مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
{مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة} أي عُلِّمُوهَا وكُلِّفُوا العملَ بهَا {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} أيْ لَمْ يعملُوا بِمَا في تضاعِيفِها منَ الآياتِ التي منْ جُملتِها الآياتُ الناطقةُ بنبوةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} أيْ كتباً منَ العلمِ يتعبُ بحملِهَا ولا ينتفعُ بهَا ويحملُ إمَّا حالٌ والعاملُ فيهَا مَعْنَى المَثلِ أو صفةٌ للحمارِ إذْ ليسَ المرادُ بهِ معيناً فهُو في حكمِ النكرةِ كما في قول من قالَ ... وَلَقَدْ أمرُّ عَلى اللئيمِ يَسُبُّنِي ...
{بِئْسَ مَثَلُ القومِ الذينَ كَذَّبُواْ بآياتِ الله} أيْ بئسَ مثلاً مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بآياتِ الله عَلى أنَّ التمييزَ محذوفٌ والفاعلَ المُفسَّرَ بهِ مستترٌ ومثلُ القومِ هُو المخصوصُ بالذمِّ والموصولُ صفةٌ للقومِ أو بئسَ مثلُ القومِ مثلُ الذينَ كذَّبوا إلخ على أنَّ مثلُ القومِ فاعلُ بئسَ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ وهم اليهودُ الذينَ كذَّبُوا بمَا في التوارة من الآياتِ الشاهدةِ بصحةِ نبوة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} الواضعينَ للتكذيبِ في موضعِ التصديقِ أو الظالمينَ لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالدِ(8/248)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)
{قُل يا أيُّها الذينَ هَادُواْ} أَيْ تهودُوا {إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ الناس} كانُوا يقولونَ نحنُ أبناءُ الله وأحباؤُه ويَدَّعُونَ أنَّ الدارَ الآخرةَ لهُمْ عندَ الله خالصةً ويقولونَ لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ منْ كانَ هُوداً فأُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنْ يقولَ لهُم إظهاراً لكذبِهِمْ إنْ زعمتُم ذلكَ {فَتَمَنَّوُاْ الموت} أيْ فتمنَّوا منَ الله أنْ يميتَكُم وينقُلَكُم منْ دارِ البليةِ إلى دارِ الكرامةِ {إِن كُنتُمْ صادقين} جوابُه محذوفٌ لدِلالة ما قبله عليه إِن كُنتُمْ صادقين في زَعْمِكُم واثقينَ بأنَّه حقٌّ فَتَمَنَّوُاْ الموتَ فإنَّ مَنْ أيقنَ بأنَّهُ مِنْ أهلِ الجنةِ أحبَّ أنْ يتخلصَ إلَيها منْ هذهِ الدارِ التي هيَ قرارةُ الأكدارِ(8/248)
وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
{وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً} إخبارٌ بما سيكون منهم والبناء في قولِهِ تعالى {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} متعلقةٌ بما يدلُّ عليهِ النفيُ أيْ يأبونَ التمنِّي بسببِ ما عمِلوا من الكفرَ والمعاصيَ الموجبةَ لدخولِ النارِ ولما كانتِ اليدُ من بينِ جوارحِ الإنسانِ مناطَ عامَّةِ أفاعيله عبَّرَ بها تارةً عن النفسِ وأُخرى عنِ القدرةِ {والله عَلِيمٌ بالظالمين} أيْ بهِم وإيثارُ الإظهارِ على الإظهار(8/248)
} 0 8
لذمِّهم والتسجيلِ عليهِم بأنَّهم ظالمونَ في كلِّ ما يأتُون وما يذرونَ من الأمور التي من جملتها ادعاءُ ما هُمْ عنْهُ بمعزلٍ والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها مقررةٌ لمضمونِهِ أيْ عليمٌ بهِم وبِمَا صدَرَ عَنْهُم من فنونِ الظلمِ والمعَاصِي المفضيةِ إلى أفانينِ العذابِ وبِمَا سيكونُ منهُم منَ الاحترازِ عَمَّا يؤدِّي إلى ذلكَ فوقعَ الأمرُ كما ذكرَ فلم يتمنَّ منهُم موتَهُ أحدٌ كَما يعرب عنه قوله تعالى(8/249)
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
{قُلْ إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ} فإنَّ ذلكَ إنَّما يقالُ لهُم بعدَ ظهورِ فرارِهِم منَ التمنِّي وقد قال عليه الصلاة والسلام لو تمنوا لما توا منْ ساعتِهِم وهذهِ إحدَى المعجزاتِ أيْ إنَّ الموتَ الذي تفرونَ منهُ ولا تجسَرونَ عَلى أنْ تتمنَّوهُ مخافةَ أنْ تُؤخذُوا بوبالِ كفرِكُم {فَإِنَّهُ ملاقيكم} اُلبتةَ من غير صارفٍ يلويه ولا عاطف يثنيه والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبارِ الوصفِ وقُرِىءَ بدونِهَا وقُرِىءَ تفرونَ منْهُ مُلاقِيكُم {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} الذي لا تَخفى عليهِ خافيةٌ {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} منَ الكُفر والمعاصِي بأنْ يجازيَكُم بها(8/249)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة} أيْ فُعِلَ النداءُ لهَا أيْ أُذِّنَ لَهَا {مِن يَوْمِ الجمعة} بيانٌ لإذَا وتفسيرٌ لهَا وقيلَ من بمَعْنَى في كَما في قولِه تعالَى أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أيْ في الأرضِ وإنَّما سمِّي جمعةً لاجتماع الناس منه للصلاةِ وقيلَ أولُ مَنْ سمَّاها جمعةً كعبُ بنُ لُؤَي وكانتِ العربُ تسميهِ العَرُوبَةَ وقيلَ إنَّ الأنصارَ قالو قبلَ الهجرةِ لليهودِ يومٌ يجتمعونَ فيهِ بكُلِّ سبعةِ أيامٍ وللنَّصارَى مثلُ ذلكَ فهلمُّوا نجعلْ لَنَا يوماً نجتمعُ فيهِ فنذكرُ الله فيهِ ونُصلِّي فقالُوا يومُ السبتِ لليهودِ ويومُ الأحدِ للنَّصارَى فاجعلُوه يومَ العَروبَةِ فاجتمعُوا إلى سعدِ بنِ زُرارةَ فصلَّى بهمْ ركعتَينِ وذكر هم فسمَّوه يومَ الجمعةِ لاجتماعِهِم فيهِ فأنزلَ الله آيةَ الجمعةِ فهيَ أولُ جمعةِ كانتْ في الإسلامِ وأما أولُ جمعةً جَمَّعها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فهُو أنَّه لما قدمَ مُهَاجِراً نزلَ قُبَاءَ على بني عمرو بنِ عَوْف وأقامَ بها يومُ الإثنينِ والثلاثاءِ والأربعاءِ والخميسِ وأسَّس مسجدَهُم ثم خرجَ يومَ الجمعةِ عامداً المدينةَ فأدركتْهُ صلاةُ الجمعةِ في بني سالمِ بنِ عوفٍ في بطن وادلهم فحطب وصلَّى الجمعةَ {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} أيْ امشُوا واقْصِدُوا إلى الخطبةِ والصلاةِ {وَذَرُواْ البيع} واتركُوا المعاملةَ {ذلكم} أي السعيُ إلى ذكرِ الله وتركُ البيعِ {خَيْرٌ لَّكُمْ} منْ مباشرتِهِ فإنَّ نفعَ الآخرةِ أجلُّ وأبقَى {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي الخبر والشر الحقيقيين أوْ إِنْ كنتم أهلَ العلمِ(8/249)
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة}(8/249)
} {
أي أُدِّيتْ وفُرغَ منهَا {فانتشروا فِى الأرض} لإقامةِ مصالِحِكم {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} أي الربحَ فالأمرُ للإطلاقِ بعدَ الحظرِ وعنِ ابنِ عباس رضي الله عنهما لَمْ يؤمُروا بطلبِ شيءٍ من الدُّنيا إنَّما هو عيادةُ المرضَى وحضورُ الجنائزِ وزيارةُ أخٍ في الله وعنِ الحسنِ وسعيدِ بنِ المسيِّبِ طلبُ العلمِ وقيلَ صلاةُ التطوعِ {واذكروا الله كَثِيراً} ذِكراً كَثيراً أو زماناً كثيراً ولا تخصوا ذكرَهُ تعالَى بالصلاةِ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} كي تفوزُوا بخيرِ الدارينِ(8/250)
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
{وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} رُوي أنَّ أهلَ المدينةِ أصابَهُم جوعٌ وغلاءٌ شديدٌ فقدمَ دِحْيةُ بنُ خَلِيفةَ بتجارةٍ منْ زَيْتِ الشامِ والنَّبيُّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يخطبُ يومَ الجمعةِ فقامُوا إليهِ خشيةَ أنْ يُسْبقُوا إليهِ فما بقيَ معَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلا ثمانيةٌ وقيلَ أحدَ عشرَ وقيلَ اثنا عشرَ وقيلَ أربعونُ فقال عليه الصلاة والسلام والَّذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ لَوْ خرجُوا جميعاً لأضرمَ الله عليهِم الواديَ ناراً وكانُوا إذَا أقبلتْ العيرُ استقبلُوها بالطبلِ والتصفيقِ وهُو المرادُ باللهوِ وتخصيصُ التجارةِ برجع الضمير لأنه المقصودة أو لأن الإنقضاض للتجارةِ معَ الحاجةِ إليهَا والانتفاعِ بهَا إذا كانَ مذموماً فمَا ظنُّكَ بالانفضاضِ الى اللهو وهو المذمون في نفسهِ وقيلَ تقديرُهُ إذَا رأَوا تجارةً انفضُّوا إليها أو لهوا انفضُّوا إليهِ فحذفَ الثانيَ لدلالةِ الأولِ عليهِ وقُرىءَ إليهِمَا {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} أيْ عَلى المنبرِ {قُلْ مَا عِندَ الله} منَ الثوابِ {خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} فإنَّ ذلكَ نفعٌ محققٌ مخلَّدٌ بخلافِ ما فيهِمَا منَ النَّفعِ المتوهَّمِ {والله خير الرازقين} فإليهِ اسعَوا ومنْهُ اطلبُوا الرزق عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سُورةَ الجُمعةِ أُعطِيَ منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعددِ مَنْ أتَى الجمعةَ ومَنْ لَم يأتِهَا في أمصارِ المسلمين(8/250)
} المنافقون {
{بسم الله الرحمن الرحيم}(8/251)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
{إِذَا جَاءكَ المنافقون} أي حضرُوا مجلسكَ {قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} مؤكدينَ كلامَهُم بأنَّ واللامُ للإيذانِ بأن شهادتهم هذه صاردة عن صميمِ قلوبِهِم وخلوصِ اعتقادِهِم ووفورِ رغبتِهِم ونشاطِهِم وقولُهُ تعالى {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} اعتراضٌ مقررٌ لمنطوقِ كلامِهِم وُسِّطَ بينه وبينَ قولِهِ تعالى {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون} تحقيقا وتعييناً لِما نيطَ به التكذيبُ من أنَّهُم قالُوه عن اعتقادٍ كما أُشيرِ إليهِ وإماطةً من أولِ الأمرِ لما عسى يتوهمُ من توجه التكذيبِ إلى منطوقِ كلامِهِم أيْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبُونَ فيما ضمَّنُوا مقالتَهُم من أنَّها صادرةٌ عن اعتقادٍ وطمأنينة قلب وا لإظهار في موقعِ الإضمارِ لذمِّهم والإشعارِ بعلةِ الحُكمِ(8/251)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)
{اتخذوا أيمانهم} الفاجرةَ التي من جملتها ما حكي عنْهُم {جَنَّةُ} أيْ وقايةً عمَّا يتوجَّهُ إليهِمْ منَ مؤاخذة بالقتلِ والسبي أو غيرِ ذلكَ واتخاذُها جنةً عبارةٌ عن إعدادِهِم وتهيئتِهِم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بهَا ويتخلصُوا عنِ المؤاخذةِ لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة وعن سببها أيضا كما يُفصح عنهُ الفاءُ في قولِهِ تعالى {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي فصدوا منْ أرادَ الدخولَ في الإسلامِ بأنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ليسَ برسولٍ ومن أرادَ الإنفاقَ في سبيلِ الله بالنَّهيِ عنهُ كما سيُحْكَى عنهُم ولا ريبَ في أنَّ هذا الصدَّ منهم متقدمٌ على حلفِهِم بالفعلِ وقُرِىءَ إيمانَهُم أي ما ظهوره على ألسنتِهِم فاتخاذُهُ جنةً عبارةٌ عنِ استعمالهِ بالفعلِ فإنه وقايةٌ دونَ دمائهِم وأموالِهِم فمَعْنَى قولِهِ تعالى فصدُّوا حينئذٍ فاستمرُّوا على ما كانوا عليه من الصدِّ والإعراضِ عن سبيلِهِ تعالَى {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من النفاقِ والصدِّ وفي ساءَ مَعْنَى التعجبِ وتعظيمُ أمرِهِم عندَ السامعين(8/251)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)
{ذلك} ذلك إشارة إلى ما تقدمَ من القولِ(8/251)
5 4
النَّاعِي عليهِمْ إنَّهم أسوأُ الناسِ أعمالاً أو إلى ما وصف حالِهِم في النفاقِ والكذبِ والاستتارِ بالإيمانِ الصوريِّ وما فيه من معنى البعد مع قُربِ العهدِ المشارِ إليه لما مرَّ مرارا من الإشعارِ ببُعدِ منزلتِه في الشرِّ {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {آمنوا} أي نطقُوا بكلمة الشهادةِ كسائرِ منْ يدخُل في الإسلامِ {ثُمَّ كَفَرُواْ} أي ظهرَ كفرُهُم بما شُوهدَ منهم من شَواهدِ الكُفْرِ ودلائِلِه أو نطقُوا بالإيمانِ عندَ المؤمنينَ ثم نطقُوا بالكفرِ عند شياطينهم {فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} حتى تمرنُوا على الكفرِ واطمأنُّوا بهِ وقرىء على البناء للفاعل وقُرِىءَ فطبعَ الله {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} حقيقةَ الإيمانِ ولا يعرفون حقيقته أصلاً(8/252)
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم} لضخامتها ويروقكَ منظرُهُم لصباحةِ وجوهِهِم {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} لفصاحتهِم وذلاقةِ ألسنتِهِم وحلاوةِ كلامِهِم وكان ابنُ أُبيَ جسيماً فصيحاً يحضرُ مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفرٍ منْ أمثالِهِ وهُم رؤساءُ المدينةِ وكانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ومنْ معه يعجبون بها كلهم ويسمعونَ إلى كلامِهم وقيلَ الخطابُ لكلِّ أحدٍ ممن يصلُح للخطابِ ويؤيدُه قراءةُ يُسمعْ على البناءِ للمفعولِ وقولُه تعالَى {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} في حيزِ الرفعِ على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ أو كلامٌ مستأنفٌ لا محلَّ له شُبهوا في جلوسِهِم في مجالِس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندينَ فيها بخشبٍ منصوبةٍ مُسندةٍ إلى الحائطِ في كونِهِم أشباحاً خاليةً عن العلمِ والخيرِ وقُرِىءَ خُشْبٌ على أنه جمعُ خشبةٍ كبُدْنٍ جمعُ بَدَنةٍ وقيل هو جمعُ خشباءَ وهيَ الخشبةُ التي دُعِرَ جوفُها أي فسدَ شُبهوا بها في نفاقِهِم وفسادِ بواطِنِهم وقُرِىءَ خَشَبٌ كمَدَرةٍ ومدَرٍ {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي واقعةً عليهم ضارةً لهم لجبنِهِم واستقرارِ الرعبِ في قلوبِهِم وقيلَ كانُوا على وجلٍ من أنْ يُنزلَ الله فيهم ما يهتكُ أستارَهُم ويبيحُ دماءَهُم وأموالَهُم {هُمُ العدو} أي هُم الكاملونَ في العداوةِ والراسخونَ فيها فإنَّ أعْدَى الأعادِي العدوُّ المُكاشرُ الذي يُكاشِرُكَ وتحتَ ضُلوعِهِ الداءُ الدَّوِيُ والجملةُ مستأنفةٌ وجعلُها مفعولاً ثانياً للحسبانِ ممَّا لا يساعده النظمُ الكريم أصلاً فإنَّ الفاءَ في قولِهِ تعالَى {فاحذرهم} لترتيبِ الأمرِ بالحذرِ على كونِهِم أعْدَى الأعداءِ {قاتلهم الله} دعاءٌ عليهمْ وطلبٌ من ذاتِهِ تعالَى أنْ يلعنَهُم ويُخزيَهم أو تعليمٌ للمؤمنينَ أن يدعُوا عليهِم بذلكَ وقوله تعلى {أنى يُؤْفَكُونَ} تعجيبٌ من حالِهِم أي كيفَ يُصرفون عن الحقِّ إلى ما هم عليه من الكفر الضلال(8/252)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} عندَ ظهورِ جنايتِهِم بطريقِ النصيحةِ {تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ} أي عطفُوها استكباراً {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} يُعرضونَ عن القائلِ أو عن الاستغفارِ {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}(8/252)
8 6
عن ذلكَ(8/253)
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} كما إذا جاءوكَ معتذرينَ من جناياتهم وقُرِىءَ استغفرتَ بحذفِ حرفِ الاستفام ثقةً بدلالةٍ أمْ عليهِ وقُرِىءَ آستغفرتَ بإشباعِ همزةِ الاستفهامِ لا بقلبِ همزةِ الوصلِ ألفاً {أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} كما إذا أصرُّوا عَلى قبائِحهم واستكبرُوا عن الاعتذارِ والاستغفارِ {لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} أبداً لإصرارِهِم على الفسقِ ورسوخِهِم في الكفرِ {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} الكاملينَ في الفسقِ الخارجينَ عن دائرةِ الاستصلاحِ المنهمكينَ في الكفرِ والنفاقِ والمرادُ إما هُم بأعيانِهِم والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لبيانِ غُلوهم في الفسقِ أو الجنسُ وهم داخلونَ في زمرتهم دخولاأوليا وقولُه تعالَى(8/253)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
{هُمُ الذين يَقُولُونَ} أيْ للأنصارِ {لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله} صلى الله عليه وسلم {حتى يَنفَضُّواْ} يعنونَ فقراءَ المهاجرينَ استئنافٌ جارٍ مَجْرَى التَّعليلِ لفسقِهِم أو لعدمِ مغفرتِهِ تعالَى لَهُم وقُرِىءَ حتى يَنْفِضُوا من أنفضَ القومُ إذا فنيتْ أزوادُهُم وحقيقتُه حانَ لهم أن ينفضوا مزادوهم وقولُه تعالى {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السماوات والأرض} ردُّ وإبطالٌ لما زعمُوا من أن عدمَ إنفاقهِم يؤدي إلى انفضاضِ الفقراء من حوله صلى الله عليه وسلم ببيان ان خزائن الأرزان بيدِ الله تعالَى خاصَّة يعطة منْ يشاءُ ويمنعُ من يشاءُ {ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ} ذلكَ لجهلِهم بالله تعالى وبشئونه ولذلكَ يقولونَ مِنْ مقالاتِ الكفرِ ما يقولونَ(8/253)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} رُوِيَ أن جَهْجَاهَ بنَ سعيدٍ أَجيرَ عمرَ رضيَ الله عنهُ نازعَ سِناناً الجُهْنَيَّ حليفَ ابنِ أبيى واقتتلا فصرخ جهجاه ياللمهاجرين وسنان بالأنصار فاعان جهجاها جعال من فقراءِ المهاجرينَ ولطمَ سنان فاشتكى الى اين أُبيَ فقالَ للأنصارِ لا تُنفقُوا الخ والله لئِن رجدعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الذل عَنَى بالأعزِّ نفسَهُ وبالأذلِّ جانبَ المؤمنينَ وإسنادُ القولِ المذكورِ إلى المنافقينِ لرضاهُم بهِ فرُدّ عليهِم ذلكَ بقولِه تعالَى {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أي ولله الغالبة والقوةُ ولمنْ أعزَّهُ من رسولِهِ والمؤمنينَ لا لغيرِهِم {ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ} من فرطِ جهلِهِم وغرورِهِم فيهذُونَ ما يهذُون رُوِيَ أنَّ عبدَ اللَّه بنِ أُبيَ لما أرادَ أن يدخلَ المدينةَ اعترضَهُ ابنُهُ عبدَ اللَّه بنَ عبدِ اللَّه بنِ أُبيّ وكان مخلصاً وقالَ لئِن لم تُقِرَّ لله ولرسولِه بالعزِّ لأضربهم عنقَكَ فلمَّا(8/253)
} 1 9
رَأى منه الجِدَّ قال أشهدُ أنَّ العزةَ لله ولرسولِه وللمؤمنينَ فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لابنهِ جزاكَ الله عن رسولِهِ وعن المؤمنينَ خيراً(8/254)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم وَلاَ أولادكم عَن ذكرِ الله} أي لا يشغَلْكُم الاهتمامُ بتدبيرِ أمورِهَا والاعتناءُ بمصالحِهَا والتمتعُ بها عن الاشتغالِ بذكرِهِ عزَّ وجلَّ من الصلاة وسائر العبادات المذكورة للمعبودِ والمرادُ نهيهُم عنِ التَّلهّي بهَا وتوجيهُ النهيِ إليهَا للمبالغةِ كما في قولِهِ تعالَى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ الخ {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي التَّلهي بالدُّنيا منَ الدينِ {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} أي الكاملونَ في الخسرانِ حيثُ باعُوا العظيم الباقي بالحقير الفانئ(8/254)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
{وأنفقوا من ما رزقناكم} أي بعضَ ما أعطينَاكُم تفضلاً منْ غيرِ أنْ يكونَ حصولُهُ من جهتِكُم ادخاراً للآخرةِ {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت} بأنْ يشاهدَ دلائلَهُ ويعاينَ أماراتِهِ ومخايلَهُ وتقديمُ المفعولِ على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من الاهتمامِ بما قدم والتشويق إلى ما أُخِّر {فَيَقُولُ} عند تيقنِه بحلولِهِ {رَبّ لَوْلا أخرتني} اأمهلتني {إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي أمدٍ قصيرٍ {فَأَصَّدَّقَ} بالنصبِ على جوابِ التمنِي وقُرِىءَ فأتصدقَ {وَأَكُن مّنَ الصالحين} بالجزمِ عطفاً على محلِّ فأصدقَ كأنه قيلَ إنْ أخرتنِي أصدقْ وأكنْ وقُرِىءَ وأكونَ بالنصبِ عطفاً على لظفه وقُرِىءَ وأكونُ بالرفعِ أي وأنَا أكونَ عِدة منه بالصلاحِ(8/254)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
{وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْساً} أي ولَنْ يُمهلَهَا {إِذَا جَاء أَجَلُهَا} أي آخرُ عُمرِهَا أو انتهى إنْ أُريدَ بالأجلِ الزمانُ الممتدُ من أولِ العمرِ إلى آخرِهِ {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فمجاز لكم عليهِ إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشرٌّ فسارَعُوا في الخيراتِ واستعدُّوا لما هُو آتٍ وقُرِىءَ يعملُونَ بالياءِ التحتانيةِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ قَرأ سورةَ المنافقينَ برى من النفاق(8/254)
التغابن 4 {
{بسم الله الرحمن الرحيم}(8/255)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
{يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الأرض} أي ينزهُهُ سبحانَهُ جميعِ ما فيهما من المخلوقاتِ عمَّا لا يليقُ بجنابِ كبريائِه تنزيهاً مُستمراً {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد} لا لغيرِه وإذ هو المُبدىءُ لكلِّ شيءٍ وهو القائمُ به والمهيمنُ عليهِ وهو المُولِي لأصولِ النعمِ وفروعِها وأما ملكُ غيرِهِ فاسترعاءٌ من جنابِهِ وحمد غيره اعتداد بأنَّ نعمةَ الله جرتْ على يدِه {وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} لأن نسبةَ ذاتِهِ المقتضيةَ للقدرةِ إلى الكلِّ سواءٌ(8/255)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
{هُوَ الذى خَلَقَكُمْ} خلقاً بديعا حاويا لجميع مبادىء الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ ومع ذلكَ {فَمِنكُمْ كَافِرٌ} أي فبعضُكم أو فبعضٌ منكُم مختارٌ للكفرِ كاسبٌ له على خلافِ ما تستدعيهِ خلقتُه {وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} مختارٌ للإيمانِ كاسبٌ له حسبما تقتضيهِ خلقتُه وكان الواجبُ عليكم جميعاً أن تكونُوا مختارينَ للإيمانِ شاكرينَ لنعمةِ الخلقِ والإيجادِ وما يتفرَّع عليها من سائرِ النعمِ فما فعلتُم ذلكَ مع تمامِ تمكنِكُم منهُ بل تشعبتُم شعباً وتفرقتُم فرقاً وتقديمُ الكفرِ لأنه الأغلب فيما بينَهُم والأنسبُ بمقامِ التوبيخِ وحملُه على مَعْنَى فمنكم كافر مقدرة كفرُه موجهٌ إليهِ ما يحملُه عليهِ ومنكُم مؤمنٌ مقدرٌ إيمانُهُ موفقٌ لما يدعُوه إليهِ مما لا يلائمُ المقامَ {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكُم بذلكَ فاختارُوا منه ما يجديكُم من الإيمانِ والطاعةِ وإياكُم وما يُرديكم من الكفرِ والعصيان(8/255)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
{خلق السماوات والأرض بالحق} بالحكمةِ البالغةِ المتضمنة للمصالح الدينينة الدنيوية {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} حيثُ براكم في أحسن تصوير وأودعَ فيكُم من القُوى والمشاعرِ الظاهرةِ والباطنةِ ما نيط بها عن الكمالاتِ البارزةِ والكامنةِ وزينكُم بصفوةِ صفاتِ مصنُوعاتِهِ وخصَّكُم بخلاصةِ خصائصِ مُبدِعَاتِهِ وجعلَكُم أنموذجَ جميعَ مخلوقاتِهِ في هَذه النشأة {وَإِلَيْهِ المصير} في النشأة الأخرة لا الى غيره استلالا أو اشتراكاً فأحسِنُوا سرائركُم باستعمالِ تلكَ القُوى والمشاعرِ فيا خُلقنَ لَهُ(8/255)
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
{يعلم ما فِى السماوات والأرض} من الأمورِ الكليةِ والجزئيةِ والأحوالِ الجليةِ والخفيةِ(8/255)
7 5
{وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تعلنون} أى ما تسرونه فيما بينَكُم وما تظهرونَهُ من الأمورِ والتصريحُ بهِ مع اندراجه فيما قبله لأنَّه الذي يدورُ عليهِ الجزاءُ ففيهِ تأكيدٌ للوعدِ والوعيدِ وتشديدٌ لهما وقولُه تعالَى {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبلَهُ من شمولِ علمِهِ تعالَى لسرِّهم وعلنِهِم أي هو محيطٌ بجميعِ المضمرات المستكنةِ في صدورِ الناسِ بحيثُ لا تفارقُها أصلاً فكيف يخفى عليه ما يُسرونَهُ وما يُعلنونَهُ وإظهارُ الجلالةِ للإشعارِ بعلةِ الحكمِ وتأكيدا استقلالِ الجملةِ قيلَ وتقديمُ تقريرِ القدرةِ على تقريرِ العلمِ لأنَّ دلالةَ المخلوقاتِ على قدرتِهِ بالذاتِ وعلى علمه بما فيه من الإتقانِ والاختصاصِ ببعضِ الأنحاءِ(8/256)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5)
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أيها الكفرةُ {نبأ الذين كفروا مِن قَبْلُ} كقومِ نوحٍ ومَنْ بعدهم من الأممِ المصرةِ على الكفرِ {فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} عطفٌ على كفرُوا والوبالُ الثقلُ والشدةُ المترتبةُ على أمرٍ من الأمورِ وأمرُهُم كفرُهُم عبرَ عنْهُ بذلكَ للإيذانِ بأنه أمرٌ هائلٌ وجنايةٌ عظيمةٌ أي ألم يأتكم خبرُ الذينَ كفرُوا مِن قَبْلُ فذاقُوا من غيرِ مهلةٍ ما يستتبعُه كفرهم في الدنيا {وَلَهُمْ} في الآخرةِ {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يُقادرُ قدرُهُ(8/256)
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
{ذلك} أي ما ذكر من العذابِ الذي ذاقُوه في الدُّنيا وما سيذوقونَهُ في الآخرةِ {بِأَنَّهُ} بسببِ أن الشأنَ {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي بالمعجزاتِ الظاهرةِ {فَقَالُواْ} عطفٌ على كانتْ {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أي قالَ كلُّ قومٍ من المذكورينَ في حقِّ رسولِهِم الذي أتاهُم بالمعجزاتِ منكرينَ لكونِ الرسولِ من جنسِ البشرِ متعجبينَ من ذلكَ أبشرٌ يهدينَا كما قالتْ ثمودُ أَبَشَراً مّنَّا واحدا نَّتَّبِعُهُ وقد أُجملَ في الحكايةِ فأُسنِدَ القولُ إلى جميعِ الأقوامِ وأُريدَ بالبشرِ الجنسُ فوصفَ بالجمعِ كما أُجملَ الخطابُ والأمرُ في قوله تعالى يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا {فَكَفَرُواْ} أي بالرسلِ {وَتَوَلَّواْ} عن التدبرِ فيما أتَوا بهِ من البيناتِ وعن الإيمانِ بهم {واستغنى الله} أي أظهرَ استغناءَهُ عن إيمانِهِم وطاعَتِهِم حيثُ أهلكهُم وقطعَ دابرَهُم ولولا غناهُ تعالَى عنهُما لما فعلَ ذلكَ {والله غَنِىٌّ} عنِ العالمينَ فضلاً عن إيمانِهِم وطاعَتِهِم {حَمِيدٌ} يحمدُه كلُّ مخلوقٍ بلسانِ الحالِ أو مستحقٌ للحمدِ بذاتِهِ وإنْ لم يحمَدهُ حامدٌ(8/256)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
{زَعَمَ الذين كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ} الزعمُ ادعاءُ العلمِ يتعدَّى إلى مفعولينِ وقد قام مقامَهُما أن المخففةُ معَ مَا في حيزِهَا والمرادُ بالموصولِ كفارُ مكةَ أي زعمُوا أنَّ الشأنَ لن يبعثُوا بعد موتهم أباد {قُلْ} رداً عليهِم وإبطالاً لزعمِهِم بإثباتِ ما نَفوه {بلى} أى تبعثون قوله {وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} أي لتُحاسبُنَّ ولتُجزَوُنَّ بأعمالِكُم جملةٌ(8/256)
} 1 8
مستقلةٌ داخلةٌ تحتَ الأمرِ واردةٌ لتأكيدِ ما أفادَهُ كلمةُ بَلَى من إثباتِ البعث وبيان تحقق أمرٍ آخرَ متفرعٍ عليهِ منوط ففيه تأكيد لتحقق البعثِ بوجهينِ {وَذَلِكَ} أي ما ذُكِرَ من البعثِ والجزاءِ {عَلَى الله يَسِيرٌ} لتحققِ القدرةِ التامةِ وقبولِ المادة والفاء في قوله تعالى(8/257)
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
{فآمنوا} فصيحةٌ مفصحةٌ عن شرطٍ قد حذف ثقة ظهورِهِ أي إذا كانَ الأمرُ كذلكَ فآمنُوا {بالله ورسوله} محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم {والنور الذى أَنزَلْنَا} وهُو القرآنُ فإنَّه بإعجازِهِ بيِّنٌ بنفسِهِ مبيِّنٌ لغيرِهِ كما أنَّ النورَ كذلكَ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ كمالِ العنايةِ بأمرِ الإنزالِ {والله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الامتثالِ بالأمرِ وعدمِهِ {خَبِيرٌ} فمجاز لكم عليهِ والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرر لما قبله من الأمرِ موجبٌ للامتثالِ به بالوعدِ والوعيدِ والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابة وتأكيدا استقلالِ الجُملةِ(8/257)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
{يوم يجمعكم} ظرف لتنبؤون وقيلَ لخبير لما فيهِ من مَعْنَى الوعيدِ كأنَّه قيلَ والله مجازيكُم ومعاقبكُم يومَ يجمعُكُم أو مفعولٌ لا ذكر وقُرِىءَ نَجْمعكُم بنونِ العظمةِ {لِيَوْمِ الجمع} ليومٍ يُجمعُ فيهِ الأولونَ والآخرونَ أي لأجلِ ما فيهِ من الحسابِ والجزاءِ {ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} أي يومُ غَبْنِ بعضِ الناسِ بعضاً بنزولِ السعداءِ منازلَ الأشقياءِ لو كانوا سعداءَ وبالعكسِ وفي الحديثِ ما منْ عبدٍ يدخلُ الجنةَ إلا أُري مقعدَهُ من النارِ لو أساء ليزداد شُكراً وما من عبدٍ يدخلُ النارَ إلا أري مقعده من الجنةِ لو أحسنَ ليزدادَ حسرةً وتخصيصُ التغابنِ بذلكَ اليوم للإيذان بأن التغبن في الحقيقةِ هو الذي يقعُ فيهِ لا ما يقعُ في أمورِ الدُّنيا {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا} أي عملاً صالحاً {يَكْفُرْ} أي الله عزَّ وجلَّ وقُرىءَ بنونِ العظمةِ {عَنْهُ سيئاته} يومَ القيامةِ {وَيُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً} وقرىء ندخله بنون {ذلك} أى أي ما ذكر من تكفيرِ السيئاتِ وإدخالِ الجناتِ {الفوز العظيم} الذِي لاَ فوز وراءه لا نطوائه على النجاةِ من أعظمِ الهلكاتِ والظفرِ بأجلِّ الطلباتِ(8/257)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أُوْلَئِكَ أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير} أي النارُ كأنَّ هاتينِ الآيتينِ الكريميتين بيانٌ لكيفيةِ التغابنِ(8/257)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ} فمن المصائبِ الدنيويةِ {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي تقديره وإرادتِهِ كأنَّها بذاتِهَا متوجهةٌ إلى الإنسانِ متوقفةٌ على إذنِهِ تعالى {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} عند إصابتِهَا للثباتِ والاسترجاعِ وقيل يهدِ قلبَهُ حتَّى يعلمَ(8/257)
} 4 1 {
أنَّ ما أصابَهُ لم يكن لخطئه وما أخطأهُ لم يكُن ليصيبَهُ وقيلَ يهدِ قلبَهُ أي يلطفُ بهِ ويشرحُهُ لازديادا الطاعةِ والخيرِ وقُرِىءَ يُهْدَ قلبُهُ على البناءِ للمفعولِ ورفعِ قلبَهُ وقُرِىءَ بنصبِه على نهجِ سفِه نفسَهُ وقرىء يهدأ قلبه بالهمزةِ أي يسكُن {والله بِكُلّ شَيْء} من الأشياء التي من جُملتِهَا القلوبُ وأحوالِهَا {عَلِيمٌ} فيعلمُ إيمانَ المؤمنِ ويهدي قلبَهُ إلى ما ذُكِرَ(8/258)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)
{وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} كرَّر الأمرَ للتأكيدِ والإيذانِ بالفرقِ بينَ الطاعتين في الكيفيةِ وتوضيحِ موردِ التولِّي في قولِه تعالَى {فَإِنَّ تَوَلَّيْتُمْ} أي عن إطاعةِ الرسولِ وقولُهُ تعالَى {فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} تعليلٌ للجوابِ المحذوفِ أي فلا بأسَ عليهِ إذْ ما عليهِ إلا التبليغُ المبينُ وقد فعلَ ذلكَ بما لا مزيدَ عليهِ وإظهارُ الرسولِ مضافاً إلى نونِ العظمةِ في مقامِ إضمارِهِ لتشريفِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والإشعارُ بمدارِ الحكمِ الذي هوَ كونُ وظيفتُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ محضَ البلاغِ ولزيادةِ تشنيعِ التولِّي عنْهُ(8/258)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
{الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ أي هو المستحقُّ للمعبوديةِ لا غيرُهُ وفي إضمارِ خبرِ لا مِثلَ في الوجودِ أو يصِح أن يوجد خلاف للنحاة معروفٌ {وَعَلَى الله} أي عليهِ تعالى خاصَّة دُونَ غيرِه لا استقلالاً ولا اشتراكاً {فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وإظهارُ الجلالةِ في موقعِ الإضمارِ للإشعارِ بعلةِ التوكلِ والأمرِ به فإن الأولهية مقتضيةٌ للتبتلِ إليهِ تعالى بالكليةِ وقطعِ التعلقِ عما سراه بالمرة(8/258)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ} يشغلونَكُم عن طاعةِ الله تعالَى أو يخاصمونَكُم في أمورِ الدينِ أو الدُّنيا {فاحذروهم} الضميرُ للعدوِّ فإنَّه يطلقُ على الجمعِ نحو قولِهِ تعالَى فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى أو للأزواجِ والأولادِ جميعاً فالمأمورُ بهِ على الأولِ الحذرُ عن الكلِّ وعلى الثاني إما الحذرُ عن البعضِ لأنَّ منهم من ليسَ بعدوَ وإما الحذرُ عن مجموعِ الفريقينِ لاشتمالِهِم على العدوِّ {وَأَن تَعْفُواْ} عن ذنوبِهِم القابلةِ للعفوِ بأن تكونَ متعلقةً بأمورِ الدُّنيا أو بأمورِ الدينِ لكن مقارنةٌ للتوبةِ {وَتَصْفَحُواْ} بتركِ التثريبِ والتعييرِ {وَتَغْفِرُواْ} بإخفائِهَا وتمهيدِ عُذرِهَا {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يعاملكم ويتفضلُ عليكُم وقيلَ إنَّ ناساً من المؤمنينَ أرادُوا الهجرةَ عن مكَة فثبطهُم أزواجهم وأولادهم وقالوا تنطلقوا وتضيعونَنَا فرقُّوا لهُم ووقفُوا فلما هاجَرُوا بعد ذلكَ ورأو المهاجرينَ الأولينَ قد فقهُوا في الدينِ أرادُوا أن يعاقبُوا أزواجَهُم وأولادَهُم فزُينَ لهم العفوُ وقيلَ قالُوا لهُم أينَ تذهبونَ وتدعُونَ بلدكُم وعشيرتَكُم وأموالَكُم فغضبُوا عليهِم وقالُوا لئِن جمعنَا الله في دارِ الهجرةِ لم نُصِبكم بخيرٍ فلما هاجروا ومنعوهم الخير فحَثُّوا على أنْ يعفُوا عنهُم ويردُّوا إليهِمْ البرَّ والصلةَ(8/258)
} 8 15(8/259)
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
{أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} بلاء ومحنة يوقوعونكم في الإثمِ من حيثُ لا تحتسبون {والله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن آثَرَ محبةَ الله تعالَى وطاعَتَهُ على محبةِ الأموالِ والأولادِ والسعيِ في تدبيرِ مصالحِهِم(8/259)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
{فاتقوا الله مَا استطعتم} أي ابذلُوا في تقواهُ جهدَكُم وطاقَتَكُم {واسمعوا} مواعظَهُ {وَأَطِيعُواْ} أوامرَهُ {وَأَنْفِقُواْ} مما رزقكُم في الوجوهِ التي أمركُم بالإنفاقِ فيها خالصاً لوجهِهِ {خَيْراً لأَنفُسِكُمْ} أي ائتُوا خيراً لأنفسِكُم وافعلُوا ما هو خيرٌ لها وأنفعُ وهو تأكيدٌ للحثِّ على امثتال هذهِ الأوامرِ وبيانٌ لكونِ الأمورِ المذكورةِ خيراً لأنفسِهِم ويجوزُ أن يكونَ صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي إنفاقاً خيراً أو خبراً لكان مقدرا جوابا الأوامر أي يَكُنْ خيراً لأنفسِكُم {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} الفائزونَ بكلِ مرامٍ(8/259)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)
{إن تقرضوا الله} يصرف أموالكم إلى الماصرف التي عينها {قَرْضًا حَسَنًا} مقروناً بالإخلاصِ وطيبِ النفسِ {يضاعفه لَكُمْ} بالواحدِ عشرةً إلى سبعمائةٍ وأكثرَ وقُرِىءَ يُضعّفهُ لكُم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ببركةِ الإنفاقِ ما فرَط منكُم من بعضِ الذنوبِ {والله شَكُورٌ} يَعطى الجزيلَ بمقابلةِ النزرِ القليلِ {حَلِيمٌ} لا يعاجلُ بالعقوبةِ مع كثرةِ ذنوبِكُم(8/259)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{عالم الغيب والشهادة} لا يَخفى عليهِ خافيةٌ {العزيز الحكيم} المبالغُ في القدرةِ والحكمة عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ التغابنِ دُفِعَ عنهُ موت الفجأة(8/259)
الطلاق {
{بسم الله الرحمن الرحيم}(8/260)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
{يا أيها النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} تخصيصُ النداءِ بهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ مع عُمومِ الخطابِ لأمتِهِ أيضاً لتشريفه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وإظهارِ جلالةِ منصبِهِ وتحقيقِ أنَّه المخاطبُ حقيقةً ودخولِهِم في الخطابِ بطريقِ استتباعِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ إيَّاهُم وتغليبِهِ عليهِم لاَ لأنَّ نداءَهُ كندائهم فإذ ذلكَ الاعتبارَ لو كانَ في حيزِ الرعايةِ لكانَ الخطابُ هو الأحقَّ بهِ لشمولِ حُكمهِ للكلِّ قطعاً والمَعْنَى إذا أردتُم تطليقهنَّ وعزمتُم عليهِ كما في قولِهِ تعالَى إِذَا قُمتُم إِلَى الصلاة {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي مستقبلاتٍ لها كقولكَ أتيته ليلة خلتْ من شهرِ كَذَا فإن المرأةَ إذا طُلقَتْ في طُهرٍ يعقبُهُ القُرْءُ الأولُ من أقرائِهَا فقد طُلقَتْ مستقبلةً لعدتِهَا والمرادُ أن يطلقن فيطهر لم يقعْ فيهِ جماعٌ ثم يُخلَّينَ حتى تنقضيَ عدتها وهَذا أحسنُ الطلاقِ وأدخلُهُ في السنةِ {وَأَحْصُواْ العدة} واضبِطُوها وأكملوها ثلاثةَ أقراءٍ كواملَ {واتقوا الله رَبَّكُمْ} في تطويل العدة عليهم والإضرارِ بهنَّ وفي وصفِهِ تعالى بربويته لهم تأكيدٌ للأمر ومبالغةٌ في إيجابِ الاتقاءِ {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} من مساكنِهِنَّ عندَ الفراقِ إلى أنْ تنقضيَ عِدتُهُنَّ وإضافتُهَا إليهنَّ وهيَ لأزواجهنَّ لتأكيدِ النَّهيِ ببيانِ كمالِ استحقاقهِنَّ لسُكنَاهَا كأنها أملاكهُنَّ {وَلاَ يَخْرُجْنَ} ولو بإذنٍ منكُم فإنَّ الإذنَ بالخروجِ في حُكمِ الإخراجِ وقيلَ المَعْنَى لا يخرجنَّ باستبدادٍ منهنَّ أما إذَا اتفقَا على الخروجِ جازَ إذِ الحقُّ لا يعدوهُمَا {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} استثناءٌ من الأولِ قيلَ هيَ الزنا فيخرجنَ لإقامة الحدِّ عليهنَّ وقيلَ إلا أنْ يبذُونَ على الأزواجِ فيحلُّ حينئذٍ إخراجهُنَّ ويؤيدُهُ قراءةُ إلا أنْ يُفْحِشْن عليكُم أو من الثانِي للمبالغةِ في النَّهيِ عن الخروجِ ببيانِ أنَّ خروجَهَا فاحشةٌ {تِلْكَ} إشارة إلى ما ذكر من الأحكامِ وما في إسمِ الإشارةِ من مَعْنَى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان بعلو درجتها وبعدمنزلتها {حُدُودَ الله} التي عيَّنَهَا لعباده {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} أي حدودَهُ المذكورةَ بأن أخل بشيءٍ منها على أنَّ الإظهارَ في حيزِ الإضمارِ لتهويلِ أمرِ التعدِّي والإشعارِ بعلةِ الحكمِ في قولِهِ تعالَى {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} اى اضربها وتفسيرُ الظلمِ بتعريضِهَا للعقابِ يأباهُ(8/260)
