعلوه في أمريكا، وأصبحوا ينيخون مطاياهم هناك، فتصور بلداً أو قوماً أو قلة من شذاذ الآفاق يدخلون بلداً كانوا قبل عام ممنوعين من دخول مواطن معينة فيه لأنهم عار، ثم بعد مائة عام من حياة الأمم يصبح القرار الأمريكي قلما يصدر إلا عن طريقهم، ويطلب رضاهم جميع من حكم الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا حبل من الناس، أما حبل الله فليس لهم عنده من حبل؛ لأن الكفر يقطع كل شيء.
وبنو الإسلام -للأسف- ضيعوا حبل الله وحبل الناس، لكن لو وجد حبل الله كاملاً ووجد مع اليهود حبل الناس فقط فسيغلب حبل الله، لكن الولاية العامة لا بد فيها من حبل الله وحبل الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم -وأنت تعلم أنه القدوة والأسوة وعليه أنزل القرآن- كان يتآلف العرب بالزواج منهم، وهذا من حبل الناس، (حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) وهذا من حبل الناس كما قال صلى الله عليه وسلم.
ولما خرج إليه زعيم أحد القبائل في قريش التي تعظم الهدي في صلح الحديبية قال: (هذا من قوم يعظمون الهدي أخرجوا الهدي من مكانه) فأخرج الهدي، والهدي ضامر لأنه محبوس، والله يقول: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25]؛ لأن الهدي قطع مسافات من المدينة إلى مكة وحبس من دخول الحرم فأصبح معقوداً ضامراً ولا مرعى.
فلما جاءه رجل من قوم يعظمون الهدي أمرهم بأن يطلقوا الهدي حتى يرى هذا، فهذا من مجرد ما رأى الهدي رجع قبل أن يلقى النبي وقال: ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، ورجع إلى قريش يحذرها، هذا كله داخل في حبل الناس، والأخذ بالأسباب المشروعة، لكن الإنسان لا يؤجر على حبل الناس، بل يؤجر على حبل الله، لكن الحبل العظيم حبل الله بلا شك، فإذا أخذت بحبل الله كاملاً فخذ بحبل الناس قدر الإمكان.
الذي يعنينا: أن المسجد الأقصى قلنا دخل في حكم اليهود بعد حرب 67 وهو باق إلى يومنا هذا، نسأل الله له الخلاص.(37/3)
معنى قوله تعالى: (جئنا بكم لفيفاً)
قال الله: {اسْكُنُوا الأَرْضَ} [الإسراء:104] هذه من الإشكالات التي لا تجعلني أجزم؛ لأن الله قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104] يعني: عندما نريد أن نهلككم نجمعكم.
قال: {اسْكُنُوا الأَرْضَ} [الإسراء:104] ولم يحدد الله مكان الأرض؛ ولهذا فاليهود قبل قيام دولة إسرائيل كانوا منتشرين في أكثر بقاع العالم، فالحكومة التي حكمت بقيادة بن غوريون أول ما حكمت وضعت أموالاً باهظة لمن يأتي من اليهود إلى إسرائيل؛ لأن اليهودية ملة، أما إسرائيل فدولة.
والذي يعنينا: أنه يوجد يهود الآن في أمريكا ممن يحملون الجنسية الأمريكية أو غيرها، لكن يوجد يهود في إسرائيل معه جنسية إسرائيلية، فجاء يهود الدونما ويهود الفلاشا من اليمن وحدها، فقد ثبت أنه خرج أربعة آلاف يمني يهودي ممن يقطنون اليمن، ويهود الدونما جاءوا من الاتحاد السوفيتي، ويهود الفلاشا أتو من الحبشة مصداقاً لقول الله جل وعلا: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104] أي: بحصادهم.
فقد يكون هذا العلو والإفساد متتابعاً، وهذا من الإشكالات.
قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء:4] أي: في الكتاب الذي عنده.
{لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء:4]، والله لا يتكلم عن فساد أفراد وإنما يتكلم عن فساد أمم.
{وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:4] أي: أمراً ظاهراً.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} [الإسراء:5] أي: أولى المفسدتين.
{بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا} [الإسراء:5]، وجاسوا هنا: تسمعون في الاصطلاحات العسكرية الآن بما يسمى: تمشيط المنطقة، فجاسوا تأتي بنفس المعنى، والتمشيط لا يكون إلا من ذوي قدرة، أي: أن الذي سيغلب اليهود سيكون له سلطان، وسينقب تنقيباً حثيثاً عنهم: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء:5].
قال: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَليْهِم} [الإسراء:6] والذي رد الكرة رب العزة، لكن لا بد أن يكون هناك أسباب، وهو جل وعلا الذي جعلها.
قال: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء:6] وعلى القول الأول أياً كان الأمر هذا -يعني: العلو هذا، أو هذا الثاني- وهذا ما نراه من تظافر الأمم معهم.
قال: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ} [الإسراء:6] لاحظ تعبير القرآن، قال: {نَفِيرًا} [الإسراء:6] وكأنه يمثل البوق الإعلامي، ما قال: وجعلناكم أكثر عدداً؛ لأن اليهود أقلية لا يمكن أن يصبح عددهم كثرة هائلة، مستحيل حتى في التوالد، يعني: أنهم بضعة ملايين في العالم كله يمكن عدهم؛ ولهذا ما قال الله: أكثر عدداً، بل قال: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} [الإسراء:6 - 7] وكلمة الآخرة تدل على أنه لا ثالث بعدها، قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} [الإسراء:7] أي: وجوه اليهود.
{وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:7] والمسجد قطعاً هنا المقصود به: المسجد الأقصى.
{وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:7] قلت: إلى هنا نقول: انتهى الحديث عن اليهود.(37/4)
تفسير قوله تعالى: (عسى ربكم أن يرحمكم وكان الإنسان عجولاً)
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:8] وعسى من الله واجبة، لكن أكثر المفسرين على أن لها علاقة بما مضى.
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الإسراء:8] قال المفسرون: إن عدتم للإفساد عدنا للتنكيل.
{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:8] حصيراً بمعنى: مطوقة لهم لا تنفك عنهم، فتلازمهم ولا يستطيعون أن يخرجوا منها.
نقول في جملة ما يمكن أن نبين حول ما ذكرناه على غير قواعد المفسرين: أن الإنسان يجب عليه أن ينصر الله ورسوله، لكن نصرة الله ورسوله تحتاج إلى وعي وإدراك، فليست القضية قضية دعاو، ولا أن يتخبط الإنسان في طريقه، وإنما لا بد من فهم وإدراك تام للكيفية التي ينصر العبد بها دين ربه جل وعلا، أن ينظر نظرة بعين القدر وعين الشرع، وهذا حررناه مراراً، النظر إلى المصالح والمفاسد، فليس الطبيب الحاذق -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- من يهدم مصراً ليبني قصراً.
والآنية في التفكير، وعدم الاستعجال في الثمرة، وأنه ليس شرطاً ولا لزاماً ولا تزكية لنا أن تحرر القدس في أيامنا، فإن الله جل وعلا أخبر نبيه في آيات كثيرة أنه عليك البلاغ وقد نتوفاك وما أريناك الذي وعدناهم، قال تعالى: {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف:42].
والمعنى: أن الدين ليس مرتبطاً بجيل معين ولا بشخص بعينه، وإنما الإنسان يسعى سعياً على بينة وبصيرة في نصرة دين الله جل وعلا، فكلما كان الإنسان ساعياً للم الشمل وجمع كلمة الأمة والحفاظ على مكتسباتها ومقوماتها كان هذا أثخن في صدر العدو.
وكلما كان الإنسان سبباً في التفريق والشتات وضياع وحدة الأمة ومكتسباتها ومقوماتها كان ذلك أرضى لأعداء الله، قال الله: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] هذا من جملة ما أردنا بيانه.
ونعود للآيات من باب الصناعات غير التاريخية: قال الله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:4] العلو هنا يعرب عند النحويين: مفعولاً مطلقاً، وهو يأتي على ثلاثة أنواع: إما مؤكداً لعامله، وإما مبيناً لنوعه أو عدده، وهو هنا مبين للنوع؛ لأنه جاء موصوفاً: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:4 - 5] وكلمة بأس في القرآن وردت بعدة معان منها: الحرب، قال الله جل وعلا: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] أي: ولا يأتون الحرب.
قال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [الإسراء:5 - 6] مر معنا أن كلمة: بنين ملحقة بجمع المذكر السالم، فترفع بالواو وتنصب وتجر بالياء.
ومن الملحقات بجمع المذكر السالم كلمة: أهلون، وقد وردت في القرآن: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:11]، وكلمة: أرضون، ولم ترد في القرآن بل وردت في السنة: (طوق من سبع أرضين).
قال الله تعالى: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} [الإسراء:5 - 7] هذه كلها ليس فيها شيء ظاهر.
نعود للتفسير، قال الله بعدها: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9] الآن أنخ مطاياك وقارن؛ قال الله في أول السورة: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء:2]، فالتوراة مخصوصة، أما القرآن فعام، ولهذا قال الله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] أي: أن أي أحد يهتدى به، فلم ينزل لقوم بعينهم كما أن التوراة هدى لبني إسرائيل.
قال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] كل ما دعا إليه القرآن فهو قويم وسبيل مستقيم، وهذا أمر حرر فيه العلماء مطولات لكني أذكره إجمالاً.
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإسراء:9 - 10] أي معنى الآيتين: أن القرآن فيه وعد ووعيد.
{وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:10 - 11] معنى الآية: أن الإنسان أحياناً يضجر فيدعو على نفسه وماله وولده إذا غضب بالهلاك مثلما يدعو لنفسه بالخير، بمعنى: أنه إذا ضجر من دابته دعا عليها، وإذا ضجر من ابنه دعا عليه، وإذا ضجر من ماله دعا عليه، فالله جل وعلا يقول: لو كنت مستجيباً في دعائه بالشر كاستجابتي له في دعائه بالخير لهلك الإنسان، ولهذا قال الله بعد: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11] قال ابن عباس: أي: ضجراً، لا يرضى ولا يتحمل لا سراء ولا ضراء.
والواو في (يدعو) ثابتة لفظاً لكنها حذفت كتابة، على خلاف بين العلماء لماذا حذفت؟ لكن الذين رسموا القرآن في الأول نلحظ فيهم أن العين إذا جاءت بعدها واو مستقبلة اللام الساكنة يحذفون الواو، ونظيرها قوله تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:18] فهي مكتوبة من غير واو لنفس القاعدة، وهناك قرائن أخرى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11].
من الفوائد الحياتية يقولون: إن العجلة مكروهة على العموم إلا في أحوال ست، نحاول أن نتذكرها سوياً، العجلة مكروهة في بني آدم إلا في أحوال ست: أولها: الصلاة إذا دخل وقتها، فيعجل بأدائها.
والميت إذا حضر موته يعجل بدفنه.
والبكر إذا أدركت يعجل بزواجها.
والضيف إذا نزل يعجل بإطعامه.
والدين إذا وجد يعجل بقضائه.
والذنب إذا وقع يعجل بالتوبة منه.
وآكدها: الصلاة؛ لأن من قواعد الشرع: أن ترك المأمور أعظم من ارتكاب المحظور، مع أن كليهما عظيم، لكن ترك المأمور أعظم من ارتكاب المحظور.(37/5)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا الليل والنهار آيتين كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً)
ثم قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:12] الآيتان ظاهرتان.
والقرآن -أيها المبارك- فيه محكم ومتشابه، والقرآن كتاب مسطور تقرأه، قال الله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ} [الإسراء:9] وقال بعدها: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء:12] فالليل: متشابه، والنهار: محكم، فكما توجد في القرآن آيات محكمة ومتشابهة توجد في الكون آيات تدل على ربنا محكمة ومتشابهة، فالمتشابه: الليل، والمحكم: النهار.
وكذلك في القرآن آيات محكمة ومتشابهة، ولا غنى للناس عن الليل والنهار سوياً، فكذلك لا غنى للمؤمنين عن المحكم والمتشابه، قال الله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50] وهنا قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء:12] ولم يقل: آية؛ لأن عيسى ومريم عليهما السلام يمكن الجمع بينهما في وقت واحد، تراهما في وقت واحد عيسى مع أمه، لكن الليل والنهار محال أن يجتمعا في وقت واحد، فإما أن نكون في ليل وإما أن نكون في نهار، فهما ضدان لا يجتمعان، فلما كانا لا يجتمعان ثنى الله جل وعلا فقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء:12].
ولما كان يمكن الجمع بين عيسى وأمه، وأنه يمكن لأي شخص أن يراهما سوياً؛ قال الله: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50].
قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12] أي: الشمس، وآية الليل هي: القمر.
قال: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء:12] جعل الله جل وعلا في النهار ابتغاءنا الفضل من الله: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:11].
وجعل بالليل قيام الحساب والمواقيت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189].
نعود فنقول: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء:12] ثم قال الله: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13 - 14].
العرب كانت تستخدم الطائر في الخير والشر تتفائل به وتتشاءم، فورد عنهم لفظ: سارحة وبارحة، يتفاءلون ويتشاءمون بالسارح والبارح، الذي يأخذ ذات اليمين، أو الذي يأخذ ذات الشمال، يقول الكميت الأسدي: ولا السارحات البارحات عشية أمر غراب البين أم مر أعضب ولكن إلى أهل الفضائل والتقى وخير بني حواء والخير يطلب بني هاشم رهط النبي فإنهم بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب يقول العلماء البلاغيون: خاطب الله العرب بجنس كلامهم، معنى الآية: أن الله جل وعلا كتب على بني آدم حظهم من الخير ومن الشر، فهو ملازم له ملازمة الطوق على العنق، وإنما يسمى ما على العنق طوقاً أو قلادة، وما على الساعد: أسورة، وما على الإصبع: خاتماً، وما على الساق: خلخالاً.
وفي المثل العربي الشهير يقال: شذ عمرو عن الطوق، وعمرو هذا رجل شاب وكان ابن أحد الملوك، فكانت أمه عندما كانت تربيه وتعنى به تلبسه طوقاً أو قلادة أو تزينه في الجاهلية، فلما بلغ مبلغ الرجال ترك الطوق.
فيقال في الرجل الشاب إذا أدرك معالي الأمور وتجاوز مرحلة المراهقة وحياة البحث عن الذات: شذ فلان عن الطوق، تجاوز تلك المراحل، تجاوز تلك الأيام.
الذي يعنينا: أن الله جل وعلا شبه عمل بني آدم أنه ملازم له لا ينفك عنه كما أن الطوق لا ينفك عن العنق، ثم يوم القيامة يعرض له.
قال: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا} [الإسراء:13] أي: مفتوحاً، وقد مر معنا: سيف مشهور، وكفن منشور، وقبر محفور.
قال: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] هنا المفسرون يأخذون عبارة شهيرة للحسن البصري أبي سعيد رحمه الله وهو قوله: قد أنصفك من جعلك حسيب نفسك.
{اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الإسراء:14 - 15] وهذه ظاهرة.
هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(37/6)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الإسراء [15 - 36]
من قواعد الشرع الحكيم: أنها لا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يحمل المرء ذنوب شخص آخر، بل إذا أراد الله إهلاك قرية جعلها تعمل بالمعاصي، وتنجر وراءها ثم أخذها أخذ عزيز مقتدر، عظيم متكبر، جليل متجبر، وما الأمم الماضية عنا ببعيد، ثم ذكر الله عظم جريمة الشرك واتخاذ الند مع الله، ثم شرع في بيان الحقوق الواجبة على المسلم، من طاعة الوالدين، ومراعاة الحقوق، وحرمة الزنا والقتل وأكل مال اليتيم وغيرها من الحقوق التي يجب على المسلم أن يأتيها.(38/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى إلى قوله: وما كان عطاء ربك محظوراً)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من أقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: هذا اللقاء الثالث حول سورة الإسراء، وكنا قد انتهينا عند قول ربنا جل وعلا: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، أما أول الآية فهي جملة شرطية ظاهرة المعنى، أن الإنسان إذا وفق للهدى فإن ثواب تلك الهداية عائد عليه، وكذلك إذا حاد الإنسان عن الهدى وسلك طريق الضلالة فإن عاقبة ذلك ووباله وخسرانه عليه.
قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:15] هذا من قواعد الشرع التي أخبر الله عنها في الحساب يوم القيامة، ذلك أن العرض الأكبر على الله له قواعد، ومن أهم القواعد: أنه لا تؤخذ نفس بجريمة نفس أخرى، قال الله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء:15]، من قواعد الحساب: إقامة الشهود: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر:69]، ومن قواعد الحساب: أن الله جل وعلا لا يظلم الناس مثقال ذرة.
ثم قال الله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] أول ما نستفيده من هذه الخاتمة: أن ما هنا: نافية.
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] دلالة ظاهرة على أن الدين يجب بالسمع لا بالعقل، فمن يقول: إن الناس يكفيهم بالعقل أن يناط بهم التكليف، هذا خلاف الصواب، وإنما لا بد من السمع عن الله عن طريق الرسل؛ ولهذا قال الله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] أي: لا تكون حجة حتى يكون هناك رسول، وهذا الخبر القرآني هنا أثبته الله جل وعلا في أكثر من موضع، قال الله جل وعلا: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] معنى الآية: أنه لو لم يكن رسل لكان للناس على ربهم حجة، والله جل وعلا ذكر أهل النار وذكر أنهم يلقون فيها أفواجاً، قال سبحانه: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك:8 - 9] وهذا هو نظر العلماء للحديث عمن لم تبلغهم الرسالة، والآية محكمة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وأنا لا أستطيع أن أقف حكماً بين العلماء، ولكني أعطيك طرائق العلماء.
الإشكال الوارد: أنه ثبت في نصوص صحيحة: الإخبار عن أفراد أنهم في النار، رغم الاتفاق أنه لم تصلهم رسالة، كإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن عمرو بن لحي الخزاعي: أنه يجر قصبه في النار، وإخباره صلى الله عليه وسلم عن صاحب المحجن، وإخباره عن غيرهما، مع أن الآية ظاهرة في أنه لا تعذيب بدون إقامة حجة إذا ضممناها إلى آية تبارك: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك:8] وبعض أهل العلم يقول: نتوقف ونأخذ بالحديث الصحيح: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، وهذا لعله أقرب؛ لأن القول بأن أهل الفترة الذين قبل النبي صلى الله عليه وسلم هم مطالبون برسالة إبراهيم وإسماعيل أمر يرده القرآن؛ لأن الله يقول: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44]، فربنا يبين أن ليس لهم كتاب وليس لهم نذير، وقال: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:46] فالله جل وعلا يخبر أنه لا نذير سبق إليهم، فهذا هو مجال البحث في الآية، وقلت: إنني أقف حكماً بين أقوال العلماء، قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، وقد قرئت (أمرنا) بالتشديد وبالتخفيف، وقراءة التخفيف مجمع عليها، والصواب حملها على التخفيف ليصبح معنى الآية: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:16] أي: سبق في قضائنا وقدرنا أن قرية ما ستهلك.
{أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16]، لكن الله لم يذكر الذي أمروا به، لكن دل العقل عليه، أي: أمرناهم بالطاعة.
{فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16] أي: خرجوا عن الطاعة.
{فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16] فيصبح معنى الآية: أن الله جل وعلا إذا سبق في قضائه وقدره الأزلي أن قرية ما ستهلك، فإن الله جل وعلا يأمرهم بأوامره، والأسباب مرتبة على مسبباتها، فيفسقون ويخرجون عن الطاعة ويحيدون عن الهدى، فيحق عليهم العذاب بذلك، قال الله: {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16].
ثم قال الله بعدها: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء:17]، والقرن: هو الجيل، وبعضهم يقول: إنه قرابة مائة عام، وكم هنا: خبرية وليست استفهامية، وقلنا في دروس سبقت وأيام مضت: إن الفارق الأشهر بين (كم) الخبرية و (كم) الاستفهامية: أن كم الخبرية لا تحتاج إلى جواب، وكم الاستفهامية تحتاج إلى جواب، ولا بد أن تلم بلغة العرب حتى تملك الآلة في فهم القرآن، ويتفقان -أي: كم الخبرية والاستفهامية- في أمور أشهرها: أن كلاهما مبني، وكلاهما له الصدارة في الكلام.
قال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء:17]، ولم يذكر الله أمماً وقروناً أهلكها من قبل نوح؛ لأنه لم يكن هناك شرك قبل نوح، ولم يكن هناك رسل حتى يكذبوا، وإنما نوح هو أول الرسل: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء:17].
ثم قال الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 - 19]، عبر الله عن الدنيا بالعاجلة من باب الكناية، قال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسراء:18]، لكن الله ذكر قيداً وهو قوله سبحانه: {لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18] والقيد هنا يجري حكمه وتحقيقه على ما أطلقه الله في آيات أخرى، قال الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، لكن هذا الإطلاق مقيد بآيات الإسراع بقوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18] و (ثم) للتراخي والتعقيب، (ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً)، ولما ذكر الله بغاة الدنيا، ذكر طلاب الآخرة فقال: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء:19] والمعنى: أن هناك سعي خاص بالآخرة، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19] والسعي الخاص بالآخرة: هو موافقة شرع نبينا صلى الله عليه وسلم، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء:19] وهذا تحقيق للإخلاص، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19] أي: أن الله جل وعلا يثيبهم على صنيعهم، ثم قال: {كُلًّا} [الإسراء:20]، والتنوين هنا: عوض عن محذوف، أي: كلاً ممن يريد العاجلة، وكلاً ممن يريد الآخرة، {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ} [الإسراء:20] طلاب الآخرة، {وَهَؤُلاءِ} [الإسراء:20] بغاة الدنيا، {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} [الإسراء:20] أي: من رزق ربك، ثم قال الله: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20] يجب أن نقول: إن حكمه (عطاء) هنا المقصود بها: الرزق في الدنيا، قال: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20] أي: ممنوعاً، فإن قال لك قائل: ما هو دليلك على هذا؟ نقول: إن الكافر ليس له حظ في الآخرة، فلا يعقل أن يقال عنه: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20] لكن الله في الدنيا يرزق المؤمن ويرزق الكافر، ويرزق الشقي ويرزق السعيد، ويرزق البر ويرزق الفاجر.
ثم جاء الخطاب لسيد الخلق وصفوتهم: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:21] وهذا أمر مشاهد في الدنيا، فإنه حتى طلاب الآخرة يتفاضلون فيما أعطوا من الإيمان والعمل الصالح، وطلاب الدنيا يتفاضلون فيما أعطوا من غنىً ونحوه، قال: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:21] ثم لا تحسبن أن هذا هو نهاية المطاف، قال تعا(38/2)
تفسير قوله تعالى: (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض إلى قوله: فإنه كان للأوابين غفوراً)
قال تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21] والجنة مائة درجة، وهناك تفاضل عظيم ما بين أهلها، كما أن النار دركات، إلا أن الله برحمته ينزع الحزن أبداً عن أهل الجنة، وإن كان صاحبها أقل أهل الجنة ثواباً ومنزلة، أما النار فإن أدناهم منزلة عياذاً بالله يظن أنه لا أحد أشد عذاباً منه، وهذا وحده غاية النكال.
قال: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21] ثم قال تجديداً لقضية إيمانية تتردد في القرآن كثيراً وهي: أن توحيد الله هو المقصود الأعظم، قال: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22] ونسب الفعل (تقعد) لأنه جاء بعد فاء السببية التي سبقها فعل مسبوق بنهي؛ ولذلك جزم بالسكون، قال: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22]، ثم جاءت في الآيات سلسلة من الأخلاق، وسورة الإسراء سورة مكية لم ينبه الله فيها إلا على أمور مقررة فقهياً في كل الملل التي سلفت، قال الله: {وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء:23]، وهنا (قضى) بمعنى: أمر، وقد مر معنا: أن قضى تأتي بمعنى: خلق، كقوله سبحانه: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:12]، وتأتي بمعنى: حكم، كقوله جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل:78].
قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ} [الإسراء:23] أي: أمر، {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] وهذا تحقيق للتوحيد الذي تحدثنا عنه مراراً، وهو الغاية من خلق الثقلين، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5].
ثم قال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] قال العلماء - وهذا ظاهر لكل أحد -: إن الله قرن بر الوالدين بوحدانيته؛ ليبين عظيم المنزلة للوالدين، وهذا إجمال {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، ثم بين: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] فنهى عن الأدنى تنبيهاً للأعلى، {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] والقول الكريم: هو ما يستطيبه السمع، وتستريح له النفس، وترغب بسماعه الأذن، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] هذا عند البلاغيين يسمى: استعارة؛ ذلك أن الطائر إذا أراد أن يعلو خفض بجناحيه، فإذا أراد أن يهبط خفضهما، لكن الله قال -وهذا من دقائق التعبير والفوارق القرآنية- قال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] لكنه هنا قال: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] فكلمة الذل زائدة في حق الوالدين عن عموم الناس؛ لأن حق الوالدين ليس كحق بقية الناس، فأنت مطالب بأن تخفض جناحك للمؤمنين، لكن يكون خفضك لجناحك في تعاملك مع والديك أشد وأعظم؛ قال الله جل وعلا: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24] وهذا تنبيه لك، ليس المقصود منه: أنه لو فرضنا أن أحدهما مات ولم ينل مشقة تربيتك أنك لا تدعو له هذا محال، لكن هذا قيد أغلبي؛ لأن الأصل أن الوالدين هما اللذان يقومان بتربية الأبناء، {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24].
قال: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25] من أخطاء الأئمة أنهم يقرءونها: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} [الإسراء:25] ثم يقول: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25] فالله أعلم بما في نفوسنا كنا صالحين أم لم نكن، لكن ما معنى الآية: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} [الإسراء:25] شرطية، {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25] جواب الشرط، وأحياناً هذا يقع لو راجعت كثيراً من أوراقك القديمة أو حتى في أيامك هذه، أحياناً تريد أن تبر والديك أو أحدهما فتقع في خلاف الذي تريد، فتقع منك كلمة لا يرغبانها، وأنت لا تقصد عقوقهما إنما تقصد برهما، أو أن تقدم لهما شيئاً ترى أنهما يحبانه، فإذا هما يكرهانه، فالموقف العام لا يساعدك على أن تظهر كل ما في قلبك، أو على أن تقول الأمر بجلاء، فأنت تريد أن تبره، وهو يرى أنك عاق له، مثاله: قد يكون أحد والديك يشعر بوهم كبير أنه مريض، فيلح عليك أنه مريض، ويريد أن تذهب به إلى الطبيب، وأنت تمتنع لا عقوقاً له، وإنما لأنك لا تريد أن تعينه على نفسه حتى لا تزيد وهمه؛ لأنك لو أخذته واستجبت لندائه ولئن ذهبت به إلى الشيخ فلان ليقرأ عليه، وغداً ذهبت به إلى الطبيب ليكشف عليه زدت من قناعة الوالد أو الوالدة بأنه مريض، وأنت تعلم أن الوالد أو الوالدة إنما هي قضايا نفسية لا أكثر ولا أقل، فكونك تمتنع عن الذهاب به إلى ما يريد، إنما تعينه على نفسه حتى ينتصر على أوهامه، وإن كان الأب أو الوالد ينظر إليك على أنك عاق، وربما أسمعك كلاماً لا يرضيك، وربما قال لجيرانه أو لأصدقائه أو لبعض إخوانه: إنني قلت لابني فلان مرة ومرتين لكنه لا خير فيه ولا يريد أن يذهب بي إلى الطبيب؛ لأنه يجهل مصلحته وأنت لم تقصد إلا الخير، فهذا خفي على الوالد وخفي على الوالدة، لكنه لا يخفى على رب العالمين، هذا معنى قول الله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء:25] بعد ذكره لبر الوالدين، {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25] تقصد خيراً، تريد صلاحاً فبر بوالديك، فإنه جل وعلا كان للأوابين غفوراً.(38/3)
تفسير قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه إلى قوله: فقل لهم قولاً ميسوراً)
ثم قال الله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:26 - 27] والقرآن يربي فينا فقه الأولويات، ثلاث آيات تتحدث فقط عن الوالدين مقرونة بالتوحيد، ثم ثلاثة حقوق تأتي في آية واحدة، فالقريب له حق، والمسكين له حق، وابن السبيل له حق؛ لأن المسكين في الغالب يكون ابن بيئتك، وابن السبيل غريب، فحق القريب مقدم، ثم ابن القرية والمدينة التي تسكنها، ثم المسافر الغريب، أما قول ربنا: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء:26] فهذه أشبه بالجملة المعترضة إذا نظرت فيما بعدها، {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:26 - 27] هناك تبذير وهناك إسراف؛ فالإسراف: الشيء في أصله يكون صواباً، فإذا زدت عن حده سمي: إسرافاً، أما التبذير: فهو الشيء الذي في أصله باطل، وهو الإنفاق أو البذل في شيء لا أصل له، نأتي بمثال معاصر: من لوازم الحياة اليومية: أن يكون لهذا الإنسان جوال، فكونه يخرج ليشتري جوالاً لنفسه لا يسمى هذا إسرافاً، فقد يحتاج إلى أكثر من جوال بحسب وضعه الاجتماعي، لكنه إذا زاد عن هذا الحد يسمى: مسرفاً.
ولهذا فالإسراف لم يأت به إلا في الذنوب بخلاف التبذير، قال الله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] ولكنه قال في الأعراف: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] لكن هنا أغلظ قال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] أي أوليائهم، {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27] هذه الأخيرة جملة اعتراضية، ثم عاد الكلام للأول، {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء:26] قال بعدها: وإما، وهي مركبة من: إن وما، {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} [الإسراء:28] قلنا: إن المبذرين إخوان الشياطين هذه جملة اعتراضية، ما الذي قبلها؟ {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى} [الإسراء:26] زالوالدان انتهت قضيتهم بقوله: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25] ثم ذكر أيها المباركون حقوق ثلاثة: لذي القربى، والمسكين، وابن السبيل، ثم أطنب بفائدة في الكلام عن التبذير، ثم عاد السياق: لآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل فقال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء:26] ثم قال: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} [الإسراء:28] أي: عن هؤلاء الثلاثة، {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28] مثاله: بين يوم 20 و 25 موعد استلام الناس للرواتب، ويقل ما في أيديهم، فإن جاءك مسكين سائل أو قريب أو ابن سبيل يستدين منك مائة أو مائتي ريال، فأنت هنا لا تجد، فماذا يرشدك ربك؟ الله يقول: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} [الإسراء:28] ليس عندك شيء تواصلهم به، {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} [الإسراء:28] ما الرحمة هنا؟ الراتب الذي سيأتي بعد يوم 25، {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28] لاطفهم بالقول حتى تأتيك الرحمة، قال: {ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} [الإسراء:28] أي: أنت موعود بها، {فَقُلْ لَهُمْ} [الإسراء:28] أي: لهؤلاء السائلين {قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28] لاطفهم بالخطاب حتى يأتي اليوم الذي تتمكن من برهم كما أمر الله: لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال هذا بيت للمتنبي، لكن أين قول المتنبي من قول الله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} [الإسراء:28] فيها فائدة: أن المؤمن دائماً يعلق رجائه بالله، وأنه لا يقول: إنني سأبقى معدماً إلى أن أموت، فإن رحمة الله جل وعلا قريبة، كما ينبغي على من أغناه الله ألا يعتقد أنه ربما سيبقى ثرياً غنياً إلى أن يموت، يعني: فلا ييأسن فقير، ولا يبطرن ويفخرن غني، يقول أبو العتاهية في هجاء سلم بن عمرو: تعالى الله يا سلم بن عمرو أذل الحرص أعناق الرجال هذه الدنيا تساق إليك عفواً أليس مصير ذلك للزوال والشاهد ليس في هذين البيتين، لكن في بيت آخر لـ زيان بن سيار الفزاري يقول: يؤمل أن يعمر عمر نوح وأمر الله يحدث كل ليلة يعني: أن أمر الله يقع بين عشية وضحاها.(38/4)
تفسير قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك إنه كان بعباده خبيراً بصيراً)
قال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28].
ثم قال الله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29]، والحسير: الدابة في السفر، فإذا عجزت وانقطعت عن تكملة طريقها سميت: حسيراً، وقد عجزت؛ لأنها بذلت جهداً فوق طاقتها في أول السفر، فلا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت، فربنا يقول: لا تكن شحيحاً كمن يده مغلولة إلى عنقه؛ لأن الذي يده مغلولة إلى عنقه لا يستطيع أن يضعها في جيبه حتى ينفق، ثم قال: {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29] أي: ولا تنفق إنفاقاً كاملاً لأنك ستحتاج إليه فلا تجده، ودائماً كلا طرفي الأمور ذميم، والعبرة بالطريق الوسط.
نبينا صلى الله عليه وسلم حل ضيفاً على أبي الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وأرضاه الأنصاري المعروف، فالرجل بدأ بعذق من النخلة فيه بسر ورطب وتمر، ووضعه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ السكين، فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم والسكين في يده، فعرف أنه يريد أن يذبح طعاماً لنبي الله، والنبي جاء بالمنهج الوسط، فقال له: (إياك والحلوب)، الآن افهم مقصوده عليه الصلاة والسلام، هو لم يقل له: لا تذبح لي؛ لأن في هذا منعاً للمضيف أن يكرم ضيفه، ولم يرخص له في أن يذبح أي شيء حتى لا يتضرر أهل الدار، فلو ذبح حلوباً لتضرر أهل الدار لأنهم يشربون من لبنها، وربما انتفع بها ولدها، فالنبي عليه الصلاة والسلام لجأ إلى حل أمثل يجعل الرجل يكرم ضيفه دون أن يتضرر أهله، وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29] فإن قال قائل: ما تقول في فعل الصديق عندما قال: تركت لهم الله ورسوله.
نقول: هذا فعل عارض أولاً، الأمر الثاني: أن أبا بكر كان رجل تجارة، ومعلوم أن صاحب التجارة قد يكون أحياناً في يده مال وأحياناً لا يكون، وقد ينفق اليوم ثم يأتيه بيع آخر يدر عليه.
قال تعالى: {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء:29 - 30] الرزق بيد الله، وما كتبه الله لك سيصل على ضعفك، وما لم يكتبه الله لك لن تناله بقوتك: (إن روح القدس نفث في روعي: أن النفس لن تموت حتى تستوفي أجلها، وتستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن ما عند الله إنما يطلب بطاعته ولا يطلب بمعصيته).(38/5)
تفسير قوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق إنه كان منصوراً)
ثم قال الله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:31] الآيات مكية تخاطب الظواهر الاجتماعية المعيبة المشينة التي كانت في المجتمع المكي، ومن أعظمها: أنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر؛ ولهذا جاء في الحديث: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] أنتم لا تشتكون فقراً لكنكم تزعمون أن الولد إذا جاء ضيق عليكم، فلهذا قدم الله ذكر الولد بقوله: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] ثم قال: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:31] ذنباً وأي ذنب! يكفي أن فيه إساءة الظن برب العالمين جل وعلا، وأن الله عاجز عن رزقه، وهذا وحده عين الكفر، فإذا ظن العبد أن الله عاجز عن أن يرزق أحداً والله يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] ويقول: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:60] فهذا أكفر الكفر.
هنا يقول ربنا: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:31 - 32] أي: أي طريق يدني من هذه الفاحشة المحرمة في جميع الشرائع، ثلاث أمور نهى الله عنها: الشرك، وقتل النفس بغير حق، والزنا، وقد ذكرها الله جميعاً في الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] فهذا محرم في الشرائع كلها، قال الله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] ثم قال: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:33] والحق: أن يكون القتل قتلاً شرعياً، وقد بين صلى الله عليه وسلم موجبات القتل بقوله: (كفر بعد إيمان، وزنىً بعد إحصان، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، قال: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:33] ثم قال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:33]، قال هنا: فلا يسرف، ولم يقل: فلا يبذر، والأصل أن يقتل واحد بواحد، وهذا حق، لكن إذا زاد فهذا إسراف، ولم يسمه الله: تبذيراً؛ لأنه قائم في أصله على وجه حق، قال: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:33]، فقد كان بعضهم يرى أن فيه أنفة وأن فلان بن فلان لا يمكن أن يقتل بواحد، ومر معكم في حرب البسوس: لما قتل جساس كليباً، وأخبر مهلهل أخو كليب بأن جساساً قتل أخاه، وقامت حرب البسوس بين بكر وتغلب، وبكر وتغلب كلاهما من ربيعة، وكان فيهم أنفة، الشاهد أن أحدهم من الزعماء آنذاك أظنه الحارث بن عباد أراد أن ينهي المسألة، فبعث ابنه ليقتل بدلاً من كليب، فيستريح مهلهل وتنتهي المسألة -وكان الحارث زعيماً- فبعث ابنه فرفض مهلهل وقتل الابن وقال له: ذوء بشسع نعل كليب، وشسع النعل أي: ما يخرج من النعل الذي يضع فيه الإصبع، فهو يرى أن هذا الرجل لا يساوي إلا شسع النعل وليس النعل كاملاً.
فالله يقول: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:33] ثم قال: {إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33] واختلف العلماء: في الضمير: هل هو عائد على أولياء الدم أم على المقتول؟ والعامة تقول: النفس منصورة، يعني: لا بد أن يظهر قاتلها، لكن الأقرب -والعلم عند الله- أنه يعود على أولياء الدم، وقد استنبط ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من هذه الآية -وهذا من دقائق الفهم وعجيب العلم- أن معاوية رضي الله عنه سيلي الخلافة؛ لأن معاوية طالب بدم عثمان؛ لأنه من قرابته، فأصبح معاوية ولياً لدم عثمان، والله يقول: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33] وفراسة ابن عباس وتأويله ظهر جلياً بأن معاوية رضي الله عنه وأرضاه تولى الحكم بعد ذلك، بصرف النظر عن كيفية وصول الحكم إلى معاوية، لكن الذي يعنينا هنا من الخطاب القرآني: أن الله جل وعلا حرم الدماء، وقد مر معنا في قوله تعالى في البقرة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] ولا حاجة للتكرار، لكن من أعظم الخطايا: أن يتجرأ الإنسان على دم مسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -نقل هذا عن ابن عمر -: (لهدم الكعبة أهون عند الله من قتل مسلم) على عظيم حرمة الكعبة؛ لأن الكعبة لو تسلط عليها من تسلط بقدر الله فهدمها فإنها تبنى، لكن المسلم إذا قتل وسفك دمه فلا سبيل إلى إعادة الحياة إليه؛ فلهذا حرم الله جل وعلا الدماء وأغلظ فيها وهي أول ما يقضى فيه من حقوق العباد يوم القيامة، عافانا الله وإياكم من دماء المسلمين.
قال الله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] أي: له الحق أن يتكلم وله برهان أن يطالب، {إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء:33].
ثم قال الله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34] مال اليتيم ذكره الله جل وعلا مجملاً هنا تمهيداً لآيات ستأتي في سورة البقرة؛ لأن الخطاب هنا خطاب للمجتمع المكي، وحتى يبلغ أشده يتحقق بطريقتين: طريقة بدنية، وطريقة عقلية، الطريقة البدنية بالقدرة على النكاح، والطريقة العقلية عبر الله عنها: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] فإذا بلغوا النكاح هذه قدرة بدنية، والإنسان يحتاج إلى قدرة بدنية وقدرة عقلية حتى إن كان يتيماً استطاع أن يملك ماله، واليتيم: من مات أبوه دون البلوغ، وهذا في بني آدم، أما في الحيوان: فهو من ماتت أمه؛ لأن الحيوان لا يعرف أباه، وأما في الطير: فمن مات أبوه وأمه، الآن: الطفل مثلاً أبوه الذي يتولاه، يأخذه للخياط ويفصل له ثياباً، يأخذه المدرسة يسجله، يأخذه إلى الأحوال ليخرج له بطاقة، وفي الحيوانات (بهيمة الأنعام) الأم هي التي ترعى الابن، أما الطير فتشترك الأم مع الأب في رعاية ولدهما، فيسمى من فقد والديه من الطير يتيماً، ومن فقد والده من بني آدم يتيم، ومن فقد أمه من الحيوانات وبهيمة الأنعام يتيم، وهذه استفرادات لغوية لا تنفع ولا تضر.
الله حذر من أموال اليتامى، وهذا بيناه وسيأتي بيانه تفصيلاً، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] لكن هذه آيات مكية كتمهيد لما سيأتي من أحكام تفصيلية في المجتمع المدني.(38/6)
تفسير قوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن كل أولئك كان عنه مسئولاً)
ثم قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34] والعهود يجب إيفائها مع الكافر أو مع المؤمن، وسيسأل الإنسان عنها كما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وبعض العقود تلزم ديانة ولا تلزم قضاءً، وبعضها يلزم ديانة وقضاءً، مثلاً: إنسان قال لإنسان: أنا أريد أن اشتري سيارة لكن لا أملك أموالاً، وأنت رجل ذو ثراء ولك في التجارة، فيقول له الآخر: إن اشتريت سيارة بنية بيعها لك فهل تشتريها؟ فقال الأول: نعم، فاشترى الرجل السيارة غير راغب فيها، لكنه يريد أن يبيعها، فلما اشتراها بمائة ألف قال لصاحبه: قد اشتريتها وهي الآن في حوزتي وأريدك أن تشتريها، فرفض الأول وقال: لا أريدها، فهذا لا يلزم قضاءً، لكن ديانة قد يأثم عند كثير من العلماء، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} [الإسراء:34 - 35] وهذا من حقوق الناس وقد جاء فيها: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1]، ثم قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء:35].
ثم قال الله وهي الآية التي نختم بها هذا اللقاء: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] يسأل الإنسان عن سمعه وبصره وفؤاده، ومن أعظم ما يسأل عنه: إذا تجرأ على القول على الله جل وعلا بلا علم، وقد مر معنا أن عامراً بن الضرب أحد العرب في الجاهلية كانت الناس تأتيه وفوداً يحتكمون إليه في مسائل، فجاءه ذات مرة قوم في ميراث خنثى، هل يعطى من الميراث على أنه ذكر أو يعطى من الميراث على أنه أنثى؟ وكان عنده جارية تقوم على غنمه وفيها تأخر شديد إذا ذهبت بالغنم، فهي لا تستيقظ باكراً ولا تعود في حينها، وكان عامر يعاتبها واسمها سخيلة، فذات مرة جاء هؤلاء العرب يحتكمون إليه باعتباره رجلاً تشد إليه الرحال في مثل هذه المسائل، فأقامهم في داره وأخذ يذبح لهم حتى كادت تفنى غنمه؛ لأنهم يطعمون والمسألة لم تنته، فسألته سخيلة وهي ترى سيدها يغدو ويروح في البيت، فأخبرها الخبر ساخراً منها، وقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، فقالت له متعجبة: أتبع الحكم المبال، يعني: إن كان مع هذا الخنثى آلة الذكورية فهو رجل، وإن كان معه آلة الأنوثة فهو امرأة، وأعطه الحكم على هذا السياق، فأصبح يرددها فرحاً بها، وحكم بينهم بعد أربعين يوماً وهم في ضيافته وانصرفوا، فسار وهو يقول: صبحي أو مسي يا سخيلة! يعني: تأخري أو لا تتأخري فأنت معذورة.
قد يقول قائل لك: ما علاقة هذا بقول الله جل وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] وهذه قلادة علمية، قال الإمام الأوزاعي معلقاً على القصة قال: هذا رجل جاهل لا يرجو جنة ولا يخشى ناراً توقف في حكم أربعين يوماً فكيف يأتيك أحد يتجرأ على مسألة ويفتي فيها ما بين عشية وضحاها، وربما كان لا يملك الآلة العلمية على الحكم فيها، ويوقع فيها عن شرع الله جل وعلا؛ لأنه لم يفقه معنى قول الله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
وقد قلت مراراً: إن شيخنا الأمين الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في آخر أيام حياته وهذا من أخباره المكررة، لكن أحياناً الفوائد تلزم بالإعادة، جاءه وفد من الكويت يسألونه والشيخ رحمه الله في أخريات حياته توقف كثيراً عن الفتوى، فأخذوا يلحون عليه بالسؤال وقد ضربوا له أكباد الإبل، فالشيخ بعد إلحاح قال: أجيبكم بكلام الله، ففرحوا، وأصلح من جلسته ثم قال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، فلما ألحوا عليه زيادة قال: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، وقال فلان كذا، وأنا لا أحمل ذمتي من كلام الناس شيئاً.
والمقصود: أن يؤسس طالب العلم نفسه أولاً على خشية الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] لكن إن طلب العلم وهو ينظر إلى الساعة التي يتصبر فيها فيسأل ويجيب حتى لو تكلف ما لا يعلم من أجل أن يسد فراغاً في نفسه، فهذا قد يهلك من حيث لا يشعر، وكان الأخيار قبلنا -نسأل الله أن يغفر لنا- يربي أحدهم نفسه على أن يقول: لا أدري، حتى لا تصاب مقاتله، والآية ليست محصورة في هذا؛ لأن الله قال بعدها: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
نسأل الله أن يحفظنا في أسماعنا وأبصارنا وسائر جوارحنا، إن ربي لسميع الدعاء.
هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله على قوله.
وصلى الله على محمد وعلى آله.
والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(38/7)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الإسراء [37 - 48]
بعد أن ذكر الله مجملاً للحقوق التي يجب على المسلم أن يتحلى بها، عاد مرة أخرى للتنويه على قضية اتخاذ مع الله إلهاً آخر، أو ادعاء أن مع الله أولاداً تعالى الله عن ذلك، فهي الجريمة الشنعاء والوحيدة التي تحبط العمل، وتبعد رحمة الله وغفرانه عنك، ثم بين الله تعالى عظم جحود الكافرين، وموقفهم في رد الحق مع ما بين أيديهم من الشواهد والبراهين الدالة على وحدانية الله وتفرده بالخلق.(39/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم سيئه عند ربك مكروهاً)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا اللقاء الرابع المتعلق بسورة الإسراء، وكنا قد انتهينا في اللقاء الثالث إلى قول ربنا جل وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
وذكرنا أن الآية دلت على وجه الخصوص بصورة أولية على أن القول على الله جل وعلا بلا علم من أعظم الأمور المحرمة، فإن كان القول بلا علم على إطلاقه ممنوع، فكيف بالقول على الله؟! وذكرنا قصة عامر بن الضرب، وقلنا: إن عامراَ كانت العرب تفد إليه وتحتكم، فجاءه قوم يسألونه عن ميراث الخنثى؟ ثم إنه حار فيهم أربعين يوماً، وهم آنذاك كانوا أضيافه، فقالت له جارية عنده: أتبع الحكم المبال، فأخذ بقولها، قال الإمام الأوزاعي معلقاً على القصة: فإذا كان هذا رجل في الجاهلية لا يرجو جنة ولا يخشى ناراً توقف في الحكم أربعين يوماً لما لم يثبت عنده، فكيف بمن يتجرأ على القول على الله تعالى بلا علم؟ وفي ذلك عظة وعبرة لكل أحد.
ثم قال ربنا: {إنَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ} [الإسراء:36]، الإشكال عند اللغويين: التعبير بأولئك عما لا يعقل، وهم يقولون في أغلبهم: إن أولئك تطلق على العقلاء، لكن كفى باستخدام القرآن دليلاً على أنها تستخدم لغير العاقل، فالقرآن أو اللفظ القرآني هو الذي يقوم مقام الاستشهاد، ولا يستشهد للقرآن بقول أحد، على أن جواب الإشكال بصورة أوضح من جهتين: أن الله جل وعلا أقام السمع والبصر والفؤاد مقام العقلاء؛ لأنها شواهد على أصحابها، ومسئولة عن ذاتها.
والأمر الثاني: أنه عرف في بعض كلام العرب إطلاقهم لها على غير العقلاء، ويحتج القائلون بهذا بقول جرير: ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأقوام فالأيام غير عاقلة، وعبر عنها بأولئك، لكن المانعين يقولون: إن البيت أصله: والعيش بعد أولئك الأقوام، فإذا كانت الرواية الصحيحة بعد أولئك الأقوام فلا جديد في بيت جرير؛ لأن الأقوام عقلاء، وبالتالي فالتعبير عنها بأولئك ملائم، لكن على القول أن الرواية الصحيحة هي: والعيش بعد أولئك الأقوام يصبح الاستشهاد قائماً؛ لأن الأيام غير عاقلة، لكن نقول: أياً كان فإن الله جل وعلا أقام السمع والبصر والفؤاد مقام العقلاء؛ لأنها مسئولة عن ذاتها، وشواهد على أصحابها، {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
ثم مضى الأدب القرآني المبدوء أولاً بآية: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، ثم جاءت سلسلة من مكارم الأخلاق يدعو إليها، وسلسلة من سيء الأخلاق ينهى عنها، كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، وهنا قال: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37].