} {
قولُهُ تعالَى {لا تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} فإنه استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ مضمونِ الشرطيةِ وقد قالُوا إن الأمرَ الذي يحدثُهُ الله تعالى أنْ يقلبَ قلبَهُ عمَّا فعلَهُ بالتعدِّي إلى خلافِهِ فلا بد أن يكون الظلمُ عبارةً عن ضررٍ دنيويَ يلحقُهُ بسببِ تعدِّيهِ ولا يُمكنُ تدارُكُهُ أو عنْ مُطلقِ الضررِ الشاملِ للدنيويِّ والأُخرويِّ ويخُصُّ التعليلُ بالدنيويِّ لكونِ احترازِ الناسِ منهُ أشدَّ واهتمامِهِمْ بدفْعِهِ أوقى وقولُهُ تعالَى لا تَدْرِى خطابٌ للمتعدِّي بطريقِ الالتفاتِ لمزيدِ الاهتمامِ بالزجرِ عن التعدِّي لا للنبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ كما توهِّمَ فالمَعْنَى وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فقدْ أضرَّ بنفسِهِ فإنك لا نردي أيُّها المتعدِّي عاقبَة الأمرِ لعلَّ الله يحدثُ في قلبكَ بعدَ ذلكَ الذي فعلتَ من التعدِّي أمراً يقتضِي خلافَ ما فعلتَهُ فيبدَّل ببغضِهَا محبةً وبالإعراضِ عنعا إقبالاً إليها ويتسنَّى تَلاَفيهِ رجعةً أو استئنافَ نكاحٍ(8/261)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} شارفنَ آخرَ عدتِهِنَّ {فَأَمْسِكُوهُنَّ} فراجعوهنَّ {بِمَعْرُوفٍ} بحسنِ معاشرةٍ وإنفاقٍ لائقٍ {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} بإيفاء الحق واتقاء الضرار بأنْ يراجعَهَا ثم يُطلقهَا تطويلاً للعدةِ {وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ} عند الرجعةِ والفرقة قطعا للتنازع وهذ أمرُ ندبٍ كما في قولِهِ تعالَى وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ويُروَى عن الشافعي أنه للوجوبِ في الرَّجعَةِ {وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ} أيُّها الشهودُ عندَ الحاجةِ خالصاً لوجهه تعالى {ذلكم} إشارةٌ إلى الحثِّ على الإشهادِ والإقامةِ أو على جميعِ ما في الآيةِ {يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الأخر} إذْ هو المنتفعُ بهِ والمقصودُ تذكيرُهُ وقولُهُ تعالَى {وَمَن يَتَّقِ الله} الخ جملةٌ اعتراضيةٌ مؤكدةٌ لما سبقَ منْ وجوبِ مراعاةِ حدودِ الله تعالى بالوعدِ على الاتقاءِ عن تعدِّيها كَما أن ما تقدمَ من قولِهِ تعالَى وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مؤكدٌ لهُ بالوعيدِ على تعدِّيها فالمعنَى ومنْ يتقَ الله فطلقَ للسنةِ ولم يُضارَّ المعتدةَ ولم يُخرجها من مسكنِهَا واحتاطَ في الإشهادِ وغيرِهِ من الأمورِ {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} مما عَسَى يقعُ في شأنِ الأزواجِ من الغُمومِ والوقوعِ في المضايقِ ويفرجْ عنه ما يعتريهِ من الكُروبِ(8/261)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يحتسبُ} أي من وجهٍ لا يخطرُ ببالِهِ ولا يحتسبُهُ ويجوزُ أن يكونَ كلاماً جيءَ بهِ على نهجِ الاستطرادِ عند ذكرِ قولِهِ تعالى ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله إلى آخرِهِ فالمَعْنَى ومن يتق الله في كلِّ ما يأتي وما يدر يجعلْ لهُ مخرجاً ومخلصاً من غمومِ الدُّنيا والآخرةِ فيندرجُ فيهِ ما نحنُ فيهِ اندراجاً أولياً عن النبي عله الصلاة والسلام أنه قرأها فقالَ مخرجاً من شبهاتِ الدُّنيا ومن غمراتِ الموتِ ومن شدائدِ(8/261)
5 4
يومِ القيامةِ وقالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إِنّى لأعلمُ أخذَ الناسُ بها لكفتْهُم ومن يتقِ الله فما زال يقرؤها ويعيدُهَا ورُوِيَ أن عوف بن الأشجعيَّ أسرَ المشركونَ ابنَهُ سالماً فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال أسرَ ابنِي وشكَا إليهِ الفاقةَ فقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ اتقِ الله وأكثِرْ قولَ لا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله العليِّ العظيمِ ففعلَ فبينَا في بيتِهِ إذ قرعَ ابنُهُ البابَ ومعهُ مائةٌ من الإبلِ غفلَ عنها العدو فاستقها فنزلتْ {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} أيْ كافيهِ في جميعِ أمورِهِ {إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ} بالإضافةِ أي منفذُ أمرِهِ وقُرِىءَ بتنوينِ بالغُ ونصبِ أمره أى يريدُهُ لا يفوتُهُ مرادٌ ولا يعجزه مطلوب وقرئ برفعِ أمرِهِ على أنَّه مبتدأٌ وبالغٌ خبرٌ مقدّمٌ والجملةُ خبرُ إنَّ أو بالغٌ خبر إنَّ وأمرُهُ مرتفعٌ به على الفاعليةِ أي نافذ أمرُهُ وقُرِىءَ بالغاً أمرَهُ على أنَّه حال وخبرإن قولُهُ تعالَى {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شَىْء قَدْراً} أى تقدير وتوقيتا أو مقدار وهُو بيانٌ لوجوبِ التوكلِ عليهِ تعالَى وتفويضِ الأمرِ إليهِ لأنَّه إذا علمَ أنَّ كلَّ شيءٍ من الرزقِ وغيرِه لا يكونُ إلا بتقديرِه تعالَى لا يبقى إلا التسليمُ للقدرِ والتوكلُ على الله تعالى(8/262)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
{واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ} لِكبرهنَّ وقد قدروه بستين سنة ويخمس وخمسينَ {إِنِ ارتبتم} أي شككتُم وجهِلْتُم كيفَ عدّتُهُن {فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ واللائى لَمْ يَحِضْنَ} بعدُ لصغرِهِنَّ أي فعدَّتهنَّ أيضاً كذلكَ فحذفَ ثقةً بدِلالة ما قبلَهُ عليهِ {وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ} أي مُنْتهى عدتِّهِنَّ {أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} سواءً كُنَّ مطلقاتٍ أو مُتوفيًّ عنهُنَّ أزواجُهُنَّ وقد نُسخَ بهِ عمومُ قولِه تعالَى والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أشهر وعشرا لتراخى نزلوله عن ذلكَ لما هُو المشهورُ من قولِ ابنِ مسعود رضي الله عنه من شاءَ باهلتُه أنَّ سورةَ النساءِ القُصْرى نزلتْ بعدَ التي في سورةِ البقرةِ وقد صحَّ أن سبيعة بنت الحرث الأسلميةَ ولدتْ بعدَ وفاةِ زوجِهَا بليالٍ فذكرتْ ذلكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لَهَا قدْ حللتِ فتزوَّجِي {ومن يتق الله} في شأنِ أحكامِهِ ومراعاةِ حقوقِهَا {يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يسرا} أى يسهل عله أمرَهُ ويوفِّقْهُ للخيرِ(8/262)
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
{ذلك} إشارة إلى ما ذكر من الأحكام وما فيه من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان ببعد منزلِته في الفضلِ وإفرادُ الكافِ معَ أن الخطابَ للجمعِ كما يفصح عن قولُه تعالى {أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} لِما أنها لمجردِ الفَرْق بين الحاضرِ والمنقضي لا لتعين خصوصية المخاطبين وقدمر في قولِه تعالَى ذلك بوعظ به كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله من سورةِ البقرةِ {وَمَن يَتَّقِ الله} بالمحافظةِ على أحكامِهِ {يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته} فإنَّ الحسناتِ يُذهبنَ السيئاتِ {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} بالمضاعفةِ(8/262)
9 6
وقولُه تعالى(8/263)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله من الحثِّ عَلى التَّقوى كأنَّه قيلَ كيفَ نعملُ بالتَّقوى في شأنِ المعتداتِ فقيلَ أسكنوهنَّ مسكناً من حيثُ سكنتُم أي بعضَ مكانٍ سكناكم وقولُه تعالَى {مّن وُجْدِكُمْ} أي من وُسعِكم أي مما تطيقونَهُ عطفُ بيانٍ لقولِهِ من حيثُ سكنتُم وتفسيرٌ لهُ {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ} أيْ في السكنى {لتضيقوا عليهن} وتلتجئوهن إلى الخروجِ {وَإِن كُنَّ} أي المطلقاتُ {أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فيخرُجنَ من العدةِ أما المُتوفَّى عنهنَّ أزواجُهنَّ فلا نفقةَ لهُنَّ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} بعدَ ذلكَ {فآتوهن أُجُورَهُنَّ} على الإرضاعِ {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي تشاورُوا وحقيقتُه ليأمرْ بعضُكم بعضاً بجميلٍ في الإرضاعِ والأجرِ ولا يكون من الأب مماسكة ولا من الأمِّ مُعاسرةٌ {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} أي تضايقتُم {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} أي فستوجَدُ ولا تُعوزُ مرضعةٌ أُخرى وفيه معاتبةٌ للأمِّ على المعاسرةِ(8/263)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رزقه فلينفق مما آتاه الله} وإنْ قلَّ أي لينفقْ كُلُّ واحدٍ من الموسرِ والمعسرِ ما يبلغُه وسعُه {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إلا ما آتاها} جَلَّ أو قَلَّ فإنَّه تعالَى لا يكلفُ نفساً إلا وُسعَها وفيهِ تطييبٌ لقلبِ المُعسرِ وترغيبٌ لهُ في بذل مجهود وقد أُكِّدَ ذلكَ بالوعدِ حيثُ قيلَ {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي عاجلاً أو آجلاً(8/263)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)
{وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} أي كثيرٌ من أهلِ قريةٍ {عَتَتْ} أي أعرضتْ {عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ} بالعُتوِّ والتمردِ والعنادِ {فحاسبناها حِسَاباً شديدا} بالاستقصاء والتنقير والمناقشةِ في كلِّ نقيرٍ وقِطْميرٍ {وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً} أي مُنكراً عظيماً وقُرِىءَ نكراً والمرادُ حسابُ الآخرةِ وعذابُها والتعبيرُ عنهما بلفظِ الماضى للدلالة على تحقيقها كما في قوله تعالى وَنَادَى أصحاب الجنة(8/263)
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9)
{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً} هائلاً لا خُسَر وراءَهُ(8/263)
} 1 10(8/264)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)
{أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} تكريرٌ للوعيدِ وبيانٌ لكونه متقبا كأنَّه قيلَ أعدَّ الله لهم هَذا العذابَ {فاتقوا الله يا أولي الألباب} ويجوزُ أن يرادَ بالحسابِ استقصاءُ ذنوبهِم وإثباتُها في صحائفِ الحفظةِ وبالعذابِ ما أصابَهُم عاجلاً وقد جُوِّزَ أن يكونَ عتتْ وما عُطفَ عليهِ صفةً عليهِ صفةً للقريةِ وأعدَّ الله لهم جواباً لقولِه تعالَى كأى {الذين آمنوا} منصوبٌ بإضمارِ أعنِي بياناً للمُنادَى أو عطفُ بيانٍ لهُ أو نعتٌ وفي إبدالهِ منهُ ضعفٌ لتعذرِ حلولِهِ محلَّه {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً} هُو جبريلُ عليهِ السَّلامُ سمِّيَ بهِ لكثرةِ ذكرِهِ أو لنزولِه بالذِكر الذي هُو القرآنُ كما ينبىءُ عنْهُ إبدالُ قولِه تعالَى(8/264)
رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
{رَسُولاً} منْهُ أو لأنَّه مذكورٌ في السمواتِ وفي الأممِ أو أُريدَ بالذكرِ الشرفُ كما في قولِه تعالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ كأنَّه في نفسِه شرفٌ إما لأنه شرفٌ للمنزلِ عليهِ وإما لأنَّه ذو مجدٌ وشرفٌ عند الله تعالَى كقولِه تعالَى عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ أو هُو النبيُّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ وعليهِ الأكثرُ عبرَ عنهُ بالذكرِ لمواظبتِهِ على تلاوةِ القرآنِ أو تبليغِهِ والتذكيرِ بهِ وعبرَ عن إرسالِهِ بالإنزالِ بطريقِ الترشيحِ أو لأنه مسببٌ عن إنزالِ الوَحيِ إليهِ وأُبدلَ منهُ رسولاً للبيانِ أو هو القرآنُ ورسولاً منصوبٌ بمقدرٍ مثلُ أرسلَ أوْ بذكرَا على إعمالِ المصدرِ المنونِ أو بدلٌ منْهُ على أنَّه بمعنى الرسالةِ وقولُه تعالى {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيات الله مبينات} نعتٌ لرسولاً وآيات الله القرآن وبينات حالٌ منها أي حالَ كونِهَا مبيناتٍ لكُم ما تحتاجونَ إليهِ من الأحكامِ وقُرِىءَ مبيَّناتٍ أي بينَها الله تعالَى لقولِه تعالَى قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأيات واللام في قوله تعالى {ليخرج الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} متعلقة بيتلوا أو بأنزلَ وفاعلُ يخرجَ على الأولِ ضميرُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام أو ضميرُ الجلالةِ والموصولِ عبارةٌ عنِ المؤمنينَ بعد إنزالهِ أي ليحصلَ لهم الرسولُ أو الله عزَّ وعلاَ ما هُم عليهِ الآنَ من الإيمان والعملِ الصالحِ أو ليخرجَ من علِمَ أو قدَّرَ أنَّه سيؤمنُ {مّنَ الظلمات إِلَى النور} من الضلالةِ إلى الهُدَى {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا} حسبما بُيِّن في تضاعيفِ ما أُنزلَ من الآياتِ المبيناتِ {يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وقُرِىءَ نُدْخِلْهُ بالنون وقولُه تعالَى {خالدين فِيهَا أَبَداً} حالٌ من مفعولِ يُدخلْهُ والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضمائرِ الثلاثةِ باعتبارِ لفظِها وقولُه تعالَى {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً} حالٌ أُخرى منْهُ أو من الضميرِ في خالدينَ بطريقِ التداخلِ وإفرادُ ضميرِ لهُ قد مرَّ وجهُه وفيهِ مَعْنَى التعجبِ والتعظيمِ لما رزقَهُ الله المؤمنينَ من الثوابِ(8/264)
} {(8/265)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
{الله الذى خَلَقَ سَبْعَ سماوات} مبتدأٌ وخبرٌ {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} أي خلقَ من الأرضِ مثلَهُنَّ في العددِ وقُرِىءَ مثلهُن بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ ومِنَ الأرضِ خبرُهُ واختلفَ في كيفيةِ طبقات الأرض قالوا الجمهور على أنها سبع أراضين طباقاً بعضُها فوقَ بعضٍ بين كلِّ أرضٍ وأرضٍ مسافةٌ كما بينَ السماءِ والأرضِ وفي كلِّ أرضٍ سكانٌ من خلقِ الله تعالَى وقالَ الضحاكُ مطبقةٌ بعضها فوق من غيرِ فتوقٍ بخلافِ السمواتِ قال القرطبيُّ والأولُ أصحُّ لأنَّ الأخبارَ دالةٌ عليهِ كما رَوَى البخاريُّ وغيرُه مِنْ أنَّ كعباً حلفَ بالذي فلقَ البحرَ لمُوسى أنَّ صُهيباً حَدَّثهُ أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لم يرَ قريةً يريدُ دخولَها إلا قالَ حينَ يراهَا اللَّهم ربِّ السمواتِ السبعِ وما أظللنَ وربَّ الأرضينَ السبعِ وما أقللنَ ورب الشيطاطين وما أضللنَ وربَّ الرياحِ وما أذرينَ نسألُكَ خيرَ هذه القريةِ وخيرَ أهلِهَا ونعوذ بكَ من شرِّها وشرِّ أهلها وشرِّ مَنْ فيهَا وعن ابن عباس رضي الله عنهُما أنَّ نافعَ بنَ الأزرق سأله عن تحتَ الأرضينَ خلقٌ قالَ نعمْ قالَ فما الخلقُ قال إما ملائكةٌ أو جنٌّ قال الماورديُّ وعَلى هَذا تختصُّ دعوةُ الإسلامِ بأهلِ الأرضِ العُليا دونَ مَنْ عداهُم وإنْ كانَ فيهنَّ منْ يعقلُ منْ خلقٍ وفي مشاهدتِهِم السماءَ واستمدادِهِم الضوءَ منهَا قولانِ أحدُهما أنهم يشاهدونَ السماءَ مِن كُلّ جَانِبٍ من أرضِهِم ويستمدونَ الضياءَ منهَا والثاني أنهم لا يشاهدونَ السماءِ وأنَّ الله تعالَى خلقَ لهم ضياءً يشاهدُونَهُ وحَكَى الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُما أنها سبعُ أرضينَ متفرقةٌ بالبحارِ وتُظِلُّ الجميعَ السماءُ {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} أي يَجْرِي أمرُه وقضاؤُه بينهنَّ وينفذُ ملكُهُ فيهنَّ وعن قَتَادَةَ في كلِّ سماءٍ وفي كلِّ أرضٍ خلقٌ من خلقِه وأمرٌ من أمرِه وقضاءٌ من قضائِه وقيلَ هو مَا يُدبرُ فيهنَّ من عجائبِ تدبيرِه وقُرِىءَ ينزلُ الأمرُ {لّتَعْلَمُواْ أَنَّ الله على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} متعلقٌ بخلقَ أو بيتنزلُ أو بمضمرٍ يعمُّهمَا أيْ فعلَ ذلكَ لتعلَمُوا أن من قدر على ما ذُكرَ قادرٌ على كلِّ شيءٍ {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شيءٍ عِلْمَا} لاستحالةِ صدورِ الأفاعيلِ المذكورةِ ممن ليسَ كذلكَ ويجوزُ أن يكونَ العاملُ في اللامِ بيانَ ما ذُكر من الخلقِ وتنزّلِ الأمرِ أيْ أَوْحى ذلكَ وبيَّنهُ لتعلمُوا بما ذكرَ من الأمورِ التي تشاهدونَها والتي تتلقَّونها من الوحي من عجائبِ المصنوعاتِ أنه لا يخرجُ عن قدرتِهِ وعلمِهِ شيءٌ ما أصلاً وقُرِىءَ ليعلمُوا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم منْ قرأَ سورةَ الطلاقِ ماتَ على سنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم(8/265)
التحريم 3 {
{بسم الله الرحمن الرحيم}(8/266)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
{يا أيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} رُوي أنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلامُ خَلا بماريةَ في يوم عائشة وعلمن بذلكَ حفصةُ فقالَ لها اكتُمِي عليَّ فقدْ حرمتُ ماريةَ على نفسِي وأُبشركِ أن أبا بكرٍ وعمرَ يملكان بعدى أمرأمتى فأخبرتْ بهِ عائشةَ وكانَتا متصادقتين وقيلَ خَلا بها في يومِ حفصةَ فأرضاهَا بذلكَ واستكتَمَها فلم تكتُمْ فطلَّقَها واعتزلَ نساءَهُ فنزلَ جبريل عله السلامُ فقالَ راجعْها فإنَّها صوَّامةٌ قوامةٌ وإنها لمنْ نسائِكَ في الجَنَّةِ ورُوي أنَّه عليه الصلاةُ والسلام شربَ عسلاً في بيتِ زينبَ بنت جحشٍ فتواطأتْ عائشةُ وحفصةُ فقالتَا نشمُّ منكَ ريحَ المغافيرِ وكانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهُ التفلَ فحرَّم العسلَ فنزلتْ فمعناهُ لمَ تحرمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ منْ ملكِ اليمينِ أو منَ العسلِ {تَبْتَغِى مَرْضَاتِ أزواجك} إما تفسيرٌ لتحرِّمُ أو حالٌ من فاعلِه أو استئناف ببيان مادعاه إليه مؤذن بعد صلاحيتك لذلكَ {والله غَفُورٌ} مبالِغٌ في الغفرانِ قد غفرَ لكَ هذهِ الزلةَ {رَّحِيمٌ} قد رحمَكَ ولم يؤاخِذْكَ بهِ وإنما عاتبكَ محاماةً على عصمتِك(8/266)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
{قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم} أي شرعَ لكُم تحليلَهَا وهو حَلُّ ما عقدَهُ بالكفارةِ أو بالاستثناءِ متصلاً حتَّى لا يحنثَ والأولُ هو المرادُ ههنا {والله مولاكم} سيدكُم ومتولِّي أُمورِكُم {وَهُوَ العليم} بما يصلحكم فبشرعه لكُم {الحكيم} المتقنُ في أفعالِهِ وأحكامِهِ فلا يأمرُكُم ولا ينهاكُمْ إلا حسبما تقتضيه الحِكمةُ ة(8/266)
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
{وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه} وهي حفصةُ {حَدِيثاً} أي حديثَ تحريمِ ماريةَ أو العسلِ أو أمرِ الخلافةِ {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي أخبرتْ حفصةُ عائشةَ بالحديثِ وأفشته إليهَا وقُرِىءَ أنبأتْ بهِ {وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ} أي أطلعَ الله تعالَى النبيَّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ على إفشاءِ حفصةَ {عَرَّفَ} أي النبيُّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ حفصةَ {بَعْضَهُ} بعضَ الحديثِ الذي أفشَتْهُ قيلَ هو حديثُ الإمامة ورُوي أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ قالَ لها ألم أقل لكِ اكتَمِي عليَّ قالت والذي بعثكَ بالحقِّ ما ملكت(8/266)
5 4
ننفسى فرحاً بالكرامةِ التي خصَّ الله تعالَى بهَا أباهَا {وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} أي عن تعريفِ بعضٍ تكرماً قيلَ هو حديثُ ماريةَ {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} أي أخبرَ النبيُّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ حفصةَ بما عرفَهُ من الحديثِ {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا} أي إفشاءَهَا للحديثِ {قَالَ نَبَّأَنِىَ العليم الخبير} الذي لا تَخفى عليهِ خافيةٌ(8/267)
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
{إِن تَتُوبَا إِلَى الله} خطابٌ لحفصةَ وعائشةَ على الالتفاتِ للمبالغةِ في العتابِ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} الفاءُ للتعليل كما في قوله اعبُدْ ربَّكَ فالعبادةُ حقٌّ أي فقدْ وُجدَ منكُما ما يوجبُ التوبةَ من ميلِ قلوبِكما عمَّا يجبُ عليكُما من مُخالصةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحبِّ ما يحبُه وكراهةِ ما يكرهُهُ وقُرِىءَ فقدْ زَاغَت {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} بإسقاطِ إحْدَى التاءينِ وقُرِىءَ عَلى الأصلِ وبتشديدِ الظَّاءِ وتَظهرا أي تتعاونَا عليهِ بما يسوؤه من الإفراطِ في الغير وإفشاءِ سرِّه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه وَجِبْرِيلُ وصالح الْمُؤْمِنِينَ} أي فلَنْ يَعدَمَ مَن يظاهرُهُ فإنَّ الله هو ناصره وجبريل رئيسُ الكُروبيينَ قرينُه ومَن صلحَ منَ المؤمنينَ أتباعُه وأعوانُه قال ابنُ عباسٍ رضي تعالى عنهُما أرادَ بصالحِ المؤمنينَ أبا بكرٍ وعمرَ رضيَ الله عنهُما وقد رُويَ ذلكَ مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاةَ والسلام وبهِ قالَ عكرمةُ ومقاتلٌ وهو اللائق بتوسطه بين جبريلَ والملائكةِ عليهِم السلامُ فإنَّه جمعٌ بينَ الظهيرِ المعنويِّ والظهيرِ الصُّوريِّ كيف لا وإن جبرل ظهيرٌ لهُ عليهما السلامُ يؤيده بالتأييدات الاهية وهما وزيراهُ وظهيراهُ في تدبيرِ أمورِ الرسالةِ وتمشيةِ أحكامِهَا الظاهرةِ ولأنَّ بيانَ مظاهرتِهِما لهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ أشدُّ تأثيراً في قلوبِ بنتيهمَا وتوهيناً لأمرِهِما فكانَ حقيقاً بالتقديمِ بخلافِ ما إذا أُريدَ بهِ جنسُ الصالحينَ كما هوَ المشهور {والملائكة} مع تكاثرِ عددِهِم وامتلاءِ السمواتِ من جموعِهِم {بَعْدَ ذَلِكَ} قيلَ أي بعدَ نُصرةِ الله عزَّ وجلَّ وناموسِهِ الأعظمِ وصالحِ المؤمنينَ {ظَهِيرٍ} أي فوجٌ مظاهرٌ لهُ كأنَّهم يدٌ واحدةٌ على منْ يُعاديهِ فماذَا يفيدُ تظاهرُ امرأتينِ على مَن هؤلاءِ ظُهراؤُه وما ينبىء عنه قوله تعالى بعدَ ذلكَ من فضلِ نُصرتِهِم على نُصرةِ غيرِهِم مِنْ حيثُ إنَّ نصرةَ الكلِّ نصرةِ الله تعالَى وإنَّ نصرتَهُ تعالى بهم وبمظاهرتِهِم أفضلُ من سائرِ وجوهِ نُصرتِهِ هذا ما قالُوه ولعلَّ الأنسبَ أنْ يجعل ذلك إشارة إلى مظاهرةِ صالحِ المؤمنينَ خاصَّة ويكونَ بيانُ بعديةِ مظاهرةِ الملائكةِ تداركاً لما يُوهمه الترتيبُ الذكريُّ من أفضليةِ المقدمِ فكأنه قيلَ بعد ذكرِ مظاهرةِ صالحِ المؤمنينَ وسائرُ الملائكةِ بعدَ ذلكَ ظهيرٌ له عليهِ الصلاةُ والسلامُ إيذاناً بعلوِّ رتبةِ مظاهرتهم وبعد منزلتها وجبرا لفصلِها عن مظاهرةِ جبريلَ عليهِ السلامُ(8/267)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
{عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ} أي يعطيَهُ عليهِ السلامُ بدلكُنَّ(8/267)
8 6
{أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ} على التغليبِ أو تعميمِ الخطابِ وليس فيه ما يدل على أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ لم يُطلقْ حفصةَ وإنَّ في النساءُ خيراً منهنَّ فإنَّ تعليقَ طلاقِ الكلِّ لا يُنافي تطليقَ واحدة وما علق بما لم يقعْ لا يجبُ وقوعُه وقُرِىءَ أنْ يبدِّله بالتشديد {مسلمات مؤمنات} مُقِراتٍ مخلصاتٍ أو منقاداتٍ مصدقاتٍ {قانتات} مصلياتٍ أو مواظباتٍ على الطاعةِ {تائبات} من الذنوبِ {عابدات} متعبداتٍ أو متذللات لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم {سائحات} صائماتٍ سمي الصائمُ سائحاً لأنه يسيحُ في النهارِ بلا زادٍ أو مهاجراتٍ وقُرِىءَ سيحاتٍ {ثيبات وَأَبْكَاراً} وُسِّطَ بينَهُما العاطفَ لتنافيهما(8/268)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ} بتركِ المعاصِي وفعلِ الطاعاتِ {وَأَهْلِيكُمْ} بأنْ تأخذوهم بما تأخذونَ به أنفسكم وقرىء أهلكوا عطفا على واوقوا فيكونَ أنفسَكُم عبارةً عن أنفسِ الكلِّ على تغليبِ المخاطبينَ أي قُوا أنتُم وأهلُوكم أنفسكُم {نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة} أي ناراً تتقدُ بهمَا اتقادَ غيرِها بالحطبِ وأمرَ المؤمنينَ باتقاءِ هذه النارِ المعدةِ للكافرينَ كما نصَّ عليهِ في سورةِ البقرةِ للمبالغةِ في التحذيرِ {عَلَيْهَا ملائكة} أي تَلي أمرَها وتعذيبَ أهلِهَا وهم الزبانيةُ {غِلاَظٌ شِدَادٌ} غلاظُ الأقوالِ شدادُ الأفعالِ أو غلاظُ الخُلقِ شدادُ الخلق وأقوياء على الأفعالِ الشديدةِ {لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ} أي أمرَهُ على أنَّهُ بدلُ اشتمالٍ من الله أو فيما أمرَهُم بهِ على نزع الخافض أي لا يمتنعُون من قبولِ الأمرِ ويلتزمونَهُ {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي ويؤدونَ ما يؤمرون به غيرِ تثاقلٍ ولا توانٍ وقوله تعالى(8/268)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
{يا أيها الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم} مقولٌ لقولٍ قد حُذف ثقةٍ بدلالةِ الحالِ عليهِ أي يُقالُ لهِم ذلكَ عند إدخالِ الملائكةِ إياهم النارَ حسبما أُمروا بهِ {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدُنيا من الكفرِ والمعاصِي بعدَ ما نُهيتُم عنهُما أشدَّ النَّهي وأُمرتم بالإيمانِ والطاعةِ فلا عذرَ لكُم قطعاً(8/268)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} أي بالغةً في النصحِ وُصفتْ التوبةُ بذلكَ على الإسنادِ المجازِي وهو وَصفْ التائبينَ وهو أنْ ينصحُوا بالتوبةِ أنفسَهُم فيأتُوا بها على طريقتِهَا وذلكَ أن يتوبُوا عن القبائحِ لقبحاها نادمينَ عليها مغتمينَ أشدَّ الاغتمامِ لارتكابِهَا عازمينَ على أنَّهم لا يعودونَ في قبيحٍ من القبائحِ موطِّنينَ أنفسَهُم على ذلكَ بحيثُ لا يَلويهم عنه صارفٌ أصلاً(8/268)
} 0 9
عن عليَ رضيَ الله عنهُ أنَّ التوبةَ يجمعها ستةُ أشياءٍ على الماضِي من الذنوبِ الندامةُ وللفرائضِ الإعادةُ وردُّ المظالمِ واستحلالُ الخصومِ وأن تعزمَ على أنْ لا تعودَ وأن تذيبَ نفسكَ في طاعةِ الله تعالى كما ربَّيتها في المعصيةِ وأن تذيقَها مرارةَ الطاعةِ كما أذقتَها حلاوةَ المعصيةِ وعن شهر بن حوشب أنْ لا يعودَ ولو حُزِّ بالسيفِ وأُحرقَ بالنَّارِ وقيلَ نصوحَاً من نصاحةِ الثوب أى توبة توفو خروقَكَ في دينكَ وترمُّ خللك وقيل خالصةٌ من قولِهم عسلٌ ناصحٌ إذا خلصَ من الشمعِ ويجوزُ أنْ يرادَ توبةً تنصحُ الناسُ أي تدعُوهم إلى مثلِها لظهورِ أثرِها في صاحبِها واستعمالِه الجدَّ والعزيمةَ في العملِ بمقتضياتِهَا وقُرِىءَ توباً نصوحاً وقُرِىءَ نُصوحاً وهو مصدرُ نصحَ فإنَّ النُّصحَ والنُّصوحَ كالشكرِ والشُكورِ أي ذات النصح أو تنصحُ نصوحاً أو توبُوا لنصحِ أنفسِكُم على أنَّه مفعولٌ له {عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سيئاتكم وَيُدْخِلَكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} ورودُ صيغةِ الإطماعِ للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ والإشعارِ بأنَّهُ تَفضُلٌ والتوبةُ غيرُ موجبةٍ له وأن العبدَ ينبغِي أن يكونَ بين خوفٍ ورجاء وإن بالغ في إقامةِ وظائفِ العبادةِ {يَوْمٌ لاَّ يخزِى الله النبى} ظرف ليدخلكم {والذين آمنوا مَعَهُ} عطفٌ على النبيِّ وفيهِ تعريضٌ بمن أخزاهُم الله تعالَى من أهلِ الكفرِ والفسوقِ واستحمادٌ إلى المؤمنين على انه عصمَهُم من مثلِ حالِهِم وقيلَ هو مبتدأٌ خبرُه قولُهُ تعالَى {نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} أيْ عل الصراطِ وهو على الأولِ استئناف أو حال وكذا قولُه تعالَى {يَقُولُونَ} الخ وعلى الثاني خبرٌ آخرُ للموصولِ أي يقولونَ إذا طُفىءَ نورُ المنافقينَ {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَا إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} وقيلَ يدعونَ تقرباً إلى الله مع تمام نورهم وقيل تفاوت أنوارُهُم بحسبِ أعمالِهِم فيسألونَ إتمامَهُ تفضُّلاً وقيلَ السابقونَ إلى الجنةِ يمرونَ مثلَ البرقِ على الصراطِ وبعضُهم كالريحِ وبعضُهُم حَبْواً وزحفاً وأولئكَ الذينَ يقولونَ ربنا اتمم لنا نورنا(8/269)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
{يا أيها النبى جاهد الكفار} بالسيفِ {والمنافقين} بالحجَّةِ {واغلظ عَلَيْهِمْ} واستعملِ الخشونةَ على الفريقينِ فيما تجاهدهُما من القتالِ والمحاجَّة {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} سيرونَ فيها عذاباً غليظاً {وَبِئْسَ المصير} أي جهنمُ أو مصيرُهُم(8/269)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
{ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} ضربُ المثلِ في أمثالِ هذهِ المواقعِ عبارةٌ عن إيرادِ حالةٍ غريبةٍ ليعرفَ بها حالةٌ أُخرى مشاكلة في الغرابةِ أي جعلَ الله مثلاً لحالِ هؤلاءِ الكفرةِ حالاً ومآلاً على أنَّ مثلاً مفعولٌ ثانٍ لضربَ واللامُ متعلقةٌ بهِ وقوله تعالى {امرأة نوح وامرأة لُوطٍ} أي حالَهُما مفعولُه الأوَّلَ أُخِّر عنْهُ ليتَّصل بهِ ما هو شرحٌ وتفصيلٌ لحالِهِما ويتضحُ بذلكَ حالُ هؤلاءِ فقولِهِ تعالَى {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين} بيانٌ لحالِهِما الداعية لها إلى الخيرِ والصلاحِ أي كافتاخ عصمةِ نبيينِ عظيمي الشأنِ متمكني // ن من تحصيلِ خيري الدُّنيا والآخرةِ وحيازةَ سعادتيهِما وقولُه تعالَى {فَخَانَتَاهُمَا}(8/269)
} 2 1 {
بيانٌ لما صدرَ عنهُما من الجنايةِ العظيمةِ مع تحقيق ما ينفيها من صحبةِ النبيِّ أي خانتاهُما بالكفرِ والنفاقِ وهذا تصويرٌ لحالهِما المحاكيةِ لحالِ هؤلاءِ الكفرةِ في خيانتِهِم لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالكفرِ والعصيانِ مع تمكنهِم التامِّ من الإيمانِ والطاعةِ وقوله تعالى {فلم يغنيا} الخ بيانٌ لما أدَّى إليه خيانتُهُما أي فلم يُغنِ النبيانِ {عَنْهُمَا} بحقِّ الزواجِ {مِنَ الله} أي من عذابه تعالى {شَيْئاً} أي شيئا من الإغناء {وقيل} لهما عند موتهم أو يومَ القيامةِ {ادخلا النار مَعَ الداخلين} أي مع سائرِ الداخلينَ من الكفرةِ الذينَ لا وصلةَ بينهُم وبينَ الأنبياءِ عليهِم السَّلامُ(8/270)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
{وَضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ آمنوا امرأة فِرْعَوْنَ} أي جعلَ حالها مثلاً لحالِ المؤمنينَ في أنَّ وصلةَ الكفرةِ لا تضرُّهم حيثُ كانتْ في الدُّنيا تحت أعدى أعداءِ الله وهيَ في أعلى غرفِ الجنةِ وقولِهِ تعالَى {إِذْ قَالَتِ} ظرفٌ لمحذوفٍ أشيرَ إليهِ أي ضربَ الله مثلاً للمؤمنينَ حالَها إذْ قالتْ {رَبّ ابن لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الجنة} قريباً من رحمتكَ أو في أَعلَى درجاتِ المقربينَ رُوِيَ أنها لما قالتْ ذلكَ أريتْ بيتَها في الجنة ردة وانتُزِعَ رُوحُها {وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أي مِنْ نفسِه الخبيثةِ وعملِه السيِء {وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين} من القبطِ التابعينَ لهُ في الظلمِ(8/270)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
{وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ} عطفٌ على امرأةِ فرعونٍ تسليةً للأراملِ أي وَضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ آمنُوا حالَها ومَا أوتيتْ من كرامةِ الدُّنيا والآخرةِ والاصطفاء على نساء العاملين مع كونِ قومِها كُفاراً {التى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ} وقُرِىءَ فيها أي مريمٌ {مِن رُّوحِنَا} من رُوحٍ خلقناهُ بلا توسطٍ أصلاً {وَصَدَّقَتْ بكلمات رَبَّهَا} بصحفِهِ المنزلةِ أو بما أَوْحى إلى أنبيائِه {وَكُتُبِهِ} بجميعِ كتبِه المنزلةِ وقُرِىءَ بكلمةِ الله وكتابِه أي بعيسَى وبالكتابِ المنزلِ عليهِ وهو الإنجيلُ {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} أي من عدادِ المواظبينَ على الطاعةِ والتذكيرُ للتغليبِ والإشعارِ بأنَّ طاعتها لم تقصُرْ عنْ طاعاتِ الرجالِ حتى عُدَّت مِنْ جُملَتهم أو مِنْ نَسلِهِم لأنَّها من أعقابِ هارونَ أخِي مُوسى عليهما السلامُ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم كَمُلَ من الرجالِ كثيرٌ ولم يكملْ من النساءِ إلا أربعٌ آسيةُ بنتُ مُزاحمٍ ومريمُ بنتُ عمرانَ وخديجةُ بنتُ خويلدٍ وفاطمةُ بنتُ محمدٍ صلواتُ الله عليهِ وفضلُ عائشةَ على النساءِ كفضلِ الثريدِ على سائرِ الطعامِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ التحريمِ آتاه الله توبة نصوحا(8/270)
67 سورة الملك (1 2)
(سورة الملك مكية وتسمى الواقية والمنجية لأنها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر وآياتها ثلاثون) (بسم الله الرحمن الرحيم)(9/2)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
(تَبَارَكَ الذى بِيَدِهِ الملك) البركة والنماء والزِّيادةُ حسيَّةً كانتْ أو عقليةً وكثرةُ الخيرِ ودوامُه أيضاً ونسبتُها إلى الله عزَّ وجلَّ على المَعْنى الأوَّل وهُو الأليقُ بالمقامِ باعتبارِ تعاليهِ عمَّا سواهُ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ وصيغةُ التفاعلِ للمبالغةِ في ذلك فان مالا يتصورُ نسبتُهُ إليهِ تعالَى من الصِّيغ كالتَّكبر ونحوِه إنَّما تنسبُ إليه سبحانَهُ باعتبارِ غاياتِهَا وعلى الثَّاني باعتبارِ كثرةِ ما يفيضُ منهُ على مخلوقاتِهِ من فنونِ الخيراتِ والصِّيغةُ حينئذٍ يجوزُ أنْ تكونَ لإفادةِ نماءِ تلكَ الخيراتِ وازديادِها شيئاً فشيئاً وآناً فآناً بحسبِ حدوثِها أو حدوثِ متعلَّقاتِها ولاستقلالِها بالدِّلالة على غايةِ الكمالِ وإنبائِها عن نهايةِ التَّعظيمِ لم يجُز استعمالُها في حقِّ غيرِه سبحانَهُ ولا استعمالُ غيرِها من الصيغِ في حقِّه تباركَ وتعالَى وإسنادُها إلى الموصولِ للاستشهادِ بما في حيزِ الصَّلةِ على تحققِ مضمونِهَا واليدُ مجازٌ عن القدرةِ التامَّةِ والاستيلاءِ الكاملِ أي تعالَى وتعاظَم بالذاتِ عن كلِّ ما سواهُ ذاتاً وصفةً وفعلاً الذي بقبضةِ قُدرتِهِ التَّصرفُ الكليُّ في كلِّ الأمورِ {وَهُوَ على كُلّ شَىْء} منَ الأشياءِ {قَدِيرٌ} مبالِغٌ في القُدرة عليهِ يتصرفُ فيهِ حسبما تقتضيه مشيئته المببنية على الحكمِ البالغةِ والجملةُ معطوفةٌ على الصِّلةِ مقررةٌ لمضمونِهَا مفيدةٌ لجريانِ أحكامِ مُلكِهِ تعالَى في جَلائلِ الأُمورِ ودقائِقها وقولُه تعالَى(9/2)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
{الذى خَلَقَ الموت والحياة} شروعٌ في تفصيلِ بعضٍ أحكامِ المُلكِ وآثارِ القُدرةِ وبيانِ ابتنائِهِما على قوانينِ الحِكَمِ والمَصالحِ واستتباعِهِما لغاياتٍ جليلةٍ والموصولُ بدلٌ من الموصولِ الأولِ داخلٌ معهُ في حُكمِ الشهادةِ بتعاليهِ تعالَى والموتُ عندَ أصحابِنَا صفةٌ وجُوديةٌ مضادةٌ للحياةِ وأمَّا ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهُمَا منْ أنَّهُ تعالَى خلقَ الموتُ في صُورةِ كبشٍ أملحَ لا يمرُّ بشيءٍ ولا يجدُ رائحتَهَا شيء الا حي وخلقَ الحياةَ في صورةِ فرسٍ بَلقاءَ لا تمرُّ بشيءٍ ولا يجدُ رائحتَهَا شيء إلا حي فكلامٌ واردٌ على منهاجِ التمثيلِ والتصويرِ وقيلَ هو عدمُ الحياةِ فمعنَى خلقِه حينئذٍ تقديرُهُ أو إزالةُ الحياةِ وأيَّاً ما كانَ فالأقربُ أنَّ المرادَ بهِ الموتُ الطارىءُ وبالحياةِ ما قبلَهُ وما بعدَهُ لظهورِ مداريتِهِما لما ينطقُ بهِ قولُه تعالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فإن استدعاءَ ملاحظتهما لاحسان العمل مما لا ريبَ فيه معَ أنَّ نفسَ العملِ لا يتحققُ بدونِ الحياةِ الدنيويةِ وتقديمُ الموتِ لكونِهِ(9/2)
67 سورة الملك (3)
أدعى إلى إحسانِ العملِ واللامُ متعلقةٌ بخلقَ أي خلقَ موتَكُم وحياتَكُم على أنَّ الألفَ واللامَ عوضٌ عن المضافِ إليهِ ليعاملَكُم معاملةَ مَنْ يختبرُكم أيكُم احسن عملا فيجازيكم على مراتبَ متفاوتةٍ حسبَ تفاوتِ طبقاتِ علومِكُم وأعمالِكُم فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعملِ الجوارحِ ولذلكَ فسَّره عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه أيُكم أحسنُ عقلاً وأورَعُ عن محارمِ الله وأسرعُ في طاعةِ الله فإنَّ لكلٍ من القلبِ والقالَب عملاً خاصَّاً به فكَما أنَّ الأولِ أشرفَ من الثَّانِي كذلكَ الحالُ في عملِه كيفَ لاَ ولا عملَ بدونِ معرفةِ الله عزَّ وجلَّ الواجبةِ على العبادِ آثرَ ذي أثيرٍ وإنما طريقُها النظريُّ التفكرُ في بدائعِ صُنْعِ الله تعالَى والتدبرُ في آياتِه المنصوبةِ في الأنفس والآفاق وقد وقَد رُوي عنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسلام أنه قال لا تُفضِّلوني على يونسَ بنِ مَتَّى فإنَّهُ كانَ يُرفع لهُ كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرض قالُوا وإنَّما كانَ ذلكَ التفكّرَ في أمرِ الله عزَّ وجلَّ الذي هُو عملُ القلبِ ضرورةَ أنَّ أحداً لا يقدرُ على أنْ يعملَ بجوارحِهِ كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرضِ وتعليقُ فعلِ البَلْوَى أي تعقيبُه بحرفِ الاستفهامِ لا التعليقُ المشهورُ الذي يقتضِي عدمَ إيرادِ المفعولِ أصلاً مع اختصاصِهِ بأفعالِ القلوبِ لما فيهِ من مَعْنَى العلمِ باعتبارِ عاقبتِه كالنظرِ ونظائرِه ولذلك أُجرَي مَجْرَاه بطريقِ التمثيلِ وقيلَ بطريقِ الاستعارةِ التبعيةِ وإيرادُ صيغةِ التَّفضيل معَ أنَّ الابتلاء شاملٌ لهم باعتبارِ أعمالهِم المنقسمةِ إلى الحسنِ والأحسنِ فقطْ للإيذانِ بأنَّ المرادَ بالذاتِ والمقصدِ الأصليَّ من الابتلاءِ هو ظهورُ كمالِ إحسانِ المحسنينَ مع تحققِ أصلِ الإيمانِ والطاعةِ في الباقينَ أيضاً لكمالِ تعاضدِ الموجباتِ له وأما الاعارض عن ذلكَ فبمعزلٍ من الاندراجِ تحتَ الوقوعِ فضلاً عن الانتظامِ في سلكِ الغاية للأفعال الاليهة وإنَّما هُو عملٌ يصدُر عن عاملِهِ بسوءِ اختيارِه من غيرِ مصحِّحٍ لهُ ولا تقريبٍ وفيهِ من الترغيبِ في الترقِّي إلى معارجِ العلومِ ومدارجِ الطاعاتِ والزجرِ عن مباشرةِ نقائِضِها ما لا يخفى {وهو العزيز} الغالب الذي لا يفوتُهُ من أساءَ العملَ {الغفور} لمن تابَ منهُم(9/3)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
{الذي خلق سبع سماوات} قيلَ هو نعتٌ للعزيزُ الغفورُ أو بيانٌ أو بدلٌ والأوجهُ أنه نُصِب أو رُفع على المدحِ متعلق بالموصولين السابقينِ مَعْنَى وإنْ كانَ منقطعاً عنهُما إعراباً كما مرَّ تفصيلُه في قولِهِ تعالى الذين يؤمنون بالغيب من سورةِ البقرةِ منتظَمٌ معهما في سلكِ الشهادةِ بتعاليه اليه سبحانَهُ ومع الموصولِ الثَّاني في كونِه مداراً للبلوى كما نطق به قوله تعالَى وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وقولُه تعالَى {طِبَاقاً} صفةٌ لسبعَ سمواتٍ أي مطابقةً على أنَّه مصدرُ طابقتَ النعلَ إذا خصفتَها وُصفَ بهِ المفعولُ أو مصدره مؤكدٌ لمحذوفٍ هو صفتُها أي طُوبقتْ طباقاً وقولُه تعالَى {مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} صفةٌ أُخرى لسبعَ سمواتٍ وضع فيها خلقُ الرحمنِ موضوع الضميرِ للتعظيمِ والإشعارِ بعلةِ الحكمِ وبأنَّه تعالى خلقَها بقدرتِهِ القاهرةِ رحمةً وتفضلاً وبأنَّ في إبداعِها نعماً(9/3)
سورة الملك (4 7)
جليلةً أو استئنافٌ والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلحُ للخطابِ ومنْ لتأكيدِ النَّفي أي ما تَرى فيه شيئا من تفاوتٍ أي اختلافٍ وعدم تناسُبٍ من الفَوتِ فإنَّ كلاً من المتفاوتينَ يفوتُ منهُ بعضُ ما في الآخرِ وقُرِىءَ من تفوتٍ ومعناهُمَا واحدٌ وقولُه تعالَى {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} متعلقٌ به على معنى التسبيب حيثُ أخبرَ أولاً بأنه لا تفاوتَ في خلقهنَّ ثم قيلَ فارجعِ البصرَ حتَّى يتضحَ لك ذلكَ بالمعاينةِ ولا يبقى عندكَ شبهةٌ ما والفطورُ الشقوقُ والصدوعُ جمعُ فِطْرٍ وهو الشقُّ يقالُ فطرَهُ فانفطَرَ(9/4)
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
{ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي رجعتينِ أُخرَيينِ في ارتيادِ الخللِ والمرادُ بالتثنيةِ التكريرُ والتكثيرُ كما في لبَّيكَ وسَعديكَ أي رجعةً بعدَ رجعةٍ وإنْ كثُرتْ {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا} أي بعيداً محروماً من إصابةِ ما التمسَهُ من العيبِ والخللِ كأنَّه يُطردُ عن ذلكَ طرداً بالصَّغارِ والقَماءةِ {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي كليلٌ لطولِ المعاودةِ وكثرةِ المُراجعةِ وقولُه تعالَى(9/4)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا} بيانٌ لكونِ خلقِ السمواتِ في غايةِ الحسنِ والبهاءِ إثرَ بيانِ خُلوِهَا عن شائبةِ القصورِ وتصديرُ الجملةِ بالقسمِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بمضمونِهَا أي وبالله لقد زيَّنا أقربَ السمواتِ إلى الأرضِ {بمصابيح} أي بكواكبَ مضيئةً بالليلِ إضاءةَ السرجِ من السياراتِ والثوابتِ تتراءى كأن كُلَّها مركوزةٌ فيها مع أنَّ بعضَها في سائرِ السمواتِ وما ذاكَ إلا لأنَّ كلَّ واحدةٍ منها مخلوقةٌ على نمطٍ رائقٍ تحارُ في فهمِهِ الأفكارُ وطرازٍ فائقٍ تهيمُ في دركِهِ الأنظارُ {وجعلناها رُجُوماً للشياطين} وجعلنَا لها فائدةً أُخرى هي رجمُ أعدائِكُم بانقضاضِ الشهبِ المقتبسةِ من نارِ الكواكبِ وقيلَ معناهُ وجعلنَاهَا ظنوناً ورجوماً بالغيبِ لشياطينِ الإنسِ وهم المنجمونَ ولا يساعدهُ المقامُ والرجومُ جمع رَجْمٍ بالفتحِ وهو ما يُرجمُ بهِ {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ} في الآخرةِ {عَذَابِ السعير} بعد الاحتراقِ في الدُّنيا بالشهبِ(9/4)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)
{وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ} منَ الشياطينِ وغيرِهِم {عَذَابَ جَهَنَّمَ} وقرئ بالنصبِ على أنَّه عطفٌ على عذابِ السعيرِ وللذينَ على لهم {وَبِئْسَ المصير} أي جهنمُ(9/4)
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)
{إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا} أي لجهنَم وهو متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من قولِهِ تعالَى {شَهِيقًا} لأنه في الأصلِ صفتُه فلما قُدمتْ صارتْ حالاً أي سمعُوا كائناً لَها شهيقاً أي صوتاً كصوتِ الحميرِ وهو حسيسُها المنكرُ الفظيعُ قالوا الشهيقُ في الصدرِ والزفيرُ في الحلقِ {وَهِىَ تَفُورُ} أي والحالُ أنها تغلِي بهم غليانَ المِرْجِلِ بما فيهِ وجعلُ الشهيقِ لأهلِهَا منهُم وممن طُرحَ فيها قبلَهُم كما في قولِهِ تعالَى لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ يرده قوله تعالى(9/4)
67 سورة اتلملك (8 10)(9/5)
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
{تَكَادُ تَمَيَّزُ} أي تتميزُ وتتفرقُ {مِنَ الغيظ} أي منْ شدةِ الغضبِ عليهِم فإنَّه صريحٌ في أنَّهُ من آثارِ الغضبِ عليهِم كما في قوله تعالى سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً فأينَ هُو من شهيقِهِم الناشىءِ من شدةِ ما يقاسونَهُ من العذابِ الأليمِ والجملةُ إما حالٌ من فاعلِ تفورُ أو خبرٌ آخرُ وقولُه تعالَى {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ حالِ أهلِها بعد بيانِ حالِ نفسِها وقيلَ حالٌ من ضميرِها أي كلما أُلقَى فيها جماعةٌ من الكفرةِ {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} بطريقِ التوبيخِ والتقريعِ ليزدادُوا عذاباً فوقَ عذابٍ وحسرةً على حسرةٍ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} يتلُو عليكُم آياتِ ربِّكُم وينذركُم لقاءَ يومِكُم هذا كما وقعَ في سورةِ الزمرِ ويعربُ عنه جوابهُم أيضاً(9/5)
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)
{قَالُواْ} اعترافاً بأنه تعالَى قد أزاحَ عللَهُم بالكليةِ {بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ} جامعينَ بينَ حرفِ الجوابِ ونفسِ الجملةِ المجابِ بها مبالغةً في الاعترافِ بمجىءِ النذيرِ وتحسراً على ما فاتَهُم من السعادةِ في تصديقِهِم وتمهيداً لبيانِ ما وقعَ منهُم من التفريطِ تندماً واغتماماً على ذلكَ أيْ قالَ كلُّ فوجٍ من تلكَ الأفواجِ قد جاءنا نذير اي واحدة حقيقةً أو حكماً كأنبياءِ بني اسرائيل فانهم حكمِ نذيرٍ واحدٍ فأنذرنا وتَلا علينا ما نزَّل الله تعالى عليه من آياتِهِ {فَكَذَّبْنَا} ذلكَ النذيرَ في كونِهِ نذيراً من جهتِهِ تعالَى {وَقُلْنَا} في حقِّ ما تلاهُ من الآياتِ إفراطاً في التكذيبِ وتمادياً في النكيرِ {ما نزل الله} أحدٍ {مِن شَىْء} من الأشياءِ فضلاً عن تنزيلِ الآياتِ عليكُم {إِنْ أَنتُمْ} أي ما أنتُم في ادعاء أنَّه تعالَى نزَّل عليكُم آياتٍ تُنذرونَنا بِمَا فيها {إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ} بَعِيدٍ عن الحقِّ والصوابِ وجمعُ ضميرِ الخطابِ مع أنَّ مخاطِبَ كلِّ فوجٍ نذيرُهُ لتغليبِهِ على أمثاله مبالغةً في التكذيبِ وتمادياً في التضليلِ كما ينبىءُ عنهُ تعميمُ المُنزِّلِ مع تركِ ذكرِ المُنزَّلِ عليهِ فإنَّه مُلوِّحٌ بعمومِهِ حتماً وأما إقامةُ تكذيبِ الواحدِ مُقامَ تكذيبِ الكلِّ فأمرٌ تحقيقيٌّ يصارُ إليهِ لتهويلِ ما ارتكبُوه من الجنايات لامساغ لاعتبارِهِ من جهتِهِم ولا لإدراجِهِ تحت عبارَتِهِم كيفَ لا وهو منوطٌ بملاحظةِ اجماع النذر على مالا يختلفُ من الشرائعِ والأحكامِ باختلافِ العصورِ والأعوامِ وأين هُم من ذلك وقد حال الجريضُ دونَ القريضِ هَذا إذا جَعلَ ما ذُكِرَ حكايةً عن كلِّ واحدٍ من الأفواجِ وأما إذا جُعلَ حكايةً عن الكلِّ فالنذيرُ إمَّا بمَعْنَى الجمعِ لأنَّه فعيلٌ أو مصدرٌ مقدرٌ بمضافٍ عامَ أي أهلُ نذيرٍ أو منعوتٌ بهِ فيتفقُ كلا طَرَفَي الخطابِ في الجمعيةِ ومن اعتبرَ الجمعيةَ بأحدِ الوجوهِ الثلاثةِ على التقديرِ الأولِ ولم يخصَّ اعتبارَهَا بالتقديرِ الأخيرِ فقد اشتَبَه عليه الشئون واختلطَ بهِ الظنونُ وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ الخطابُ من كلامِ الخزنةِ للكفارِ على إرادةِ القولِ على أنَّ مرادَهُم بالضَّلالِ ما كانُوا عليهِ في الدُّنيا أو هلاكهُم أو عقابُ ضلالِهِم تسميةً لهُ باسمِ سببِهِ وأن يكونَ من كلامِ الرسلِ للكفرةِ وقد حكموه للخزانة فتأمل وكن على الحق المبينِ(9/5)
وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)
{وَقَالُواْ} أيضاً معترفينَ بأنَّهم لم يكونوا(9/5)
سورة الملك (11 14)
ممَّن يسمعُ أو يعقلُ {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} كلاماً {أَوْ نَعْقِلُ} شيئاً {مَا كُنَّا فِى أصحاب السعير} أي في عدادِهِم ومن أتباعِهِم وهم الشياطينُ لقولِهِ تعالَى وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير كأنَّ الخزنةَ قالُوا لهم في تضاعيفِ التوبيخِ ألم تسمعُوا آياتِ ربِّكُم ولم تعقِلُوا معانِيهَا حتَّى لا تُكذبُوا بها فأجابُوا بذلكَ(9/6)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
{فاعترفوا بِذَنبِهِمْ} الذي هو كُفرهم وتكذيبُهُم بآياتِ الله ورسله {فَسُحْقًا} بسكونِ الحاءِ وقُرِىءَ بضمِّها مصدرٌ مؤكدٌ إمَّا لفعلٍ متعدَ من المزيدِ بحذفِ الزوائدِ كَما في قعدكَ الله أي فأسحقَهُم الله أي أبعدهم من رحمتِهِ سُحْقَاً أي إسْحَاقاً أو لفعلٍ مترتبٍ على ذلكَ الفعلِ أي فأسحقَهُم الله فسَحقُوا أي بُعدوا سُحقاً أي بُعْداً كما في قول من قال او عضة دهريا ابنَ مروانَ لم تَدَع مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ أيْ لَم تدعَ فلمْ يبْقَ إلا مسحتٌ الخ وعلى هذينِ الوجهينِ قولُه تعالَى وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا واللامُ في قولِهِ تعالَى {لاصحاب السعير} للبيانِ كما في هَيْتَ لكَ ونحوِهِ والمرادُ بهم الشياطينُ والداخلونَ في عدادِهِم بطريقِ التغليبِ(9/6)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
{إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} أي يخافونَ عذابَهُ غائبا عنهم أو غائبين عنْهُ أو عن أعينِ النَّاسِ أو بما خَفِيَ منهُم وهو قلوبُهُم {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} عظيمةٌ لذنوبهم {وأجر كبيرٌ} لا يُقادرُ قدرُه(9/6)
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)
{وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ} بيانٌ لتساوِي السرِّ والجهرِ بالنسبةِ إلى علمِهِ تعالى كما في قوله سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في المشركينَ كانُوا ينالُونَ من النبي عليه الصلاةَ والسلام فيُوحَى إليهِ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ فقال بعضُهُم لبعضٍ اسروا قولمكم كيلاَ يسمعَ ربُّ محمدٍ فقيلَ لهُم أسِرُّوا ذلكَ أو اجهروا بهِ فإنَّ الله يعلمهُ وتقديمُ السرِّ على الجهرِ للإيذانِ بافتضاحِهِم ووقوعِ ما يحذَرونه من أولِ الأمرِ والمبالغةِ في بيانِ شمولِ علمِه المحيطِ لجميعِ المعلوماتِ كأنَّ علمِه تعالَى بما يُسرّونه أقدرُ منهُ بما يجهرونَ بهِ مع كونِهِما في الحقيقةِ على السويةِ فإنَّ علمَه تعالَى بمعلوماتهِ ليسَ بطريقِ حصولِ صُورِها بل وجودُ كلِّ شيءٍ في نفسِه عِلْمٌ بالنِّسبةِ إليهِ تعالَى أو لأنَّ مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبةِ الجهرِ إذْ مَا من شيءٍ يُجهرُ بهِ إلا وهُو أو مباديهِ مُضْمرٌ في القلبِ يتعلقُ بهِ الإسرارُ غالباً فتعلُقُ علمِه تعالَى بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقهِ بحالتِهِ الثانيةِ وقولُهُ تعالَى {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليلٌ لما قبلَه وتقريرٌ لهُ وفي صيغةِ الفعيلِ وتحليةِ الصدورِ بلامِ الاستغراقِ ووصفِ الضمائرِ بصاحبِيتِها من الجزالة ما لا غاية وراءه كأنَّهُ قيلَ إنه مبالغٌ في الإحاطةِ بمضمراتِ جميعِ الناسِ وأسرارِهم الخفيةِ المستكنّةِ في صدورِهِمْ بحيثُ لا تكادُ تفارقُها أصلاً فكيفَ يَخْفى عليهِ ما تُسرُّونَهُ وتجهرونَ بهِ ويجوزُ أنْ يُرادَ بذاتِ الصُّدورِ القلوبُ التي في الصدرِ والمعنى أنه عليمٌ بالقلوبِ وأحوالِها فلا يَخْفَى عليهِ سرٌّ من أسرارِهَا وقولُهُ تعالَى(9/6)
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
{أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}(9/6)
67 سورة الملك (15 18)
إنكارٌ ونفيٌ لعدمِ إحاطةِ علمِهِ تعالَى بالمُضمرِ والمُظهرِ أي ألا يعلمُ السرَّ والجهرَ من أوجدَ بموجبِ حكمتِهِ جميعَ الأشياءِ التي هُمَا من جُملَتِهَا وقولُهُ تعالَى {وَهُوَ اللطيف الخبير} حالٌ من فاعلِ يعلمُ مؤكدةٌ للإنكارِ والنَّفيِ أي ألا يعلمُ ذلكَ والحالُ أنَّه المتوصلُ علمُهُ إلى ما ظهرَ من خلقِهِ وما بطنَ ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ خَلَقَ منصوباً والمَعْنَى ألا يعلمُ الله مَنْ خلقَهُ والحالُ أنَّهُ بهذِهِ المثابةِ من شمولِ العلمِ ولا مساغَ لإخلاءِ العلم عن المفعولِ بإجرائِهِ مَجْرَى يُعْطِي ويمنعُ على مَعْنَى ألا يكونَ عالِماً مَنْ خلقَ لأنَّ الخلقَ لا يتأتَّى بدونِ العلمِ لخلوِّ الحالِ حينئذٍ من الإفادةِ لأنَّ نظمَ الكلامِ حينئذ ألا يكونُ عالماً وهو مبالغٌ في العلمِ(9/7)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
{هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} لينةً يسهلُ عليكُم السلوكُ فيها وتقديمُ لكُم على مفعُولَي الجعلِ مع أن حقه التأخرُ عنهُما للاهتمامِ بِما قُدمَ والتشويق إلى ما أخر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر لا سيَّما عند كونِ المقدمِ ممَّا يدلُّ على كونِ المؤخرِ من منافعِ المخاطبينَ تبقَى النفسُ مترقبةً لورودِهِ فيتمكنُ لديها عندَ ذكرِهِ فضلُ تمكنٍ والفاءُ في قولِه تعالَى {فامشوا فِى مَنَاكِبِهَا} لترتيبِ الأمرِ على الجعلِ المذكورِ أي فاسلكُوا في جوانِبِهَا أو جِبَالِهَا وهو مَثَلٌ لفرطِ التذليلِ فإن منكبَ البعيرِ أرقُّ أعضائِهِ وأنباها عن أنْ يطأَهُ الراكبُ بقدمِهِ فإذا جُعل الأرضُ في الذُّلِّ بحيثُ يتأتَّى المشيُ في مناكبِهَا لم يبقَ منها شيءٌ لم يتذللْ {وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ} والتمسُوا من نعمِ الله تعالَى {وَإِلَيْهِ النشور} أي المرجعُ بعدَ البعثِ لا إلى غيرِه فبالِغُوا في شكرِ نعمِهِ وآلائِهِ(9/7)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
{أأمنتُم مَنْ في السَّماءِ} أي الملائكةَ الموكلينَ بتدبيرِ هذا العالمِ أو الله سبحانَهُ على تأويلِ من في السماءِ أمرُهُ وقضاؤهُ أو على زعمِ العربِ حيثُ كانُوا يزعمونَ أنَّه تعالَى في السماءِ أي أأمنتُم منْ تزعمُونَ أنَّهُ في السماءِ وهُو متعالٍ عن المكانِ {أَن يَخْسِفَ بكم الأرض} بعدما جعلها لكم ذلولا تشمون في مناكبِهَا وتأكلونَ من رزقه لكفر إنكم تلك النعمة أي يقبلها ملتبسة بكم فيغييكم فيهَا كما فعلَ بقارونَ وهو بدل اشتمال من مَنْ وقيلَ هو عَلى حذفِ الجارِّ أيْ مِنْ أنْ يخسفَ {فَإِذَا هِىَ تَمُورُ} أي تضطربُ ذهاباً ومجيئاً على خلافِ ما كانَتْ عليهِ من الذُّلِّ والاطمئنانِ(9/7)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
{أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السماء} إضرابٌ عن التهديدِ بما ذكر وانتقال التهديدِ بوجهٍ آخرَ أيْ بلْ أأمنتُم مَنْ في السَّماءِ {أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا} أي حجارةً من السماءِ كما أرسلَها على قومِ لوطٍ وأصحابِ الفيلِ وقيلَ ريحاً فيها حجارةٌ وحصباءُ كأنَّها تقلعُ الحصباءَ لشدَّتِهَا وقوتِهَا وقيلَ هي سحابٌ فيها حجارةٌ {فَسَتَعْلَمُونَ} عن قريبٍ البتةَ {كَيْفَ نَذِيرِ} أي إنذارِي عندَ مُشاهدتِكُم للمنذَرِ بهِ ولكنْ لا ينفعكُم العلمُ حينئذٍ وقُرِىءَ فسيعلمُونَ بالياءِ(9/7)
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)
{وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل كفارِ مكةَ من كفارِ الأممِ السَّالفةِ كقومِ نوحٍ وعادٍ وأضرابِهم والالتفاتُ إلى الغيبة لابراز(9/7)
67 سورة الملك (19 21)
الإعراضِ عنهُم {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكارِي عليهِم بإنزالِ العذابِ أي كانَ على غايةِ الهولِ والفظاعةِ وهذا هو موردُ التأكيدِ القسَمِي لا تكذيبُهُم فقطْ وفيهِ من المبالغةِ في تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديد التهديد لقومه مالا يَخْفَى(9/8)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} أغفَلوا ولم ينظُروا {إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صافات} باسطاتٍ أجنحتهنَّ في الجوِّ عند طيرانِهَا فإنهنَّ إذا بسطنَهَا صفَفنَ قوادِمها صفاً {وَيَقْبِضْنَ} ويضمُمنها إذا ضربنَ بها جنوبهنَّ حيناً فحيناً للاستظهارِ بهِ على التحركِ وهو السرُّ في إيثارِ يقبضنَ الدالِّ على تجددِ القبضِ تارةً بعد تارةٍ على قابضاتٍ {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الجوِّ عند الصفِّ والقبضِ على خلافِ مقتضى الطبعِ {إِلاَّ الرحمن} الواسعُ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ بأنْ برأهُنَّ على أشكال وخصاصئص وهيأهُنَّ للجريِ في الهواءِ والجملةُ مستأنفةٌ أو حالٌ من الضميرِ في يقبضنَ {إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ} يعلمُ كيفيةَ إبداعِ المبدعاتِ وتدبيرِ المصنوعاتِ وقولِه تعالَى(9/8)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)
{أم مّنْ هذا الذى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن} تبكيتٌ لهم بنفي أنْ يكونَ لهم ناصرٌ غيرُ الله تعالَى كما يلوحُ به التعرضُ لعنوانِ الرحمانيةِ ويعضُدهُ قولُه تعالَى مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن أو ناصرٌ من عذابِهِ تعالَى كما هو الأنسبُ بما سيأتي من قولِه تعالَى إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ كقولِهِ تعالَى أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا في المعنيينِ معاً خَلا أنَّ الاستفهامِ هُناكَ متوجهٌ إلى نفسِ المانعِ وتحققهِ وههُنا إلى تعيينِ الناصرِ لتبكيتِهِم بإظهارِ عجزِهِم عن تعيينِهِ وأم منقطعةٌ مقدرةٌ ببل المفيدةِ للانتقالِ من توبيخِهِم على تركِ التأملِ فيما يشاهدونَهُ من أحوالِ الطيرِ المنبئةِ عن تعاجيبِ آثارِ قدرةِ الله عزَّ وجلَّ إلى التبكيتِ بما ذُكِرَ والالتفاتُ للتشديدِ في ذلكَ ولا سبيلَ إلى تقديرِ الهمزةِ معَها لأنَّ ما بعدَهَا مَنْ الاستفهاميةُ وهي مبتدأٌ وهذا خبرُهُ والموصولُ مع صلتِهِ صفتُهُ كما في قوله تعالى مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ وإيثارُ هذا لتحقيرِ المشارِ إليهِ وينصرُكُم صفةٌ لجندٌ باعتبارِ لفظِهِ ومن دونِ الرحمنِ على الوجهِ الأولِ إما حالٌ من فاعلِ ينصركُم أو نعتٌ لمصدرِهِ وعلى الثاني متعلقٌ بينصركم كما في قولِهِ تعالَى مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله فالمَعْنَى بلْ مَنْ هذا الحقيرُ الذي هُو في زعمِكُم جندٌ لكم ينصرُكُم نصراً كائناً من دونِ نصرِهِ تعالَى أو ينصرُكُم من عذابٍ كائنٍ من عندِ الله عزَّ وجلَّ وتوهمُ أنَّ أمَّ معادلة لقوله تعالى او لم يَرَوْاْ الخ معَ القولِ بأنَّ مَنِ استفهاميةٌ مما لا تقريبَ له أصلاً وقولُه تعالَى {إِنِ الكافرون إِلاَّ فِى غُرُورٍ} اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَهُ ناعِ عليهِم ما هُم فيهِ من غايةِ الضلالِ أي ما هُم في زعمِهِم أنَّهم محفوظونَ من النوائبِ بحفظِ آلهتِهِم لا بحفظِهِ تعالَى فقطْ أو أنَّ آلهتَهُم تحفظهُم من بأسِ الله إلا في غرورٍ عظيمٍ وضلالٍ فاحشٍ من جهةِ الشيطانِ ليسَ لهُم في ذلكَ شيءٌ يعتدُّ بهِ في الجملةِ والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ باقتضاءِ حالِهِم للإعراضِ عنهُم وبيانِ قبائِحِهِم لغيرِهِم والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لذمِّهِم بالكُفرِ وتعليلِ غرورِهِم بهِ والكلامُ في قوله تعالى(9/8)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
{أم من هذا الذى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أمسك}(9/8)
اي الله عزل وجلَّ {رِزْقَهُ} بإمساكِ المطرِ وسائرِ مباديهِ كالذي مرَّ تفصيلُه خَلا أنَّ قولَه تعالَى {بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ} منبىءٌ عن مقدَّرٍ يستدعيهِ المقامُ كأنَّه قيلَ إثرَ تمامِ التبكيتِ والتعجيزِ لم يتأثَّروا بذلكَ ولم يُذعنُوا للحقِّ بل لجُّوا وتمادَوا في عتوَ أي عنادٍ واستكبارٍ وطغيانٍ ونفورٍ أيْ شرادٍ عن الحقِّ وقولُه تعالَى(9/9)
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
{أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى} الخ مثلٌ ضُرِبَ للمشركِ والموحدِ توضيحاً لحالهما وتحقيقا لشأن مذهبهما والفاءُ لترتيبِ ذلكَ على ما ظهرَ من سوءِ حالِهِم وخرورِهِم في مهاوِي الغرورِ وركوبِهِم متنَ عشواءِ العتوِّ والنفورِ وعدمِ اهتدائِهِم في مسلكِ المُحاجَّةِ إلى جهةٍ يتوهمُ فيها رشدٌ في الجملةِ فإنَّ تقدمَ الهمزةِ عليها صورةً إنَّما هُو لاقتضائِهَا الصدارةَ وأما بحسبِ المعنى فالأمرُ بالعكسِ كَمَا هو المشهورُ حتَّى لو كانَ مكانُ الهمزةِ هلْ لقيلَ فهَلْ مَنْ يمشِي مُكباً الخ والمُكِبُّ الساقطُ على وجهِهِ يقالُ أكبَّ خرَّ على وجهِهِ وحقيقته صار ذاكب ودخلَ في الكبِّ كأقشعَ الغمام اي صار ذاقشع والمَعْنَى أفمنْ يمشِي وهو يعثرُ في كلِّ ساعةٍ ويخرُّ على وجهِهِ في كلِّ خُطوةٍ لتوعرِ طريقِه واختلالِ قُواه أهدَى إلى المقصد الذي يؤمه {أم من يَمْشِى سَوِيّاً} أي قائماً سالماً من الخبطِ والعثارِ {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} مستوِي الأجزاءِ لا عِوَجَ فيهِ ولا انحرافَ قيلَ خبرٌ من الثانيةِ محذوفٌ لدلالةِ خبرِ الأُولَى عليهِ ولا حاجةَ إلى ذلكَ فإنَّ الثَّانيةَ معطوفةٌ على الأُولى عطف المفرد على المفردِ كقولِكَ أزيدٌ أفضلُ أم عمروٌ وقيل أُريدَ بالمكبِّ الأَعْمَى وبالسويِّ البصيرُ وقيلَ من يمشِي مُكباً هو الذي يُحشرُ على وجهِهِ إلى النَّارِ ومَنْ يمشِي سوياً الذي يُحشرُ على قدميهِ إلى الجنَّةِ(9/9)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)
{قُلْ هُوَ الذى أَنشَأَكُمْ} إنشاءً بديعاً {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع} لتسمعُوا آياتِ الله وتمتثلُوا بما فيهَا من الأوامرِ والنواهِي وتتعظُوا بمواعظِهَا {والأبصار} لتنظرُوا بها إلى الآياتِ التكوينيةِ الشاهدةِ بشؤون الله عزَّ وجلَ {والأفئدة} لتتفكَّروا بهَا فيمَا تسمعونَهُ وتشاهدونَهُ من الآياتِ التنزيليةِ والتكوينيةِ وترتقُوا في معارجِ الإيمانِ والطاعةِ {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي باستعمالِهَا فيما خُلقتْ لأجله من الأمورِ المذكورةِ وقليلاً نعتٌ لمحذوفٍ وما مزيدةٌ لتأكيدِ القِلة أيُ شكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تشكرونَ وقيلَ القِلةُ عبارةٌ عن العدمِ(9/9)
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
{قُلْ هُوَ الذى ذَرَأَكُمْ فِى الأرض} أي خلقكُم وكثركُم فيهَا لا غيرُهُ {وإليه تحشرون} للجزاء لا إلى غيرِهِ اشتراكاً أو استقلالاً فابنُوا أمورَكُم على ذلكَ(9/9)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
{وَيَقُولُونَ} من فَرْط عتوِّهم وعِنادِهم {متى هذا الوعد} أيِ الحشرُ الموعودُ كما ينبىء عنه قوله تعالى وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {إِن كُنتُمْ صادقين} يخاطبونَ بهِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث كانوا(9/9)
6 سورة الملك (26 29)
مشاركينَ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في الوعدِ وتلاوةِ الآياتِ المتضمنةِ له وجوابُ الشرطِ محذوفٌ أي إنْ كنتُم صادقينَ فيما تخبرونَهُ من مجىءِ الساعةِ والحشرِ فبيِّنُوا وقتَهُ(9/10)
قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
{قُلْ إِنَّمَا العلم} أي العلمُ بوقتِهِ {عَندَ الله} عزَّ وجلَّ لا يطلعُ عليهِ غيرُهُ كقولِهِ تعالَى قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى {وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أنذركُم وقوعَ الموعودِ لا محالةَ وأما العلمُ بوقتِ وقوعِهِ فليسَ من وظائفِ الإنذارِ والفاءُ في قوله تعالى(9/10)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
{فَلَمَّا رَأَوْهُ} فصيحةٌ معربةٌ عن تقديرِ جملتينِ وترتيبِ الشرطيةِ عليهِمَا كأنَّه قيلَ وقد أتاهُم الموعودُ فرأَوهُ فلما رأوه الى آخر كما مرَّ تحقيقُهُ في قوله تعالى فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه إلاَّ أنَّ المقدرَ هُناكَ أمرٌ واقعٌ مرتبٌ على ما قبلَهُ بالفاءِ وهَهُنَا أمرٌ منزلٌ منزلةَ الواقعِ واردٌ على طريقةِ الاستئنافِ وقولُهُ تعالَى {زُلْفَةً} حالٌ من مفعولِ رَأَوْا إمَّا بتقديرِ المضافِ أيْ ذَا زُلفةٍ وقربٍ أو على أنَّه مصدرٌ بمَعْنَى الفاعلِ أي مُزدَلِفاً أو على أنَّه مصدرٌ نُعت بهِ مبالغةً أو ظرفٌ أيْ رَأَوهُ في مكانٍ ذِي زُلفةٍ {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} بأنْ غشيتها الكآبة ورهفها القَترُ والذلةُ ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهِم لذمِّهِم بالكُفرِ وتعليلِ المساءةِ بهِ {وَقِيلَ} توبيخاً لهم وتشديداً لعذابِهِم {وقيل هذا الذى كنتم به تَدَّعُونَ} أي تطلبُونَهُ في الدُّنيا وتستعجلونَهُ إنكاراً واستهزاءً على أنَّه تفتعلونَ من الدعاءِ وقيلَ هو من الدَّعْوَى أي تدَّعُونَ أنْ لا بعثَ ولا حشرَ وقُرِىءَ تَدْعُون هَذا وقَدْ رُويَ عن مجاهدٍ أن الموعودَ عذابُ يومِ بدرٍ وهو بعيد(9/10)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)
{قل أرأيتم} أي أخبروني {إِنْ أَهْلَكَنِىَ الله} أي أماتَنِي والتعبيرُ عنه بالإهلاكِ لما كانُوا يدعون عليه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنينَ بالهلاكِ {وَمَن مَّعِى} مِنَ المؤمنينَ {أَوْ رَحِمَنَا} بتأخيرِ آجالِنَا فنحنُ في جوارِ رحمَتِهِ متربصونَ لإحدَى الحُسنيينِ {فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي لا ينجِّيكُم منهُ أحدٌ مِتنا أو بَقِينا ووضعُ الكافرينَ موضعَ ضميرِهم للتسجيلِ عليهِم بالكفرِ وتعليلِ نَفي الإنجاءِ بهِ(9/10)
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)
{قُلْ هُوَ الرحمن} أي الذي أدعُوكم إلى عبادَتِهِ مولى النعم كلها {آمنا بِهِ} وحدَهُ لَمَّا علمنَا أنَّ كلَّ ما سواهُ إما نعمةٌ أو مُنعَمٌ عليهِ {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} لا على غيرِه أصلاً لعلِمنا بأنَّ ما عداهُ كائناً ما كانَ بمعزلٍ من النفعِ والضُّرِّ {فَسَتَعْلَمُونَ} عن قريبٍ البتةَ {مَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ} منَّا ومنكُم وقُرِىءَ فسيعلمُونَ بالياءِ التحتانية(9/10)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
{قل أرأيتم} أي أخبرونِي {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} أي غائراً في الأرضِ بالكليةِ وقيلَ بحيثُ لا تنالُهُ الدِّلاءُ وهو مصدر(9/10)
68 سور القلم (1 2)
وُصِفَ بِهِ {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ} جارٍ أو ظاهرٍ سهلِ المأخذِ عن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ المُلكِ فكأنَّهُ أحيَا ليلةَ القدر
سورة القلم مكية الا من آية 17 الى آية 33 ومن آية 48 الى آية 50 فمدنية وآياتها اثنتان وخمسون {بسم الله الرحمن الرحيم(9/11)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
! (ن) بالسُّكون على الوقفِ وقُرىء بالكسرِ وبالفتحِ لالتقاءِ السَّاكنينِ ويجوزُ أنْ يكونَ الفتحُ بإضمارِ حرفِ القسمِ في موضعِ الجرِّ كقولِهم الله لأفعلنَّ بالجرِّ وأنْ يكونَ ذلك نصباً أذكُرْ لا فتحاً كما سبقَ في فاتحةِ سُورةِ البقرةِ وامتناعُ الصرَّفِ للتَّعريفِ والتَّانيثِ على أنَّهُ علمٌ للسورةِ ثمَّ إنْ جُعل إسماً للحرفِ مسروداً على نمطِ التعديدِ للتحدِّي بأحدِ الطريقينِ المذكورينِ في موقِعِه أو إسماً للسورةِ منصوباً على الوجهِ المذكورِ أو مرفوعاً على أنه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ فالواوُ في قولِه تعالَى {والقلم} للقسمِ وإنْ جعلَ مُقسَماً بهِ فهي للعطفِ عليهِ وأيَّاً ما كانَ فإنْ أُريدَ بهِ قلمُ اللوحِ والكرامِ الكاتبينَ فاستحقاقُهُ للإعظامِ بالإقسامِ بهِ ظاهرٌ وإنْ أُريدَ بهِ الجنسُ فاستحقاقُ ما في أيدي النَّاسِ لذلكَ لكثرةِ منافعِهِ ولو لم يكُنْ له مزيةٌ سوى كونِهِ آلةً لتحريرِ كتبِ الله عزَّ قائلاً لكَفَى بهِ فضلاً موجباً لتعظيمِهِ وقُرِىءَ بإدغامِ النونِ في الواوِ {وَمَا يَسْطُرُونَ} الضميرُ لأصحابِ القلمِ المدلول عليهم بذكره وقيل للقلم على أن المرادَ به أصحابه كأنه قيل وأصحاب القلم ومسطوراتِهِم على أنَّ ما موصولةٌ او وسطرهم على أنَّها مصدريةٌ وقيلَ للقلمِ نفسِهِ بإسنادِ الفعلِ إلى الآلةِ وإجرائِهِ مَجْرَى العقلاءِ لإقامتِهِ مقامَهُم وقيلَ المرادُ بالقلمِ ما خُطَّ اللوحِ خاصَّةً والجمعُ للتعظيمِ وقولُهُ تعالَى(9/11)
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)
{مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ} جوابُ القسمِ والباءُ متعلقةٌ بمضمرٍ هو حالٌ من الضميرِ في خبرِهَا والعاملُ فيها مَعْنَى النَّفي كأنَّه قيلَ أنتَ بريءٌ من الجنونِ ملتبساً بنعمةِ الله التي هيَ النبوةُ والرياسةُ العامةُ والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن التبليغِ إلى معارجِ الكمالِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه صلى الله عليه وسلم والإيذانِ بأنَّه تعالَى يُتمُّ نعمتَهُ عليهِ ويبلغُه من العلوِّ إلى غايةٍ لا غايةَ وراءَهَا والمرادُ تنزيهُهُ صلى الله عليه وسلم عما كانوا ينسبونه صلى الله عليه وسلم إليهِ من الجنونِ حَسَداً وعداوةً ومكابرةً مع جزمِهِم بأنه صلى الله عليه وسلم في غايةُ الغاياتِ القاصيةِ ونهايةُ(9/11)
68 سورة القلم (3 8)
النهاياتِ النائيةِ من حَصانةِ العقلِ ورَزَانَةِ الرأيِ(9/12)
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
{وَإِنَّ لَكَ} بمقابلةِ مقاساتِكَ ألوانَ الشدائدِ منْ جهتِهِم وتحملِك لأعباءِ الرسالةِ {لأَجْرًا} لثواباً عظيماً لا يُقادَرُ قَدرُهُ {غَيْرُ مَمْنُونٍ} معَ عظمِهِ كقولِهِ تعالَى عَطَاء غير مجذوذ او غير ممنونٍ عليكَ من جهةِ الناسِ فإنَّهُ عطاؤُه تعالى بلاَ توسطٍ(9/12)
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
{وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} لا يُدرِكُ شأوَهُ أحدٌ منَ الخلقِ ولذلكَ تحتملُ من جهتهم مالا يكادُ يحتملُهُ البشرُ وسُئلتْ عائشةَ رضيَ الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالتْ كان خُلُقه القُرآنَ ألستَ تقرأُ القُرآنَ قَدْ افلح المؤمنون والجملتان معطوفتنا على جوابِ القسمِ(9/12)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5)
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} قالَ ابنُ عباس رضي الله عنهما فستعلمُ ويعلمونَ يومَ القيامةِ حينَ يتبينَ الحقُّ من الباطلِ وقيل فستبصرُ ويبصرونَ في الدُّنيا بظهورِ عاقبةِ أمرِكُم بغلبةِ الإسلامِ واستيلائِكَ عليهِم بالقتلِ والنهبِ وصيرورتِكَ مهيباً مُعظماً في قلوبِ العالمينَ وكونِهِم أذلةً صاغرينَ قالَ مقاتلٌ هَذا وعيدٌ بعذابِ يومِ بدرٍ(9/12)
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
{بِأَيّكُمُ المفتون} أي أيكم الذي فُتنَ بالجنونِ والباءُ مزيدةٌ أو بأيكم الجنونُ على أنَّ المفتونَ مصدرٌ كالمعقولِ والمجلودِ أو بأيِّ الفريقينِ منكُم المجنونُ أبفريقِ المؤمنينَ أم بفريقِ الكافرينَ أي في أيِّهما يوجدُ من يستحقُّ هَذا الإسمَ وهو تعريضٌ بأبي جهلِ بن هشام والوليد ابن المغيرة واضربهما كقولِهِ تعالَى سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر وقولُه تعالَى(9/12)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} تعليلٌ لما ينبىءُ عنهُ ما قبلَهُ من ظهورِ جنونِهِم بحيثُ لا يَخْفى على أحد وتأكيدا لما فيهِ من الوعدِ والوعيدِ أي هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عن سبيله تعالَى المؤدِّي إلى سعادةِ الدارينِ وهامَ في تيهِ الضلالِ متوجهاً إلى ما يفيضه إلى الشقاوةِ الأبديةِ وهذا هُو المجنونُ الذي لا يفرقُ بين النفعِ والضررِ بل يحسبُ الضررَ نفعاً فيؤثرهُ والنفعَ ضرراً فيهجُرهُ {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} إلى سبيلِهِ الفائزينَ بكلِّ مطلوبٍ الناجين عن كل محذوروهم العقلاءُ المراجيحُ فيجزِي كلاً من الفريقينِ حسبَما يستحقُّهُ من العقابِ والثوابِ وإعادةُ هو أعلمُ لزيادةِ التقريرِ والفاء في قوله تعالى(9/12)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8)
{فَلاَ تُطِعِ المكذبين} لترتيبِ النهْيِ على ما يُنبىء عنهُ ما قبلَه من اهتدائه صلى الله عليه وسلم وضلالِهِم أو على جميعِ ما فُصّل من أوَّلِ السورة وهذا(9/12)
68 سورة القلم (9 13)
تهييجٌ وإلهابٌ للتصميمِ على معاصاتِهِم أيْ دُمْ على ما أنت عليه من عدمِ طاعتِهِم وتصلَّبْ في ذَلك أو نهيٌ عن مداهنَتِهِم ومداراتِهِم بإظهارِ خلافِ ما في ضميرِه صلى الله عليه وسلم استجلاباً لقلوبِهِم لا عن طاعتهم كما ينبىء عنه قوله تعالَى(9/13)
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
{وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ} فإنَّه تعليلٌ للنهي أو الانتهاءِ وإنما عبَّر عنها بالطاعةِ للمبالغةِ في الزجرِ والتنفيرِ أيْ أَحبُوا لو تلاينُهُم وتسامحُهُم في بعضِ الأمورِ {فَيُدْهِنُونَ} أي فهُم يُدهِنُونَ حينئذٍ أو فهُم الآنَ يُدْهِنُونَ طمعاً في إدهانِكَ وقيل هو معطوفٌ على تُدهنُ داخلٌ في حيزِ لَوْ والمَعْنَى ودُّوا لو يُدهنُونَ عقيبَ إدهانِكَ ويأباهُ ما سيأتِي من بدئِهِم بالادهان على إدهانَهُم أمرٌ محققٌ لا يناسبُ إدخالَهُ تحت التمنِّي وأيَّاً ما كانَ فالمعتبرُ في جانبِهِم حقيقةُ الإدهانِ الذي هُو إظهارُ الملاينةِ وإضمارُ خلافِهَا وأمَّا في جانبه صلى الله عليه وسلم فالمعتبرُ بالنسبةِ إلى ودادتِهِم هو إظهارُ الملاينةِ فَقَطْ وأمَّا إضمارُ خلافِهَا فليسَ في حيزِ الاعتبارِ بلْ هُم في غايةِ الكراهةِ له وانما اعتباره بالنسبة اليه صلى الله عليه وسلم وفي بعضِ المصاحفِ فيُدهنُوا على أنَّه جواب التمني المفهوم من ودُّوا أو أن ما بعده حكاية لودادتهم وقيل على أنَّه عطفٌ على تُدهنُ بناءً على أنَّ لَوْ بمنزلةِ أَن الناصبةِ فلا يكونُ لها جوابٌ وينْسبكُ منها ومما بعدها مصدرٌ يقع مفعولا لو دوا كأنَّه قيلَ ودُّوا أنْ تُدهنَ فيدهنوا وقيلَ لَوْ على حقيقتها وجوابُها محذوف وكذا مفعولُ ودُّوا أي ودُّوا إدهانَكَ لو تُدهنُ فيدهنون لسرُّوا بذلكَ(9/13)