الإنسان يحيى بين جمادين، ما بين أرض يمشي عليها، وما بين جبال تحيط به، فالله جل وعلا يقول لنبيه -والمخاطب أمته من باب أولى كما يقال: إياك أعني واسمعي يا جارة! يقول: إنك مهما علوت وارتفعت فإنك لن تستطيع أن تخرق الأرض، وكلمة (تخرق) تحتمل معنيين: الخرق المعروف، والخرق الآخر بمعنى: قطعها، وقد جاء في كلام العرب: أن الخرق بمعنى: القطع، يعني: لن تستطيع أن تمضي في الأرض كلها، وحمله على الأول أقرب، وهو الخرق المعروف من الدوس، فيصبح معنى قوله تعالى: {َلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]: أن الله نهى نبيه عن الكبر، وعن مشية الفخر والخيلاء، فإذا قلنا: مشية بفتح الميم فهذا اسم مرة، يقول: ضربته ضربة أي: ضربة واحدة، أما على وزن فعلة بكسر الميم فهو اسم هيئة، المقصود: أن الله نهى نبيه عن مشية الجبارين المتكبرين، الذين يختالون في الأرض فرحاً وبطراً، هذا المنهي عنه: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]، كلمة (طولاً) عند النحويين تمييز محول عن فاعل، ومعنى الكلام: لن يبلغ طولك الجبال، تقول في الكلام العادي: ازدانت المدينة مدخلاً، وأصلها: ازدان مدخل المدينة، وتقول: طاب عمرو نفساً، وأصلها: طابت نفس عمرو، فالتمييز هنا محول عن فاعل، ومثله قوله جل شأنه: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]، أي: ولن يبلغ طولك الجبال، والمقصود: النهي عن الكبر؛ لأن أصل الكبر: شيء يقع في النفس، فإذا وقع في النفس ولو كان مثقال ذرة نجم عنه أثر في الظاهر، وبحسب تمكن ذلك الكبر في القلب يكون ذلك الأثر، فمن ألجم نفسه بلجام التقوى منعه ما في قلبه من طلب العلو، ومن لم تمنعه التقوى انطلق في عنانه ومضماره كما قال فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]؛ لأنه لا لجام للتقوى عنده يمنعه من أن يقول هذا القول، وإلا فبذرة الخير والشر في كل أحد موجودة: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:37 - 38].
قرئت (سيئةً) وقرئت (سيئهُ)، فعلى قراءة سيئة يصبح المعنى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُة عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]، فتنصرف (كل) إلى ما نهى الله جل وعلا عنه.
أما على قراءة (سيئه) يصبح (كان سيئه) تخصيصاً من كلمة كن؛ لأننا أمرناك بأحاسن الأخلاق: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26]، {َبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، ونهيناك عن سيئها، {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} [الأنعام:152]، {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} [الإسراء:31]، فيما مضى من الآيات، فيصبح (كان سيئه) أي: ما مضى خاصة السيئ منه مكروهاً عند الله، فيفهم منه: أن غير السيء ليس مكروهاً عند الله.
قال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]، ذلك جملة ما علمناك مما أوحى إليك ربك من الحكمة، وهنا نربط الآية بما حررناه في السنة في أول لقاء حول سورة الإسراء، فقد قلنا: إن قلب النبي صلى الله عليه وسلم ملئ إيمانا ًوحكمة، وعقبنا على ذلك بأن الحكمة أجل ما يعطاه بنو آدم بعد الإيمان، وعلى هذا فقول الله جل وعلا: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [الإسراء:39]، يعضد هذا الاستنباط من السنة، وهو أن الحكمة أعظم شيء بعد الإيمان، ثم بين الله جل وعلا المرء بالحكمة، والحكمة عند البعض تقوم على ثلاثة أركان: العلم، والحلم، والأناة.(39/2)
تفسير قوله تعالى: (ذلك مما أوحى إليك ربك وما يزيدهم إلا نفوراً)
ثم قال ربنا: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:39]، قبلها بآيات قال في فاصلة ما بين آيات وآيات: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21]، ثم أتى بآية بعدها سأتركها: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23].
ما بين هاتين الآيتين قال: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22]، وهنا قال: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:39]، فتحررت أربعة أوصاف: الآية الأولى قال: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22] هذان وصفان، وفي الأخرى قال: ملوماً مدحوراً، وسنبين معاني هذه الأوصاف، ثم نبين لماذا قال الله: {مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:39] وقال: {مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22]؟ أما الملوم: فهو الذي يقال له: لم فعلت كذا وكذا من قبيح الأفعال؟ وأما المذموم: فهو من يخبر بقبيح ما فعل.
وأما المخذول: فهو الضعيف الذي لا ناصر له.
وأما المدحور: فهو المطرود المبعد عن كل خير.
الآن نجمع شتات الآيات، بداية نقول لغوياً: إن القعود يعني: العجز، فقعد عن الشيء أي: عجز عنه، قال الحطيئة يهجو أحدهم: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فالتعبير بلفظ: اقعد يدل على أن هذا المهجو عاجز عن أن ينال مراتب الشرف، وينافس في الإطعام والكسوة والخيرات فشبهه بالنساء، والطاعم الكاسي هنا أي: مطعوم مكسي، هذا أصل الكلام، فالعرب تستخدم اقعد في العجز؛ ولهذا جعل الله القاعدين ضد المجاهدين في سورة النساء، وكذلك القواعد من النساء اللاتي إذا كبرن لم تكن لهن رغبة في الرجال.
هنا ربنا يقول: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ} [الإسراء:22] يعني: تصبح عاجزاً، قال: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22]، والآية التي بين يدينا: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:39]، نقول: ينبه الله في الآيتين -وإن جاءتا متفرقتين- على أن التوحيد رأس الدين ورأس الحكمة، ومبدأ الأمر ومنتهاه؛ ففي الآية الأولى: رتب الله آثار الشرك الدنيوية، فقال: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا} [الإسراء:22] من الناس، {مَخْذُولًا} [الإسراء:22] من ربك، وهذا في الدنيا، وفي الآية الثانية: أعاد الله الآيات بقوله: {فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:39]، فذكر آثار الشرك في الآخرة.
إذاً: لا يوجد تكرار كما يفهمه البعض بادي الرأي، وإنما نهى الله عن الشرك في الآية الأولى، ورتب عليه الآثار الدنيوية، وذكر الشرك ونهى عنه في الآية الثانية، ورتب عليه الآثار الأخروية، قال: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:39].
ثم قال الله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:40]، هذا عود على بدء، فقد ذكر ما كانت بعض العرب تزعمه من أن الملائكة بنات الله، وعبارة (اتخذ) توحي بأن القرشيين قائلون بهذا، لا يقولون: إن الله ولد بنات، لكنهم يزعمون أن الله خلق الملائكة على هيئة بنات ثم اتخذهم بنات له؛ لأن لفظ (اتخذ) لا يساعد على القول بأنهم يدعون أن الله ولد البنات، تعالى الله على كل حال عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
فالله جل وعلا يقول: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا} [الإسراء:40]، هذا استفهام إنكاري توبيخي، كيف تجرءون على أن تنسبوا لله الولد جملة، ثم تنسبوا إليه أبخس الولد وهي الأنثى؟ {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:40].
وهذا التعبير القرآني فيه شدة إنكار، ومبالغة في الرد عليهم، أي: لو كانت لكم قلوب تفقه، وعقول تعقل، لما تكلمتم بهذا القول العظيم؛ ولهذا قال الله: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [الإسراء:40]، ثم قال: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء:41].
وتصريف الرياح معناه: انتقالها من مكان إلى مكان، والمعنى: أن القرآن فيه وعد ووعيد، وأوامر ونواه، وقصص وزواجر، فالله جل وعلا لم يجعله على نسق واحد، بل صرف فيه الآيات كل ذلك ليكون أدعى لهم لأن يتعظوا ويعتبروا، لكن لما فطرت قلوبهم على الشرك عياذاً بالله ما زادهم هذا التصريف في آيات الله إلا نفوراً وبعداً عن الحق، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء:41].(39/3)
تفسير قوله تعالى: (قل لو كان معه آلهة إنه كان حليماً غفوراً)
ثم عاد الله جل وعلا لإبطال دعواهم بتعدد الآية، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:42 - 44]، تصور الآيات جملة على النحو التالي: هؤلاء القرشيون يقولون بتعدد الآلهة، ثم إنهم في تعدد الآلهة يزعمون أنهم عندما يعبدون تلك الآلهة التي اتخذوها إنما هي شفعاء لهم عند الله تعالى، هذا زعمهم، فالله جل وعلا الآن أراد أن يرد عليهم بطلان قولهم بوجود تعدد الآلهة، فقال ربنا قل -أي: يا محمد! صلى الله عليه وسلم- فهي تدل على زيادة اختصاص، وفيها تربية للمؤمن على فقه الأولويات: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42]، بداية: لو: حرف امتناع لامتناع؛ أي: لا توجد آلهة حتى تجد سبيلاً إلى ذي العرش، فالأمر برمته باطل إلا في ألسنتكم، لكن الآن هنا تصور فرضي لكيفية رد الله عليهم، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ} [الإسراء:42]، فالأمر برمته غير موجود إلا في قلوب هؤلاء الكفرة، فيقول الله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42]، ابتغاء السبيل المقصود منه: طلب السعي إلى شيء ما، والآية هنا تحتمل معنيين: الأول: ربنا يقول لهم: لو فرضنا جدلاً بحسب منطقكم الكافر أن هناك آلهة معي، وهنا نحمل الآن على الرأي الأول: أن كلمة: (إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) أي: سبيل رغبة وخضوع، أنتم لماذا تعبدون هذه الآلهة، قالوا: نعبدها حتى تكون شفعاء بيننا وبين الله، فالله جل وعلا يقول: إذا كانت هذه الآلهة بزعمكم تخضع لي وتتشفع لكم عندي فهذا يمنع بتاتاً أن تسمى آلهة؛ لأن الإله لا يكون خاضعاً، نجيب مثال من واقع الناس اليوم: أنت تعرف رجلاً يعمل في الديوان الملكي، فأعطيته أوراقاً ليعرضها على الملك، فهذا الموظف في الديوان الملكي هو وسيط لك عند الملك، حتى يعرض موضوعك على الملك، فلا بد هو نفسه أن يكون خاضعاً للملك، ويتشفع لك عنده بذل وتواضع حتى يقبل الملك شفاعته، إذاً: هذا الشفيع ليس بملك؛ لأن الملوك لا تخضع بعضها لبعض، إذاً: بطل ما زعموه وادعوه، أنتم تقولون: إن هذه المعلقة حول الكعبة شفعاء بينكم وبين الله، وتقولون: إنها آلهة: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف:58]، على عيسى بن مريم، فكيف تسمى آلهة وهي تخضع لغيرها؟ الإله لا يخضع لأحد، فبطلت دعواكم بأنها آلهة، هذا على القول أن معنى قوله: {لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42]، أي: سبيل خضوع وتذلل ومحبة.
القول الثاني: (لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا)، ليس سبيل تذلل وخضوع، بل على العكس، سبيل مغالبة ومنازعة، أي: لو كانت هذه الآلهة آلهة كما تزعمون أنتم فالآلهة لها قدرة وسلطان، فستنازع الله جل وعلا في سلطانه، وأي شيء حوله تنازع ينجم عنه خلل، أي بلد فيها أربعة رؤساء أو خمسة يحدث خلل في نظامها؛ لأن كل رئيس يريد أن يمضي كلامه، تسمعون الآن أمراء الحرب في الصومال، لا يمكن لهم أن يصيروا أمراء على بلد واحد، لا بد أن يحصل نزاع، فلا بد أن يكون الحاكم واحداً حتى يستقر الأمر، وأنتم ترون بأعينكم أن الكون منتظم، شمسه وقمره، وليله ونهاره، ولا يوجد فيه أي خلل، ولا أي فساد، فدل عقلاً على أن الإله واحد، وهذه الآية رأيان، وكل القرآن يشهد لهذا ويشهد لهذا، أما القول الأول: على الخضوع والتذلل فيشهد عليه قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] في نفس السورة.
والقول الثاني -وهو الأرجح، والعلم عند الله- يشهد له قول الله جل وعلا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، وقول الله جل وعلا: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91].
فبكلا الطريقين أو الرأيين الناجمين عن فهم الآية تبطل دعوى الكفار القرشيين أن مع الله جل وعلا آلهة، قال الله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء:42]، وقول الله جل وعلا: {كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء:42]، هذه زيادة المقصود منها: أن هذا أمر لا يقوله عاقل، لكنهم تجرءوا عليه وقالوه: {إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42]، من حيث الصناعة النحوية: إذاً: أتي بها لتأكيد الجواب، وهو جواب لولا الممتنع تحقيقه؛ لأن (لولا) حرف امتناع لامتناع.
ثم أنشأ الله جملة تنزه فيها عما يزعمه هؤلاء الكفرة، قال الله جل وعلا: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء:43].
قال بعض أهل العلم: كبيراً هنا بمعنى: الكامل، والمقصود: أن الله جل وعلا ينزه ذاته العلية عما زعمه هؤلاء الكفار، وما تبنوه من معتقد فاسد، وأن الله جل وعلا قد تعالى أن يكون له شريك، ثم ذكر الله آيات تدل على وحدانيته فقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} [الإسراء:44]، يدخل فيه الجمادات والحيوانات والنباتات {إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، ولما كان هذا التسبيح من لدن كل الأشياء دقيقاً لا يصل إليه أحد، قال ربنا: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ} [الإسراء:44]، ولم يقل: ولكن لا تعلمون، وإنما عبر بلفظ (تفقهون)؛ لأنها مسألة دقيقة، {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، وقد مر معنا مراراً: (أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لما حضرته الوفاة دعا بنيه، فقال: إني أوصيكم باثنتين، بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو كن كحلقة مفرغة لقصمتهن لا إله إلا الله، وبسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق)، والحديث عند أبي داود بسند صحيح.
(فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق)، وهذا محل الشاهد؛ فالله جل وعلا يسبح له الحوت في بحره، والطير في وكره، بل وإن من شيء إلا يسبح بحمده.
قال ربنا: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، لماذا اختار الله هذين الاسمين الجليلين ليختم بهما هذه الآية؟ قلنا في اللقاء الأول حول سورة الإسراء: إن الله قال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]، قلنا: اختار الله كلمة السميع -استذكاراً لما سلف- لأنه سمع نبيه وهو عائد من الطائف، واختار البصير لأنه كان في الليل.
وهنا قال الله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]؛ لأن مقالتكم هذه -أيها المشركون- تستوجب العذاب العاجل، لكن حلم الله عليكم أخر عنكم العذاب.
أما قوله: (غفوراً) فهذا فتح باب لهم أن يئوبوا ويتوبوا، أي: أن المقالة التي تزعمونها، والمعتقد الذي تبنيتموه تستحقون عليه العقاب العاجل، لكن حلم الله أخر عنكم العذاب، والأمر عند الله أعظم من ذلك، فإن باب التوبة مفتوح؛ ولهذا قال: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، وهذه ظاهرة جلية لمن أراد أن يتدبر القرآن.(39/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قرأت القرآن رجلاً مسحوراً)
ثم قال ربنا وهو أصدق القائلين: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء:45 - 47].
الله يقول: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} [الإسراء:46] تحتمل معنيين: إما وصفته بصفات التوحيد والتمجيد، وأنه لا إله معه، وهذا القول يدل عليه ظاهر القرآن: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] أي: إذا ذكرت ربك موحداً إياه نافياً عنه الشرك: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء:46]، لم يقبلوا منك هذا القول ونفروا منك.
والمعنى الثاني -ولا مانع من أخذ المعنيين- أن يكون المقصود: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ} [الإسراء:46]، أي: كان حديثك عن الله وحده غير مختلط بأمور الدنيا، لكن قلنا: إن الأول أقوى في حق أهل الكفر، ودليله: أن الله يقول: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12]، والمقصود: هؤلاء الكفرة، يقول الله: {حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:45]، هذه مفعول أصلها فاعل، يعني: حجاباً ساتراً، لكن أهل العلم يقولون: هل كان الحجاب حجاب بصر أم حجاباً على القلب؟ ظاهر الآية: أنه حجاب على القلب، ومن قال: إنه حجاب على البصر احتج بالقصة المعروفة، (أن أم جميل لما أنزل الله جل وعلا قوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] أتت إلى أبي بكر وبجواره رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدها فهر - يعني: حجر كبير - وتريد أن تضرب به النبي صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه ليحذر النبي عليه الصلاة والسلام فقال: إنها لن تراني)، وقرأ آيات منها هذه الآية: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء:46] إلى أن قال: حجاباً مستوراً، فلما جاءت: سألت أبا بكر قائلة: إنه بلغني أن صاحبك يهجوني، فأخبرها أنه لا يهجوها، فقالت: مذمماً أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا فهي تقول: مذمماً، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فكأن الكلام لا يقع عليه.
والذي يعنينا هنا: أن الذين قالوا بحجاب الرؤية قالوا بهذا، لكن هذه حالة فردية، ولا أظنها تأخذ الحكم، وإنما هؤلاء لما في قلوبهم من الكفر منعهم الله جل وعلا أن يفقهوا كلامه، وأن يعتبروا بعظاته، قال الله تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء:46 - 47].
وردت في هذا آثار منها: أن بعض قريش كان إذا أمسى يأتي إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن فيتخذ مكاناً لا يراه فيه أحد، يسمع منه قراءة النبي عليه الصلاة والسلام، ففعل هذا بعض صناديدهم، ثم لما انصرفوا آخر الليل، جمعهم الطريق، فأخذوا يتناجون فيما بينهم ويتلاومون على أنهم قبلوا أن يسمعوا، وقالوا: لو رآنا عامة الناس لاحتجوا بنا؛ ولهذا مكثوا على هذا يومين أو ثلاثة ثم تعاهدوا ألا يفعلوه، فأخبر الله نبيه بهذا فقال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء:47].
ولا ريب أن قولهم: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الإسراء:47]، واحداً من الأمثال التي ضربوها، وإلا فقد قالوا: إن النبي كاهن، وإن النبي مجنون، وإن النبي غير ذلك، كل ذلك يحاولوا أن يردوا به ما سمعوه من كلام الله، لذلك قال الله متعجباً من صنيعهم: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا} [الإسراء:48] أي: لم يجدوا حيلة، ولم يهتدوا سبيلاً في وصفك، فلهذا قال الله بعدها: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء:48].
بقيت نقطة مهمة في هذا الأمر كله: القلوب أوعية، وخير ما يملؤها ذكر الله، والإنسان يجد في قلبه ميلاً إلى شيء ما، فمن كان على الفطرة، ورزق العلم، وعرف السنة، وأحكم فهم القرآن، فإنه يجد في نفسه ميلاً إلى تلك المجالس التي يعظم فيها الله، ومن كان في قلبه ضد ذلك كله لم يبق قلبه على الفطرة، ولم ينهل من رحيق السنة، ولم يتدبر القرآن، ولم يرجو جنة، ولم يخش ناراً، فقد ختم على قلبه وطبع، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، فقد جبل قلبه وطبع على حب الهوى، والانصراف إلى الأحاديث التي لا يكون فيها ذكر للرب جل وعلا، فينجب عن هذا قسوة قلب لا يعلمها إلا الله، وقد قال بعض أهل الفضل: إن من أعظم الطرائق لمعرفة مكان قلبك من الله: أن تجد راحة قلبك في المجالس التي يعظم الله جل وعلا فيها ويذكر، وأنت ترى في زماننا هذا على وجه الخصوص أن كثيراً من الناس شغل، إما بصوارف مادية محسوسة تجاوزت حدها، كانصراف البعض إلى سوق الأسهم، وإن كان أصل التجارة مباحاً.
والأمر الثاني -وهو أشد وأنكى- الانصراف إلى الأقوال والمناظر التي تستهوي من تستهويه، بما يسمى: بالفيديو كليب أو الأفلام، أو الأغاني، حتى تصبح شغل الإنسان الشاغل، فكلما زاد تعلق القلب -عياذاً بالله- بمثل هذه الصوارف كان بمنأى عن الله، ولما كان بمنأى عن أن يرق قلبه إلى ذكر الله، وإلى المجالس التي يعظم فيها الله، دل هذا على قربه من طرائق أهل الإشراك، وبعده عن رحمة الرب تبارك وتعالى، وما نعى الله جل وعلا على أحد شيئاً بأعظم من نعيه على اشمئزاز قلبه إذا ذكر الله، وهذا -والعياذ بالله- منتهى الكفر، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]، وهذا نعي على قلوب لا تحن ولا ترق إذا ذكر الله جل وعلا، والقرآن قبل أن نخوض في قواعده النحوية، وطرائق البلغاء، ومسالك الفقهاء، يجب أن نفقه أن الله أنزله حتى يؤثر في قلوبنا، وقد مرت معنا علمياً -كما قال الزركشي وغيره- مرت معنا آيات منسوخة: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43]، وأنت تعلم أن هذه الآية منسوخة لا يعمل بها، وكم في القرآن من آيات منسوخة، لكن لماذا بقيت لفظاً؛ لأنها كلام الله، فهي وإن كانت منسوخة عملاً، لكن كفانا شرفاً أن نعرف أنها كلام الله، فيكون لها تأثير وواقع على قلوبنا، والإنسان يجب عليه أن يكون رقيباً حسيباً على نفسه، يرقى بنفسه إلى معالي الأمور، فيجعلها تقرب دائماً من القرآن، تتأدب بآدابه وتعمل بأحكامه، وتؤمن بمتشابهه، وأعظم من ذلك الآيات التي يخبر الله فيها عن ثنائه على نفسه، ومدحه لذاته العلية، هذا الذي يدنيك من مسالك الكمال، يدنيك من الكبير المتعال، يقربك من ربك، ويجعلك على صراط مستقيم بين، إذا كان القرآن هو الشيء الذي تأنس إلى تلاوته، وتحب أن تسمعه.
كما أن من أخطائنا في التربية: أن نربي أنفسنا على ألا نسمع إلا لقارئ أو قارئين أو ثلاثة، وهذا وإن كان أحياناً قد لا نستطيع الانفكاك منه؛ لأن الصوت الحسن له دور، كما قال صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم)، لكن من أراد المنتهى في الكمال فليتعظ بما يتلى لا بمن يتلو.
من هنا يفهم سياق الآيات الحقيقي: وهو أن الله جل وعلا ينعى على أهل الإشراك بغضهم لله، حتى إنهم لا يجدون لهم مكاناً في مواطن يعظم الله جل وعلا فيها، فينفرون ويبتعدون وينسبون فاعلها إلى السحر.
وعلى النقيض من ذلك: فأهل الإيمان إذا سمعوا القرآن حنت قلوبهم، ذرفت عيونهم، اقشعرت جلودهم؛ لأنه لا كلام بعد كلام الله: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انظُرْ} [الإسراء:46 - 48]، هذه مسوقة على سبيل التعجب والإنكار، {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} [الإسراء:48]، أي: تشتتوا.
فلا يدرون ماذا يقولون فيك، يبهرهم كلامك، يعلمون عظيم خطابك، لكنهم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم؛ ولهذا قال الله جل وعلا: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء:48]، أي: لم يجدوا حيلة ولا طريقاً لوصفك بالوصف الحق؛ لأن الوصف الحق أنك نبي ورسول، وهؤلاء حال كفرهم وفجورهم وبغضهم لربهم أن يصفوك بالوصف الذي وصفك الله جل وعلا به.
إلى هنا ينتهي خطابنا؛ لأن الآيات التي بعدها مرتبطة بعضها ببعض، قال تعالى: {وَقَالُوا أَئ(39/5)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الإسراء [49 - 61]
لقد أنكر المشركون البعث بعد الموت زاعمين بعقولهم المريضة استمالة عودة الأجسام حية بعد أن أصبحت عظاماً ورفاتاً، فكان ذلك أحد أسباب كفرهم، وما عرف هؤلاء أن الخالق على غير مثال سابق من السهل عليه أن يعيد ما خلقه مرة أخرى، كما أخبر بذلك سبحانه في أكثر من آية، ولقد أخبر الله كذلك في هذه الآيات عن مشهد يوم القيامة والبعث بعد الموت، ثم حذر المؤمنين عباده من اتباع طرائق الشيطان، وبين أنه فضل بعض الأنبياء على بعض، ثم بين عناد الكافرين واستكبارهم، وأن تكذيبهم مانع من إرسال بعض الآيات الدالة على صدق رسله فيما يبلغونه عنه سبحانه، ثم ختم هذه الآيات ببيان أن الشيطان لا سبيل له على المؤمنين، وإنما سلطانه على مواليه وأتباعه فقط، والله أعلم.(40/1)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً إلى قوله: قل عسى أن يكون قريباً)
إن الحمد لله نحمده ونستينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا اللقاء الخامس حول سورة الإسراء، وكنا قد انتهينا إلى قول ربنا جل وعلا: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء:49 - 51].
نقول مستعينين بالله جل وعلا: إنكار البعث مسألة تأصلت عند المشركين الأوائل، ولهذا قال الله عنهم: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7]، وفي هذه الآية يقول الله جل وعلا عنهم أنهم قالوا: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء:49]، يتساءلون تعجباً واستنكاراً، وإلا فهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً، أي: كيف يعقل أن تدب فينا الحياة ونبعث وقد أضحينا عظاماً ورفاتاً؟! قال الله: {قُلْ كُونُوا} [الإسراء:50]، وقل هنا: مزيد اختصاص، والآية تتكلم عن البعث والإيمان بالبعث واليوم الآخر أحد أركان الإيمان: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء:50] قد يقول قائل: ما علاقة الحجارة والحديد بالعظام والرفات؟ عقلياً: هذه العظام وهذا الرفات أصلاً كان خلقاً تدب فيه الحياة، ثم ماتوا ثم أصبحوا عظاماً ورفاتاً، أما الحجارة والحديد فلم تكن أصلاً أحياء، فالله يريد أن يقول لهم: إن الأمر ليس بمعجز لله تعالى، فلو فرضنا جدلاً: أنكم كنتم حجارة ليست فيها حياة أصلاً من قبل، أو كنتم حديداً ليس فيه حياة من قبل لاستطاع الله جل وعلا أن يحييكم ويبعثكم، فكيف وقد كنتم أصلاً أحياءً؛ لأن هذا العظام أصلاً خارج عن حي.
إذاً: ليست القضية قضية أنكم كنتم أمواتاً فأحياكم الله، بل القضية قضية قدرة إلهية لا يعجزها شيء، أي: أن قدرة الله لا يستعصي عليها شيء، والله جل وعلا لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فكونكم كنتم عظاماً أو رفاتاً أو كنتم حجارة أو حديداً أو ما يخطر ببالكم ويقع في أفئدتكم: {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ} [الإسراء:51]، أي: يعظم {فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء:51]، فكل ذلك بالنسبة لله جل وعلا لا يعجزه، ومع ذلك فإن دلائل العقل بالنسبة إلى عقولكم: أن من قدر على الخلق الأول على غير مثال سبق قادر على الإحياء مرة أخرى من باب أولى، قال: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء:49 - 51] ليس فقط عظاماً ورفاتاً، بل كونوا أي شيء فإن الله قادر على أن يبعثكم.
قال: {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} [الإسراء:51]، طبعاً سؤالهم سؤال تهكم، لكن كلما تهكموا وحادوا عن المجادلة ردهم الله إلى المجادلة الحق، هم يقولون ذلك تهكماً: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا} [الإسراء:51] فلم يقل: قل الله، لكن حتى يذكرهم بمبدئهم قال: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51] والمعنى واحد.
{فَسَيُنْغِضُونَ} [الإسراء:51] أي: يحركون رءوسهم استهزاءً: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} [الإسراء:51] وكل ذلك سخرية، لكن الخطاب القرآني معهم يبقى جاداً كلما حادوا ردهم إلى الجادة فلا يجعل لهم مفراً، قال الله جل وعلا: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء:51] وعسى من الله واجبة، والبعث قريب آت، فلذلك عبر الله عنه بقوله: {قَرِيبًا} [الإسراء:51].(40/2)
تفسير قوله تعالى: (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده إلى قوله: إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً)
ثم قال ربنا: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} [الإسراء:52] للبعث، {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:52]، أي: يوم يدعوكم عن طريق ملائكته، ينفخ إسرافيل في الصور ويدعوهم الرب للبعث والنشور.
قال الله جل وعلا: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:52] الباء هنا للإلصاق، قال سعيد بن جبير: إنهم ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لكنها لا تنفعهم يومئذ، وقال بعض العلماء ولعله أظهر: إنهم إذا بعثوا علموا أن الله هو الحق وتبين لهم ما كانوا يردونه من قبل فيقولون: الحمد لله، كما قال الله جل وعلا في خاتمة الزمر: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، ولا ريب أن في يوم القيامة ثمة كلمات تخرج من أهل الكفر لا يقصد منها التعبد ولا يثابون عليها، لكنهم يقولون ذلك لما رأوه من حقائق، ولما انكشف عندهم من غطاء.
قال: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:52]، وهذا اللبث القليل ذكره الله جل وعلا في أكثر من آية: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:112 - 113] والمقصود: أن أيام الدنيا تطوى حتى يراها الناس عشية أو ضحاها، قال: {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:52].
قال الله بعدها: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53]، العلماء في هذه الآية مختلفين؛ لأن السورة مكية، فاستصحبها البعض على القول بأن الخطاب للمؤمنين وأنتم في مجتمع قرشي كافر، فاختاروا الخطاب الجميل معهم وإن أغلظوا عليكم؛ حتى لا تهيجوا الشر في أنفسهم، وحتى يكون ذلك أدعى لأن يدخلوا في دينكم، وهؤلاء قالوه مستصحبين قضية أن الآيات مكية في مجتمع قرشي، ولا يبدو لي أن هناك قرينة تدعو إلى هذا القول.
والأظهر: أن الآية مخاطب بها المجتمع المؤمن، أما كيف تحمل على المجتمع المكي: فإن المؤمنين في مكة كانوا قلة، فهم أحوج إلى التكاتف والترابط، فالله جل وعلا يدعوهم في هذه الآيات إلى أن يبتعدوا عن الأقوال التي لا طائل من ورائها، والتي تحتمل الشر فينجم بعد القول فعل، فيكون خطاب المؤمن للمؤمن متحل بالصدق والاستعطاف، حتى لا يكون سبيلاً للشيطان في أن ينزغ بين المؤمنين فيضعفهم وهم أصلاً قلة في مجتمع الإشراك، ويمكن تطبيق هذه الآية حتى على المجتمع الأكثر.
{وَقُلْ لِعِبَادِي} [الإسراء:53] والإضافة إضافة تشريف، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53]، يختاروا الجميل من الخطاب، وقد أيدت السنة هذا المنحى، فجاء في السنة: المنع عن أن يشير الإنسان بالسلاح إلى أخيه المؤمن خوفاً أن ينزغ الشيطان فيه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] وأصل النزغ في اللغة: الطعن بسرعة، {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53].(40/3)
تفسير قوله تعالى: (ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم إلى قوله: وما أرسلناك عليهم وكيلاً)
ثم قال ربنا: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} [الإسراء:54]، وهذا تأديب للجماعة المسلمة في زمن الإشراك وفي كل آن وحين على ألا تتعجل بالحكم على أحد، قال: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [الإسراء:54] والجملتان شرطيتان، والمعنى: إن يشأ يرحمكم بتوفيقكم للطاعة، وإن يشأ يعذبكم بخذلانكم عن الوصول للإيمان والطاعة والعمل الصالح.
والمقصود من الآية: أن المؤمن لا يتعجل في الحكم على أحد؛ لأن العبرة بالخواتيم: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [الإسراء:54]، فليست مهمة الرسل إلا البلاغ، فأنت لا تستطيع أن تجبر الناس قسراً على أن يدخلوا في الدين، وعليك وأنت في طريق دعوتك -أيها المبارك المتبع لآثار الأنبياء- ألا تعجل على الحكم على أحد، وثمة شواهد في هذا العصر قد لا يحسن فتح صفحاتها دلالة على أن العبرة بالخواتيم، وعلى أن الإنسان قد ينصرف قلبه إلى الطاعة ولو في أخريات حياته، قال: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [الإسراء:54].(40/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض إن عذاب ربكم كان محذوراً)
ثم قال جل وعلا: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:55]، وتفضيل الله جل وعلا النبيين بعضهم على بعض ثابت بالكتاب والسنة، لكن دائماً الإشكال يكون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على الأنبياء)، وما ورد من آثار في النهي عن التفاضل حمله بعض العلماء على أن هذا قبل علمه صلى الله عليه وسلم، لكن للعلماء فيه أقوال تصل إلى أربعة أظهرها: أن التفضيل في أصل النبوة غير موجود، فكلهم أنبياء، لكن ما أعطاهم الله من خصائص بعد ذلك وكرامات هذا الذي يوجد فيه التفضيل، ولهذا قال الله جل وعلا: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253]، {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:253] والمشهور الذي عليه أكثر الناس: أن أفضل الأنبياء الخمسة من أولي العزم من الرسل: محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إبراهيم، ثم اختلف في الثالث فقيل: نوح، وقيل: موسى، وقيل: عيسى، ويدور الأمر بين هؤلاء الثلاثة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ثم قال الله: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:55] والإشكال: هو لماذا أقحم داود هنا؟ والأجوبة في هذا تختلف كلاً بحسب رؤيته، لكن خذ سورة مكية أخرى وهي سورة الأنبياء، فقد قال الله فيها: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، والزبور أنزل على داود، فكأن الله يقول للمؤمنين تأييداً وللمشركين توبيخاً: إنني عندما ذكرت داود هنا لأنبأكم أنني أنزلت على داود أن من القدر المحكم الذي سيبرم: أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، والعباد الصالحون الآن هم: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فاضطهادكم -أيها الكفار- لهؤلاء المؤمنين لن يغير من الواقع شيئاً فهم الذين سيرثون الأرض.
هذا ما قاله البعض في سبب ذكر داود، وقال آخرون: إن الأمر غير ذلك، وجوابه عندهم: أن من علم سيرة داود علم أن أصله كان شاباً يرعى الغنم ثم ما لبث أن انخرط في جيش طالوت ثم آل الملك إليه ثم أعطاه النبوة والكتاب، كما قال الله: {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251]، فتفضلنا على داود الذي كان مجرد راع غنم، ثم جند في جيش حتى آل به الأمر إلى أن أصبح نبياً والداً لنبي، وملكاً يتبعه ملك، هذا المقصود منه، أصبح المقصود منه: أن الله تعالى تفضل على محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت قريش تستكبر أن يكون يتيم أبي طالب نبياً رسولاً، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] هذان الوجهان اللذان ذكرهما أكثر العلماء حول مناسبة ذكر داود دون غيره من الأنبياء في قوله جل وعلا: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:55].
ثم قال الله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57] هناك كشف، وهناك تحويل، والكشف: إزالة الضر بالكلية، أما التحويل: نقله من أحد إلى أحد، أو النقل من حالة إلى حالة، من غنى إلى فقر، من صحة إلى مرض، أو من مرض إلى صحة، الله جل وعلا يقول لهؤلاء القرشيين ناعياً على بعضهم ممن يعبد الصالحين أن الطريق الذي رسمتموه لأنفسكم طريق ضلال؛ لأن الذين أنتم تتوسلون إليهم هم في أنفسهم يطلبون الوسيلة من الله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، وهذه الآية أحياناً بعض العلماء يطنب في تفسيرها، حتى قال بعضهم كما ذكره الطاهر بن عاشور في التحرير يقول: لم أجد فيها ما يشبع النهم، ويشفي الغليل.
يعني: من أقوال المفسرين، لكن الحق: أنها ظاهرة المعنى، وأن الله جل وعلا يتعجب من صنيعهم هذا، وهذا نظير قول الله جل وعلا قبل قليل: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء:42] هذه قريبة بعضها من بعض.(40/5)
تفسير قوله تعالى: (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً)
ثم قال الله: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58] هناك قيد لا بد من وجوده دلت عليه قرينة، فقوله: وإن من قرية أي: (كافرة) فلا بد من هذا القيد الذي فهمناه من سياق القرآن، والقيد أحياناً نأتي به إما لقرينة قريبة أو قرينة بعيدة، نأتي بمثال على القرينة القريبة: الله جل وعلا يقول في سورة الكهف: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79] فقيد لازم: أن نقول في كل سفينة (صالحة)، والقرينة: أنه قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] وإلا فلا فائدة من أخذه لكل سفينة.
وهنا القيد غير موجود في الآية، لكنه بعيد نسبي، يعني: في آيات أخرى ليس في نفس السورة، قال الله جل وعلا: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} [الإسراء:58] وقد دل القرآن على أن الإهلاك بمعناه الشديد أو العذاب النازل لا يكون إلا على أهل الظلم، قال ربنا: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59]، وقال جل وعلا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] فكلها دلائل وقرائن على أن الإهلاك لا يقع إلا على قرية ظالمة كافرة، فإن سئلنا: لماذا أتينا بهذا القيد؟ قلنا قرائن القرآن تدعو إليه {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58] أي: أن من أرسلنا له آيات -كما سيأتي- واختبرناه وبلوناه وبقي على ظلمه وكفره أهلكناه، إما بالإهلاك العام، أو بالإهلاك الجنسي: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء:58].
ثم قال الله: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء:59] والتقدير: فأهلكناهم، {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59] والمعنى العام: أن قريشاً طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم آية وقالت: أنت تزعم وتقرأ علينا في كتابك أن الأنبياء من قبلك يأتون بالآيات فنحن نطلب آية: وهي أن تجعل لنا الصفا ذهباً، وأزح عنا الجبال حتى تكون أرضنا أرض زرع، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ذلك، فجاءه جبريل يخيره بين أن يجعل لهم الصفا ذهباً ويحقق لهم أمانيهم، لكنهم إن لم يؤمنوا أهلكهم عن بكرة أبيهم.
وقد علم الله جل وعلا أن هذه الأصلاب الكافرة سيخرج منها أقوام يدعون إلى الله، فـ الوليد بن المغيرة والقرآن يذمه ليل نهار خرج منه: خالد بن الوليد، وأبو جهل نظيره خرج منه عكرمة بن أبي جهل، والخطاب كان كافراً وخرج منه عمر، وأكثر الصحابة كان آباؤهم مشركين، فاستمهل صلى الله عليه وسلم وانتظر ورضي أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً؛ لأن النبي بما أنه خاتم الأنبياء فلا بد أن يكون له أتباع يحيون بعده ويحملون دينهم، وحفظ النوع من البشر والناس يكون بالتوالد والبقاء، فإهلاكهم عن بكرة أبيهم ضياع لجيل سيأتي بعدهم يحمل تلك الراية، فأبقاهم الله جل وعلا لسببين: إما لفئام ستؤمن منهم كما وقع لأكثر الصحابة كـ أبي سفيان وغيره، وإما من مات منهم سيدرك ابنه الكبير فيؤمن بالله جل وعلا فيصبح ناصراً للدين، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنحى، وهذا ما فطر عليه -عليه الصلاة والسلام- من شفقة ورحمة على المؤمنين وأهلك قومه في الأرض نوح بدعوة لا تذر أحداً فأفنى ودعوة أحمد ربي اهد قومي فهم لا يعلمون كما علمنا نعود لما نحن فيه: الله يقول جل وعلا: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء:59]، هو لا يريد أن يقول: إن هذه الناقة تبصر، لكن معنى الآية: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء:59] أي: ذات دلالة واضحة، لكنهم -كما هو معلوم- كفروا بها كما حرره القرآن في مواضع أخرى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59].(40/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا لك إن ربك فما يزيدهم إلا ظغياناً كبيراً)
ثم قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء:60] فجميع الخلق تحت مشيئته لا يخرجون عن قدرته تبارك وتعالى، ومادام الخلق في قبضته فلن يسلطهم عليك، ولهذا قال بعض العلماء: إن الآية فيها إخبار عن عصمة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60]، رد هذه الآية إلى صدر السورة: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] تكلمنا عن حديث الإسراء تفصيلاً، ومر النبي صلى الله عليه وسلم على المسجد الأقصى ورأى في الملكوت الأعلى ما أعطاه الله جل وعلا له، وهو في جميع أحواله ملتزم بالأدب، يقول الله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، فلما أصبح أخذ ناحية من نواحي البيت -والعرب في الجاهلية تجعل البيت موئلاً، والبيت مكاناً لاجتماع الناس؛ ولهذا قال أبو جهل: إني لأكثر أهل هذا الوادي نادياً، يعني: مجيباً النبي عليه الصلاة والسلام في صبيحة الإسراء والمعراج- ولم تكن الصلوات الخمس قد بدأت، فكان يصلي ركعتين قبل طلوع الشمس وركعتين قبل غروبها، فجاء وتنحى لوحده، فجاءه أبو جهل وكأنه رأى أن النبي على غير عادته فسأله فأخبره النبي بما وقع له عليه الصلاة والسلام، وهذا الرجل لما جبل عليه من الإشراك كان يملك جبروتاً عجيباً، وكان نحيلاً دقيق الشارب حاد النظر قلما يثبت أحد أمام ناظريه من قوة شخصيته، أدخلته قريشاً دار الندوة -وفي قوانين الجاهلية السابقة: أن دار الندوة لا يدخلها رجل دون الأربعين- وأدخل أبو جهل دار الندوة بعد سن المراهقة بقليل في العشرينيات؛ لأنفته وتوسمهم فيه قوة الشخصية.
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه لمح أن النبي على غير عادته -وقد كان ذاك- فأخبره النبي بما وقع، فقال اللئيم: يا محمد! أرأيت إن دعوت لك قومك تخبرهم بما أخبرتني به، والنبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على أن يبلغ دعوة ربه، قال: نعم، فأضحى ينادي الناس ليستمعوا لمحمد صلوات الله وسلامه عليه على خلاف عادته في أنه يطرد الناس عنه، كل ذلك يريد المكر برسول الله، والله قد علم أن المجتمع المكي سينتقل إلى المجتمع المدني فالجيل الذي سيهاجر إلى المدينة لا بد أن يمحص فلا بد من اختبار عظيم يمحص هذا الجيل الذي سيرحل إلى المدينة؛ لأن الإسراء كان قبيل الهجرة بفترة قريبة، فوقف ينادي: يا بني قصي! يا بني كعب بن لؤي! يا بني عبد مناف! هلموا إلي فاجتمعوا، فقال أبو جهل: استمعوا إلى أخيكم فحدثهم النبي صلى الله عليه وسلم فكان قوله فتنة عظيمة لهم.
ولهذا قال الله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء:60] أي: ما رأيته بعينيك في رحلة الإسراء والمعراج من عظائم الأمور التي قل ما يثبت لها قلب إلا من ثبتناه، وما أخبرت الناس به كافرهم ومؤمنهم كان فتنة لهم، ولهذا لما كان الصديق رضي الله عنه أعظم من ثبت في تلك الفتنة قلد القلادة العظمى فسمي بـ الصديق؛ لأنه تجاوز أعظم امتحان وأكبر فتنة وهي: فتنة الإخبار عن الإسراء والمعراج، قال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:60].
ثم قال الله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60] والشجرة الملعونة في القرآن: هي شجرة الزقوم، قال الله جل وعلا: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64]، جاء أبو جهل وأمثاله من كفار قريش وقالوا: قد وقع محمد في شر كذبه يقول لنا: إن النار التي يتوعدنا ويتهددنا بها تحرق الحجارة ثم يزعم أن بها شجرة يخرج منها طعام، والنار لا يثبت أمامها الشجر، فأخذوا يتهكمون وتناسوا أن الله قادر على ذلك؛ لأن خاصية الحرق عند النار يسلبها الله تبارك وتعالى من هذه الشجرة.
ومن يعرف الله جل وعلا يعلم أنه يملك الأسباب ومسبباتها، وقد مر معنا أن التحريم قسمان: تحريم منع، وتحريم شرع، فتحريم الشرع ما أمرنا به: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3]، {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90]، أما تحريم المنع: فما أذن الله فيه لسبب أن يقع فيمنعه الله جل وعلا، مثاله: الأصل في الأرض: أنها تأكل أجساد بني آدم، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (فإن صلاتكم تبلغني) تعجبوا وقالوا: كيف نصلي عليك وقد أرمت؟ فقال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) وهذا ليس تحريم شرع، بل تحريم منع، والأصل في شفتي الطفل أن تقبل ثدي المرضع: لكن الله قال في حق كليمه موسى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12] أي: منعنا شفتيه أن تقبل أثداء النساء.
والنار يدخلها العصاة الموحدون فيحرم الله على النار أن تأكل من بني آدم مواضع السجود، فهذا كله داخل في تحريم المنع، وهذه الحادثة مثلها: فقد تناسوا أن الله جل وعلا له القدرة المتناهية، وانشغلوا بحدود تفكيرهم التي لا تعترف بقدرة ربهم ولا بعظمته.
ولهذا من أخطاء الناس في التعليم: أنهم يقولون عند الحاجة أحياناً لا تبقى ملحة في توحيد الربوبية.
والحق: أن قريشاً وإن كانت تعلم أن الله هو الخالق الرازق كما نطق بذلك القرآن، لكنها تقف عند هذا الحد فقط، ولا تعرف لله جل وعلا صفات الجبروت والملكوت والعظمة فلم يؤثر فيها هذا العلم، يعني: لا يكفي فقط أن نقول للناس: إن الله جل وعلا هو الخالق الرازق المنعم المتفضل، لكن ينبغي الحديث عن صفات الله جل وعلا، والإغراق في الحديث عن صفات الله تبارك وتعالى وآثارها في الخلق، حتى يعرف الناس حقيقة عظمة ربهم.
فالجاهليون القرشيون الأوائل لما جهلوا هذا تهكموا بتلك الشجرة، قال الله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60] أي: جعلنا ذكر الشجرة فتنة للناس ليقولوا هذا الجواب متناسين أن الله جل وعلا خالق الأسباب والمسببات، وخالق كل شيء، ولما نظر المشركون في بابل بنفس الطريقة أتوا بإبراهيم فقيدوه بحبال ورموه في النار؛ لأن الأصل أن النار تأكل الأجساد فتلك الخاصية التي في النار سلبها الله منها وقال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فكانت النار برداً وسلاماً وانقلبت خصيصتها من كونها تحرق إلى كونها تحمي، وهذا لا يقدر عليه إلا الله، والنار مخلوق استجاب لأمر خالقه، فلما استجابت النار لأمر خالقها لم تضر إبراهيم ولم تحرق منه شيئاً، والله قال: (على إبراهيم) ولم يقل: على غيره، فحرقت القيد الذي هو مقيد به، وكان قد ألقي في النار عرياناً، فلم يخرج بقيده، بل خرج يمشي على رجليه فانقلب الضرر نفعاً، والنفع ضرراً عليهم؛ لأن الأمور كلها يدبرها العلي الكبير في الملكوت الأعلى، وتلك حقائق قلما يجهلها مؤمن، لكن القليل من يحاول أن يستذكرها مرة بعد مرة، وهي ما يبني الإيمان بحق في القلوب.
قال تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60]، وقد قلنا: إنه مر معنا قبل قليل أن الله جل وعلا أراد أن يستبقيهم فأبقى على التخويف ولم ينتقل معهم إلى مرحلة الإهلاك استبقاء لأصلهم؛ حتى يكون بعد ذلك منهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً كما وقع من كثير من أبناء الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.(40/7)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وكفى بربك وكيلاً)
ثم قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61] ذكر الله جل وعلا هنا قضية سجود الملائكة لآدم وامتناع إبليس، وهذه القصة مرت معنا كثيراً نأخذها هنا بما يناسب واقعها في سورة الإسراء: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:62]، ومر معنا: أن الله جل وعلا كرم آدم بأمور أربعة: أولها: أنه خلقه بيده، والأمر الثاني: نفخ فيه من روحه، والأمر الثالث: أسجد له ملائكته، والأمر الرابع: أنه علمه أسماء كل شيء.
فلا نقول إن الله جل وعلا كرم آدم بدخوله الجنة، وإن كان هذا تكريم، لكن كل مؤمن سيدخل الجنة، ولكن لن يقع لأحد من الخلق أنه خلقه الله بيده من بني آدم إلا آدم؛ فلهذا قلنا: إن يوسف على الشطر من جمال آدم: {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:9] ونسب الروح هنا إلى الله من باب إضافة التشريف، وأسجد له ملائكته والسجود هنا: سجود تحية لا سجود عبادة، وعلمه أسماء كل شيء، وهذا لا يعلم أن الله جل وعلا أعطاه أحداً من الخلق: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الإسراء:62 - 63] وهذا مر معنا كثيراً: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64].