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)
{وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ} كثيرِ الحِلفِ في الحقِّ والباطِلِ تقديمُ هذا الوصفِ على سائرِ الأوصافِ الزاجرةِ عن الطاعةِ لكونِهِ أدخلَ في الزجرِ {مُّهِينٌ} حقيرِ الرَّأي والتدبيرِ(9/13)
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
{هَمَّازٍ} عيابٍ طعَّانٍ {مَّشَّاء بِنَمِيمٍ} مضربٍ نقالٍ للحديثِ من قومٍ إلى قومٍ على وجهِ السِّعايةِ والإفسادِ بينهُم فإنَّ النميمِ والنميمةَ السِّعايةُ(9/13)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
{مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ} أي بخيلٍ أو مناعٍ للناسِ من الخيرِ الذي هُو الإيمانُ والطاعةُ والإنفاقُ {مُعْتَدٍ} متجاوزٍ في الظلمِ {أَثِيمٍ} كثيرِ الآثامِ(9/13)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)
{عُتُلٍ} جافٍ غليظٍ من عتلَهُ إذَا قادَهُ بعنفٍ وغلظةٍ {بَعْدَ ذَلِكَ} بعدَ ما عُدّ من مثالبهِ {زَنِيمٍ} دَعيَ مأخوذٌ من الزَّنمَةِ وهي الهَنةُ من جلد الماعزة تُقطعُ فتخلَّى متدليةً في حَلقِهَا وفي قولِه تعالَى بعد ذلكَ دلالةٌ على أنَّ دعوتَهُ أشدُّ معايبِهِ وأقبحُ قبائِحِه قيلَ هُو الوليدُ بنُ المغيرةِ فإنَّهُ كانَ دَعِيَّاً في قريشٍ وليسَ من سِنْخِهِم ادعاهُ المغيرةُ بعد ثمانِي عشرةَ من مولِدِه وقيلَ هو الأخنسُ بنُ شُريقٍ أصلُه من ثقيفٍ وعدادُه في زهرة(9/13)
68 سورة القلم (14 19)(9/14)
أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)
{أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} متعلقٌ بقولِه تعالَى لا تُطِعْ أي لا تُطِعْ من هَذِه مثالبُه لأن كان متمو لا مستظهراً بالبنينَ وقولُه تعالَى(9/14)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
{إذا تتلى عليه آياتنا قَالَ أساطير الأولين} استئنافٌ جارٍ مَجْرَى التَّعليلِ للنَّهي وقيلَ متعلقٌ بما دلَّ عليهِ الجملةُ الشرطيةُ من معنى الجحود ذو التكذيب لا بجوابِ الشرطِ لأنَّ ما بعدَ الشَّرطِ لا يعملُ فيما قبله كأنه قيلَ لكونِه مُستظهراً بالمالِ والبنينَ كذَّبَ بآياتِنَا وفيهِ انه بدل أنَّ مدارَ تكذيبِهِ كونُه ذا مالٍ وبنينَ من غيرِ أنْ يكونَ لسائرِ قبائِحِه دخلٌ في ذلكَ وقُرِىءَ أَأَنْ كانَ على مَعْنَى ألأنْ كانَ ذَا مالٍ كذَّبَ بهَا أو أتطيعُه لأن كانَ ذا مالٍ وقُرِىءَ إِنْ كانَ بالكسرِ والشرطُ للمخاطبِ أي لا تُطعْ كلَّ حلاَّفٍ شارطاً يسارَهُ لأنَّ إطاعةَ الكافرِ لغناهُ بمنزلةِ اشتراطِ غناهُ في الطاعةِ(9/14)
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
{سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} بالكَيِّ على أكرمِ مواضعِه لغايةِ إهانتِه وإذلالِه قيلَ أصابَ أنفَ الوليدِ جراحةٌ يومَ بدرٍ فبقيتْ علامتُهَا وقيلَ معناهُ سنعلِّمُه يومَ القيامةِ بعلامةٍ مشوِّهةٍ يُعلم بها عن سائرِ الكفرةِ(9/14)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)
{إِنَّا بلوناهم} أي أهلَ مكةَ بالقحطِ بدعوةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم {كَمَا بَلَوْنَآ أصحاب الجنة} وهم قومٌ من أهلِ الصلاةِ كانتْ لأبيهِم هذِه الجنَّةُ دونَ صنعاءَ بفرسخينِ فكانَ يأخذُ منها قوتَ سنةٍ ويتصدقُ بالباقي وكانَ يُنادِي الفقراءَ وقتَ الصِّرامِ ويتركُ لهم ما أخطأهُ المنجلُ وما في أسفلِ الأكداسِ وما أخطأهُ القطافُ من العنبِ وما بقيَ على البساطِ الذي يُبسطُ تحتَ النخلةِ إذَا صُرمتْ فكانَ يجتمعُ لهم شيءٌ كثيرٌ فلمَّا ماتَ أبُوهُم قال بنُوه إنْ فعلنَا ما كانَ يفعلُ أبُونا ضاقَ علينا الأمرُ فحلفُوا فيمَا بينهُم وذلكَ قولُه تعالى {إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} ليقطَعُنَّها داخلينَ في الصباحِ(9/14)
وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)
{وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} أي لا يقولونَ إنْ شاءَ الله وتسميتُه استثناءٌ مع أنَّه شرطٌ من حيثُ أنَّ مؤدَّاهُ مُؤدَّى الاستثناءِ فإن قولَكَ لأخرُجنَّ إنْ شاءَ الله ولا أخرجُ إلا أنْ يشاءُ الله بمَعْنَى واحد او ولا يستثنُونَ حِصَّةَ المساكينِ كما كانَ يفعلُهُ أبُوهُم والجملةُ مستأنفةٌ(9/14)
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)
{فَطَافَ عَلَيْهَا} أي على الجنَّةِ {طَآئِفٌ} بلاءٌ طائفٌ وقُرِىءَ طيفٌ {مِن رَبّكَ} مبتدأ من جهته تعالى {وَهُمْ نَآئِمُونَ} غافلونَ عمَّا جرت به المقادير(9/14)
68 سورة القلم (20 26)(9/15)
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
{فَأَصْبَحَتْ كالصريم} كالبستانِ الذي صُرمتْ ثمارُه بحيثُ لم يبقَ منها شيءٌ فعيلٌ بمَعْنَى مفعولٍ وقيلَ كالليلِ أي احترقتْ فاسودَّتْ وقيلَ كالنَّهارِ أي يبستْ وابيضتْ سُمِّيا بذلكَ لأنَّ كلاً منهُما ينصرمُ عن صاحبِهِ وقيلَ الصَّريمُ الرمالُ(9/15)
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
{فَتَنَادَوْاْ} أي نادَى بعضُهُم بعضاً {مُّصْبِحِينَ} داخلينَ في الصَّباحِ(9/15)
أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)
{أَنِ اغدوا} أي اغدُوا على أنَّ أنْ مفسرةٌ أو بأنِ اغدُوا على أنَّها مصدريةٌ أي اخرجُوا غُدوةً {على حَرْثِكُمْ} بستانِكُم وضَيعتِكُم وتعديةُ الغدوِّ بعَلَى لتضمينِه مَعْنَى الإقبالِ أو الاستيلاءِ {إِن كُنتُمْ صارمين} قاصدينَ للصَّرمِ(9/15)
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23)
{فانطلقوا وَهُمْ يتخافتون} أي يتشاورُون فيما بينَهُم بطريقِ المُخافتةِ وخَفيَ وخَفتَ وخَفَدَ ثلاثتُهَا في مَعْنَى الكتمِ ومنْهُ الخُفْدودُ للخُفَّاشِ(9/15)
أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)
{أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا} أي الجنةَ {اليوم عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ} أن مفسرة لما في التخافتِ من مَعْنَى القولِ وقُرِىءَ بطرحِهَا على إضمارِ القولِ والمرادُ بنهيِ المسكينِ عن الدخولِ المبالغةُ في النَّهيِ عن تمكينِه من الدخولِ كقولِهم لا أرينَّك هَهُنا(9/15)
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)
{وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قادرين} أي على نكدٍ لا غير من جاردت السَّنةُ إذَا لم يكُنْ فيها مطرٌ وحاردتِ الإبلُ إذا منعتْ دَرَّهَا والمَعْنَى أنَّهم أرادُوا أنْ يتنكدُوا على المساكينِ ويحرمُوهُم وهم قادرونَ على نفعِهِم فغَدوا بحالٍ لا يقدرونَ فيها إلا على النكدِ والحرمانِ وذلكَ أنَّهُم طلبُوا حرمانَ المساكينِ فتعجلُوا الحرمانَ والمسكنَةَ أوْ وغَدَوا على مُحاردةِ جَنَّتِهِم وذهابِ خيرِهَا قادرينَ بدلَ كونِهِم قادرينَ على إصابةِ خيرِهَا ومنافِعِهَا أي غَدَوا حاصلينَ على النكدِ والحرمانِ مكانَ كونِهِم قادرينَ على الانتفاعِ وقيلَ الحردِ الحردِ وقدْ قُرِىءَ بذلكَ أي لم يقدرُوا إلا على حنقِ بعضِهِم لبعضٍ لقولِه تعالَى يتلاومون وقيل الحرْدُ القصدُ والسرعةُ أي غَدَوا قاصدينَ إلى جنتهِم بسرعةٍ قادرينَ عند أنفسِهِم على صِرامِهَا وقيلَ هو علمٌ للجنةِ(9/15)
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُواْ} في بديهةِ رؤيتِهِم {إِنَّا لَضَالُّونَ} أي طريقَ جنتِنَا وما هي بها(9/15)
68 سورة القلم (27 32)(9/16)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} قالُوه بعد ما تأملوا ووقفوا على حقيقةِ الأمرِ مُضربينَ عن قولِهِم الأولِ أي لسنا ضالينَ بل نحنُ محرمون حُرِمنَا خيرَهَا بجنايتِنَا على أنفسِنَا(9/16)
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أي رأياً أو سِناً {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ} لولا تذكرون الله تعالى وتنوبون إليهِ من خُبثِ نيتِكُم وقد كانَ قالَ لهم حينَ عزمُوا على ذلكَ اذكرُوا الله وتوبُوا إليهِ عن هذهِ العزيمةِ الخبيثةِ من فورِكُم وسارِعُوا إلى حسمِ شرِّها قبلَ حُلولِ النقمةِ فعَصُوه فعيَّرهُم كمَا ينبىء عنه قوله تعالى(9/16)
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)
{قَالُواْ سبحان رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين} وقيلَ المرادُ بالتسبيحِ الاستثناءُ لاشتراكهِما في التعظيمِ أو لأنَّه تنزيهٌ لهُ تعالَى عن أنْ يجري في ملكه مالا يشاؤُه(9/16)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30)
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يتلاومون} أي يلومُ بعضُهم بعضاً فإنَّ منهُم مَن أشارَ بذلكَ ومنهُم من استصوبَهُ ومنهُم من سكتَ راضياً بهِ ومنهُم من انكره(9/16)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31)
{قالوا يا ويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين} متجاوزينَ حدودَ الله(9/16)
عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)
{عسى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا} وقُرِىءَ بالتشديدِ أي يُعطينا بدلاً منها ببركةِ التوبةِ والاعترافِ بالخطيئةِ {خَيْراً مّنْهَا إنا إلى ربنا راغبون} راجعون العفوَ طالبونَ الخيرَ وإلى لانتهاء الرغبة او لتضمنها مَعْنَى الرجوعِ عن مُجَاهدٍ تابوا فأُبدِلُوا خَيراً منهَا ورُويَ أنَّهم تعاقَدُوا وقالُوا إنْ أبدلنَا الله خيراً منها لنصنعنَّ كما صنعَ أبُونا فدَعَوا الله تعالَى وتضرعُوا إليهِ فأبدَلهُم الله تعالَى من ليلتِهِم ما هو خيرٌ منها قالُوا إنَّ الله تعالَى أمرَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ أنْ يقتلعَ تلكَ الجنةَ المحترقةَ فيجعلَهَا بِزُغَرَ من أرضِ الشامِ ويأخذَ من الشامِ جنةً فيجعلَهَا مكانَهَا وقالَ ابن مسعود رضي الله تعالَى عنهُ إنَّ القومَ لمَّا أخلصُوا وعرفَ الله منهُم الصدقَ أبدلَهُم جنةً يقالُ لها الحيوانُ فيها عنبٌ يحملُ البغلُ منهُ عُنقوداً وقالَ أبُو خالدٍ اليمانيُّ دخلتُ تلكَ الجنَّةَ فرأيتُ كلَّ عنقودٍ منهَا كالرجلِ الأسودِ القائمِ وسُئِلَ قَتَادَةُ عن أصحابِ الجنَّةِ أهُم مِنْ أهلِ الجنَّةِ أم مِنْ أهلِ النارِ فقالَ لقد كلفتني تعباً وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله تعالَى قولُ أصحابِ الجنةِ إنا إلى ربنا راغبون لا أدرِي إيماناً كانَ ذلكَ منهُم أو على حدِّ ما يكونُ من المشركينَ إذا أصابتْهُم الشدةُ فتوقفَ في أمرِهِم والأكثرونَ على أنَّهُم تابُوا وأخلصُوا حكاه القشيري(9/16)
68 سورة القلم (33 39)(9/17)
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
{كَذَلِكَ العذاب} جملةٌ منْ مبتا وخبرٍ مُقدمٍ لإفادةِ القصرِ والألفُ واللامُ للعهدِ أي مثلُ الذي بلونَا بهِ أهلَ مكةَ وأصحابَ الجنةِ عذابُ الدنيَا {وَلَعَذَابُ الأخرة أَكْبَرُ} أعظمُ وأشدُّ {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أنَّه أكبرُ لاحترَزُوا عمَّا يؤدِّيهِم إليهِ(9/17)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)
{إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ} أي منَ الكفرِ والمَعَاصِي {عِندَ رَبّهِمْ} أي في الآخرةِ أو في جوارِ القُدسِ {جنات النعيم} جناتٍ ليسَ فيها إلاَّ التنعمُ الخالصُ عن شائبةِ ما يُنغّصهُ من الكدوراتِ وخوفِ الزوالِ كما عليهِ نعيمُ الدُّنيا وقولُه تعالَى(9/17)
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)
{أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين} تقريرٌ لما قبلَهُ من فوزِ المُتقينَ بجنَّاتٍ النعيمِ وردٌّ لما يقولَهُ الكفرةُ عند سماعِهِم بحديثِ الآخرةِ وما وعدَ الله المسلمينَ فيهَا فإنهم كانُوا يقولونَ إنْ صحَّ أنا نُبعثُ كما يزعمُ محمدٌ ومَنْ معَهُ لم يكُنْ حالُنَا وحالُهُم إلا مثلَ ما هيَ في الدّنيا وإلا لم يزيدُوا علينَا ولم يفضلونَا وأقصى أمرِهِم أنْ يساوونَا والهمزةُ للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنحيفُ في الحكمِ فنجعلَ المسلمينَ كالكافرينَ ثم قيلَ لهُم بطريقِ الالتفاتِ لتأكيدِ الردِّ وتشديدِه(9/17)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} تعجبيا من حُكمِهِم واستبعاداً له وإيذاناً بأنَّه لا يصدرُ عن عاقلٍ(9/17)
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)
{أَمْ لَكُمْ كتاب} نازلٌ من السماءِ {فِيهِ تَدْرُسُونَ} أي تقرؤن(9/17)
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)
{إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} أي ما تتخيرونَهُ وتشتهونَهُ وأصلُهُ أنَّ لكُم بالفتحِ لأنَّهُ مدروسٌ فلمَّا جِيءَ باللامِ كُسرتْ ويجوزُ أنْ يكونَ حكايةً للمدروسِ كما هُو كقولِهِ تعالَى وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين سلامٌ على نُوحٍ فِى العالمين وتخيرُ الشيءِ واختيارُهُ أخذُ خيرِهِ(9/17)
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)
{أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا} أي عهودٌ مؤكدةٌ بالأيمانِ {بالغة} متناهيةٌ في التوكيدِ وقُرِئتْ بالنصبِ على الحالِ والعاملُ فيها أحدُ الظرفينِ {إلى يَوْمِ القيامة} متعلقٌ بالمقدرِ في لكم أي ثابتةٌ لكُم إلى يومِ القيامةِ لا نخرجُ عن عُهدتِهَا حتى نحكمكم يومئذٍ ونعطيكُم ما تحكمونَ أو ببالغةٍ أي أيمانٌ تبلغُ ذلكَ اليومَ وتنتهِي إليهِ وافرةً لم تبطُلْ منها يمينٌ {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} جوابُ القسمِ لأنَّ معنَى أمْ لكُم علينَا ايمان(9/17)
68 سورة القلم (40 44)
أمْ أقسمنَا لكُم(9/18)
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)
{سَلْهُمْ} تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ لهُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب أي سلهُم مُبكتاً لهُمْ {أَيُّهُم بذلك} الحكمِ الخارجِ عن العقولِ {زَعِيمٌ} أي قائمٌ يتصدَّى لتصحيحِه(9/18)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء} يشاركونهم في هَذا القولِ ويذهبونَ مذهبَهُم {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صادقين} في دعواهُم إذْ لا أقلَّ من التقليدِ وقد نبَّه في هذِه الآياتِ الكريمةِ على أنْ ليسَ لهُم شيءٌ يُتوهمُ أنْ يتشبثُوا بهِ حتَّى التقليدُ الذي لا يُفلِحُ من تشبثَ بذيلِه وقيلَ المَعْنَى أمْ لهُم شركاءُ يجعلونَهُم مثلَ المسلمينَ في الآخرةِ(9/18)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
{يوم يكشف عن ساق} أي يومَ يشتدُّ الأمرُ ويصعبُ الخطبُ وكشفُ الساقِ مَثَلٌ في ذلكَ وأصلُهُ تشميرُ المُخدَّراتِ عن سُوقهِنَّ في الهربِ قالَ حاتمٌ أخُو الحربِ إنْ عضَّتْ بهِ الحربُ عَضَّها وإنْ شمَّرتْ عنْ ساقِهَا الحربُ شَمَّرا وقيلَ ساقُ الشيءِ أصلُهُ الذي بهِ قوامُه كساقِ الشجرِ وساقِ الإنسانِ أي يوم يكشف عن أصلِ الأمرِ فتظهرُ حقائقُ الأمورِ وأصولُهَا بحيثُ تصيرُ عياناً وتنكيرُهُ للتهويلِ أو التعظيمِ وقُرِىءَ تَكْشِفُ بالتاءِ على البناءِ للفاعلِ والمفعولِ والفعلُ للساعةِ أو الحالِ وقرىء نكشف بالنون ويكشف بالتاءِ المضمومةِ وكسرِ الشِّينِ من أكشفَ الأمرُ أي دخلَ في الكشفِ وناصبُ الظرفِ فليأتُوا أو مضمرٍ مقدمٍ أي اذْكُر يومَ الخ أو مؤخرٍ أي يوم مشكف عن ساقٍ الخ يكونُ من الأهوالِ وعظائمِ الأحوالِ مالا يبلغُه الوصفُ {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود} توبيخاً وتعنيفاً على تركهِم إيَّاهُ في الدُّنيا وتحسيراً لهُم على تفريطِهِم في ذلكَ {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} لزوال القدرة عليه وفي دلالةٌ على أنَّهُم يقصدونَ السجودَ فلا يتأتَّى منهُم عن ذلكَ عنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنْهُ تعقمُ أصلا بهم أي تُردُّ عظاماً بلا مفاصل لا تنثني عندَ الرَّفعِ والخفضِ وفي الحديثِ وتبقَى أصلابُهُم طَبقاً واحِداً أي فَقارةٌ واحدةٌ(9/18)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
{خاشعة أبصارهم} حالٌ من مرفوعِ يُدعونَ على أنَّ أبصارَهُم مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ ونسبةُ الخشوعِ إلى الأبصارِ لظهورِ أثرِهِ فيهَا {تَرْهَقُهُمْ} تلحقُهُم وتغشاهُم {ذِلَّةٌ} شديدةٌ {وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود} في الدُّنيا والاظهار في موضوع الإضمارِ لزيادة التقريرِ أو لأنَّ المرادَ بهِ الصلاةُ أو ما فيها من السجودِ والدعوةُ دعوةُ التكليفِ {وَهُمْ سالمون} متمكنُونَ منْهُ أقوَى تمكنٍ أي فلا يُجيبونَ إليهِ ويأبَونَهُ وإنَّما تُرك ذكرُه ثقةً بظهورِهِ(9/18)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)
{فذرنى ومن يكذب بهذا الحديث} أي كِلْهُ إليَّ فإِنِّي أكفيكَ أمرَهُ أيْ حسبك في الايقاع(9/18)
68 سورة القلم (45 50)
به والا نتقام منهُ أنْ تَكِلَ امرَهُ إليَّ وتُخلِّي بينِي وبينَهُ فإنِّي عالمٌ بمَا يستحقُّه من العذابِ ومطيقٌ لهُ والفاءُ لترتيبِ الأمرِ على ما قبلَهَا من أحوالِهِم المحكيةِ أيْ وإذَا كانِ حالُهم في الآخرةِ كذلكَ فذرنى ومن يكذب بهذا القرآنِ وتوكلْ عليَّ في الانتقامِ منْهُ وقولُه تعالَى {سَنَسْتَدْرِجُهُم} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ كيفيةِ التعذيبِ المُستفادِ من الأمرِ السابقِ إجمالاً والضميرُ لمَنْ والجمعُ باعتبارِ معناهَا كما أن الإفراد في يكذِّبُ باعتبارِ لفظِهَا أي سنستنزِلُهُم إلى العذابِ درجةً فدرجةً بالإحسانِ وإدامةِ الصحةِ وازديادِ النعمةِ {مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} أنه استدراجٌ وهو الإنعامُ عليهِم بلْ يزعمونَ أنه إيثارٌ لهُم وتفضيل على المؤمينين مع أنَّهُ سببٌ لهلاكِهِم(9/19)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
{وَأُمْلِى لَهُمْ} وأُمْهِلُهُم ليزدادُوا إِثماً وهم يزعمونَ أنَّ ذلكَ لإرادةِ الخيرِ بهِم {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} لا يُوقفُ عليهِ ولا يُدفعُ بشيءٍ وتسميةُ ذلكَ كيداً لكونِهِ في صورةِ الكيدِ(9/19)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46)
{أم تسألهم} على الإبلاغِ والإرشادِ {أَجْراً} دنيوياً {فَهُمُ} لأجلِ ذلكَ {مّن مَّغْرَمٍ} أي غرامةٍ ماليةٍ {مُّثْقَلُونَ} مكلفونَ حملاً ثقيلاً فيُعرضونَ عنْكَ(9/19)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
{أَمْ عِندَهُمُ الغيب} أي اللوحُ أو المغيباتُ {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} منْهُ ما يحكمُون ويستغنُونَ بهِ عن علمِكَ(9/19)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
{فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} وهو إمهالُهُم وتأخيرُ نصرتِكَ عليهِم {وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت} أي يونسُ عليهِ السَّلامُ {إِذ نادى} في بطنِ الحوتِ {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مملوءٌ غيظاً والجملةُ حالٌ من ضميرِ نادَى وعليها يدورُ النهي لا على النداءِ فإنه أمرٌ مستحسنٌ ولذلكَ لم يُذكرِ المُنادَى وإذْ منصوبٌ بمضافٍ محذوفٍ أي لا يكُن حالُك كحالِه وقتَ ندائِهِ أي لا يُوجدُ منكَ ما وُجدَ منْهُ من المضجر والمُغاضبةِ فتبتلى ببلائِهِ(9/19)
لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)
{لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ} وقُرِىءَ رحمةٌ وهُو توفيقُهُ للتوبةِ وقبولُهَا منْهُ وحسُنَ تذكيرُ الفعلِ للفصلِ بالضميرِ وقُرِىءَ تداركتْهُ وتَداركُهُ أي تتداركهُ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ بمَعْنَى لولا أنْ كانَ يقالُ تتداركه {لَنُبِذَ بالعراء} بالأرضِ الخاليةِ من الأشجارِ {وَهُوَ مَذْمُومٌ} مُليمٌ مطرودٌ من الرحمةِ والكرامةِ وهو حالٌ من مرفوعِ نُبذَ عليهَا يعتمدُ جوابُ لولا لأنَّها هي المنتفية لا النبذُ بالعراءِ كما مرَّ في الحالِ الأُولى والجملة الشرطية استئناف وارد لبيانِ كونِ المنهيِّ عنْهُ أمراً محذوراً مستتبعاً للغائلةِ وقولُهُ تعالَى(9/19)
فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
{فاجتباه رَبُّهُ} عطفٌ على مقدرٍ أي فتداركتْهُ نعمةٌ من ربِّه فاجتباهُ بأنْ ردَّ إليهِ الوحيَ وأرسلَهُ الى(9/19)
68 سورة القلم (51 52)
مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ وقيل استنبأَهُ إنْ صحَّ أنَّه لم يكُنْ نبياً قبلَ هذهِ الواقعةِ {فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين} من الكاملينَ في الصلاحِ بأنْ عصمَهُ منْ أنْ يفعلَ فعلاً يكونُ تركُهُ أَوْلَى رُوِيَ أنَّها نزلتْ بأُحُدٍ حينَ هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ على المنهزمينَ من المؤمنينَ وقيلَ حينَ أرادَ أنْ يدعوَ على ثقيفٍ(9/20)
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
{وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم} وقُرِىءَ ليَزلقونَكَ بفتحِ الياءِ من زَلَقه بمعنى أَزْلَقه ويُزهقونَكَ وإنْ هيَ المخففةُ واللامُ دليلُهَا والمَعْنَى أنَّهم من شدَّةِ عداوتِهِم لكَ ينظرونَ إليكَ شَزْراً بحيثُ يكادونَ يُزلّونَ قدمكَ فيرمونكَ من قولِهِم نظر الى نظرا يكاد يصر عني أي لو أمكنَهُ بنظرِهِ الصرعُ لفعلَهُ أو أنَّهُم يكادونَ يُصيبونَكَ بالعينِ إذ قَد رُوي أنَّهُ كانَ في بني أسدٍ عيَّانونَ فأرادَ بعضُهُم أن يعينَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلتْ وفي الحديثِ إنَّ العينَ لتُدخِلُ الرجلَ القبرَ والجملَ القدرَ ولعله من خصائصِ بعضِ النفوسِ وعن الحسنِ دواءُ الإصابةِ بالعينِ أنْ تقرأَ هَذِه الآية {لَمَّا سَمِعُواْ الذكر} أي وقتَ سماعِهِم بالقرآنِ على أنَّ لمَّا ظرفيةٌ منصوبةٌ بيُزلقونَكَ وذلكَ لاشتدادِ بُغضِهِم وحسدِهِم عندَ سماعِهِ {وَيَقُولُونَ} لغايةِ حيرتِهِم في أمرِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ونهايةِ جهلِهِم بمَا في تضاعيفِ القرآنِ من تعاجيبِ الحِكَمِ وبدائعِ العلومِ المحجوبةِ عن العقولِ المُنغمسةِ بأحكامِ الطبائعِ ولتنفيرِ النَّاسِ عنْهُ {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} وحيثُ كانُ مدارُ حُكمِهِم الباطلِ ما سمعُوه منه عليه الصلاة والسلام رد ذلك يبيان عُلوِّ شأنةِ وسطوعِ بُرهانِهِ فقيلِ(9/20)
وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
{وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ} على أنَّه حالٌ من فاعل يقولون مفيدة لغايةِ بُطلانِ قولِهِم وتعجيبِ السامعينَ من جرأتِهِم على تفوهِ تلكَ العظيمةِ أي يقولونَ ذلكَ والحالُ أنَّه ذكرٌ للعالمينَ أي تذكيرٌ وبيانٌ لجميعِ ما يحتاجونَ إليهِ من أمورِ دينِهِم فأينَ مَنْ أنزلَ عليهِ ذلكَ وهو مُطلعٌ على أسرارِهِ طُرَّاً ومحيطٌ بجميعِ حقائِقِه خُبراً ممَّا قالُوا وقيلَ معناهُ شرفٌ وفضلٌ لقولِهِ تعالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وقيلَ الضَّميرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكونُه مذكِراً وشرفاً للعالمينَ لا ريبَ فيهِ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سُورةَ القلمِ أعطاهُ الله ثوابَ الذينَ حسَّن الله اخلاقهم(9/20)
69 سورة الحاقة (1 4)
سورة الحافة مكية وآياتها اثنتان وخمسون آية
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}(9/21)
الْحَاقَّةُ (1)
{الحاقة} أي السَّاعةُ أو الحالةُ الثابتةُ الوقوعِ الواجبةُ المجىءِ لا محالةَ أو التي يحقُّ فيها الأمورُ الحقةُ من الحسابِ والثوابِ والعقابِ أو التي تُحقُّ فيها الأمورُ أي تُعرفُ على الحقيقةِ من حقَّهُ يحقه اذا عرف حقيقة جعل الفعل لها ومجازا وهو لِما فيها منَ الأمورِ أو لمَنْ فيها من أُولِي العلمِ وأيَّا ما كانَ فحذفُ الموصوفِ للإيذانَ بكمالِ ظهورِ اتصافهِ بهذِهِ الصفةِ وجريانِهَا مجرى الإسمِ وارتفاعُها على الابتداءِ خبرُها(9/21)
مَا الْحَاقَّةُ (2)
{ما الحاقة} الى أنَّ مَا مبتدأٌ ثانٍ والحاقَّةُ خبرُهُ والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأولِ والأصلُ ما هيَ أيْ أيُّ شيءٍ هي في حالِهَا وصفَتِهَا فإنَّ مَا قدْ يُطلب بها الصفةُ والحالُ فوضعُ الظاهرِ موضعَ المضمرِ تأكيداً لهولها هذا ما ذكرُوهُ في إعرابِ هذه الجملةِ ونظائرِهَا وقد سبقَ في سورةِ الواقعةِ أنَّ مُقتضَى التحقيقِ أنْ تكونَ ما الاستفهاميةُ خبراً لما بعدَهَا فإنَّ مناطَ الإفادةِ بيانُ أنَّ الحاقةَ أمرٌ بديعٌ وخَطْبٌ فظيعٌ كما يفيدُهُ كونُ مَا خبراً لا بيانُ أنَّ أمراً بديعاً الحاقةُ كما يفيدُهُ كونُها مبتدأً وكونُ الحاقَّةِ خبراً وقوله تعالى(9/21)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
{وَمَا أَدْرَاكَ} أي وأيُّ شيءٍ أعلمكَ {مَا الحاقة} تأكيد لهولها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم المخلوقاتِ على مَعْنَى أنَّ عظمَ شأنِهَا ومَدَى هولِهَا وشدَّتِهَا بحيثُ لا تكادُ تبلغُهُ درايةُ أحدٍ ولا وهمُهُ وكيفَما قدرتَ حالَهَا فهيَ أعظمُ من ذلكَ وأعظمُ فلا يتسنَّى الإعلامُ وما في حيز الرفع على الابتداءِ وأدراكَ خبرُهُ ولا مساغَ هَهُنَا للعكسِ ومَا الحاقَّةُ جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ على الوجهِ الذي عرفَتَهُ محلُّها النصبُ على إسقاطِ الخافضِ لأنَّ أدرى يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله تعالى ولا أدراكم بِهِ فلمَّا وقعتْ جملةُ الاستفهامِ معلّقةً لهُ كانَتْ في موضعِ المفعولِ الثانِي والجملةُ الكبيرةُ معطوفةٌ على ما قبلها من الجملة الواقعةِ خبراً لقولِهِ تعالَى الحاقة مؤكدةٌ لهولِها كما مرَّ(9/21)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة} أيْ بالحالةِ التي تقرعُ النَّاسَ بفنونِ الأفزاعِ والأهوالِ والسماءَ بالانشقاقِ والانفطارِ والأرضَ والجبال بالدك(9/21)
69 سورة الحافة (5 9)
والنسفِ والنجومَ بالطمسِ والانكدارِ ووضعُهَا موضعَ ضميرِ الحَاقَّةِ للدلالةِ على مَعْنَى القرعِ فيها تشديدا لهلولها والجملةُ استئنافٌ مسوقٌ لإعلامِ بعضِ أحوالِ الحَاقَّةِ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إثرَ تقريرِ أنَّه ما أدراهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بها أحدٌ كما في قولِهِ تعالى وما أدراك ما هية نَارٌ حَامِيَةٌ ونظائرُهُ خَلا أنَّ المبيِّنَ هناكَ نفسُ المسؤل عنْهَا وهَهُنَا حالٌ منْ أحوالِهَا كَما في قولِهِ تعالى وما أدراك ما لَيْلَةُ القدر لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ فكمَا أنَّ المبيَّنَ هناكَ ليسَ نفسَ ليلةِ القدرِ بل فضلَها وشرفَها كذلكَ المبيَّنُ ههنا هولُ الحاقةِ وعظمُ شأنِهَا وكونُها بحيثُ يحقُّ إهلاكُ منْ يكذبُ بها كأنَّه قيلَ وما أدراكَ ما الحاقةُ كذبتْ بها ثمودُ وعادٌ فأُهلِكُوا(9/22)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)
{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} أي بالواقعةِ المجاوزةِ للحدِّ وهيَ الصِّيحةُ أو الرَّاجفةُ(9/22)
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} أي شديدةِ الصَّوتِ لها صرصرةٌ أو شديدةُ البردِ تحرقُ ببردِهَا {عَاتِيَةٍ} شديدةِ العصفِ كأنَّها عتتْ على خُزَّانِهَا فلم يتمكنُوا من ضبطِهَا أو على عادٍ فلم يقدرُوا على ردِّها وقولُهُ تعالَى(9/22)
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)
{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} الخ استئنافٌ جيء به بيانا لكيفية إهلاكِهِم بالريحِ أي سلَّطها الله عليهِم بقدرتِه القاهرةِ {سبع ليال وثمانية أيام حُسُوماً} أي متتابعاتٍ جمعُ حاسمٍ كشهودٍ جمعُ شاهدٍ من حسمتُ الدابةُ إذا تابعتُ بين كيِّها أو نحساتٌ حسمتْ كلَّ خيرٍ واستأصلتهُ أو قاطعاتٌ قطعتْ دابرَهُم ويجوزُ أنْ يكونَ مصدراً منتصباً على العلةِ بمعنى قطعاً أو عَلى المصدرِ لفعلِهِ المقدرِ حالاً أي تحسمُهُم حُسوماً ويؤيدُه القراءةُ بالفتحِ وهيَ كانتْ أيامَ العجوزِ من صبيحةِ أربعاءَ إلى غروبِ الأربعاءِ الآخرِ وإنَّما سُمِّيتْ عجُوزاً لأنَّ عجُوزاً من عادٍ توارتْ في سِرْبٍ فانتزعتْهَا الريحُ في اليومِ الثامنِ فأهلكَتْهَا وقيلَ هي أيامُ العجزِ وهيَ آخرُ الشتاءِ وأسماؤُها الصِنُّ والصِّنَّبرُ والوبرُ والآمرُ والمؤتمرُ والمعللُ ومطفىءُ الجَمْرِ وقيلَ ومُكفىءُ الظعنِ {فَتَرَى القوم} إنْ كنتَ حاضراً حينئذٍ {فِيهَا} في مهابِّها أو في تلكَ الليالِي والأيامِ {صرعى} مَوْتَى جمعُ صريعٍ {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} أي أصولُ نخلٍ {خَاوِيَةٍ} متآكلةِ الأجوافِ(9/22)
فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
{فَهَلْ ترى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ} أي بقيةٍ أو نفسٍ باقيةٍ أو بقاءٍ على أنَّها مصدرٌ كالكاذبةِ والطاغيةِ(9/22)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)
{وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ} أيْ ومَنْ تقدَّمهُ وقُرِىءَ ومن قبله أي ومن عندَهُ من أتباعِهِ ويؤيدُهُ أنَّه قُرِىءَ ومَنْ مَعَهُ {والمؤتفكات} أي قرى قومٍ لوطٍ أي أهلُهَا {بِالْخَاطِئَةِ} بالخطإِ أو بالفعلةِ أو الأفعالِ ذاتِ الخطإِ التي من جُمْلتِهَا تكذيبُ(9/22)
69 سورة الحاقة (10 15)
البعثِ والقيامةِ(9/23)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)
{فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبّهِمْ} أي فعَصَى كلُّ أُمَّةٍ رسولَهَا حينَ نَهَوهُم عمَّا كانُوا يتعاطونَهُ من القبائحِ {فَأَخَذَهُمْ} أي الله عزل وجَلَّ {أَخْذَةً رَّابِيَةً} أي زائدةً في الشدةِ كما زادتْ قبائحُهُم في القبحِ من ربا الشيء اذ زاد(9/23)
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)
{إنا لما طغى الماء} بسببِ إصرارِ قومِ نوحٍ على فنونِ الكفرِ والماصي ومبالغتِهِم في تكذيبِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما أوحَى إليهِ من الأحكامِ التي من جُملتها أحوالُ القيامةِ {حملناكم} أي في أصلابِ أبائِكُم {فِى الجارية} في سفينةِ نوحٍ عليهِ السَّلامُ والمرادُ بحملِهِم فيها رفعُهُم فوقَ الماءِ إلى انقضاءِ أيامِ الطُّوفانِ لا مجردُ رفعِهِم إلى السفينةِ كما يُعربُ عنهُ كلمةُ في فإنَّها ليستْ بصلةٍ للحملِ بلْ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من مفعولِهِ أي رفعناكُم فوقَ الماءِ وحفظناكُم حالَ كونِكُم في السفينةِ الجاريةِ بأمرِنَا وحفظِنَا وفيه تنبيهٌ على أنَّ مدارَ نجاتِهِم محضُ عصمتِهِ تعالى إنَّما السفينةُ سببٌ صُوريٌّ(9/23)
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
{لِنَجْعَلَهَا} أي لنجعلَ الفعلةَ التي هي عبارةٌ عن إنجاءِ المؤمنينَ وإغراقِ الكافرينَ {لَكُمْ تَذْكِرَةً} عبرةً ودلالةً على كمالِ قُدرة الصَّانعِ وحكمتِهِ وقوةِ قهرِهِ وسعةِ رحمَتِهِ {وَتَعِيَهَا} أي تحفظُهَا والوعيُ أنْ تحفظَ الشيءَ في نفسِكَ والإيعاءُ أن تحفظَهُ في غيرِ نفسِكَ من وعاءٍ وقُرِىء تَعْيها بسكونِ العينِ تشبيهاً له بكتفٍ {أُذُنٌ واعية} أي أذنٌ من شأنِهَا أنْ تحفظَ ما يجبُ حفظُهُ بتذكرِهِ وإشاعَتِهِ والتفكرِ فيهِ ولا تضيعُهُ بتركِ العملِ بهِ والتنكيرُ للدلالةِ على قلَّتِهَا وأنَّ مَن هَذا شأنُه مَع قلتِهِ يتسببُ لنجاةِ الجمِّ الغفيرِ وإدامةِ نسلِهِم وقُرِىءَ أُذْنٌ بالتخفيفِ(9/23)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
{فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور نَفْخَةٌ واحدة} شروعٌ في بيان نفس الحاقة وكيفة وقوعِهَا إثرَ بيانِ عظمِ شأنِهَا بإهلاكِ مكذبيها وإنَّما اسند الفعلِ إلى المصدرِ لتقييدِه وحسُنَ تذكيرُهُ للفصلِ وقُرِىءَ نفخةً واحدةً بالنصبِ على إسنادِ الفعلِ إلى الجارِّ والمجرورِ والمرادُ بها النفخةُ الأُولى التي عندَهَا خرابُ العالمِ(9/23)
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)
{وَحُمِلَتِ الأرض والجبال} أي قلعت ورُفعتْ من أماكنِهَا بمجردِ القدرة الالهية او بتوسط الزلزلةِ أو الريحِ العاصفةِ {فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة} أيْ فضُربتْ الجملتانِ إثرَ رفعِهِمَا بعضِهَا ببعضٍ ضربةً واحدةً حتى تندقَّ وترجعَ كثيباً مهيلاً وهباءً منبثاً وقيل فبُسطتا بسطةً واحدةً فصارتَا قاعا صفصفا لا ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً من قولِهِم اندكَّ السنامُ إذا تفرشَ وبعيرٌ أدكُّ وناقةٌ دكاءُ ومنهُ الدكانُ(9/23)
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)
{فَيَوْمَئِذٍ} فحينئذٍ {وَقَعَتِ الواقعة}(9/23)
أي قامتِ القيامةُ(9/24)
وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)
{وانشقت السماء} لنزولِ الملائكةِ {فَهِىَ} أي السماءُ {يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} ضعيفة مسترخية بعد ما كانَتْ محكمةً(9/24)
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
{والملك} أي الخلقُ المعروفُ بالملكِ {على أَرْجَائِهَا} أي جوانِبِهَا جمعُ رَجَا بالقصرِ أي تنشقُّ السماءُ التي هيَ مساكنُهُم فيلجأونَ إلى أكنافِهَا وحافاتِهَا {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ} فوقَ الملائكةِ الذين هم الأرجاءِ أو فوقَ الثمانيةِ {يَوْمَئِذٍ ثمانية} من الملائكةِ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم هُم اليومَ أربعةٌ فإذا كانَ يومُ القيامةِ أيدهُم الله تعالَى بأربعةٍ آخرينَ فيكونونَ ثمانيةً ورُوِيَ ثمانيةُ أملاكٍ أرجلهُم في تخومِ الأرضِ السابعةِ والعرشُ فوقَ رؤسهم وهم مُطرقونَ مسبحونَ وقيل بعضُهُم على صورةِ الإنسانِ وبعضهم على صورة الأسد وبعضُهُم على صورةِ الثورِ وبعضُهُم على صورةِ النسرِ ورُويَ ثمانيةُ أملاكٍ في خَلقْ الأوعالِ ما بينَ أظلافِهَا إلى رُكبِهَا مسيرةُ سبعينَ عاماً وعن شَهْرِ بنِ حَوشبٍ أربعةٌ منهُم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لكَ الحمدُ على عفوِكَ بعد قدرَتِكَ وأربعة يقولونَ سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمدُ على حلمِك بعد علمِك وعنِ الحسنِ الله أعلمُ أثمانيةٌ أم ثمانيةُ آلافٍ وعن الضحَّاكِ ثمانيةُ صفوفٍ لا يعلمُ عددَهم إلا الله تعالَى ويجوزُ أنْ يكونَ الثمانيةُ من الروحِ أو من خلقٍ آخرَ وقيلَ هو تمثيلٌ لعظمتِهِ تعالَى بما يشاهدُ من أحوالِ السلاطينِ يومَ خروجِهِم على الناسِ للقضاءِ العامِ لكونِهَا أَقْصَى ما يتصورُ من العظمةِ والجلالِ والا فشؤنه سبحانَهُ أجلُّ من كلَّ ما يحيطُ بهِ فَلَكُ العبارةِ والإشارةِ(9/24)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} أي تُسألونَ وتُحاسبونَ عبِّر عنهُ بذلكَ تشبيهاً لهُ بعرضِ السلطانِ العسكرَ لتعرّفِ أحوالِهِم رُوِيَ أنَّ في يومِ القيامةِ ثلاثَ عرضاتٍ فأما عرضتانِ فاعتذارٌ واحتجاجٌ وتوبيخٌ وأما الثالثةُ ففيها تنشرُ الكتبُ فيأخذُ الفائزُ كتابَهُ بيمينِهِ والهالكُ بشمالِهِ وهذا وإنْ كانَ بعدَ النفخةِ الثانيةِ لكنْ لما كانَ اليومُ إسماً لزمانٍ متسعٍ يقعُ فيهِ النفختانِ والصعقةُ والنشورُ والحسابُ وإدخالُ أهلِ الجنةَ وأهلُ النَّارِ النارَ صحَّ جعلُهُ ظرفاً للكُلِّ {لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} حالٌ من مرفوعِ تُعرضونَ أي تُعرضونَ غيرَ خافٍ عليهِ تعالَى سرٌّ من أسرارِكُم قبلَ ذلكَ أيضاً وإنَّما العرض لافشاء الحال والمبالغ في العدلِ أو غيرِ خافٍ يومئذٍ على الناسِ كقولِهِ تعالَى يَوْمَ تبلى السرائر وقُرِىءَ يَخْفى بالياءِ التحتانيةِ(9/24)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ} تفصيلٌ لأحكامِ العرضِ {فَيَقُولُ} تبجّحاً وابتهاجاً {هَاؤُمُ اقرؤوا كتابيه} هَا اسمٌ لخُذْ وفيهِ ثلاثُ لُغاتٍ أجودُهُنَّ هاءِ يا رجلُ وهاءِ يا أمرأة وهاؤما يا رجلانِ أو امرأتانِ وهاؤُونَ يا رجالُ وهاؤُنَّ يا نسوةُ ومفعولُهُ محذوفٌ وكتابيه مفعول اقرؤا لأنه اقرب العالمين ولأنه(9/24)
69 سورة الحاقة (20 27)
لو كانَ مفعولَ هاؤُمُ لقيلَ اقرؤُه إذِ الأَوْلَى إضمارُهُ حيثُ أمكنَ والهاءُ فيهِ وفي حسابَيه ومالَيه وسلطانَيه للسكتَ تُثبتُ في الوقفِ وتسقطُ في الوصلِ واستُحبَّ إثباتُهَا لثباتِهَا في الإمامِ(9/25)
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)
{إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ} أي علمتُ ولعلَّ التعبيرَ عنْهُ بالظنِّ للإشعارِ بأنَّهُ لا يقدحُ في الاعتقادِ ما يهجسُ في النفسِ من الخطراتِ التي لا ينفكُّ عنها العلومُ النظريةُ غالباً(9/25)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
{فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} ذاتِ رِضَا على النسبةِ بالصيغةِ كما يقالُ دارعٌ في النسبةِ بالحرفِ أو جُعلَ الفعلُ لها مجازاً وهو لصاحِبِهَا وذلكَ لكونِهَا صافيةً عن الشوائبِ دائمةً مقرونةً بالتعظيمِ(9/25)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22)
{فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} مرتفعةِ المكانِ لأنَّها في السماءِ أو الدرجاتِ أو الأبنيةِ والأشجارِ(9/25)
قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
{قُطُوفُهَا} جمعُ قِطْفٍ وهُو ما يُجتَنَى بسرعةٍ والقَطْفُ بالفتحِ مصدرٌ {دَانِيَةٌ} يتناولُهَا القاعدُ(9/25)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
{كُلُواْ واشربوا} بإضمارِ القولِ والجمعُ باعتبارِ المَعْنَى {هَنِيئَاً} أكلا وشربا هنيئا أو هنئتُم هنيئاً {بِمَا أَسْلَفْتُمْ} بماقبلة ما قدمتهم من الأعمالِ الصالحةِ {فِى الأيام الخالية} أي الماضيةِ في الدُّنيا وعن مجاهدٍ أيامُ الصيامِ ورُوِيَ يقولُ الله تعالى يأوليائي طالما نظرتُ إليكُم في الدُّنيا وقد قلصتْ شفاهُكُم عن الأشربةِ وغارتْ أعينُكُم وخَمُصتْ بطونُكُم فكونُوا اليومَ في نعيمِكُم وكُلُوا واشربُوا الآيةَ(9/25)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25)
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بشماله} وأرى ما فيهِ من قبائحِ الأعمال {فيقول يا ليتني لَمْ أُوتَ كتابيه}(9/25)
وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)
{وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} لما شاهدَ من سُوءِ العاقبة(9/25)
يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)
{يا ليتها} يا ليتَ الموتةَ التي مِتُّها {كَانَتِ القاضية} أي القاطعةَ لأمرِي ولم أُبعثْ بعدَها ولم ألقَ ما أَلقَى فضميرُ ليتِهَا للموتةِ ويجوزُ أن يكونَ لِمَا شاهدَهُ من الحالةِ أي يا ليتَ هذه الحالةَ كانتِ الموتةَ التي قضتْ عليَّ لما أنَّهُ وجدَها أمرَّ من الموتَ فتمنَّاهُ عندَها وقد جُوِّزَ أن يكونَ للحياةِ الدُّنيا أيْ(9/25)
69 سورة الحاقة (20 27)
يا ليتَ الحياةَ الدُّنيا كانتِ الموتةَ ولم أُخلقْ حياً(9/26)
مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)
{مَا أغنى عَنّى مَالِيَهْ} مالي من المالِ والأتباعِ على أنَّ ما نافيةٌ والمفعولُ محذوفٌ أو استفهاميةٌ للإنكارِ أيْ أيُّ شيءٍ أغْنَى عنِّي مَا كَانَ لِىَ مِنْ اليسارِ(9/26)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
{هَلَكَ عَنّى سلطانيه} أي مُلكِي وتسلُّطِي على الناسِ او حجتي الى كنتُ أحتجُّ بها في الدُّنيا أو تسلطي على القُوَى والآلاتِ فعجزتُ عن استعمالِهَا في العِبَاداتِ(9/26)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)
{خُذُوهُ} حكايةٌ لما يقولُهُ الله تعالَى يومئذٍ لخزنةِ النارِ {فَغُلُّوهُ} أي شُدوه بالأغلالِ(9/26)
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)
{ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ} أي لا تُصلُّوه إلا الجحيمَ وهي النارُ العظيمةُ ليكونَ الجزاءُ على وفقِ المعصيةِ حيثُ كانَ يتعاظمُ على الناسِ(9/26)
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)
{ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا} أي طولُهَا {سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ} فأدخلُوه فيها بأنْ تلفّوهَا على جسدِهِ فهو فيما بينَهَا مرهقٌ لا يستطع حرا كاما وتقديمُ السلسلةِ كتقديمِ الجحيمِ للدلالةِ على الاختصاصِ والاهتمامِ بذكرِ ألوانِ ما يعذبُ ألوانِ ما يعذبُ بهِ وثمَّ لتفاوتِ ما بينَ الغُلِّ والتصليةِ وما بينهُمَا وبينَ السلكِ في السلسلةِ في الشدَّةِ(9/26)
إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)
{إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم} تعليلٌ بطريقِ الاستئنافِ التحقيقيِّ ووصفُه تعالَى بالعِظَمِ للإيذانِ بأنَّه المُستحقُّ للعظمةِ فحسبُ فمَنْ نسبَها إلى نفسِهِ استحقَّ أعظمَ العُقوباتِ(9/26)
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
{وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} ولا يحثُّ على بذلِ طعامِهِ أوْ عَلَى إطعامِهِ فضلاً أنْ يبذلَ ما مِن مالِهِ وقيلَ ذُكِرَ الحضُّ للتنبيهِ على أنَّ تاركَ الحضِّ بهذهِ المنزلةِ فما ظنُّكَ بتاركِ الفعلِ وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤخذة قالُوا تخصيصُ الأمرينِ بالذكرِ لما أنَّ أقبحَ العقائدِ الكفرُ وأشنعَ الرذائلِ البخلُ وَقَسوةُ القلبِ(9/26)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)
{فليس له اليوم ها هنا حميم} اي قريب يحيمه ويدفعُ عنْهُ ويحزَنُ عليهِ لأنَّ أولياءَهُ يتحامونَهُ ويُفرُّونَ منْهُ(9/26)
وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)
{وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} أي من غُسالةِ اهل النار(9/26)
69 سورة الحاقة (37 44)
وصديدِهِم فِعلين من الغُسْلِ(9/27)
لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
{لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون} أصحابُ الخَطَايَا منْ خَطِىءَ الرِجلُ إذَا تعمَّدَ الذنبَ لا من الخطإِ المقابلِ للصوابِ دونَ المقابلِ للعمدِ عن ابن عباس رضي الله عنهُمَا أنَّهم المشركونَ وقُرِىءَ الخَاطِيُونَ بإبدالِ الهمزةِ ياءً وقُرِىءَ بطرحِهَا وقدْ جُوِّز أن يراد بهم الذينَ يتخطَّونَ الحقَّ إلى الباطلِ ويتعدّونَ حدودَ الله(9/27)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38)
{فلا أقسم} أي فأقسم على أنَّ لاَ مزيدةٌ للتأكيدِ وأمَّا حملُه على مَعْنَى نفيِ الإقسامِ لظهورِ الأمرِ واستغنائِهِ عن التحقيقِ فيردُّه تعيينُ المقسمِ بهِ بقولِهِ تعالَى {بِمَا تُبْصِرُونَ}(9/27)
وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)
{وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} كما مرَّ في سورةِ الواقعةِ أي أقسمُ بالمُشاهداتِ والمغيباتِ وقيلَ بالدُّنيا والآخرةِ وقيلَ بالأجسام والأرواح والانسن والجِنِّ والخلقِ والخالقِ والنعمِ الظاهرةِ والباطنةِ والأولُ منتظمٌ للكلِّ(9/27)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
{أَنَّهُ} أيِ القرآنَ {لَقَوْلُ رَسُولٍ} يبلغُهُ عن الله تعالَى فإنَّ الرسولَ لا يقولُ عن نفسِهِ {كَرِيمٌ} على الله تعالَى وهو النبيُّ أو جبريلُ عليهما السَّلامُ(9/27)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)
{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} كما تزعمونَ تارةً {قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} إيماناً قليلاً تؤمنونَ(9/27)
وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)
{وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ} كما تدَّعُونَ ذلكَ تارةً أُخرى {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تتذكرونَ على أنَّ القِلَّةَ بمَعْنَى النَّفي أيْ لا تُؤمنونَ ولا تتذكرونَ أصْلاً قيلَ ذُكِرَ الإيمانُ معَ نَفي الشاعريةِ والتذكرُ مع نَفي الكاهنيةِ لما أنَّ عدمَ مشابهةِ القُرآنِ الشعرَ أمرٌ بينٌ لا يُنكرهُ إلا معاندٌ بخلافِ مباينتِهِ للكهانةِ فإنَّها تتوقفُ على تذكرِ أحوالِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ومعانِي القُرآنِ المنافيةِ لطريقةِ الكَهَنَةِ ومعانِي أقوالِهِم وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ أيضاً مما لا يتوقفُ على تأملٍ قطعاً وقُرِىءَ بالياءِ فيهما(9/27)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
{تنزيلٌ مّن ربِّ العالمينَ} نزلَّهُ على لسانِ جبريلَ عليهِ السَّلامُ(9/27)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)
{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقاويل} سُمِّي الافتراءُ تقوُّلاً لأنَّه قولٌ متكلفٌ والأقوالُ المُفتراةُ أقاويلُ تحقيراً لها كأنَّها جمعُ أُفْعُولةٍ من القول كالأضاحيك(9/27)
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
{لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} أي بيمينِهِ(9/28)
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} أي نياطَ قلبِهِ بضربِ عنقِهِ وهو تصويرٌ لإهلاكِهِ بأفظعِ ما يفعلُهُ الملوكُ بمن يغضبونَ عليهِ وهو أن يأخذ القتَّالُ بيمينه ويكفَحُه بالسيفِ ويضربَ عُنقَهُ وقيلَ اليمينُ بمعنى القوةِ قال قائلُهُم إذَا مَا رايةٌ رُفعتْ لِمَجْد تَلقَّاها عُرابةُ باليمينِ(9/28)
فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)
{فَمَا مِنكُم} أيُّها الناسُ {مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ} عن القتلِ أو المقتولِ {حاجزين} دافعينَ وصفٌ لأحدٍ فإنَّهُ عامٌّ(9/28)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
{وَإِنَّهُ} أي وإنَّ القُرآنَ {لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ} لأنهم المنتفعونَ بهِ(9/28)
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)
{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مكذبين} فنجازيهم على تكذبيهم(9/28)
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين} عند مشاهدتهم لثوابِ المؤمنينَ(9/28)
وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين} الذي لا يحومُ حولَهُ ريبٌ مَا(9/28)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
{فسبح باسم ربك العظيم} أي فسبحْ بذكرِ اسمهِ العظيمِ تنزيهاً لهُ عن الرِّضا بالتقولِ عليهِ وشكراً على ما أُوحِيَ إليكَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الحَاقَّةِ حاسبَهُ الله حسابا يسيرا(9/28)
70 سورة المعارج (1 4)
سورة المعارج مكية وآياتها اربع وأربعون
{بسم الله الرحمن الرحيم}(9/29)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)
{سَأَلَ سَائِلٌ} أي دَعَا داعٍ {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أي استدعاهُ وطلبَهُ وهُو النَّضرُ بن الحرث حيثُ قالَ إنكاراً واستهزاءً إِن كَانَ هَذا هُوَ الحقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وقيلَ أبُو جهلٍ حيثُ قالَ أسقطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماءِ وقيلَ هو الحرث بنِ النعمانِ الفهريُّ وذلكَ أنَّه لما بلغَهُ قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عليَ رضيَ الله عنهُ من كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ قالَ اللهمَّ إنْ كانَ ما يقولُ محمدٌ حقاً فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ فما لبثَ حَتَّى رماهُ الله تعالَى بحجرٍ فوقعَ على دماغه مخرج من أسفلِهِ فهلكَ من ساعتِهِ وقيلَ هُو الرسولُ صلى الله عليه وسلم استعجلَ عذابَهُمْ وقُرِىءَ سَأَلَ وهو إمَّا من السؤالِ على لُغةِ قُريشٍ فالمَعْنَى ما مرَّ أو من السَّيلانِ ويؤيدُهُ أنَّهُ قُرِىءَ سالَ سيلٌ أي اندفعَ وادٍ بعذابٍ واقعٍ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على تحققِ وقوعِهِ إمَّا في الدُّنيا وهو عذابُ يومِ بدرٍ فإنَّ النضرَ قُتِلَ يومئذٍ صَبْراً وقد مرَّ حالُ الفهريِّ وإمَّا في الآخرةِ فهو عذابُ النارِ والله أعلمُ(9/29)
لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)
{للكافرين} صفةٌ أُخرى لعذابٍ أي كائنٍ للكافرينَ أو صلةٌ لواقعٍ أو متعلقٌ بسألَ أي دَعَا للكافرينَ بعذابٍ واقعٍ وقولُهُ تعالَى {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} صفةٌ أُخرى لعذابٍ أو حالٌ منهُ لتخصُّصه بالصفةِ أو بالعملِ أو من الضميرِ في الكافرين على تقديرِ كونِه صفةً لعذابٍ أو استئنافٌ(9/29)
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)
{مِنَ الله} متعلقٌ بواقعٍ أو بدافعٌ أي ليسَ له دافعٌ من جهتِهِ تعالَى {ذِي المعارج} ذِي المصاعدِ التي يصعدُ فيها الملائكةُ بالأوامرِ والنَّواهِي أو هي عبارةٌ عن السمواتِ المترتبةِ بعضِهَا فوقَ بعضٍ(9/29)
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
{تَعْرُجُ الملائكة والروح} أي جبريلُ عليهِ السَّلامُ أفردَ بالذكرِ لتميزِهِ وفضلِهِ وقيلَ الروحُ خلقٌ هم حفظة على الملائكةِ كما أنَّ الملائكةَ حفظةٌ على الناسِ {إِلَيْهِ} إلى عرشِهِ تعالَى وإلى حيثُ تهبطُ منهُ أوامرُهُ تعالَى وقيلَ هو من قبيلِ قولِ إبراهيمَ(9/29)
70 سورة المعارج (5 8)
عليهِ السَّلامُ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى أي إلى حيثُ أمرنِي بهِ {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} مما يعدُّه الناسُ وهو بيانٌ لغايةِ ارتفاعِ تلكَ المعارجِ وبُعدِ مَداها على منهاجِ التمثيلِ والتخييلِ والمَعْنَى أنَّها من الارتفاعِ بحيثُ لو قُدِّرَ قطعُها في زمانٍ لكانَ ذلكَ الزمانُ مقدارَ خمسينَ ألفَ سنةٍ من سِني الدُّنيا وقيلَ معناهُ تعرُجُ الملائكةُ والروحُ إلى عرشِهِ تعالَى فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ كمقدارِ خمسينَ ألفَ سنةٍ أي يقطعونَ في يومٍ ما يقطعُهُ الإنسانُ في خمسينَ ألفَ سنةٍ لو فُرضَ ذلكَ وقيلَ في يومٍ متعلقٌ بواقعٍ وقيل بسال على تقديرِ كونِه من السَّيلانِ فالمرادُ به يومُ القيامةِ واستطالتُهُ إمَّا لأنَّه كذلكَ في الحقيقةِ أو لشدتِهِ على الكفارِ أوْ لكثرةِ ما فيهِ من الحالاتِ والمحاسباتِ وأيَّاً ما كانَ فذلكَ في حقِّ الكافرِ وأمَّا في حقِّ المؤمنِ فلاَ لِمَا رَوَى أبو سعيدٍ الخدريُّ رضيَ الله عنهُ أنَّه قيلَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما أطولَ هذا اليومَ فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسِي بيدِهِ أنَّهُ ليخِفُّ على المؤمنِ حتى إنَّهُ يكونُ أخفَّ من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلِّيها في الدُّنيا وقولُه تعالَى(9/30)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)
{فاصبر صَبْراً جَمِيلاً} متعلقٌ بسألَ لأنَّ السؤالَ كانَ عن استهزاءٍ وتعنتٍ وتكذيبٍ بالوحيِ وذلكَ ممَّا يُضجره عليه الصلاة والسلام أو كانَ عن تضجرٍ واستبطاءٍ للنصرِ أو بسألَ سائلٌ أو سالَ سيلٌ فمعناهُ جاءَ العذابُ لقُربِ وقوعِهِ فقد شارفتَ الانتقامَ(9/30)
إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6)
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} أيِ العذابَ الواقعَ أو يومَ القيامةِ على تقديرِ تعلقِ في يومٍ بواقعٍ {بَعِيداً} أي يستبعدونَهُ بطريقِ الإحالةِ فلذلكَ يسألونَ بهِ(9/30)
وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
{وَنَرَاهُ قَرِيباً} هيناً في قُدرتِنَا غيرَ بعيدٍ علينا ولا متعذرٍ على أنَّ البُعدَ والقُربَ معتبرانِ بالنسبةِ إلى الإمكانِ والجملةُ تعليلٌ للأمرِ بالصبرِ وقولُه تعالَى(9/30)
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)
{يوم تكون السماء كالمهل} متعلقٌ بقريباً أيْ يمكنُ ولا يعتذر في ذلكَ اليومِ أو بمضمرٍ دلَّ عليهِ واقعٍ أو بمضمرٍ مؤخرٍ أي يوم تكون السماء كالمهل الخ يكونُ من الأحوالُ والأهوالُ ما لا يُوصفُ أو بدلٌ منْ في يومٍ على تقديرِ تعلقِهِ بواقعٍ هذا ما قالُوا ولعلَّ الأقربَ أنَّ قولَهُ تعالَى سأل سائلٌ حكايةٌ لسؤالِهِم المعهودِ على طريقةِ قوله تعالى يسألونك عَنِ الساعة وقولِهِ تعالَى وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد ونحوهِما إذْ هُو المعهودُ بالوقوعِ على الكافرينَ لا ما دَعَا بهِ النضرُ او ابو جهل الفهريُّ فالسؤالُ بمعناهُ والباءُ بمَعْنَى عنْ كَما في قولِهِ تعالَى فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً وقولُه تعالَى لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ الخ استئنافٌ مسوف لبيان وقوع المسؤل عنهُ لا محالةَ وقولُه تعالَى فاصبر صَبْراً جَمِيلاً مترتبٌ عليهِ وقولُه تعالَى إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً تعليلٌ للأمرِ بالصبرِ كما ذُكِرَ وقولُهُ تعالَى يَوْمَ تَكُونُ الخ متعلقٌ بليسَ له دافعٌ أو بما يدلُّ هو عليهِ أي يقعُ يومَ تكونُ السماء(9/30)
70 سورة المعارج (9 15)
كالمهلِ وهو ما أُذيبَ على مَهَلٍ من الفلزاتِ وقيلَ دُرْدِيُّ الزيتِ(9/31)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)
{وَتَكُونُ الجبال كالعهن} كالصوفِ المصبوغِ ألواناً لاختلافِ ألوانِ الجبالِ منها جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها وَغَرَابِيبُ سُودٌ فإذا بُسَّتْ وطيّرتْ في الجوِّ أشبهتِ العهنَ المنفوشَ إذَا طيرته الريحُ(9/31)
وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
{ولا يسأل حَمِيمٌ حَمِيماً} أي لا يسألُ قريبٌ قريباً عن أحوالِهِ ولا يُكلمه لابتلاءِ كلَ منهُم بما يشغلُهُ عن ذلكَ وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ أيْ لا يُطلبُ منْ حميمٍ حميمٌ أولا يسألُ منْهُ حالةٌ(9/31)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)
{يُبَصَّرُونَهُمْ} أي يُبصِرُ الأحماءُ الأحماءَ فلا يخفَونَ عليهم وما يمنعُهُم من التساؤلِ إلا تشاغلُهُم بحالِ أنفسِهِم وقيلَ ما يُغني عنهُ من مشاهدةِ الحالِ كبياضِ الوجهِ وسوادِهِ والأولُ أدخلُ في التَّهويلِ وجمعَ الضميرينِ لعمومِ الحميمِ وقُرِىءَ يُبْصِرُونَهُمْ والجملةُ استئنافٌ {يَوَدُّ المجرم} أي يتمنَّى الكافرُ وقيلَ كلُّ مذنبٍ وقولُهُ تعالَى {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} أي العذابَ الذي ابتلُوا بهِ يومئذٍ {بِبَنِيهِ}(9/31)
وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)
{وصاحبته وَأَخِيهِ} حكايةٌ لودادتِهم ولوُ في مَعْنَى التمنِّي وقيلَ هي بمنزلةِ أَن الناصبةِ فلا يكونُ لها جوابٌ وينْسبكُ منها ومما بعدها مصدرٌ يقع مفعولا ليودُّ والتقديرُ يودُّ افتداءَهُ ببنيهِ الخ والجملةُ استئنافٌ لبيانِ أنَّ اشتغالَ كلِّ مجرمٍ بنفسِهِ بلغَ إلى حيثُ يتمنَّى أن يفتدي بأقربِ الناسِ إليهِ وأعلقِهِم بقلبِهِ فضلاً أن يهتمَّ بحالِهِ ويسألَ عَنْهَا وقُرِىءَ يومَئذٍ بالفتحِ على البناءِ للإضافةِ إلى غيرِ متمكنٍ وبتنوينِ عذابٍ ونصبِ يومئذٍ وانتصابُهُ بعذابٍ لأنَّه في مَعْنَى تعذيبٍ(9/31)
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)
{وَفَصِيلَتِهِ} أي عشيرتِهِ التي فصل عنهم {التي تؤويه} اي تضمه في النسبِ أو عندَ الشدائدِ(9/31)
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
{وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً} من الثقلينِ والخلائقِ ومَنْ للتغليبِ {ثُمَّ يُنجِيهِ} عطفٌ على يفتدي اي يودُّ لو يفتدِي ثم لو ينجِيهِ الافتداءُ وثمَّ لاستبعادِ الإنجاءِ يعني يتمنَّى لو كانَ هؤلاءِ جميعاً تحتَ يدِه وبذلَهُم في فداءِ نفسِهِ ثمَّ ينجيهِ ذلكَ وهيهاتَ(9/31)
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15)
{كَلاَّ} ردعٌ للمجرمِ عن الودادةِ وتصريحٌ بامتناعِ إنجاءِ الافتداءِ وضميرُ {أَنَّهَا} إما للنارِ المدلولِ عليها بذكرِ العذاب او مبهم ترجم عند(9/31)
70 سورة المعارج (16 24)
الخبر الذي هو قوله تعالَى {لظى} وهي علمٌ للنارِ منقولٌ منَ اللَّظى بمَعْنَى اللهبِ(9/32)
نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)
{نَزَّاعَةً للشوى} نُصب على الاختصاصِ أو حالٌ مؤكدةٌ والشَّوى الأطرافُ أو جمعُ شواةٍ وهي جلدةُ الرأسِ وقُرِىءَ نزاعةٌ بالرفعِ على أنه خبرُ ثاني لأنَّ أو هُو الخبرُ ولَظَى بدلٌ منَ الضميرِ أو الضميرُ للقصةِ ولَظَى مبتدأ ونزاعة خبره(9/32)
تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)
{تدعو} اي تجذب وتحضر وقل تدعُو وتقولُ لهم إليَّ إليَّ يا كافرُ يا منافقُ وقيل تدعُو المنافقينَ والكافرينَ بلسانٍ فصيحٍ ثم تلتقطُهُم التقاطَ الحبِّ وقيلَ تدعُو تُهلكُ وقيلَ تدعُو زبانيتَهَا {مَنْ أَدْبَرَ} أي عنِ الحقِّ {وتولى} أعرضَ عن الطاعةِ(9/32)
وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
{وَجَمَعَ فَأَوْعَى} أي جمعَ المالَ فجعلَهُ في وعاءٍ وكنزَهُ ولم يؤدِ زكاتَهُ وحقوقَهُ وتشاغلَ بهِ عن الدينِ وزَهَى باقتنائِهِ حرصاً وتأميلاً(9/32)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)
{إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} الهَلَعَ سرعةُ الجزعِ عند مسِّ المكروهِ وسرعةُ المنعِ عند مسِّ الخيرِ وقد فسَّرهُ أحسنَ تفسيرٍ قولُهُ تعالَى(9/32)
إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20)
{إِذَا مَسَّهُ الشر} أي الفقرُ والمرضُ ونحوهُما {جَزُوعاً} أي مبالغاً في الجزعِ مُكثراً منْهُ(9/32)
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
{وَإِذَا مَسَّهُ الخير} أي السَّعةُ والصحةُ {مَنُوعاً} مبالغاً في المنعِ والإمساكِ والأوصافُ الثلاثةُ أحوالٌ مقدرةٌ أو محققةٌ لأنها طبائعُ جُبلَ الإنسانُ علَيها وإذَا الأولى ظرفٌ لجزوعَا والثانيةُ لمنوعَا(9/32)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)
{إِلاَّ المصلين} استثناءٌ للمتصفينَ بالنعوتِ الجليلةِ الآتيةِ من المطبوعينَ على القبائحِ الماضيةِ لأنباءِ نعوتِهِم عن الاستغراقِ في طاعةِ الحقِّ والإشفاقِ على الخلقِ والإيمانِ بالجزاءِ والخوفِ من العقوبةِ وكسرِ الشهوةِ وإيثارِ الآجلِ على العاجلِ على خلافِ القبائحِ المذكورةِ الناشئةِ من الانهماكِ في حب العاجل وقصرِ النظرِ عليهِ(9/32)
الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
{الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} لا يشغَلهم عنها شاغلٌ(9/32)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
{والذين فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ} أي نصيبٌ معينٌ يستوجبونه(9/32)
70 سورة المعارج (25 34)
على أنفسهم تقرُّباً إلى الله تعالى وإشفاقا على النَّاسِ من الزكاةِ المفروضةِ والصدقات الموظفة(9/33)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
{للسائل} الذي يسألَهُ {والمحروم} الذي لا يسألَهُ فيظُنُّ أنه غنيُّ فيحرمُ(9/33)
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26)
{والذين يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدين} أي بأعمالِهِم حيثُ يتعبونَ أنفسَهُم في الطاعاتِ البدنيةِ والماليةِ طمعاً في المثوبةِ الأخرويةِ بحيثُ يُستدلُّ بذلكَ على تصديقِهِم بيومِ الجزاءِ(9/33)
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27)
{والذين هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ} خائفونَ على انفسهم مع مالهم منَ الأعمالِ الفاضلةِ استقصاراً لها واستعظاماً لجنابِهِ عزَّ وجلَّ كقوله تعالَى والذين يؤتون ما آتوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون وقولِهِ تعالَى(9/33)
إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
{إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} اعتراضٌ مؤذنٌ بأنه لا ينبغي لأحدٍ أنْ يأمنَ عذابَهُ تعالَى وإنْ بالغَ في الطاعةِ(9/33)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)
{والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون} {إِلاَّ على أزواجِهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} سلفَ تفسيرُهُ في سورةِ المؤمنينَ(9/33)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
{فَمَنِ ابتغى} أي طلبَ لنفسِهِ {وَرَاء ذلك} وراءَ ما ذُكِرَ من الأزواجِ والمملوكاتِ {فَأُوْلَئِكَ} المبتغونَ {هُمُ العادون} المتعدون لحدود الله تعالى(9/33)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)
{والذين هُمْ لاماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون} لا يُخلُّونَ بشيءٍ من حقوقِهَا(9/33)
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)
{وَالَّذِينَ هُمْ بشهاداتهم قَائِمُونَ} أي مقيمونَ لها بالعدلِ إحياءً لحقوقِ الناسِ وتخصيصُها بالذِّكرِ مع اندراجها في الأماناتِ لإبانةِ فضلِهَا وقُرِىءَ لأمانتِهِم وبشهادَتِهِم على إرادةِ الجنسِ(9/33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34)
{وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي يراعونَ شرائطَهَا(9/33)
70 سورة (35 39)
ويكملونَ فرائضَهَا وسنَنَهَا ومستحباتِهَا وآدابِهَا وتكريرُ ذكرِ الصَّلاةِ ووصفِهِم بهَا أولاً وآخراً باعتبارينِ للدلالةِ على فضلِهَا وإنافتِهَا على سائرِ الطاعاتِ وتكريرُ الموصولاتِ لتنزيلِ اختلافِ الصفاتِ منزلةَ اختلافِ الذواتِ كما في قول من قالَ إِلَى الملكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام وليثِ الكتائبِ في المُزْدَحَمْ إيذاناً بأنَّ كلَّ واحدٍ من الأوصافِ المذكورةِ نعتٌ جليلٌ على حِياله له شأنٌ خطيرٌ مستتبِعٌ لأحكامِ جَمةٍ حقيقٌ بأنْ يُفردَ له موصوفٌ مستقلٌّ ولا يجعلُ شيءٌ منها تتمةً للآخرِ(9/34)
أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
{أولئك} إشارةٌ إلى الموصوفينَ بما ذُكر من الصِّفاتِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشارِ إليهِم للإيذانِ بعلوِّ شأنِهِم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضل وهو مبتدأ خبره {فِي جنات} أي مستقرونَ فى جنات لايقادر قَدرُهَا ولا يُدرَكُ كُنْهُهَا وقوله تعالَى {مُّكْرَمُونَ} خبرٌ آخرُ أو هو الخبر وفي جناتٍ متعلقٌ بهِ قُدِّم عليهِ لمراعاةِ الفواصلِ أو بمضمرٍ هو حالٌ من الضميرِ في الخبرِ أي مكرمونَ كائنينَ في جنَّاتٍ(9/34)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)
{فَمَالِ الذين كَفَرُواْ قَبْلِكَ} حولَكَ {مُهْطِعِينَ} مُسرعينَ نحوكَ مادِّي أعناقِهِم إليكَ مقبلينَ بأبصارِهِم عليكَ(9/34)
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)
{عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ} أي فِرَقاً شتَّى جمعُ عِزَةٍ وأصلُهَا عِزْوَةٌ من العزو كأن كلَّ فرقةٍ تعتزِي إلى غيرِ من تعتزِي إليهِ الأُخرى كانَ المُشركونَ يحلّقونَ حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقا حلقا وفرقا وفرقا ويستهزؤن بكلامِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ويقولونَ إنْ دخلَ هؤلاءِ الجنَّةَ كما يقولُ محمدٌ فلندخلنَّها قبلَهُم فنزلتْ(9/34)
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)
{أيطمع كل امرئ مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} بلا إيمانٍ(9/34)
كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
{كَلاَّ} ردعٌ لهم عن ذلكَ الطمعِ الفارغِ {إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ} قيلَ هو تعليلٌ للردعِ والمَعْنَى إنا خلقناهُم من أجلِ ما يعلمونَ كما في قولِ الأَعْشَى أَأَزْمَعْتَ مِنْ آل ليلى ابتكاراوشطت عَلَى ذِي هَوَى أنْ تزارا وهو تكميا النفسِ بالإيمانِ والطاعةِ فمنْ لَمْ يستكملْهَا بذلكَ فهو بمعزلٍ من أنْ يُبوأ مبوأَ الكاملينَ فمن أينَ لهُم أنْ يطمعُوا في دخولِ الجنةِ وهم مكبونَ على الكفرِ والفسوقِ وإنكارِ البعثِ وقيل معناهُ إنَّا خلقناهُم مما يعلمونَ من نطفةٍ مذِرةٍ فمن أينَ يتشرفونَ ويدّعُونَ التقدمَ ويقولونَ لندخلنَّ الجنةَ قبلَهُم وقيلَ إنهم مخلوقونَ من نطفةٍ قدرة لا تناسبُ عالمَ القدسِ فمتَى لم تستكملِ الإيمانَ والطاعة ولم تتخلق بأخلاق الملكيةِ لم تستعدَّ لدخولِهَا ولا يَخْفَى ما في الكلِّ من التمحلِ والأقربُ أنَّه كلامٌ مستأنفٌ قد سبقَ تمهيداً لما بعدَهُ من بيانِ قدرتَه تعالَى على أنَّ يُهلكهم لكُفرِهِم بالبعث والجزاء(9/34)
70 سورة المعارج (40 44)
واستهزائه برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وبما نزلَ عليهِ منَ الوحيِ وادعائِهِم دخولَ الجنةِ بطريق السخرية وينشء بدلَهُم قوماً آخرينَ فإن قدرَتَهُ تعالَى على ما يعلمونَ من النشأةِ الأُولى حجةٌ بينةٌ على قدرتِهِ تعالَى على ذَلكَ كما يُفصح عنهُ الفاءُ الفصيحةٌ في قوله تعالى(9/35)
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)
{فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ المشارق والمغارب} والمَعْنَى إِذا كانَ الأمرُ كَما ذكر من إنا خلقناهم مما يعلمون فأقسمُ بربِّ المشارقِ والمغاربِ {إِنَّا لقادرون}(9/35)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)
{على أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ} أيْ نُهلكهُم بالمرةِ حسبَما تقتضيهِ جناياتُهُم ونأتي بدلَهُم بخلقٍ آخرينَ ليسُوا على صفتِهِم {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} بمغلوبينَ إنْ أرَدْنَا ذلكَ لكنْ مشيئتُنا المبنيةُ على الحِكَمِ البالغةِ اقتضتْ تأخيرَ عقوباتِهِم(9/35)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)
{فَذَرْهُمْ} فخلِّهِم وشأنَهُم {يَخُوضُواْ} في باطِلِهِم الذي من جُمْلَتِهِ ما حُكِيَ عنهُم {وَيَلْعَبُواْ} في دُنياهُم {حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى يُوعَدُونَ} وهو يومُ البعثِ عند النفخةِ الثانيةِ لا يومُ النفخةِ الأُولى كما توهمَ فإنَّ قولَهُ تعالَى(9/35)
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} بدلٌ منْ يومِهِم وقُرِىءَ يُخرجونَ على البناءِ للمفعولِ من الإخراجِ {سِرَاعاً} حالٌ من مرفوعِ يخرجونَ أي مسرعينَ {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ} وهو كلُّ ما نُصِبَ فعبدَ من دونِ الله تعالَى وقُرِىءَ بسكونِ الصَّادِ وبفتحِ النونِ وسكونِ الصادِ أيضاً {يُوفِضُونَ} يُسرعونَ(9/35)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
{خاشعة أبصارهم} وصفتْ أبصارُهُم بالخشوعِ معَ أنه وصفُ الكلِّ لغايةِ ظهورِ آثارِهِ فيها {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} تغشاهُم ذِلةٌ شديدةٌ {ذلك} الذي ذُكِرَ ما سيقعُ فيهِ من الأحوالِ الهائلةِ {اليوم الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ} في الدنيا عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ سألَ سائلٌ أعطاهُ الله تعالى ثوابَ الذينَ هُم لأماناتِهِم وعهدهم راعون(9/35)
71 سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (1 4)
سورة نوحٍ عليه السَّلامُ مكية وآياتها ثمان وعشرون
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}(9/36)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ} أي بأنْ أنذرْهُم على أنَّ أنْ مصدريةٌ حُذِفَ منها الجارُّ وأُوصلَ إليها الفعلُ فإنَّ حذفَهُ معَ أنَّ وأنْ مطردٌ وجُعلتْ صلتِها أمراً كما في قولِهِ تعالَى وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لأنَّ مدارَ وصلِهَا بصيغِ الأفعالِ دلالتُها على المصدرِ وذلكَ لا يختلفُ بالخبريةِ والإنشائيةِ ووجوبُ كونِ الصلةِ خبريةً في الموصولِ الاسميِّ إنَّما هُو للتوصلِ إلى وصفِ المعارفِ بالجملِ الخبريةِ وليسَ الموصولُ الحرفيُّ كذلكَ وحيثُ استوى الخبرُ والإنشاءُ في الدلالةِ على المصدرِ استويا في صحةِ الوصلِ بهما فيتجردُ عند ذلكَ كلٌّ منهُمَا عن المَعْنَى الخاصِّ بصيغتِهِ فيبقَى الحدثُ المجردُ عن مَعْنَى الأمرِ والنَّهيِ والمُضيِّ والاستقبالِ كأنَّه قيلَ أرسلنَاهُ بالإنذارِ وقيلَ المَعْنَى أرسلناهُ بأنْ قُلْنَا لهُ أنذرْ أي أرسلناهُ بالأمرِ بالإنذارِ ويجوزُ أن تكونَ أنْ مفسرةً لما في الإرسالِ من معنى القولِ فلا يكونُ للجملةِ محلٌّ من الإعرابِ وعلى الأولِ محلُّها النصبُ عند سبويه والفرَّاءِ والجرُّ عند الخليلِ والكِسَائيِّ كما هُو المعروفُ وقُرِىءَ أنذرْ بغيرِ أنْ على إرادةِ القولِ {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عاجِلٌ أو آجِلٌ لئلاَّ يبقَى لهُم عذرٌ مَا أصلاً(9/36)
قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2)
{قال} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ إرسالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالوجهِ المذكورِ كأنَّه قيلَ ما فعلَ عليهِ الصَّلاة والسَّلام فقيلَ قالَ لهُم {يا قوم إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} منذرٌ موضحٌ لحقيقةِ الأمرِ وقولُهُ تعالَى(9/36)
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)
{أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ} متعلقٌ بنذيرٌ على الوجهينِ المذكورينِ(9/36)
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
{يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} أي بعض ذنوبكم وهو ما سلفَ في الجاهليةِ فإنَّ الإسلامَ يجبُّه {وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو الأمدُ الأقصَى الذي قدَّرَهُ الله تعالَى لهم بشرطِ الإيمانِ والطاعةِ وراءَ ما قدَّرَهُ لهُم على تقديرِ بقائِهِم على الكفرِ والعصيانِ فإنَّ وصفَ الأجلِ بالمسمَّى وتعليق تأخيرهم اليه(9/36)
سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (5 9)
بالإيمانِ والطاعةِ صريحٌ في أنَّ لهم أجلاً آخرَ لا يجاوزونَهُ إنْ لم يؤمنُوا وهو المرادُ بقولِهِ تعالَى {إِنَّ أَجَلَ الله} أي ما قدَّرَ لكُم على تقديرِ بقائِكُم على الكفرِ {إِذَا جَاء} وأنتُم على ما أنتُم عليهِ من الكُفرِ {لاَ يُؤَخَّرُ} فبادروا الى بالايمان والطاعةِ قبلَ مجيئِهِ حَتَّى لا يتحققَ شرطُهُ الذي هو بقاؤُكُم على الكفرِ فلا يجيءويتحقق شرطُ التأخيرِ إلى الأجلِ المسمَّى فتؤخرُوا إليهِ ويجوزُ أن يرادَ بهِ وقتُ إتيانِ العذابِ المذكورِ في قولِهِ تعالَى مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فانه أجل مؤقت له حَتْماً وحملُهُ على الأجلِ الأطولِ مما لا يساعدُهُ المقامُ كيفَ لاَ والجملةُ تعليلٌ للأمرِ بالعبادةِ المستتبعةِ للمغفرةِ والتأخيرِ إلى الأجلِ المسمَّى فلا بُدَّ أنْ يكونَ المنفيُّ عند مجيءِ الأجلِ هو التأخيرَ الموعودَ فكيفَ يتُصورُ أن يكونَ ما فُرضَ مجيئُهُ هو الأجلُ المسمَّى {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كنتُم تعلمونَ شيئاً لسارعتُم إلى ما أمرتُكُم بهِ(9/37)
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5)
{قَالَ} أي نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مناجياً ربَّهُ وحاكياً له تعالَى وهو أعلمُ بحالِهِ ما جرَى بينَه وبينَ قومِه من القيلِ والقالِ في تلكَ المدد الطوال بعدما بذلَ في الدعوةِ غايةَ المجهودِ وجاوزَ في الإنذارِ كلَّ حدَ معهودٍ وضاقتْ عليهِ الحيلُ وعيَّتْ بهِ العللُ {رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى} إلى الإيمانِ والطَّاعةِ {لَيْلاً وَنَهَاراً} أي دائماً من غيرِ فتورٍ ولا تَوانٍ(9/37)
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)
{فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً} ممَّا دعوتُهُم إليهِ وإسنادُ الزيادةِ إلى الدعاءِ لسببيته كما في قوله تعالى زَادَتْهُمْ إيمانا(9/37)
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)
{وإني كلما دعوتهم} إلى الإيمانِ {لِتَغْفِرَ لَهُمْ} بسببهِ {جَعَلُواْ أصابعهم فِى آذانهم} أيْ سدُّوا مسامِعَهُم منِ استماعِ الدعوةِ {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} أي بالغُوا في التغطِّي بهَا كأنَّهُم طلبُوا أنْ تغشاهُم ثيابُهُم أو تُغشِّيهم لئلا يبصروا كراهةَ النظرِ إليهِ أو لئلا يعرفَهُم فيدعُوَهُم {وَأَصَرُّواْ} أي أكبُّوا على الكفرِ والمعاصِي مستعارٌ منْ أصرَّ الحمارُ على العانةِ إذَا أصرَّ أذنيهِ وأقبلَ عليهَا {واستكبروا} عن اتِّباعي وطاعتي {استكبارا} شديداً(9/37)
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)
{ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا} {ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} أي دعوتهم تارة بعد تارة ومرةً غبَ مرةٍ على وجوهٍ مُتخالفةٍ وأساليبَ متفاوتةٍ وثُمَّ لتفاوتِ الوجوهِ فإنَّ الجِهارَ أشدُّ من الإسرارِ والجمعُ بينَهُمَا أغلظُ من الإفرادِ أو لتراخِي بعضِهَا عن بعضٍ وجهاراً منصوبٌ بدعوتُهُم على المصدرِ لأنَّه أحدُ نَوْعَيْ الدعاءِ أو اريد بدعوتهم جاهرتهم(9/37)
سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (10 14)
أو هو صفةٌ لمصدرٍ أي دعوتُهُم دعاءً جهاراً أي مُجاهِراً به أو مصدرٌ في موقعِ الحالِ أي مُجاهراً(9/38)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)
{فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ} بالتوبةِ عن الكفرِ والمَعَاصِي {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} للتائبينَ كأنَّهُم تعللُوا وقالُوا إنْ كُنَّا على الحقِّ فكيفَ نتركهُ وإنْ كُنَّا على الباطلِ فكيفَ يقبلنا بعدَ ما عكفنَا عليهِ دَهْراً طويلاً فأمرهم بما يمحقُ ما سلفَ منهم من المَعَاصِي ويجلبُ إليهم المنافعَ ولذلكَ وعدهُم بما هُو أوقعُ في قلوبِهِم وأحبُّ إليهِم من الفوائدِ العاجلةِ وقيل لما كذَّبُوه بعدَ تكريرِ الدعوةِ حبسَ الله تعالَى عنهم القطرَ وأعقمَ أرحامَ نسائِهم أربعينَ سنةً وقيلَ سبعينَ سنةً فوعدَهُم أنَّهم إنْ آمنُوا أنْ يرزقَهُم الله تعالَى الخِصْبَ ويدفَع عنْهُم ما كانُوا فيهِ(9/38)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)
{يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً} أي كثيرَ الدرورِ والمرادُ بالسماءِ المظلةُ أو السحابُ(9/38)
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
{وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات} بساتينَ {وَيَجْعَل لَّكُمْ} فيهَا {أَنْهَاراً} جاريةً(9/38)
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)
{مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} إنكارٌ لأنْ يكونَ لهُم سببٌ ما في عدمِ رجائِهِم لله تعالَى وقاراً على أنَّ الرجاءَ بمَعْنَى الاعتقادِ ولا ترجونَ حالٌ من ضميرِ المخاطبينَ والعاملُ فيهَا مَعْنَى الاستقرارِ في لكُم على أنَّ الإنكارَ متوجهٌ إلى السببِ فَقَطْ مع تحققِ مضمونِ الجملةِ الحاليةِ لا إليهِما معاً كما في قوله تعالى ومالي لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى ولله متعلِّقٌ بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً مِنْ وقاراً ولو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ أيْ أيُّ سببٍ حصلَ لكُم حالَ كونِكُم غيرَ معتقدينَ لله تعالَى عظمةً موجبةً لتعظيمِهِ بالإيمانِ بهِ والطاعةِ لهُ(9/38)
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} أي والحالُ أنكم على حالٍ منافيةٍ لما أنتُم عليهِ بالكليةِ وهيَ أنكم تعلمونَ أنَّه تعالَى خلقَكُم تاراتٍ عناصرَ ثم أغذيةً ثم أخلاطا ثم نطفا علَقاً ثم مُضَغاً ثم عظاما ولحوما ثم أنشأكم خلقاً آخرَ فإن التقصيرَ في توقير من من هذه شؤنه في القدرةِ القاهرةِ والإحسانِ التامِّ مع العلمِ بها مِمَّا لا يكادُ يصدُرُ عن العاقلِ هَذا وقد قيلَ الرجاءُ بمعنى الأملِ اي مالكم لا تُؤمِّلُونَ لهُ تعالَى توقيراً أي تعظيماً لمن عبدَهُ وأطاعَهُ ولا تكونونَ على حالٍ تُؤمِّلُونَ فيها تعظيمَ الله تعالَى إيَّاكُم في دارِ الثوابِ ولله بيان للموقر ولو تأخر لكانَ صلةً للوقارِ والأولُ هو الذي تستدعيهِ الجزالةُ التنزيليةُ فإن اللائقَ بحالِ الكفرةِ استبعادُ أنْ لا يعتقدوا وقار الله تعالَى وعظمتِهِ مع مشاهدَتِهِم لآثارِهَا وأحكامِهَا الموجبةِ للاعتقادِ حَتْماً وأمَّا عدمُ رجائِهِم لتعظيمِ الله إيَّاهُم في دارِ الثوابِ فليسَ في حيزِ الاستبعادِ والإنكارِ معَ أنَّ في جعلِ الوقارِ بمَعْنَى التوقيرِ من التعسفِ(9/38)
70 سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (15 19)
وفي قولِهِ ولله بيانٌ للموقر ولو تأخر لكان صلةً للوقارِ من التناقضِ مالا يَخْفى فإنَّ كونَهُ بياناً للموقِّرِ يقتضِي أنْ يكونَ التوقيرُ صادراً عنْهُ تعالَى والوقارَ وصفاً للمخاطبينَ وكونُهُ صلةً للوقارِ يوجبُ كونَ الوقارِ وصفاً لهُ تعالَى وقيل مالكم لا تخافونَ لله عظمةً وقدرةً على أخذِكُم بالعقوبةِ أيْ أيُّ عذرَ لكُم في تركِ الخوفِ منهُ تعالَى وعن سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مالكم لا تخشُونَ لله عقاباً ولا ترجون منْهُ ثَواباً وعن مجاهدٍ والضحَّاكِ ما لكُم لا تُبالونَ لله عظمةً قال قُطْربٌ هيَ لغةٌ حجازيةٌ يقولونَ لم أَرْجُ أيْ لم أبالِ وقولُه تعالَى(9/39)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)
{أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سبع سماوات طِبَاقاً} أي متطابقةً بعضُها فوقَ بعضٍ(9/39)
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)
{وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} أي مُنوِّراً لوجهِ الأرضِ في ظُلمةِ الليلِ ونسبتُهُ إلى الكُلِّ مع أنَّهُ في السماءِ الدُّنيا لما أنَّها محاطةٌ بسائرِ السمواتِ فما فيهَا يكونُ في الكُلِّ أو لأنَّ كُلَّ واحدةٍ منهَا شفافةٌ لا تحجبُ ما وراءَها فيُرى الكلُّ كأنَّها سماءٌ واحدةٌ ومن ضرورةِ ذلكَ أن يكونَ ما في واحدةٍ منهَا كأنَّه في الكُلِّ {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} يزيلُ ظلمةَ الليلِ ويبصرُ أهلُ الدُّنيا في ضوئِهَا وجهَ الأرضِ ويشاهدونَ الآفاقَ كما يبصرُ أهلُ البيتِ في ضوءِ السراجِ ما يحتاجونَ إلى إبصارِهِ وليسَ القمرُ بهذه المثابةِ إنما هو نورٌ في الجُملةِ(9/39)
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)
{والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً} أي أنشأكُم منها فاستعيرَ الإنباتُ للإنشاءِ لكونِهِ أدلَّ على الحدوثِ والتكونِ من الأرضِ ونباتاً إما مصدر مؤكدٌ لأنبتكُم بحذفِ الزوائدِ ويسمَّى اسمَ مصدرٍ أو لما يترتبُ عليهِ من فعلِهِ أي أنبتكُم من الأرض فنبثم نباتاً ويجوزُ أن يكونَ الأصلُ أنبتكُم من الأرضِ إنباتاً فنبتُم نباتاً فيُحذفُ من الجملةِ الأُولى المصدرُ ومن الثانيةِ الفعلُ اكتفاءً في كلَ منهُمَا بما ذُكِرَ في الأُخْرَى كَمَا مر في قوله تعالى أم تريدون أن تسألوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى وقولِهِ تعالَى وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ(9/39)
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)
{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} بالدفنِ عندَ موتِكُم {وَيُخْرِجُكُمْ} منها عند البعثِ والحشرِ {إِخْرَاجاً} محققاً لا ريبَ فيهِ(9/39)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)
{والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً} تتقلبونَ عليها تقلبَكُم على بُسُطِكُم في بيوتِكُم وتوسيطُ لكُم بينَ الجعلِ ومفعوليهِ مع أنَّ حقَّهُ التأخيرُ لما مرَّ مراراً من الاهتمامِ ببيانِ كونِ المجعولِ من منافعِهم والتشويقِ إلى المؤخرِ فإنَّ النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لا سيَّما عند كونِ المقدمِ ملوِّحاً بكونِهِ من المنافعِ تبقَى مترقبةً له فيتمكن(9/39)
70 سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (20 24)
عندَ ورودِه لها فضلُ تمكنٍ(9/40)
لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
{لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} أي طرقاً واسعةً جمعُ فجَ وهو الطريقُ الواسعُ وقيلُ هو المسلكُ بينَ الجبلينِ ومِنْ متعلقةٌ بما قبلَهَا لما فيهِ من مَعْنَى الاتخاذِ أو بمضمرٍ هو حالٌ من سبلاً أي كائنةً من الأرضِ ولو تأخر لكان صفة لهَا(9/40)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)
{قَالَ نُوحٌ} أعيدَ لفظُ الحكايةِ لطولِ العهدِ بحكايةِ مناجاتِهِ لربِّهِ أي قالَ مناجياً لهُ تعالَى {رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى} أيْ تمُّوا على عصيانِي فيما أمرتُهُم بهِ مع ما بالغتُ في إرشادِهِم بالعظةِ والتذكيرِ {واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} أيْ واستمرُّوا على اتِّباعِ رؤسائِهِم الذينَ أبطرَتْهُم أموالُهُم وغرتْهُم أولادُهُم وصارَ ذلكَ سبباً لزيادةِ خسارِهِم في الآخرةِ فصَارُوا أسوةً لهم في الخسارِ وفي وصفِهِم بذلكَ إشعارٌ بأنَّهُم إنَّما اتبعوهم لوجاهتم الحاصلةِ لهم بسببِ الأموالِ والاولاد لا لما شاهدُوا فيهم من شُبهةٍ مُصححةٍ للاتباعِ في الجملة وقرى وولده بالضمِّ والسكونِ على أنَّهُ لغةٌ كالحُزْنِ أو جمعٌ كالأُسْدِ(9/40)
وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)
{وَمَكَرُواْ} عطفٌ على صلةِ مَنْ والجمعُ باعتبارِ مَعناهَا كما أن الإفراد في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتبارِ لفظِها {مَكْراً كُبَّاراً} أي كبيراً في الغايةِ وقُرِىءَ بالتخفيفِ والأولُ أبلغُ منْهُ وهُوَ أبلغُ من الكبيرِ وذلكَ احتيالُهُم في الدِّينِ وصدُّهم للناس عنه وتحريشهم لهم فى أذيةِ نوحً عليهِ السَّلامُ(9/40)
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
{وقالوا لا تذرن آلهتكم} أي لا تتركُوا عبادتَهَا على الإطلاقِ إلى عبادةِ ربِّ نوحٍ {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} أي ولا تذُرنَّ عبادةَ هؤلاءِ خصُّوها بالذكرِ مع اندراجِهَا فيمَا سبقَ لأنَّها كانتْ اكبر اصنامهم وأعظمها عندهُم وقد انتقلتْ هذه الأصنامُ عنهُم إلى العربِ ودُّ لكلبٍ وسواعٌ لهمدانَ ويغوثُ لمذحجَ ويعوقُ لمرادٍ ونسرٌ لحِميْرٍ وقيلَ هي أسماء رجال صالحين كانوا بينَ آدمَ ونوحٍ وقيلَ من أولادِ آدمَ عليهِ السَّلامُ ماتُوا فقالَ إبليسُ لمن بعدَهُم لو صوَّرتُم صُورَهُم فكنتُم تنظرونَ إليهِم وتتبركُونَ بهم ففعلُوا فلمَّا ماتَ أولئكَ قالَ لمَنْ بعدَهُم إنَّهم كانُوا يعبدُونَهُم فعبدُوهُم وقيلَ كان ودٌّ على صورةِ رجلٍ وسواعٌ على صورةِ امرأةٍ ويغوثُ على صورة أسدٍ ويعوقُ على صورةِ فرسٍ ونسرٌ على صورةِ نسرٍ وقُرِىءَ وُداً بضمِّ الواوِ ويغوثاً ويعوقاً للتناسبِ ومُنِعَ صرفُهما للعجُمة والعلميةِ(9/40)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
{وَقَدْ أَضَلُّواْ} أي الرؤساءُ {كَثِيراً} خلقاً كثيراً أو الأصنامُ كقولِهِ تعالَى رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً} عطفٌ على قولِهِ تعالَى رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى على حكايةِ كلامِ نوح بعد قال(9/40)
71 سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (25 28)
وبعدَ الواوِ النائبةِ عنهُ أيْ قالَ ربِّ إنَّهُم عصَوني وقالَ لا تزدِ الظالمينَ إلا ضلالاً ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرِهم للتسجيلِ عليهِم بالظلمِ المفرطِ وتعليلِ الدعاءِ عليهِم بهِ والمطلوبُ هو الضَّلالُ في تمشيةِ مكرِهِم ومصالحِ دُنياهُم أو الضياعُ والهلاكُ كما في قولِهِ تعالَى إِنَّ المجرمين في ضلال وسعرو يؤيده ما سيأتي من دعائِهِ عليه الصَّلاةُ والسلام(9/41)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)
{مّمَّا خطيئاتهم} أي من أجل خطياتهم ومَا مزيدةٌ بينَ الجارِّ والمجرورِ للتوكيدِ والتفخيمِ ومَنْ لم يَرَ زيادَتَهَا جعلَهَا نكرة وجعل خطيئائهم بدلاً منهَا وقُرِىءَ مِمَّا خطاياهم ومما خطاياتهم اي بسبب خطايئاتهم المعدودةِ وغيرِهَا من خطاياهُم {أُغْرِقُواْ} بالطوفانِ لا بسببٍ آخرَ {فَأُدْخِلُواْ نَاراً} المرادُ إمَّا عذابُ القبرِ فهو عَقيبَ الإغراقِ وإنْ كانُوا في الماءِ عنِ الضحَّاكِ أنَّهُم كانُوا يُغرقونَ من جانبٍ ويُحرقُونَ من جانبٍ أو عذابُ جهنَم والتعقيبُ لتنزيلِهِ منزلةَ المتعقبِ لإغراقِهِم لاقترابِهِ وتحقِقِه لا محالةَ وتنكيرُ النَّارِ إمَّا لتعظيمِهَا وتهويلِهَا أو لأنَّهُ تعالَى أعدَّ لهُم على حسبِ خطيئاتِهِم نوعاً من النَّارِ {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً} أي لم يجدْ أحدٌ منهُم واحداً منَ الأنصارِ وفيه تعريضٌ باتِّخاذِهِم آلهةً من دونِ الله تعالَى وبأنَّها غيرُ قادرةٍ على نَصرِهِم وتهكمٌ بهِمْ(9/41)
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)
{وَقَالَ نُوحٌ ربِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دياراًَ} عطفٌ على نظيرِهِ السابقِ وقولُهُ تعالَى مّمَّا خطيئاتهم الخ اعتراضٌ وسطٌ بين دعائِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ ما أصابَهُم من الإغراقِ والإحراقِ لم يُصبهُم إلا لأجلِ خطيئاتِهِم التي عدَدَهَا نوحٌ عليهِ السَّلامُ وأشارَ إلى استحقاقِهِم للإهلاكِ لأجلِها لا أنَّها حكايةٌ لنفسِ الإغراقِ والإحراقِ على طريقةِ حكايةُ ما جَرى بينَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبينُهُم من الأحوالِ والأقوالِ وإلا لأُخِّر عن حكايةِ دُعَائِهِ هَذا وديَّاراً من الأسماءِ المستعملةِ في النَّفيِ العامِّ يقالُ ما بالدارِ ديَّارٌ أو ديُّورٌ كقيَّامِ وقَيُّومِ أيْ أحدٌ وهو فَيعالٌ من الدُّورِ أو من الدَّارِ أصلُهُ دَيْوَارٌ قدْ فُعِلَ بهِ ما فُعِلَ بأصلِ سيد لأفعال وإلا لكانَ دَوَّاراً(9/41)
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
{إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ} عليها كلاً أو بعضاً {يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} عن طريقِ الحقِّ {وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} أي إلا من سيفجُر ويكفرُ فوصفَهم بما يصيرونَ إليهِ وكأنَّه اعتذارٌ ممًّا عَسَى يرِدُ عليه مِنْ أنَّ الدعاءَ بالاستئصال معَ احتمال أنْ يكونَ من أخلافِهم مَنْ يؤمنَ منكرا وإنَّما قالَهُ لاستحكام علمِه بما يكونُ منهم ومن أعقابهم بعد ما جرَّبُهم واستقرأ أحوالهم قريباً من ألف سنةٍ(9/41)
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
{رَّبّ اغفر لِى ولوالدى}(9/41)
ابو ملك بن متوشلخ وأمه شمخا بنت انوش كانامؤمنين وقيل هما آدم وحواء وقُرىءَ ولولديَّ يريدُ ساماً وحاماً {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ} أي مَنزلِي وقيلَ مسجدِي وقيل سَفينتي {مُؤْمِناً} بهذا القيدِ خرجتْ امرأتُه وابنُه كنعانُ ولكنْ لم يجزمْ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بخروجِه إلا بعدَ ما قيلَ له إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ وقد مرَّ تفصيلُه في سورة هو {وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} عمَّهم بالدُّعاءَ إثرَ ما خصَّ بهِ مَنْ يتصلُ به نسباً وديناً {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} أي هلاكاً قيلَ غرقَ معُهم صبيانُهم أيضاً لكنْ لا على وجهِ العقابِ لهم بلُ لتشديد عذابِ آبائِهم وأمَّهاتِهم بإراءةِ هلاكِ أطفالِهم الذينَ كانُوا أعزَّ عليِهم من أنفسهِم قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يهلكونَ مهلكاً واحداً ويصدرونَ مصادرَ شَتَّى وعنِ الحسنِ أنَّه سُئلَ عنْ ذلكَ فقالَ علَم الله براءتَهُم فأهلكَهُم بغيرِ عذابٍ وقيل اعقم الله أرحامَ نسائِهم وأيبسَ أصلابَ آبائِهم قبلَ الطُّوفانِ بأربعينَ أو سبعينَ سنةً فلم يكُنْ معهُم صبيٌّ حينَ غرقوا عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ نوحٍ كانَ من المؤمنينَ الذينَ تُدركهم دعوةُ نوح عليه السلام
سورة الجن مكية وآياتها ثمان وعشرون
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}(9/42)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
{قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ} وقُرِىءَ أُحيَ إليَّ أصلُه وُحيَ وقد قُرِىءَ كذلكَ منْ وُحيَ إليهِ فقلبتْ الواوُ المضمومةُ همزةٌ كأعدَ وَأزنَ في وَعَدَ ووَزَنَ {أَنَّهُ} بالفتحِ لأنَّه فاعل أُوحي والضمير للشأن {استمع} أي القرآن كما ذكر فِي الأحقافِ وقد حُذِفَ لدلالةِ ما بعدَهُ عليه {نَفَرٌ مّنَ الجن} النفرُ ما بين الثلاثة والعشرة والجنُّ أجسام عاقلةٌ خفيةٌ يغلبُ عليهْمِ الناريةُ أو الهوائيةُ وقيلَ نوعٌ منَ الأرواحِ المجردةِ وقيلَ هيَ النفوسُ البشريةُ المفارقةُ عن أبدانِها وفيهِ دِلالةٌ عَلى أنَّه عليه الصلاةُ والسلام لم يشُعْر بهمِ وباستماعِهم ولم يقرأْ عليهمْ وإنَّما اتفقَ حضورُهم في بعض اوقات قراءته فسمعوه فأخبر الله تعالى بذلك وقد مر ما فيه من التفصيلِ في الأَحْقَافِ {فَقَالُواْ} لقومِهم عندَ رجوعِهم إليهِم {إنا سمعنا قرآنا} كتاباً مقرُوءاً {عَجَبًا} بديعاً مبايناً لكلام الناسِ في حسن النظمِ ودقة المَعْنى وهو مصدر وصف به للمبالغةِ(9/42)
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)
{يَهْدِى إِلَى الرشد} إلى الحق والصواب {فآمنا بِهِ} أيْ بذلكَ القرآن {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً} حسبمَا نطقَ به مَا فيهِ منْ دلائلِ التوحيدِ(9/42)
72 سورة الجن (307)(9/43)
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)
{وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} بالفتحِ قالُوا هُوَ وما بعده من الجمل المصدرة بأنَّ فِي أحدَ عشرَ موضعاً عطفٌ عَلى محلِّ الجارِّ والمجرورِ في فآمنا به كأنَّه قيلَ فصدقناهُ وصدقنا أنَّه تعالَى جَدُّ ربنا اي ارتفع عظتمه منْ جَدَّ فلانٌ في عَينْي أيْ عظُم تمكنُّهُ او سلطانه او غناء على أنه مستعارٌ منَ الجَدِّ الذي هُوَ البَختُ والمعنى وصفه بالاستغناء عنِ الصاحبةِ والولدِ لعظمتِه او لسلطانه او لغناهُ وقُرِىءَ بالكسر وكَذا الجمل المذكور عطفاً على المحكيِّ بعدَ القولِ وهو الأظهرُ لوضوح اندراج كُلِّها تحتَ القولِ وأما اندراج الجملِ الآتيةِ تحتَ الإيمانِ والتصديقِ كما يقتضيهُ العطفُ عَلى محلِّ الجارِّ والمجرورِ ففيهِ إشكالٌ كَما ستحيطُ به خُبْراً وقولُه تعالَى {مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً} بيانٌ لِحُكمِ تعالِي جَدِّهِ وقُرِىءَ جَدَّاً ربُّنَا على التمييزِ وجَدُّ ربِنا بالكسرِ أيْ صدقُ ربوبيتِه وحق الهيته عنِ اتخاذِ الصاحبةِ والولدِ وذلكَ أنَهُم لَمَّا سمعُوا القرآنَ ووفقُوا للتوحيدِ والإيمانِ تنبهوا للخطأ فيما اعتقدوه كفرةُ الجنِّ من تشبيهِ الله تعالَى بخلقِه في اتخاذِ الصاحبةِ والولدِ فاستعظمُوه ونزهُوه تعالَى عَنْهُ(9/43)
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)
{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} أي إبليسُ أو مردةُ الجنِّ {عَلَى الله شَطَطاً} اي قولا شططٍ أيْ بعدٍ عن القصدِ ومجاوزةٍ للحدِّ أوْ هُو شططٌ في نفسِه لفرطِ بعدِهِ عن الحقِّ وهُو نسبةُ الصاحبةِ والولدِ إليهِ تعالَى وتعلقُ الإيمانِ والتصديقِ بهذَا القولِ ليسَ باعتبارِ نفسِه فإنهم كانُوا عالمِين بقولِ سفهائِهم منْ قبلُ أيضاً بلْ باعتبارِ كونِه شططاً كأنَّه قيلَ وصدقنَا أنَّ مَا كَان يقولُه سفيهُنَا في حقِّه تعالَى كانَ شططاً وأما تعلقهما بقوله تعالَى(9/43)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} فغيرُ ظاهرٍ وهُو اعتذارٌ منْهُم عن تقليدِهم لسفيهِهم أيْ كُنَّا نظنُّ أنه لنْ يكذبَ على الله تعالى أحدٌ أبداً ولذلكَ اتبعنَا قولَهُ وكَذِباً مصدرٌ مؤكدٌ لتقولَ لأنَّه نوعٌ من القولِ أو وصفٌ لمصدرِه المحذوفِ أيْ قولاً كذباً أيْ مكذوباً فيهِ وقُرِىءَ لنْ تَقوَّلَ بحذفِ احدَى التاءينِ فكذبا مصدر مؤكذ لأنَّ الكذبَ هو التقولُ(9/43)
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن} كان الرجلُ من العربِ إذا أمسَى في وادٍ قفرٍ وخافَ على نفسِه يقولُ أعوذُ بسيدِ هَذَا الوادِي من سفهاءِ قومِه يريدُ الجنِّ وكبيرَهُم فإذا سمعُوا بذلكَ استكبرُوا وَقَالُوا سُدنا الإنسَ والجنَّ وذلكَ قولُه تعالَى {فَزَادوهُمْ} اي زاد الرجال العائذون الجِنَّ {رَهَقاً} أي تكبراً وعتواً أو فزادَ الجنُّ العائذين غيا بأن اضلوا حتى استعاذُوا بهمْ(9/43)
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ}(9/43)
أيِ الإنسُ {كَمَا ظَنَنتُمْ} إيُّها الجِنُّ على أنَّه كلامُ بعضِهم لبعضٍ {أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً} وقيل المَعْنى أنَّ الجنَّ ظنُّوا كما ظننتُمْ أيُّها الكفرةُ الخ فتكونُ هذهِ الآيةُ وما قبلَها منْ جملة الكلامِ المُوحَى به والأقربُ أنهُمَا كذلكَ علَى كُلِّ تقديرٍ عطفاً على أنه استمَع اذ لاَ معْنَى لادراجهما تحتَ ما ذُكر من الإيمانِ والتصديقِ وكذا قولُه تعالَى(9/44)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء} وما بعده من الجمل المصدرة بأنَّا ينبغِي أنْ تكونَ معطوفةً على ذلكَ عَلى أنَّ المُوحَى عينُ عبارةِ الجنِّ بطريقِ الحكايةِ كأنَّه قيلَ قُلْ أُوحيَ إليَّ كيت وكيت وهذهِ العباراتُ أي طلبنَا بلوغَ السماءِ أو خبرَها واللمسُ مستعارٌ من المسِّ للطلبِ كالجسِّ يقال لمسَهُ والتمسَهُ وتلمسَهُ كطلَبُه واطلَبُه وتطلَبُه {فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً} أي حُراساً اسمُ جمعٍ كخدمٍ مفردُ اللفظِ ولذلكَ قيلَ {شَدِيداً} قوياً وهُم الملائكةُ يمنعونَهُم عنها {وَشُهُباً} جمعُ شهابٍ وهيَ الشعلةُ المقتبسةُ من نارِ الكواكبِ(9/44)
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ} قبلَ هَذا {مِنْهَا} من السماءِ {مقاعد لِلسَّمْعِ} خاليةً عن الحرسِ والشهبِ أو صالحةٍ للترصدِ والاستماعِ وللسمعِ متعلقٌ بنقعدَ أي لأجلِ السمعِ أو بمضمرٍ هو صفةٌ لمقاعدَ كائنةً للسمعِ {فَمَن يَسْتَمِعِ الأن} في مقعدٍ من المقاعدِ {يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} أي شهاباً راصداً لهُ ولأجلِه يصدُّه عن الاستماعِ بالرجمِ أو ذوي شهابٍ راصدينَ لهُ على أنَّه اسمٌ مفردٌ في مَعْنى الجمعِ كالحرسِ قيلَ حدثَ هذا عندَ مبعثِ النبيِّ عليه الصلاةَ والسَّلامُ والصحيحُ أنه كانَ قبلَ البعثِ أيضاً لكنَّه كثُر الرجمُ بعدَ البعثةِ وزادَ زيادةً حتَّى تنبه لها الإنسُ والجنُّ ومُنعَ الاستراقُ أصلاً فقالُوا ما هذا إلا لأمرِ أراده الله تعالى بأهلِ الأرضِ وذلك قولهم(9/44)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
{وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأرض} بحراسةِ السماءِ {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} أي خيراً ونسبةُ الخيرِ إلى الله تعالى دونَ الشرِّ من الآداب الشريفةِ القرآنيةِ كما في قوله تعالى وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ونظائرُه(9/44)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)
{وَأَنَّا مِنَّا الصالحون} أي الموصوفونَ بصلاحِ الحالِ في شأنِ أنفسِهم وفي معاملتِهم مع غيرِهم المائلونَ إلى الخيرِ والصلاحِ حسبما تقتضيهِ الفطرةُ السليمةُ لا إلى الشرِّ والفسادِ كما هو مقتضَى النفوسِ الشريرةِ {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي قومٌ دونَ ذلكَ فحذف الموصوفَ وهم المقتصدونَ في صلاحِ الحالِ على الوجهِ المذكورِ لا في الإيمانِ والتَّقوى كما توهَم فإنَّ هذا بيانٌ لحالِهم قبل استماعِ القرآن كما تعرب عنه قولِه تعالى {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} وأمَّا حالُهم بعد استماعِه فسيُحكى بقولِه تعالى وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى إلى قولِه تعالى وَأَنَّا مِنَّا المسلمون أي كُنَّا قبل هذا ذَوِي طرائقَ أي مذاهبَ أو مثلَ طرائقَ في اختلافِ الأحوال او كانت طرائقنا طرائق قدد اي متفرقة مختلفة(9/44)
72 سورة الجن (12 17) جمعُ قِدَّةٍ من قدَّ كالقِطْعةِ من قَطَع(9/45)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)
{وَأَنَّا ظَنَنَّا} أي علمنَا الآنَ {أَن لَّن نُّعْجِزَ الله} أي الشأنَ لنْ نعجزَ الله كائنين {في الأرض} إن أينما كُنَّا من أقطارِها {ولن نعجزه هربا} هَرَباً هاربينَ منها إلى السماءِ أو لن نعجزَهُ في الأرضِ إنْ أرادَ بنا ولن نُعجزَهُ هرباً إنْ طلبنَا(9/45)
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى} أي القرآنَ الذي هُو الهدى بعينه {آمنا به} من غير تلعثم وترددٍ {فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ} وبما أنزلَهُ {فَلاَ يَخَافُ} فهو لا يخافُ {بَخْساً} أي نقصاً في الجزاءِ {وَلاَ رَهَقاً} ولا أنْ ترهقَهُ ذلةٌ أو جزاءَ بخسٍ ولا رهقٍ إذَا لم يبخسْ أحداً حقَّا ولا رهق ظلم أحد فلا يخافُ جزاءَهما وفيهِ دِلالةٌ على أنَّ من حقِّ من آمنَ بالله تعالى أن يجتنبَ المظالمَ وقُرِىءَ فلا يخفْ والأولُ أدلُّ على تحقيقِ نجاةِ المؤمنِ واختصاصِها بهِ(9/45)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)
{وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون} الجائرونَ عن طريقِ الذي الحق هو الإيمانُ والطَّاعةُ {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ أسلمَ والجمعُ باعتبارِ المَعْنى {تَحَرَّوْاْ} توخَّوا {رَشَدًا} عظيماً يبلغُهم إلى دار الثوابِ(9/45)
وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
{وَأَمَّا القاسطون} الجائرونَ عن سنن الإسلامِ {فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حطبا} توقدبهم كَما تُوقدُ بكفرةِ الإنسِ(9/45)
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)
{وأن لو استقاموا} أنْ مخففةٌ من الثقيلةِ والجملةُ معطوفةٌ قطعاً على أنَّه استمعَ والمَعْنى وأُوحيَ إليَّ أنَّ الشأنَ لو استقامَ الجِنُّ والإنسُ أو كلاهُما عَلَى الطريقة التي هي ملَّةُ الإسلامِ {لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً} أيْ لو سعنا عليهم الرزقَ وتخصيصُ الماءِ الغدقِ وهو الكثيرُ بالذكر لأنَّه أصلُ المعاشِ والسَّعةِ ولعزةِ وجودِه بين العربِ وقيل لو استقامَ الجنُّ على الطريقةِ المُثْلَى أي لو ثبتَ أبُوهم الجانُّ على ما كان عليه من عبادة الله تعالى وطاعتِه ولم يتكبرْ عن السجود لآدمَ عليه السَّلامُ ولم يكفرُ وتبعه ولدُه في الإسلامِ لأنعمنا عليهم ووسَّعنا رزقَهم(9/45)
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنختبرَهُم كيفَ يشكرونَهُ وقيل معناهُ إنَّه لو استقامَ الجنُّ على طريقتِهم القديمةِ ولم يسلموا يإستماع القرآن لو سغنا عليهم الرزق استدراجا لنوقعَهُم في الفتنةِ ونعذبهم في كُفرانِ النعمةِ {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ} عن عبادتِه أو عن موعظتِه أو وحيهِ {يَسْلُكْهُ} يُدخله {عَذَاباً صَعَداً} أي شاقَّاً صعباً يعلُو المعذبَ ويغلبُه على أنَّه مصدرٌ وُصف به مبالغة(9/45)
سورة الجن (18 23)(9/46)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)
{وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} عطفٌ على قولِه تعالى أنَّه استمعَ أي وأُوحيَ إليَّ أنَّ المساجدَ مختصَّةٌ بالله تعالَى وقيلَ معناهُ ولأنَّ المساجدَ لِلَّهِ
{فَلاَ تَدْعُواْ} أي لا تعبدُوا فيَها
مَعَ الله أَحَداً غيرَه وقيلَ المرادُ بالمساجدِ المسجدُ الحرامُ والجمعُ لأنَّ كلَّ ناحيةٍ منْهُ مسجدٌ له قبلةٌ مخصوصةٌ أو لأنَّه قبلة المساجدِ وقيلَ الأرضُ كلُّها لأنَّها جعلتْ مسجداً للنبي عليه الصلاة والسلام وقيلَ مواضعُ السجودِ على أنَّ المرادَ نهيُ السجودِ لغير الله تعالَى وقيل أعضاءُ السجودِ السبعةُ وقيلَ السجداتُ على أنَّه جمعُ المصدرِ الميميِّ(9/46)
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
(وَأَنَّهُ) من جُملةِ المُوحَى أي وأُوحيَ إليَّ أنَّ الشأنَ
لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله أي النبيُّ عليهِ الصلاةَ والسلام وإيراده بلفظ العبدِ للإشعارِ بَما هُو المقتضى لقيامه وعبادته وللتواضع لأنَّه واقعٌ موقعَ كلامِه عن نفسِه
{يَدْعُوهُ} حالٌ من فاعلِ قامَ أي يعبدُه وذلكَ قيامُه لصلاةِ الفجر بنخلة كمامر تفصيلُه في سورةِ الأحقافِ
كَادُواْ أي الجنُّ
{يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} متراكمينَ من ازدحامِهم عليه تعجباً ممّا شاهدُوا من عبادتِه وسمعُوا من قراءتِه واقتداءِ أصحابِه بهِ قياماً وركوعاً وسجوداً لأنهم رأوا مالم يَرَوا مثلَهُ وسمعُوا بما لم يسمعُوا بنظيرِه وقيلَ معناهُ لمَّا قامَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يعبدُ الله وحدَهُ مخالفاً للمشركينَ كاد المشركون يزدحمون عليه متراكمينَ واللِّبدُ جمعُ لبدة وهي تلبَّد بعضُه على بعضٍ ومنَها لبدةُ الأسدِ وقُرِىءَ لبُدُا جمعُ لبدةٍ وهي بمعنى اللبدة ولبدا وجمع لابدٍ كساجدٍ وسُجّدٍ ولُبْداً بضمتينِ جمعُ لَبُودٍ كصبُورٍ وصُبُرٍ وعن قتادةَ تلبدتِ الإنسُ والجنُّ على هذا الأمرِ ليطفئُوه فأبَى الله ألا أنْ يظهرَهُ على مَنْ ناوأه(9/46)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)
{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو} أي أعبدُ
{رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ} بربِّي في العبادةِ
أَحَدًا فليسَ ذلكَ ببدعٍ ولا مستنكرٍ يوجبُ التعجبَ أو الإطباقَ على عداوتِي وقُرِىءَ قالَ على أنَّه حكايةٌ لقولِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ للمتراكمينَ عليهِ والأولُ هُو الأظهرُ والأوفقُ لقولِه تعالى(9/46)
قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)
{قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً} كأنَّه أريدَ لا أملكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ولا غياً ولا رشداً فتركَ منْ كِلا المتقابلينِ ما ذُكِرَ في الآخر(9/46)
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)
{قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ الله أَحَدٌ} إنْ أراداني بسوءٍ
{وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} ملتجأً ومعدلاً وهذا بيانٌ لعجزِه عليهِ الصَّلاةُ والسلام عن شئون نفسِه بعد بيانِ عجزِه عليه الصلاة والسلام عن شئون غيرِه وقولُه تعالى(9/46)
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)
{إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله} استثناء(9/46)
سورة الجن (24 27) من قولِه لا أملكُ فإنَّ التبليغَ إرشادٌ ونفعٌ وما بينهما اعتراضٌ مؤكدٌ لنفي الاستطاعة أو منْ مُلتحداً أي لنْ أجدَ من دونه منجاً إلا أنْ أُبلغَ عنه ما أَرسلنِي به وقيلَ إلاَّ مركبةٌ من إنِ الشرطيةِ ولا النافيةِ ومعناهُ أنْ لاَ أبلغَ بلاغاً من الله والجوابُ محذوفٌ لدلالة ما قبلَهُ عليهِ
ورسالاته عطفٌ على بلاغاً ومن الله صفته لاصلته أي لا أملكُ لكُم إلا تبليغاً كائناً منهُ تعالى ورسالاتِه التي أرسلني بها
{وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} في الأمرِ بالتوحيد إذ الكلامُ فيه
{فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} وقُرِىءَ بفتح الهمزة على فحقُّه أو فجزاؤه أنَّ له نارَ جهنَم
{خالدين فِيهَا} في النار أو في جهنمَ والجمعُ باعتبار المَعْنى
أَبَدًا بلا نهايةٍ وقولُه تعالى(9/47)
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
{حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} غايةٌ لمحذوف يدلُّ عليه الحالُ من استضعاف الكفارِ لأنصارِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ واستقلالِهم لعدده كأنَّه قيلَ لا يزالونَ على ما هُم عليهِ حتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يوعدون من فنون العذابِ في الآخرة
فَسَيَعْلَمُونَ حينئذٍ
{مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} وحُمل ما يُوعدونَ على ما رأوا يوم بدر يأباه قوله تعالى(9/47)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)
{قُلْ إِنْ أَدْرِى} أي ما أدْرِي
{أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً} فإنه ردٌّ لما قالَه المشركونَ عند سماعِهم ذلكَ متَى يكونُ ذلك الموعود إنكاراً له واستهزاءً به فقيلَ قُل إنه كائنٌ لا محالةَ وأما وقتُه فما أدْرِي متَى يكونُ(9/47)
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)
{عالم الغيب} بالرفعِ قيلَ هو بدلٌ من ربِّي أو بيانٍ له ويأباهُ الفاءُ في قوله تعالى
{فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً} إذ يكونُ النظمُ حينئذٍ أمْ يجعلُ له عالمُ الغيبِ أمداً فلا يُظهر عليهِ أحداً وفيهِ من الإختلال مالا يَخْفى فهو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُو عالمُ الغيبِ والجملةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لما قبلَهُ من عدم الدرايةِ والفاءُ لترتيب عدمِ الإظهارِ على تفرده تعالى بعلم الغيبِ على الاطلاق أي فلا يُطلْعُ على غيبِه إطلاعاً كاملاً ينكشفُ به جليةُ الحالِ انكشافاً تاما موجبا لعين اليقينِ أحداً من خلقه(9/47)
إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)
{إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} أي إلا رسولاً ارتضاهُ لإظهارِه على بعضِ غيوبهِ المتعلقةِ برسالتِه كما يُعربُ عنه بيانُ من ارتضى بالرسول تعلفا تاماً إما لكونه من مبادىءِ رسالتِه بأنْ يكونَ معجزةً دالةً على صحتها وإما لكونه من أركانِها وأحكامِها كعامَّة التكاليفِ الشرعيةِ التي أُمرَ بها المكلفونَ وكيفياتِ أعمالِهم وأجزيتِها المترتبةِ عليها في الآخرةِ وما تتوقفُ هيَ عليهِ من أحوالِ الآخرةِ التي من جُملتِها قيامُ الساعةِ والبعثُ وغيرُ ذلكَ من الأمورِ الغيبية التي بينها من وظائفِ الرسالةِ وأما مالا يتعلقُ بها على أحد الوجهينِ من الغيوبِ التي من جُمْلتِها وقتُ قيامِ الساعةِ فلا يُظهر عليهِ أحدا على أنَّ بيانَ وقتِه مخلٌّ بالحكمةِ التشريعيةِ التي عليها يدورُ فلكُ الرسالةِ وليس فيه ما يدل على نفي كراماتِ الأولياءِ(9/47)
سورة الجن (28) المتعلقةِ بالكشفِ فإنَّ اختصاصَ الغايةِ القاصيةِ من مراتب الكشف بالرسل لايستلزم عدم الحصول مرتبةٍ مَا منْ تلكَ المراتبِ لغيرِهم أصلاً ولا يدَّعِي أحدٌ لأحدٍ من الأولياءِ ما في رتبةِ الرسلِ عليهم السَّلامُ من الكشفِ الكاملِ الحاصلِ بالوحي الصريحِ وقولُه تعالَى
{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفِه رَصَداً} تقريرٌ وتحقيقٌ للإظهارِ المستفادِ من الاستثناءِ وبيانٌ لكيفيته أي فإنَّه يسلكُ من جميع جوانب الرسول صلى الله عليه وسلم عند إظهارِه على غيبه حرساً من الملائكةِ يحرسُونه من تعرض الشياطين لماأظهره عليهِ من الغيوبِ المتعلقةِ برسالته وقولُه تعالى(9/48)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
{لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ} متعلقٌ بيسلكُ غايةٌ لهُ من حيثُ إنَّه مترتبٌ على الإبلاغ المترتبِ عليه إذ المرادُ به العلمُ المتعلقُ بالإبلاغ الموجود بالفعلِ وأنْ مخففةٌ من النقيلة واسمها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ والجملةُ خبرُها ورسالاتِ ربِّهم عبارةٌ عن الغيبِ الذي أُريدَ إظهارُ المُرتضَى عليهِ والجمعُ باعتبار تعددِ أفرادِه وضميرُ أبلغُوا إمَّا للرصَدِ فالمَعْنى أنَّه تعالَى يسلُكهم من جميع جوانبِ المرتَضى ليعلمَ أنَّ الشأنَ قد أبلغُوه رسالاتِ ربِّهم سالمةً عن الاختطافِ والتخليط علماً مستتبعاً للجزاءِ وهُو أنْ يعلَمُه موجوداً حاصلاً بالفعل كَما في قولِه تعالى حتى نَعْلَمَ المجاهدين والغايةُ في الحقيقه هو الإبلاغُ والجهادُ وإيرادُ علمهِ تعالَى لإبراز اعتنائِه تعالى بأمرِهما والإشعار بترتيب الجزاءِ عليهما والمبالغة في الحثِّ عليهما والتحذير عن التفريط فيهما وإما لمن ارتضَى والجمعُ باعتبارِ مَعْنى من كما أن الإفراد في الضميرين السابقينِ باعتبار لفظهافالمعنى ليعلمَ أنَّه قد أبلغَ الرسلَ الموحَى إليهم رسالات ربِّهم إلى أُممهم كما هي من غير اخنطاف ولا تخليطِ بعد ما أبلغها الرصَدُ إليهم كذلكَ قولَه تعالى
{وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أيْ بَما عندَ الرَّصَدِ أو الرُّسلِ عليهم السَّلامُ حالٌ من فاعلِ يسلكُ بإضمارِ قَدْ أو بدونه على الخلاف المشهور جيءَ بها لتحقيقِ استغنائِه تعالى في العلمِ بالإبلاغِ عمَّا ذُكِرَ من سلكِ الرصدِ على الوجِه المذكورِ أي يسلكُهم بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفِه ليترتب عليه علمَه تعالَى بما ذُكر والحالُ أنَّه تعالَى قد أحاطَ بما لديِهم من الأحوالِ جميعاً
{وأحصى كلِّ شيءٍ} ممَّا كانَ وما سيكونُ
عَدَدًا أي فرداً فرداً وهُو تمييزٌ منقولٌ من المفعول به كقوله تعالى وفجرنا الارض عُيُوناً والأصلُ أحصَى عددَ كلِّ شيءٍ وقيلَ هو حالٌ أي معدوداً محصوراً أو مصدرٌ بمَعْنى إحصاءً وأيَّا ما كان ففائدتُه بيانُ أنَّ علمَهُ تعالَى بالأشياء ليس على وجهٍ كليَ إجماليَ بلْ على وجهٍ جزئيَ تفصيليَ فإنَّ الإحصاءَ قد يرادُ به الإحاطةُ الإجماليةُ كما في قولِه تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا أي لا تقدروا على حصرها إجمالا فضلا عنى النفصيل وذلك أصلَ الإحصاءِ أنَّ الحاسبَ إذا بلغ عَقداً معيناً من عُقودِ الأعدادِ كالعشرةِ والمائةِ والألفِ وضعَ حصاةً ليحفظَ بها كميةً ذلكَ العقدِ فيبنِي عَلَى ذلكَ حسابَهُ هذا وأمَّا مَا قيلَ مِنْ أنَّ قولَه تعالى وأحاط بما لديهم الخ معطوفٌ على مقدرٍ يدلُّ عليه قوله تعالى ليعلمَ كأنه قيل قد علمَ ذلكَ وأحاطَ بما لديهم الخ فبمعزلٍ من السداد عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الجنِّ كانَ لهُ بعددِ كُلِّ جِنيَ صدَّقَ بمحمدا وَكذَّبَ به عتقُ رقبةٍ(9/48)
بسم الله الرحمن الرحيم(9/49)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