ثم بين الله فضيلة التوحيد فقال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:65]، يفهم منها أن المقصود أي: ليس له سلطان عام، بمعنى: ليس له أي نزغات على بني آدم، وهذا خلاف الصحيح حتى تظهر القضية؛ لأن هذه قضية قل الحديث عنها.
النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته حديثاً وذكراً يقال عند الجماع، وأخبر أنه إذا قدر في تلك الليلة ولد فإن الشيطان لا يضره، وليس المعنى: أنه لا يضره ألبته؛ لأنه لو قلنا: إن الشيطان لا يضره ألبتة فالمعنى: أن هذا المولود لن يعصي الله قط، وهذا محال، لكن المقصود هنا: أنه لا يصل به إلى الشرك.
والله جل وعلا لم يعط أصلاً سلطان قوة للشياطين، فما قاله بعض القراء من نفوذ أمر الجن على بين آدم بهذا التوسع الذي نشاهده غير صحيح؛ لأن الله قال حكاية عن إبليس: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، فليس لإبليس ولا للجن سلطان ظاهر قوي على بني آدم كما يزعم وعاظ القراء.
وإنما هي أمور مقدرة بقدر وحدود لا يمكن للجن أن يتجاوزوها وإلا لاضطرب ميزان الكون وناموس الدنيا، قال الله هنا: {إِنَّ عِبَادِي} [الإسراء:65] إضافة تشريف {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء:65] أي: لا سبيل لك ممن كتبت لهم النجاة أن تجعلهم مشركين بي؛ لأن كونهم إذا أشركوا لن ينجوا فلن يكونوا عباداً لله.
فالله جل وعلا حافظهم ألا يقعوا في الشرك، أما ما دون ذلك فقد يقع منهم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم)، وحتى البدريون وهم أعلى الأمة مقاماً وقعت منهم معاص، لكنهم ماتوا على التوحيد وهم أجلاء الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، لكن لا مانع من وقوع المعاصي منهم، كما وقع من قدامة بن مظعون عندما شرب الخمر متأولاً، والذي يعنينا: الفهم الجيد للآية؛ فأحياناً الإنسان يبالغ في تزكية الناس، فإذا زكى أحداً قال له: هذا لا يقربه الشيطان، والدين ليس بالألفاظ العامية، ولا بالمدح، ولا بالقناعات، قال جل وعلا: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الإسراء:63] والآية هنا في مقام التخليد؛ لأن الخطاب لشيطان وأتباعه، والشيطان مخلد في النار، فهو يتكلم عن أهل الكفر ولا يتلكم عن أهل المعاصي.
ولهذا فبعض العلماء عندما جاءت قضية يوسف عليه الصلاة والسلام قال: إن يوسف لن يقع منه الهم، ونحن نؤمن أن يوسف لن يقع منه الهم يقيناً، لكنها العبرة بالدليل يعني: عندنا أدلة تكفي بأن يوسف لن يقع به الهم فلا يحتاج إلى أدلة ضعيفة؛ لأنك إذا سقت أدلة ضعيفة مع وجود دليل قوي ضعفت الدليل القوي، فمثلاً: بعض من ينتسب للدين يبالغ في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنه ما ورد من آثار صحيحة في الكتاب والسنة عن حب الله لنبيه كافٍ في حقه صلى الله عليه وسلم، فلا نحتاج لأن نجلب أشياء موضوعة نمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا يضعف تلك القوة، فقالوا: إن إبليس شهد أن يوسف لم يهم بالزنى، قالوا: إن الله قال في حق يوسف: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] وقال في مناظرته لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء:65] إذاً: إبليس ليس له سلطان على يوسف في أن يبتليه، ولو كان للشيطان على يوسف سلطان لدفعه للمعصية، فإذا لم تكن في قلبه نوازع خير وشر فليست له منقبة في أنه امتنع؛ لأن المنقبة في التزام التكليف؛ ولهذا قال الله جل وعلا على لسان امرأة العزيز: {فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف:32] واستعصم: تظهر أن هناك مغالبة من يوسف ليدفع الشر عن نفسه والأذى والفجور، ولما دافع عن نفسه الفجور ودافع عن نفسه الهم وحاربها وبعد عن نزغات الشيطان علي مقامه، وارتفع ذكره، وخلد الله جل وعلا عفافه عليه الصلاة والسلام.
نعود للذي نريد أن أن نحرره: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء:65] ليس المعنى: لا سلطان لك عليهم ألبتة، وإنما المقصود: سلطان الإشراك، وإلا فكل أحد تقع منه المعصية إلا الخلاف حول الأنبياء، والذي يرجح أن الأنبياء معصومون من الصغائر والكبائر على السواء قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:65] وقد يندرج تحت الآية: أن من تقع منهم المعاصي من عبادي الذين كتبت لهم الخير والفضل والمآل الحسن تقع منهم بعد ذلك توبة، فينجم عن تلك التوبة قبولهم وبعدهم عن الشيطان، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
ثم جاءت الآيات بعد ذلك تعرف بالله جل وعلا، وهذا سنلتقي به في اللقاء السادس إن شاء الله.
هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله جل وعلا على قوله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد الله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(40/8)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الإسراء [65 - 72]
يتكلم الله تبارك وتعالى في هذه الآيات عن حال الكفار إذا ضاقت بهم السبل، وجاءتهم الأعاصير، واضطربت بهم الدنيا، وكيف أنهم يلجئون إلى القهار وحده جل جلاله، ويكفرون بما كانوا بهم يشركون، وهو عز وجل حليم عليهم، يمهل الظالم، ولا يدري هذا المسكين أنه إذا أخذه لم يفلته، فإنه قوي شديد العقاب، ثم يذكر سبحانه أنه كرم هذا الإنسان، وسخر له من شواهد ربوبيته ما يدل عليه، وما يجعل القلب يصبو بحبه عز وجل، ثم يذكر حال الإنسان يوم القيامة، وكيف أن الناس يوم القيامة فريقان، فريق فرح مستبشر، وفريق منكسر مفضوح متحسر، وشتان بين الفريقين.(41/1)
تفسير قوله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: ففي هذا اللقاء المتجدد من هذا البرنامج المبارك: محاسن التأويل، كنا قد انتهينا إلى قول الله جل وعلا في اللقاء الماضي: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:65].
وهذه الآية جاءت بعد أن ذكر الله جل وعلا قصة إبليس وامتناعه عن السجود، ثم بين الله جل وعلا تلك القصة بقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64]، وهذا كله وضحناه في موضعه.
ثم قال الله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:65]، المقصود بالسلطان هنا أي: ليس لك عليهم سلطان في أن يقترفوا ذنباً يكون سبباً في خلودهم في النار على أن هذا لا يعلمه كل أحد بعينه، فالذين سبقت لهم من الله الحسنى إنما يعملون لما يسرهم الله جل وعلا أن يعملوا له، ولا يعلم أحد إن كان ممن سبقت له من الله الحسنى أم لا، إلا ما دل الشرع الحنيف عليه في كلام الله، أو على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم.
ثم قال الله: {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:65]، من حيث صناعة المعنى: هذه الآية تحتمل في المخاطب ثلاث جهات: إما أن يكون المخاطب إبليس، وإما أن يكون المخاطب عموم الإنسان، وإما أن يكون المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم.
فعلى الوجه الأول -أن المخاطب بالآية إبليس- يؤيده: أن السياق يتحدث عن المحاورة بين الرب جل وعلا وبين إبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الإسراء:65]، فنحن متفقون على أن المخاطب إبليس.
قال تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:65]، وإذا أبقينا الآية في سياقها أصبح المخاطب إبليس، لكن الإشكال القائم في أن الله قال: {وَكَفَى بِرَبِّكَ} [الإسراء:65]، وهذا يشعر بالقرب وهو ما يتنافى مع خطاب الله مع إبليس.
وهذا الإشكال يدفع بشيء آخر، فالذين أثبتوه دفعوا هذا الإشكال بشيء آخر وهو قولهم: إن المقصود من ذكر الربوبية هنا: بيان أن إبليس وإن خرج بكفره من طاعة الله، إلا أنه لم يخرج عن سلطان الله، أي: بكفره ومعصيته خرج من رحمة الله لكنه لم يخرج عن سلطان الله، فلهذا قالوا: إن لفظ الربوبية هنا ليس المقصود منه: التشريف، ولكن المقصود منه: بيان أن إبليس تحت سلطان الله جل وعلا وقهره.
هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: قول بعضهم: في الآية التفات، ومعنى الالتفات: أن يتحول الخطاب وهو منحى بلاغي.
فقولنا في الأول: إن المخاطب إبليس لا يسمى التفاتاً؛ لأنه كان مخاطباً من قبل، لكن لما أدخل مخاطب آخر سميت القضية: قضية التفات عند البلاغيين، وقالوا: إن الملتفت إليه هو الإنسان عموماً، فيصبح المخاطب بقول الله جل وعلا: {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:65]، وكأن الآية نقلت القضية إلى المسئولية الفردية في أن على كل إنسان أن يتعظ ويعتبر ويعلم أن الله جل وعلا وكيل وكفيل على كل شيء.
الوجه الثالث: أن يكون المخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يثبته أصل عام، وهو أن الأصل في المخاطب بالقرآن أولاً: نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا الذي يبدو ظاهراً لي من الآية؛ لأن لفظ: {وَكَفَى بِرَبِّكَ) [الإسراء:65]، يشعر بالقرب، والنبي صلى الله عليه وسلم أولى الناس بهذا القرب، هذا من حيث صناعة المعنى.
أما من حيث الصناعة النحوية: فإن الفعل (كفى) يجيء في القرآن وفي العربية على ضربين: متعدياً ولازماً، فمن تعديه ما ذكره الله جل وعلا مثلاً في سورة الأحزاب: ((وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]، فكفى: فعل، ولفظ الجلالة: فاعل، والمؤمنين: مفعول به أول، والقتال: مفعول به ثاني، وهذا معنى التعدية: أن الفعل يتجاوز الفاعل إلى مفعول به.
أما عندما نقول في الاصطلاح النحوي: فعل لازم؛ فإنه لا يتعدى الفاعل إلى مفعول به، وإنما يكتفي بفاعله فقط، وهو هنا كقول الله جل وعلا: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:65]، فكفى هنا: فعل لازم، ورب: هو فاعلها، لكن الباء التي جرت لفظ رب جيء بها لزيادة التوكيد، وعلماء العربية يقولون: إنها تكثر في فاعل كفى، وبعضهم يقول: إنها لازمة في كل فاعل، وقد وجد في الشعر العربي ما يرد القول بلزومها في كل فاعل.(41/2)
تفسير قوله تعالى: (ربكم الذي يزجي لكم الفلك)
قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا * رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ} [الإسراء:65 - 66]، بعد أن بين جل وعلا أنه الوكيل الكافي ذكر شواهد ربوبيته، فالآية مناسبتها لما قبلها: أنها جاءت لتبين شواهد تلك الربوبية التي أشار الله إليها بقوله: {وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:65]، فقال الله: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي} [الإسراء:66]، ويزجي من حيث المفردات بمعنى: يسوق، لكن ينبغي أن يعلم أن تفسير القرآن ليس معاني مفردات، لكن هناك غايات مراده لله جل وعلا في طيات كتابه، والمفسر الحق من يوصل مراد الله إلى من يستمع إليه، وهذا أمر يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار.
قال تعالى: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الإسراء:66]، وهنا تأمل عظمة الله، في حياتك الدنيا والدك يعطيك مصروفاً ثم يبعث بك إلى المدرسة لتتلقى علماً غير المصروف الذي هو منه، فالمصروف من الوالد، والعلم من المعلم، وتأخذ مالاً لتذهب إلى تاجر، فالمال منك أو من سيدك أو ممن يقوم على إعالتك، لكن ما تقتنيه وتشتريه فمن التاجر، وهذا في حياة المخلوقين بعضهم، وهذه هي قضايا القرآن التي يجب إخراجها للناس، لكن الله يقول هنا: إنه نفسه جل وعلا سخر لكم الفلك لتذهبوا في البحر، لكن في البحر لا تطعمون طعاماً من أحد غيره، فالمبتغى في البحر هو رزقه تبارك وتعالى.
فأنت بما سخره لك تذهب إلى ما هيأه لك، وهذا من أعظم الشواهد وأجل القرائن على عظمة الرب تبارك وتعالى، وأنه القائم على كل نفس.
قال: {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الإسراء:66]، والفلك معروف أنها: السفينة، ثم علل ذلك بما يناسبه فقال: {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [الإسراء:66]، وهذه الرحمة من الرحمة العامة التي يندرج فيها البر والفاجر، والمؤمن والكافر، وليست خاصة بأهل الإيمان، فإن الله يرزق من يطيعه ومن يعصيه، قال: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [الإسراء:66].(41/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً)
ثم انتقلت الآيات إلى شيء أخص وإلى موضوع أقصر، قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء:67 - 69].
من حيث الإجمال العام ربنا يقول: إن الضر كلمة عامة وهي في البحر أخوف منها في البر، وقد مر معنا أن عمراً بن العاص رضي الله تعالى عنه لما وصف البحر لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر لم ير البحر ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يركب البحر ولم يره، فلما وصفه له قال عمر رضي الله تعالى عنه: لا يسألني الله أنني حملت عليه مسلم.
فرفض أن يغزو المسلمون وأن يركب البحر في عهده.
هنا يقول الله لعباده: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67]، وقد مر معنا أن ضل تحتمل معاني كثيرة، لكن ضل هنا بمعنى: غاب واضمحل، لكنه لم يغب واقعاً بحيث أن هذا الإله الذي تعبدون عجز أن يصل إلى البحر، المسألة أعظم من ذلك، بل المقصود: أنه ضل حتى عندكم، فأنتم العاكفون على أصنامكم والمعظمون لها إذا رأيتم الضر في البحر كنتم أول من ينساها.
قال: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67]، فيخلصون الدعاء لله كما قال الله في سورة أخرى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، وتبرءوا من كل آلهة يعبدونها من غير الله، وخلفوها وراء ظهرهم في معابدهم جثثاً هامدة، وأصناماً ثابتة لا تنفع ولا تضر.
قال تعالى: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67]، أي: من حيث أصل الإنسان، لكن هناك من عصمه الله من الكفر.
ثم قال الله لهم مخاطباً أكباداً غليظة وعقولاً سقيمة: {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء:68]، أي: إنكم إن ظننتم أنكم صادقون في أنكم خرجتم من الخوف إلى الأمن، من جانب الرهبة إلى جانب الأمان، فخروجكم من البحر إلى البر لن يخرجكم من سلطانه سبحانه وتعالى، قال: {أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنتُمْ} [الإسراء:68 - 69]، وهذه لا يقولها إلا الله سبحانه.
قال: {أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} [الإسراء:69]، وهذا يكون بأن يبعث في نفسك بعد نجاتك الطمأنينة فتعود إلى البحر، فيسوقك إلى هلاكك، ويزجيك إلى قدرك، وهذا لا يقدر عليه إلا الله.
{أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء:69]، المعنى الحرفي أي: لا تجدوا أحداً يطالب الله بما صنعه بكم.
لكن الآن تأمل فيما تشاهده في نشرات الأخبار، يأتي في التلفاز -مثلاً- نموذج يتسلط اليهود فيه على الفلسطينيين، فيحصل قتل، وسفك دماء، وأسر، فإذا بقيت الكاميرا ثابتة نقلت لك أصوات نساء أو صبيان أو غيرهم، يحاولون أن يخرجوا شيئاً من أضغانهم يتبعون بها ذلك المحتل، فإما أن المرأة تلعن، أو الصبي يصرخ، أو أحدهم يقذف بالحجارة، بل إن بهيمة الأنعام إذا ذكيتها وذبحتها تريد أن يكون فيها شيء من التبيع فتحرك أعضاءها، وكأن تلك الأعضاء تلومك على ما صنعت، وهذا التبيع يستطيع كل أحد أن يمتلكه إذا كان خصمه بشراً؛ مثلاً: رجل دخلوا عليه في بيته فقتلوا أبناءه وزوجته، وأخذوا كل شيء وتركوه، هو لن يخسر شيئاً إذا أتبعهم بلعنة أو قال بعدهم صرخة، فهذا هو التبيع.
لكن إذا كان المنتقم والله فإن هذا التبيع ينتفي، وهذا معنى قول الله جل وعلا: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء:69]، هذا تحرير الآية من حيث الإجمال.
أما من حيث ما فيهن من فوائد؛ فإن الله يقول: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} [الإسراء:67]، ولم يقل: وإذا أمسكم الضر لسببين: السبب الأول: يعلمنا الله جل وعلا التأدب في الخطاب معه، فلا ننسب الشر إليه مع يقيننا أن الله خالق كل شيء.
والسبب الثاني -وهو سبب جلي-: أن هناك معنىً خفياً يعلمنا فيه الله التبرؤ من الشر، وأن ننأى بأنفسنا عن مواطن الأذى، فهذا هو المقصود من عدم نسبة الشر إليه سبحانه.
قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ} [الإسراء:67 - 68]، الخسف: الهلاك من الأسفل.
{أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الإسراء:68]، أي: ريحاً محملة بالحصباء وهي: الحجارة الصغيرة.
{ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا * أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ} [الإسراء:68 - 96]، والريح إذا كانت في البحر سميت: قاصفاً، وإذا كانت في البر سميت: عاصفاً، وبعض العلماء يقول: إنها تطلق على الاثنين.
قال الله جل وعلا: {فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ} [الإسراء:69]، وهذا بيان لسبب الإغراق، لكن هذا في حالة الانتقام، وإلا فقد يغرق المؤمن في البحر ولا يكون المقصود منه النكال به، لكن يجري هذا بقدر الله: {ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} [الإسراء:69].(41/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم ممن خلقنا تفضيلاً)
ثم قال الله بعدها: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70].
يدل منطوق الآية على أمرين: الأول وهو ظاهر: أن الله جل وعلا فضل بني آدم على كثير من خلقه.
ويدل منطوق الآية في نفس الوقت: أن هناك خلائق لا يفضلها بنو آدم.
وفي المسألة نزاع، لكن تحرير الأمر فيها على وجه الإجمال ما يأتي: بنو آدم أفضل من الجن ومن سائر المخلوقات سوى الملائكة.
الأمر الثاني: عامة الملائكة أفضل من عموم بني آدم.
الثالث: صالحوا بني آدم قد يرقون إلى منزلة الملائكة.
الرابع: والأنبياء والمرسلون إلى بني آدم أفضل من عموم الملائكة، لكن هل هم أفضل من خواص الملائكة؟ وعندما نقول: خواص الملائكة ينصرف الأمر إلى جبريل، وإسرافيل، وميكائيل، فهل هم أفضل من خواص الملائكة؟ الأفضل: التوقف في المسألة لغياب الدليل الصريح الصحيح.
وقد أثبت الله هنا الكرامة لبني آدم، وهذه الكرامة لا يجوز حصرها في شيء واحد، ولكن أعظم ما كرم الله به بني آدم: العقل؛ لأنه مناط التكليف، ومن ذلك: العلم وإنزال الكتب وإرسال الرسل، هذا كله مما كرم الله جل وعلا به بني آدم.
{وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ} [الإسراء:70]، على بهيمة الأنعام وأمثالها مما أفاء الله على أهل زماننا.
{وَالْبَحْرِ} [الإسراء:70]، بأن سخر الله جل وعلا لهم الفلك.
{وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الإسراء:70]، دلالة على فضل الله جل وعلا، والآية ظاهرة واحدة.
{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]، لغوياً ننيخ المطايا عن كلمة (كثير) باحثين عن معناها؛ فبعض العلماء يراها على ظاهرها، وهو الذي حررناه وأخذنا المفهوم منه وقلنا: إن ظاهر الآية: أن هناك خلائق لا يفضلها بنو آدم.
وبعض العلماء يقول: كثير هنا بمعنى: كل، ومن زعم قولاً لزمه الدليل، ودليلهم، هو أن كلمة قليل جاءت بمعنى العدم، فكذلك كلمة كثير تأتي بمعنى الكل، يقول الله جل وعلا: {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88]، قالوا: إن المقصود انعدام إيمانهم بالكلية.
وأصحاب هذا القول يقولون: كما جاءت كلمة قليل بمعنى العدم، فكلمة كثير هنا تعني الكل.
وعلى هذا القول لا حاجة لما حررناه آنفاً من قضايا التفضيل، لكن هذا القول بعيد وإنما ذكرناه لوجوده في طيات الكتب.(41/5)
تفسير قوله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً)
ثم قال الله بعدها: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، والسؤال هنا: ما هي المناسبة بين الآيتين؟ عندما يقول الله: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70] هذا يشعر بوجود التفضيل لكن هذا التفضيل هو في الدنيا، فانتقل الله في الآية بعدها إلى تفضيل أعظم يكون يوم القيامة بالأعمال، فقال: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، اختلف الناس في معنى (إمامهم) على أقوال تحريرها ما يلي: قال بعض العلماء: إن الإمام هنا بمعنى: الكتاب، ودليلهم: آية يس: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]، وهذا القول قال به ابن كثير، واختاره الإمام الشنقيطي رحمه الله في تفسيره.
وقال آخرون: إن الإمام هنا بمعنى: النبي، وحجتهم: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41]، وأمثالها من الآيات.
وقيل: إمام بمعنى: الكتاب الذي أنزل على تلك الأمة، ليس الكتاب الذي دونت فيه أعمالهم، وإنما الكتاب الذي أنزل على نبي تلك الأمة، وهذا القول قال به ابن زيد -وهو أحد التابعين- واختاره ابن جرير.
وبقي قول رابع ينسب إلى محمد بن كعب القرظي أحد أئمة التفسير، فقد قال: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، أي: بأمهاتهم.
وذهب رحمه الله - وهذا القول بعيد - إلى أن السبب في ذلك: صوناً لأولاد الطرائق غير الشرعية، وإكراماً للحسن والحسين في أنهم ينادون باسم أمهم فاطمة، وهذا كله فيه نوع من التكلف، وإن كان مقام الحسن والحسين لا يحتاج إلى دليل، لكن هذا القول فيه شيء من التكلف، وقد قلنا: إن القائل هو: محمد بن كعب القرظي، وهذا يرد عليه حديث صحيح صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال: هذه غدرة فلان بن فلان)، على أن الرجل ينسب إلى أبيه، لكننا حررنا الأقوال الأربعة.
قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} [الإسراء:71]، وهذه قرينة ظاهرة لمن ذهب إلى أن الإمام هنا بمعنى: الكتاب الذي يستنسخ فيه العمل، على أنك ينبغي أن تعلم أن الإمام في اللغة: المقدم، وهي كلمة لا تحمل مدحاً ولا ذماً إلا بقرينة لصاحبها.(41/6)
(فرحين بما آتاهم الله من فضله)
قال الله: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} [الإسراء:71]، ولاحظ الآن الانتقال من الإفراد إلى الجمع، قال في الأول: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الإسراء:71] ثم قال: {فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} [الإسراء:71]، والصورة تتضح في أن أهل اليمين -جعلنا الله وإياكم منهم- يأخذ أحدهم كتابه بيمينه، وبمجرد أن يأخذه بيمينه يعرف أنه على خير.
فإذا عرف أنه رزق خيراً أحب أن يطلع الناس عليه، ليس كمن تلبس بالعار، فيأتون جماعات بعضهم إلى بعض، ولهذا جمع الله بعدها فقال: {فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} [الإسراء:71]؛ لأنهم فرحون بما يقرءون، فيصبح تلقيهم للكتاب فردياً، وقراءتهم للكتاب جماعية، ولم يذكر الله هنا أصحاب الشمال، قال بعض العلماء: إنهم لا يستطيعون قراءته.
وبعضهم يقول: ولو قرأه فلن يستطيع أن يظهره لأحد؛ ولهذا قال الله جل وعلا: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25 - 26].
قال الله: {فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء:71]، والفتيل هو: النتوء الظاهر في شق النواة، والمقصود منه: لا ينقص من أجورهم شيئاً.
ثم قال الله بعدها: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} [الإسراء:72]، أي: في الدنيا.
{فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء:72]، مبدئياً: فإن العمى المقصود به هنا: عمى القلوب، لكن النحويين عند هذه الآية يظهر لهم إشكال، يقولون: إن الصناعة النحوية تأبى أن يصاغ فعل التعجب أو التفضيل على وزنه من غير فعل مساعد مؤنث، وصفة الفعل على وزن أفعل فعلاء، مثلاً يقال: رجل أعمى وامرأة عمياء، يقولون: في مثل هذه الحالة لا يصاغ منه تعجب، ولا يصاغ منه تفضيل.
وهذه الآية: هي قول الله جل وعلا بعدها: {وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء:72]، فهناك قرينة على أن القضية قضية تفضيل، أي: أشد عمىً، ولهم في ذلك مخارج أسلمها أن يقال: إن هذا من باب السماع الذي لا يقاس عليه، وأنت تعلم أن الأصل في اللغة: هو السماع، وهذه قاعدة مهمة جداً في طلب النحو وفي طلب اللغة عموماً، فقالوا: مثل هذا سمع من العرب، وهو موجود في القرآن أصلاً، ولا يمكن أن يقاس عليه.
وبعضهم يخرجها تخريجاً أجمل من ذلك فيقول: إن المقصود هنا ليس عمى البصر، وهو الذي يمتنع فيه التفاضل، أما عمى القلب فيصح فيه التفاضل، لكن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب، ولا أعلم له شاهداً.(41/7)
يوم القيامة يوم الخزي والندامة
قال الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ} [الإسراء:72]، أي: يوم القيامة.
{أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء:72]، وهنا اختلف الناس في ما هو أعمى عنه؛ فبعض العلماء يقول: إذا قسناها على ما قبلها فإنه لا يستطيع أن يقرأ كتابه، فجعل القرينة الأولى دافعة لهذا القول.
وبعضهم يقول: من كان أعمى عن طريق الطاعات فسيكون أعمى عن طريق الجنة، ولا ريب أن المقصود من حيث الإجمال: أن من لم يوفق للطاعة ولم يحسن العمل في الدنيا فهو في يوم القيامة أشد ضلالة وبعداً، وأعظم فسقاً وجرماً، وهو بعيد عن رحمة الله تعالى وجنته، وقريب جداً من غضبه وسخطه ونيرانه، هذا مجمل ما دلت عليه الآية: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء:71 - 72].
إذاً تحرر من هذا: أن الآيات تأتي في مقام التفضيل، فذكر الله جل وعلا تفضيل بني آدم، ثم انتقل إلى التفضيل الأعم والأشمل والأكمل وهو ما يكون في عرصات يوم القيامة، وبين جل وعلا أن الحالة الأخروية إنما هي صورة للحالة الدنيوية، فمن تلمس طرائق الطاعات ولم يعمَ قلبه عن طرائق الهدى وفق يوم القيامة، وكان الاحتفاء به احتفاء جماعياً كحال الناس في الدنيا.
وأما من تلبس بالخزي والعار فإنه يتوارى ويحاول أن يستر فضيحته ويغطي جرمه، وهذا ما يقع من أهل المعاصي في الآخرة فلا يأتون لأحد بكتاب ولا يفرحون به، بل يكون منهم الويل والثبور، كما ذكره الله جل وعلا في أكثر من آية.
هذا مجمل ما تهيأ إيراده، وأعان الله جل وعلا على قوله حول هذه الآيات المباركات من سورة الإسراء، ثم إننا إن شاء الله تعالى نزدلف في اللقاء القادم إلى قول الله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء:73].
فلما كانت هذه الآية وأضرابها تدخل فيما يسمى بعتاب النبي صلى الله عليه وسلم في -القرآن إن صح التعبير- فإنا نفردها في حلقة تامة لوحدها، فما مضى كان مترابط الأجزاء حررناه في مجلس واحد، والله المستعان، وعليه البلاغ، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(41/8)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الإسراء [73 - 81]
محمد صلى الله عليه وسلم خليل الله تعالى، وخاتم النبيين، وسيد ولد آدم على الإطلاق، ولذلك قرن الله طاعته بطاعته، ومحبته باتباعه، ولذلك كان جديراً أن ينال عطية ربه ومنحته المتمثلة في المقام المحمود الذي أعطاه الله إياه في الآخرة، ولذلك أرشد الله نبيه إلى وسائل الثبات في الدنيا، ونصره ورفع رايته، وجعل جنده هم الغالبون، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.(42/1)
تابع الحديث على آيات العتاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فقد تحدثنا عن بعض آيات العتاب، التي عاتب الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم، والآن نواصل الحديث كذلك عما يسمى بآيات العتاب، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73 - 75].
نقول بداية: مر معنا أنه لا بد لنا من استصحاب السيرة حتى يفهم القرآن جيداً, فلا افتكاك بين الكتاب والسنة, والقرآن إنما كان يصور صراعاً قائماً بين الحق والباطل.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل في قلبه شفقة ورحمة على أمته وخصومه من القرشيين، وهؤلاء بدورهم كانوا يحملون في قلوبهم أنفة ومحاولة لصرفه صلى الله عليه وسلم عما هو عليه من الحق, وهذه أصل المسألة.
الذي ينبغي أن يفهم ويعض عليه بالنواجذ ولا ينطلق إلى غيره ولا يقبل سواه: أن الآيات إنما تتحدث عن تأييد الله وحفظه ونصرته لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولا تتحدث أبداً أن هناك ميلاً منه صلى الله عليه وسلم ولو مثقال ذرة أو أقل إلى قومه وما كانوا يعبدون, هذا أمر يجب حسمه قبل أن نشرع في إثبات هذه القضية, وحتى لو عجزت أن تجد الدليل أو البرهان أو الآلة التي تفهم بها الآية, فإنك لن تعجز أن يستقر في قلبك أن هذه الآيات إنما هي بيان لتأييد الله ونصرته وتوفيقه لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولا تتحدث إطلاقاً عن شيء منه صلى الله عليه وسلم أنه كان يميل إلى قومه، هذا أمر لا نزاع فيه ولا خلاف، ولا يمكن دفعه بأي شبهة.
قال الله: {وَإِنْ كَادُوا} [الإسراء:73] أي: قاربوا، {لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:73] أي: يصرفونك، {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:73] أي: القرآن، {لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء:73]، وهذا القرآن ذم آلهتهم وعاب أصنامهم, وهم يريدون قرآناً ليس فيه ذماً وليس فيه قدحاً في عبادتهم وآلهتهم وأصنامهم، {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:73] أي: أنه لو وقع هذا ولن يقع، فلن يجدوا خليلاً مثلك، فأنت رجل كامل الصفات البشرية، فإذا ظفروا بك فقد ظفروا بشيء عظيم، ولهذا لن يفرطوا فيك، قال: {وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:73].
{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء:74] ولولا: حرف امتناع لوجود، والموجود هنا: التثبيت؛ ولذلك امتنع الميل والركون لوجود التثبيت، قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74].
{إِذًا} [الإسراء:75] والتنوين في (إذاً) عوض عن جملة, أي: لو وقع منك هذا {لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:75] أي: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة مضاعفاً؛ لأن مقامك ليس كمقام غيرك.
ولذا خاطب الله نساء النبي بأنهن لسن كأحد من النساء، وأن الأمر يضاعف عليهن لقرابتهن من النبي صلى الله عليه وسلم واندراجهن في بيته, فكيف به هو صلوات الله وسلامه عليه؟! {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:75]، وهذا يبين عظيم سلطان الله جل وعلا وقهره لعباده.
هذا من حيث الإجمال، أما من حيث المفردات: فيقول تعالى: {لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:73] بمعنى: يصرفوك.
{عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:73] أي: القرآن.
{لِتَفْتَرِيَ} [الإسراء:73] أي: لتختلق وتبتدع قولاً من عندك.
{وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} [الإسراء:73]، والخليل مرتبة عالية في الصداقة والقربى والزلفى.
{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء:74] بما قذفناه في قلبك من الهدى والنور والسكينة, والإيمان الحق بالله وآياته.
{لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ} [الإسراء:74] أي: تميل.
{إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74 - 75]، نضرب بمثال على هذه الآية بعيداً عن المنحى اللغوي لها: الآن لو أن إنساناً في شاطئ البحر أوشك على الغرق, ثم أخذ يناديك ويستغيث بك، فملأ قلبك رحمة لأن تنقذه، فأعطيته حبلاً أو رميت له ما يعينه على أن ينجو من الغرق، ثم إنك من شدة عاطفتك وحرصك على أن ينجو كدت تغرق معه، وأنت لا تريد أن تهلك نفسك، لكنك تريد أن تنقذه، فلما رآك الرائي من غيرك وعاتبك وخشي عليك وخاف، قال لك: كدت أن تقتل نفسك، وأنت لم ترد قتل نفسك، بل حملتك شفقتك وعاطفتك على ما صنعت.
وبعض الفضلاء يقول: إن هذا المعنى في هذا المثال هو نفسه هذه القضية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يمل قط مثقال ذرة ولا حبة خردل إلى ما هم فيه, لكنه يقع منه ما ظاهره الميل إليهم، بسبب الشفقة والرحمة بهم، وحرصه على هداهم, وإلا فليس في قلبه صلى الله عليه وسلم إلا التوحيد الخالص، والنبذ التام لما كان عليه القرشيون وقومه من عبادة الأوثان، والعكوف على الأصنام.
وقول هذا مقبول من حيث الجملة, لكننا قلنا: إن الآلة الأولى إلى فهم القرآن هي اللغة، وقد بينا معنى لولا، وقلنا: إنها حرف امتناع لوجود، وأثبتنا وجود التثبيت, وعلى هذا انتفى وامتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ركن إلى قومه.(42/2)
سنة الله تبارك وتعالى في نصرة رسله
ثم قال الله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:76]، والأرض هنا تحتمل معنيين: المعنى الأول وهو الظاهر: أرض مكة.
والمعنى الثاني: أرض المدينة والجزيرة بصفة عامة.
فإذا قلنا: إن الأرض أرض مكة, فالذين يحاولون استفزازه صلى الله عليه وسلم هم كفار قريش.
قال: {لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} [الإسراء:76]، ولم يحدد إلى أين, لكن المقصود: إلى أي مكان, وهذا القول هو الراجح لسببين: السبب الأول: التمسك بالأصل؛ لأن سورة الإسراء مكية، ولأن ما قبلها من الآيات يتحدث عن أهل مكة، فهاتان قرينتان ظاهرتان على أن المراد بالأرض هنا أرض مكة, وعلى أن الذين هموا بإخراج النبي هم كفار قريش.
القول الآخر: يقول إن هذه الآية مدنية في سورة مكية, فيصبح القائل هم اليهود, فهم يريدون أن يخرجوه إلى أرض الشام, بمعنى أنهم يقولون له: لو كنت نبياً حقاً فليس هذا مقامك, وإنما اخرج إلى أرض الشام حتى نتبعك؛ لأنها أرض أنبياء حتى نتبعك, فهناك الأرض التي هي معقل الأنبياء، لكن هذا القول بعيد، وإن كانت القرائن الآن ترجح هذا وتضعف الأول, مع أن القرينتين في الأول ترجح أنها أرض مكة.
ثم قال الله بعدها: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء:77] فما هي سنة من أرسلنا قبلك من رسلنا؟ هي قول الله بعدها: {وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:76] فالله يقول: إن سنتنا الماضية التي لا تتبدل ولا تتحول ولا تتغير فيمن أخرج نبيه أنني أذهبه؛ لأن الله قال: {وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:76].
أجاب عن هذا القائلون بأن الأرض أرض مكة -كما حرره ابن كثير - فقالوا: إن القرشيين منذ أن وقعت الهجرة وأخرج النبي صلى الله عليه وسلم ما لبث الله بعدها بعامين أو أقل أو أكثر بأشهر إلا واستحصدوا في بدر, فمضى قول الله {وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:76].
والقائلون: بأن الأرض هي أرض المدينة، وأن الاستفزاز إلى أرض الشام قالوا: لم يقع هذا من اليهود، ولم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى أرض الشام, فلهذا لم يقع استئصال، والقول الأول هو المراجع، والله أعلم.(42/3)
إرشاد الله نبيه إلى الأسباب التي تعينه على الثبات
وبعد أن بين الله جل وعلا لنبيه وسائل الثبات وما يكاد حوله، دعاه جل وعلا إلى الأخذ بالأسباب التي تعينه على الثبات في ظل هذا الصراع الذي يراه من قومه فقال له: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، واللام في قوله تعالى: (لدلوك) تحتمل معنيين أيها المبارك! فإما أن تكون اللام هنا: للتأقيت, فيصبح معنى اللام هنا: بعد أو عند, يعني: {أَقِمِ الصَّلاةَ} [الإسراء:78] عند دلوك الشمس, أو بعد دلوك الشمس, هذا إذا قلنا: إن اللام للتأقيت.
وإما أن يكون معناها: التعليل، فيصبح المعنى: أن وقت دخولها موجب لها, أي: وقت دخولها موجب لفرضية الصلاة.
قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78]، اختلف العلماء من السلف في معنى الدلوك, والأكثرون وهو قول ابن تيمية رحمه الله: أن الدلوك زوال الشمس, وقال الشنقيطي: وهذا الذي عليه أهل التحقيق, ولا ينبغي القول بغيره وإن وجد.
قال تعالى: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78]، أي: ظلمته، ابتداؤه واشتداده.
ثم أفرد الله الفجر بقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] أي: وصلاة الفجر, {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، يتحرر من هذا ما يلي: أولاً: أن الصلاة لا تجب قبل دخول وقتها.
ثانياً: أن هذه الآية أصل في جواز الجمع، ومنها انطلق الفقهاء سواء من قال بالجمع أم لا؛ لأن الله جعل دلوك الشمس كالوقت الواحد للظهر والعصر، وجعل غسق الليل كالوقت الواحد للمغرب والعشاء، لكن السنة فصلت لنا وقت جواز الجمع من عدمه، وقد اختلف فيه الفقهاء اختلافاً ليس هذا وقت تحرير بيانه.
وفي قوله سبحانه: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]، دلالة على أنها لا تجمع مع غيرها؛ لأن لفظ الفجر جاء مفرداً، وعلى أن القراءة فيها ركن؛ لأنه استقام شرعاً أنه لا يجوز تسمية الشيء ببعضه إلا إذا كان هذا البعض ركناً فيه, مثل قوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]، فعبر عن الصلاة بالسجود، والسجود ركن من أركان الصلاة, وقال: {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43]، فعبر بالركوع والركوع -أيها المبارك- ركن من أركان الصلاة, فقراءة القرآن من حيث الأصل في صلاة الفجر ركن عرف من خلال الآية، أما ركنية القراءة في المغرب والظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقد عرفناها من تفاصيل السنة.
قال تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] أي: صلاة الفجر {كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، أي: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار.
وقد مر معنا تاريخياً: أن صلاة الفجر آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعود من حجته في مكة, وصلاة الفجر أيضاً هي آخر صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم قبل يوم بدر, وصلاة الفجر آخر صلاة صلاها المسلمون والنبي صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرهم.
لكن أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم على أنها فرض: صلاة الظهر, فقد نزل جبريل ظهر اليوم الذي كانت في مسائه أو في ليلته حادثة الإسراء والمعراج, فبدأ جبريل يعلم النبي عليه السلام صلاة الظهر.(42/4)
عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً
ثم قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقد ذكر التهجد هنا مع أنه أسبق من صلاة الفجر؛ لبيان فرضية صلاة الفجر ووجوبها، لكن هل التهجد واجب عليه صلى الله عليه وسلم؟ قال تعالى: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] , ونافلة بمعنى: كرامة، فبعض العلماء ذهب إلى عدم وجوبها في حقه صلى الله عليه وسلم مستدلاً بهذه الآية، وبعض العلماء ذهب إلى الوجوب استصحاباً للأصل، وبقاء على الظاهر.
قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ} [الإسراء:79] ومن: هنا بعضيه, تقول عائشة: لا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بأكملها, {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء:79]، أي: بالقرآن, فالصاحب الحق للمؤمن هو القرآن، ثم انظر هنا عظمة البلاغة القرآنية، يقول تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقد سبق معنا أن الله تعالى سمى البعث: خلقاً جديداً، إلا أنه هنا لا يتحدث عن البعث الذي هو الخروج من القبور، بل يتكلم عن البعث الذي بعده المقام المحمود.
ولقد عبر الله عز وجل هنا السر عظيم، وكأن هذا المقام لا يناله بشر أبداً، ولو كان أعيد, الله لا يتكلم هنا عن خروج الناس من قبورهم, يتكلم عن إتيان الله لنبيه المقام المحمود, ما قال حتى: أن خاتم النبيين محمداً صلى الله عليه وسلم، وإنما هو عطية وهبة ربانية له صلى الله عليه وسلم، يعطيك ربك مقاماً محموداً, قال: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] وقلنا: إن وكأن الله يخلقه من جديد ليهيئه لهذا المقام المحمود، وليعطيه هذه الكرامة، ولهذا عبر بالفعل {عَسَى} [الإسراء:79] لأمرين: الأول: أن {عَسَى} [الإسراء:79] من الله واجبة, ثم إن فعل الرجاء يبعث في النبي صلى الله عليه وسلم الأمل والطمع في أن ينال هذا المقام, والمقام المحمود هو: الشفاعة العظمى التي يؤتاها النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة, وهذه منزلة لا تعدلها منزلة، ولذلك يغبطه عليها الأولون والآخرون صلوات الله وسلامه عليه, ورزقنا الله وإياكم شفاعته.(42/5)
إن الباطل كان زهوقاً
ثم قال الله بعدها: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80]، جملة الآية تدل على التوفيق, لكن إذا خصصناها بالهجرة أصبح معنى: {مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء:80]: إتيان المدينة, و {مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء:80]، يعني: الخروج من مكة, قال: {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80]، وفيها: حاجة الإنسان إلى النصير من الله جل وعلا والسلطان والبرهان.
أما قوله سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81]، هذا نوع من الاستبشار، فإنك إن خرجت اليوم طريداً, فسيأتي يوم يزهق فيه الباطل ويقوم فيه الحق؛ لأن الباطل وإن راج حيناً إلا أنه زهوق، قال تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وهذا هو المعنى العام لهذه الآية.
أما المعنى التفصيلي فنقول: إن الآية تدل على أن الله يأمر نبيه أن يلتمس من ربه التوفيق في أموره الظاهرة والباطنة, وأن يسأله النصرة فلا غنى لأحد عن الله, وقد قلت مراراً: إن الأمور ثلاثة: ما لا يكون بالله لا يكون.
وما يكون لغير الله لا يبقى ولا يدوم.
وما يكون لله هو الذي يبقى ويدوم, وإن ذهبت عينه بقي في الآخرة أثره.
نعرج هنا -أيها المباركون- إلى مفارقات في الهجرة خفيت على الناس؛ لأن الآية تتحدث من حيث الإجمال عن الهجرة.
مقارنة بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة: الهجرة إلى الحبشة كانت هجرة إلى دار أمان وأمن, وأما الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان, فمجتمع الحبشة لم يكن مجتمعاً مؤمناً بخلاف مجتمع المدينة, ولهذا قال الله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9]، فعبر الله عن الأنصار بأنهم تبوءوا الدار والإيمان, فالهجرة إلى الحبشة هجرة إلى دار أمن وأمان, أما المدينة فهجرة إلى دار إيمان, وأعظم العطايا أن يسكن الإنسان في دار أمن وإيمان.
والمسلمون الذين يعيشون في الغرب الآن يتكفل لهم النظام السياسي هناك بالأمان في ظل الديمقراطية التي يعيشونها, لكنه لا يكفل لهم دار الإيمان، فلا يسمع المسلم صوت المؤذن ولا يغدو ويروح في أسواق المؤمنين, ولا يحتكم إلى شريعة الإسلام, فقد أعطي الأمان وحرم حياة مجتمع الإيمان، وإلا فالإيمان في قلبه موجود لا يعد كافراً, لكنه حرم مجتمع الإيمان, كحال المسلمين الأوائل الذين هاجروا إلى الحبشة, ومن يعيش في بلادنا مثلاً -حرسها الله- فهو يعيش في دار أمن ودار إيمان أشبه بالمجتمع المدني الذي هاجر إليه الصحابة, هذا الأول.
الأمر الثاني: من أخطاء بعض الفضلاء من أجلاء العلماء أنهم إذا ذكروا الهجرة النبوية ذكروا الهجرة من الذنوب, وعندي هذا لا يستقيم, يقول صلى الله عليه وسلم: (والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، لكن مثل هذا لا يقال إذا ذكرنا الهجرة؛ والسبب في ذلك يلي: أنت عندما تهجر ذنباً أو تترك رفقة سيئة فأنت تهجرهم وأنت مبغض لهم, وهذا سبب هجرانك لهم، فأنت تبغض الذنب ثم تهجره وتتركه، وتبغض الرفقة والمكان السيئ لتذهب إلى المساجد, فأنت تستبدل شيئاً سيئاً بشيء أحسن منه, أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا تنطبق هذه القاعدة العامة عليه, فهو لم يهاجر من مكة رغبة عنها, وإنما هاجر لأن قومه أخرجوه, وقد قال صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أن الهجرة ولدت في يوم البعثة, وذلك لما ذهبت به زوجته خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وأخبره بأن قومه سيخرجوه, قال صلى الله عليه وسلم في أول أيام البعثة: (أومخرجي هم؟!) فالإخراج كان من القرشيين, وهجرته صلى الله عليه وسلم من مكة ليست هجرة مبغض حاشاه صلوات الله وسلامه عليه, بل قال: (ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت)، لكن أراد الله لأهل المدينة خيراً, وهذا أمر يجب استصحابه.
قال الله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81]، هذا نوع من الاستبشار أعطاه الله لنبيه وهو خارج من مكة, وبقي يحمل تلك البشارة حتى مرت ثمانية أعوام فدخل بتلك البشارة عينها مكة، وقال صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى الأصنام، ويقول وهو يتلو الآية: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، ويشير إلى تلك الأصنام فتهوي وتتساقط على وجوهها, وهذا يدل على جمال الشيء إذا وقع في وقته, فهو عليه الصلاة والسلام لم يستعجل سقوط الأصنام منذ سنوات, وإنما بقيت الأصنام معلقة على أطهر بيت وأكمله إحدى وعشرين سنة, والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم هذا, فلما أزالها من عقولهم، وأزال محبتها من قلوبهم أشار إليها فتساقطت، ولم يبق منها شيء.
والأمر الآخر: أنه يجب إزالة الأوثان والمعابد والأضرحة وما يعبد من دون الله إذا كنا نتمكن من إزالتها, بل إن ذلك من أعظم الواجبات, والنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر نزول عيسى بن مريم وأراد أن يعدد صفاته قال في أولها: (ليكسرن الصليب)، فشعارات أهل الكفر لا يجب أن تبقى أبداً, وأعظم الكفر: ما يعبد مع الله تبارك وتعالى كالمشاهد والقبور والأضرحة, فهذا من الشرك الذي ليس بعده مفسدة، كما أن التوحيد مصلحة ليس بعدها مصلحة, قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81].
هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله تبارك وتعالى على قوله حول هذه الآيات المباركات التي تكلمنا فيها عن عتاب النبي صلى الله عليه وسلم إن صح إدراجه في العتاب, ثم ذكرنا قضية إرشاد الله لنبيه إلى إقامة الصلاة في وقتها, وإلى تفضيله بقيام الليل, وإلى المقام المحمود الذي وعد الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
هذا والله تعالى أعز وأعلى وأعلم, وصلى الله على محمد وعلى آله, والحمد لله رب العالمين, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(42/6)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الإسراء [82 - 88]
لقد أيدَّ الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بمعجزة خالدة وهي القرآن الكريم، وجعله سبحانه هدى وشفاءً وروحاً للمؤمنين، بل وتحدى الإنس والجن على أن يأتوا بمثله أو آية منه، وهذا دليل على عظمته، وقوة صحته، وعظيم بلاغته، ولقد تحدث الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء عن حال الإنسان في حالتي السراء والضراء، وأن غالب الناس يفرح بالنعمة، ويعرض وينأى حال النقمة، ثم ختم الشيخ بالكلام على مسألة عتاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، واختلاف الناس فيه.(43/1)
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد انتهينا إلى قول الله جل وعلا: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، واليوم نستفتح بقول ربنا جل وعلا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82].