{يا أيها المزمل} أي المتزمل بثيابِه إذَا تلفّف بهَا فأدغم التاء في الزاء وقد قرىء على الأصل وقُرِىءَ المُزَمِّلُ من زمَّلَة مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل قيل خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم تهجيناً لما كانَ عليهِ من الحالةِ حيثُ كانَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ متلففاً بقطيفة مستعد للنومِ كما يفعلهُ مَنْ لا يَهمُّهُ أمرٌ ولا يعنيهِ شأنٌ فأُمرَ بأنْ يتركَ التزملَ إلى التشمر للعبادةِ والهجودِ إلى التهجدِ وقيلَ دخلَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ على خديجةَ وقد جَئِثَ فرقاً أولَ ما أتاهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ وبوادُره ترعدُ فقالَ زَمِّلوني زَمِّلونِي فحسبَ أنَّه عرضَ له فبينَا هو على ذلك إذْ نادَاهُ جبريلُ فقال يأيها المزمِّلُ فيكونُ تخصيصُ وصفِ التزمُّلِ بالخطابِ للملاطفةِ والتأنيس كما في قولِه عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه حينَ غاضبَ فاطمة رضي الله عنها فأتاهُ وهو نائمٌ وقد لصقَ بجنبهِ الترابُ قُمْ يا أبا تُرابٍ ملاطفةً وإشعاراً بأنَّه غيرُ عاتبٍ عليه وقيل المعنى يأيها الذي زُمِّلَ أمْراً عظيماً هُو أمرُ النبوةِ أي حملَه والزملُ الحملُ وازدملَهُ أي احتملَهُ فالتعرضُ للوصفِ حينئذٍ للإشعارِ بعلِّيتهِ للقيامِ أو للأمرِ به فإنَّ تحميلَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأعباءِ النبوةِ مما يوجبُ الاجتهادَ في العبادةِ(9/49)
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)
{قم الليل} أيْ قُمْ إلى الصلاِة وانتصابُ الليلِ على الظرفيةِ وقيل القيامُ مستعارٌ للصلاةِ ومَعْنى قُمْ صَلِّ وقُرِىءَ بضم الميم وفتحها
{إِلاَّ قَلِيلاً} استثناءٌ من الليلِ وقولُه تعالى(9/49)
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)
نصفه بدل من الليل الباقي بعدَ الثُّنْيا بدلَ الكُلِّ أيْ قُمْ نصفَهُ والتعبيرُ عن النصفِ المُخرَجِ بالقليل لإظهارِ كمالِ الاعتدادِ بشأنِ الجزءِ المُقَارِنِ للقيامِ والإيذانِ بفضلِه وكونِ القيامِ فيهِ بمنزلةِ القيامِ في أكثرِه في كثرةِ الثوابِ واعتبارُ قلتهِ بالنسبةِ إلى الكلِّ مع عرائِه عن الفائدةِ خلافُ الظَّاهرِ {أَوِ انقص مِنْهُ} أي أنقُص القيامَ من النصفِ المقارنِ له في الصُّورة الأولى(9/49)
سورة المزمل (4 6)
قَلِيلاً أي نقصاً قليلاً أو مقداراً قليلاً بحيثُ لا ينحطُّ إلى نصف النصفِ(9/50)
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي زدِ القيامَ على النصف المقارِنِ له فالمَعْنى تخييرُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بينَ أنْ يقومَ نصفَهُ أو أقلَّ منه أو أكثرَ وقيلَ قولُه تعالَى نصفَهُ بدلٌ من قليلاً والتخييرُ بحالهِ وليس بسديدٍ أمَّا أولاً فلأنَّ الحقيقَ بالاعتناءِ الذي ينبىءُ عنْهُ الإبدالُ هو الجزاء الباقي بعد الثُّنيا المقارِنُ للقيامِ لا الجزءُ المُخَرجُ العارِي عنه وأمَّا ثانياً فلأَنَّ نقصَ القيامِ وزيادتَهُ إنما يُعتبرانِ بالقياسِ إلى معياره الذي هو النصفُ المقارِنُ له فلو جُعلَ نصفَهُ بدلاً من قليلاً لزمَ اعتبارُ نقصِ القيامِ وزيادتِه بالقياسِ إلى ما هُو عارٍ عنه بالكُليَّةِ والاعتذارُ بتساوي النصفينِ مع كونِه تمحلاً ظاهراً اعترافٌ بأنَّ الحقَّ هو الأولُ وقيلَ نصفَهُ بدل من الليل وإلاَّ قليلاً استثناءٌ من النصف والضميرُ في منه وعليه للنصف والمعنى التخيير بين أمرين أن يقومَ أقلَّ من نصف الليلِ على البتاتِ وبينَ أنْ يختارَ أحدَ الأمرينِ وهُمَا النقصانُ من النصفِ والزيادةُ عليهِ وقيلَ الضميرانِ للأقلِّ منَ النصفِ كأنَّه قيلَ قُم أقلَّ من نصفهِ أو قُم أنقصَ من ذلكَ الأقلِّ أو أزيدَ منهُ قليلاً وقيل وقيلَ والذي يليقُ بجزالة التنزيلِ هو الأولُ والله أعلمُ بما في كتابه الجليل
ورتل القرآن وفي أثناءِ ما ذُكِرَ من القيامِ أي اقرأْهُ على تُؤدةٍ وتبيين حروفٍ
تَرْتِيلاً بليغاً بحيثُ يتمكنُ السامعُ من عدِّها من قولِهم ثغر رتل إذا كانَ مُفلَّجاً(9/50)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
(إنا سنلقي عليك) أي سنُوحي إليكَ وإيثارُ الإلقاءِ عليه لقوله تعالى
قَوْلاً ثقيلا وهو القرى ن العظيمُ المنطوِي على تكاليفَ شاقةٍ ثقيلةٍ على المُكلفينَ لا سيَّما على الرسولِ صلى الله عليه وسلم فإنه مأمورٌ بتحملها وتحميلها للأمة والجملةُ اعتراضٌ بين الأمرِ وتعليله لتسهيل كا كلَّفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من القيامِ وقيلَ مَعْنَى كونه ثقيلا أنه رضين لرزانة لفظهِ ومتانة معناهُ أو ثقيلٌ على المتأمل فيهِ لافتقارِه إلى مزيد تصفيةٍ للسرِّ وتجريدٍ للنظرِ أو ثقيلٌ في الميزان أو على الكفار والفجارِ أو ثقيلٌ تلقيه عن ابن عباس رضي الله عنهما كانَ إذا نزلَ عليه الوحي ثقلا عليه وتربدله جلدُه وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها رأيتُه ينزلُ عليه الوحيُ في اليومِ الشديدِ البردِ فيفصمُ عنه وإن جبينَهُ ليرفضُّ عرقاً(9/50)
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
{إن ناشئة الليل} أي إنَّ النفسَ التي تنشأ من مضجعِها إلى العبادةِ أي تنهضُ من نَشَأ من مكانه إذا نهضَ أو إنَّ قيامَ الليلِ على أنَّ الناشئةَ مصدرٌ من نشَأ كالعافية أو إنَّ العبادةَ التي تنشأُ بالليلِ أي تحدثُ أو إن ساعاتِ الليلِ فإنَّها تحدثُ واحدةً بعدَ واحدةٍ أو ساعاتها الأولُ من نَشأ إذا ابتدأ
{هِىَ أَشَدُّ وَطْأً} أي هي خاصَّةٌ أشدُّ ثباتَ قدمٍ أو كلفةً فلا بدَّ من الاعتناءِ بالقيامِ وقرىءَ وطاءً أي أشدُّ مواطأةً يواطىءُ قلبها لسانَها إن أريدَ بها النفسُ أو يواطىءُ فيها قلبُ القائمِ لسانَه إنْ أريد(9/50)
سورة المزمل (7 13) بها القيامُ أو العبادةُ أو الساعاتُ أو أشدُّ موافقةً لما يرادُ من الخشوعِ والإخلاصِ
وَأَقْوَمُ قِيلاً وأسدُّ مقالاً وأثبتُ قراءةً لحضور القلب وهدو الأصواتِ(9/51)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
{إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} أي تقلباً وتصرفاً في مهمَّاتِك واشتغالاً بشواغلك فلا يستطيع أن تتفرغَ للعبادةِ فعليكَ بها في الليلِ وهذا بيانٌ للداعي الخارجي إلى قيامِ الليلِ بعدَ بيانِ ما في نفسِه من الدَّاعي وقُرِىءَ سَبْخاً أي تفرق قلبٍ بالشواغلِ مستعارٌ من سبخِ الصوفِ وهو نفشُه ونشرُ أجزائِه(9/51)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)
{واذكر اسم رَبّكَ} ودُمْ على ذِكرِه تعالى ليلاً ونهاراً على أيِّ وجهٍ كانَ من تسبيحٍ وتهليلٍ وتحميدٍ وصلاةً وقراءةِ قُرآنِ ودراسةِ علمٍ
{وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ} أيْ وانقطعْ إليهِ بمجامعِ الهمةِ واستغراقِ العزيمةِ في مراقبتِه وحيثُ لم يكن ذلك إلا بتجريدِ نفسهِ عليه الصلاة والسلام عن العوائقِ الصَّادةِ عن مراقبةِ اله تعالى وقطعِ العلائقِ عمَّا سواهُ قيلَ
تَبْتِيلاً مكان تبتلاً مع ما فيهِ من رعايةِ الفواصلِ(9/51)
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
{رَّبُّ المشرق والمغرب} مرفوعٌ على المدح وقيلَ على الأبتداء خبرُهُ
لاَ إله إِلاَّ هُوَ وقُرِىءَ بالجرِّ على أنَّه بدلُ من ربِّكَ وقيلَ على إضمارِ حرفِ القسمِ جوابُه لا إله إلاَّ هُو والفاءُ في قوله تعالى
{فاتخذه وَكِيلاً} لترتيب الأمرِ وموجبهِ على اختصاصِ الألوهيةِ والربوبيةِ به تعالَى(9/51)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
{واصبر على مَا يَقُولُونَ} مما لا خير فيه منَ الخُرافاتِ
{واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} بأنْ تجانبَهم وتداريَهم ولا تكافئَهم وتكلَ أمورَهُم إلى ربِّهم كما يعربُ عنه قولُه تَعالَى(9/51)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)
{وَذَرْنِى والمكذبين} أي دعني وإيَّاهم وكلْ أمرَهُم إليَّ فإنِّي أكفيكَهُمْ {أُوْلِى النعمة} أربابِ التنعمِ وهم صناديدُ قريش
{ومهلهم قليلا} زمنا قليلاً(9/51)
إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)
{إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً} جمعُ نِكْلٍ وهو القيدُ الثقيلُ والجملةُ تعليلٌ للأمرِ أيْ إنَّ لدينا أموراً مضادة لتنعمهم
جحيما(9/51)
وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
(وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ) ينشَبُ في الحُلوقِ ولا يكادُ يُسَاغُ كالضَّريعِ والزقُّوم
وَعَذَاباً أَلِيماً ونوعاً آخرَ من العذابِ مُؤلماً لا يُقادرُ قدره ولا يُدْرك كنهه كلُّ ذلك معدٌّ لهم ومرصدٌ(9/51)
سورة المزمل (14 19) وقولُه تعالى(9/52)
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
(يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال) أي تضطربُ وتتزلزلُ ظرفٌ للاستقرار الذي تعلقَ به لدينا وقيلَ متعلق بمضمر هو صفة لعذابنا أي عذاباً واقعاً يومَ ترجفُ
{وَكَانَتِ الجبال} مع صلابتها وارتفاعها
كَثِيباً رملاً مجتمعاً من كثب الشيء إذا جَمَعَهُ كأنَّه فعِيلٌ بمعنى مفعولٍ
مَّهِيلاً منثوراً من هِيلَ هَيلاً إذا نُثرَ وأُسيلَ(9/52)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)
{إنا أرسلنا إليكم} يأهل مكةَ {رَسُولاً شاهدا عَلَيْكُمْ} يشهدُ يومَ القيامةِ بما صدرَ عنكُم من الكفرِ والعصيانِ كَمَا
أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً هو مُوسى عليه السَّلامُ وعدمُ تعيينهِ لعدمِ دخلِه في التشبيهِ(9/52)
فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
(فعصى فِرْعَوْنُ الرسول) الذي أرسلناهُ إليهِ ومحلُّ الكافِ النصب على أنها صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي أناأرسلنا إليكم رسولاً فعصيتموه كما يعرب عنه قوله تعالى شاهدا عليكم إرسالا كأننا كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصاه وقولُه تعالى
{فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً} خاج من التشبيه جئ به للتنبيه على أنَّه سيحيقُ بهؤلاءِ ما حاقَ بأولئكَ لا محالةَ والوبيلُ الثقيلُ الغليظُ من قولِهم كلأٌ وبيلٌ أي وخيمٌ لا يستمرأُ لثقلهِ والوبيلُ العَصا الضخمةُ(9/52)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
{فكيف تتقون} أي كيق تقونَ أنفسكمُ
{إِن كَفَرْتُمْ} أي بِقيتُم على الكفرِ
{يوما} أي عذاب يو
{يَجْعَلُ الولدان} من شدةِ هولِه وفظاعةِ ما فيهِ من الدَّواهي شِيباً شيوخاً جمعُ أشيبَ إما حقيقةً أو تمثيلاً وأصلهُ أنَّ الهمومَ والأحزانَ إذا تفاقمتْ على المرء ضعفتْ قُواه وأسرعَ فيه الشيبُ وقد جوز أن يكون ذلك وصفاً لليومِ بالطولِ وليس بذاكَ(9/52)
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
{السَّمَاء مُنفَطِرٌ} أي منشقٌّ وقرئ مُتَفَطِّر أي متشققٌ والتذكيرُ لإجرائه على موصوفٍ مذكرٍ أي شئ منفطر عز عنها بذلك للتنبيه على أنَّه تبدلتْ حقيقتُها وزالَ عنها اسمها ورسمها ولم يبقَ منها إلا ما يعبر عنه بالشئ وقيلَ لتأويلِ السماءِ بالسقفِ وقيلَ هو من باب النسبِ أي ذاتُ انفطارٍ والباء في به
مثلها في فطر ت العودَ بالقَدُومِ
{كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} الضَّميرُ لله عزَّ وجلَّ والمصدرُ مضافٌ إلى فاعله أو لليوم وهو مضافٌ إلى مفعولهِ(9/52)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
{إِنَّ هذه} إشارةٌ إلى الآيات المنطويةِ على القوارع المذكورةِ
تَذْكِرَةٌ موعظةٌ
{فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سبيلا} بالتقريب إليه بالإيمان والطاعة فإنها المنهاج(9/52)
سورة المزمل آية (20) الموصلُ إلى مرضاتِه(9/53)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ الليل} أي أقلَّ منهما استعير له الأدنى لما أنَّ المسافةَ بين الشيئينِ إذا دنت قل ما بينهما من الأحيازِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالنصب وعطفا على أدْنَى وقُرئا بالجرِّ عطفاً على ثُلثي الليلِ
{وَطَائِفَةٌ مّنَ الذين مَعَكَ} أي يقوم معكَ طائفةٌ من أصحابكَ
{والله يقدر الليل والنهار} وحده لايقدر على تقديرهما أحدٌ أصلاً فإنَّ تقديم الاسمِ الجليلِ مبتدأٌ وبناءِ يقدرُ عليهِ موجبٌ للاختصاصِ قطعاً كما يعرب عنه قوله تعالى
{عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أي علمَ أنَّ الشأنَ لن تقدروا على تقدير الأوقاتِ ولن تستطيعوا ضبطَ الساعاتِ أبداً
فَتَابَ عَلَيْكُمْ بالترخيص في ترك القيام المقدر ورفعِ التبعةِ عنكُم في تركة
فاقرؤا ما تيسر من القرآن فصلوا ما تيسرَ لكُم من صلاة الليلِ عبرَ عن الصلاة بالقراءة كا عبَّر عنها بسائر أركانِها فيل كان التجهد واجباً على التخيير المذكورِ فعسُرَ عليهم القيامُ به فنُسخَ به ثم نُسخَ هذا بالصلوات الخمسِ وقيلَ هي قراءة القُرآنِ بعينها قالُوا مَنْ قَرأَ مائةَ آيةٍ من القرآنِ في ليلةٍ لم يحاجَّهُ وقيلَ من قرأ مائة آية كتب من القانتين ة وقيلَ خمسينَ آية
{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} استئنافٌ مبينٌ لحكمةٍ أخرى داعيةٍ إلى الترخيصِ والتخفيفِ
{وآخرون يَضْرِبُونَ فِى الأرض} يسافرونَ فيها للتجارةِ
{يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله} وهو الربحُ وقد عُمِّمَ ابتغاءَ الفضلِ لتحصيل العلم
وآخرون يَضْرِبُونَ فِى الأرض يسافرونَ فيها للتجارةِ (يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وهو الربحُ قد عُمِّمَ ابتغاءَ الفضلِ لتحصيل العلم
وآخرون يقاتلون فِى سَبِيلِ الله وإذا كان الأمر كما ذُكِرَ وتعاضدت الدواعي إلى الترخيص فاقرؤا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ من غيرَ تحملِ المشاقِّ
{وَأَقِيمُواْ الصلاة} أى المفروضة
{وآتوا الزكاة} الواجبة وقيل هي هى زكاة الفطر إذا لم يكن بمكةَ زكاةٌ ومن فسرهَا بالزكاةِ المفروضةِ جعَلَ آخرَ السورةِ مدنياً
{وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} أُريدَ به الإنفاقاتُ في سبل الخيراتِ أو أداءِ الزكاةِ على أحسنِ الوجوهِ وأنفعها للفقراءِ
وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خير أي خَيْرٍ كانَ ممَّا ذُكر ومَا لم يُذكرْ
{تَجِدُوهُ عند الله هو خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} منَ الذي نؤخرونه إلى الوصيةِ عند الموتِ وخيراً ثاني مفعولَيْ تجدُوا وهو تأكيدا أو فصلٌ وإنْ لم يقعْ بينَ معرفتينِ فإن أفعلَ من في حُكمِ المعرفةِ ولذلكَ يمتنعُ من حرف التعريف وقرئ هو خيرٌ على الابتداءِ والخبرِ
واستغفروا الله في كافة أحوالِكم فإنَّ الإنسانَ قلما يخلو من التفريط
{إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم ومن قَرأ سورةَ المزملِ دفعَ الله عنه العُسرَ في الدنيا والآخرة(9/53)
سورة المدثر آية (1 4)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم(9/54)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
{يا أيها المدثر} أي المتدثر وهو لابسُ الدثارِ وهُوَ مَا يُلبسُ فوقَ الشِّعارِ الَّذي يلي الجسدَ قيلَ هيَ أولُ سورةٍ نزلتْ رُويَ عنْ جابرٌ رضيَ الله عْنهُ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنَّه قالَ كُنت عَلى جبلِ حراءٍ فنوديتُ يا محمدُ إنَّكَ رسولُ الله فنظرتُ عنْ يميني وَيسارِي فلمْ أرَ شيئاً فنظرتُ فوقِي فإذَا بهِ قاعدٌ عَلَى عرشٍ بينَ السماءِ والأرضِ يعنيَ المَلكَ الَّذي ناداهُ فرعبتُ ورجعتُ إلى خديجة فقلت دثروني دثرونِي فنزلَ جبريلُ وقال يا أيها المدثر وعن الزهري أنَّ أولَ ما نزلَ سورةُ اقرأْ إلى قوله تعالى مَا لَمْ يَعْلَمْ فحزنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجعلَ يعلو شواهقَ الجبالِ فأتاهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ وقالَ إنكَ نبيُّ الله فرجِعَ إلى خديجةَ فقالَ دثرونِي وصُبُّوا عليَّ ماءً بارداً فنزلَ جبريلُ فقالَ يأيها المدثر وثيل سمعَ منْ قريشٍ ما كرهَهُ فاغتمَّ فتغطّى بثوبِه متفكراً كَمَا يفعلُ المغمومُ فأمر أن لايدع إنذارهم وأن سمعوه وآذوه وقيلَ كانَ نائماً متدثراً وقيلَ المرادُ المتدثرُ بلباسِ النبوةِ والمعارفِ الإلهيةِ وقرئ المُدَثَّرُ علَى صيغةِ اسمِ المفعولِ منْ دَثَرَهُ أي الَّذي دثرَ هذا الأمرَ العظيمَ وعصبَ به وفي حرف
أبي المنذر يأيها المتدثرُ عَلى الأصْلِ(9/54)
قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
(قُمِ) أي من مضجعكَ أوْ قُمْ قيامَ عَزْمٍ وَتصميمٍ
فَأَنذِرْ أي افعلِ الإنذارَ وَأَحْدِثْهُ وقيلَ أنذرْ قومَكَ كقولِه تعالَى وَأَنذِرْ عشيرتك الأقربيتن أو جميعَ النَّاسِ حسبَمَا ينبىء
عنه قوله تعالى وما أرسلناك الإكافة لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً(9/54)
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)
{وَرَبَّكَ فَكَبّرْ} واختصَّ ربَّك بالتكبيرِ وهو وَصْفُهُ تعالى بالكبرياءِ اعتقاداً وقولاً ويُروى أنه لما نزل قالَ رسولُ الله الله أكبرُ فكبرتْ خديجةُ وفرحتُ وأيقت أنَّه الوحيُ وقدْ يحملُ على تكبيرِ الصَّلاةِ والفاءُ لمعنى الشرطِ كأنَّه قيلَ ما كان أيْ أيُّ شئ حدث فلا تدعُ تكبيرَهُ أوْ للدلالةِ عَلى أنَّ المقصودَ لأولى من الأمرِ بالقيامِ أنْ يكبرَ رَبَّه
وينزهَهُ منَ الشركِ فإنَّ أولَ ما يجبُ معرفةُ الصانعِ جلَّ جلالُه ثم تنزيهِه عَمَّا لا يليقُ بجنابهِ(9/54)
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)
{وثيابك فطهر}(9/54)
سورة المدثر (5 10) ! مما ليس فإنه واجب الصلاة الأولى وأولى وأحبُّ في غيرِها وذلكَ بصيانتها وحفظها عن النجاساتِ وغسلِها بعد تلطخِها وبتقصيرها أيضاً فإنَّ طولَها يؤدي إلى جرِّ الذيولِ على القاذوراتِ وهُوَ أولُ ما أُمر بهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منْ رفضِ العاداتِ المذمومةِ وقيلَ هُو أمر بتطيهر النفسِ مما يستقذرُ منَ الأفعالِ ويُستهجنُ منَ الأحوالِ يقالُ فلانُ طاهرُ الذيلِ والأردانِ إذا وصفُوه بالنقاءِ من المعايبِ ومدانسِ الأخلاقَ(9/55)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
{والرجز فاهجر} أي واهجُر العذابَ بالثباتِ على هَجْرِ يُؤدي إليه من المآثمِ وقُرِىءَ بكسرِ الراءِ وهُمَا لُغتانِ كالذُّكرِ والذِّكرِ(9/55)
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
{وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} ولا تُعطِ مُستكثراً أي رائياً لِمَا تعطيهِ كثيراً أو طالباً للكثيرِ على أنَّه أنهى عنْ الاستغزارِ وهُوَ أنْ يهبَ شيئاً وهو يطمعُ أنْ يتعوضَ منَ الموهوبِ لَهُ أكثرَ ممَّا أعطاهُ وهُو جائزٌ ومنْهُ الحديثُ المستغرر يثابُ من هبتِه فالنهيُ إمَّا للتحريمِ وهو خاصٌّ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم لأنَّ الله تعالى اختارَ له أشرفَ الأخلاقِ وأحسنَ الآدابِ أو للتنزيهِ للكُلِّ وقرئ تستكثرْ بالسكونِ اعتباراً بحالِ الوقفِ أوْ إبدالاً منْ تمنن كأنَّه قيلَ ولا تمنُنْ ولا تستكثرْ على أنَّه منَ المَنِّ الَّذي في قولِه تعالى منَّا ولا أذى لأن منْ يمنَّ بِمَا يُعطي يستكثره ويعتد بِه وقُرِىءَ بالنصبِ بإضمارِ أنْ معَ إبقاءِ عملِها كقولِ منْ قالَ أَلاَ أيُّهذا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى وقدْ قُرِىءَ بإثباتِها ويجوزُ في قراءةِ الرفعِ أنْ يحذفَ أنْ ويبطلَ عملُها كَمَا يُروى أحضرُ الوَغَى بالرفعِ(9/55)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
(وَلِرَبّكَ)
أي لوجههِ تعالى او لأمره
فاصبر
فاستعمل الصبرَ وقيلَ على أذيةِ المشركينَ وقيلَ عَلى أداءِ الفرائضِ(9/55)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)
(فَإِذَا نُقِرَ فِى الناقور)
أي نفخَ في الصُّورِ وهو فاعل من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سببُ الصَّوتِ والفاءُ للسببيةِ كأنَّه قيلَ اصبرْ عَلَى أذاهُم فبينَ أيديهِم يومٌ هائلٌ يلقونَ فيه عاقبة أذاهُم وتلقَى عاقبةَ صبرِك عليهِ والعاملُ فِي إذَا ما دل عليه قوله تعالى(9/55)
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
(فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ)
عَلَى الكافرينَ وذلكَ إشارةٌ إلى وقتِ النقرِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان ببعد منزلتِه في الهولِ والفظاعةِ ومحلُه الرفعُ عَلى الابتداءِ ويومئذٍ(9/55)
74 سورة المدثر (11 15)
بدلٌ منْهُ مبنيٌّ عَلى الفتحِ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ والخبرُ يومٌ عسيرٌ وقيلَ يومئذٍ ظرفٌ للخبرِ اذ التقدير وذلك الوقت وقوعِ يومٍ عسيرٍ وَعَلَى متعلقةٌ بعسيرٌ وقيلَ بمحذوفٍ هو صفةٌ لعسيرٌ أوْ حالٌ من المستكنِّ فيهِ وقولُه تعالى
غَيْرُ يَسِيرٍ
تأكيدٌ لعُسرِهِ عليهمْ مشعرٌ ييسره على المؤمنينَ واختلفَ في أنَّ المرادَ بِه يومُ النفخةِ الأولى أو الثانيةِ والحقُّ أنَّها الثانيةُ إذْ هيَ التي يختصُّ عسرُها بالكافرينَ وأما النفخةُ الأُولى فحكمُها الذي هو الإصعاقُ يعمُّ البرَّ والفاجرَ عَلى أنَّها مختصةٌ بمنَ كانَ حيَّا عندَ وقوعِها وقد جاءَ في الأخبار أنَّ في الصورِ ثقباً بعددِ الأرواحِ كلِّها وأنَّها تجمعُ في تلكَ الثقوبِ في النفخةِ الثانيةِ فتخرجُ عندَ النفخِ منْ كُلِّ ثقبةٍ روحٌ إلى الجسدِ الِّذي نزعت مِنْهُ فيعودُ الجسدُ حياً بإذنِ الله تعالَى(9/56)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)
ذرني ومن خلفت وَحِيداً
حَالٌ إمَّا منَ الياءِ أيْ ذرني وَحديِ معَهُ فَإنِّي أكفيكَهُ في الانتقامِ منْهُ أو منَ التاء اي خلفته وَحْدِي
لَمْ يُشركني فِي خلقِه أحدٌ أو منَ العائدِ المحذوفِ أيْ وَمَنْ خلقتُه وحيداً فريداً لا مالَ لَهُ وَلاَ ولدٌ وقيل نزلت في الوليد بنِ المغيرةِ المخزومي وكانَ يلقب في قومه بالوحيد فهو تهكمٌ به وبلقبِه وصرفٌ لهُ عنْ الغرضِ الذي يؤمونَهُ من مدحِه إلى 12 جهةِ ذمهِ بكونهِ وحيداً من المَالِ والولدِ أو وحيداً من أبيهِ لأنَّه كانَ زنيماً كما مَرَّ أوْ وَحيداً في الشَّرارةِ(9/56)
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً
مبسوطاً كثيراً أو ممداً بالنماءِ من مَدَّ النهرٌ ومدَّهُ نهرٌ آخرُ قيلَ كانَ لَهُ الضرعُ والزرعُ والتجارةُ وعنِ ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما هو ما كانَ لَه بينَ مكةَ والطائفِ من صنوفِ الأموالِ وقيلَ كانَ لَهُ بالطائفِ بستانٌ لا ينقطعُ ثمارُهُ صيفاً وشتاءً وقالَ ابن عباسٍ ومجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبير كانَ لَهُ الف دينار وقال فتادة ستةُ آلافِ دينار وقال 3 سفيان الثوري أربعة آلاف دينار وقال الثوريُّ أيضاً ألف ألف دينار(9/56)
وَبَنِينَ شُهُودًا (13)
وَبَنِينَ شُهُوداً
حضوراً معَهُ بمكةَ يتمتعُ بمشاهدتِهم لا يفارقونَهُ للتصرف في عملٍ أو تجارةٍ لكونِهم مكفيينَ لوفورِ نعمِهم وكثرةِ خدمِهم أو حضوراً فِي الأنديةِ والمحافل لوجاهتِهم واعتبارِهم قيلَ كانَ له عشرةُ بنينَ وقيلَ ثلاثةَ عشرَ وقيلَ سبعةٌ كلُّهم رجالٌ الوليدُ بن الوليد وخالدٌ وعمارةٌ وهشامٌ والعاصُ والقيسُ وعبدُ شمسٍ أسلَم منهْم ثلاثةٌ خالدٌ 14 وهشامٌ وعمارةُ(9/56)
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14)
وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً
وبسطتُ لهُ الرياسةَ والجاهَ العريضُ حَتَّى لقبَ 15 ريحانةَ قريشٍ(9/56)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ
عَلى ما أوتيهِ وهو استبعادٌ واستنكارٌ لطمِعه وحرصِه إما لأنهُ لا مزيدَ(9/56)
74 سورة المدثر (16 19)
عَلى ما أُوتيَ سعة وكثرةً أو لأنَّه منافٍ لما هُوَ عليهِ منْ كُفرانِ النعمِ ومعاندةِ المنعمِ وقيلَ إنَّه كانَ يقول إن كان محمدٌ صادقاً فما خلقت الجنة الالى(9/57)
كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)
كَلاَّ
ردعٌ وزجرٌ لَهُ عنْ طمعه الفارغِ وقطعٌ لرجائه الخائبِ وقولُه تعالَى
إِنَّهُ كان لأياتنا عَنِيداً
تعليلٌ 16 لذلكَ على وَجْه الاستئنافِ التحقيقيِّ فإنَّ معاندةَ آياتِ المنعمِ معَ وضوحِها وكفران نعمته مع سبوغها مما يوجبُ حرمانَهُ بالكليةِ وإنما أوتَي ما أوتَي استدراجا قيلَ ما زالَ بعدَ نزولِ هذهِ الآيةِ في نقصانٍ منْ مالِه حتَّى هلكَ(9/57)
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً
سأغشيهِ بدلَ 17 ما يطمُعه منَ الزيادةِ أو الجنةِ عقبةً شاقةً المصعدِ وهو مثلٌ لما يَلْقى منَ العذابِ الصعبِ الذَّي لا يطاقُ وعنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يكلفُ أنْ يصعدَ عقبةً في النارِ كلمَا وضعَ يَدهُ عليَها ذابتْ فإذَا رفعَها عادتْ وإذَا وضعَ رجَلُه ذابتْ فإذَا رفعَها عادتْ وعنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الصَّعودُ جبلٌ منْ نار يصعد فيها سبعين خريفا ثمَّ يهوِي فيهِ كذلكَ أبداً(9/57)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ
تعليلٌ للوعيدِ واستحقاقِه لَهُ أو بيانٌ لعناده لآياته تعالَى 18 أيْ فكرَّ ماذَا يقولُ في شأنِ القرآنِ وقدرَ فِي نفسِه ما يقولُه(9/57)
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
تعجيبٌ 19 منْ تقديرِه وإصابتِه فيهِ الغرضَ الذي كانَ ينتحيهِ قريشٌ قاتلَهم الله أو ثناءٌ عليهِ بطريقِ الاستهزاءِ به أو حكايةٌ لما كررُوه من قولِهم قتلَ كيفَ قدرَ تهكماً بِهم وبإعجابِهم بتقديره واستعظامهم لقوله ومعنى قولِهم قتلَهُ الله ما أشجَعهُ أو أخزاهُ الله ما أشعرَهُ الإشعارُ بأنَّه قد بلغَ منَ الشجاعةِ والشعرِ مبلغاً حقيقياً بأنْ يدعَو عليهِ حاسدُهُ بذلكَ رُويَ أنَّ الوليدَ قالَ لبني مخزومٍ والله لقد سمعتُ من محمدٍ آنِفاً كلاماً ما هُو منْ كلامِ الإنسِ ولا منْ كلامِ الجنِّ إنَّ لَهُ لحلاوةً وإنَّ عليهِ لطلاوةً وإنَّ أعلاهُ لمثمرٌ وإنَّ أسفلَهُ لمغدِقٌ وإنَّه يعلو وما يُعلى فقالتْ قريشٌ صبأَ والله الوليدُ والله لتصبأنَّ قريشٌ كُلُّهم فقالَ ابْنُ أخيهِ أبوُ جهلٍ أنَا أكفيكمُوهُ فقعَد عندَهُ حزيناً وكلَّمهُ بما أحماهُ فقامَ فأتاهم فقال تزعمونَ أنَّ محمداً مجنونٌ فهل رأيتمُوه يخنقُ وتقولونَ إنه كاهنٌ فَهلْ رأيتمُوه يتكهنُ وتزعمونَ أنه شاعرٌ فهل رأيتمُوه يتعاطَى شِعراً قطُّ وتزعمونَ أنه كذابٌ فَهَلْ جربتُم عليهِ شيئاً من الكذبِ فقالُوا في كُلِّ ذلكَ اللهمَّ لاَ ثمَّ قالُوا فَما هُو ففكَّر فقالَ مَا هُو إلا ساحرٌ أما رأيتمُوه يفرقُ بينَ الرجلِ وأهلِه وولدِه ومواليهِ وما الذي يقولُه إلا سحرٌ يأثرُهُ عنْ أهلِ بابلَ فارتجَّ النادِي فرحاً وتفرقُوا معجبينَ بقوله متعجبين منه(9/57)
74 سورة المدثر (20 29) 20(9/58)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
تكريرٌ للمبالغةِ وثمَّ للدَّلالة على أنَّ الثانيةَ أبلغُ منَ الأُولى 22 21 وفيمَا بعدُ عَلى أصلِها منْ التراخِي الزمانيِّ(9/58)
ثُمَّ نَظَرَ (21)
ثُمَّ نَظَرَ
أي في القرآنِ مرةً بعدَ مرةٍ(9/58)
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)
ثُمَّ عَبَسَ
قطَّبَ وجهَهُ لما لم يجد فيها مطعناً ولمْ يدرِ ماذَا يقولُ وقيلَ نظرَ في وجوهِ النَّاسِ ثم قطَّبَ وجهَهُ وقيلَ نظرَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قطَّبَ في وجهِهِ 23
وَبَسَرَ
اتباعٌ لعبسَ(9/58)
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23)
ثُمَّ أَدْبَرَ
عنِ الحقِّ أوْ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم 24
واستكبر
عن اتباعِه(9/58)
فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)
فَقَالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ
أيْ يُروى ويُتعلمُ والفاءُ للدِلالة على أن هذه الكلمة لمَّا خطرتْ بباله تفوه بها من غير تلعثمٍ وتلبثٍ وقولُه تعالى 25(9/58)
إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر
تأكيدٌ لما قبلَهُ ولذلكَ أُخليَ عنِ العاطفِ(9/58)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ
بدلٌ منْ سأُرهقُه صَعُوداً(9/58)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ
أيْ أيُّ شيءٍ أعلمكَ ما سقرُ على أنَّ مَا الأوُلى مبتدأٌ وأدراكَ خبرُه ومَا الثانيةُ خبرٌ لأنها المفيدةُ لِما قُصد إفادتُه منَ التهويل والتفظيعِ وسقرُ مبتدأٌ أيْ أيُّ شيءٍ هيَ في وصفِها لما مر مرارا من أَنَّ مَا قَدْ يطلبُ بَها الوصفُ وإنْ كانَ الغالبُ أنْ يطلبَ بَها الاسمُ والحقيقةُ وقولُه تعالَى(9/58)
لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)
لاَ تُبقي وَلاَ تَذَرُ
بيانٌ لوصفِها وحالِها وإنجازٌ للوعد الضمني الذي يلوح به وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ وقيل حال من سقر وليس بذاك أيْ لا تُبقي شيئاً يلقي فها إلا أهلكتْهُ وإذا هلكَ لم تذَرْهُ هالكاً حتَّى يعادَ أوْ لا تُبقي على شيءٍ ولا تدعَهُ منَ الهلاكِ بلْ كلُّ ما يطرحُ فيَها هالكٌ لا محالة(9/58)
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ
مُغيِّرةٌ لأَعَالي الجلد مسودة(9/58)
74 سورة المدثر (30 31) لَها قيلَ تلفحُ الجلدَ لفحةً فتدَعُه أشدَّ سواداً منَ الليلِ وقيلَ تلوحُ للناسِ كقولِه تعالى ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين وقُرِىءَ لواحةً بالنصبِ على الاختصاصِ للتهويلِ(9/59)
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ
أيْ مَلَكاً أو صِنْفاً أو صفاً أو نقيباً من الملائكةِ يلونَ أمرَهَا ويتسلطونَ على أهلِها وقُرِىءَ بسكونِ عين عشر حذارا من توالِي الحركاتِ فيما هو في حكم اسمٍ واحدٍ وقرىء تسعةُ أَعْشُرٍ جمعُ عشيرٍ مثلُ يمينٍ وأَيْمُنٍ(9/59)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار
أيْ المدبرينَ لأمرِها القائمينَ بتعذيبِ أهلِها
إِلاَّ ملائكة
ليخالفُوا جنسَ المعذبينَ فلا يَرِقّوا لهُم ولاَ يستروحُوا اليهم لأنهم أَقْوى الخلقِ وأقومُهُم بحقِّ الله عزَّ وجلَّ وبالغضبِ له تعالى وأشدُّهم بأساً عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم لأحدِهم مثلُ قوةِ الثقلينِ يسوقُ أحدُهم الأمةَ وعلى رقبتِه جبلٌ فيرمِي بهم في النارِ ويرمِي بالجبلِ عليهم ورُوي أنَّه لمَّا نزلَ عليها تسعةَ عشرَ قال أبُو جهلٍ لقريشٍ أيعجزُ كلُّ عشرةٍ منكم أنْ يبطشُوا برجلٍ منُهم فقالَ أبُو الاشدِّ بنُ أسيدِ بْنِ كِلْدةَ الجُمَحيُّ وكان شديدَ البطشِ أنا أكفيكُم سبعةَ عشرَ فاكفونِي أنتُم اثنينِ فنزلتْ أيْ ما جعلناهُم رجالاً منْ جنسِكم
وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ
أي ما جعلنا عددَهُم إلا العددَ الذي تسببَ لافتنانهم وهو التسعةَ عشرَ فعبرَ بالأثرِ عن المؤثر تنبيهاً على التلازم بينهما وليس المرادُ مجردَ جعلِ عددِهم ذلكَ العددَ المعينَ في نفسِ الأمرِ بلْ جعلَه في القرآنِ أيضاً كذلكَ وهو الحكمُ بأنَّ عليها تسعةَ عشرَ إذْ بذلكَ يتحققُ افتتانُهم باستقلالِهم له واستبعادِهم لتولي هذا العددِ القليلِ لتعذيبِ أكثر الثقلينِ واستهزائِهم بهِ حسبما ذكرَ وعليهِ يدورُ ما سيأتِي من استيقان أهلِ الكتابِ وازديادِ المؤمنينَ إيماناً قالُوا المخصصُ لهذَا العددِ أنَّ اختلافَ النفوسِ البشريةِ في النظرِ والعملِ بسببِ القُوى الحيوانيةِ الاثنتي عشرةَ والطبيعيةِ السبعِ أو أن جهنَم سبعُ دركاتَ ستٌ منها لأصنافِ الكفرةِ كلُّ صنفٍ يعذبُ بتركِ الاعتقادِ والاقرارِ والعملِ أنواعاً من العذابِ يناسبُها وعلى كلِّ نوعٍ ملكٌ أو صنفٌ أوْ صفٌّ يتولاهُ وواحدةٌ لعُصاةِ الأمةِ يعذبونَ فيها بتركِ العملِ نوعاً يناسبُه ويتولاّه واحدٌ أو أنَّ الساعاتِ أربعٌ وعشرونَ خمسةٌ منها مصروفةٌ للصلواتِ الخمسِ فيبقى تسعةَ عشرَ قد تصرفُ إلى ما يؤاخذُ به بأنواعِ العذابِ يتولاَّها الزبانيةُ
لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب
متعلقٌ بالجعل على المَعْنى المذكورِ أيْ ليكتسبُوا اليقينَ بنبوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وصدقِ القرآنِ لما شاهدُوا ما فيه موافقاً لما في كتابِهم
وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إيمانا
أيْ يزدادُ إيمانُهم كيفيةً بما رأَوا من تسليم اهل الكتاب(9/59)
74 سورة المدثر (32 35) وتصديقِهم أنه كذلكَ أو كميةً بانضمامِ إيمانِهم بذلكَ إلى إيمانِهم بسائرِ ما أنزلَ
وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون
تأكيدٌ لما قبله من الاستقيان وإزديادِ الإيمانِ ونفيٌ لما قد يعترِي المستيقنَ من شبهةٍ ما وإنما لم يُنظمِ المؤمنونَ في سلكِ أهلِ الكتابِ في نفي الارتيابِ حيث لم يقل ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالاً فإن انتفاء الارتياب من أهل الكتابِ مقارنٌ لما ينافيهِ من الجحود ومن المؤمنينَ مقارنٌ لما يقتضيه من الإيمان وكم بينهما والتعبيرُ عنهم باسم الفاعلِ بعد ذكرِهم بالموصول والصلةِ الفعليةِ المنبئةِ عن الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعدَ ازديادِه ورسوخِهم في ذلك
وَلِيَقُولَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
شكٌّ أو نفاقٌ فيكون اخبترا بَما سيكونُ في المدينةِ بعد الهجرةِ
والكافرون
المُصرّون على التكذيبِ
مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً
أيْ أيُّ شيءٍ أرادَ بهذَا العددِ المستغربِ استغرابَ المثلِ وقيلَ لما استبعدُوه حسبُوا أنه مثلٌ مضروِبٌ وإفرادُ قولِهم هذا بالتعليلِ مع كونِه من باب فتنتِهم للإشعارِ باستقلالِه في الشناعةِ
كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء
ذلكَ إشارةٌ إلى ما قبلَهُ من مَعْنى الإضلالِ والهدايةِ ومحلُّ الكافِ في الأصلِ النصبُ على أنَّها صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصلُ التقديرِ يضلُّ الله منْ يشاءُ
وَيَهْدِى مَن يَشَاء
إضلالاً وهدايةً كائنينِ مثلُ ما ذكر من الإضلالِ والهدايةِ فحذفَ المصدرُ وأقيمَ وصفُه مقامَه ثم قُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر فصارَ النظمُ مثلُ ذلكَ الإضلالِ وتلك الهدايةِ يضل الله مَن يَشَاء إضلالَه لصرفِ اختيارِه إلى جانبِ الضلالِ عندَ مشاهدتِه لآيات إلى جانبِ الهُدى لا إضلالاً وهدايةً أدنى منهما
وما يلعم جُنُودَ رَبّكَ
أيْ جموعَ خلقهِ التي من جُمْلتِها الملائكةُ المذكورونَ
إِلاَّ هُوَ
إذْ لاَ سبيلَ لأحدٍ إلى حصر الممكناتِ والوقوفِ على حقائِقها وصفاتِها ولوْ إجمالاً فضلاً عن الاطلاع على تفاصيل أحوالِها من كمٍ وكيفٍ ونسبةٍ
وَمَا هِىَ
أي سقرُ أو عدة خزنتها او الآيات الناطقةُ بأحوالِها
إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ
إلا تذكرةً لهم(9/60)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32)
كَلاَّ
ردعٌ لمن أنكرهَا أو إنكارٌ ونفيٌ لأن يكونَ لهم تذكرٌ
والقمر(9/60)
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)
والليل اذ ادبر
وقرىء اذا دَبَر بمعنى أدبرَ كقَبِلَ بمَعْنى أَقْبَلَ ومنْهُ قولِهم صاروا كأمس الدار وقيل هُو من دَبِرَ الليلُ النهارَ إذَا خلفَهُ(9/60)
وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)
والصبح إِذَا أَسْفَرَ
أي أضاءَ وانكشفَ(9/60)
إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر
جوابٌ للقسمِ أوْ تعليلٌ لكَلاَّ والقسمُ معترضٌ للتوكيدِ والكُبرَ جمعُ الكُبْرى جعلتْ ألفُ التأنيثِ كتائِها فكَما جُمعتْ فُعْلَة على فُعَلٍ جُمعتْ فُعْلَى عَليها ونظيرُها القواصعُ في جمع القاصعاء(9/60)
74 سورة المدثر (36 41) كأنها جمعُ قاصعةٍ أي لإِحْدى البَلايا أو لإِحْدَى الدَّواهِي الكُبرَ على مَعْنى أنَّ البلايا الكبرَ أو الدواهِيَ الكبرَ كثيرةٌ وهذهِ واحدة في العظم لا نظيرة لَها(9/61)
نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)
نذيرا للبشر
تمييز أي لإحدى الكبرِ إنذاراً أو حالٌ مما دلتْ عليهِ الجملةُ أي كبرتْ منذرةً وقُرِىءَ نذيرٌ بالرفعِ على أنه خبرُ بعدَ خبرِ لأنَّ أو لمبتدإٍ محذوفٍ(9/61)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
لمَنْ شاءَ منكُم أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ
بدلٌ من للبشر أي نذيراً لمن شاءَ منكم أن يسبقَ إلى الخير فيهديَه الله تعالى أو لم يشأْ ذلكَ فيضلَّه وقيلَ لمن شاء خبرٌ وأنْ يتقدمَ أو يتأخرَ مبتدأٌ فيكونُ في معنى قوله تعالى فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن ومنْ شاءَ فليكفرُ(9/61)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ
مرهونةٌ عندَ الله تعالى بكسبِها والرهينةُ اسمٌ بَمعْنى الرهنِ كالشتيمةِ بمعنى الشتمِ لا صفةٌ وإلا لقيلَ رهينٌ لأن فعيلاً بمعنى مفعولٍ لا يدخلُه التاءُ(9/61)
إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)
إِلاَّ أصحاب اليمين