يخبر ربنا جل وعلا أنه أحيا بالقرآن قلوب البشر، وجعله أعظم معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو يعاود الحديث عنه حيناً بعد حين في هذه الآيات العظيمة من سورة الإسراء -السورة المكية- ليبين لهؤلاء القرشيين أن دعواكم في نقض هذا القرآن، أو طلبكم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتري غيره طلب لا سبيل إليه، فيكرر عليهم ما يغيظ قلوبهم، ويثبت قلب نبيه.
يقول تعالى: {وَنُنَزِّلُ} [الإسراء:82]، وهذا إشعار إلى أن الأمر متتابع.
{مِنَ الْقُرْآنِ} [الإسراء:82]، (من) هنا هل هي بيانية أم تبعيضية؟ بكل قال العلماء، ورجح ابن القيم رحمة الله تعالى عليه على أنها هنا بيانية، فيصبح كل القرآن بهذا المعنى شفاءً ورحمة.
وإذا قلنا: بأنها تبعيضية؛ فإن المعنى يكون أن القرآن كله رحمة بالاتفاق، س وكله شفاء لأمراض القلوب، من الشك والجهل والريب بالاتفاق، لكن الخلاف يكمن في كون القرآن شفاء كله لما يصيب الأبدان من جراحات وأسقام وأضرابها، وهذا محل النزاع.
فذهب بعض العلماء إلى أنه شفاء كله، وجعلوا (من) هنا بيانية، وأخذوا بعموم الآية {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82]، لكن هل يلزم من قول البعض أن (من) بعضية أن بعض القرآن ليس بشفاء؟ هذا لا يلزم، وقد قال ابن عطية به رحمة الله تعالى عليه في (المحرر الوجيز)، وهو أن ذلك لا يكون ذلك قدحاً في القرآن.
والذي تطمئن إليه النفس: أن يعلم أن القرآن رحمة وشفاء بلا شك لكل أمراض القلوب المعنوية، وأنه لا توجد رحمة أعظم منه؛ لأن فيه الهدى والنور، ثم تأتي أمراض الأبدان بعد ذلك تبعاً لا قصداً، إذ لو كانت مقصودة لما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة أن يتطببوا عند بعض من عرف بالطب عند العرب؛ لأنه لا يعقل أنه يجوز العدول عن الأمثل إلى ما هو دونه، كما أنه لا يجوز لأحد أن يبحث عن دواء لقلبه وريبه وجهله وشكه أعظم من القرآن، فلو كان القرآن كذلك في نفس المنزلة لمرض الأبدان لما جاز لأحد أن يذهب إلى الأطباء، لكن القرآن أنزل لأمراض الشك والريب والجهل، وليكون رحمة تنفع المؤمن في دنياه وآخرته، فالذي نرجحه: أن (من) هنا تبعيضية، والعلم عند الله.
قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، والخسارة التي ينالها الكافر بسبب القرآن ليست ناجمة عن القرآن نفسه، وإنما ناجمة عن كفر الكافر، أي: أن عدم أهليته لتقبل رحمة الله هي التي جعلته يزداد خسارة، ويزداد خسراناً بأن يصبح القرآن أعظم حجة عليه فيزداد خسرانه؛ لأنه يلقى الله جل وعلا بلا حجة، وقد قامت عليه الحجج والشواهد والبراهين كما أثبت الله، وهذه الآية ظاهرة.(43/2)
(قل كل يعمل على شاكلته)
ثم قال الله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ} [الإسراء:83] أي: جنس الإنسان في أصله، وإلا فإنه يوجد من عباد الله من هو شاكر ضال.
قال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء:83]، أما جملة (ونأى بجانبه) فهي توكيد لجملة (أعرض)، فالإعراض -أيها الأخ المبارك- يكون أولاً بصفحة الوجه، وإذا ازداد الإنسان تكبراً، وعظم الطغيان في نفسه أعطاك ظهره، س فانتقل من الإعراض بصفحة الوجه إلى الإعراض بالكلية، وهذا معنى قول الله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء:83].
ومثل هذه الآيات -وإن كانت تعرف ببعض البشر- إلا أنها تدلك من باب أولى على أنه قد يوجد في الناس من تحسن إليه، ويقابل إحسانك بالإساءة أو بالجحود.
أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجاني فإذا كان الناس في تعاملهم مع ربهم تبارك وتعالى يعرضون بعد الإنعام، فمن باب أولى أن يوجد منهم من يعرض عنك بعد أن تتفضل عليه بشيء من الإحسان.
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء:83]، ولماذا دب اليأس في قلبه؟ لجهله بالله، وإلا فمن عرف الله حقاً فإنه لا يمكن أن ييأس من رحمته، أو أن يقنط من روح الله، لكن ذلك القنوط واليأس دب إلى قلبه لجهله بالله؛ ولهذا قال الله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء:83].
ثم قال الله بعدها حتى يبين أن الناس ليسوا جميعاً على هذا المنوال والمنحى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:84].
التحليل اللغوي للمسألة: الشكل -أيها المبارك- بالفتح معناه: المثيل والنظير والضرب، ومنه قول الله جل وعلا: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:58] في سورة ص.
أما الشكل بكسر الشين: فهي الهيئة.
قال سبحانه: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:84]، والألفاظ التي قالها السلف في معنى الآية تتباعد وإن كان المعنى قريباً في الحقيقة.
والذي يظهر لي -والعلم عند الله- أن الله يقول لهم: ينبغي لكل إنسان أن يناسب عمله سريرته، وينبغي أن يوافق عمله ما هو عليه من الأخلاق والطباع، وفي هذا حث لأهل الفساد، فإن كنتم تدعون استقامة أنفسكم فلتثبتوا ذلك بالأعمال الصالحة؛ لأن من صلحت سريرته وجب أن يكون شكله -أي: نظيره وضريبه ومثيله- من العمل موافقاً لتلك الشخصية.
قال تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء:84]، وبعض العلماء إذا ذكر هذه الآية يتكلم عن قضية عفو الله جل وعلا ورحمته وفضله.(43/3)
أرجى آية في القرآن
وقد حكي أن الصحابة رضي الله عنهم في تدارسهم للقرآن أخذوا يتباحثون: أي آية في كتاب الله أرجى؟ فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: قرأت القرآن كله من أوله إلى آخره فلم أر آية أعظم وأرجى من قول الله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:84]، ثم علل فقال: إن العصيان يشاكل العبد، والغفران يشاكل الرب تبارك وتعالى؛ لأن الغفران أليق بالرب، كما أن العصيان أقرب إلى العبد، وهذا يروى كذلك عن علي من وجه آخر: أنها أرجى آية في كتاب الله؛ لأنهم قالوا: إن الله جل وعلا سبقت رحمته غضبه.
وفي نفس الرواية قال عمر رضي الله تعالى عنه: قرأت القرآن كله من أوله إلى آخره فلم أر آية أعظم وأرجى من قول الله جل وعلا: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:1 - 3]، قال: فقدم غفران الذنب على قبول التوبة.
فقال عثمان: وأنا قرأت القرآن كله من أوله إلى آخره فلم أر آية أرجى من قول الله جل وعلا: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49].
وقال علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه: وأنا قرأت القرآن كله من أوله إلى آخره فلم أر آية أرجى من قول الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، فهذه أربع روايات عن أكابر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
قال القرطبي رحمه الله: وأنا قرأت القرآن كله من أوله إلى آخره فلم أر آية أرجى من قول الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، ولكل دليله، وهذه عظمة القرآن أنه كتاب مفتوح تجري في مضماره أفكار العلماء.(43/4)
سبب نزول قوله تعالى: (ويسألونك عن الروح)، واختلاف الناس في حقيقة الروح
ثم قال الله بعدها: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85]، ونلحظ من صيغة الآية أن فيها تجهيلاً لمن سأل ولم يرد له ذكر؛ لأن سبب سؤاله التعنت والمراء الذي لا طائل من ورائه، ولهذا أجابهم الله جل وعلا عن سؤالهم، لكنه عاملهم بالتجاهل لهم فلم يذكرهم.
وفي الصحيح وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه عبد الله بن مسعود، فمر على ملأ من يهود -هذا على القول: أن هذه الآية مدنية، وقول آخر: أنها نزلت مرتين- فمر على يهود فقال بعضهم لبعض: سلوه؟ فسألوه يا: أبا القاسم! ما الروح؟ فاتكأ صلى الله عليه وسلم على عسيب نخل، قال ابن مسعود: فعلمت أنه يوحى إليه، ثم تلا عليهم الآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].
وسنتكلم عن هذه الآية من وجوه: الأول: ما المقصود بالروح؟ قال بعض العلماء: المقصود بالروح هنا: القرآن، وحجتهم: أن الله سمى القرآن روحاً، كما قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52].
وقال بعضهم: إن الروح هنا بمعنى: عيسى بن مريم، فيصبح السؤال عن عيسى، ومن أدلة ذلك: أن الله جل وعلا سمى عيسى بن مريم روحاً، قال تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171]، في تسميته لعيسى عليه السلام.
وآخرون قالوا: إن الروح هنا ملك عظيم الخلقة، وعنوا به قول الله جل وعلا: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا} [النبأ:38].
وقال آخرون: بل هو جبريل عليه السلام، واستدلوا بقوله سبحانه: {سفَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17].
والذي يترجح -والعلم عند الله- أن الروح هنا بمعنى: القرين بالبدن، وهي النفس.
قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، وهذا اختصاص علمي، وليس اختصاصاً خلقياً.
فإن قيل: فما معنى: الاختصاص العلمي، والاختصاص الخلقي؟ ف
الجواب
الآن كون آدم عليه السلام خلقه الله بيده هذا اختصاص خلقي، فخص الله جل وعلا آدم بخصيصة لم يعطها سائر الخلق؛ لأنه خلقه بيده، حتى نبينا صلى الله عليه وسلم لم يخلقه الله بيده، فهذا اختصاص خلقي، وأما الروح فليس لها مزية في خلقها عن سائر المخلوقات، لكن لها اختصاص علمي؛ في أن الله جل وعلا أخفى كنهها، فلا يعرف سرها أحد.
فهذا معنى سقول الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ثم قال الله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، وما هنا: نافية قطعاً، وفيها دلالة على فضل العلم، وعلى أن علم بني آدم مهما امتد ففيه ضآلة جداً أمام علم الله، وأعظم شاهد على ذلك قصة موسى والخضر، وذلك الطير الذي نقر في البحر فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك من علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر.(43/5)
مثال على عدم نفوذ مشيئة الله في بعض الأحيان بإرادته سبحانه
ثم قال الله بعدها: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:86]، وهو القرآن.
{ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} [الإسراء:86]، وهذا من مشيئة الله التي لم تقع، ولم يأذن الله بها، لكن القضية بيان أن الله جل وعلا هو صاحب الفضل المحض على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن القرآن سيرفع في آخر الزمان.
قال تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الإسراء:86 - 87]، ويجب أن نقول: إن الاستثناء هنا منقطع، فيصبح المعنى: لكن رحمة الله جل وعلا عليك واسعة، فلا يمكن أن يقع مثل هذا الأمر.
ثم قال: {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} [الإسراء:87] وهذا تعميم، وفضل الله جل وعلا على نبيه واسع جداً دلت عليه آيات عدة أعظمها وأقربها: قول الله قبلها بآيات: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وكذلك إنزال الكتاب عليه، وكونه خاتم الأنبياء والمرسلين، وكذلك صاحب رحلة الإسراء والمعراج التي تكلم الله عنها في أول السورة، فكل ذلك مندرج تحت قول الله جل وعلا: {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} [الإسراء:87].(43/6)
(ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)
ثم قال الله -وهي الآية التي نختم بها-: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] فكما أن ذات الله لا تشبهها ذات، فكلام الله لا يشبهه كلام، وهنا قدم الإنس على الجن؛ لأنهم أفصح لساناً وأوضح بياناً، وإلا فقد قدم الجن على الإنس في مواطن كثيرة؛ لأنهم أسبق خلقاً من الإنس، ومن ذلك قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33]، وهذا في معرض القوة.
يقولون: إن أبا العلاء المعري المسمي نفسه: رهين المحبسين، وهما: العمى، والمكث في البيت، وهو رجل كف بصره وهو صبي، فأقبل على العلم ينهل منه، وساعده على الحفظ كونه كفيفاً؛ لأن الكفيف لا يتشعب ذهنه، وهو لا يرى شيئاً يزاحم حفظه، فيكون أقدر من غيره على الحفظ، فأقبل على العربية وشعر العرب وتاريخهم وأيامهم حتى بلغ فيها شأواً بعيداً، وكان أحياناً يشوبه شيء من الإلحاد.
فيقولون: إنه ذات يوم أراد أن ينظم أبياتاً يعارض فيها القرآن، فذكر أبياتاً يقوم محورها على ذكر الفتاة، وأن الوالدين يحفظان الفتاة ويحرزانها، ثم لا تلبث أن تموت وهي صغيرة رغم حرص الوالدين على بقائها، فتنتقل من حرز الوالدين إلى القبر، وسمى القبر حرزاً حريزاً، ثم قال في آخر بيت: يجوز أن تبطئ المنايا والخلد في الدنيا لا يجوز ثم إنه تذكر قول الله في سورة هود: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:104 - 105] فجثا على ركبتيه وبكى بكاءً طويلاً ثم رفع رأسه وقال: سبحان من تكلم بهذا في القدم! سبحان من هذا كلامه! وهذه شهادة معتبرة، لا لفضل الرجل نفسه فهو أقرب إلى الإلحاد، لكن لكونه رجلاً عالماً بالعربية، وإماماً في سبك الكلام، فالاعتراف من مثله له وضعه واعتباره في أن كلام الله جل وعلا لا يعدله كلام أبداً، فقد تلا قول الله: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:104 - 105]، فبكى بكاء شديداً، وجثا على ركبتيه ثم رفع رأسه وقال: سبحان من تكلم بهذا في القدم! سبحان من هذا كلامه! والذي يعنينا -أيها المباركون- أن كلام الله جل وعلا لا يمكن أن ينازع ولا أن يعارض، ولا أن يلحق شأوه أحد كائناً من كان، وقد قال ربنا وهو أصدق القائلين: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ} [الإسراء:88 - 89] وعد، ووعيد، وأخبار، وأوامر، وشرائع، {مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الإسراء:89]، لكن من غلب عليه الكبر والعناد فمن البديهي أن يعرض وأن يتكبر، قال: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء:89]، أي: رداً لقول خالقهم، وصداً عن هداية بارئهم، وهذا واقع أصلاً بقدر الله، مما يدل على أن الله جل وعلا خالق كل شيء ومالكه، وله تبارك وتعالى عليه السلطان الأعظم.(43/7)
عتاب الله لنبيه واختلاف العلماء في وقوعه
وقد كنا ذكرنا -أيها المباركون- قضايا العتاب، سوأختم بها هذا اللقاء؛ لأنني ضربت الذكر عنها نسياناً لا صفحاً في لقاء قد سبق.
فنقول: العلماء في هذا على ثلاثة أقسام: قسم ينفيه، ويستحي سأن يسمي كلام الله لنبيه عتاباً.
وقسم في بعض الأحيان يثبته إثباتاً غير مقبول، كقول الزمخشري في تفسيره عن قول الله جل وعلا: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]، قال: هذه كناية عن الجناية؛ لأن العفو ملازم لها.
قال أبو حيان في تعقبه على الزمخشري: وقول الزمخشري هذا مما يجب اطراحه فضلاً على أن يرد عليه؛ لأن هذا سوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وآخرون يأخذون طريقاً وسطاً فيقولون: وقع في القرآن عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن المقصود به -أي: هذا العتاب- بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان من الممكن أن يأخذ الأولى والأفضل، وليس هناك خطأ يلام أو يعاتب عليه صلوات الله وسلامه عليه.(43/8)
مثال على عتاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم
والآن سنقف على بعض ما عاتب الله به نبيه سواء في الكتاب أو السنة، أو فيما دل الأمر عليه: قال الله جل وعلا: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]، هذا في أمثال عبد الله بن أبي، وقد كان الإجماع قد استقر في المدينة على جعله أميراً عليهم، وذلك قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة انصرف الناس عنه فبقي في صدره شيء كتبه الله، فأخذ يظهر حب اليهود، ويظهر النفاق، وهو الذي ولغ في عرض عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وفي السنة التاسعة من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فلما عاد اشتد مرض الوفاة على عبد الله بن أبي، فجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله بن أبي في مرضه الذي مات فيه، وأراد النبي أن ينجو به فقال: قد كنت نهيتك عن حب يهود، فقال هذا الوقح!: قد كان أسعد بن زرارة يبغضهم فمه.
فالنبي يريد أن يبين له أن ما أصابك من سوء الخاتمة إنما هو لحبك الشديد لليهود وبغضك لأهل الإيمان، فولم يقصد أن حب اليهود سبب في الوفاة؛ لأن الكل سيموت، فرد عدو الله بهذه المقالة؛ لأنه أراد أن يخرج بالخطاب عن مساره، فتركه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فلما مات عبد الله بن أبي جاء ابنه في ملأ من الصحابة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوفاة أبيه، وطلب الابن من نبينا صلى الله عليه وسلم أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه قميصه، فكفن عبد الله بن أبي في قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مات على الكفر، ونزل صلى الله عليه وسلم في قبره وصلى عليه أما الصلاة فلم يكن قد ورد النهي في قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة:84]، فإنها نزلت بعد هذه الحادثة.
فإن قيل: فلماذا أعطى النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لـ عبد الله بن أبي؟ والجواب ذو شقين: الأول: إجابة لابنه، فإن المروءات يجب أن ينافس فيها أهل الفضل، فإن ذوي الفضل يستحيون أن يردوا السائلين، فأجاب رجلاً مؤمناً إلى سؤاله، هذا الشق الأول.
والأمر الثاني وهو الأهم والأبرز: أنه في يوم بدر كان من الأسارى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان طويل القامة، عظيم الجثة، فلما أسر لم يكن عليه إلا ما يستر عورته، فأرادوا له قميصاً وثوباً فلم يجدوا قميصاً أو ثوباً يلائم جسده إلا قميص عبد الله بن أبي، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر ثوب عبد الله بن أبي وأعطاه عمه، فأصبحت لـ عبد الله بن أبي يد على النبي صلى الله عليه وسلم، فأعطى النبي قميصه لـ عبد الله يوم وفاته ليكافئه على تلك اليد.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: كانت له يد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحب رسول الله أن يكافئه عليها.
فالله يقول لنبيه: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة:80]، هذه الآية تتضمن الخبر والإنشاء؛ لأن كلام العرب خبر وإنشاء، فالخبر: ما يحتمل التصديق والتكذيب، والإنشاء: ما يكون بمعنى الطلب، والآية معناها: استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن ينفعهم استغفارك شيئاً، وهذا خبر، وقوله سبحانه: (استغفر) هذا أمر، والنبي صلى الله عليه وسلم خير، فاختار ما يناسب سجيته وشفقته ورحمته.
هذه من جملة الآيات التي ظاهرها العتاب، لسيد ذوي الألباب، صلوات الله وسلامه عليه.
هذا ما ذيلنا به هذا الدرس المبارك، وقد تكلمنا فيه عما أرجئنا الحديث عنه في لقاء ماضٍ عن العتاب القرآني لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهو طويل جداً عرجنا على بعضه ونكمل بعضه حيناً آخر، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(43/9)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الكهف [1 - 16]
كتاب الله العزيز أعظم المعجزات، وأكبر الآيات، أنزله تبارك وتعالى سليماً من الاعوجاج والخلل، معافى من أي نقص، فاستحق الحمد جل شأنه على ما أنزل.
ثم قرر حقيقة هي من أجل الحقائق ومن أعظم البراهين وهي أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وقد أعظم الفرية من قال بهذا؛ لأنه لا يملك في حوزته دليل على مثل هذا الشيء.
وأخبر جل في علاه عن فتية في غابر الزمان آمنوا بربهم ففروا بدينهم إلى كهف ليستحيل بعد ذلك إلى حصن منيع، فآواهم ربهم فيه أعظم الإيواء، ورعاهم برعايته، وحرسهم بعينه التي لا تنام.(44/1)
القضايا التي عنيت بها سورة الكهف وسبب نزولها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: سنشرع -بإذن الله تبارك وتعالى- في تفسير وتوضيح وبيان محاسن التأويل في سورة الكهف، ونحن بدراستنا لسورة الكهف نأخذ نوعاً من الانتقاء، فما مضى من الدروس كان يعنى بقصار السور، ومعلوم أن هذا البرنامج أو هذا اللقاء العلمي المبارك، إنما يعنى بتفسير القرآن بحسب ترتيب نزوله قدر الإمكان، ولا نعلم ضابطاً يضبط كل ما أنزل حسب ترتيبه لكننا -كما قلنا- حسب الإمكان العام، وحسب ما تبين لكثير من أهل العلم، وقد مضى القول في سورة (اقرأ) و (المدثر) و (القلم) و (الضحى) و (المسد) (والشمس وضحاها) ثم ننتقل اليوم إلى سورة الكهف.
وسورة الكهف مكية باتفاق إلا آيتين منها اختلف فيهما، لكن الأظهر أن جميع السورة مكية، هذه السورة من التلاد القديم، وفق تعبير عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وهو أحد كبار الصحابة الذين أخذوا القرآن رطباً من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآراؤه في القرآن قوية معتبرة أكثر من غيره؛ لأنه كان يأخذ القرآن من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله في ذلك أقوال تبين رسوخ قدمه في علم القرآن.
سورة الكهف عنيت بعدة قضايا، ومن أجلها بلا شك: موضوع العقيدة، وهذا شأن السور المكية كلها، لكن عندما نقول: أن موضوع العقائد هو شأن السور المكية لا يعني ذلك أن السور المدنية لم تعنَ بالعقائد، وإنما المقصود: أن السور المكية قلما يكون فيها تشريع، والسور المدنية تعنى بالعقائد كذلك وهي محتوية على تشريع؛ لاستقرار الإسلام ووجود المجتمع المسلم والدولة الآمنة التي يمكن إجراء الأحكام الشرعية على أفرادها.
يقال في سبب نزول أول سورة الكهف: أن قريشاً بعثت إلى يهود تسألهم عن النبي الذي خرج عندهم ومن بين أظهرهم، وكانت قريش تقول لليهود: إنه فقير يزعم أن بين كتفيه خاتم النبوة، وأنه يتيم إلى غير ذلك، وكانوا يذكرونه بأوصافه التي يرون أنها معيبة ومنقصة، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يكون فيه شيء من ذلك.
فقالت لهم اليهود من باب الإرشاد: سلوه عن فتية ضاعوا في الزمن الأول، وسلوه عن ملك طواف، وسلوه عن الروح، فإن أجاب عنها فهو نبي وإلا فهو رجل يتقول، فلما عاد ذلك البعث القرشي إلى مكة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن: فتية ضاعوا في الزمن الأول، وعن ملك طواف، وعن الروح، فأجاب القرآن عنها في هذه السورة.(44/2)
سبب تسميتها بسورة الكهف
سميت بسورة الكهف؛ لذكر اسم الكهف فيها، قال جل شأنه: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، لكنها تعرضت لجملة من القضايا العديدة غير قصة أصحاب الكهف، لكن القرآن -كما بيناً- أحياناً يسمى بالقضية الأشهر في السورة، والله جل وعلا يتعرض لقصة أصحاب الكهف في القرآن الكريم وإنما ذكرها في هذه السورة فقط، نظيره في القرآن قصة يوسف، فإن الله لم يتعرض ولم يذكر في القرآن قصة يوسف بالتفصيل كما جاء في سورة يوسف، وإنما جاء ذكر يوسف كنبي فقط في سور متعددة كما في غافر وكما في الأنعام وغيرهما، وهذا نظيره سورة الكهف.
جاء في فضلها أنه يستحب قراءتها في يوم الجمعة، كما جاء في فضلها: (أن من قرأ أولها -في رواية أخرى- أن من قرأ أواخرها حفظ من فتنة الدجال)، وقد قال العلماء في بيان العلة في هذا: أن هؤلاء الفتية منّ الله عليهم بالوقوف أمام ملك جبار طاغية، فكان من قرأ أوائل سورة الكهف التي تذكر خبرهم جعل هذه القراءة سبباً في العصمة من الدجال، فـ الدجال نظير ذلك الطاغية في الزمان الأول وقراءة سورة الكهف نظير الأخذ بالسبب الذي فيه عصمة من فتنة الطغاة.
من فوائد السورة: أنها تبين أن أحوال المؤمنين تختلف، فإذا كانت العصبة المؤمنة لديها قدرة على محاربة أهل الإشراك، والعدد شبه متكافئ والقوة شبه متقاربة فإنه يتأكد الجهاد في حقهم، أما إذا كان هناك بون شاسع ما بين الفئتين فلا يتأكد الجهاد، إلا أن يكون هناك أمر رباني بعينه، لكن الأصل أنه لا يتأكد الجهاد، وفي هذه الحالة فإنه يحسن الفرار، وليس الفرار هنا هو الفرار من الزحف، ولكن الفرار بالدين، والفرق بين الأمرين هو أن هذا الفرار ما يسمى بالهجرة أو الاعتزال، لكن بعض العلماء كما صنع السيوطي رحمه الله في الإكليل أبعد النجعة، فجعل أن مجرد وجود الفساد داع إلى العزلة وهذا غير صحيح، ولا يسلم بهذا الإطلاق؛ لأن الفساد لا يخلو منه زمان، لكن الإنسان ينظر إلى الأمر بجملته، وينظر إلى قدراته على التكيف مع الأمر، وإلا فإن الفساد لا يخلو منه زمان ولا مكان، وقد كان حتى في عهد النبوة شيء من ذلك، هذا المستسقى الأول من معين هذه السورة، ولعلنا إذا دخلنا في طيات التفسير يتضح لنا أشياء أكثر من ذلك.(44/3)
تفسير قوله تعالى: (الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب)
قال الله جل وعلا في فاتحتها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]، وهذه السورة واسطة العقد في خمس سور افتتحها الله جل وعلا بحمد ذاته العلية، وهي سورة الفاتحة وسورة الأنعام، الواسطة الكهف، ثم سبأ، ثم فاطر، ولا يوجد غيرهن في القرآن افتتحها الله جل وعلا بحمده.
قال ربنا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1] وجه الربط ما بين حمده جل وعلا وثنائه على ذاته العلية وما بين إنزال القرآن يستبين منه أولي النهى: أن إنزال القرآن من أعظم النعم، ولذلك ذكر الله جل وعلا الحمد في هذه السورة، فالرب الذي أنزل على عباده القرآن العظيم هداية للطريق الأقوم مستحق جل وعلا للحمد والثناء، وفيه بيان شرف وفضل ورفيع القرآن.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1]، العبد هنا المقصود به: النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق، (والكتاب): الألف واللام في الكتاب للمعهود الذهني، المراد به القرآن العظيم.
(أنزل)، وهنا لابد من مبحث علمي؛ لأنه سيتكرر كثيراً، وعلى كل طالب علم إذا ضبط المسائل بجملة، وعرف طرائقها فإنه يستريح كثيراً في تفسير الآيات.
والإنزال في القرآن ورد مطلقاً وورد مقيداً، مع اتفاق السلف على أن المراد بالإنزال أنه يكون من أعلى إلى أدنى، وقلنا: إن الإنزال في القرآن ورد مطلقاً وورد مقيداً، وسنأخذ التقييد ثم نعرج على المطلق؛ لأن المطلق سنحيله بعد ذلك على المقيد.
فقد ورد الإنزال مضافاً إلى الرب تبارك وتعالى بمعنى أن يقال منزل من عند الله، وهذا لم يرد في كلام الله الإنزال على أنه من عند الله إلا في ذكر إنزال القرآن، قال الله جل وعلا: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2] فهذا إخبار أنه منزل من عند الله، وقال جل وعلا: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل:102]، وقال جل ذكره: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:80]، فأخبر جل وعلا أنه منزل من عنده، بنعته وبقوله جل وعلا، وهذا التقييد الأول، ولم يرد إلا في القرآن، أنه منزل من عند الله.
التقييد الثاني: أن يخبر أنه منزل من السماء: والسماء اسم جنس لكل ما علا، فقد أخبر الله جل وعلا عن أشياء أنها منزلة من السماء، قال الله جل وعلا: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة:22] والمقصود بالسماء هنا: السحب، بدليل قوله جل وعلا: {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:69]، وبدليل قوله سبحانه: {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ:14].
ومما أخبر الله جل وعلا أنه من السماء: العذاب، قال الله جل وعلا: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:59] فأخبر الله جل وعلا: أن الرجز من السماء.
ومما أخبر الله أنه أنزل من السماء قوله جل ذكره: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء:95] فأخبر الله جل وعلا أن الملائكة تنزل من السماء، ولا ريب أن السماء في الرجز، والسماء في الملائكة، والسماء في الماء تختلف كل بحسبه لكن المقصود أن تفقه أن الإنزال في هذه الآيات مقيدة، لكنه لم ينسب أنه من عند الله، فلم ينسب الله جل وعلا شيئاً أنه من عنده إلا القرآن، وهذا التقييد.
الإطلاق: هو أن الله يذكر الإنزال ولا يذكر جهته، أو لا ينسبه إلى شيء معين، ومنه قول الله جل وعلا: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد:25]، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6]، فهنا لم يخبر الله جل وعلا من أين نزل، فيقال فيه: أن كل شيء بحسبه.
والإطلاق يحمل على المقيد الذي أخبر الله جل وعلا أنه من عنده، فالإطلاق الذي لم يذكر الله عز وجل فيه جهة النزول يحمل على التقييد الذي فيه أن إنزال القرآن أخبر الله أنه من عنده.
فقول الله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [الكهف:1 - 2] ولم يخبر الله عن جهة الإنزال، ومثله قول الله جل وعلا: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:80]، وقوله: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2] إلى غيرها مما ذكرناه آنفاً.
من هنا: نفهم ونعتقد ما كان يعتقده سلف الأمة من قبل وهو: أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، اتفق السلف على هذا وأجمعت الأدلة عليه، وخالف في ذلك البعض من أصحاب الفرق الضالة لكن لا عبرة بخلافهم.
هذا معنى الإنزال، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} [الكهف:1 - 2]، تعلمون يقيناً أن هناك سكتة ما بين (عوجا) وما بين (قيما)، والسكتة وجدت لسبب مهم جداً، وهو أن الله قال: (لم يجعل) هذا نفي أنه لم يجعل له (عوجا)، لكن الله جعل القرآن (قيما) فلو قرأناها من غير سكتة لأوهم هذا أن يفهم أن القرآن لا عوجاً ولا قيماً، وهذا ليس مقصود كلام الله، وإنما المقصود نفي العوج، وليس المقصود نفي أنه قيم.
قال الله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا} [الكهف:1 - 2]، فـ (عوجا) مفعول لـ (يجعل)، وجملة: (ولم يجعل له عوجا) الجملة الفعلية كلها: حال من (الكتاب)، وكذلك (قيما) حال آخر، حال ثانٍ من (الكتاب).
إذاً: وصف الله جل وعلا الكتاب بحالتين: أنه أنزله على حال ليس بها عوج، وعلى حال أنه قيم، وهنا تفقه لماذا وجدت هذه السكتة اليسيرة ما بين (عوجا) وما بين (قيما).
وقد خالف في هذا الزمخشري رحمه الله لكن نفيه لهذا الأمر غير صحيح؛ لأن تعدد الحال نطق به القرآن، قال الله جل وعلا: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف:150] فذكر الله حالين لموسى عندما رجع إلى قومه، قال الناظم: والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم أو غير مفرد (والحال قد يجيء ذا تعدد) يعني: يكثر من حال، (لمفرد) يعني: يكون صاحبه مفرداً، (فاعلم أو غير مفرد) أي: قد يكون صاحبه غير مفرد، والشاهد من البيت صدره وهو: أن الحال يأتي متعدداً.
{وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1] أي: أن القرآن العظيم لا خلل في نظمه ولا تنافٍ في معانيه، بل إنه يدعو إلى الحق وإلى عدم العوج.(44/4)
تفسير قوله تعالى: (قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ماكثين فيه أبداً)
{قَيِّمًا} [الكهف:2]: اختلف فيها، والأظهر أن معناه: مهيمن على الكتب كلها، ثم بين الله قائلاً: {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف:2].
الإنذار: هو الإعلام المقترن بالتخويف والتهديد، فإذا كان غير مقترن بتخويف أو تهديد فلا يسمى إنذاراً وإنما يسمى إعلاماً، وعلى هذا فإن كل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذار.
{لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2] كلمة (بأس) وردت في القرآن على ثلاثة معانٍ، وردت بمعنى: اللأواء والشدة والتضييق، ومنه قول الله جل وعلا: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [البقرة:214]، ووردت بمعنى: العذاب، وهو صريح آية الكهف التي بين أيدينا: {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [الكهف:2] ونظيره قول الله جل وعلا في سورة غافر: {فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] والمقصود: عذاب الله، وتأتي بمعنى القتال والمعركة، ويدل عليه قول الله جل وعلا في سورة الأحزاب: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] أي: أنهم لا يشهدون المعركة إلا ليروك وجوههم ثم ينصرفون، ومعنى البأس في آية الأحزاب: القتال واحتدام المعركة، وفي آية سورة الكهف معنى البأس: هو العذاب، {لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2].
والفعل (أنذر) ينصب مفعولين: ذكر الله جل وعلا واحداً منهما وهو العذاب، ولم يذكر المعذبين، وسيأتي بعد ذلك: أن الله ذكر المعذبين ولم يذكر العذاب.
{لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف:2]، (شديداً): للتأكيد، وإلا كونه من عند الله، يكفي هذا قرينة على أنه شديد.
فلما ذكر الله الإنذار لأهل الكفر، ذكر البشارة لأهل الإيمان، فقال جل ذكره: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف:2]، والأجر المذكور يحتمل خيري الدنيا والآخرة، لكن وجدت قرينة تدل على أن المقصود: الآخرة، وهي قول الله جل وعلا: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:3]، ومعلوم أن أجر ونعيم الدنيا لا خلود فيه، ولا يعني هذا أنه ليس لهم أجر في الدنيا، فقد جاء هذا في آيات أخر، لكن قوله جل ذكره: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:3]، قرينة على أن المقصود به: الأجر الأخروي.
وهذا يدفع طالب العلم إلى ألا يستعجل في التفسير حتى يقرأ الآية المراد تفسيرها كاملة حتى يستبين له من القرائن المصاحبة لما يريد تفسيره، ويتضح مراد الله جل وعلا من قوله.(44/5)
تفسير قوله تعالى: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً)
قال تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4]، هنا ذكر الله جل وعلا المعذبين المنذرين ولم يذكر العذاب، فعكس الأولى.
المخاطب بهذه الآية كفار قريش بشكل خاص، لكن الذين نسبوا لله الولد -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- هم ثلاث طوائف: اليهود والنصارى ومشركو العرب.
اليهود والنصارى جمعهم الله جل وعلا في آية واحدة وهي قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، وأما مشركو العرب فقد جعلوا الملائكة بنات لله، قال الله جل وعلا: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57]، وكلمة (سبحانه) في آية النحل تسمى عند البلاغيين: إطناب، أي: زيادة، لكنها زيادة محمودة؛ لأن المقصود منها تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به.(44/6)
تفسير قوله تعالى: (ما لهم به من علم ولا لآبائهم)
قال تعالى: {مَا لَهُمْ} [الكهف:5] نافية، {بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ} [الكهف:5] ليس لهم به علم؛ لأنه أصلاً غير موجود، ولا يتعلق العلم إلا بشيء موجود، العلم لا يتعلق إلا بشيء موجود، فلما نفى الله العلم عنهم كان هذا من باب اللزوم، ونفي الوجود، وإنما المسألة عندهم مسألة تقليد، يتبع آخرهم أولهم ويقلد آخرهم أولهم على غير بينة ولا برهان.
قال سبحانه: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] ليس المقصود بـ (كلمة) هنا كلمة واحدة أو مفردة، وإنما المقصود جنس الكلام، وهذا دلّ عليه القرآن في أكثر من موضع، قال الله جل وعلا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:99 - 100] وهو قال جملة كاملة.
(كَبُرَ) جاء الماضي هنا بضم الباء، وإذا استخدمت هذه الكلمة للكلام عن العمر فإن الباء تكسر، وإذا كان الكلام عن غير العمر فتضم الباء سواء في الماضي والمضارع، تقول: كَبُر يكبُر، بمعنى يعظم الشيء السن.
وهنا لا يتكلم الله عن عمر ولا عن سن ولا عن أمد زمني، وإنما يتكلم عن فظاعة ما قالوه، (كبرت كلمة)، أما في الكلام عن السن فيقال في الماضي: كَبِرَ، بالكسر، وفي المضارع: يكْبَر، بالفتح، قال المجنون: تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة ولم يبد للأتراب من ثديها حجمُ صغيرين نرعى البهْم يا ليتَ أننا إلى اليوم لم نَكْبَرْ ولم تَكْبَرِ البهم وهو يقصد المرحلة الزمنية وامتداد العمر، والمجنون: هو قيس بن الملوح أحد الشعراء المعروفين، وإنما يذكره المفسرون هنا؛ لأن كلامه مما يستشهد به؛ لأنه في الحقبة التي يؤخذ منها كلام العرب، وقد جاءت حقبة لا يستشهد بكلام شعرائها، فمثلاً لا يُستشهد بقول المتنبي، أو قول أبي تمام؛ لأنهما متأخران، لكن ما كان قبل المائة عام، أو مائة وثلاثين فإنه يُستَشهد بكلامهم، وهذا يحتاجه طالب العلم، وسيأتي الاستشهاد بكثير من شعر العرب، وهذا أصل في تفسير كلام الرب تبارك وتعالى.
قال الله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5]، وقول الله جل وعلا: (من أفواههم) دلالة على أن هذا الأمر ليس له أصل في قلوبهم، ولم يحرروه على بينة وبرهان؛ لأنه أصلاً لا يوجد وإنما تتلقفه الأسماع، وتقوله الأفواه، ولا أصل له قطعاً.
{إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]، وتكذيبهم فيما قالوه ذكره الله جل وعلا في أكثر من موضع، قال الله تبارك وتعالى: {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ * فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصافات:148 - 149]، إلى أن قال سبحانه: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات:152] أي: فيما زعموا.(44/7)
تفسير قوله تعالى: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم)
قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، (لعل) الأصل فيها أنها للإشفاق والترجي، لكنها في هذه الآية بمعنى النهي، فينهى الله نبيه ألا يُذهب نفسه حزناً على هؤلاء القوم؛ لأن هذه الأمور تجري بقدر الله، ولا يوجد أحد بيده هداية الخلق كلهم والله جل وعلا قد ذكر أن الخلق لن يُهدى كله، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام:35]، فلا ينبغي أن يتقطع الإنسان حسرات على أمور أخبر الله جل وعلا أنها ستكون، فثمة أمور لا يستطيع أحد تغييرها ولا تبديلها، وسنة الله جل وعلا ماضية فلا مجال لأن تحزن فيصيبك الأسى ويغير طبعك ويثبط شأنك، هذه الأمور، وقد مضت ووقعت، ولا سبيل إلى تغييرها، قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62].(44/8)
تفسير قوله تعالى: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها صعيداً جرزاً)
قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف:7]، أي: زينة للأرض من الأشجار والثمار وغيرها مما يدل على وجود الله.
{لِنَبْلُوَهُمْ} [الكهف:7] أي: نأمرهم، فنبلوهم، فتكون هذه الآيات التي على الأرض قرينة لصحة ذلك الأمر، وإلا نفس ما على الأرض لا يكفي بأن يكون ابتلاءً، ونظيره قول الله جل وعلا في الإسراء: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16] ليس المقصود أن الله أمرهم بالفسق، لكن أمرهم بأمور فخرجوا فيها عن طاعة الله، فكان حقاً أن يكون العذاب عليهم.
{أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7]، ومشهور هذا عند أهل العلم: أن العمل لا يكون صواباً إلا إذا اجتمع فيه شرطان: الإخلاص لله جل وعلا: والموافقة لهدي وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآيات كلها فيها إجمال، ويأتي التفصيل في آيات أخرى، وبيان أن زينة الأرض من ثمار وأشجار ما تلبث أن تنتهي.
قال تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا} أي: ما على الأرض: {صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8]، الجرز: الأرض التي لا ماء فيها ولا نبات، وهذا مآل الأرض بعد ذلك.(44/9)
تفسير قوله تعالى: (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم)
ثم ذكر الله جل وعلا خبر أصحاب الكهف، وهي ما سميت السورة بسببه، والمؤمنون الذين أنزلت هذه السورة فيهم كانوا قلة يواجهون طغمة كافرة، فكان من تربيته لأوليائه والمؤمنين من عباده أن يبين لهم حال أقوام سابقين، كما ذكر للنبي أحوال الرسل، وقد ذكر للمؤمنين أحوال أناس قبلهم كيف صبروا على دين الله حتى يثبِّت قلوبهم، ويبين لهم أنهم ليسوا أول من سار على هذا الدرب، أو سلك هذا الطريق.
قال الله لنبيه: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} [الكهف:9] (أم) بمعنى: بل، وأتي بها هنا لأمرين: للإضراب الانتقالي، ومعنى الإضراب الانتقالي: الانتقال من حديث إلى حديث، كما أُتي بها للاستفهام.
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، فكأن القرشيين سألوا النبي عن أصحاب الكهف باستعظام، وهذا الاستعظام جعل النبي عليه الصلاة والسلام، يعتقد أو يمر على خاطره، أو يجول بخلجه: أن أصحاب الكهف أعظم آيات الله.
فالله يقول لنبيه: أن خبر أصحاب الكهف، وإن كان خارقاً للعادات إلا أنه ليس أعظم الآيات، {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، أي: ليسوا بأعجب آيات الله، فقد جعل الله جل وعلا آيات أعظم وأعجب وأشد في الذهن والخلد من نبأ أصحاب الكهف، وإن كان نبؤهم عجيباً.
وأصحاب الكهف طائفة، وقد أضافهم الله جل وعلا إلى شيئين: أضافهم إلى الكهف، وأضافهم إلى الرقيم.
والفجوة التي في وسط الجبل إذا ضاقت فهي غار، وإذا اتسعت فهي كهف: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، وقد نسبهم الله جل وعلا إلى الكهف، والرقيم معطوف على الكهف، لكنه متعلق بأصحاب الكهف، ليس -كما فهم البعض- أن أصحاب الكهف طائفة وأصحاب الرقيم طائفة، وإنما هم طائفة واحدة، أضيفوا إلى الكهف باعتبار المكان الذي ناموا فيه، وأضيفوا إلى الرقيم عطفاً، باعتبار أن قومهم لما ظهروا عليهم دونوا أسماءهم، والأفضل أن يحمل اسم الرقيم على اللوح المكتوب فيه أسماؤهم، لا على القرية أو الوادي -كما قال بعض الفضلاء- والدليل على ذلك من القرآن، فإن أول ما نفسر به القرآن هو القرآن نفسه، وقد جاء ذكر الرقيم بمعنى المكتوب، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:19 - 20]، فرقيم على وزن: فعيل بمعنى: مفعول، كما تقول: قتيل، بمعنى: مقتول، على وزن مفعول، فرقيم بمعنى مرقوم، أي: مكتوب.(44/10)
تفسير قوله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف)
ثم أجمل جل شأنه فقال: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:10] الفتية: جمع فتى، وقال بعض الفضلاء: إننا إذا جمعنا فتى بفتية فإننا نقصد قوماً صالحين أشرافاً ذوي هيئات، وإذا جمعنا فتى بفتيان فإننا نقصد الخدم والحشم، واحتجوا بأن الله أخبر أن يوسف قال لفتيانه، ولم يقل لفتيته، وهذا القول مقبول إلى حد ما، لكن يشكل أنه في قراءة: (إذا أوى الفتيان إلى الكهف)، والمقصود: هذا تخريج بعض الفضلاء وهو مقبول إلى حد ما كما قلت.
قال الله جل وعلا: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]، فمن استهدى بالله هداه، ومن سأله أغناه، ومن لجأ إليه آواه، وليس للمؤمن أحد يلجأ إليه إلا ربه، قال الله جل وعلا: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن:22]، وهذه دعوة كل يدعيها لكن العطايا الإلهية والمنح الربانية إنما تكون بحسب ما في القلب، فالله جل وعلا يحاسب عباده بما علم في قلوبهم لا بما ظهر للناس منهم، وهذا أمر يعين الطالب في طلب العلم، وفي طلب أي مرغوب من الرب تبارك وتعالى.
فعلموا الذي عليهم وأخذوا بالأسباب، وفروا من قومهم، وسألوا الله جل وعلا الإيواء والرحمة.(44/11)
تفسير قوله تعالى: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً)
قال ربنا: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، لم يذكر الله جل وعلا هنا عدد السنين، ولكنه فسرها في آخر القصة، قال الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]، فهذا من تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالقرآن له ثلاثة أنواع: تفسير في نفس الآية، وتفسير في نفس السورة لكنه يأتي بعد مرحلة، وتفسير في غير السورة يعني: في سورة أخرى.
وهذا من التفسير الذي جاء في نفس السورة، أما مثال النوع الأول قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:5 - 6]، وقد مر معنا هذا.
يقول الله جل وعلا يقول: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} [الكهف:11]، الضرب هنا: بمعنى الإلصاق، واللزوم والمباشرة، وقد جاء: ضربت له القبة بنمرة صلى الله عليه وسلم.
وهذه القبة ضربت بوتد في الأرض، وهذا أمر تستخدمه العرب فنسمع أنهم يقولون: ضربت عليهم الجزية، يعني: ألصقت بهم، وهذا أسلوب العرب في كلامهم، قال الفرزدق يخاطب جريراً: ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزلُ ويقصد بذلك: الإلصاق، وقد قلنا: إن الاستشهاد يكون بالعصور التي يصح فيها الاستشهاد والفرزدق ممن يُستشهد بكلامه، بل قيل: لولا الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب، والمرء كطالب علم ينبغي أن يفقه ويقرأ كثيراً في شعره؛ لأن في شعره غرائب ألفاظ وقوة وفخامة، لا توجد عند غيره.
ومما يعين على تفسير كلام الله فقه وإدراك وحفظ كلام العرب.
وقال آخر وهو يتكلم عن شخص ميت: إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج والذي يهم من هذه الشواهد الشعرية معرفة معنى قول الله جل وعلا: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، وخص الله جل وعلا الأذن بالذكر هنا دون البصر ليخبر بذلك أن نومهم يصبح ممتنعاً على غيرهم ولا يستطيع أن يوقظهم أحد، ومر كثيراً الحديث النبوي عندما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر ذلك الرجل الذي نومه ثقيل، ولا يقوم في الليل ليصلي، قال: (ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه)، حتى يبين أن القضية تتعلق بالأذن، فلما أراد الله أن يرحم هذه الفئة قال: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11].(44/12)
تفسير قوله تعالى: (ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين)
{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:12] والمقصود: أيقظناهم، وإلا فهم ليسوا بموتى، وأي لفظ (نعلم) في القرآن جاء بهذه الصيغة: (لنعلم) معناه: ليظهر علم الله.
{لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:12]، اختلف العلماء بالمقصود بالحزبين، والأظهر أنهم الناس الذين اختلفوا في عددهم كما سيأتي بيانه في آخر القصة، لكن يأتي اعتراض هنا: ما الفائدة من معرفة عددهم بالنسبة للأولين، لا بالنسبة لنا؟ ما في معرفة عدد السنين التي لبثوها بالنسبة للأولين؟ فهنا يذكر مسألة مهمة، قالوا: إن هذا لم يذكر إلا لشيء مهم، وهو قوله سبحانه: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:12] ومع ذلك -وهذا بقدر الله- لم يتعرض المفسرون لحل هذا الإشكال.
قال الإمام الشنقيطي رحمه الله في (أضواء البيان): ولم أقف على أحد تعرض لهذا الأمر.
ثم حاول -رحمه الله- أن يجيب فقال في جملة كلامه: لعل المقصود في أن يكون أنهم إذا علموا طول الزمن، كان بالنسبة لهم دليلاً على قدرة الله، أن أخرجهم طرية أجسادهم أحياء رغم طول المكث، فلو فرضنا أن الناس لم يعلموا عدد السنين لقالوا هؤلاء طيبون وأبدانهم طرية ربما ناموا يوماً واحداً، أو ناموا يومين، لا غرابة في هذا ولا ضرورة وليس هناك آية من آيات الله خارقة للعادة، لكن عندما يعلم الناس أن هؤلاء لبثوا أكثر من ثلاثمائة سنة أو ثلاثمائة وتسع سنين فيقع في خلجهم صحة هذا المكوث، وهذا يزيدهم علماً بخالقهم جل جلاله؛ لأن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق، وعظمة المصنوع تدل على جلال الصانع جل شأنه.
{لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:12]، هذا كله إجمال، ثم فصل تبارك اسمه وعلا شأنه.(44/13)
تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق قلنا إذاً شططاً)
قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13]، فالقرآن هو الأصدق في أخباره، والأسمى في عباراته، والأفصح في أسلوبه.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وهذا إجمال عظيم، فليس المقصود أن هناك أشياء عديدة يراد تبيينها أكثر من أن الله جل وعلا قذف في قلوبهم الإيمان، وزادهم هدى جل شأنه، وهذه منقبة عظيمة وخصلة حميدة، لهؤلاء القوم وتزكية من العلي الكبير لهم، تشرئب لها الأعناق.
{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف:14]، كل سائر إلى الله يحتاج إلى الثبات، ومن الثبات أن يربط الله جل وعلا على القلب، خاصة عند حلول النوازل والمصائب والكوارث، أو عند ورود الشبه أو عند شيوع الفتن، فإن المؤمن يحتاج إلى أن يربط الله جل وعلا على قلبه، ولهذا كثر في دعائه صلى الله عليه وسلم أن يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، وقد يمر في أحوال الناس مما يقرأ الإنسان أو يسمع أو يشاهد كثيراً من الناس يبدو متحمساً للدين ثم لا يلبث -عياذاً بالله- أن ينتكس، ولا حاجة لضرب الأمثلة، لكن الحاجة ملحة إلى أن نسأل الله جل وعلا الثبات على دينه، وأن يربط تبارك وتعالى على قلوبنا، أينما حللنا وحيثما نزلنا.
قال الله ممتناً على تلك الفئة المباركة: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} [الكهف:14] والمشهور: أنهم قاموا بين يدي ذلك الملك الطاغية، {فَقَالُوا} [الكهف:14] أي: للملك، {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]، أي: ميلاً عظيماً عن الحق، وأي شطط أعظم من أن يميل الإنسان عن توحيد الله تبارك وتعالى.(44/14)
تفسير قوله تعالى: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة)
{هَؤُلاءِ قَوْمُنَا} [الكهف:15] يقولون له: انظر إليهم {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:15] ومحال أن يوجد أحد سلطان بيّن على أن مع الله آلهة؛ لأنه أصلاً ليس مع الله آلهة، فالشيء غير الموجود يستحيل إثباته، فليس مع الله شريك فلا يمكن أن يأتي أحد بسلطان على أن مع الله شريك؛ لأنه ليس مع الله شريك أصلاً.
{لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:15]، وهذا فسرته السنة: أنه لا ذنب أعظم من أن يزعم أحد أن مع الله شريك كما فسره القرآن من قبل وهو قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].(44/15)
تفسير قوله تعالى: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله)
ثم ذكر الله خطاب الفتية بعضهم إلى بعض، فهم يحتاجون إلى أن يثبت بعضهم بعضاً.
ومن هنا ينبغي أن تكون الحوارات في المنزل المؤمن والأسرة المؤمنة وبين الأصدقاء المؤمنين حوارات تثبيت، وحوارات إيمانية تزيد في الإيمان.
قال الله جل وعلا: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [الكهف:16] يخاطب بعضهم بعضاً، {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16]، فجزمت (ينشرْ)، وجزمت (يهيئْ)؛ لأنهما واقعان في جواب الطلب وهو قوله تعالى: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16] فأخذوا بهذا الرأي، ولجئوا إلى الكهف فنشر الله جل وعلا عليهم من رحمته، وأفاء الرب تبارك وتعالى عليهم من عطائه، وآواهم جل وعلا أعظم الإيواء، وهذا الإيواء سيأتي بيانه بعد ذلك في قول الله جل وعلا: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ} [الكهف:17].
إن الله جل وعلا رحيم بخلقه شفيق بعباده، قال سبحانه: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى:19] لكن كلما عظم إيمان المرء ورسخ في قلبه محبة الله وتبرأ المؤمن من كل أحد غير الله كان أقرب إلى رحمة الله جل وعلا وفضله ولطفه، وينال من عند الله بمقدار ما لله جل وعلا في قلبه.(44/16)
ما يستفاد من الآيات
وما مر من آيات فيها فوائد جمة نلخصها فيما يلي: أن القرآن رحمة بالخلائق؛ ولهذا أخبر الله جل وعلا أنه مستحق للحمد؛ لإنزال هذا الكتاب الذي لا عوج فيه، بمعنى: لا خلل في نظمه ولا تعارض في معانيه، بل هو مهيمن على الكتب كلها التي سبقت كما صرح الله جل وعلا بذلك في آيات في غير سورة الكهف من كتابه المبين.
وأخبر تبارك وتعالى أن القرآن إنذار لأهل الإشراك وبشارة لأهل الإيمان، وأن من زعم أن لله الولد وهم اليهود والنصارى ومشركو العرب فقد أعظموا على الله الفرية، وأنهم لا يملكون برهاناً ولا دليلاً ولا قرينة على صحة ما يقولون؛ لأن ما يقولون لا وجود له، والشيء الذي لا وجود له لا يمكن أن يكون عليه برهان ولا بينة ولا سلطان، وأن هذا الأمر يعظم ويكبر في السماوات والأرض كما قال الله جل وعلا في سورة مريم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:88 - 91].
ثم أخبر الله جل وعلا أنه رحمة بعباده ودلالة على وجوده وإظهاراً لعظيم آياته وقدرته، جعل ما على الأرض زينة لها، تتأمله الأعين، وتستلذ به الأنفس ثم لا يلبث ذلك كله أن يضمحل ويذهب، قال الله جل وعلا: ((وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا)) [الكهف:8] بعد أن كان أمراً مشاهداً معيوناً، {صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8] لا نبات فيها ولا شجر ولا ثمار دلالة على قدرة العظيم الجبار، وسبحان من لا يحول ملكه ولا يتغير فيه شيء جل جلاله، قال الله جل وعلا: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8].
ثم ذكر الله نبأ فتية في غابر الأزمان، ظن نبينا صلى الله عليه وسلم أن ما وقع لهم هو من أعظم الآيات، لكنهم وإن كان خبرهم من خوارق العادات إلا أنهم ليسوا من أعظم آيات الله، قال الله جل وعلا: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] فخلق السماوات من أكبر الآيات، وكذلك لله جل وعلا آيات أخبرنا ببعضها ولم يخبرنا ببعضها، كلها جملة وتفصيلاً تدل على عظيم قدرته وجليل شأنه.
كما بين جل وعلا وقوف الفتية أمام الطاغية، ثم لما خافوا على دينهم فروا بأنفسهم ولا يلامون على ذلك، وليس كل أحد مطالب بأن يواجه وأن يقتل نفسه، فإن حفظ النفس أمر مقرر شرعاً، فاضطروا إلى الهجرة، واللجوء إلى الكهف، فلما لجئوا إلى الكهف أمّنهم الله جل وعلا من الأعداء، وأغناهم عن جميع الأشياء، ووكلهم إلى حفظه ورحمته، فكان حقاً أن يكونوا في حصن أمين، وكهف يحفظهم الله جل وعلا فيه، كما يأتي تفصيله إن شاء الله.
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده حول هذا المقطع من السورة، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(44/17)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الكهف [17 - 22]
قصة هي من أعجب القصص القرآني، يتجلى فيها حفظ الباري تبارك وتعالى لأوليائه، وكلاءته لمن خافه وسعى إلى رضاه، إنها قصة أصحاب الكهف الذين سخر الله لهم الآيات الكونية لحفظهم، فالشمس -على سبيل المثال- كانت لا تمسهم بأذى وذلك بتوجيهات تلقتها من ربها ومليكها جل جلاله.(45/1)
تفسير قوله تعالى: (وترى الشمس إلا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين)
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فنستكمل في هذا اللقاء المبارك ما كنا قد بيناه من الحديث عن أصحاب الكهف، والسورة التي نحن معنيون بها في هذه اللقاءات المتتابعة هي سورة الكهف، وقد مر معنا أنها سورة مكية وأنها تعرضت لجملة من القضايا، وأن قراءة أولها يعصم الله جل وعلا به من فتنة الدجال، وأن من السنة أن يقرءها المؤمن كاملة يوم الجمعة.
وقد وصلنا إلى إن أصحاب الكهف تنادوا مع بعضهم البعض وقالوا: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16] فهم أخذوا بالأسباب وتوكلوا على الملك الغلاب، وهذا ما انتهى إليه حديثنا في اللقاء الماضي.
قال الله جل وعلا: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] الآيات بينها وبين السابق ما يسمى عند البلاغيين: إيجاز حذف، وإيجاز الحذف في هذه السورة: أن الله لم يذكر أنهم اتفقوا على الكهف، ولم يذكر مسيرهم إلى الكهف، وإنما أتى بالخطاب مباشرة: أن الشمس تطلع عليهم فيحفظهم بذلك.
ومعنى هذا أنها اتفقت كلمتهم على أن يذهبوا للكهف، ومفهوم الآيات أنه كان معهم كلب في طريقهم إلى الكهف؛ لأن الله ذكر هذا الكلب بعد ذلك، لكن هل كان الكلب لأحدهم مسبقاً أو أن أحداً انضم إليهم ومعه كلب؟ هذا أمر لم يبينه الله ولا حاجة إلى أن نتكلف، لكن الذي يعنينا أن هؤلاء الفتية ضرب الله على آذانهم في الكهف.
ثم طوى الله لهم الأيام والسنين ليبين لنا ماذا حصل في الكهف وهؤلاء الفتية آمنون فيه.
العجيب في القضية كلها أو الذي ينبغي أن يفهم أنه إذا أراد الله جل وعلا أن يحفظك فنم مطمئناً.
فخصومهم الآن يبحثون عنهم، وينفقون الأموال في الوصول إليهم، ويتهددونهم ويتوعدونهم، ولا يوجد أحد مغيب مثل النائم يُتمَكن منه أكثر من غيره، ومع ذلك كانت تحيطهم عناية الله، وهذا لا يقدر عليه إلا الله، بل إن الشمس وهي تسير بقدر الله ويحصل منها إيذاء لمن تعرض لها تعرضاً غير حميد وتصدى لها، ومع ذلك حتى الشمس لم تستطع أن تنالهم بأذى؛ لأنهم في حفظ وكنف الرحمن جل جلاله.
صور الله ذلك الموقف بقوله: (وَتَرَى الشَّمْسَ) أيها المخاطب بكلامنا! (إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ).
تقول في اللغة: جاءني زائر، والزائر في الأصل أنه متوجه إلى بيته، لكن عندما مال إليك وأعطاك وجاءك سمي زائراً، فالزور في اللغة أصله: الميل، قال عنترة: فازورَّ من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحمِ وعنترة أحد الشعراء الجاهليين من أصحاب المعلقات، ومعلقته مطلعها: هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم وهو عبسي ينسب إلى أمه من حيث الرق والعبودية، فالمولود ينسب إلى أبيه ديانة فلو أن رجلاً مسلماً تزوج نصرانية أو يهودية فحملت منه فولدت فمات الصغير فإنه يدفن في مقابر المسلمين، وإن كان لا دين له، يعني: ليس له دين ظاهر ولم ينطق بالشهادتين، لكن يعد في أطفال المسلمين؛ لأنه ينسب لأبيه ديانة، وينسب إلى أمه رقاً أو حرية، وفي غير بني آدم فإن الحيوان ينسب إلى أخبث أبويه طعاماً، فالبغل - مثلاً - نتاج عن تزاوج الخيل والأتان وهي: أنثى الحمار، فالخيل مباح أكل لحمها، والأتان محرم فينسب طعمة إلى أمه، فلا يجوز أكل البغل.
قال عنترة وهو يتكلم عن خيله: فازورَّ من وقع القنا أي: الرماح، بلبانه، يعني: بصدره، وهي مقدمة رقبة الخيل، أي أن الفرس عندما تأتيه الرماح يميل ميمنة ويسرة.
الذي يعنينا هنا أن الازورار بمعنى: الميل.
فنعود للآية: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ) أي: تميل عنهم ذات اليمين.
(وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) المقراض هو: المقص الذي يقطع، والمقصود تنقطع عنهم.
(تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ) أي: أصحاب الكهف.
(فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي: في مكان متسع.
قال الله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) قال العلماء: هذه قرينة على أن الأصل أنه ينبغي - بسبب وضع الكهف - أن يصيبهم حر الشمس، لكن لما صرف الله عنهم الشمس حال طلوعها وحال غروبها ألا تصيبهم بأذى، عُدَّ ذلك آية من آيات الله.
وقال آخرون: إن الأصل في وضع الكهف ألا يصيبهم منه وهج الشمس، وفسروا قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) قالوا: إن نبأ أصحاب الكهف من آيات الله، لكن القرينة ألصق وأقرب في ظننا والعلم عند الله إلى أن المقصود أن ازورار الشمس وقرضها عنهم إنما وقع بقدر الله جل وعلا ولطفه لهذه الفئة المباركة.
قال الله: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) وهنا ننيخ المطايا؛ لأن الله لا يقول: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الكهف:17] لنمر عليها سريعاً، ولا بد من العلم أن لله جل وعلا آيات تدل على عظمته، من وُفِّق لإدراكها وفهمها، ونظر إليها بعين البصيرة - ومن ذلك: نقمة الله من خصومه، ورحمته بأوليائه - فهذا تعظم خشيته من الله، ويعظم توكله على الله.
ألا ترى إلى هاجر لما أوكلت أمرها إلى الله أخرج الله ماء زمزم فرجاً لها وكرامة لإسماعيل؟! ولما قبلت وقالت لخليل الله إبراهيم: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، وغدت سبع غدوات تغدو وتروح بين الصفا والمروة تبحث لابنها عن ماء جعل الله ذلك الممشى لا يضيع هباء منثوراً، فمشى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم على نفس الممر والمعبر والطريق الذي مشت عليه هاجر، فهذا آية من آيات الله وهي: أن الله لا يضيع أهل طاعته.
وعلى النقيض: فإن من عاداه جل وعلا وحاربه ونازعه أوكل الله جل وعلا إليه من أصناف العذاب ما يجعله عبرة لغيره.
ثم قال الله: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ) (من) شرطية.
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} [الكهف:17] إذاً من لم يهده الله فلن يكون مهتدياً.
{وَمَنْ يُضْلِلْ} [الكهف:17] شرطية أيضاً.
{فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] وأين يكون المرشد وأين يكون الولي والله جل وعلا قد تخلى عنه، وهذا المفهوم الحقيقي لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه الذي علمه الحسن: (ولا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت).(45/2)
تفسير قوله تعالى: (وتحسبهم أيقاظاًَ وهم رقود)
قال تعالى: (وَتَحْسَبُهُمْ) أي: تظنهم.
{أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18]، أفضل ما يحمل عليه المعنى: أن الله أنزل عليهم هيبة، وأن أعينهم كانت مفتوحة، ولذلك من رآهم فإنه يظنهم أيقاظاً؛ لأنه لا يظن بشخص أنه يقظ إلا إذا كان مفتوح العينين، والعرب تزعم في كلامها أن الذئب ينام بإحدى عينيه فقط ويبقي الأخرى مفتوحة.
تقول العرب في كلامها عن الذئب: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائم وقد مر معكم أنك لو دخلت مجمعاً للحيوانات أو ما يسمى حديقة في عرف الناس هذه الأيام، ومررت على الحيوانات، فإنك تجد الأسد رابضاً؛ لأن الله سلط عليه الحمى، فلا يوجد في الحيوانات من هو شديد الحمى مثل الأسد، هناك مثل عند العامة يقولون: خَلَقَ الشوكة وصوَّبَ رأسها، ليبان أنها شوكة فتميزت بذلك والله يقسم كل شيء، ولا يعطي أحداً الكمال.
والذئب إذا رأيته قبل أن يراك تغلبه، وإذا رآك قبل أن تراه قلما تغلبه، لكن إذا رأيته يصيبه نوع من الهلع في نفسه، ولهذا من شدة خوفه فإنه ينام بإحدى مقلتيه ويبقي الأخرى مفتوحة.
الذي يعنينا أنك لو دخلت أي حديقة فإنك لا تجد الذئب رابضاً أو مقعياً وإنما تجده يفر ويتحرك حتى ولو كان عجوزاً في مترين أو في متر؛ إلا أنه سريع الحركة لا يثبت؛ لأنه يبقى خائفاً حتى لا يراه أحد قبل أن يراه هو، وهذه أشياء تفيد الإنسان في فهم أمور عديدة في الحياة، وليس شرطاً أن تفيدك فيما أنت فيه الآن.
ثم قال سبحانه: {وَنُقَلِّبُهُمْ} [الكهف:18] فأسند التقليب إلى ذاته العلية، وفيه فائدتان: الأولى: تشريف لهم، والثانية: بيان لطف الله جل وعلا لهم.
{وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:18]، قال العلماء في علة ذلك: حتى لا تأكل الأرضة أجسادهم، ومعلوم أن الله قادر على أن يحفظ أجسادهم دون تقليب، لكن المقصود إجراء سنن الله جل وعلا في الكون، وأصله أن الإنسان إذا نام على جنب واحد أو على حال واحدة أن الأرضة تأكل جسده.
{وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18] كلبهم مضاف إليهم، أي أنه لهم جملة أو لأحدهم أو لبعض منهم، كل ذلك واقع ومحتمل.
والكلب حيوان معروف، وقد أباح الله جل وعلا صيده إذا كان معلَّماً، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] لما ذكر الله جل وعلا ما أباحه من الأطعمة، والعرب تضرب به المثل في الوفاء، وكانت تتخذه العرب للحراسة، والكلام فيه يطول.
لكن المقصود من هذا هنا أن الله ذكر الكلب هنا ليبين جل وعلا أن من صحب الأخيار يلحق بهم، ويؤيده ما في الصحيح من حديث أنس: (أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال: ما أعددتَ لها؟ قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله.
فقال عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت).
قال أنس رضي الله عنه: والله! ما فرحنا بعد إسلامنا بشيء أعظم من فرحنا بهذا الحديث، فكان أنس يقول: وأنا والله! أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر.
قال بعض الرواة لهذا الحديث: وأنا والله! أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر وأنس، ونحن نقول: نحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر والصحابة كلهم وكل مؤمن تبع النبي وأصحابه بإحسان إلى يوم الدين.
قال الله جل وعلا: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18]، الوصيد: مقدمة الكهف، وكلمة باسط اسم وأراد الله بهذه الجملة الإسمية: الاستمرار؛ لأن الاسم يلحق به الاستمرار أكثر مما يلحق بالفعل، فقوله جل وعلا: (باسط) غير لو قال: يبسط؛ لأنها قابلة للتحريك لكن يظهر أن النوم الذي أصاب أصحاب الكهف أصاب كذلك الكلب.
قال تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ} [الكهف:18] أيها المخاطب! {لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18]، وهذا نوع من الحماية لهم، لكن الإشكال الوارد: أن الإنسان يرتعب أولاً ثم يفر، والله في هذه الآية قدم الفرار على الرعب، ولعله يجاب عن هذا بأن يقال: إن الرائي لهم يصيبه رعب فمن هول ذلك الرعب وقبل أن يتملكه، يسارع بالفرار.(45/3)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم)
قال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:19] بعثهم هنا بمعنى: أيقظهم من سباتهم.
{لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:19] مازال الحديث عن أهل الكهف.
وهنا {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الكهف:19] يعني تكلم أحدهم: {كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] وكأنه شعر بطول المدة.
وهنا أدخل الأحوال النفسية في الخطاب.
{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]، وهؤلاء الفتية نعتهم الله جل وعلا بأنهم ذوو هدى، فلو كان هناك تغير في أجسادهم بأن طالت أشعارهم أو أظفارهم، أو انحنت ظهورهم أو دب على رءوسهم المشيب، لما قال القائل منهم: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]؛ لأنه محال أن يقع هذا في يوم أو في بعض يوم، وهذا لا يختلف عاقل في إدراكه، فدل هذا القول على أنهم لم يتغير منهم شيء.
{قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:19]، ونقول مراراً عند تفسير هذه السورة: إن الإنسان مكلف بما هو فيه، فلك الساعة التي أنت فيها، والماضي تستسقي منه، لكن لا يكون مثبطاً لك ولا تركن إليه دون عمل.
مضى السلف الأبرار يعبق ذكرهم فسيروا كما ساروا على الدرب واسمعوا ولا خير في الماضي إذا لم يكن له من الحاضر الزاهي بناء مرفع وهذا للاستشهاد في الأعمال ليس للاستشهاد في الألفاظ فإنه لا يقبل في الألفاظ.
نعود فنقول: إن الله جل وعلا قال هنا أنهم تساءلوا فلما علموا أن التساؤل في الأمر القديم لا ينفعهم لجئوا إلى المشكلة التي يعاصرونها، وهي: أن لهم سنين دون طعام، فهم جوعى يحتاجون إلى ما يسد رمقهم وجوعهم.
فقالوا: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} [الكهف:19] أي: ما زالوا يملكون فضة، وفهم منها بعض العلماء أنهم أبناء أثرياء.
{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} [الكهف:19] الورق هو الفضة، والفضة قرينها الذهب، والذهب والفضة مالان يقال في نعتهما: ربويان وزكويان، والمعنى أن فيهما الزكاة بخلاف ما لا يعد للتجارة كبيت الرجل، وخيله، ودابته فهذا لا يقال عنه مال زكوي؛ لأنه ليس كذلك إلا إذا أُعِدَّ للتجارة، ولا يقال عنه مال ربوي؛ لأنه لا يدخله الربا وليس من أصناف الربا، لكن الذهب والفضة من أعظم زينة الدنيا التي يدخلها الربا، والزكاة تكون فيهما.
قال الله جل وعلا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف:19] وكأنهم يعيشون بيننا، فأرادوا أن يوصوا أحدهم ليشتري لهم طعاماً طيباً.
{أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف:19] قيل أزكى بمعنى: أطيب، وقيل: أغلى، واللفظ يحتمل المعنيين، وهذا يدل على أنهم كانوا أبناء أغنياء.
{فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} [الكهف:19] (وليتلطف) تفيدك في أن الإنسان من حق نفسه عليه في مسيرته الدعوية والعلمية وحياته الاجتماعية أن يكون حريصاً على أن يبحث عن الأمان لنفسه، ولا يعرض نفسه للمهالك.
يقول عليه الصلاة والسلام: (حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، ففي الفترة المكية جاءه أبو ذر أو أحد الصحابة وكان يجهر بالدعوة فقال عليه الصلاة والسلام: الحق بقومك، فإذا سمعت أن الله أظهرني تعال واقدم علي.
لأن هذا الصحابي الجليل آنذاك لا يصلح وسط تلك الفئة؛ لأن فيه نوع من الجرأة، والمرحلة آنذاك لا تحتاج إلى جرأة بل تحتاج إلى نوع من السكينة والطمأنينة.
والمقصود أن المرء يحتاج في مسيرته إلى ألا يشغب على نفسه، ولا يدل الحاسدين عليه، هذا من الحكمة التي أمر الله جل وعلا بها، ودل عليها قول الله عن أهل الهداية: {وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:19]، لا أي: يحاول أن يدل الناس والأعداء علينا.(45/4)
تفسير قوله تعالى: (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم)
{إِنَّهُمْ} [الكهف:20] أي: الأعداء.
{إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [الكهف:20] أي: ينتصروا عليكم فيصبحوا قادرين {يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف:20] والمقصود: يعذبوكم.
{أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف:20] وهذه الثانية أنكى من الأولى؛ لأن فساد الجسد لا يمكن أن يقارن بفساد المعتقد.
فالإنسان قد يكون مبتلى في جسده وهو في قمة الفلاح، فقد كان عطاء بن أبي رباح أعرج أعور، فيه شلل في بعض أجزاء جسده، وكان لا يفتي في مكة وفي زمانه أحد غيره، فلم يضره ما فيه من آلام في جسده بل كان في قمة الفلاح، لكن قولهم: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20] المقصود منه: عدم الفلاح الأخروي وإذا فسد المعتقد وأعادوكم في ملتهم فعدم الفلاح مرتبط بفساد المعتقد.(45/5)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق)
قال الله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:21]، فأخرجنا من تصرف الفتية وأدخلنا في تدبير العلي الكبير، ذهب ذلك الفتى الذي بعثه أصحابه يقيناً أنه أخرج تلك الورق فعرفها من أخرجها له أنها قديمة، فصار بينهما نوع من المساءلة التي تدل عليهم، وهذا المعنى حقيقي؛ لقول الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الكهف:21] وهناك أشياء تدل بعضها على بعض، فالذي حفظ هؤلاء ثلاثمائة عام ثم بعثهم من مرقدهم - والموت أخو النوم - قادر على أن يبعث من في القبور كما قال الله في إنبات الأرض: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39]، والأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير وهذا معنى قول الله: {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21] أي: أنها حق قادم لا شك فيه.
{إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف:21] والذي يتنازع هم القوم الظاهرون.
يتنازعون أمر هؤلاء الفتية بعد أن ماتوا، والدليل على وقوع ذلك بعد موتهم أن الله قال: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21].
واتخاذ المسجد لا يكون على أحياء إنما يكون على موتى، فإن احتج أحد بأنه يجوز بناء المساجد على القبور نقول: إن هذا باطل بدليل: أن القرآن فيه محكم ومتشابه، فالمتشابه من أي قول يرد إلى المحكم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، أي: في آخر أيام حياته مما لا يدخله النسخ قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا، أي: ما صنع اليهود والنصارى بقبور الصالحين، واللعن لا يكون إلا على أمر كبير عظيم منهي عنه في الدين.
فهذا الحديث فصل خطاب وليس من الإنصاف ولا من طرائق العلم المعتمدة المعتبرة أن يترك الإنسان المحكم ويفر إلى المتشابه، وإنما يفر الإنسان من المتشابه ويعمد إلى المحكم إذا أراد أن يصل إلى الحق، أما من لم يرد الوصول إلى الحق فسيتخذ بنيات الطريق، ويتلوى في قواعد العلم حتى يصل إلى مبتغاه وهواه، أعاذنا الله وإياكم من اتباع الهوى.
قال تعالى: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21] فإن قال قائل: إن قبر النبي صلى الله عليه وسلم اليوم في مسجده.
نقول: إن الصحابة لم يتخذوا مسجداً على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسجد بني قبل وجود القبر، وإنما الحقيقة التاريخية أن حجرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها التي قبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي أصلاً خارجة عن المسجد والمسجد كان الصف الأول منه مواز للحجرة ما يسمى بالروضة الآن وهي المكان المفروش بفراش أخضر، ويوجد إلى اليوم مكان لمحراب النبي صلى الله عليه وسلم المجاور للمنبر داخل الروضة، هذا المحراب كان موضع صلاته صلى الله عليه وسلم، فلما كانت خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وسع المسجد من جهة القبلة؛ من جهة الجنوب، والمحراب الذي يصلي فيه الأئمة اليوم هو محراب عثمان لم يصل به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما صلى فيه عثمان، وإنما تأسينا به؛ لأن الصحابة وهم أفقه منا وأتقى تأسوا بـ عثمان عندما جعل قبلة المسجد متقدمة قليلاً من جهة الجنوب.
ثم مضى الأمر على هذا الحال حتى كانت خلافة الوليد بن عبد الملك وهو أحد خلفاء بني أمية وكان له شغف بالبناء والعمارة والناس على دين ملوكها، ففي زمن الوليد كان الناس يتساءلون عن البناء أكثر شيء، وهذه حياتهم، في زمن عمر بن عبد العزيز كان يحيي الليل فكان الناس يتساءلون: كم صليت من الليل؟ كم قمت؟ كم أوترت؟ فـ الوليد كان من شغفه بالبنيان أنه أمر عامله على المدينة آنذاك وهو عمر بن عبد العزيز ابن عمه رحمه الله، أمره أن يوسع المسجد، فلما امتدت التوسعة جهة الشرق؛ ولأن الحجرة تقع في جهة الشرق أدخل الحجرات، وقد أخطأ من صنع هذا الصنيع، أخطأ خطأً تاريخياً؛ لأنه ألبس على الناس أمرهم، فظن المتأخرون من الناس أن القبر بني داخل المسجد وإلا فإن الحجرة كانت خارج المسجد في عهد الرسول وفي عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان فهؤلاء تسعة خلفاء والوليد العاشر - إن لم أنس - أحداً من الخلفاء الذي وصل إليه الأمر.
وهذا كله تقريباً عام 90 هجرياً أو أكثر بقليل، وهو متأخر، فلا علاقة للقبر بالمسجد أو المسجد بالقبر، ثم إنه في عهد هذه الدولة المباركة عندما جاءت التوسعة توخى ولاة الأمر في هذه البلاد أن تكون التوسعة شاملة للمسجد كله وإنما تأخروا من جهة الشرق قليلاً حتى لا يصبح القبر وسط المسجد، ويلاحظ الإنسان في بنيان الحرم أن فيه مثل المستطيل ثم تبدأ التوسعة فمكان القبر من جهة الغرب أو الشرق لا يوجد توسعة في مقدمة الصفوف، لا توجد توسعة حتى لا يصبح القبر متوسطاً للمسجد، وفي هذا محاولة لإبعاد اللبس، وهي عمل صالح مبارك موفق اهتدى إليه ولاة الأمر والعلماء في هذه البلاد.
هذا الذي يعنينا حول قول الله جل وعلا: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21] وفي قوله جل وعلا: {غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف:21] دلالة على أن السلطان يصنع ما لا يقدر عليه غيره، وهذا معنى {غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف:21].(45/6)
تفسير قوله تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم)
قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22].
يقول بعض العلماء: إن عدد أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم، وأن الآية نصت على ذلك؛ فإن الله قال: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] ثم قال: {رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:22] وقال: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] ولم يقل: رجماً بالغيب وجاء بالواو بعد قوله: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)، وقالوا إن هذه الواو واو الثمانية.
والحق الذي يجب المسير إليه أنه ليس في الآية ما يدل على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، صحيح قد يكونوا سبعة وثامنهم كلهبم، لكن أقول: الآية لا تدل عليه، إذا قلنا لا تدل عليه يجب الرد على الدليلين الذين احتجوا بهما.
أما الرد على الأول: فإن الله لم يقل رجماً بالغيب في الثالثة؛ لأنه تكرر في الأول، وهذا أسلوب قرآني واضح لمن تأمل القرآن، قال الله تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] إلى أن قال جل وعلا: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] وتقدير الآية: ولا جان قبلهم، لكنه لم يكررها بعد جان وكررها بعد الإنس؛ لأنه ذكرها في الأول يغني عن ذكرها في الثاني، وهذا أسلوب قرآني في أكثر من آية يستطيع الإنسان أن يصل إليه.
أما قولهم إن الواو واو الثمانية فهذا من العجب، فلا يوجد في اللغة شيء اسمه: واو الثمانية - مع تقديرنا لمن قال به من فضلاء العلماء - وقد احتجوا بآيات من القرآن: منها قوله جل وعلا: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة:112] إلى أن قال: {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:112] قالوا: هذه ثمانية.
ومثله قول الله تبارك وتعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم:5] إلى أن قال جل ذكره: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم:5].
والرد على هذا أن يقال: أما الواو في ثيبات وأبكارا فهي واو عاطفة يراد بها التقسيم؛ لأنه لا يمكن أن تكون المرأة ثيب وبكر في وقت واحد، فلا يستقيم أن يقال: ثيبات أبكارا.
والأمر الثاني المتعلق بآية التوبة: {الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:112] أن هذا أمر فيه التصاق، يعني: كل ما جاء في القرآن عن أمر بمعروف ونهي عن منكر يؤتى بالواو، ويكون ذلك حتى في الأفعال: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
ومن الأدلة التي احتجوا بها: آية الزمر التي قال الله فيها: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73]، فقالوا: إن المقصود من هذه الواو أن الله قال: أبواب الجنة ثمانية، ولا ريب أن الواو هذه واو حال، والمعنى أنه سيحدث شيء قبل فتح الأبواب، وقد دلت عليه السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم يطرق باب الجنة.
ومن الأدلة الدامغة في أنه لا يوجد واو ثمانية أن لو وجدت لالتزمها القرآن، قال الله جل وعلا: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} [الحشر:23] الثامن: {الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:23] فلو كان هناك واو تلتصق بالثمانية كما ذهبوا إليه لقال الله: العزيز الجبار والمتكبر، لكن الله لم يقلها؛ لأنه لا التزام لها أصلاً، وإنما قيلت في تلك المواطن لا لعدد الثمانية، وإنما لأن الحالة تناسب وتفرض أن تكون هناك واواً.
نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أنا من القليل الذين يعلمونهم، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم.
أقول: هذا محتمل لكن ليس من الآية: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف:22].
وهنا قال العلماء إن الإنسان إذا فسر هذه الآية ينبغي عليه أن ينبه طلابه على أنه لا يتعلق بعددهم كبير علم، فهناك أمور يجب الاصطلاح عليها، فهناك أمور تسمى: من مليح القول، وأمور تسمى: من متين العلم، فلو قُدِّر أن عرفنا عددهم فهذا من مليح القول وليس من متين العلم.
والدليل على أنه ليس من متين العلم، أنه لو كان كذلك لأخبر الله جل وعلا به، قال الله جل وعلا: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ} [الكهف:22] وكلمة (ما): نافية.
{إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22].
ثم قال الله لنبيه: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف:22] أي: لا تجادلهم بكثرة؛ لأنكم لن تصلوا إلى بغيتكم، فلابد أن يكون بين طرفا الجدال أرضية مشتركة، وتقارب، أما إذا كان هناك تفاوت فإن الأدنى سفيه لن يعرف للعالي قدره، وإذا لم يعرف له قدره لن يكون هناك توافق في الجدال: وإن عناء منك أن تعلم جاهلاً فيحسب جهلاً أنه منك أعلمُ.
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم لا يمكن أن يتفقوا، ولهذا قال الله لنبيه: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف:22]، بل إنه بعد ذلك قطع وحسم المادة كلها فقال: {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22]؛ ذلك لأنهم ليسوا ذوي علم ولا يستفتى إلا من كان ذو علم، {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22] أي من القرشيين.
{سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] السين للاستقبال، والمعنى أن هذا الأمر لم يقله القرشيون بعد، لكنهم سيقولونه وقد قالوه؛ لأن الله جل وعلا أخبر بأنهم سيقولوه.
مما يستطرف في هذا المقام: أنهم يقولون إن دعبل الخزاعي، وهو شاعر كان مناصراً لآل البيت بقوة وفيه تشيع شديد، وله أبيات في ذلك منها: ذكرت محل الربع من عرفات فأجريت دمع العين بالعبراتِ التي فيها: ديار علي والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفنات كان على خصومة مع المعتصم والمعتصم هو ثامن خلفاء بني العباس، ويقولون إن رقم ثمانية ارتبط به ارتباطاً كبيراً، فهو ثامن الخلفاء العباسيين، وكان له من الأبناء: ثمانية ذكور، وثمان إناث، وحكم ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، ومات وعمره ثمان وأربعون سنة، وهو الذي آذى الإمام أحمد وكان متأولاً.
المهم: أنه خالف دعبل، والعاقل لا يعارض السفهاء خاصة منهم الشعراء؛ لأن الشاعر قد يكون جباناً، لكنه يقول قولاً يسيراً بين الناس فيغلبك بشعره لا بقوته ولا بسلطانه، فانتهز دعبل كون المعتصم ثامن الخلفاء فقال يهجو المعتصم: ملوك بني العباس في الكتب سبعة ولم تأتنا عن ثامن لهم كتب كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة غداة ثووافيه وثامنهم كلب ويقال إن المعتصم أهدر دمه وهو معذور من الناحية السياسية في إهداره لدمه.
وقد بقيت خصومة المعتصم مع دعبل، وقد كانت قديمة حتى مع المأمون أخو المعتصم إلا أنه السابع، طبعاً في السابع ما وجد شيئاً يقوله، لكن المأمون وصل إلى الحكم بعد مقتل الأمين، والذي قتل الأمين رجل خزاعي من بني خزاعة من قوم دعبل، فقال دعبل يهجو المأمون ويبين له أن الخلافة ما وصلته إلا بسبب قومه - ما معناه -: نحن الذين قتلنا الأمين وأوصلناك إلى الخلافة.
المقصود: أن العاقل لا ينافس السفهاء، وقد جاء في الحديث أن الإنسان يدافع عن عرضه بالمال، والإنسان قد يذهب إلى بقال مثلاً ويريد أن يشتري شيئاً زهيداً بريال، فلو اختصمت معه وعلت أصواتكما لاجتمع الناس على ريال.
ولو أخطأت في كلمة في المحراب أو في المنبر أو في الإمامة ولك خصوم فكل ذي نعمة محسود، فيأتي الناس إلى حاسديك ويسألونهم عنك، فيقولون عنك: أصلاً هذا ليس فيه خير؛ هذا لأجل ريال قاتل الناس، نسأل الله العافية.
فأنت عاقل، لو قال: ما دفعت ريالاً أعطيه ريالين، ولو قال: ما دفعت ريالين أعطه ثلاثة.
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم لن يبن ملك على جهل وإقلال ولهذا في القرآن طيات وأمور خفية هي حقيقة التفسير، والأصل أن نستظل بما في القرآن وأن نفيء بما في القرآن من آيات تبين لنا كيف نكون أنفسنا، والدليل على ذلك أنه ما فقه القرآن أحد مثل نبينا صلى الله عليه وسلم، فالأيام النضرة للرسول صلى الله عليه وسلم أعظم مفسر للقرآن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ هذا في نفسه يقول - وعبد الله بن أبي مستحق للقتل -: (حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) وقف يقول: (من يعذرني في رجل بلغني أذاه لأهلي) فاختصم السعدان: سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فنزل من المنبر حتى يسكن الناس ولا يخوض الناس في اللغط(45/7)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الكهف [23 - 45]
لقد احتوت سورة الكهف على آيات عظيمة، تعالج قضايا تربوية، وتربي نفوساً آمنت بربها، وإنه من الجميل أن يتأمل المرء فيما حملته من معان وعبر.(46/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً لأقرب من هذا رشداً)
الحمد لله، وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
وبعد: فهذا لقاء متجدد مع برنامجنا من محاسن التأويل الذي نشرع فيه بعون من الله جل وعلا وتوفيق في تأملات في كلام الله تبارك وتعالى، والمنهج في هذه اللقاءات المباركة: أننا نعرج على سور القرآن متوخين أوائل ما نزل منها نبدأ به ذلك حتى يكون التأمل والتفسير والتأويل مطابقاً لمجريات النزول، ولأحداث السيرة العطرة والأيام النضرة لنبينا صلى الله عليه وسلم.
وكان قد مر معنا لقاءان حول سورة الكهف بينا فيهما أن سورة الكهف من أوائل ما أنزل، وأن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إنها من العتاق الأول، أي: من أوائل ما أنزل، وأنها من أوائل ما أخذه عن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه من القرآن، وانتهينا إلى قول الله جل وعلا: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:23 - 24].
وبيان المعنى في هذه الآيات على التالي: يخاطب الله جل وعلا نبيه قائلاً له: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ} [الكهف:23]، وهي: استغراق في العموم أي: لأي أمر، {إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].(46/2)
سبب نزول الآية
ومناسبة هذا الاستثناء فيما ذكره أكثر أهل التفسير: أن قريشاً لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتية والروح، وعن رجل حكم في أوائل الزمان يعنون: ذا القرنين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً أنه سيحدثهم ويأتيهم بالخبر عن الله، ولم يستثن أي: لم يقل: إن شاء الله، فعاتبه ربه بأن تأخر الوحي القرآني قليلاً عنه صلوات الله وسلامه عليه، ثم جاءه الجواب دون أن يكون الجواب مصدراً بمعاتبة، وإنما قال الله: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، وأخذ جل وعلا يبين لنبيه قصة أصحاب الكهف، ثم بعد أن كادت القصة تنتهي ولم يبق إلا حل الإبهام في قوله جل وعلا: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} [الكهف:25].
والتي بين الله جل وعلا فيها كم لبثوا، فقبل أن يصل الله إلى مدة اللبث ليختم على القصة وينهيها خبراً عاتب نبيه بقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].
وقبل أن نشرع في بيانها وأوجه التفسير فيها نقول: هذا يسمى من العتاب من الله جل وعلا للحبيب المكرم صلوات الله وسلامه عليه، ويقولون: إن الشخص إذا أراد أن يعاتب حبيبه على بعض أسئلته، أو على طلبه، فإنه يعطيه الطلب ثم بعد ذلك يعقبه بالعتاب، ولا يقدم العتاب على الإجابة أو على الطلب سواءً أجاب أو لم يجب، إنما يؤخر العتاب، فالله جل وعلا أخر المدة الزمنية، ولم يعاتب نبيه، وأخبر نبيه بنبأ أصحاب الكهف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13].
ثم لما قص جل وعلا على نبيه نبأ أصحاب الكهف بالحق، قال له في نهاية الخطاب: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف:23]، وهذا الخلق الذي علمه الله جل وعلا نبيه تأدب به صلوات الله وسلامه عليه، فكما عامله ربه جل وعلا عامل صلى الله وعليه وسلم أصحابه بمثله، ويدل على هذا حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه، وهو أحد الصحابة المتأخرين إسلاماً، ولد في جوف الكعبة، وهو ابن أخ لـ خديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، واسمه حكيم بن حزام بن خويلد الأسدي كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم مالاً فيعطيه قال: سألته فأعطاني، وسألته فأعطاني، وسألته فأعطاني، ثم بعد أن أعطاه ثلاث مرات حتى لا يبين له أن المقصود منعه، وإنما المقصود تربيته قال له: (يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة)، ثم أخذ يبين له أن العاقل لا يأخذه باستشراف نفس، فما أتاك منه بغير استشراف فخذه، ونهاه أن يأخذه بطلب وإلحاح، واستشراف نفس، ثم قال له: (واليد العليا خير من اليد السفلى)، فأخذ يبين له الأدب الذي ينبغي أن يكون الكملاء من الرجال، قال حكيم وهو يجيب النبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق! لا أسأل أحداً بعدك، ولم يقل: لا أسألك؛ حتى لا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: فهمت من كلامك أنك تريدني ألا أطلب منك مالاً فقال له: لا أسأل أحداً بعدك، وبقي على سؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حكيم لا يسأل أحداً، فكان عمر يناديه ويقول: (من يعذرني في حكيم أعطيه حقه فيرفضه)؛ لأنه أعطى النبي عهداً ألا يأخذ من أحد غيره.
هذا الخلق النبوي تعلمه النبي صلى الله عليه وسلم من تعليم الله له في القرآن: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].
أما أقوال العلماء في تفسير الآية فيمكن حصرها في تأويلين إذا فسرت مع التي بعدها؛ لأن الله قال: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23 - 24] موضع الإشكال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] وإلا: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24] فهذه ظاهرة لا تحتاج إلى مزيد إيضاح، لكن الإشكال هل قول الله جل وعلا: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] مرتبط بما سبق أم أنه استئناف كلام جديد؟ وهذا الذي قلت في مقدمة كلامي أنه للعلماء فيه طريقان: الطريق الأول: أن قول الله جل وعلا: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] أي: إذا نسيت أن تستثني في أيمانك وطال الفصل فاذكر ذلك الاستثناء ولو بعد أجل، والمعنى: أنك إذا قلت: سأفعل كذا، ونسيت أن تقول: إن شاء الله، ثم تذكرت بعد دهر أنك لم تستثن فقل: إن شاء الله فيصبح معنى الآية: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] أي: إذا نسيت الاستثناء حال اليمين، أو حال الإخبار بفعل شيء، فلا بأس أن تقوله بعد فصل، هذا الأول.
وهذا القول يدل عليه ارتباط الآيات بعضها ببعض.
وقول آخر: أن قول الله جل وعلا: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] لا علاقة له بالأول، وإنما إذا غلب عليك النسيان فمن أسباب تذكر ما قد نسيت أن تذكر الله بتسبيحه وحمده، وتهليله، أن تقول: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله وأمثالها حتى تذكر الشيء الذي نسيته، وحجة هؤلاء ظاهرة وهي: أن الله جل وعلا أخبر في طيات كتابه أن النسيان من الشيطان: قال الله جل وعلا على لسان يوشع بن نون فتى موسى: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63].
وقال جل ذكره: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:19] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن النسيان من الشيطان، فيطرد ذلك النسيان الذي هو من الشيطان بذكر الرحمن، على هذا القول من التفسير لا علاقة لقول الله جل وعلا: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] بقول الله جل وعلا من قبل: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].
لكن ينبغي تحرير المسألة كالتالي: من قال أصلاً بأن: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] مرتبطة بما سبق يقول: إن الفصل إذا طال لا ينفع فيه الاستثناء، بمعنى: لو أن إنسان أقسم على شيء أن يفعله، ولم يقل: إن شاء الله، ثم قال في غده أو بعده غده: إن شاء الله، فإن هذا الاستثناء المتأخر البعيد الفصل بينه وبين الخطاب الأول لا يمنع من وجوب الكفارة إذا حلف في يمينه، بمعنى: أنه لا تبرأ به الذمة، فلابد من الكفارة إذا حلف في اليمين، لكن أشكل على العلماء أن المشهور من قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الفصل يصح ولو طال، ولو بعد سنين، هكذا فهم ابن عباس الآية في المنقول عنه رضي الله تعالى عنه، ونحن أمام معضلة وهي: إذا قلنا برأي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أطبق العلماء لو أخذنا بهذا الرأي لم يحنث أحد في الدنيا أبداً؛ لأنه إذا كان يحق له أن يقول: إن شاء الله في أي وقت، فإنه قبل أن يقدم، أو قبل أن يحجم يقول: إن شاء الله وتنتهي يمينه، وهذا لا يقول به عاقل، وما دام لا يقول به عاقل من الصعب إسناده إلى ابن عباس فكيف نتهم به رجلاً من أكابر علماء الصحابة إذاً: لابد من تخريج لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
الصواب -إن شاء الله- أنه قصد بقوله: أن تقول: إن شاء الله ولو طال الفصل لا لتبرأ الذمة بحنثك عن اليمين، وإنما لتشعر نفسك بأنك تداركت الأمر، فلا تصبح كاذباً أو معتمداً في أمورك على غير الله، فإذا نسيت وتذكرت بعد حين فإنك تقول: إن شاء الله، من باب تدارك الأمر، ومن باب الاستغفار، والإخبار أنك نسيت في أول الأمر ومن باب الاعتماد على الرب جل وعلا، والاعتقاد أن الأمور كلها لن تنفذ إلا بمشيئة الله، لكنك لا تقصد بهذا أن ترضى عن نفسك أو تسوغ لنفسك أن تحنث في يمينك فتجعل من قولك: إن شاء الله، التي بعد حين هي نفسها القريبة العهد بنفس الخطاب، وأرجو أن يكون هذا ظاهراً.
ومما يستطرف في هذا الشأن أن أبا حنيفة النعمان الفقيه المعروف لم يكن يقول بقول ابن عباس، فكان أبو جعفر المنصور يأتي الواشون إليه ويقولون له: إن أبا حنيفة لا يقول بقول ابن عباس، على اعتبار أن ابن عباس جد لـ أبي جعفر.
فأقدمه بين يديه، وقال له: كيف لا تقول بقول ابن عباس؟ فأراد أن يخرج من هذا المأزق، وأبو جعفر أمير المؤمنين فكلمه بشيء يحافظ عليه وهو كرسيه، قال له: يا أمير المؤمنين! إن القول بقول ابن عباس يضر بملكك، فإن الناس يعطونك أيماناً وبيعة، فإذا خرجوا من عندك قالوا: إن شاء الله، ثم يحنثون في يمينهم ويتركون البيعة، فلم يستطع أبو جعفر أن يجد جواباً على أبي حنيفة، وإنما استحسن قوله وقبله منه.
والمقصود من هذا: أن هذا مضمار تجري فيه أقدام العلماء.
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:23 - 24].
هذه الآي(46/3)
تفسير قوله تعالى: (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين)
ثم عاد الخطاب منهياً قصة أصحاب الكهف، وقلنا مراراً: إن من أعلا أنماط التفسير إيضاح القرآن بالقرآن، والله جل وعلا لم يقل في أول القصة كم ضرب على آذانهم، وإنما قال: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11]، وهذا الإبهام بينه الله في آخر القصة قال جل ذكره: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25].
وهناك طريقان لتفسير الآية: الطريق الأول: أن يقال: إن الله أراد أن يقول: إنهم لبثوا ثلاثمائة وتسع سنين، وإنما أتى بها بهذه الطريقة لتناسب رءوس الآيات؛ لأنه لو قال: لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين لما أصبحت فواصل الآيات متطابقة.
والذي عليه الجمهور: أن الله أراد أن يقول: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]؛ لأن الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال هم أهل قريش، الذي أرشد قريشاً إلى أن تسأل هم أهل الكتاب، فأراد الله أن يقول: لبثوا ثلاثمائة سنين بحسب من أرشد وهم أهل الكتاب بالسنة الشمسية، ((وَازْدَادُوا تِسْعًا)) على الثلاثمائة بحساب من سأل وهم: قريش الذين يحسبون بالسنة القمرية، وهذا الجواب لا يقدر عليه إلا الله الذي أحاط بعلم أهل الكتاب، وبعلم قريش؛ لأن العلم بالفوارق بين السنين الشمسية والقمرية قلما يهدى إليه كل واحد، وهذا يحتاج إلى رجل حاذق ذي علم بطرائق الأفلاك، أو أمة تربت على هذا الشأن، لكن الله تبارك وتعالى علم نبيه ما لم يكن يعلم، وإلا فإن علم الله أعظم من ذلك وأجل، فيصبح هذا حل الإشكال في الآية: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25].(46/4)
تفسير قوله تعالى: (قل الله أعلم بما لبثوا)
ثم قال الله: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26]، وهذا يوهم أنهم لم يعلموا كم لبثوا، لكن المقصود من قوله سبحانه: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} [الكهف:26] أن العلم ذاته درجات متفاوته، فليس علم الله جل وعلا مثل علم غيره في المدة التي لبثها أصحاب الكهف، فهؤلاء إنما ينقل بعضهم عن بعض وقد يصيبون وقد يخطئون، ولو وفقوا في الصواب لكانت الطرائق التي نالوا بها التوفيق ضعيفة أو قوية، أما علم الله جل وعلا فليس كعلمهم فإن الله علم بلبثهم هذه المدة قبل أن يخلقهم، فالله يعلم ما قد كان وما هو كائن وما سيكون، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، قال الله جل وعلا: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47]، وهم لم يخرجوا فيهم.
هذا معنى قول الله جل وعلا: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:26]، وهذه اللام للملك، فما من غائبة في السماء والأرض إلا والله جل وعلا يعلمها.
{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف:26] هذا أسلوب تعجب عربي، والمقصود: عظم سمع الله جل وعلا وبصره، وهذا أمر لا خلاف فيه بين أهل السنة.
{مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ} [الكهف:26] اختلف على من يعود الضمير هل يعود على قريش المخاطبة، أو يعود على من في السماوات والأرض؟ والأظهر: أنه يعود لكل أحد فليس لأحد ولي من دون الله.
ثم قال سبحانه: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26]، وهذه الآية أصل فيما يسمى بالفقه السياسي، والمعنى: أن التنظيم المعاصر ينقسم إلى قسمين: تنظيم إداري، وتنظيم شرعي، فالتنظيم الإداري لا يعارض الآية، فعله من أمرنا بالاقتداء بهم مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لم يكن يعلم أن كعباً تخلف، حتى رجع إلى المدينة؛ لأنه لم توجد دواوين يكتب فيها أسماء الجند، فلما جاءت خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه أقر إيجاد الدواوين ليعرف من غاب ومن حضر، فصنع شيئاً لم يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا نظام إداري وليس شرعي، واشترى عمر دار صفوان بن أمية في مكة، وجعلها سجناً والدار قديمة من أيام الجاهلية، ولم يصنع هذا النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر من بعده، لكنه أمر إداري استحسنه عمر.
فهذه أمور إدارية صحيحة ما لم تخالف نصاً صريحاً، وعليه أكثر قوام حياة الناس اليوم، وهذا لم يعنف الله فيه وتركه مفتوحاً لخلقه يصنعون بحسب ما يلائم كل عصر، وكاتخاذ عمر تاريخ الهجرة.
أما قوله سبحانه: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26] فهذا الذي لا يجوز مخالفته، مثلما ما ينادى به في عصرنا من مساواة الرجل بالمرأة في الميراث، أو دعوى أن الطلاق ينبغي أن يكون عن طريق المحاكم فقط، وسلبه من الرجل، أو ما إلى ذلك من أمور متعددة كوصفهم الرجم وقطع اليد بأنهما وحشية، وهذا كله لا يجوز شرعاً القول به، ومن تبناه كفر، ولهذا قال الله: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف:26].(46/5)
تفسير قوله تعالى: (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك)
ثم لما بين الله جل وعلا لنبيه قصة أصحاب الكهف وما لله جل وعلا من جلال الكمال ونعوت الجلال قال له: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27] أي: أن المستند الذي تتكئ عليه والذخر العلمي الذي تلجأ إليه هو: ما أوحاه الله جل وعلا إليك في هذا الكتاب العظيم.
قال: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف:27] وكلمات الله وصفها الله جل وعلا بأنها متضمنة لأمرين: متضمنة التضمن الأول: للأخبار، والتضمن الثاني: للأوامر والنواهي، فالأخبار لا توصف بأنها عدل، وإنما توصف بأنها صدق {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115].
والأوامر والنواهي توصف بأنها عدل، فقول الله جل وعلا: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام:115]، أي: لا يجوز لأحد أن يجعل من أخباره الصادقة أخباراً كاذبة، ولا من أوامره ونواهيه العاجلة أن يجعلها أموراً، أو أسئلة أو مطالب أو نواهي أو أوامر جائرة، أو ظالمة، هذا معنى قول الله: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27].
والميت يوضع في قبره، والقبر قسمان: شق، ولحد، واللحد هو: الميل، {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27] مأخوذ منها، وهو اسم مفعول بمعنى: لن تجد شيئاً تميل به عن الله، وجاء هذا في القرآن معبراً عنه مرة بالملتحد، ومرة بالمحيص، ومرة بالمناص، ومرة بالموئل، وكلها بمعنى واحد.(46/6)
تفسير قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم)
لما أمر الله جل وعلا نبيه الكريم أن يعكف على القرآن ويستضيء بنوره، أمره كما أن يكون له إعانة في الباطن وهو قراءة القرآن يكون له إعانة في الظاهر وهي: الرفقة والصحبة الصالحة، قال له: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28].
قال العلماء في تأويلها: إن نفراً من سادة قريش عيروا النبي صلى الله عليه وسلم بصحبته وجلوسه مع فقراء الصحابة: كـ عمار، وصهيب، وبلال وأمثالهم من فقراء الصحابة الذين كانوا يعيشون في مكة، فأنزل الله جل وعلا على نبيه قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} [الكهف:28] أي: احبسها مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، فسر قوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] بصلاة الفجر، وصلاة العصر، وفسر بغير ذلك، لكن أجمع ما يمكن أن يقال في تأويل هذه الآية إيمانياً: أن هؤلاء المباركين -سلك الله بنا وبكم سبيلهم- وهذه ينبغي تدبرها جيداً، أنهم في الغداة وفي أول النهار يدعون ربهم بأن يسألونه التوفيق لطاعته، ولا موفق إلا الله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وبالعشي يستغفرونه عما حصل من تقصير خلال طاعتهم في ذلك اليوم؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يعبد الله جل وعلا حق عبادته، سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، وهذا نظيره في القرآن أن الله قال عن بعض أوليائه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] ثم ذكر أنهم مع ذلك كله ينهون وقتهم بالاستغفار قال الله جل وعلا: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] عما حصل من تقصير.
قال ربنا تبارك وتعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
قول الله جل وعلا: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، ثم قال: {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] وهذه جملة حالية أي: حال كونك تريد زينة الحياة الدنيا، وهذا من تأديب الله لنبيه، وأن هؤلاء المعاندين المتكبرين إنما يريدون زينة الدنيا، ولا يحرصون على الآخرة، وقال له: {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28] أي: في ترك هؤلاء الصالحين، ولم يذكر أسماءهم، وإنما ذكر الله صفاتهم حتى لا تصبح العبرة بخصوص السبب، وإنما العبرة بعموم اللفظ.
قال الله جل وعلا: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] فهو ظاهر الطغيان متبع لهواه، غافل معرض عن ذكر الله، وهذه الأسباب قد توجد كلها في شخص، وقد يوجد بعضها، لكنها أياً كانت وجدت كلاً أو بعضاً، فهي صفات مقيتة تبعد عن الرب تبارك وتعالى، قد يتلبس بها الناس تلبساً كاملاً، فيكونون كفاراً، أو يتلبسون بها تلبساً جزئياً، فيكونون مؤمنين، لكنهم عصاة، أو مسلمين لكنهم فساق.(46/7)
تفسير قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم)
قال الله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:29] فالدين دين حق آمنتم أو لم تؤمنوا، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
وأكثر الصحفيين في عصرنا يجعلون من هذه الآية دليلاً على التخيير، ويقولون لمن يجنح إلى الدعوة ماذا تريدون من الناس والله قد أطلق لهم العنان فقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
وقد قال علماء الملة ونصراء الدين، وأئمة التفسير: ليس المقصود من الآية التخيير، وإنما السياق سياق تهديد ووعيد، والدليل على أنه سياق تهديد ووعيد: إن الله قال بعدها: {وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} [الكهف:29] والظالمون هم المشركون الذين حادوا عن طريق الحق.
فقول الله سبحانه: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29] قرينة على أن المقصود ليس التخيير فيما سبق، وإنما هذا سياق تهديد ووعيد، كما أن من المراد من التهديد والوعيد إظهار استغناء الله ورسوله عن نصرة أهل الإشراك، فالدين حق آمنتم أو لم تؤمنوا، نصرتم أو لم تنصروا، دخلتم فيه أو حدتم عنه، المعنى: لا يضر الله جل وعلا ذلك شيئاً.
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29].
السرادق هو: الفسطاط، أو خيمة الشيء، أو المسور له ولذلك معان واسعة، لكن تفهم منه الإحاطة، ((أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا)): شرطية، ((يُغَاثُوا)) واقع في جواب الشرط، ولذلك حذفت نونه؛ لأنه من الأفعال الخمسة.
((وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ)) والأصل: أنهم طلبوا الإغاثة ليشربوا، لكن الله لم يقل إنهم ازدادوا عطشاً، ولم يقل إنه ذهب عطشهم، وإنما جاء بشيء آخر قال: ((وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ)) ويأتي السؤال ما علاقة الوجوه بماء يشرب؟ والمقصود: أن هذا الماء إنما دعوا به ليذهبوا حر عطشهم، فما إن قرب منهم لشدة حرارته التي هي كالمهل أي: كعكر الزيت، ما إن يدنوه من أفواههم حتى تتساقط فروة وجوههم فهذا قبل أن يطعموه، فكيف بعد ما طعموه، ولا ينجيك من هذا إلا الله، فمن توكل على الله كفاه الله خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ومن حاد عن الله فإن الله قال قبلها: {وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف:27].
قال الله: ((بِئْسَ الشَّرَابُ)) وهذا أسلوب ذم عند العرب، وبئس: فعل ماض جامد ناقص التصرف، يعني: لا يتصرف تصرفاً كاملاً، بئس الشراب والمخصوص بالذم محذوف والتقدير: بئس الشراب هذا الماء.
((بِئْسَ الشَّرَابُ وسَاءَت)) مثل بئس سياق الذم مرتفقاً، والمرفق إنما يتكئ الإنسان عليه إذا شعر بالإعياء، وليس في النار راحة، وإنما المقصود: أسلوب تهكم بهم، فليس الخطاب على حقيقته.
((بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)) أي: جهنم أعاذنا وإياكم منها.(46/8)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وحسن مرتفقاً)
لما ذكر الله الأشرار أتبعه جل ذكره بذكر الأخيار، قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30].
فكل من عمل صالحاً، وقد آمن وأراد بذلك وجه الله فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
{وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40] وسيأتي بيان هذا في موطنه.
(أولئك لهم): أي: هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، {لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [الكهف:31]، عدن في المكان بمعنى: أقام فيه وخلد، ولهذا سميت جنات عدن بذلك؛ لأنها دار خلود وإقامة.
{أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:31] أنهار من لبن، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من غسل مصفى، وأنهار من ماء غير آسن، والقرآن يوضح بعضه بعضاً.
{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف:31].
وجاء في بعض الآيات أنها أساور من فضة، وجاء في بعض الآيات أنها أساور من لؤلؤ، ويجمع بينها: أنهم يحلون بأساور من ذهب، وأساور من فضة، وأساور من لؤلؤ تبلغ منهم ما يبلغه الوضوء كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح وغيره من حديث أبي هريرة.
{وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الكهف:31].
السندس: رقيق الحرير، والاستبرق: غليظ الحرير، وجمع الله جل وعلا لهم النعمتين، وعندما أهديت له صلى الله عليه وسلم قطعة من حرير فلمسها الصحابة وتحلقوا حولها قال: (أتعجبون من رقتها؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه) أو أفضل من هذه، أو أرق من هذه، أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه.
والمقصود: جملة ما أعطاه الله جل وعلا من نعيم لأهل الجنة، وكون الثياب خضراً، هذا الذي كان لباس الملوك في الجاهلية، ولباس ملوك العرب في جاهليتهم، (خضر المناكب) وهذا شطر آخر بيت للنابغة الذيباني.
والمقصود: أن الخضر كانت نوعاً من اللباس الذي يتجمل به أعالي القوم، فعاملهم الله جل وعلا بجنس صنيعهم.
{وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:31].
السرير إن جلس عليه فهو عرش، وإن وضع عليه ميت فهو نعش، وإن لم تضع عليه لا ميت ولا ملك وإنما نمت عليه فإنه يسمى سريراً.
شيء آخر اسمه: الحجال، الحجال قباب من ثياب مزخرف بعضها فوق بعض، كان النساء في ذلك الزمن ينمن عليها، ولهذا يقال: للمرأة أو للنسوة ربات الحجال أي: عاكفة على الحجال تنام فيه، فإذا هذا السرير وضع عليه الحجال أي: ظهرت له أعمدة، وغطي بثياب مع أن الصورة ظاهرة فإنه يأتي له بأعمدة أربعة عالية، ثم يغطى أشبه ما يتقى به البعوض، ثم وضعت عليه ألحفة وشراشف وأشباهها، هذا كله جملة مجموعه يسمى: أريكة، وقد كان هذا النوع من الطرائق في النوم، أو من الأمكنة في النوم من حال أهل الترف وما زال.
المقصود: قال الله: ((مُتَّكِئِينَ فِيهَا)) أهل طاعته، ((عَلَى الأَرَائِكِ)) الذي صورتها لك.
وبعد أن قال: ((بِئْسَ الشَّرَابُ))، قال: ((نِعْمَ الثَّوَابُ)) ولم يقل الشراب؛ لأنه لم يذكر الشراب هنا، والثواب: يطلق على الجزاء الحسن، والجزاء السيئ قال الله جل وعلا: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} [المائدة:60].
وكما قال في الأول: {وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29] قال هنا: (حسنت) على بابها ففي الأولى قلنا: ليست على بابها، لكنها هنا على بابها، لأن الاتكاء من الإعياء والراحة لا يطاق على عذاب أهل النار، وإنما تهكم الله بهم، وهنا جاءت على بابها الأصلي: أنهم يتكئون اتكاء راحة نعتها رب العزة والجلال بقوله: {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:31].(46/9)
تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً رجلين وأعز نفراً)
ثم ذكر الله جل وعلا بعد أن ذكر الفريقين حقيقة، وهم صناديد قريش، والفقراء ضرب مثلاً، وضرب المثال تقريب للشيء البعيد، ولابد أن تكون صورة المثال مقربة للشيء المبهم، وإلا تصبح غير موفق في ضرب المثال؛ لأن الضرب في حقيقته ضرب اليد بشيء آخر، فأنت عندما تريد أن تعاقب أحداً أصغر منك، أو أضعف منك جسماً، إذا ضربته آلمته، فتحقق مقصودك، لكنك إذا ضربت بيدك شيئاً أقوى منك، كمن يضرب حديداً، أو صخراً، أو ما أشبه ذلك فإنه هو المتضرر، ولا يصبح هو الضارب.
كناطح صخرة يوماً ليفلقها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل فالوعل إذا نطح الصخرة بقرنيه هو الذي يتأثر، وليس الصخرة.
فضرب المثال لابد أن يكون شيئاً مقرباً للمستمع لمن يراك، ولمن تريد أن تضرب له مثالاً، فلا تجنح به بعيداً، فيكون مثالك أصعب من الشيء الذي أردت إزالة الإبهام عنه.
قال الله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} [الكهف:32] هل هذا حقيقة، أو مجرد ضرب مثل؟ كل ذلك محتمل، وهل هو في عهد النبوة، أم في الزمن الغابر؛ في عهد بني إسرائيل؟ هذا هو الأظهر، وأياً كان الأمر هذا مثال ضربه الله جل وعلا.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا} [الكهف:32] أي: أحطناهما، قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ} [الزمر:75].
{وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ} [الكهف:32 - 33] أي: ولم تنقص منه شيئاً، ولا يوجد تظلم في القرآن بمعنى: تنقص إلا في هذه الآية، والأصل: في النخل والكروم وغيرها، أنها إذا طال الأمد عليها ليس في كل عام تفي بغلتها كاملة، لكن هذا الرجل من الله عليه بأن شجره وزرعه ونخله يؤتي أكله في كل حين كاملاً.
{وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا} [الكهف:33] أي: مجرى ماء.
{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف:34].
المقصود: بقول الله جل وعلا: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف:34] أي: كان له مال آخر غير الشجر؛ لأن الثمر في لغة العرب يطلق: على الولد، وكل ما تمولته، وعلى الذهب والفضة، والحلي، وسائر ما تمتلكه يقال له: ثمر، هذا أسلوب العرب في كلامها، قال النابغة الذيبان ي: وهو يعتذر لأحد الملوك: مهلاً فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر من مال ومن ولد أي: ما أنمي، وما أملك من مال ومن ولد فداء لك.
والنابغة الذبياني أحد رءوس الشعراء الجاهليين، وكانوا يقولون: إن أشعر الجاهليين ثلاثة: امرؤ القيس إذا ركب، والأعشى إذا طرب، والنابغة إذا رهب.
معنى الكلام: امرؤ القيس إذا ركب: أي إذا خرج يصطاد، فوصف الصيد، والأعشى إذا طرب: فقد كان سكيراً، إذا بلغت الخمرة منه مبلغها، والنابغة إذا رهب أي: إذا خاف واعتذر؛ لأن الخوف يدفع إلى الاعتذار، وهو أحد أصحاب المعلقات ومطلع معلقته: يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد وقفت فيها أصيلاناً أسائلها عيت جواباً وما بالربع من أحد نقول: إن قول الله جل وعلا: ((وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ)) أي: له مال آخر غير ذلك الزرع.
((وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ)) أي: قرينة.
{وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا} [الكهف:34] وهذا ظاهر بالجنتين وما فيهما، {وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34] النفير: من إذا استنفرته نفر معك، ويقصد: أكثر أولاداً، والدليل على أنه يقصد أكثر أولاداً: ما بعدها، لأن العبد الصالح قال له: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39] فمالاً: تأتي مقابل: ((أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا)) وولداً: تأتي مقابل: ((وَأَعَزُّ نَفَرًا)) ففهمنا من أن النفر هنا: بمعنى: الولد، ولهذا قلنا: إن من أراد أن يفسر القرآن لا يستعجل، وإنما يرى الآيات مكتملة، ثم بعد ذلك سيهدى إن شاء الله إلى أقوم السبل.(46/10)
تفسير قوله تعالى: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه خير ثواباً وخير عقباً)
قال الله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} [الكهف:35] والمقصود: كلتا الجنتين.
{وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [الكهف:35] جملة حالية، والظلم هنا: بمعنى: الشرك.
{وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف:35] أي: لا أعتقد أن هذه على جلالتها، وكثرة مائها، ووفرت زرعها، وما فيها من رغاء وثغاء أنها ستفنى.
ثم قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:36]، والإنسان -والعياذ بالله- إذا طغى فإنه يطغى بالتدرج؛ لأنه إذا ما وجد للكلمة ولم يرد عليه أحد فإنه يزيد.
يقال: إنه قيل لفرعون: كيف وصلت إلى ما أنت فيه؟ قال: لم أجد أحد يقول لي: إن هذا ممنوع، فما زال يقول، ويقول، ويقول حتى صدق نفسه لما رأى الناس يصدقونه، كمن اعتاد الكذب فإنه يقول الكذبة مرة ومرتين، وأنت تستحيي منه، فإن تركت له الحبل على الغارب كل مرة فإنه يزيدها، فأنت لن تستطيع أن تدفع الأخير، وقد رضيت بالأولى.
فالمقصود: أنه قال في أول الأمر: {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} [الكهف:35] وهذا اغترار بالجنتين، ثم تطور الأمر إلى أن قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:36]، وكأن نفسه عاتبته فرجع إلى طغيانه وقال: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:36].
قال العلماء: كلمة رب هنا: ما قالها اعتقاداً وإنما جاءت عرض الكلام، يعني: إن كان ولابد كما يقول الناس إنه يوجد آخرة فالذي أعطاني هذا في الدنيا سيعطيني خيراً منها في الآخرة.
{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف:34] والمحاورة تجوز مع أي أحد إذا كان المقصود منها إظهار الحق.
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف:37] أعطاه ثلاثة أطوار للخلق، وللخلق أطوار أكثر من ذلك، وإنما بدأ بالتراب وهو أصل خلق أبينا آدم، ثم النطفة وهي أصل كل مخلوق، ثم سواك رجلاً، وهذا لا يلزم تمامه في كل أحد؛ لأن ليس كل أحد يعمر إلى هذه السن، لكنه يخاطب رجلاً بعينه.
{لَكِنَّا} [الكهف:38] (لكنا): زائدة ألف، وأصلها: لكن الاستدراكية، وأنا: الذي هو الضمير، حذفت ألف همزة القطع من أنا، وأدغمت نون الضمير في نون الحرف لكن، فأصبحت بهذه الصورة التي تراها في المصحف.
{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ} [الكهف:38 - 39] يخاطب المحاور الكافر، {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} [الكهف:39] كان الأولى والأحرى بك أن تقول: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف:39] وهي كلمة شرعية تستخدم لدفع العين، لكن الكلام عنها سيأتي في بابها عند الحديث عن قول الله على لسان يعقوب: {وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف:67] وكان مالك رحمه الله يقولون: إنه إذا أراد أن يجيب سائلاً قبل أن يجيب يقول: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف:39] ثم يجيب، لكن الناس ما اعتادوا على هذا، وأذكر أنني حاولت مرة أن أحاكي مالكاً فيها فسألني سائل، فقلت: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، فاستغرب فقال: خير يا شيخ! فأحجمنا عنها؛ لأن الناس لا يدركونها تحتاج إلى تعويد الناس عليها.
المقصود: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39]، ما عند الله إنما يستجدى بإظهار الفقر، والمسكنة والحاجة إلى الله، لا بإظهار البطر والاستغناء، والتعالي على رب العالمين جل جلاله.
{فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} [الكهف:40] وكان عبداً صالحاً دعا على ذلك المشرك بقوله: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} [الكهف:40].
(حسباناً) هذه نعت لمحذوف، والمحذوف هو: هلاك.
والمعنى: فيرسل عليها هلاكاً حسباناً من السماء، والحسبان هو: الشيء المقدر، لكن اختلف في معنى الحسبان هنا: فقيل: إنه الجراد، وأظنه بعيداً؛ لأن الجراد قد يأكل الأخضر، لكن لا يقدر على إهلاك الجنتين يعني: كلاهما، هذا واحد.
وقيل: سهام أصابتها، وقيل: صاعقة وهو الأظهر، لكن الله قال: حسباناً؛ لأنه الشيء المقدر، ولو أن هاتين الجنتين أهلكتا بزلزال عام، أو بجائحة عامة لما كان في ذلك انتصار للعبد الصالح، ويوصف هذا بتعبير العامة اليوم: هذا موس على كل الروس، يعني: زلزال عام وصواعق عامة، وفي كل سنة تجيء في الشتاء وفي الصيف، وهذا شيء عام لا تستطيع أن تقول: إنني أذنبت، لكن الله قال: (حسباناً) أي: شيئاً مقدراً على قدر الجنتين حتى يعرف أنها مراده ومقصوده بالهلاك.
وقد قال لنا أحد العلماء غفر الله له ورحمه: إنه أدرك بالمدينة مزرعة أصابتها صاعقة أفنت كل ما في المزرعة -وصاحبها كان ظالماً- إلا ظلاً بسيطاً يقول: لما جاء للظل وجد تحته قطة لديها أبناء، فلما انتفعت تلك القطة وأبناؤها بذلك الحيز اليسير من المزرعة نجاها الله جل وعلا؛ لأن الله لا يظلم الناس مثقال ذرة.
ولما كان غيرها يذهب وربما فجوراً وعصياناً ناله ما ناله من غضب الله، وهذا يؤيده قول الله جل وعلا من قبل: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] وإن كان يقع أحياناً، فيرد إلى حديث: (يبعث الناس على نياتهم).
قال الله جل وعلا: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} [الكهف:41] غوراً: هذا مصدر بمعنى: غائر، ويؤيده قول الله جل وعلا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك:30] والعرب كثر في كلامها -كما قرر نحاتها- أنهم يصفون اسم الفاعل بالمصدر، أي: يصبح ماؤها غوراً، {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف:41].
قال الله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف:42] كلمة ثمر تبين أن هذه الصاعقة أخذت كل شيء.
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف:42] كناية عن الندم والحسرة، {عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:42].
قال الله: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الكهف:43] ومن ذا الذي يستطيع أصلاً أن ينصره من دون الله، ولهذا ترتب اللوازم عليها، قال الله: {وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا} [الكهف:43].
ثم قال الله: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:44].
الولاية: أي شيء بينك وبين غيرك له سبب: دين حلف جوار نسب، هذه الولاية، وهذا السبب قد يختلف، فالولاية بيني وبينكم، وبين سائر من يسمعنا من المسلمين: الإسلام، وقد تزداد فتكون: الإسلام والنسب، وقد تزداد بأشياء أخر، لكن هنا لما لم يكن له عمل، وهذه بين المخلوقين، أما بين الله وبين خلقه فالولاية: الإيمان والعمل الصالح بها يستقطب المؤمن، ويستجذب ولاية الله، فلما لم يكن له إيمان، ولا عمل صالح لم يكن بينه وبين الله ولاية، قال الله: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف:44].(46/11)
تفسير قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا)
ثم قال الله جل وعلا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45].
المقصود من الآية جملة: أن يبين الله لك أن الله جل وعلا قادر على كل شيء أن يبدءه ويثنيه ويعيده سبحانه وتعالى.
فالله قادر على الإحياء والإفناء، والإعادة، ضرب الله لهذا مثلاً قال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:45] التي يتعلقون بها، {كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} [الكهف:45] شيء محسوس، لا يستطيع أن يكابر في رده أحد، {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا} [الكهف:45] بعد أن قام على سوقه، {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45] وهذا معنى قول الله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45] فبهذا المثال يبين الظاهر الواضح المحسوس لكل أحد يبين لك ربك كمال قدرته، وجلال عزته، وعظيم قدرته على الخلق والإفناء والإعادة سبحانه وتعالى.
هذا ما يمكن أن يقال في هذا اللقاء المبارك في هذه الآيات المجزوءة من سورة الكهف التي بينا في أولها قضية قول الله جل وعلا في المشيئة وأقوال العلماء في الاستثناء، ثم ذكرنا ما بينه ربنا تبارك وتعالى من قصة الرجلين المتحاورين: مؤمن صابر، وكافر غني ذو كبر وأشرة، وما حصل بينهما من نزاع، وما انتهى الأمر إليه من ولاية الله جل وعلا لأوليائه المتقين، استجابة الله جل وعلا لدعوة ذلك العبد على من حاوره وقارنه، ثم بينا مثل الحياة الدنيا الذي بينه الله جل وعلا، وهذه الآية الأخيرة سنبدأ بها إن شاء الله تعالى لارتباطها بما بعدها في اللقاء المقبل إن شاء الله تعالى.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، والله المستعان وعليه البلاغ.
وصلى الله على محمد وعلى آله والحمد لله رب العالمين.(46/12)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الكهف [46 - 70]
يبين المولى الكريم جل وعلا في هذه الآيات من سورة الكهف أن المال والبنين زينة لصاحبها يفرح بوجودهما، ويحزن لفقدهما، ثم يخبر تعالى أن الحياة الدنيا ليست إلا كزخة من مطر أصابت أرضاً وسرعان ما انتهت وتلاشى أثرها.(47/1)
تفسير قوله تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
فما زلنا وإياكم نتفيأ ظلال سورة الكهف، وقد مضى القول في آخر اللقاء السابق عن قول الله جل وعلا: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45].
وقلنا: إن هذه الآية تبين أن لله جل وعلا كمال القدرة، وجليل الصنعة، وأنه جل وعلا قادر على الإحياء، قادر على الإفناء، قادر على الإعادة.
قال الله فيما بعدها: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46].
قال علي رضي الله عنه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ}: حرث الدنيا، {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ}: حرث الآخرة.
وقد جمعهما الله لأقوام.
أما التفسير الجزئي للآيات فإن الله جل وعلا ذكره في صدر الآية أن المال والبنين من أعظم العطايا التي تعطى في الدنيا، وأنا قلت: البنين؛ لأني عطفتها على المال، ولأنها منصوبة، ولم أقلها حكاية عن القرآن، يعني: ليس خطأ في القراءة.
قال الله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ} [الكهف:46].
البنون والمال كلاهما من زينة الدنيا باتفاق، لكن الله قدم المال؛ لأن المال تتعلق به نفس كل أحد بخلاف البنين فإنه لا يتعلق بهم قلب كل أحد، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: أن الإنسان إذا كان كثير المال، ولا أبناء عنده فلا يقال عنه: إنه شقي، شقاوة دنيوية، لكن من كان عنده كثرة أبناء، ولا مال له ففيه نوع من رقة الحال، وكثرة العيال، وشقاوة المرء في دنياه من حيث الجملة لا من حيث قضاء الله وقدره.
فلهذا قدم الله جل وعلا المال، وإن كان حب الأبناء في النفس مقدم على حب المال، لكن هذا الذي من أجله قدم ذكر المال، فذكر الله اثنين من زينة الدنيا، وذكر الزينة يدل على أن هناك شيئاً من الضروريات غير الزينة؛ لأن الله قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا} [الكهف:7]، والمعنى: أن ما على الأرض غير الأرض، فلما قال جل وعلا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ} [الكهف:46]، دل على أن هناك أشياء ألصق بالإنسان غير المال والبنين، وقد جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).
قوت اليوم الواحد، والأمن في الدور، والمعافاة في الأبدان هذه من أعظم النعم، لكنها تعين على طاعة الرب تبارك وتعالى، فإن رزق الإنسان مع هذه الثلاث مالاً وبنيناً فقد أتم الله عليه نعمة الدنيا، فما بقي عليه إلا أن يجعلها طريقاً للآخرة.
لما ذكر الله متاع الدنيا الفاني، وكان قد ضرب مثالاً محذراً فيه قال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45].
ذكر هنا ما يفنى؛ لأنه لا المال ولا البنون يغدوان مع صاحبهما إلى القبر، فذكر الله ما يغدو معك إلى قبرك، فقال جل ذكره: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]، والأصل أن يقدم الصلاح هنا ولا تقدم الباقيات لكن الله ذكر الباقيات قبل الصالحات -مع أن الصالحات هي المستخدمة في القرآن كله- حتى تقابل قضية ما هو فان، ولا يجدي، ولا نفع منه في الآخرة: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف:46].
وقد قال بعض العلماء: إن الباقيات على وجه التخصيص: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد وردت بهذا المعنى أحاديث، لكن الأصح أن يحمل قول الله جل وعلا: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف:46]، على كل عمل صالح اجتمع فيه الشرطان: وهما: إرادة وجه الله، وموافقة شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
{وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]، خير أملاً: أمور الدنيا وحرث الدنيا لا أمل من ورائها؛ لأن عمله ينقطع بمجرد الموت، أما الأعمال الصالحة فسماها الله باقيات؛ لأن أمل نفعها بعد البعث أعظم وأجدى.(47/2)
تفسير قوله تعالى: (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة)
ثم قال جل ذكره: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف:47].
أي: واذكر يوماً تسير فيه الجبال، {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف:47]، ولن نطنب في الحديث عن الجبال؛ لأنه سيأتي لها شيء مخصوص، ومن منهجنا بالتفسير أن ما ذكر في الآيات عرضاً لا نتوقف عنده، وما ذكر أصلاً نقف عنده، وسيأتي ذكر الجبال كأصل في صورة طه عند قول الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه:105]، ولكن المقصود هنا: ذكر أهوال اليوم الآخر.
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الكهف:47]، دل عليه قول الله: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3].
{وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف:47]، الأرض الآن موجودة، سواء هي أرض المحشر أو غير أرض المحشر، وبارزة بمعنى: ظاهرة، وأنت تقرأ بالتاريخ، وتعي بعقلك أنه عندما يحتدم الجيشان ويلتقيان لا يميز فارس عن فارس، فمعنى المبارزة: أن يخرج واحد من هذا الجند مثلاً في الشق الأيمن ويخرج واحد من الجند فيصبح ظاهراً بيناً؛ لأنه خرج عن جملة الجيش الأول، ويخرج آخر عن الجيش الثاني فيصبح بارزاً ظاهراً عن الجيش الثاني، ولقاءهما يسمى مبارزة، وكانت هذه طريقة في الحروب، كما هي مقدمة معركة بدر.
معنى: {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً}، فالأرض في الدنيا مغطاة بما عليها من بنيان، وبما عليها من جبال، وبما عليها من زرع، فقل ما ترى الأرض على حقيقتها إلا الصحراء غير المثمرة التي عليها نبت، وإلا الأرض أذهبت معالمها ما عليها مما أفاءه الله على بني آدم، لكن يوم القيامة يقول ربنا: {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف:47] فلا يوجد على الأرض أي معلم، ولهذا جاء في الحديث: (وليس فيها معلم لأحد)، لا يوجد علامة نتواعد ونتفق على أن نلتقي عندها، وهذا معنى قول الله: ((وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً)).
ثم قال ربنا: ((وَحَشَرْنَاهُمْ))، أي: جمعناهم: ((فَلَمْ نُغَادِرْ))، أي: لم نترك، ويقال لفلان: غادر؛ لأنه ترك الأمانة، ولم يغادر منهم أحداً قطعاً فكل مخلوق سيحشر في عرصات يوم القيامة.(47/3)
تفسير قوله تعالى: (وعرضوا على ربك صفاً)
{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:48].
فكما خلقناكم أول مرة، وهذا بداية الخلق الأول، ويبعث بعد الموت يسمى الخلق الثاني أو الخلق الآخر، وهو الذي حار فيه أهل الإشراك، قال الله جل وعلا: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} [ق:15]، وهم يعترفون بالخلق الأول، وأن الله خالقهم، لكن المشكلة كما قال الله: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15]، هو الشك عندهم في قضية البعث.
فقال ربنا وهو يخاطب أهل الإشراك: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الكهف:48]، اسم زمان، أي: ليس لكم موعد زماني ولا مكاني، وهذا مخاطب به أهل الكفر في المقام الأول أنهم كانوا يعترضون على البعث والنشور، قال الله جل وعلا: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7].
ثم ما زالت الآية تذكر أهوال اليوم الآخر قال الله: ((وَوُضِعَ الْكِتَابُ))، وهو اسم جنس: ولكل أحد كتابه كما دلت عليه كثير من النصوص: ((وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ))، أعاذنا الله وإياكم منهم: ((مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ))، أي: أصابهم الوجل والخوف، انقلب ما كانوا يظنونه وهماً إلى حقيقة، وأصبح أمراً مرئياً لا يمكن إنكاره.
قال الله جل وعلا: ((وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا)) مؤنث ويل، والمعنى: الدعوة على أنفسهم بالهلاك والثبور، أي: شعروا بالهلاك والثبور: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49].
قول الله جل وعلا: ((صَغِيرَةً))، إخبار بدقة ما تضمنه الكتاب، وقوله جل وعلا: ((وَلا كَبِيرَةً))، إخبار بالعموم.
قال الله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف:49]، كل ما صنعه الإنسان، واقترفته اليدان، وأبصرته العينان، أي خطيئة في ليل أو نهار سيراها المرء بين عينيه، أعاذنا الله وإياكم من ذل الفضيحة يوم العرض عليه، قال الله: ((وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا))، بل إنه سبحانه يغفر ويرحم، ويقيل العثرة، ويقبل التوبة، ويعفو عن السيئات.
{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، منزه جل وعلا عن أن يظلم أحداً، فأنت عندما تناجي ربك اثن على ربك بأنه تنزه عن الصاحبة والولد، وتقدس فلم يلد ولم يولد، وتعالى أن يظلم أحداً، فكلما نعت الله بما أثنى به على نفسه كنت أقرب إلى رحمة ربك، ومثال ذلك قوله: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن:3]، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]، وقال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].(47/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50].
هذه القصة تكرر ذكرها في القرآن، لكن العلماء يقولون: إن ذكرها في كل مرة له غاية وعبرة، فذكرها في سورة البقرة إعلام بمبادئ الأمور، وذكرها هاهنا تنظير للحال، وتوطئة للإنكار، فالعبر من القصة تختلف من طريقة إلى طريقة، ومن سورة إلى سورة، والقصة واحدة لا تتغير.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [الكهف:50]، وإبليس رأس الجن.
قال الله: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف:50].(47/5)
تفسير قوله تعالى ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض)
قال الله: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:51]، أي: لا يوجد لهم دليل قيم، ولا برهان يتكئون عليه في دعواهم، فإن الله خلق السماوات والأرض قبل أن يخلق الخلق، ثم إن الله جل وعلا ما أشهد أحداً خلق نفسه، حتى يشهده على خلق غيره: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:51].
وهذه الآيات إبقاؤها على ظاهرها أعظم هيبة والغيبة التي فيها أعظم أثراً في القلوب.(47/6)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يقول نادوا شركائي)
ثم قال الله جل وعلا: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [الكهف:52]، وفي هذه المرة استجاب أهل الإشراك، وهم يردون قول الله في الدنيا، والدليل على أنهم استجابوا: {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [الكهف:52]، والذين لم يستجيبوا هم المدعوون، ولم يستجيبوا؛ لأنهم لا يملكون القدرة، وإنما هم أسماء سموها.
قال الله: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف:52]، الموبق: الهلاك، قال الله: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى:34]، أي: يهلكهن بما كسبوا، لكن ما المقصود به هنا؟ هل هو واد ما بين المحشر والنار؟ هل هو واد في النار؟ الله أعلم بكيفيته وحيثيته وكنهه، لكن المقصود أنه الهلاك هو الذي سيكون محل أهل الإشراك يوم القيامة.(47/7)
تفسير قوله تعالى: (ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها)
{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ} [الكهف:53]، وهذه رؤيا بشرية، فانقلب الأمر الذي كان وعداً إلى حقيقة.
((وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا))، وظن هنا ليست على بابها، وإنما بمعنى الاعتقاد؛ لأنه لا يعقل أن يروا النار وهم يدفعون إليها، ويشكون هل يدخلونها أو لا يدخلونها.
{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:53]، أي: لا محيط ولا ملجأ عن النار.(47/8)
تفسير قوله تعالى: (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن)
قال الله بعدها: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]، وهذا عود على بدء؛ فإن الله كرر وبين في هذا الكتاب العظيم ما ينفع الإنسان في أمر دينه ودنياه، فلا يوجد مجلس أعظم من مجلس يتدارس فيه كلام الله، جعل الله مجلسنا هذا ومجلسكم من هذه المجالس.
قال الله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الكهف:54]، ومع ذلك قال الله: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54].
(أكثر) اسم تفضيل، لكنها هنا مسلوبة التفضيل، والمعنى: وكان الإنسان كثير الجدل، ليست المقارنة بين الإنسان وغيره، وإنما المقصود أن الإنسان كثير الجدل.(47/9)
تفسير قوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى)
ثم قال: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55]، (الناس) هنا عموم مراد به خصوص، أو عام أريد به الخاص، والمقصود: كفار قريش.
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الكهف:55]، وسنة الأولين: أن الله جل وعلا أهلكهم بهلاك الاستئصال، كما أهلك عاداً وثمود، وقوم لوط وغيرهم.
{أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55]، لها معنيان: قبلاً بمعنى مقابل أي: مواجه، و (قبل) تكون جمع لقبيل، والمقصود متنوع، والمعنى: ألوان من العذاب: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [الكهف:55]، أي: ذا ألوان وأنواع متعددة.
ثم بين الله: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [الكهف:56]، والمعنى: أننا لن نبعث الرسل ليطلب منهم قومهم العذاب، فهذا خلاف ما كلف الله به الرسل، ولا شأن للرسل لهم به، إنما بعثهم ليبشروا ولينذروا في آن واحد، وما بعثهم ليطلب منهم عذاب أو غير عذاب، لكن الناس إذا جاءهم الرسول خرجوا عن الطريق الذين يخاطبون به، ولا يقبلون بشارة، ولا يخافون نذارة، وإنما أخذوا يطلبون من الرسل العذاب، وهذا خلاف المقصود من إرسال الرسل.
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ} [الكهف:56]، وهذا هو نوع من الجدال المذموم: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف:56]، فقد بعث لهم الآيات، وصرفت لهم الآيات، وبعث لهم النذر لتكون طرائق ومعالم تهديهم إلى الحق، فقلبوا ظهر المجن، ولم يفقهوا التعامل معها، وجعلوها هزواً، فقد سخروا من القرآن فقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25]، وسخروا بمن نزل عليه القرآن فقالوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، وكلا الحالتين جعلوا من القرآن ومن الرسول مادة هزو لهم، وهذا لا يضر إلا إياهم، نقول: {وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف:56].(47/10)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه)
ثم قال الله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف:57].
هذا استفهام إنكاري، أي: لا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه، ومع ذلك أعرض عنها ونسي ما قدمت يداه.
وما تصنعه من خير، وما تصنعه من شر يسمى كسب، لكن جرى أسلوب القرآن أن الله إذا قال: بما قدمت يداك، يراد به العمل السيئ، ودليله قول الله في الحج: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10].
قال الله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الكهف:57]، الأكن: الغطاء: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف:57]، أي: ثقل في السمع، صمم: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:57]، (إذاً) هي الرابط، أي: إذا كان الله قد وضع على قلوبهم أكنة، في سمعهم وقر، فلن يهتدوا، إذاً: كل أمر راجع إلى مشيئة الله، قال الله عن أهل تقواه: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].
{وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:57].(47/11)
تفسير قوله تعالى: (وربك الغفور ذو الرحمة لمهلكهم موعداً)
قال الله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف:58].
هذا توطئة لما بعدها والذي بعد لو قوله: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف:58].
فهم حري بهم أن يعجل لهم العذاب، لكن من أسباب عدم تعجيل العذاب لهم أن الله رب غفور ذو رحمة: ((لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ))، ثم جاءت: ((بَلْ))، وهي للإضرار الانتقالي، انتقال ذي الخطاب: ((بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ))، زماناً ومكاناً، الزمان: يوم القيامة ما والمكان: أرض المحشر، لكن المقصود هنا الزمان، وهذا أقرب.
{بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58]، (موئل) بمعنى: لجأ، فموئل بمعنى: ملجأ: {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الكهف:58]، أي: لن يجدوا ملجئاً يفرون إليه عن ذلك الموعد، سواء قلنا أنه مكاني أو زماني، وبينهما تلازم؛ لأن الزمان لا بد له من مكان يكون فيه، والمكان لا بد له من زمن يقع الحدث فيه.
{وَتِلْكَ الْقُرَى} [الكهف:59]، عائد على الأمم السابقة: عاد وثمود وغيرها.
{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف:59]، أي: حين ظلمهم.
{وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59]، أي: جعلنا لمهلكهم موعداً معيناً مخصوصاً محدداً، ولما جاء ما كان لهم أن ينجوا منه، قال الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207].(47/12)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه)
ثم قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:60]، وهذا خبر موسى عليه الصلاة والسلام مع الخضر مع فتاه.(47/13)
الاختلاف فيمن يكون موسى المذكور في الآية
أختلف فيمن هو موسى المذكور: هل هو موسى الكليم النبي المعروف، أو رجل آخر من بني إسرائيل؟ هذه أول قضية.
والجمهور على أنه موسى بن عمران النبي المكلم المعروف، وهو الذي أراه وأميل إليه.
وقال آخرون: إنه من بني إسرائيل لكنه ليس النبي المعروف، وحجة هؤلاء الذين قالوا إنه ليس بموسى: أنه لا يعرف أن موسى خرج من أرض التيه، هذا تاريخياً.
ولا يعلم ولا يعقل أن موسى وهو النبي المكلم، والرسول المبجل الذي كاد أن يصل إلى منزلة أن يرى الله يطلب العلم من غير نبي.
وحجة الجمهور ظاهرة، وهي أن الله قال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى} [الكهف:60]، ولا يعرف موسى في القرآن إلا واحد هو موسى بن عمران، ولو كان موسى المذكور غير موسى بن عمران لبينه الله جل وعلا.(47/14)
قصة ذهاب موسى إلى الخضر
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:60]، فتى موسى هو: يوشع بن نون بالاتفاق، وهو أحد أنبياء بني إسرائيل الذي ساس بني إسرائيل بعد موسى.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} [الكهف:60]، أصل الأمر الذي دفع موسى إلى أن يحلف: {لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]، أي: أمشي سنين عديدة، والدافع إلى ذلك بينته السنة، وهو حديث ابن عباس عن أبي بن كعب: أن موسى عليه الصلاة والسلام وقف خطيباً في بني إسرائيل فوعظ موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فتبعه رجل من بني إسرائيل قال: يا نبي الله! هل أحد في الأرض أعلم منك؟ فنسي موسى أن يرد العلم إلى ربه فقال: لا، فعاتبه ربه أن في الأرض من هو أعلم منك، قال: يا رب! وكيف لي به، قال الله له: خذ حوتاً في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمة يعني: موجود، فأخذ حوتاً في مكتل ومعه غلامه يوشع بن نون، ووصلوا إلى مجمع البحرين، واستراح موسى، وبقي يوشع يحرس نبي الله، فالحوت ردت له الروح فخرج وأتى البحر، فضرب الله كالطاق محدد على الحوت، ويوشع يتعجب وينتظر متى يستيقظ موسى ليخبره، فاستيقظ موسى ونسي يوشع أن يخبره، واستمرا في سيرهما، فجاع موسى وأصابه التعب، وطلب من فتاه الغداء، ولم يكن الحوت هو الغداء وإنما الحوت علامة فلما طلب الغداء تذكر قضية الحوت: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف:63].
رجع قال الله: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64]، وسيخبرك بما تفيده الآيات، لما رجع وجد الخضر مغطى، فوقف موسى على رأسه وقال له: السلام عليكم، فكشف عن غطائه وقال: وأنى بأرضك السلام، قال: أنا موسى قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، فتعجب الخضر كيف قدم عليه موسى، قال: جئت أطلب على يديك، أخذ عنك علماً، قال: أنت على علم علمك الله إياه لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمني الله إياه لا تعلمه أنت، فأخبره موسى بإلحاح أنه سيطلبه فتوجه معهما كما سيأتي: قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60].
اختلف الناس أين مجمع البحرين؟ على أقوال أربعة، وقل ما إن يحصيها أحد إلى أربعة، وهذا فائدة أن يأتي الإنسان متأخراً؛ لأنه يستطيع أن ينظر في أقوال السابقين: فذهب قوم إلى أنه ملتقى بحر فارس والروم، والمعنى: أنه مضيق باب المندب الآن، وقال محمد بن كعب القرضي أحد أئمة التفسير قال: إنه في طنجة اليوم عند مضيق جبل طارق، في ملتقى المحيط الأطلسي مع البحر الأبيض المتوسط.
وذهب البقاعي رحمه الله واختاره الأمين الهرري، وليس شيخنا الأمين الشنقيطي؛ فإن الأمين الهرري معاصر حي، متع الله به، ونفعنا والمسلمين بعلمه، مال إلى هذا الرأي، وهو أنه في مدينة دمياط في أرض مصر، التقاء المالح بالعذب في دلتا مصر في دمياط، وحجة هؤلاء من حيث النظر قوية، وهم قالوا: إن الحديث دل على أن عصفوراً يأتي ينقر في البحر، والعصفور لا يشرب من الماء المالح، فلا بد أن يكون مجمع البحرين هذا فيه ماء عذب، وهذا يكون في دلتا مصر، هذا الرأي الثالث، لكن يرد عليه أن المانع من قبوله أنه لن يعرف أن موسى بن عمران بعد خروجه من مصر رجع إليها، لكنه كان مع قومه في أرض التيه، فلا يعرف أنه دخل مصر ووصل إلى دمياط، وكذلك القول أنه ذهب إلى طنجة بعيد؛ لأن القضية قضية أنه ترك قومه وأتى إليهم، وهذا لم يذكر في القرآن وهذه الحقبة الطويلة ماذا فعلوا فيها؟ فهم في ثلاثين يوم عندما ذهب لميقات ربه عبدوا العجل، فلو كان ذهب إلى طنجة سيطول ذلك العصر، فالسفر يحتاج إلى آماد بعيدة، وكذلك ما يقال عن طنجة يقال عن باب المندب، إذاً بقينا بقول رابع، لا بد من قول رابع.
القول الرابع قاله الشعراوي رحمه الله، وهو: أنه اجتماع خليج السويس مع خليج العقبة، وهذا ما أذهب وأميل إليه إلى ساعتي هذه، ولابد من قرينة تبين ذلك والقرينة أن الله قال: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64]، وهذا يلزم منه أمران: اللازم الأول: أنه في شيء يظهر عليه أثر المشي، وإلا فلا وجود للأثر، فتكون صحراء.
الأمر الثاني: قول الله جل وعلا: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64]، فيه نوع إشعار أن هذه المنطقة لا يوجد فيها معالم ممكن أن يستدل بها موسى ويوشع، ولو كان فيها معالم ما احتاج إلى أن يقال: ارتد على {عَلَى آثَارِهِمَا} [الكهف:64]، يعني: يرجعون حسب المعاني التي مروا بها، فيعرفون يمين هذا الجبل مثلاً ويمين هذا البحر، ويسار هذا النهر، فدل على أنهم كانوا في صحراء، والصحراء هذه لا ينطبق عليها إذا قلنا خليج السويس، وخليج العقبة إلا صحراء سيناء، فإذا قلنا: إنه كان في صحراء سيناء فيتفق مع سياق القصص القرآني عن موسى بأنه خرج من أرض مصر يريد أرض فلسطين: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21].
وهي أريحا، فهذا يتفق مع قصص القرآن مع أنه لم تطول المدة في الخروج عن قومه كل يتفق إلى حد ما نقول إن هذا القول الرابع الذي ذكره الشعراوي رحمه الله أقربها إلى الصواب، ولا أدري هل قاله أحد قبل الشعراوي أو لم يقله، والعبرة عندي بقرب القول من الصواب والعلم عند الله.(47/15)
تفسير قوله تعالى: (فلما بلغا مجمع بينهما)
{فَلَمَّا بَلَغَا} [الكهف:61]، الاثنان موسى وفتاه: {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف:61]، كما بينا: {فَلَمَّا جَاوَزَا} [الكهف:62]، أي: المكان: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:62].
وأنبياء الله بشر، يتعبون وينصبون كما ينصب ويتعب الخلق.
(قال) أي: يوشع: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} [الكهف:63]، فهو السبب بالنسبة للحوت، فعجب بالنسبة لموسى وفتاه، قال الله تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64]، وهذه أوضحناها.
{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا} [الكهف:65]، وهذه إضافة تشريف: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65].(47/16)
اختلاف العلماء في نبوة الخضر
ذهب بعض العلماء إلى أن الخضر كان نبياً، ومن حججهم ما يلي: أن الله قال: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً} [الكهف:65]، والرحمة إذا أطلقت يراد بها النبوة، قال الله جل وعلا: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، هذا الأول.
والثاني: أن الله جل وعلا قال: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65]، ومعلوم أن علم كل أحد من الله، لكن المقصود أنه أعطيه إياه بغير واسطة، إلا إن يكون ملكاً، وهذا قالوا: لا يقع إلا للأنبياء، هذا الثاني.
والثالث: أنه قال عن نفسه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، والمعنى أنه بوحي من الله، والرابع: أنه يستحيل أن يأخذ نبي الله أي: موسى علمه عن غير نبي، يستحيل وهذا الرأي عقلي فدل على أن الخضر كان نبياً، وقد مر معنا وهذه مسألة خلافية والعلم عند الله، لكن يرجح أنه يكون نبياً.(47/17)
تفسير قوله تعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا)
قال الله: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:65 - 66]، إذاً رحل موسى يطلب علماً، والنبي يقول: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاءً بما يصنع)، فخروجك من بيتك لن يكون خروجاً أعظم توفيقاً من أن تخرج لتطلب العلم الشرعي.
{قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:67].
ثم استدرك قائلاً: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف:68]، من أعظم ما يعينك على الصبر أن تعرف على ماذا تصبر، كمن يوضع في سجن، والذي يوضع في السجن إذا أريد به الرحمة يخبروه كم يوم يريدون أن يسجنوه، حتى يتكيف نفسياً وعقلياً، لكن إذا وضع إنسان في سجن ولم يخبر كم سيمكث في السجن، فهذا أدعى للهلاك وعدم الصبر؛ لأنك لا تدري هل تجلس سنة أو ألف سنة، يوماً أو عشرين يوماً فمعرفة الشيء تعين على الصبر عليه، ولهذا قال الخضر: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف:68].
ولهذا قال العلماء: إن أعظم ما أعان الله به يعقوب على الصبر على فقد يوسف أنه كان يعلم أن آخر الأمر سيلتقي بابنه؛ لأن ابنه لما رأى الرؤية قال: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]، ففهم يعقوب أن ابنه هذا سيصير أو سيئول إلى رجل ذي شأن وبال، وعظيم ملك، وهذا يترتب عليه لزاماً أن يلتقي غالباً بأبيه، فهذا من أسباب صبر يعقوب على فقد يوسف.
والمقصود أن الخضر قال لنبي الله موسى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:68 - 69]، وكما قالها موسى، قالها إسماعيل من قبله، لما أخبره أبوه أنه سيذبحه، قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
بعض من ليس له دربة في العلم يقول: انظر إلى وعد إسماعيل الذي وفى به، ووعد موسى الذي لم يف به، وهذا عدم فهم للأسلوب؛ فالمقام يختلف، فإن إسماعيل كان يصبر على شيء يعرفه، وهو أن وراء استسلامه جنات النعيم، وأن المقصود منه أن يكون قرباناً لله فقط، فهو يعرف مبدأ الأمر ومنتهاه، هذا بالنسبة لإسماعيل فلذلك وفى بوعده، أما كليم الله موسى فما كان يتعامل مع الله في هذا المقام، وإنما كان يتعامل مع مخلوق ولا يدري على أي شيء يصبر، فلذلك ما استطاع أن يوفي بالأمر الذي قطعه على نفسه، ولم يكن موسى يعلم على أي شيء يصبر، وهذا شهد له الخضر بقوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف:68]، لكن الذي دفعه إلى أن يصبر مرة بعد مرة محاولته الوصول، فلما عجز؛ لأنه لم يكن يعرف نهاية هذا الأمر، ولا قراره ولا خبره آل به الأمر إلى أن يكون هناك فراق بينه وبين الخضر.
قال الله عز وجل: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:68 - 69]، أي: أحاول أن أروض نفسي على ألا أعصيك، وموسى عليه السلام كما سيأتي مقامه مقام قائد، والقادة صعب أن ينقلبوا بين عشية وضحاها إلى أن يكونوا تابعين، فقد جرت العادة على أنه متبوع، فهو النبي الذي يسوس الأمة فيأمر فيأتمر الناس بأمره، ما بين عشية وضحاها أصبح يتلقى أوامر، ويؤمر بالصبر، ويطلب منه الطاعة من مخلوق مثله، ويرى أمور لا تتفق مع علمه، ويطلب منه ألا يعارض فلم يقدر على هذا، وقد حاول مرة ثانية وثالثة ثم ألزم نفسه: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف:76].
وأنا أحاول ألا أدخل على قضية انطلاقهما في البحر؛ لأن هذا يحتاج إلى درس مستقل، لكن نقول: قال الله جل وعلا عنه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69]، قال الخضر: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي} [الكهف:70]، هذا شرط: {فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70]، والمسلمون على شروطهم، سترى في ختام القصة أن الخضر ألزم موسى بهذا الشرط قال: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:70].
قال الله جل وعلا: {فَانطَلَقَا} [الكهف:74]، أي: وقفا على الشاطئ، فجاءت سفينة، فعرفوا الخضر ولم يعرفوا موسى، فأركبوهما من غير نول من غير عطاء.
من غير أجرة، ثم بينما هما في السفينة جاء عصفور، فوقف على حافة القارب نقر نقرتين في الماء، ثم رحل وطار، فقال الخضر لموسى: يا موسى! ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور بنقرتيه من البحر، ومعلوم أن العصفور لم ينقص شيء من البحر بنقرتيه، والمقصود أن علم الخضر وعلم موسى بالنسبة لعلم ما أحاطهم الله بعلمه كنسبة هاتين النقرتين من أرض البحر، فليكن من الكلمات التي تدأب على أن ترددها أن تقول دائماً: أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، قابلت بعض شيوخ المدينة الصالحين -والشيوخ هنا بمعنى: كبار السن- قبل فترة في مزرعته، فكان يسألني أسئلة أظنه يعرف جوابها، المهم كان ما بين الفينة والفينة يردد هذا الذكر، فكلما أخبرته بخبر أطرق رأسه وقال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، فخرجت من عنده وأنا متأثر بذكره أكثر مما هو متأثر بعلمي، والعبرة بما قربك من الله جل وعلا وأدناك من رحمته.
والإنسان أحياناً إذا رأى أقواماً -لا نزكيهم على الله- لكن غالبهم الصلاح تجري على ألسنتهم أذكار يقولونها بسجية، وبطريقة أولية، ولها نصوص تؤيدها من الكتاب والسنة، فتعرف بعد ذلك إذا تأملت قولهم لماذا هم محفوظون بحفظ الله؟ ولماذا هم موفقون؟ ولماذا ترى النور في وجوههم؟ قد لا يكونون يملكون من العلم ما تملك كأفراد العلم وآحاده، لكن كما قال الحسن: إنما العلم الخشية، وقال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
ركب أحد كبار السن مع أحد إخواننا إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: منذ أن ركب إلى أن أوصلته الحرم وأنا لا أعرفه وجدته في عرض الطريق يبتغي صلاة الفجر وهو يقول: يا دائم المعروف! يا قديم الإحسان! قال: وأوصلته إلى الحرم، والله! ما كلمني كلمة، وكان محنياً ظهره وهو يقول: يا دائم المعروف! يا قديم الإحسان! فالإكثار من ذكر الله بالأذكار التي وردت، أو تأول القرآن كما تقول عائشة وكما فعل هذا الرجل المبارك، والأخذ منه من أعظم ما يجعل الإنسان ذا قلب رقيق، ولسان رطب بذكر الله، وهذه الغاية الأولى من تدارس القرآن وحلق العلم، المقصود أن تربى القلوب، وأن تذعن وأن تكون وجلة إذا ذكر الله تبارك وتعالى، جعل الله قلبي وقلبكم ممن يجل إلى ذكر اسم الله جل وعلا.
أما ما يتعلق بالقصة تفصيلاً فهو إن شاء الله تعالى موضوع اللقاء القادم.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وألبسنا الله وإياكم لباسي العافية والتقوى.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(47/18)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الكهف [71 - 98]
في قصة موسى عليه السلام مع الخضر الكثير والكثير من العبر التي ينتفع بها المسلم عموماً وطالب العلم خصوصاً، ومن ذلك: عدم التقليل من شأن أحد من الناس، والتواضع للمعلم، وخفض الجناح بين يديه، وإظهار التبجيل له في حضرته.
وفي قصة الملك الصالح ذي القرنين دروس عظيمة، وفوائد جمة تدل على عقله الراجح، وحنكته السياسية، ومقدرته على الحكم، وعلى الرغم من ذلك فإنه في قمة التواضع لربه وخالقه جل وعلا.(48/1)
تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة من أمري عسراً)
الحمد لله الذي خلق فيسر، وشرع فقدر، ووعد وبشر، وأوعد فأنذر.
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، بعثه ربه من أعز قبيل، بواضح الدليل وسواء السبيل، في أكرم جيل وأمثل رعيل، أثنى عليه وعلى أصحابه من قبل في التوراة والإنجيل، فصلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه، كما وحد الله وعرف به ودعا إليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذا لقاء متجدد حول تأملاتنا في كلام ربنا جل وعلا، وقد انتهى بنا المطاف في اللقاء السابق إلى خبر موسى عليه الصلاة والسلام، مع العبد الصالح الخضر، والتقائهما عند مجمع البحرين، ومضى القول أن موسى عليه الصلاة والسلام مع فتاه نسيا حوتهما، وذلك سبباً في رجوعهما ليلتقيا بالعبد الصالح، ثم تبدأ تلك القصة التي أخبر الله عنها، وجاءت كذلك مفصلة في صريح السنة، في حديث ابن عباس عند البخاري وغيره.
قال الله جل وعلا -وهي أول الآيات التي نشرع في التأمل فيها- قال الله تبارك وتعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71].
وقد اتفق موسى عليه الصلاة والسلام مع الخضر على أن ينطلقا سوياً، واشترط الخضر على موسى أن يلتزم الصمت، وأن لا يبدءه بسؤال حتى يخبره بما عنده، ووافق موسى عليه الصلاة والسلام على هذا الشرط، وأخذ الخضر منه العهد والميثاق.
وسيأتي بعد ذلك بيان أن المؤمنين على شروطهم، وأن ذلك لا يغير من كون كل منهما على جادة الصواب وسواء السبيل.
قال الله جل وعلا: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ} [الكهف:71] ففهم أنهما ركبا في السفينة، وأظنه قد مر معنا أنهما وقفا على شاطئ البحر ينتظران مركباً، فمرت سفينة فعرفت الخضر، فأركبوهما من غير أجرة، إجلالاً وإكراماً للخضر، وهذا فيه دلالة على أن عباد الله الصالحين يسخر الله جل وعلا لهم من يحبهم، ويعطيهم ويمنحهم فضلاً من الله تبارك وتعالى عليهم.
قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ} [الكهف:71]، ركبا السفينة، وكان موسى فرحاً أن أولئك القوم المساكين أركبوهما من غير أجرة، ففجأة وإذا بالخضر يعمد إلى قدوم فيخرق السفينة، ثم يضع مكان ذلك الخرق قطعة من خشب تسده، فاشتاط موسى غضباً؛ لأنه شخص قيادي بفطرته، وتعود أن يسوس بني إسرائيل، ولم يتعود أن يكون تابعاً، وإنما تعود أن يكون متبوعاً، فقال منكراً على الخضر ناسياً الشرط الذي بينهما: قال: {قَالَ أَخَرَقْتَهَا - أي السفينة- لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:71] واللام للتعليل؛ ولهذا جاء الفعل المضارع بعدها منصوباً بالفتح؛ لأنه صحيح الآخر.
(لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لقد جئت) أي: بفعلك هذا، والتاء للمخاطب تاء الفاعل للمخاطب، {شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71] أي: شيئاً مستعظماً لا يقبل.
ما زاد الخضر على أن ذكره بالشرط الذي بينهما، قال: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:72]، وهذا ليس فيه عتاب ولا لوم، ولكنه تذكير بالشرط، فتذكر موسى الشرط، فآوى إلى رشده، ولم يغب عنه الرشد يوماً عليه الصلاة والسلام، قال: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف:73]، أي: إنما وقعت مني هذه نسياناً، والله جل وعلا أعذر عباده بالنسيان، {وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:73]، أي: لا حاجة لأن تزيد في اللوم، وتكلفني ما لا أطيق، لمجرد أنني نسيت، والإنسان ينبغي عليه أن يقبل عذر المعتذر إذا كان ذلك لأول وهلة.(48/2)
تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً من لدني عذراً)
قال الله جل وعلا: {فَانطَلَقَا} [الكهف:74]، أي: ما زالا سوياً، وليس هناك ذكر لـ يوشع بن نون في الآيات كما سيأتي، والله أعلم هل كان يوشع معهم وهو الأظهر، أو لم يكن معهم وهو بعيد، لكن سواء كان معهم أو لم يكن معهم فإن يوشع بن نون فتى موسى غير مقصود بالحكاية كلها؛ لأن موسى هو المقصود بالأمر، وإنما يوشع كان تبعاً لموسى، يخدمه ويقوم بشئونه.
قال الله جل وعلا: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا} [الكهف:74]، ولا يتصور أنهم لقوا الغلام في البحر، ولكن المقصود أنهم تجاوزوا البحر، ودخلوا مدينة على شاطئ البحر، وقد مر معنا كثير مثله، وسميناه إيجاز حذف، وقلنا: إن القرآن فيه مساواة وفيه إطناب وفيه إيجاز، وكل ما يقتضيه السياق جاء في القرآن على أحد هذه الأنماط الثلاثة: الإيجاز أو الإطناب أو المساواة.
قال الله جل وعلا: ((حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ)) أي: قتل الخضر ذلك الغلام، فتعجب موسى، وهذه أكبر من أختها، أعظم من الأولى، قال: مستنكراً: ((أَقَتَلْتَ)) والهمزة للاستفهام، ((أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ))، لو قتلتها بنفس أخرى لكان القتل حق، لكنها نفس زكية قتلتها من غير جرم ولا ذنب يظهر لي.
{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74]، و (نكرا) أخت (إمرا) في استعظام الشيء، وفي القرآن -كما مر معنا- منكر ونكر، النكر: الشيء المستعظم على النفوس، الذي تتهول منه الأعين إذا رأته، وإن كان حقاً في ذاته.
أما المنكر فهو ضد المعروف، ولو أن النفس العاصية قبلته لكنه يبقى منكراً إذا كان على غير شريعة الله جل وعلا، فالمنكر: ما حرمه الله وذمه الله، ولو ألفته النفس.
والنكر: ما استعظمته النفس ولو كان حقاً في ذاته، وسيأتي هذا في بيان قصة ذي القرنين إن شاء الله تعالى.
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ} [الكهف:75] زاد هاهنا قوله: (لك) {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} [الكهف:76] الفاء عند النحويين واقعة في جواب الشرط، والأصل في جواب الشرط أن يخلو من الفاء، لكن الفاء تقع لأسباب منها أن يكون الفعل مبدوءاً بالطلب، وقوله: (فلا) للنهي، والنهي نوع من الطلب.
{قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} [الكهف:76]، وهذا شرط التزم به موسى لنفسه، ولا ندري هل موسى ضجر من القضية فأراد أن ينهي الأمر، أو أن موسى عليه الصلاة والسلام أراد أن يلزم نفسه ألا يسأل الخضر أياً كان الأمر فقد كانت هذه آخر الحوادث التي مرت لموسى والخضر.
قال الله: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف:76]، أي: لا عذر لي بعد ذلك إذا وصل الأمر إلى كونه ثابتاً.(48/3)
تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية عليه صبرا)
قال الله: {فَانطَلَقَا} [الكهف:77] أي: واصلا سيرهما، {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77]، المستطعم.
موسى والخضر، والهمزة والألف والسين والتاء هنا للطلب، والهمزة همزة وصل، {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف:77]، أي: طلبوا منهم طعاماً، وضيافة.
قال الله: {فَأَبَوْا} [الكهف:77] أي: أن الذي أبى وامتنع هم أهل قرية، {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف:77]، وهذا فيه إشارة إلى أن يوشع غير موجود، وهذا يدل على طباع أهل تلك القرية، وقد فهم منها العلماء فائدة جليلة: أن عبرة الإنسان بمقامه عند ربه، فهم لا يمكن أن يتواطئوا كلهم ويعرفوا له قدراً، لكن العظيم لا يبالي بعدم معرفة الخلق له، والعبرة التي ينبغي أن تحرص عليها، والمسألة التي ينبغي أن تعض عليها النواجذ: أين مقامك عند ربك جل وعلا؟ أما الخلق فمنهم المنصف ومنهم المبالغ، ومنهم الحاقد ومنهم الجاهل وهم يختلفون في الإنسان، ولا يوجد أحد أجمع الناس عليه، فنبي الأمة ورأس الملة صلى الله عليه وسلم مات ومن أمة العرب من لا يرى النبي أهلاً للنبوة، لكن هذا لا يضيره، ولا يقدح في مقامه عليه الصلاة والسلام عند ربه.
قال بعض من ينظم الشعر: فإن رددت فما في الرد منقصة قد رد موسى قبل والخضر وإن كان السياق الذي جاء فيه النظم غير حميد، لكنني أنا أجتز منه ما هو مقبول، والمقصود أن الله قال: {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف:77]، وكان هذا من المفترض أن يدفع الخضر في فهم موسى إلى أن يمتنع عن الإحسان إلى أولئك القوم الذين أبو أن يضيفوهما، لكن الخضر بادر على غير طلب منهم إلى جدار يريد أن ينقض، أي: يكاد أن ينقض؛ لأنه ليس منقض، وليس مستوياً، لو كان مستوياً لما احتاج إلى أن يقومه الخضر، ولو كان منقضاً تماماً لما قال الله: {يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف:77]، قال الله: {يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:77]، أي: أقام الخضر ذلك الجدار، وجعله عائداً إلى أصله الأول في أنه متمكن لا يهدم، فاستشاط موسى غضباً وقال معاتباً الخضر: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77]، أي كان ينبغي عليك أن تطلب منهم أجراً على صنيعك هذا، مقابلة بالمثل، ولحاجتنا إلى الطعام، وهنا أوقف الخضر المسألة وطبق الشرط الذي بينهما، وقلت في التمهيد: المسلمون على شروطهم، قال: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78]، فلهذا قال الله جل وعلا: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282]، وقال في الطلاق في الرجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] وقال: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة:282].
فالوضوح في المعاملات أمر محمود، ولا يضير الإنسان أن يعطي ديناً أو أن يقترض، فيطلب منه من أقرضه ورقة أو سنداً أو ما أشبه ذلك مما به المواثيق، هذا مما شرعه الله جل وعلا لعباده، والدليل: هذا عبد صالح، ويعرف أن موسى كليم الله، ومع ذلك أجرى تنفيذ الشرط بينهما وقال: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ} [الكهف:78]، والسين للمستقبل القريب وهو بحسب الأحوال، {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78]، والزيادة في المبنى زيادة في المعنى؛ ولهذا قال الخضر: {مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78]، ما زال الأمر في موسى ملتبساً لا يعرف موسى تأويلاً ولا مصوغاً لأعمال الخضر التي قام بها، فالأمر مازال مدلهماً في ذهنه فخاطبه الخضر بجنس ما هو فيه، قال: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78].(48/4)
تفسير قوله تعالى: (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون)
ثم شرع الخضر يبين لموسى عليه السلام هذه القضايا، ويحل العقد واحدة تلو الأخرى.
قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ} [الكهف:79] أي: السفينة التي خرقتها، {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] واللام للملك، فالذي يملكون هذه السفينة هم المساكين، والمسكين من عجز على أن يجد لنفسه دخلاً يوافق مصروفه من حيث الجملة، واختلف أيهما أشد فقراً الفقير أو المسكين، مع الاتفاق على أنهما من ذوي الحاجات، والأظهر والعلم عند الله أن الفقير أشد فقراً من المسكين، بدليل تقديم الله له في أصناف الزكاة الثمانية المستحقين لها، قال الله جل ذكره: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة:60].
والمقصود أن الخضر قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] أي يؤجرونها، {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] بخرقها، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]، (كل) من ألفاظ العموم، مرت معنا مراراً، وظاهر كلام الخضر عن الملك أن الملك يأخذ كل سفينة صالحة وعرفنا أنه لا يأخذ المعيبة، أنه لو كان الملك يأخذ كل سفينة صالحة وغير صالحة لما احتاج أن يخرقها.
وقوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] نص في موضع الخلاف، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79] أي: ظلماً وتجبراً، كلمة: (وراء) جاءت في القرآن على عدة معان، من أشهرها ثلاثة، وراء بمعنى أمام: زمانياً ومكانياً، أما بمعنى أمام زمانياً قول الله جل وعلا: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17] يعني: هذا في مستقبل أيامه، فحياة البرزخ، والعذاب المتوعد به أهل النار، لم يأت بعد، وإنما هو أمام المتوعد به، هذا ظاهر.
وأما وراء بمعنى أمام مكانياً فدليلها الآية التي بين يديك، يقول الله جل وعلا على لسان الخضر: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79]، ومعنى وراء أمامهم مكاناً ملك يأخذ كل سفينة غصباً، فأول معاني وراء في القرآن بمعنى: أمام، وتأتي بمعنى: خلف، وهو الأصل في استخدامها اللغوي، تأتي بمعنى خلف، قال الله جل وعلا على لسان العبد الصالح شعيب: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود:92]، وظهر الإنسان خلفه وليس أمامه، فقوله: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود:92] نص في أنها تأتي بمعنى خلف.
بقيت أشهر معانيها والتي تأتي بمعنى غير أو بعد، قال الله تعالى في النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، ثم ذكر المحصنات، ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُ} [النساء:24] أي: ما بعد ذلك، وقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون:5 - 7] أي: غير ذلك {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7]، وهذا يدل -كما قلنا- على بعض المعاني التي تأتي عليها كلمة وراء في القرآن.
فهذا السبب الأول، وأنت تلحظ أن الخضر عليه السلام أسند فعل العيب إلى نفسه فقال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79].
الآن قضية لماذا خرق السفينة حلت أمام موسى، والمسكين قلنا: أسند إليهم ملك السفينة وسماهم مساكين، فعلى هذا لو أن إنساناً -وهذا يأتيك في باب الفقه في الزكاة- مصروفه أكثر من دخله فإنه يعد مسكيناً، من كان مصروفه العادي من غير سرف ولا مخيلاء أكثر من دخله الثابت المتوقع شهرياً أو سنوياً يسمى مسكيناً.
هذا خبره مع السفينة.(48/5)
تفسير قوله تعالى: (وأما الغلام فكان أبواه وأقرب رحماً)
قال: {وَأَمَّا الْغُلامُ} [الكهف:80] أي: شأن الغلام الذي أنكرت علي أن أقتله، {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80]، والأبوان هنا: أبوه وأمه، وهذا على جريان كلام العرب في التغليب، ولغة القرآن: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف:27].
{وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80]، أي: أنه سبق في علم الله وقدره أن هذا الولد لو نشأ وعاش سيكون كافراً، ويخشى من طغيانه وكفره، مع تعلق والديه به أن يكون سبباً في كفر والديه، فلئن يفقد الولد في الصغر خير لهما من أن يبقى الولد ويحيا ويموتان على الكفر، فخيرة الله لعبده خير من خيرة العبد لنفسه، وكم من أمور حجبها الله جل وعلا عنا وبقيت في قلوبنا بعض علامات الحزن والأسف عليها ولو فتح لنا الغيب لسجدنا شكراً على أن الله حجبها عنا، ولذلك من أرفع مقامات الصالحين الرضا بقضاء الله وقدره، قال الله جل وعلا على لسان العبد الصالح: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44]، وتقول أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج من بيتها إلا ويرفع رأسه إلى السماء ويقول: (آمنت بالله، واعتصمت بالله، وتوكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أن أظلم أو أن أظلم، أو أن أجهل أو أن يجهل علي)، والعبد الصالح هو من أوكل إلى الله جل وعلا أمره، واستعان بالله تبارك وتعالى، ورضي بقضاء الله وقدره، ولا يمسي إلا وهو راض كل الرضا عن ربه، بصرف النظر عما أتاه، أو عما لم يأته، فما كان لك سيأتيك على ضعفك، وما لم يكن لك لن تناله بقوتك.
{فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81] أي يعوضهما الله، ومعنى الآية إجمالاً: بمن هو أقرب زكاة ورحماً لهما، ولا يكون سبباً في كفرهما ولا في تجاوزهما للحدود، مع الرب تبارك وتعالى، هذه المسألة الثانية.(48/6)
تفسير قوله تعالى: (وأما الجدار تسطع عليه صبراً)
ثم قال له: {وَأَمَّا الْجِدَارُ} [الكهف:82]، وهي آخر القضايا، فالذي دفعني إلى إصلاحه وتقويمه رغم لؤم أهل القرية أنه كان لغلامين يتيمن في المدينة.
واليتيم في بني الإنسان من فقد أباه دون البلوغ، وفي الحيوان من فقد أمه دون أباه؛ لأن الحيوان لا يعرف أباه، وفي الطير من فقد أباه وأمه، ووجه الشاهد هنا: اليتيم المعروف.
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ} [الكهف:82] أي: تحت الجدار، {كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:82]، أي لليتيمين، ولو قدر وترك هذا الجدار على حاله فإنه ينقض ولو انقض لتسلط الأشرار على الكنز، وليس لليتيمين قدرة ولا شدة ولا بلغة في الدفاع عن نفسيهما؛ لأنهما ضعيفان.
قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} [الكهف:82] فأراد ربك، فنسب الفضل إلى الله، وتأدب مع الله جل وعلا، ولم ينسبه إلى نفسه، وفي خبر السفينة نسب إرادة العيب إلى نفسه، قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، وقد مر معنا في دروس متكررة أنه كذلك من أرفع المقامات حسن الأدب مع الله، وأعظم الأدب مع الله توحيده، سئل عليه الصلاة والسلام: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وقد خلقك)، فمن وحد الله جل وعلا عرف طريق الأدب الحق مع الله تبارك وتعالى، {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:82]، أي اليتيمين، واليتيم يبتلى بأمرين: بلوغ الأشد البدني يكون بالقدرة على النكاح، ويبلغ الأشد العقلي بأن يختبر، فإذا تصرف تصرفاً راشداً في ماله سلم له ماله، وإذا اجتمعت فيه قوتان: قوة البدن وقوة العقل، فقوة البدن عبر عنها بقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6]، وقوة العقل عبر الله عنها بقوله: {َإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6].
فنقول: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} [الكهف:82] أي: بعد أن يبلغا أشدهما، وقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]، هذه ضمناً جاءت لتبين أن أعظم ما يدخره الآباء للأبناء أن يكون الآباء صالحون في أنفسهم، وقد قيل: إن هذا الأب المقصود هو الجد السابع لليتيمين، وهذا غير بعيد لكن الأولى إمرار القرآن على ظاهره، فقوله جل وعلا: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]، إنما ينصرف في لغة العرب أول ما ينصرف إلى الأب المباشر، ولا ينصرف إلى الجد، وإن كان يصح تسمية الجد أباً، لكنه ينصرف أول ما ينصرف إلى الأب.
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]، فبرحمة الله جل وعلا لهذا الوالد في قبره، وهو ميت لصلاحه سخر الله موسى والخضر يتجاوزان البحار والقفار ليقيما جداراً تحته كنز من أجل يتيمين، فمن استودع الله شيئاً حفظه تبارك وتعالى؛ ولهذا لن تودع أحداً شيئاً أعظم من أن تودعه عند الله، وأعظم ما تودعه الله جل وعلا دينك؛ ولهذا نقول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبنا على دينك.
وانظر إلى الأدب في قوله: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82] فأخرج نفسه، وكأنه يقول: أنا مجرد آلة تنفذ، حتى لا يفهم أن هناك شفقة غير منبعثة من شيء خارجي من الخضر نفسه، ولكنه أسند هذا الأمر وجعل غدوه ورواحه وصنيعه إنما هو رحمة من الله، جعله الله رحمة للخلق.
ثم زاد الأمر توكيد بقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، و (ما) نافية، أي: ما فعلته بتصرف مني، وقد قلنا: إن هذه الآية من أعظم الأدلة على أن الخضر كان نبياً، وإن كان الناس أي العلماء اختلفوا فيه، هل هو نبي أو لا، وقلنا: واختلفت في خضر أهل العقول قيل: نبي أو ولي أو رسول لكن الذي يظهر عندي -والعلم عند الله- أن القول بنبوته يقطع الخلاف فيما حام حوله من كثير من التأويلات، {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ} [الكهف:82] أي: الذي صنعته ورأيته وشاهدته وبصرته لك وبينته إليك، {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82]، فخفف المسألة؛ لأنها قد حلت العقد، واحدة بعد الأخرى، وانتهى الأمر إلى أن قال: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82].
وهنا قلنا: نكرر أن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، وأن الخطاب في الأول كان يناسب حال موسى ومقامه، {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ} [الكهف:78] ثم انتقل الأمر إلى أن قال: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82].(48/7)
تفسير قوله تعالى: (ويسألونك عن ذي القرنين فأتبع سبباً)
قال الله جل وعلا بعدها: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:83 - 85].
ذو القرنين أنموذج لملك صالح بلا خلاف، لكن هل هو نبي أو غير نبي؟ هذه مسألة خلافية، وقد جاء في الحديث: (لا أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا؟) فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم توقف في نبوته، فمن باب أولى أن يتوقف أتباعه من العلماء، صلوات الله وسلامه عليه.
(يسألونك) وردت في القرآن كثيراً، وقد ردت على ألسنة الكفار، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه:105]، ووردت على ألسنة الكفار {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85]، ووردت هاهنا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:83]، والسائل: هم القرشيون بأمر من اليهود، ووردت: (يسألونك) من مجتمع المدينة الأول، الذي كان معاصراً للنبي صلى الله عليه وسلم، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189].
لكن الفرق بين السؤالين، أن الأولى كانت أسئلة من كفار يريدون إثبات النبوة للمجادلة فيها، أما الأسئلة الثانية كانت أسئلة قوم مؤمنين يريدون أن يفقهوا الشريعة، وإن كانت هذه الأمة كما قال ابن عباس: أقل الأمم سؤالاً، وجملة ما في القرآن من أسئلة لا يكاد يتجاوز أربعة عشر سؤالاً.
قال الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:83]، لم يذكر الله اسمهم ولا زمانهم ولا مكانهم؛ لأن المقصود من القرآن العظة والاعتبار، وليس التدوين التاريخي؛ والعظة والاعتبار تحصل من غير تدوين تاريخي، فينبغي ضبط هذه المسألة.
قال الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ} [الكهف:83] أي: يا نبينا {سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ} [الكهف:83] أي: من بعضه، فلن أقول لكم كل شيء، سأقول لكم بالقدر الذي ينفعكم وتقام به الحجة عليكم، وإلا فما أصبح قرآناً، وإنما أصبح كتاباً تاريخياً، لكنه قرآن، وهذا فهم يجب أن تستحضره، أن تفرق ما بين من يقرأ التاريخ مستعيناً بالقرآن، ومن يفسر القرآن فيجعله تاريخاً، ويحق لك أن تقرأ التاريخ مستعيناً بالقرآن لكن لا تقول عليه: تفسير، لكن إذا فسرت القرآن لا تجعله تاريخاً، ولهذا صبغة كل فرد تظهر على تفسيره، فمن كان جيداً في الفقه إذا فسر القرآن أدخلك في أقوال الشافعي وأحمد ومالك وأبي حنيفة وغير المتبوعين كـ إبراهيم النخعي والليث بن سعد والطبري وغيرهما، حتى تصبح وكأنك تقرأ في كتاب فقه، أو يأتيك إنسان ويقول: هذه مسألة فرضية، ولها أوجه عند النحويين فكأنك تقرأ في شرح ابن عقيل ولا تقرأ في تفسير.
أو يأتيك إنسان تاريخي فيأتيك بالأمم، دولة بني أمية ودولة بني العباس، والحرب التي حصلت بين آل البيت وخصومهم، وما إلى ذلك، كأنك تقرأ في أحداث تاريخية صدرها الناس، ولا تقرأ في كلام رب العالمين جل جلاله، لكن إذا أردت أن تفسر القرآن فنجعل همنا الأول ما فيه من عظة واعتبار تدلنا على الواحد القهار، وإذا أردت أن أعرف تلك المسائل فأستشهد بالقرآن، فلا ضير، لكن لا أسميه تفسيراً ولا تأويلاً.
نعود فنقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:83]، جعله الله نموذجاً للحاكم الصالح، حتى لا يتعذر أحد أن الحكم لا يقوم إلا على البطش والجبروت، فأتى الله بحاكم صالح ينفذ منهج الله.
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ} [الكهف:84]، والتمكين بمعنى: الاستمرارية، والمعنى: أن ذا القرنين لم يكن يملك خوارق العادات، ولا يملك معجزات، فلو جادلت أحداً من الملوك بصنيع ذي القرنين وقال: هذا أعطاه الله معجزات، فقل: ليست معجزات، الله يقول: {إِنَّا مَكَّنَّا} [الكهف:84] تعني: الاستمرار، فبكونها تعني الاستمرار خرجت عن كونها من خوارق العادات، خرجت من كونها أمراً يفنى مباشرة، يعني: وهلة تظهر ثم تنتهي.
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84]، أي: الأسباب التي يقوم بها حكمه على الوجه الأمثل.
قال الله: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:85]، أي: أخذ بتلك الأسباب، ولا يعقل، فإن السفينة لا تجري على اليبس، والذي يريد أن يبني مجداً يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله جل وعلا، فنحن لسنا أنبياء يوحى إلينا، ولكننا عندما نطلب علماً فإننا نبحث عنه في مواطنه، وفي مظانه، وفي الكتب، ونثني الركب، ونراجع المسائل، ونقوم الليل لكي نستذكره، وكلما وجدنا فرصة بحثنا عن مظان العلم، ولسنا أنبياء يوحى إلينا، مع سؤال الله جل وعلا العون والتوفيق والسداد، فنأخذ بالأسباب، وكذلك سائر الملوك يجب عليهم ذلك.(48/8)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس من أمرنا يسرا)
ثم ذكر الله جل وعلا رحلات هذا الملك الصالح، فقال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} [الكهف:86] أي: جهة الغرب.
قال الله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا} [الكهف:86] أي: وجد الشمس، {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ} [الكهف:86]، فهم بعض الناس، وألفت في هذا كتب أن الشمس تغرب في عين حمئة، وهذا غير صحيح؛ لأن الله يقول: {وَجَدَهَا} [الكهف:86] بحسب نظر ذي القرنين، ليس بحسب غروبها، والإنسان إذا كان في جدة مثلاً وينظر فيرى الشمس تغرب في البحر، وإذا كان في صحراء نجد فسيرى الشمس تغرب في الصحراء، وإذا كان في جبال تهامة والحجاز سيرى الشمس تغرب في الجبال، كلٌ بحسب الموطن الذي هو فيه، حتى إنك في عرفة تراها تغيب في السيارات، من كثرة مد السيارات تراها تغيب وراء السيارات؛ لأن هذا بحسب الرؤية، فهو وجدها تغرب في عين حمئة.
نقول: إن ذا القرنين وصل إلى مكان جهة الغرب فيه عين حمئة، وهذا منتهى ما وصل إليه ذو القرنين من جهة المغرب، ثم إن الشمس تغرب بعد ذلك.
{وَوَجَدَ عِنْدَهَا} [الكهف:86] أي: عند ذلك المكان، {قَوْمًا قُلْنَا} [الكهف:86]، وهذا ظاهر أنه بوحي، فإن قلنا إنه نبي فإن الوحي مباشرة، وإن قلنا: إنه ملك غير نبي فيكون معه نبي، ولا يستبعد أن يكون معه نبي، كما كان مع طالوت نبي، فعن طريق ذلك النبي أخبر ذو القرنين.
{قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86]، وحتى تكون ملكاً لا بد أن يكون لك أثر، وإلا لما صار هذا ملكاً، والعظيم يترك أثراً، لا يمشي على الأمور بالهين، وهذه قد ربما تفهم على غير وجهها، لكن {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:86 - 88]، هذا منتهى العدل وفي نفس الوقت، إن الملك يبقى إذا كان الفاسق والمجرم يخاف من سطوتك، والكريم الفاضل يرجو فضلك، يبقى الملك، تبقى إدارتك، تبقى سياستك، يبقى نفوذك في الأمر إذا كان ذوي الصلاح يؤملون منك، وأهل الفجور يخافون منك.
أما إذا كان أحد من الناس يحكم، فإن الفجار لا يخافونه، ولا الكرام يؤملون فيه، فلن يستمر ملكه؛ لهذا قال العبد الصالح: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} [الكهف:87 - 88]، وهذا يدل على أن الظلم الأول مقصود به الشرك، {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:88].
ومنها يستنبط أن الأصل في الجهاد ليس المقصود به استرقاق الناس، ولا توسيع الرقعة، ولا اتخاذ الأراضي، ولا زيادة السلطان، وهذا كله لم يصنعه ذو القرنين، وإنما المقصود أن يدخل الناس في الدين، فإذا دخلوا في الدين تحققت الغاية من رفع السيف عليهم.(48/9)
تفسير قوله تعالى: (ثم اتبع سبباً بيننا وبينهم سداً)
قال الله جل وعلا: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا} [الكهف:89 - 90] أي: الشمس، فانتقل من المغرب إلى المشرق، قال تعالى: {تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90]، أي: أنهم في فقر شديد، فهم يسكنون بيوتاً وكهوفاً وصخوراً، ولم يذكر الله جل وعلا شيئاً عن أمرهم هذا، قال: {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} [الكهف:91].
ثم قال: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:89]، أي: أخذ بالأسباب ومضى.
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف:93]، ولا ندري أي السدين، ويرجح أنها في أذربيجان جهة الاتحاد السوفيتي، ويقال: غير ذلك، وقلنا: أغفل الله مكانها، لكن السدين هنا هما الجبلان العظيمان.
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف:93]، أي: ضعاف عقول، {قَالُوا} [الكهف:94] أي: هؤلاء {يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ} [الكهف:94]، ونصبت (ذا)؛ لأنها منادى مضاف، وهو من الأسماء الخمسة ينصب بالألف.
{قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} [الكهف:94]، والمشتكي هم هؤلاء القوم الذين نعتهم الله بأنهم لا يكادون يفقهون قولاً، وأنهم قوم بدائيون، وأما يأجوج ومأجوج فقد اختلف الناس فيهم وقالوا كلاماً كثيراً، لكن أظهر الأقوال: أنهم قبيلتان من نسل يافث بن نوح على نوح السلام.
وبعض العلماء يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليهما في رحلة الإسراء والمعراج، حتى تقوم عليهم الحجة، وهذا لا يبعد، لكنه لم يثبت.
قال الله جل وعلا على لسانهم: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا -عطية - عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94]؟ وهذا ملك سياسي دبلوماسي، فكان أولاً متصلاً بالله.(48/10)
تفسير قوله تعالى: (قال ما مكني فيه ربي خير آتوني أفرغ عليه قطراً)
قال تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:95]، فحمد الله على ما أعطاه، ورفض الخراج، وقد كنت أحسب قديماً في أول علم التفسير أنه رفض الخراج؛ لأنه لا يريد أن يأخذ مع استغنائه، لكن الذي بدا شيء آخر، وهو أنه رفض الخراج حتى يستفيد من قوتهم البدنية، والمعنى: أنه لو قبل أن يأخذ الخراج لأوكلوا إليه بناء السد، فكان ذلك أشبه بالعقد بينه وبينهم وهم ينتظرون صنيعه، لكنه علم أنهم قوم لا يكادون يفقهون قولاً، ومن كان قوياً في بدنه، وغير مكتمل في عقله، لا يحسن بك أن تعدم الفائدة منه، فاستخدمه فيما يتفق مع شخصيته، فقال لهم: {قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف:95] أي: بقوة أبدانكم، وما أعطاكم الله من قوة وجلد وحمل أعينوني بها، أما العقول فقد قال الله من قبل: {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف:93]، {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ} [الكهف:95] أي: وبين يأجوج ومأجوج {رَدْمًا} [الكهف:95].
{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:96]، زبر الحديد يعني: قطع الحديد، والزبر في اللغة: الكتابة.
{آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف:96]، الصدفين: الجبلين العظيمين، وهنا فائدة نعرج بها، يقول الناس إذا لقوا أحداً على غير ميعاد: قابلته صدفة، وهذا خطأ، وأنا لا أتكلم عن خطأ شرعي، وإنما خطأ لغوي فمعنى صدف الرجل عن أخيه: أعرض عنه، فالصحيح أن تقول: قابلته مصادفة، يعني: على غير اتفاق، ولا يصح أن تقول صدفة، فصدفة بمعنى: إعراض، تقول: قابلته مصادفة، لا تقل: قابلته صدفة.
قال الله جل وعلا: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف:96]، ذكر الله نفخ النار، وذكر أنهم أفرغوا عليه القطر، والقطر هو النحاس المذاب.
غاية الأمر أنه خطط ونفذ بمعونة أبدانهم، وكمال عقله، واتحاد جيشه على أنه بنى في تلك الفجوة التي ما بين الجبلين العظيمين التي كان من خلالها تأتي قبائل يأجوج ومأجوج سداً منيعاً، مكوناً من نحاس مذاب، ومن حديد ومن صخر.(48/11)
تفسير قوله تعالى: (قال هذا رحمة من ربي)
قال بعد ذلك: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف:98] أي لكم؛ لأن الله جل وعلا بهذا الردم حماكم من أذى يأجوج ومأجوج، {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} [الكهف:98] أي: عند قرب قيام الساعة، وتؤيده آية الأنبياء، {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:97]، وقبلها قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء:96]، {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]، وهذا سيأتي في الدروس القادمة.
ويأجوج ومأجوج قلنا: إنهما قبيلتان من نسل يافث بن نوح، قال عليه الصلاة والسلام: (ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بين أصبعيه الإبهام والسبابة) صلوات الله وسلامه عليه، وهم أمة من الأمم، الله أعلم بعددهم، ليس لأحد بهم قدرة، وعند خروجهم يشرب أولهم بحيرة طبرية فلا يبقي لآخرهم شيئاً، فيأتي آخرهم فيقول: كان هنا ماء، يرمون النشاب إلى السماء، فيرد الله رأس الرمح أحمر، فيقول: بعضهم لبعض غلبنا أهل الأرض، وقهرنا أهل السماء، وهم فتنة من أعظم الفتن، ويفر عيسى والمؤمنون الذين معه إلى جبل الطور فيدعو عليهم، فيصيبهم النغف في رقابهم، يموتون موتة رجل واحد، ثم تأتي طيور تحملهم، ثم ينزل الله مطراً ليس لأهل زرع ولا ضرع، يغسل الله من نتنهم، ثم إن المؤمنين الذي ينزلون مع عيسى يشبون ويوقدون النار، من قسي يأجوج ومأجوج سنين طويلة، مما يدل على أنهم تركوا أسلحة كثيرة، وهذا يدل على كثرتهم.
هذا ما يمكن أن يقال عن يأجوج ومأجوج، ويمكن أن يقال عن هذه الآيات المباركات التي شرعنا فيها بيان قصة كليم الله موسى مع العبد الصالح الخضر، ثم ذكرنا إجمالاً نبأ الملك الصالح ذي القرنين، وما مكن الله جل وعلا له في الأرض، وأن الأصل في جهاد المسلمين والغاية الكبرى أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده حول هذه السورة الكريمة، بقي لنا إن شاء الله تعالى في اللقاء القادم، سنختم بقول الله تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]، وندخل على قول الله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف:99]، ثم نذكر أهل الجنة ومآلها، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107]، ثم نذكر -إن شاء الله تعالى- في اللقاء القادم الفرق ما بين كلام الله وكلام المخلوقين، ثم نذكر خاتمة الصورة، وأن الوحي أعظم خصائص الأنبياء التي أعطاهم الله جل وعلا إياها، إذ قال جل شأنه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، هذا كله موضوع الحلقة أو اللقاء القادم إن شاء الله تعالى.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يلبسنا وإياكم لباسي العافية والتقوى.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(48/12)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة الكهف [99 - 110]
ذكر الله عز وجل في آخر سورة الكهف أولئك الذين يعملون أعمالاً يحسبون أنهم يحسنون صنيعها، فيتفاجئون بأنها هباء منثوراً؛ وذلك بسبب إعراضهم عن سبيل الله، ثم ذكر تبارك وتعالى على سبيل الإيجاز ما أعده لعباده المؤمنين، ثم بين أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يواكب المخلوق شيئاً من صفات الخالق، وذكر صفة الكلام.(49/1)
تفسير قوله تعالى: (قال هذا رحمة من ربي)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: سنعرض في هذا اللقاء المبارك إلى ما بقي لنا من آيات من سورة الكهف من قوله جل شأنه: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98] إلى آخر السورة المباركة وهي قول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
وسورة الكهف قد مضى الحديث عنها في اللقاءات السابقة تفصيلاً وانتهينا إلى خبر الملك الصالح ذي القرنين، وقلنا فيما سلف: إن العلماء اختلفوا فيه: هل هو نبي أم غير نبي؟ ورجحنا التوقف في المسألة؛ لما ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا؟)، وما دام رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه توقف في أمر ذي القرنين فحق على حملة العلم من بعده أن يتوقفوا، وإن كنا نقول: إن ظاهر القرآن يدل على أنه نبي.
وهذا الملك الصالح بنى سداً سمي في القرآن ردماً، والطلب التي تقدمت به تلك القبائل عبروا عنه سداً لكنه عبر عنه بالردم، وهذا الردم كانت الغاية منه أن يصد دخول قبائل يأجوج ومأجوج من الإفساد في الأرض، فاستعان ذو القرنين بعتاد أولئك القوم بأن يعينوه ورتب بناء ذلك الردم وسد تلك الفجوة ثم بعد أن فرغ منها وانقطع الشر وسد البأس قال لهم: {هَذَا} [الكهف:98] أي: الذي بنيته ويشير إلى الردم {رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف:98]، ووصفه بأنه رحمة؛ لأن الله جل وعلا منع به الأذى، والرحمة كلمة واسعة وهي: كل ما كان سبباً في حصول مرغوب أو دفع مرهوب.
{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف:98] وهذا من أدب ذي القرنين مع ربه أنه نسب هذا الأمر إلى الله ولم يشر إلى ذاته أو إلى نفسه طرفة عين.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} [الكهف:98] والمقصود بوعد الله هنا: قرب قيام الساعة، ويؤيده قول الله جل وعلا في الأنبياء: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء:96 - 97]، فرتب الله جل وعلا اقتراب الوعد الحق على خروج قبائل يأجوج ومأجوج، وأن خروجهم من أعظم أمارات الساعة وأشراطها كما مر معنا في أخبار عديدة، وسيأتي تفصيلاً في موضعه ومنهجنا في التفصيل أننا لا نستطرد كثيراً في خبر نعلم أنه سيأتي الحديث عنه في حينه.
{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف:98] وهذا يحتمل أمرين: إما أن يدك على يد يأجوج ومأجوج عندما يحفروه وهذا الذي نميل إليه.
وإما قصد ما يحدث في الأرض من تغير معالمها عند قيام الساعة، والأول أقرب، قال صلى الله عليه وسلم وقد نام عند زينب بنت جحش قال: (ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج)، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (ويل للعرب من شر قد اقترب) أراد الأمة كلها عرباً وعجماً؛ أراد من كان على الإسلام، لكن الحديث فيه دلالة ظاهرة صريحة على أن العرب هم مادة أهل الإسلام، وهذا النوع من الافتخار لا ينافي ما جاء في الشرع من النهي عن الفخر؛ لأن الإنسان إذا تكلم عن مادة الأشياء فإنما يضع الأمور في مواضعها الصحيحة، وعليه يقاس قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين: (أنا النبي لا كذب) ثم قال مفتخراً: (أنا ابن عبد المطلب)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أنا ابن عبد المطلب) لا يلزم منه التعالي على غيره وإنما الإخبار بأصل مادته صلوات الله وسلامه عليه، فهذا إن شاء الله من جنسه.
{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98] (حقاً) نصبت؛ لأنها خبر لكان، أي: أنه لا ارتياب ولا شك في أن وعد الله الذي أخبر عنه سيأتي؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يرد ما قضى الله جل وعلا وقدر أن يكون.(49/2)
تفسير قوله تعالى: (وتركنا بعضهم يومئذ يموج)
قال الله جل وعلا بعدها: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف:99] ذهب بعض المفسرين أو أكثر المفسرين على أن المقصود: الناس جميعاً في قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف:99]، لكننا نقول -والعلم عند الله-: إننا نرى أن هذا مخالفاً للصواب؛ لأن كلمة (يومئذٍ) عائدة لقول ذي القرنين: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} [الكهف:98] عائدة عليها، يعني: يومئذ عائدة لليوم الذي يجعل فيه ذلك الردم دكاء، وليست عائدة لقيام الساعة وحشر العباد، والدليل على أنها ليست عائدة على قيام الساعة وحشر العباد أن الله قال بعدها: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف:99]، والواو تقتضي الترتيب وهي عاطفة والعطف يقتضي المغايرة بصورة أولية، فلا يمكن أن يكون المعنى شيئاً واحداً.
لكننا نقول: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ} [الكهف:99] المقصود: قبائل يأجوج ومأجوج، {يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف:99] أي: من كثرتهم يموج بعضهم في بعض، والموج الاختلاط بين الأشياء، والاضطراب يكون على غير نظام، ويؤيد هذا ما ورد في الأحاديث الصحيحة في خبر يأجوج ومأجوج أن أولهم يشرب بحيرة طبريا فيأتي آخرهم فيقول: قد كان ها هنا ماء، ولكثرتهم يموج بعضهم في بعض، فليس المقصود الناس جميعاً وإن قال: ذلك أفاضل من العلماء.
ثم قال الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف:99] على كثرة ما ورد في القرآن من ذكر النفخ في الصور إلا أن الله جل وعلا لم يذكر في القرآن قط اسم الملك الذي سينفخ في الصور، فكلها جاءت بالبناء للمجهول لكنه اشتهر بين العلماء بدلالة السنة من وجه أو آخر على أن الذي ينفخ في الصور هو الملك إسرافيل عليه السلام، والمستقر عند العلماء أن رءوساء الملائكة أربعة منهم: إسرافيل عليه السلام، وأنه قد التقم الصور، يعني: ينتظر متى يؤمر بالنفخ فينفخ، كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح.
قال الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف:99] وهذه يقيناً أنها النفخة الثانية؛ لأن النفخة الأولى ليس بعدها جمع وإنما يكون بعدها الصعق ثم يكون بعدها أربعون الله أعلم إن كانت أياماً أو سنيناً أو شهراً، ثم يكون بعد ذلك بعث الخلائق من جديد.
قال الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف:99] وهذه تعود على الجميع؛ على كل من خلقه الله، فإنه يجمع يوم القيامة.(49/3)
تفسير قوله تعالى: (وعرضنا جهنم يومئذٍ لا يستطيعون سمعاً)
ثم ذكر الله جل وعلا بعضاً من مراتب أهوال اليوم الآخر فقال جل شأنه: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف:100] اللام هنا للكافرين، بمعنى على، وهو استخدام عربي معروف دل عليه ما ورد من آيات أخر مثل قول الله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46]، فاللام هنا بمعنى: على أي: عرضنا جهنم على الكافرين، كما أن الكافرين يعرضون على النار، فكل من جهنم وكل من الكافرين يعرض أحدهما على الآخر نكاية بهم، الله يقول: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج:72]، والوعد لا يكون إلا في الخير لكن المخاطب ليس الكفار فلم يقل الله: وعدت الذين كفروا النار، ولا قال: وعدت النار الذين كفروا، وإنما قال الله: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج:72] وإلا فإن الوعد يستخدم للخير في الأصل.
نعود فنقول: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف:100] وهذه أول مراحل العذاب، واللام هنا بمعنى على وهو استخدام عربي معروف وقد جاء في بيت شعر عربي عجزه: فخر صريعاً لليدين وللفم والمعنى خر صريعاً على يديه وعلى فمه، فعبر باللام نيابة عن: حرف الجر على.
قال الله جل ذكره: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف:100] وهؤلاء هم الكافرون {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:101]، ومعلوم لكل أحد أن هؤلاء الكافرين المخاطبين في الآيات القرآنية كانوا يسمعون وكانوا يبصرون لكنهم لم يكونوا ينتفعون بأبصارهم ولم ينتفعوا بأسماعهم كما قال الله: {أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179].
وقد تقرر عقلاً أن الجارحة إذا لم تفد صاحبها فهي كالعدم، فمن كانت له قدمان لا يستطيع أن يمشي عليهما فكأنه ليس له قدمان، ومن كانت له أعين لا يرى فيها بعين بصيرته مخلوقات الله جل وعلا ويستدل بها على عظمة ربه ووحدانيته في المقام الأول فهو كمن ليس له عين أصلاً، ومن كانت له أذن وهو لا يعتبر بالقرآن ولا يتدبره ولا يتذكره ولا يسمعه ولا ينتفع بما يسمع من المواعظ والأحاديث والذكر فكأنه لا سمع له أصلاً، وسنقرر هنا مسألة إيمانية عظيمة وهي من فرائد ما ينقل، ونقول من الآية ومن غيرها: وهذه حري بها أن تفهم ويعمل بها: أن الله جل وعلا حجب عنا جميعاً في الدنيا ذاته العلية، ومكننا من رؤية مخلوقاته، فالله لا يرى في الدنيا، ومكننا جل وعلا من رؤية مخلوقاته، فمن رأى تلك المخلوقات بعين البصيرة واستدل بها على ربه جل وعلا وعرف الله من خلالها ووحده وعظمه وأجله فإنه يرى ربه في الآخرة بعينه الباصرة، ومن لم تدله بصيرته على عظمة الله ووحدانيته وجلالة خلقه جل وعلا وقدرته على الخلق بعين بصيرته فإنه يحرم يوم القيامة لذة النظر إلى وجه الله بعينه الباصرة، قال الله جل وعلا عن أهل النار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، وقد قدمنا مراراً في دروس عدة أنه لا عذاب أشد وأنكى من أن يحرم أهل النار من رؤية وجه الواحد القهار، ولا عطية لأهل الجنة أعظم من أنهم يرون وجه العلي الأعلى جل جلاله، قال الرب تبارك وتعالى ممتناً عليهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] من النضرة بسبب أنها {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]؛ لأنها تبصر وترى وجه ربها العلي الأعلى.
على هذا يفهم أن السمع والبصر من الجوارح التي من الله جل وعلا بها على خلقه، من استعملها استعمالاً صحيحاً دلته على الله قد انتفع بها، أما من كتب الله عليه الشقاوة وجعل على بصره غشاوة، وختم الله من قبل على قلبه وسمعه فهذا كمن لا سمع له ولا بصر ولا قلب، قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:101].(49/4)
تفسير قوله تعالى: (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا)
ثم قال جل شأنه: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف:102]، والهمزة هنا: همزة استفهام، والمقصود من هذا الاستفهام: التوبيخ، والمعنى العام: أفيحسب أولئك الذين عبدوا ما عبدوا من دون الله من ملائكة وأنبياء وأقوام صالحين، وجعلوهم أولياء من دون الله يعبدونهم ويعظمونهم ويصرفون لهم من الطاعات ما لا يجب ولا يجوز شرعاً صرفه إلا لله فصرفوه للأولياء، أيحسب بعد ذلك كله -والجواب محذوف- أنهم ناجون من العذاب وأنهم يتركوا، هذا لا يمكن أن يكون.
وجاء في الحديث الصحيح قال: (قال: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وقد خلقك) والملائكة والأنبياء الذين عبدوهم يتبرءون من أولئك الذين عبدوهم من دون الله، لكن الملائكة والأنبياء الذين عبدوا من دون الله لا يسمون طواغيت وهذا احتراز لا بد منه، وإنما يسمى طاغوت من رضي بتلك العبادة، ومن صرفت له طاعة وعبادة ورضي بها أو أمر بها، أما من لم يرض بها ولم يأمر بها أصلاً كما صنعت الملائكة وعيسى بن مريم وغيرهم ممن عبد من عبد من دون الله من الصالحين فلا يسمون طواغيتاً، وإنما الجرم كل الجرم على من جعلهم أولياء من دون الله.
{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف:102]، النزل: أول ما يقدم للضيف كالقهوة التي تقدم للضيف في عصرنا هذا، لكن القهوة شراب، وأحياناً تكون طعاماً كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أول نزل أهل الجنة زيادة كبد النون) أي: زيادة كبد الحوت، ولا تكون مكاناً في الأصل لكن الله قال هنا: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف:102] فكأن جهنم هي أول ما يقدم للضيف، والحق أنني أقول: إن هذه الآية مر عليها المفسرون مروراً عادياً ولا يرون فيها إشكالاً، لكن نقول والعلم عند الله: إن هذه الآية مشكلة وكثير من آيات القرآن التي فيها جهنم فيها إشكال كبير ينتبه له أو لا ينتبه له، لكنني في صدد فهم نظريتها كاملة وقد وصلت إلى أكثرها لكنها لم تكتمل بعد، وسبب الإشكال أن الله يقول مثلاً في سورة تبارك: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5]، ثم قال: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [الملك:6]، فكأن جهنم غير السعير، وقال الله في البروج -وكنت أتحاشى تفسيرها-: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10]، فكأن عذاب جهنم غير عذاب الحريق، وقد يقول إنسان: إنها دركات، وهذا لا يعقل هنا؛ لأن المخاطب بها فئة واحدة والفئة الواحدة لا تنقسم، لكنني لست في عجلة في إظهار ما توصلنا إليه لكن نجعل هذه الآية أو فهمها معلقاً حتى حين، وكذلك الفردوس في القرآن تحتاج إلى إعادة نظر.
نقول: إن الله يقول هنا: {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف:102]، وبينا أن النزل الذي عليه عامة أهل التفسير أنه أول ما يقدم لهم من مكان في النار؛ لأن النزل في اللغة هو أول ما يقدم للضيف.(49/5)
تفسير قوله تعالى: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً يوم القيامة وزناً)
نعود فنقول: قال الله جل وعلا بعدها: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:103 - 105] ثمة معانٍ جليلة تتضمنها هذه الآيات، أولها: أنه لا يمكن أن يقال: إن المخاطب بها فئة بعينها، وإنما المخاطب كل من صنع صنيعاً يعتقد أنه حسن وأنه ناجٍ بذلك العمل وذلك العمل لا يدل الشرع عليه يدخل في هذه الآية بقليل أو بكثير بنسب متفاوتة، كل من صنع صنيعاً ويعتقد أنه أحسن بذلك العمل وأنه ناجٍ يدخل في هذه الآية: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:103 - 104]، قوله: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [الكهف:104] بمعنى: اضمحل ولم ينجم عنه فائدة، وهم يحسبون ويعتقدون مع هذا الاضمحلال وهذا الضلال أنهم يحسنون صنعاً ويتقنون أمراً.
قال الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف:105] هذا الاحتراز في أن الآيات لا تطلق إطلاقاً عاماً إلا على أهل الكفر لكنها تطلق من وجه نسبي على غيرهم لا من وجه عام كما قيل لـ عبد الله بن مسعود في قضية الميراث لما مات رجل عن زوجته قبل الدخول فأفتى فيها بعض الصحابة وقال: ائتوا ابن مسعود فسيوافقني، فلما أخبر ابن مسعود قال: قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، ثم قال بفتوى أخرى وافقت فتوى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك قبل أن يعرف، المقصود قول ابن مسعود: قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، والآية ليست في بابها لكنه أخذ جزئية منها، فالتشبه هنا ليس بكامل الوجوه وعليه يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر)، فالمقصود: جزء من التشبيه وهو إمكانية الرؤية، وليس المقصود تشبيه الله بخلق من مخلوقاته، فهذه مثلها، وعلى هذا -وهذا تأصيل علمي- يحمل في الأخذ الجزئي من الآية قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه خال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتل عثمان وأن الذين قتلوه زعموا أنهم بقتلهم له يتقربون إلى الله، وهؤلاء يدخلون في الأخسرين أعمالاً، فتلا الآية؛ لما قيل له: إن قتلة عثمان صنعوا وصنعوا وصنعوا تلا الآية: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] لكن الآية آخرها لا ينطبق عليهم؛ لأن الله قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف:105]، وهؤلاء الذين قتلوا عثمان يؤمنون بلقاء الله، بل إنهم قتلوه في زعمهم تقرباً إلى الله، وهذا يهمنا جداً في أن نفهم أن الإنسان أحياناً تختلط عليه الأمور وتتزاحم عليه الشبهات إذا قبل أن يسمع من كل أحد، وإن لم يكن مؤصلاً علمياً يملأ بغير شيء صحيح.
ذكر الإمام البخاري رحمه الله في تاريخه سنداً عن غالب قال: حدثنا غالب وفي هذا السند عن محمد بن سيرين، ومحمد بن سيرين يقول في هذه الرواية: إنه وقف عند الكعبة فسمع رجلاً يدعو يقول: اللهم اغفر لي وإن كنت أظن أنك لن تغفر لي، فقال له محمد بن سيرين: يا هذا! ما سمعت أحداً يدعو بمثل دعائك، فقال: إنك لا تدري إنني كنت قد أعطيت الله عهداً أن ألطم عثمان على وجهه متى قابلته، فقتل عثمان قبل أن ألطمه، فلما وضع عثمان في داره ليصلى عليه دخلت في جملة من يصلي حتى وجدت خلوة فكشفت عن وجهه ولحيته ولطمته، ثم رفعت يميني فإذا هي يابسة.
قال ابن سيرين رحمه الله في الرواية: فأنا رأيت يمينه يابسة كأنها عود.
ووجه الدلالة الآن هنا: أن هذا يعطي الله عهداً يعني يعرف أن هناك رباً ويعطيه عهداً ويريد أن يحافظ على العهد الذي أعطاه الله وعثمان رضي الله عنه لم يأخذ من هذا الرجل ديناراً ولا درهماً ولم يسفك له دماً ولم يهتك له عرضاً، وربما أنه لم يقابله طول حياته، لكن هذا الرجل كان يسمع ويقبل أن يسمع ممن يطعن في عثمان وليس المجنون الذي فقد عقله؛ لأنه لا يلام، إنما المجنون من يعطي غيره عقله ليقوده، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عثمان في الجنة)، (أشد أمتي حياءً عثمان)، (ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم) إلى غير ذلك من المناقب، فيجعل هذه الآثار كلها وراء ظهره ثم يسمع قول رجل من عامة الناس في قلبه حقد وحسد على عثمان فيصدقه ويصل به الأمر إلى أن يقطع العهود والمواثيق على قتل عثمان، فهذا أول ما تتضمنه الآية في أنها ليس مخصوصاً به أحد، فاليهود والنصارى وسائر من زعم أنه بفعله يتقرب إلى الله كقول القرشيين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يدخلون في هذه الآية، لكن أولئك الذين عبدوا عيسى أو عبدوا عزيراً أو عبدوا أصناماً يدخلون بها من كل وجه ويدخل بها غيرهم إذا كان غير ذلك بحسب قوله في المسألة.
ثم قال الله: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] وهذه الآية أشكلت على المفسرين، وقال بعض أهل الفضل ممن يشار إليهم بالبنان قولاً تعجب منه، قال بعضهم: إن معنى قول الله: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] أنه لا يوزن لهم عمل، وحجة هؤلاء الفضلاء في قولهم هذا: أن الميزان يقوم على كفتين حسنات وسيئات، فالكفار لا حسنات لهم وبالتالي لا ميزان لهم، والآية يقولون: دليل على ما نقول؛ لأنه لا ميزان إلا لشيء مقابل شيء، وأهل الكفر نحن مجمعون على أنه لا حسنات لهم، فما دام لا حسنات لهم فكيف يكون لهم ميزان، فالآية ليست مجازية وإنما صريحة في أن الله جل وعلا لا يقيم لهم وزناً يوم القيامة.
وهذا القول قاله الثعالبي واختاره ابن سعدي وقاله كثير من المفسرين، لكن لو قدر أن هؤلاء تأنوا في أن الله يقول في سورة المؤمنون: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:102 - 110] فكل هذه الآيات تدل على أنهم كفار ومع ذلك أثبت الله لهم أنهم توزن أعمالهم؛ لأن الله قال: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:103] والله شهد لهم بالكفر؛ لأن العصاة من أهل الإيمان لا يقال لهم: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] وإنما يخاطب بهذا من كتب الله عليه الخلود في النار، فهم كفار ومع ذلك نسب الله إليهم صراحة أنهم توزن أعمالهم فقال: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:102] في حق أهل الإيمان، وقال: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:103] في حق أهل الكفر.
فلا معنى أبداً لقول: إن أهل الكفر لا ميزان لهم.
ومن الأدلة العقلية فضلاً عن هذا الدليل النقلي الظاهر: أن الميزان أكثر ما ذكر في الصور المكية والصور المكية مخاطب بها كفار قريش قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8] في الأعراف، وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]، وهذه الآية التي بين أيدينا في الكهف وهي مكية وكلها سور مكية، ولم يكن الحديث عن أهل الإيمان في كيفية حسابهم إنما كان في أهل الإيمان وأنهم يحاسبون على الجملة، يكلم عنهم على أنهم فرقة مؤمنة وفرقة كافرة.
ثم نعود فنقول: اختلف الناس في من الذي يوزن؟ وهذا مر معنا وإنما نعيده إجمالاً، قيل: يوزن العمل ودليل هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان)، وهذا صريح في أن العمل يوزن، وقيل: يوزن العمل، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان)، وقيل: توزن صحائف الأعمال أي: أن الأعمال تكتب في صحائف فتوزن، ودليلهم حديث البطاقة المعروف، وقال آخرون: بل يوزن صاحب العمل ودليلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم في منقبة عبد الله بن مسعود: (أتعجبون من دقة رجليه؟ إنهما في الميزان لأثقل من جبل أحد)(49/6)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يبغون عنها حولاً)
ثم قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:107 - 108].
أعلق الحديث عنها، فلنا رأي في الفردوس إلى الآن لم يكتمل، لكن على ما قال المفسرون الآية ظاهرة، وهي أن الإيمان والعمل الصالح سبب في دخول جنات الفردوس، والفردوس جاء في الآية مطلقاً وفي الحديث جاء مقيداً ففي بعض الروايات أن الفردوس الأعلى من الجنة، والفردوس الأعلى من الجنة وهي وسط الجنة وأعلاها فيها في وقت واحد وأظن إني شرحته قبل بمعنى أنه كالقبة فالقبة تأتي في الوسط وهي في نفس الوقت أعلى مكان في السقف.
{خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا} [الكهف:108] أي: عن جنات الفردوس، {حِوَلًا} [الكهف:108] وهذا تكلمنا عنه كثيراً لكنني أقول: ما زلت متوقفاً في معنى الآية، من أسباب التوقف أن الله لم يقل: خالدين فيها أبداً قال: {خَالِدِينَ فِيهَا} [الكهف:108]، وتأتي في جهنم كذلك من أسباب التوقف أن الله قال في آخر البينة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [البينة:6] ولم يقل: أبداً، {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6]، وقال بعدها: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [البينة:7 - 8] ما عبر بالفردوس هنا وإنما عبر بالجنات، فإذا عبر بالجنات يقول: أبداً، وإذا عبر بالفردوس يقول: خالدين فيها، وإذا عبر بالنار يقول: خالدين فيها أبداً، وإذا عبر بجهنم لا يقول: خالدين فيها أبداً، قال الله مثلاً: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] ولم يقل: أبداً، {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] وبالعقل: هو الآن يقول: في جهنم، ثم يقول: {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] أي: غير جهنم، لكن كما قلت: النظرية لم تكتمل بعد، وهذه إشكالات نسأل الله التوفيق في حلها.
نقول: وصفهم الله -أي: أهل الجنة- بأنهم {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:108] أي: لا يريدون عنها خروجاً وهذا من حقهم بلا شك جعلنا الله وإياكم من أهلها، فالجنة أعلى المنازل وأرفع الدرجات وأعز الأماني لبنة من ذهب ولبنة من فضة حصباؤها اللؤلؤ والياقوت، من يدخلها ينعم فلا يبأس، ويخلد فلا يموت، لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم، جعلنا الله وإياكم من أهلها.(49/7)
تفسير قوله تعالى: (قل لو كان البحر مداداً)
ثم قال الله جل وعلا: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]، في القرآن فعلان: نفذ بالذال ونفد بالدال، فنفد بالدال بمعنى: انتهى، ونفد بالذال بمعنى: اخترق وعبر ولم تأت إلا مرة في سورة الرحمن في قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] فتكررت ثلاث مرات في آية واحدة في سورة واحدة هي سورة الرحمن.
أما الآية التي بين أيدينا فإنها تتكلم عن النفاد وهو الانتهاء، قال الله في النحل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ} [النحل:96] يعني: ينتهي، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].
على هذا نقول: إن الآية المقصود بها بيان الفرق، ومعناها عموماً أن هذا البحر لو كان مداداً حبراً، ولو أن الأشجار بريت فأضحت أقلاماً كما دلت عليها آية لقمان: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] لأن المداد من بحر أو من غيره والأقلام من شجر أو من غيرها هذه مخلوقات، والمخلوقات لها منتهى، وأما كلمات الله فهي صفة من صفاته لا منتهى لها، فالله جل وعلا يتكلم متى شاء بما شاء إذا شاء، وعلى هذا لا يمكن أن يواكب غير المخلوق المخلوق فيما يتعلق بالله من صفاته التي لا تنفك عنه، {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]، (مثله) يعني: من جنس البحر.(49/8)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم)
ثم قال الله جل وعلا في خاتمة السورة: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] كان القرشيون يعيرون النبي صلى الله عليه وسلم أنه بشر، وقد مر معنا أن هذا الرد الذي قاله كفار قريش أمراً تكرر عند الأمم كلها فكل الأمم اعترضت على كون أنبيائها بشر.
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] لكن الله خصني بخصيصة أنه {يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110] ومن هنا تعلم أن وحي الله إلى أنبيائه أعظم خصائص الأنبياء، ثم إن الأنبياء يشتركون بعد ذلك في خصائص لهم دون غيرهم، وخصائص شاركهم بعض الناس فيها واتفقوا عليهم السلام جميعاً فيها.(49/9)
بعض خصائص الأنبياء
جملة فإنه يقال: الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً، الرسل منهم ثلاثمائة وأربعة عشر، وأولو العزم منهم خمسة، والمذكورون في القرآن المتفق على نبوتهم خمسة وعشرون، والوحي ينزل على كل الأنبياء وهو أعظم خصائصهم، وبه يفرق ما بين النبي المؤيد بالوحي وما بين المصلحين في الأرض من الساسة والقادة والمفكرين فإنهم يخطئون ويصيبون؛ لأنهم غير معصومين، أما الأنبياء فإنهم معصومون؛ لأنهم يأخذون علمهم عن الله، والوحي هو أول خصائص الأنبياء.
الأمر الثاني: أنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
الأمر الثالث: أنهم يخيرون عند الموت.
الأمر الرابع: أنهم يدفنون في البقعة التي ماتوا فيها.
والأمر الخامس: أن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم.
سئل صلى الله عليه وسلم: (كيف نصلي عليك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، فلو خرجت من مجتمعنا العلمي هذا وسألك سائل: كيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض) والأرض غير مكلفة فكيف يقع عليها التحريم؟ يكون جوابك -ولا حاجة إلى أن أستفهم منك- أن تقول: هذا تحريم منع أو تحريم شرع؟ فهو تحريم منع لا تحريم شرع، ونظيره في القرآن قول الله جل وعلا: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12] تحريم منع ليس تحريم شرع؛ لأن موسى عليه السلام المخاطب بهذه الآية كان صبياً صغيراً رضيعاً لا يجري عليه قلم التكليف، لكن المعنى أننا منعناه من أن يقبل ثدي المرضعات، فالتحريم تحريم منع، أما التحريم الذي عليه قلم التكليف فهذا يسمى تحريم شرع، والأصل أن الأرض تأكل أجساد الناس إذا ماتوا، لكن الله جل وعلا منعها وهذا تحريم المنع من أن تأكل أجساد الأنبياء إكراماً جل وعلا لأنبيائه ورسله، هذه خصائص الأنبياء فقط، ثمة خصيصة تجمعهم لكن يمكن أن يشاركهم فيها غيرهم وهي رعي الغنم، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح قال: (وهل من نبي إلا رعاها)، والمعنى: أن جميع الأنبياء رعوا الغنم، لكن لا يمنع أن يرعى الغنم غير الأنبياء فقد وقع هذا من كثير من الناس من الصالحين وغير الصالحين ورعوا الغنم لكن الأنبياء يعلمهم الله جل وعلا برعي الغنم كيف يكونون بعد ذلك ساسة للأمم.
نعود إلى قولنا: إنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فهذا لا يعرف كيفيته، لكن المقصود: أن قلوبهم حية معمورة بذكر الله جل وعلا، وأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عمرت قلوبهم بذكر ربهم تبارك وتعالى ومحبته وجلاله ومن جميل ما قيل مأخوذ من هذا الأثر: لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينم الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم صلوات الله وسلامه عليه، والأبيات فيما أحفظ لأخينا الدكتور ناصر الزهراني وهي من جميل الشعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها بيت فرد بعد ذلك في نفس القصيدة: يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدم صلوات الله وسلامه عليه.
نعود للآية: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110] وهذا ما تقرر عقلاً ونقلاً وشرعاً وطبعاً أن الرسل ما جاءت إلا بالتوحيد، وقد قلنا مراراً: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقولون في الروايات: إنه لما صلى بالأنبياء والمرسلين في المسجد الأقصى التفت فإذا مشيخة الأنبياء وراءه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وذريتهم فقال: (إن الله قد أمرني أن أسألكم: هل أمركم الله أن تدعوا إلى عبادة غيره؟ قالوا: لا) قال العلماء: هذا هو تفسير قول الله في الزخرف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45].
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف:110] يدخل في رجاء لقاء الله ثلاثة أمور عندنا، وواحدة أو اثنتين عند المعتزلة، وعندما نقول: عندنا فإننا نقصد أهل السنة جعلنا الله وإياكم من سبيلهم، فالمعتزلة يقولون: فمن كان يرجو لقاء الله يعني: يرجو ثواب الله ويكتفون بهذا.
وأهل اللغة يقولون: إن الرجاء يستخدم في المرغوب والمرهوب، فيما تطلبه وفيما تفر منه، والمعنى عندنا أن يرجو لقاء الله أي: أن المؤمن يرجو ثلاثة أمور: لقاء الله بمعنى: رؤيته، أي: يرجو رؤية الله بعمله، ويرجو ثواب الله بعمله، ويخشى عقاب الله بعمله، فأنت تصلي وتقرأ القرآن وتصوم يوم الإثنين وتسبح وتقوم الليل وتتصدق من أجل أمور ثلاثة لهذا العمل: لعل الله أن يثيبك؛ لعل الله أن يؤمنك من العقاب؛ لعل هذا العمل الصالح يكون سبباً في رؤية الله جل وعلا، هذا معنى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف:110] وإنما حصرها المعتزلة في قضية حصول الثواب وبعد العقاب؛ لأن مذهبهم قائم على أنهم ينفون رؤية الله جل وعلا، وقد مر معنا ما يسمى بلن الزمخشرية فإنهم يقولون: (لن تراني) بمعنى النفي المؤبد للرؤية.
نعود فنقول: إن الله جل وعلا يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
الله جل وعلا لا يعبد إلا هو، ولا يعبد بما شرع وهذه من أعظم قواعد الدين: أن الله لا يعبد إلا هو، وقد أمر ألا يعبد إلا هو، ولا يعبد جل وعلا إلا بما شرع قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، على هذا فقول الله جل وعلا: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] الأصل أن العلماء يقولون: إن العمل الصالح لا بد فيه من شرطين: إخلاص العبادة، والأمر الثاني: موافقة العمل لهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا حق لكن العمل الصالح في هذه الآية يراد به ما كان موافقاً لهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، أما الإخلاص فقد دل عليه الجزء من الآية الذي بعده وهو قوله جل وعلا: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، ولا يمنع أن يكون المقصود بالعمل الصالح الأول وتكون جملة أو جزء آية: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] تأكيداً لمسألة الإخلاص وهو أقرب، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وكلمة {أَحَدًا} [الكهف:110] نكرة وجاءت في سياق نفي، والمعنى: أن الله جل وعلا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن أشرك مع الله غيره أوكله الله جل وعلا إلى ما أشرك به، ولا يعبد الله جل وعلا بأعظم من إخلاص العبادة له، والإنسان قد ينال بنيته ما لا ينال بعمله، وكلما عظمت المعرفة والعلم بالله جل وعلا ركزت المحبة في القلب، وإذا ركزت المحبة في القلب لله جل شأنه نجم عن ذلك من الأعمال ما يقرب إلى الله جل وعلا، وأرفع الدرجات لا يناله المرء إلا إذا أقام نفسه على عتبة العبودية للرب تبارك وتعالى، وعتبة العبودية تستلزم ألا يكون في القلب أحد غير الله إلا أحداً نحبه أو نواليه في محبتنا وموالاتنا لربنا تبارك وتعالى، هذا جملة ما أخبر الله جل وعلا عنه في هذه السورة المباركة.(49/10)
جملة ما ذكر في سورة الكهف
جملة نقول في كل ما مر معنا: إن سورة الكهف سورة مكية من التلاد الأول أي بمعنى: أنها من أوائل ما أنزل كما عبر عنها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وقراءتها يوم الجمعة سنة تضيء لصاحبها نوراً، وهذه السورة ضمنها الله جل وعلا أجوبة على سؤالين سألهما القرشيون بناء على مشورة اليهود، الأول منهما عن فتية ضاعوا في غابر الأزمان، وهم الذين سميت السورة باسمهم.
والأمر الثاني: عن ملك طواف وهو ذو القرنين.
وبقي لهم سؤال ثالث كانت الإجابة عنه في سورة الإسراء قال الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85].
وقد ذكر الله جل وعلا في هذه السورة خبر نبيه موسى بن عمران عليه السلام لكنه ما كان في سورة الكهف ما جرت العادة في ذكره من نبأ موسى مع فرعون وإنما ذكر الله جل وعلا خبر موسى مع العبد الصالح الخضر، وخبر موسى مع العبد الصالح الخضر لم يتكرر في القرآن ولم يذكر إلا في موطن واحد وهو سورة الكهف، وكذلك خبر ذي القرنين، فإنه لم يذكر إلا في سورة الكهف، أما خبر يأجوج ومأجوج فقد ذكر في سورة الكهف وذكر في سورة الأنبياء؛ لأن الحديث عن أشراط الساعة حديث متكرر في القرآن فبديهي أن ينتقل من موضع إلى موضع ومن سورة إلى سورة.
ثم ذكر الله جل وعلا في هذا الخطاب المكي في أصله الذي يخاطب به القرشيين، فخاطب الله جل وعلا أولئك الذين يتعلقون بغير ما أمر الله أن يتعلق به: بالأنبياء والملائكة وغيرهم، وأخبر الله جل وعلا أنهم خسروا أعمالهم، وإن كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وهذا يقودنا إلى التفريق أن الناس في المعصية قسمان: قسم يرى أنه مفلح وهذا ضربنا له أمثال، وقسم يعلم يقيناً أنه غير مفلح وهذا نحتاج إلى ضرب أمثال له؛ لأن أكثر الناس عليه.
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان الله على قوله، ووفق للحديث عنه.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(49/11)
سلسلة محاسن التأويل _ تفسير سورة طه [1]
سورة طه سورة مكية، وهي من العتاق الأول، وقد افتتحها الله تعالى بقوله: (طه)، وهي من الحروف المقطعة المختلف في معناها، وهناك من يقول: إن (طه) اسم للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الله تعالى الغرض من إنزال القرآن الكريم على نبيه، وهو أنه للتذكرة والموعظة لمن يخشى الله تعالى، وفي بداية السورة ذكر الله تعالى أن له الأسماء الحسنى، وأنه سبحانه يعلم السر وأخفى وفي ذلك فوائد عظيمة وثمرات جليلة ينتفع بها المؤمن في حياته وآخرته.(50/1)
توطئة عن سورة طه
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فسورة طه من العتاق الأول مثل قرينتها سورة الكهف، وقد أنزلت سورة طه بعد سورة مريم، وهي كذلك في ترتيب المصحف بعد مريم، لكن الذي جعلنا نبدأ بسورة طه أن لنا تفسيراً لسورة مريم موجود بين الناس متداول فأحببنا أن نبدأ بما لم نشرع به، فلذلك بدأنا بسورة طه، وسنعود إن شاء الله تعالى إلى سورة مريم، لكن من حيث النزول طه نزلت بعد مريم، وكلاهما سورة مكية، إلا آيتين من سورة طه اختلف فيهما وهما: الآية رقم مائة، ومائة وإحدى وثلاثين.(50/2)
تفسير قوله تعالى: (طه) وبيان اختلاف العلماء في معناها
استفتح العلي الكبير سورة طه بقوله: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2]، ومن أكثر أحرف القرآن المتقطعة في أوائل المصحف إشكالاً هذان الحرفان (طه)؛ ذلك أن العلماء من حيث الجملة انقسموا إلى قسمين في فهم هذا الأمر: فمنهم من قال: إن (طه) هي من جنس الحروف المتقطعة، ومما يعينهم على هذا الفهم أن الحرفين (الطاء والهاء) من نفس الأحرف التي جاء بها افتتاح بعض سور القرآن، قال تعالى: {طسم} [الشعراء:1]، وقال تعالى: {كهيعص} [مريم:1]، فالهاء والطاء وجدتا من قبل في فواتح سور القرآن، فهذا منحى، وهذا المنحى يجري عليه أحكام رأينا في مسألة فواتح القرآن -أي: الأحرف المتقطعة- وقد فصلنا فيه في تفسير سورة (ن).
وقال بعض العلماء: إن (طه) ليست من الأحرف المتقطعة، وقد اختلف أصحاب هذا القول فيما بينهم: ما المقصود بكلمة طه؟ فقال بعضهم: إنها فعل أمر بمعنى: ضع، وهي مأخوذة من وطئ، وهؤلاء يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام الليل يقوم على قدم ويرفع أخرى، فجاء القرآن تسلية وتعزية له.
وقال فريق آخر من العلماء: إن (طه) كلمة معناها: يا رجل! طه بمعنى: رجل، وحرف النداء محذوف والمعنى: يا رجل! وقال آخرون: إنها اسم للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد كنت إلى عام أو عامين تقريباً أذهب إلى أنها من الحروف المتقطعة، لكن الذي يبدو أن القول بأنها اسم للنبي صلى الله عليه وسلم أقوى، ووجه القوة مأخوذ من تدبر القرآن -ولولا آية الشورى لجزمت لكن آية الشورى أوقفتني- وهذه طريقة في فهم القرآن، فالله تعالى يقول: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2]، ويقول: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2]، ويقول: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء:1 - 2]، إلى غير ذلك من آيات القرآن، فلم يرد بعد الحروف المتقطعة خطاب مباشر للنبي صلى الله عليه وسلم اللهم إلا في سورة الشورى، قال تعالى: {حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى:1 - 3]، وهذه هي التي أوقفتني، وإلا فسائر سور القرآن المبدوءة بأحرف متقطعة لا يأتي بعدها مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ففي سورة طه ما يشعر أن طه اسم له عليه الصلاة والسلام؛ إذ الله تعالى يقول مخاطباً له: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2].
أما قول من قال من العلماء: إن معناه: يا رجل، فقد ورد في شعر العرب -كما في شعر أبي تمام وغيره- أن طه بمعنى: رجل، لكننا نستبعدها؛ لأنه ليس لها نظائر، ومعنى ليس لها نظائر: أنه إذا اتفقت الأمة على أن الله جل وعلا إكراماً لنبيه لم يخاطبه باسمه فلم يقل له في القرآن: يا محمد، فكيف يعقل أن يناديه: يا رجل؟! فهذا بعيد، فكل ما ورد في القرآن: يا أيها النبي! يا أيها الرسول! فلا يمكن أن ينتقل من هذه الفوقية حتى ينادى: يا رجل! فهذا بعيد وإن كانت اللغة تحتمله.
لكن نقول: إن القول أن طه اسم للنبي صلى الله عليه وسلم غير بعيد، وهذا ما نميل إليه ميلاً كبيراً، وهذا مستخدم حتى في الشعر العربي.
وذهب بعض مشايخنا إلى أن طه من الحروف المتقطعة، لكن لا ينكر على من ذهب إلى أن طه اسم للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد مر معنا -فيما يبدو لي- أن سماحة الوالد الشيخ ابن باز والشيخ العلامة ابن عثيمين رحمة الله تعالى عليهما أنشد بين يديهما قصيدة للتويجري كان مطلعها: دمع المصلين في المحراب ينهمر وفيها: إذا تطاول بالأهرام منهزم فإن أهرامنا سلمان أو عمر أهرامنا شاد طه دعائمها وحي من الله لا طين ولا حجر فكبر الشيخان عندما سمعا هذين البيتين، ولم ينكرا كلمة (طه)، مع أن الشيخ عبد العزيز رحمه الله كان يرى أن (طه) ليست اسماً للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الآية كما قلنا قابلة للأخذ والعطاء وليست مجال إنكار, والبيتان اللذان ذكرناهما من جميل الشعر الإسلامي المعاصر.
نعود ونقول: إننا نختار أن طه اسم للنبي صلى الله عليه وسلم.(50/3)
تفسير قوله تعالى: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى)
قال تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2]، (ما): نافية قطعاً، و (أنزلنا): أخبر الله أن القرآن منزل من عنده، وقد فصلنا القول في التنزيل وأنواعه، ونذكر بأن الله لا يذكر أن شيئاً أنزل من عنده إلا القرآن، وفي غيره يبهم أو يسنده إلى غيره، كقوله: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا} [البقرة:59] من أين؟ {مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:59]، ولم ينسبه إلى نفسه، وقال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، ولم يقل من عندنا، فالذي ينسبه الله ويضيفه إلى ذاته العلية لا يكون إلا القرآن، كما قال تعالى: {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس:5]، وغيرها من الآيات الكثيرة.
يقول تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2]، الشقاء: هو العناء والتعب، ومقصود الآية: أن هذا القرآن أنزلناه رحمة بك، وبه ترحم الناس، وليس المقصود من إنزاله أن يصيبك شقاء وعناء وتعب من كثرة محاورتك لقومك، وكثرة تأسفك على حالهم؛ فإنك لست مكلفاً بأكثر من أن تدعوهم إلى الدين، وهذا المعنى يؤيده القرآن كله، قال تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف:6]، {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، فالقرآن يؤيد هذا المعنى، وهو أن الله ما أنزل هذا القرآن على نبيه حتى يصيبه من الكمد والعناء والشقاء بسبب جحود قومه له.
قال تعالى: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:3] (إِلَّا) استثناء منقطع: ((تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى))، فالقرآن تذكرة، لكن هذه التذكرة لا يفرح بها ولا ينالها كل أحد، وإنما ينالها أهل الخشية، فيدخل فيها جميع من يخشى الله، وفي مقدمتهم بل في ذروتهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: {تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى} [طه:4] قوله: (تنزيلاً) أي: هذا القرآن، و (تنزيلاً) مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره نزلناه تنزيلاً، ((تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى)) وهو الله جل جلاله، وقدم الأرض هنا على السموات لأنها ألصق بحياة الناس، وهي أولى الآيات المحسوسة بالنسبة لهم.
وخلق السماوات والأرض من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله، وقد قررته أكثر من آية في كلام الله.
قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، أي: من خلق الأرض والسماوات العلى هو الرحمن، فالرحمن خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.
والرحمن: اسم من أسماء الله الحسنى؛ بل من أعظم أسمائه الحسنى، فالرحيم يجوز أن ينادى به غير الله، فتقول: فلان رحيم بغيره، لكن لا يقال: فلان رحمن بغيره، فهذا من الأسماء المختصة بالله جل وعلا.
وقوله: ((عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))، العرش: سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، والدليل على أنه ذو قوائم: قوله عليه الصلاة والسلام: (فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا بموسى آخذ بقوائم العرش)، فهذا نص صريح على أن العرش له قوائم تحمله الملائكة، قال الله جل وعلا: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، وقال الله في سورة غافر: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر:7]، فأثبت الله أن هناك ملائكةً تحمل العرش.
وقوله: ((عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) أي: استواءً يليق بجلاله وعظمته، وهذه أحد ست آيات أخبر الله جل وعلا فيها أنه مستوٍ على عرشه، ولا ينبغي العدول أبداً عن قول أهل السنة: أن الاستواء معلوم، والكيف مجهول؛ لأن ذكر الله للاستواء في أكثر من موضع تصل إلى ستة ولم يتغير اللفظ دليل على أن اللفظ مقصود لا يقوم مقامه غيره، وقد ذهب بعض أهل البدع إلى أنه بمعنى: استولى؛ وهذا باطل، فإن الله قد أخبر أنه مستوٍ على عرشه، ونحن نقول: نؤمن بكلام الله على مراد الله، ونؤمن بكلام رسول الله على مراد رسول الله، وقد كان الشافعي يردد هذا الكلام كثيراً: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:6]، ذكر الله أربعة أملاك: السماوات، والأرض، وما بينهما، وما تحت الثرى، واختلف في معنى قوله: (وما تحت الثرى)، ولعله يدخل فيها -من حيث الاستئناس- المعادن التي في الأرض، وكنوز الأرض المدفونة غير الظاهرة، وما بين السماوات والأرض: الأشياء الظاهرة.
وينبغي أن نعلم أن الله ملك الأملاك، ورب الأفلاك، وأنه جل وعلا متصرف في هذه الأربعة تصرفاً تاماً؛ فهو الذي أوجدها، وهو الذي يملكها، وهو الذي يفنيها، وهو الذي يحيي من شاء منها، وهذا كله ملك تام لا نقص فيه بأي وجه من الوجوه، قال تعالى: ((لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى))، (ما) هنا موصولة، والمعنى: والذي تحت الثرى، وليست نافية، و (ما) الموصولة لا يجوز الابتداء بها، فمثلاً قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]، لا يجوز أن تقف فيها ثم تبدأ بقوله: ((وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ))، لأنه ستصبح (ما) نافية، فما الموصولة لا يبدأ بها، إنما تعود وتقرأ: {إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} [البقرة:136]، ولا تبدأ بها.
فهنا لو أن إنساناً انقطع نفسه فلا يقرأ: ((وَمَا تَحْتَ الثَّرَى)) وحدها، فكأنه ينفي؛ لأنها موصولة فلا يبدأ بها؛ لأن واو العطف لا يعتبر شيئاً، وهذا يحترزه الأئمة.(50/4)
تفسير قوله تعالى: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى له الأسماء الحسنى)
قال الله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]، يقول بعض المفسرين: إن المعنى: أن الله يقول لنبيه: لا حاجة للجهر؛ فإن الله يعلم السر وأخفى، وأظنه معنى بعيداً على جلالة من قال به، وإنما المعنى: إخبار النبي بعظيم علم الله، أو أن يقال: إن الخطاب لقراء القرآن، وليس النبي صلى الله عليه وسلم مقصوداً به إلا في المقام الأول باعتبار أن القرآن أنزل عليه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} فيه: أن القول ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الجهر: وهو ما تعلنه وتقوله علانية فيسمعه من يرغب ومن لا ترغب، والسر: وهو ما تعلنه لكن تسمعه من ترغب فقط، هذا يسمى سراً، فلو أنني استدعيت أحدكم وأجلسته بجواري وأسمعته فأنا جهرت له بالقول حتى يسمعه، لكن لا يسمى جهراً بل يسمى سراً؛ لأنني أردت به شخصاً بعينه.
والثالث: ما هو أخفى من السر، وهو ما أسررته في نفسك ولم تخبر به أحداً، وهذا هو الذي قصده الله بقوله: ((فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى))، أي: ما هو أخفى من السر، وهو ما لم تخص به أحداً بعينه، فهذه مراتب القول، والمقصود بيان عظيم علم الرب جل وعلا.
قال تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]، من هذا الذي يعلم السر وأخفى؟ {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8]، وقد مر معنا أن لفظ الجلالة (الله) لم يتسم به أحد إلا الله، وهو معنى قول الله جل وعلا: {ِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وقوله: ((لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى))، فالله جل وعلا له أسماء حسنى وصفات عليا، وجملة ما يمكن أن تفقه أيها المسلم أن تعلم أن الله جل وعلا وجهه أكرم الوجوه، وهذه اكتبها واعمل بها: وجهه أكرم الوجوه، وأسماؤه أحسن الأسماء، وعطيته أحسن العطايا، فتوسل إلى ربك بهذه الثلاث، قل: اللهم يا ذا الوجه الأكرم، والاسم الأعظم، والعطية الجزلاء، ثم سل الله ما شئت.
وقد ذكر من أسماء الله تعالى تسعة وتسعون، على خلاف بين العلماء في تحديدها، وبعض أهل التحقيق من أهل العلم يقول: إنها أكثر من تسعة وتسعين، وحجتهم ما جاء في الخبر الصحيح: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، فقالوا: إن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب غير التسعة والتسعين التي أظهرها وبسطها لخلقه.
وفي هذا كله بيان لعظمة الجبار جل جلاله، وإظهار لبعض صفاته، وأن له كمال الأسماء وأجمل الصفات، وأنه أحق من عبد وأحق من شكر وأعظم من ملك وأوسع من أعطى.(50/5)