فإنهم فاكُّون رقابَهم بما أحسنُوا من أعمالِهم كما يفكُّ الراهنُ رهنَهُ بأداءِ الدينِ وقيلَ هم الملائكةُ وقيل الأطفالُ وقيل هم الذين سبقتْ لهم من الله تعالى الحُسنى وقيلَ الذين كانُوا عن يمينِ آدمٍ عليه السلامُ يومَ الميثاقِ وقيل الذين يُعطون كتُبَهم بأيمانِهم(9/61)
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)
فِى جنات
لا يُكتنه كُنُهَها ولا يُدرك وصفُها وهو خبر لمتبدأ محذوفٍ والجملةُ استئنافٌ وقعَ جوابا عن سؤال نشأ مما قبَلُه من استثناء أصحابِ اليمين كأنه قيلَ ما بالُهم فقيلَ هم في جناتٍ وقيل حالٌ من أصحاب اليمين وقيل من ضميرهم في قوله تعالى
يَتَسَاءلُونَ
وقيل ظرفٌ للتساؤلِ وليس المرادُ بتساؤلهم أنْ يسألَ بعضُهم بعضاً على أنْ يكون كلُّ واحد منهم سائلا ومسؤلا معاً بلْ صدورُ السؤالِ عنْهم مجرداً عن وقوعه عليهم فإن صيغةَ التفاعلِ وإن وضعتْ في الأصل للدلالةِ على صدورِ الفعلِ عن المتعدد ووقوعه عليه معاً بحيثُ يصير كلُّ واحدٍ من ذلك فاعلا ومفعولاً معاً كما في قولك تراءى القوم أي رأى كلُّ واحد منهم الآخَرَ لكنها قد تجردُ عن المَعْنى الثانِي ويقصد بها الدلالةُ على الأولِ فقط فيذكرُ للفعلِ حينئذٍ مفعولُ كما في قولِك تراءوا الهلالَ فمعنى يتساءلونَ(9/61)
عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
عَنِ المجرمين
يسألونُهم عن أحوالهم وقد حذف المسؤل لكونه عين المسؤل عنه(9/61)
74 سورة المدثر (42 50) وقولُه تعالى(9/62)
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ
مقدرٌ بقولٍ هو حال من فاعل يتساءلونَ أيْ يسألونَهم قائلينَ أيُّ شيءٍ أدخلكُم فيَها فتأملْ ودعْ عنكَ ما تكلفَ فيهِ المتكلفونَ(9/62)
قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)
قَالُواْ
أي المجرمونَ مجيبينَ للسائلينَ
لَمْ نَكُ مِنَ المصلين
للصلواتِ الواجبةِ(9/62)
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين
على معنى استمرار نفي الإطعامِ لا على نفي استمرارِ الإطعامِ كما مرَّ مِراراً وفيه دلالةٌ على أنَّ الكفارَ مخاطبونَ بالفروع في حق المؤاخذة(9/62)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين
أي نشرعُ في الباطل مع الشارعينَ فيه(9/62)
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين
أي بيوم الجزاءِ أضافُوه إلى الجزاء مع أن فيه من الدواهِي والأهوال مالا غايةَ لهُ لأنه أدهاهَا وأهولُها وأنهم ملابُسوه وقد مضتْ بقيةُ الدواهِي وتأخيرُ جناياتهم هذهِ معَ كونِها أعظمَ منَ الكُلِّ لتفخيمِها كأنهم قالُوا وكنا بعد ذلكَ كلِّه مكذبينَ بيومِ الدينِ ولبيانِ كونِ تكذيبِهم به مقارناً لسائرِ جناياتِهم المعدودةِ مستمراً إلى آخرِ عمرِهم حسبَما نطقَ به قولُهم(9/62)
حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
حتى أتانا اليقين
أي الموتُ ومقدماتُه(9/62)
فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين
لو شفعُوا لهم جميعاً والفاء في قوله تعالى(9/62)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ
لترتيبِ إنكارِ إعراضِهم عنِ القرآنِ بغير سببٍ على ما قبلها من موجباتِ الإقبالِ عليهِ والاتعاظِ به من سوءِ حالِ المكذبينَ ومعرضينَ حالٌ من الضميرِ في الجارِّ الواقعِ خبراً لمَا الاستفهاميةِ وعنْ متعلقةٌ بهِ أيْ فإذَا كانَ حالُ المكذبينَ به على ما ذكرَ فأيُّ شيءٍ حصلَ لهم معرضينَ عن القرآنِ مع تعاضدِ موجباتِ الإقبالِ عليهِ وتآخذِ الدواعِي إلى الإيمانِ بهِ وقولُه تعالَى(9/62)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ
حالٌ من المستكنِّ في معرضينَ(9/62)
74 سورة المدثر (51 56) بطريقِ التداخلِ أي مشبهينَ بحمرٍ نافرةٍ(9/63)
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ
أيْ من أسدٍ فَعْوَلَة من القسر وهو القهروالغلبة وقيل هي جماعةُ الرماةِ الذين يتصيدونَها شُبهواً في إعراضِهم عن القرآنِ واستماعِ ما فيه من المواعظ وشرادِهم عنه بحمُرٍ جدَّت في نفارِها مما أفزعَها وفيهِ من ذمِهم وتهجينِ حالهم مالا يَخْفى وقولُه تعالى(9/63)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً
عطفٌ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقام كأنه قبل لا يكتفونَ بتلك التذكرة ولا يرضَون بها بلْ يريدُ كل واحدٍ منهم أنْ يُؤتى قراطيسَ تنشرُ وتقرأُ وذلكَ أنهم قالُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنْ نتبعكَ حتى تأتِي كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من ربِّ العالمينَ إلى فلانِ بنِ فلانٍ نؤمُر فيها باتباعكَ كما قالُوا لن نؤمنَ لرقيكَ حتى تنزلَ علينَا كتاباً نقرؤْه وقرىءَ صُحْفاً مُنْشرةً بسكونِ الحاءِ والنونِ(9/63)
كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53)
كَلاَّ
ردعٌ لهم عن تلكَ الجراءة
بَل لاَّ يَخَافُونَ الأخرة
فلذلكَ يُعرضون عن التذكرة لا لامتناع إيتاءِ الصحفِ(9/63)
كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)
كَلاَّ
ردعٌ عنْ إعراضِهم
انه
اي القرى
تَذْكِرَةٌ
وأيُّ تذكرةٍ(9/63)
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)
فَمَن شَاء
أن يذكرَهُ
ذكره
وحاز بسببه سعادةَ الدارينِ(9/63)
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
وَمَا يَذْكُرُونَ
بمجرد مشيئتِهم للذكر كما هو المفعوم من ظاهرِ قولِه تعالى فمَنْ شاءَ ذكرَهُ إذْ لا تأثيرَ لمشيئةِ العبدِ وإرادتِه في أفعالِه وقولُه تعالى
إَّلا أَن يَشَاء الله
استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أيْ وما يذكرونَ بعلةٍ من العلل أو في حالٍ من الأحوالِ إلا بأنْ يشاءَ الله أو حالَ أنْ يشاءَ الله ذلكَ وهو تصريحٌ بأن أفعالَ العبادِ بمشيئةِ الله عزل وجَلَّ وقُرِىءَ تذكرونَ على الخطاب التفاتاً وقرىءَ بهمَا مشدداً
هُوَ أَهْلُ التقوى
أي حقيقٌ بأنْ يُتقى عقابُه ويؤمنَ به ويطاعَ
وَأَهْلُ المغفرة
حقيقٌ بأنْ يغفرَ لمنْ آمنَ بهِ وأطاعه عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ المدثرِ أعطاهُ الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد صلى الله عليه وسلم وكذب به بمكة(9/63)
75 سورة القيامة (1 3) سورة القيامة مكية وآياتها أربعون
بسم الله الرحمن الرحيم(9/64)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)
لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة
إدخالُ لاَ النافيةِ عَلى فعلِ القسمِ شائعٌ وفائدتُها توكيدٌ القسمِ قالُوا إنَّها صلةٌ مِثلُها في قولِه تعالى لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتابِ وقيلَ هيَ للنفِي لكنْ لا لنفي نفسِ الأقسام بل النفي ما ينبىءُ هُو عنْهُ منْ إعظامِ المقسمِ بهِ وتفخيمِه كأنَّ مَعْنى لا أقسم بكذا لاأعظمه بإقسامِي بهِ حَقَّ إعظامِه فإنَّه حقيقٌ بأكثرَ منْ ذلكَ وأكثرَ وأما مَا قيل من أن المعنى نفي الإقسام لوضوحِ الأمرِ فقدْ عرفتَ مَا فيهِ فِي قَوْلِه تَعَالَى فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم وقيلَ إنَّ لاَ نفيٌ وردَ لكلامٍ معهودٍ قبلَ القسمِ كأنَّهم أنكرُوا البعثَ فقيلَ لاَ أيْ ليسَ الأمرُ كذلكَ ثمَّ قيلَ أقسمُ بيومِ القيامةِ كقولِك لا والله إنَّ البعثَ حقٌّ وأيا ما كانَ ففِي الإقسامِ على تحققِ البعثِ بيوم القيامةِ من الجزالة ما لا مزيدَ عليهِ وقَدْ مرَّ تفصيلُه في سورةِ يس وسورةِ الزخرفِ(9/64)
وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)
ولا أقسم بالنفس اللومة
أَيْ بالنَّفسِ المتقيةِ التي تلومُ النفوسَ يومئذٍ عَلى تقصيرهنَّ فِي التَّقوى ففيهِ طَرفٌ منَ البَراعةِ التي في القسمِ السَّابقِ أوْ بالنفس التي تلومُ نفسَها وإنِ اجتهدتْ في الطاعاتِ أو بالنفسِ المطمئنةِ اللائمةِ للنفسِ الأمارةِ وقيلَ بالجنسِ لَما رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قالَ ليسَ منْ نفسٍ برة ولا فاجر إلا وتلومُ نفسَها يومَ القيامةِ إنْ عملتْ خيراً قالتْ كيفَ لَمْ أزددْ وإنْ عملتْ شَراً قالتْ ليتني كنتُ قصرتُ ولا يَخفْى ضعفُه فإنَّ هذَا القدرِ منَ اللومِ لا يكونُ مداراً للإعظامِ بالإقسامِ وإنْ صدرَ عنْ النفسِ المؤمنةِ المسيئةِ فكيفَ منَ الكافرةِ المندرجةِ تحتَ الجنسِ وقيلَ بنفس آدمَ عليهِ السَّلامُ فإنَّها لا تزالُ تتلومُ عَلى فعلِها الذَّي خرجتْ بهِ منَ الجنةِ وَجَوابُ القسمِ ما دلَّ عليهِ قولُه تعالَى(9/64)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)
أَيَحْسَبُ الإنسان أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ
وهُو ليبعثن والمرادُ بالإنسان الجنسُ والهمزةُ والإنكار الواقعِ واستقباحِه وأنْ مخففةٌ منَ الثقيلةِ وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ أيْ أيحسبُ أنَّ الشأنَ لنْ نجمعَ عظامَهُ فإنَّ ذلكَ حسبانٌ بَاطِلٌ فإنَّا نجمعها بعدَ تشتتها ورجُوعِها رَميماً(9/64)
سورة القيامة (4 5) ورفاتا مختلطا يالتراب وبعدَ مَا سفتَها الرِّياحُ وطيرته في أقطارِ الأرضِ وألقتها في البحارِ وقيلَ إنَّ عديَّ بنَ أبِي ربيعةَ ختَنَ الأخنسِ بن شُريق وهُمَا اللذانِ كانَ النبيُّ عليسه الصَّلاةُ والسَّلامُ يقولُ فيهَما اللَّهم اكفِني جاريْ السوءِ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمدُ حدثنى عنْ يومِ القيامةِ مَتَى يكونُ وكيفَ أمرُهُ فأخبرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ لو عاينتُ ذلكَ اليومَ لَمْ أصدقكَ أوَ يجمع الله هذهِ العظامَ(9/65)
بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
بلى أيْ نجمعُهَا حالَ كونِنَا
قادرين على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ
أيْ نجمعُ سُلامَياتِه ونضمُّ بعضَها إلى بعض كما كانت مع صغرِها ولطافتِها فكيفَ بكبارِ العظامِ أو عَلى أنْ نسويَ أصابَعُه التي هيَ أطرافُه وآخرُ مَا يتمُّ بهِ خلقُه وُقرِىءَ قادرونَ(9/65)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ
عطفٌ عَلى أيحسبُ إمَّا على أنَّه استفهامٌ مثلُه أضربَ عنِ التوبيخِ بذلكَ إلى التوبيخِ بَهذا أوْ عَلى أنَّه إيجابٌ انتقلَ إليهِ عنْ الاستفهامِ أيْ بلْ يريدُ ليدومَ على فجورِه فيمَا بين يديهِ منَ الأوقاتِ وما يستقبلُه منَ الزمانِ لاَ يرعوى عنه(9/65)
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)
يسأل أَيَّانَ يَوْمُ القيامة
أيْ متى يكونُ استبعاداً أو استهزاءً(9/65)
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)
فَإِذَا بَرِقَ البصر أيْ تحيرَ فزعاً من برقَ الرجلُ إذَا نظرَ إلى البرقِ فدُهشَ بصرُه وقُرِىءَ بفتحِ الراءِ وهيَ لغةٌ أو منَ البريقِ بمَعْنى لمعَ منْ شدةِ شخوصِه وقرىء بلق أي انفتحَ وانفرجَ(9/65)
وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)
وَخَسَفَ القمر أيْ ذهبَ ضوؤه وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ(9/65)
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
وَجُمِعَ الشمس والقمر بأنْ يطلعهما الله تعالَى من المغربِ وقيلَ جُمِعا في ذهابِ الضوءِ وقيلَ يجمعانِ أسودينِ مكورينِ كأنَّهما ثورانِ عقيرانِ في النَّارِ وتذكيرُ الفعلِ لتقدمهِ وتغليبِ المعطوفِ(9/65)
يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أيْ يومَ إذْ تقعُ هذهِ الأمورُ
أَيْنَ المفر أي الفرارُ يأساً منُهُ وقُرِىءَ بالكسرِ أيْ موضعِ الفرارِ وقد جوز أن يكون هُو أيضاً مصدراً كالمرجعِ(9/65)
سورة القيامة (11 16)(9/66)
كَلَّا لَا وَزَرَ (11)
كَلاَّ رَدعٌ من طلبِ المفرو تمنيه
لاَ وَزَرَ
لاَ ملجأ مستعارٌ منْ الجبلِ وقيلَ كُلُّ ما التجأتَ إليهِ وتخلصتَ بهِ فَهُو وزَرُك(9/66)
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)
إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر أيْ إليهِ وحْدَهُ استقرارُ العبادِ أو إلى حُكمِه استقرارُ أمرهم أَوْ إِلى مشيئتِه موضعُ قرارِهم يُدخلُ مَنْ يشاءُ الجنةَ ومَنْ يشاءُ النَّارَ(9/66)
يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ أيْ يُخبرُ كلُّ امرىءٍ براً كان فاجراً عندَ وزنِ الأعمالِ
بِمَا قَدَّمَ أيْ عملَ منْ عملٍ خيراً كانَ أو شراً فيثابُ بالأولِ ويعاقبُ بالثاني
وَأَخَّرَ أيْ لَمْ يعملْ خيراً كانَ أو شراً فيعاقبُ بالأولِ ويثابُ بالثانِي أو بما قدمَ منْ حسنةٍ أوْ سيئةٍ وبما أخَّر منْ سنة حسنة أو سيئة فعملَ بَها بعدَهُ أو بما قدمَ منْ مالٍ تصدقَ بهِ في حياتِه وبما أخر فخلقه أو وقفَهُ أو أوْصَى بهِ أو بأولِ عملِه وآخرِه(9/66)
بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بصيرة أي حجة وبينة على نفسِه شاهدةٌ بما صدرَ عنْهُ منَ الأعمالِ السيئةِ كما يعربُ عنْهُ كلمةُ على وما سيأتِي منَ الجملةِ الحاليةِ وصفتْ بالبصارة ومجانا كما وصفتْ الآياتُ بالأبصار في قوله تعالى فَلَمَّا جاءتهم آياتنا مُبْصِرَةً أوْ عينٌ بصيرةٌ أوِ التاءُ للمبالغةِ ومَعْنى بَلْ الترقِي أيْ ينبأُ الإنسانُ بأعمالِه بلُ هُو يومئذٍ عالمٌ بتفاصيلِ أحوالِه شاهدٌ على نفسِه لأنَّ جوارحَهُ تنطقُ بذلكَ وقولُه تعالَى(9/66)
وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ أيُ ولَو جاءَ بكُلِّ معذرةٍ يمكنُ أنْ يعتذرَ بَها عن نفسِه حالٌ من المستكنِ في بصيرةٍ أو منْ مرفوعٍ ينبأُ أيْ هُو بصيرةٌ علَى نفسِه تشهدُ عليهِ جوارحُه وتُقبلُ شهادتُها ولو اعتذرَ بكُلِّ معذرةٍ أو ينبأُ بأعمالِه ولِو اعتذرَ الخ والمعاذيرُ اسمُ جمعٍ للمعذرةِ كالمناكيرِ اسمُ جمعٍ للمنكرِ وقيلَ هو جمعُ معذارٍ وهُو السترُ أيْ ولوْ أرْخى ستورَهُ كانَ رسولُ الله صلى عليه وسلم إذَا لقِّن الوحيَ نازعَ جبريلَ عليهِ السَّلامُ القراءةَ ولَم يُصبرْ إلى أنْ يتمَّها مسارعةً إلى الحفظِ وخوفاً منْ أنْ ينفلتَ فأمر عليه الصلاة والسلام بأن يستنصتَ لَهُ ملقياً إليهِ قلَبُه وسمَعُه حَتَّى يُقضى إليهِ الوحيُ ثمَّ يُقضى إليهِ الوحيُ ثمَّ يقفّيهِ بالدراسةِ إلى أنْ يرسخ فيه فقيل(9/66)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)
لاَ تُحَرّكْ بِهِ أيْ بالقرآنِ
لِسَانَكَ عندَ إلقاءِ الوَحْى
لِتَعْجَلَ بِهِ أي لتأخذَهُ على عجلة مخافة أن ينفلت منك(9/66)
سورة القيامة (17 23)(9/67)
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ في صدرِك بحيثُ لا يذهبُ عليكَ شيءٌ مِنْ معانيهِ
وقرآنه أي إثباتَ قراءتِه في لسانِكَ(9/67)
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
فَإِذَا قرأناه أي أتمَمنا قراءتَهُ عليكَ بلسانِ جبرِيلَ عليهِ السَّلامُ وإسنادُ القراءةِ إلى نونِ العظمةِ للمبالغةِ في إيجابِ التأنِّي
فاتبع قرآنه فكُن مقفّياً لَهُ ولا تراسلُه(9/67)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ أي بيانَ ما أشكلَ عليكَ من معانيهِ وأحكامِه(9/67)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20)
كلا ردع له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن عادةِ العجلةِ وترغيبٌ لهُ في الأناةِ وأكَّد ذلكَ بقولِه تعالَى
بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة(9/67)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)
وَتَذَرُونَ الأخرة على تعميمِ الخطابِ للكُلِّ أيْ بَلْ أنتُم يا بنِي آدمٍ لما خلقتُم مِنْ عجلٍ وجبلتُم عليهِ تعجلونَ في كُلِّ شيءٍ ولذلكَ تحبونَ العاجلةَ وتذرونَ الآخرةَ وقيلَ كلا ردع للإنسان عن الاغترارِ بالعاجلِ فيكونُ جمعُ الضميرِ في الفعلينِ باعتبارِ مَعْنى الجنسِ ويؤيدُه قراءةُ الفعلينِ على صيغةِ الغيبةِ(9/67)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ أيْ وجوهٌ كثيرةٌ وهيَ وجوهُ المؤمنينَ المخلصينَ يومَ إذْ تقومُ القيامةُ بهيةٌ متهللةٌ يشاهدُ عليهَا نضرةُ النعيمِ علَى أنَّ وجوهٌ مبتدأٌ وناضرةٌ خبرُهُ ويومئذٍ منصوبٌ بناضرةٌ وناظرةٌ في قولِه تعالَى(9/67)
إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)
إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ خبرٌ ثانٍ للمبتدإِ أو نعتٌ لناضرةٌ وإلى ربِّها متعلقٌ بناظرةٌ وصحةُ وقوعِ النكرةِ مبتدأً لأنَّ المقامَ مقامُ تفصيلٍ لاَ على أنَّ ناضرةٌ صفةٌ لوجوهٌ والخبرُ ناظرةٌ كمَا قيلَ لما هُو المشهورُ مِنْ أنَّ حق الصفة أن تكون معلومةَ الانتسابِ إلى الموصوف عندَ السامعِ وحيثُ لمْ يكُنْ ثبوتُ النضرةِ للوجوهِ كذلكَ فحقُّه أنْ يخبَر بهِ ومَعْنى كونِها ناظرةً إلى ربِّها أنَّها تراهُ تعالَى مستغرقةً في مطالعةِ جمالِه بحيثُ تغفلُ عَمَّا سواه وتشاهد تعالَى بلا كيفٍ ولا على جهةٍ وليسَ هذا في جميعِ الأحوالِ حَتَّى ينافيَهُ نظرُهَا إلى غيرِه وقيل منتظره وإنعامه ورُدَّ بأنَّ الانتظارَ لا يسندُ إلى الوجْهِ وتفسيرُه بالجملةِ خلافُ الظاهرِ وأنَّ المستعملَ بمعناهُ لا يُعدَّى بالي(9/67)
سورة القيامة (24 33)(9/68)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ شديدةُ العبوسِ وهيَ وجوهُ الكفرةِ(9/68)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
تَظُنُّ يتوقعُ أربابُها
أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ داهيةٌ عظيمةٌ تقصمُ فقارَ الظهرِ(9/68)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)
كَلاَّ ردعٌ عنْ إيثارِ العاجلةِ عَلى الآخرةِ أيْ ارتدعُوا عنْ ذلكَ وتنبهُوا لما بينَ أيديكُم منَ الموتِ الذي ينقطعُ عندَهُ ما بينكُم وبينَ العاجلةِ منَ العلاقةِ
إِذَا بَلَغَتِ التراقى أيْ بلغتْ النفسُ أعاليَ الصَّدرِ وهيَ العظامُ المكتنفة لثغرة النحر عنْ يمينٍ وشمالٍ(9/68)
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ أيْ قالَ مَن حضرَ صاحبَها مِنْ يرقيهِ وينجيهِ مما هُو فيهِ مِنَ الرقيةِ وقيلَ هُو مِنْ كلامِ ملائكةِ الموتِ أيكُم يَرقَى بروحِه ملائكةُ الرحمةِ أو ملائكةُ العذابِ مِنَ الرُّقِيِّ(9/68)
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)
وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق وأيقنَ المحتضرُ أنَّ ما نزلَ به الفراق مِنَ الدنيا ونعيمِها(9/68)
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)
والتفت الساق بالساق والتفتْ ساقُه بساقِه والتوتْ عليهَا عندَ حلولِ الموتِ وقيلَ هُما شدةُ فراقِ الدُّنيا وشدةُ إقبالِ الآخرةِ وقيلَ هما ساقاهُ حينَ تلفانِ في أكفانِه(9/68)
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)
إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المساق أيْ إلى الله وإلى حكمِه يساقُ لا إلى غيرِه(9/68)
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)
فَلاَ صَدَّقَ ما يجبُ تصديقه من الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآنِ الذي نزلَ عليهِ أو فلاَ صدقَ مالَه ولا زكَّاهُ
وَلاَ صلى ما فُرضِ عليهِ والضميرُ فيهمَا للإنسانِ المذكورِ في قوله تعالى أيحسب الإنسان وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حَقِّ المؤاخذةِ كما مَرَّ(9/68)
وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)
{ولكن كَذَّبَ} مَا ذُكرَ منَ الرسولِ والقرآنِ {وتولى} عنِ الطاعةِ(9/68)
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى يتبخترُ افتخاراً بذلكَ من المط فإن المبتختر يمد خطاهُ فيكونُ أصلُه يتمطط(9/68)
سورة القيامة (34 40) أو منَ المَطَا وهو الظهر فإنه يلويه(9/69)
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)
أولى لَكَ فأولى أيْ ويل لك وأصله أو أَوْلاَكَ الله ما تكرهُه واللامُ مزيدةٌ كمَا في رَدِفَ لَكُم أوْ أَوْلى لكَ الهلاكُ وقيلَ هُو أفعلُ منَ الويلِ بعدَ القلبِ كأدْنى من دُون أو فَعْلى من آلَ يؤولُ بمَعنى عقباكَ النارُ(9/69)
ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)
ثُمَّ أولى لَكَ فأولى أيْ يتكررُ عليهِ ذلكَ مرةً بعدَ أُخْرَى(9/69)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)
أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى أيْ يخلى مُهملاً فلاَ يكلَّفُ ولا يُجزى وقيلَ أنْ يتركَ في قبرِه ولا يبعثَ وقولُه تعالَى(9/69)
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يمنى الخ استئنافٌ واردٌ لإبطالِ الحسبانِ المذكورِ فإن مداره لما كان استبعادُهم للإعادةِ استدلَّ على تحققِها ببدءِ الخلقِ(9/69)
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً أيْ بقدرةِ الله تعالَى لقولِه تعالَى ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً {فَخَلَقَ} أي فقدرَ بأنْ جعلَها مضغةً مخلقةً {فسوى} فعدَّلَ وكمَّل نشأتَهُ(9/69)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)
{فَجَعَلَ مِنْهُ} منَ الإنسانِ
الزوجين أيِ الصنفينِ
الذكر والأنثى بدل من الزوجينِ(9/69)
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
أَلَيْسَ ذَلِكَ العظيمُ الشأنِ الذي أنشأَ هَذا الإنشاءَ البديعَ
بِقَادِرٍ على أَن يحيى الموتى وهُو أهونُ من البدءِ في قياسِ العقلِ رُوي أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كانَ إذَا قرأَها قالَ سبحانك بلى وعنه صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ القيامةِ شهدتُ لَهُ أنَا وجبريلُ يومَ القيامةِ أنَّه كانَ مؤمنا بيوم القيامة(9/69)
سورة الإنسان (1 2)
بسم الله الرحمن الرحيم(9/70)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
هَلْ أتى استفهامُ تقريرٍ وتقريبٍ فإنَّ هَلْ بمَعْنى قَدْ والأصلُ أَهَلْ أَتَى
عَلَى الإنسان قبلَ زمانٍ قريب
حين الدهر أي طائفةٌ محدودةٌ كائنةٌ من الزمنِ الممتدِّ
لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً بلْ كانَ شيئاً منسياً غيرَ مذكورٍ بالإنسانية أصلاً كالعنصرِ والنطفةِ وغيرَ ذلكَ والجملةُ المنفيةُ حالٌ من الإنسان أي غيرَ مذكورٍ أو صفةٌ أُخرى لحينٌ على حذف العائدِ إلى الموصوف أي لمْ يكُن فيه شيئاً مذكُوراً والمرادُ بالإنسان الجنسُ فالإظهارُ في قوله تعالى(9/70)
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ لزيادة التقريرِ أو آدمَ عليه السَّلامُ وهو المرويُّ عن ابن عباسٍ وقتادة والثوريِّ وعكرمةَ والشعبيِّ قالَ ابنُ عباسٍ في روايةِ أبي صالحٍ عنْهُ مرتْ به أربعونَ سنةً قبلَ أنْ يُنفخَ فيه الروح وهو مُلقى بين مكةَ والطائفِ وفي روايةِ الضحاكِ عنه أنَّه خُلقَ من طينٍ فأقامَ أربعينَ سنةً ثمَّ من حمإٍ مسنون فأقامَ أربعينَ سنةً ثمَّ من صلصالٍ فأقامَ أربعينَ سنةً فتمَّ خلقُه بعدَ مائة وعشرين سنةً فتمَّ خلقُه بعدَ مائةٍ وعشرينَ سنةً ثمَّ نُفخ فيهِ الروحُ وحكَى الماوَرْدِيُّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن الحين المذكور ههنا هو الزمنُ الطويلُ الممتدُّ الذي لايعرف مقدارُه فيكونُ الأولُ إشارةً إلى خلقَه عليه الصَّلاة والسَّلام وهذا بياناً لخلقِ بنية
أمشاج أخلاط حمع مشجٍ أو مشيجٍ منْ مشجت الشيء إذا خلقته وصف النطفةَ بهِ لما أنَّ المرادَ بها مجموعُ الماءينِ ولكلَ منهُمَا أوصافٌ مختلفةٌ من اللون والرقةِ والغِلَظِ وخواصُّ متباينةٌ فإنَّ ماءَ الرجلِ أبيضُ غليظٌ فيه قوَّةُ العقدِ وماءَ المرأةِ أصفرُ رقيقٌ فيهِ قوةُ الانعقادِ يُخلقُ منهُمَا الولد فما كان م من عصبٍ وعظمٍ وقوةٍ فَمِنْ ماءِ الرُّجُلِ وما كانَ منْ لحمٍ ودمٍ وشعرٍ فَمِنْ ماءِ المرأةِ قالَ القرطبيُّ وقد رُويَ هذا مرفوعاً وقيلَ مفردٌ كأعشارٍ وأكياشٍ وقيلَ أمشاجٌ ألوانٌ وأطوارٌ فإنَّ النطفةَ تصيرُ علقةً ثمَّ مضغةً إلى تمام الخِلقةِ وقولُه تعالَى
نَّبْتَلِيهِ حالٌ منْ فاعلِ خلقنَا أيْ مريدينَ ابتلاءه بالتكليف فيما سيأتى أو ناقلينَ له من حالٍ إلى حال على طريقة الاستعارةِ كما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهُمَا نصرّفه في بطنِ أمه نطفةً ثمَّ علقةً إلى آخرِهِ
فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً ليتمكنَ من استماعِ الآياتِ التنزيليةِ ومشاهدةِ الآياتِ التكوينية(9/70)
سورة الأنسان (3 6)
فهو كالمسبب عن الابتداء فلذلكَ عُطِفَ على الخلقِ المقيدِ به بالفاءِ ورُتِّبَ عليه قوله تعالى(9/71)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
إنا اهديناه السبيل بإنزالِ الآياتِ ونصبِ الدلائل
إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حالانِ من مفعولِ هدينَا أي مكّناهُ وأقدرناهُ على سلوكِ الطريقِ الموصلِ إلى البُغيةِ في حالتيهِ جميعاً وإمَّا للتفصيلِ أو التقسيمِ أيْ هديناهُ إلى ما يوصلُ إليها في حاليهِ جميعاً أو مقسوماً إليهما بعضُهم شاكرٌ بالاهتداءِ والأخذِ فيهِ وبعضُهم كفورٌ بالإعراضِ عنْهُ وقيلَ من السبيلِ أي عرفناهُ السبيلَ إما سبيلاً شاكراً أو كفوراً على وصفِ السبيلِ بوصف سالكه مجازا وقرئ أَمَّا بالفتحِ على حذفِ الجواب أى أم اشاكرا فتوفيقنا وأَمَّا كفوراً فبسوءِ اختيارِه لا بمجرد وإجبارنا من غيرِ اختيارٍ منْ قِبَلِه وإيرادُ الكفورِ لمراعاة الفواصلِ والإشعارِ بأنَّ الإنسانَ قلَّما يخلُو من كفرانٍ مَا وإنَّما المؤاخذُ عليه الكفرُ المفرطُ(9/71)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)
إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين من أفراد الإنسان الذي هديناهُ السبيل
سلاسل بهَا يُقادُون
وأغلالا بها يُقيَّدونَ
وَسَعِيراً بهَا يُحرقُون وتقديمُ وعيدِهم معَ تأخرهم للجمع بينهُمَا في الذكر كما في قوله تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ الآيةَ ولأنَّ الإنذارَ أهمُّ وأنفعُ وتصديرُ الكلامِ وختمُه بذكرِ المؤمنينَ أحسنُ على أنَّ في وصفِهم تفصيلاً ربَّما يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظم الكريم وقرئ سلاسلاً للتناسب(9/71)
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)
إِنَّ الأبرار شروعٌ في بيانِ حُسنِ حالِ الشاكرينَ إثرَ بيانِ سوءِ حالِ الكافرين وإيراداهم بعنوانِ البِرِّ للإشعارِ بمَا استحقُّوا بهِ ما نالُوه من الكرامةِ السنيةِ والأبرارُ جمعُ بَرَ أو بارَ كربَ وأربابٍ وشاهدٍ وأشهادٍ قيلَ هُو من يبرُّ خالقه أي يطيعه وقيل من يمتثلُ بأمرِه تعالى وقيلَ من يؤدِّي حقَّ الله تعالى ويوفِّي بالنذرِ وعنِ الحسنِ البرُّ منْ لايؤذى الذرَّ
يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ هي الزجاجةُ إذا كانتْ فيها خمرٌ وتُطلقُ على نفسِ الخمرِ أيضاً فمِنْ على الأولِ ابتدائيةٌ وعلى الثاني تبيعضية أو بيانيةٌ
كَانَ مِزَاجُهَا أي ما تمزجُ به
كافورا اى ماء وهو اسمُ عينٍ في الجنَّةِ ماؤُها في بياضِ الكافورِ ورائحتِه وبردِه والجملةُ صفةُ كأسٍ وقولُه تعالَى(9/71)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
عَيْناً بدلٌ من كافُوراً وعنْ قتادةَ تمزجُ لهم بالكافورِ وتختمُ لهم بالمسكِ وقيل تخلق لهم رائحةُ الكافورِ وبياضُه وبردُه فكأنَّها مُزجتْ بالكافورِ فعيناً على هذينِ القولينِ بدلٌ منْ محلِّ منْ كأسٍ على تقديرِ مضافٍ أي يشربونَ خمراً خمرَ عينٍ أو نُصب على الاختصاص وقولُه تعالى
يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله صفةُ عيناً أي يشربونَ بها الخمرَ لكونِها ممزوجةً بهَا وقيل ضُمِّن يشربُ مَعْنى يلتذُّ وقيل الياء بمَعْنى مِنْ وقيلَ زائدةٌ ويعضدُه قراءةُ ابنِ أبِي عبلة يشربها(9/71)
سورة الإنسان آية (7 11)
عباد الله وقيل الضميرُ للكأسِ والمَعْنى يشربونَ العينَ بتلكَ الكأسِ
يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً أي يُجرونها حيثما شاؤا من منازلهم اجراء سهلالا يمتنعُ عليهم بَلْ يَجْري جريا بقوة واندفاع والجملةُ صفةٌ أُخرى لعيناً وقولُه تعالى(9/72)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)
يُوفُونَ بالنذر استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما لأجلِه رُزقُوا ما ذُكِرَ من النعيمِ مشتملٌ على نوع تفصيلٍ لما ينبئ عنه اسمُ الأبرارِ إجمالاً كأنَّه قيلَ ماذَا يفعلونَ حتَّى ينالُوا تلكَ الرتبةَ العاليةَ فقيلَ يُوفون بما أَوجبُوه على أنفسِهم فكيفَ بما أوجبَهُ الله تعالَى عليهم
ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ عذابُه
مُسْتَطِيراً فاشياً مُنتشراً في الأقطارِ غايةَ الانتشارِ من استطارَ الحريقُ والفجرُ وهُو أبلغُ من طارَ بمنزلة استنفرَ منْ نفرَ(9/72)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ اى كأثنين على حُبِّ الطَّعامِ والحاجةِ إليهِ كما في قولِه تعالَى لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ أو على حُبِّ الإطعامِ بأنْ يكونَ ذلكَ بطيبِ النفسِ أو كائنينَ على حُبِّ الله تعالَى أو إطعاماً كائناً على حُبِّه تعالَى وهُو الأنسبُ لما سيأتِي من قولِه تعالَى لوجهِ الله
مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً أيَّ أسيرٍ فإنَّه كانَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُؤتَى بالأسيرِ فيدفعُه إلى بعضِ المسلمينَ فيقولُ أَحْسِنْ إليهِ أو أسيراً مؤمناً فيدخلُ فيه المملوكُ والمسجونُ وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغريمَ أسيراً فقال غَريمُكَ أسيرُكَ فأحسِنْ إلى أسيرِكَ(9/72)
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله على إرادة قول وهو في موقع الحالِ من فاعلِ يطعمونَ أي قائلينَ ذلكَ بلسانِ الحالِ أو بلسانِ المقالِ إزاحةً لتوهمِ المنِّ المبطلِ للصدقةِ وتوقعِ المكافأةِ المنقصةِ للأجرِ وعن الصديقةِ رضيَ الله تعالَى عنها أنَّها كانتْ تبعثُ بالصدقةِ إلى أهلِ بيتٍ ثم تسألُ الرسولَ ما قالُوا فإذَا ذكرَ دعاءَهُم دعتْ لَهُم بمثلِه ليبقَى ثوابُ الصدقةِ لها خالصاً عندج الله تعالَى
لاَ نُرِيدُ منكم جزاءا ولا شكورا أي شكرا وهو تقريرٌ وتأكيدٌ لما قبلَهُ(9/72)
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً أي عذابَ يومٍ عَبُوساً يعبسُ فيه الوجُوه أو يُشبه الأسدَ العَبُوسَ في الشِّدةِ والضَّراوةِ
قَمْطَرِيراً شديدَ العُبوسِ فلذلكَ نفعلُ بكُم ما نفعلُ رجاءَ أنْ يقينَا ربُّنا بذلكَ شره وقيل وهو تعليلٌ لعدم إرادةِ الجزاءِ والشكورِ أي إنَّا نخافُ عقابَ الله تعالى إنْ أردناهُمَا(9/72)
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)
فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم بسبب خوفِهم وتحفظِهم عنه
ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً أي أعطاهُم بدلَ عبوسِ الفُجَّارِ وحُزنِهم نضرةً في الوجوه وسُروراً في القلوبِ(9/72)
سورة الإنسان آية (12 14)(9/73)
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ بصبرِهم على مشاقِّ الطاعاتِ ومهاجرةِ هَوَى النفسِ في اجتنابِ المُحرَّماتِ وإيثارِ الأموالِ
جَنَّةُ بستاناً يأكلُون منه ما شاؤا
وَحَرِيراً يلبسونَهُ ويتزينونَ به وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ الحسنَ والحسين رضي الله عنهُمَا مَرِضا فعادهُما النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ناسٍ معَهُ فقالُوا لعلي رضي الله عنه لو نذرت على ولدكَ فنذرَ عليٌّ وفاطمةُ رضي الله تعالى عنهما وفضةُ جاريةٌ لهما إنْ برئَا مما بهمَا أنْ يصومُوا ثلاثةَ أيامٍ فشُفيا وما معهُم شيءٌ فاستقرضَ علي رضي الله عنه من شمعون الخيبرى ثلاث أصوعٍ من شعيرٍ فطحنتْ فاطمةُ رضيَ الله تعالى عنها صاعاً واختبزتْ خمسةَ أقراصٍ على عددِهم فوضعُوها بين أيديهِم ليُفطِرُوا فوقفَ عليهم سائلٌ فقالَ السَّلامُ عليكم أهلَ بيتِ محمدٍ مسكينٌ من مساكين المسلمينَ أطعمُوني أطعمكُم الله تعالَى من موائدِ الجنةِ فآثرُوه وباتوا لم يذقوا إلا الماءَ وأصبحُوا صياماً فلمَّا أمسَوا ووضعُوا الطعامَ بينَ أيديهِم وقفَ عليهم يتيمٌ فآثرُوه ثم وقفَ عليهم في الثالثةِ أسيرٌ ففعلُوا مثلَ ذلكَ فلما أصبحُوا أخذ عليٌّ بيدِ الحسن والحسين رضي الله عنهُم فأقبلُوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهُم وهُم يرتعشونَ كالفراخِ من شدةِ الجُوع قال عليه الصلاة والسلام ما أشد ما يسؤوني ما أَرَى بكُم وقامَ فانطلقَ معهُم فَرَأى فاطمةَ في محرابِها قد التصقَ ظهرُها ببطنِها وغارتْ عيناهَا فساءَهُ ذلكَ فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ وقالَ خُذْها يا محمدُ هنَّأك الله تعالى في أهلِ بيتكَ فأَقْرأَهُ السورةَ(9/73)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك حالٌ مِنْ هُمْ فِي جَزَاهُمْ والعاملُ فيها جَزَى وقيلَ صفةٌ لجنةً من غيرِ إبرازِ الضميرِ والأرائكُ هي السُّررُ في الحجالِ وقوله تعالى
لايرون فيها شمسا ولا زمهريرا إمَّا حالٌ ثانيةٌ من الضمير أو المستكنِّ في متكئينَ والمَعْنى أنَّه يمرُّ عليهم هواء معتدل لاحار محمٌّ ولا باردٌ مؤذٍ وقيلَ الزمهريرُ القمرُ في لغة طيئ والمعنى أن هواءها مضى بذاتِه لا يحتاجُ إلى شمسٍ ولا قمرٍ(9/73)
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها عطفٌ على ما قبلَها حالٌ مثلُها أو صفةٌ لمحذوفٍ معطوفٍ على جنة واى جنة أخرى دانيةً عليهم ظلالُها على أنَّهم وُعدوا جنتينِ كما في قوله تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جنتان وقرئ دانيةٌ بالرفعِ على أنه خبرُ لظلاها والجملة في حين الحالِ والمعنى لا يَرَون فيها شمسا ولا زمهريرا أو والحالُ أنَّ ظلالَها دانيةٌ قالُوا معناهُ أنَّ ظلالَ أشجارِ الجنةِ قريبةٌ من الأبرارِ مظلةٌ عليهم زيادةً في نعيمِهم على مَعْنى أنه لوكان هناكَ شمسٌ مؤذيةٌ لكانتْ أشجارها مظلة عليهم أنَّه لا شمسَ ثمةَ ولا قمرَ
وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً أي سُخرتْ ثمارُها لمتناولها وسُهلَ أخذُها من الذُّلِّ وهو ضدُّ الصعوبةِ والجملةُ حالٌ من دانيةً أي تدنُو ظلالُها عليهم مُذلَّلة لهم قطوفُها أو معطوفةٌ على دانيةً عليهم ظلالُها ومذللةً قطوفُها وعلى تقديرِ رفعِ دانية فهي جملة ى فعليةٌ معطوفةٌ على جُملةٍ أسمية(9/73)
سورة الإنسان آية (15 21)(9/74)
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)
ويطاف عليهم بآنية مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ الكوبُ الكوز العظيم لا أُذنَ له ولاَ عروة
كانت قواريرا(9/74)
قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
قوارير مِن فِضَّةٍ أي تكونتْ جامعةً بين صفاءِ الزجاجةِ وشغيفها ولينِ الفِضَّةِ وبياضِها والجملةُ صفة الأكواب وقرئ بتنوينِ قواريرَ الثانِي أيضاً وقرئا بغير تنوين وقرئ الثَّانِي بالرَّفعِ على هيَ قواريرُ
قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً صفةٌ لقواريرَ ومعنى تقديرِهم لها أنَّهم قدَّروها في أنفسِهم وأرادُوا أنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ معينةٍ موافقةً لشهواتهم فجاءتْ حسبمَا قدَّرُوها أو قدَّرُوها بأعمالِهم الصالحةِ فجاءتْ على حسبِها وقيلَ الضميرُ للطائفينَ بهَا المدلولِ عليهم بقولِه تعالى وَيُطَافُ عليهم فالمعنى قدروا اشرابها على قدر اشتهائهم وقرئ قُدِّرُوها على البناءِ للمفعولِ أي جُعلوا قادرينَ لها كما شاؤا من قَدَر منقولاً من قدرت الشئ(9/74)
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً أي ما يشبِهُ الزنجبيلَ في الطعمِ وكان الشرابُ الممزوجُ به أطيبَ ما تستطيبُه العربُ وألذَّ ما تستلذُّ به(9/74)
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
عَيْناً بدلٌ من زنجبيلاً وقيلَ تمزجُ كأسُهم بالزنجبيلِ بعينِه أو يخلقُ الله تعالى طعم فيها فعيناً حينئذٍ بدلٌ من كأساً كأنَّه قيلَ ويُسقَون فيها كأساً كأسَ عين أو نُصب على الاختصاص
فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً لسلاسة انحدارِها في الحَلْقِ وسهولةِ مساغِها يقالُ شرابٌ سلسلٌ وسلسالٌ وسلسبيلٌ ولذلكَ حُكمَ بزيادةِ الباءِ والمرادُ بيانُ أنَّها في طعم الزنجبيلِ وليسَ فيها لذعةٌ بل نقيضُ اللذعِ هو السلاسةُ(9/74)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ أى دائمون على ماهم عليه من الطراوةِ والبهاءِ
إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً لحُسنِهم وصفاءِ ألوانِهم وإشراق وجوههم وانبثالثهم في مجالسهم ومنازلِهم وانعكاسِ أشعةِ بعضِهم إلى بعضٍ(9/74)
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ ليسَ له مفعولٌ ملفوظٌ ولا مقدرٌ ولا منويٌّ بل معناهُ أنَّ بصرَكَ أينمَا وقعَ في الجنةِ
رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً أي هنيئاً واسعاً وفي الحديثِ أدنى أهل الجنة منزلة ينظُر في مُلكِه مسيرةَ ألف عام يرى وأقصاه كمِا يَرى أدناهُ وقيلَ لا زوال وقيلَ إذَا أرادُوا شيئاً كانَ وقيلَ يُسلمُ عليهم الملائكةُ ويستأذنونَ عليهم(9/74)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
عاليهم ثياب(9/74)
سورة الإنسان
آية (22 25)
سُندُسٍ خُضْرٌ قيلَ عاليَهُم ظرفٌ على أنَّه خبرٌ مقدمٌ وثيابُ مبتدأٌ مؤخرٌ والجملةُ صفةٌ أُخرى لولدانٌ كأنَّه قيلَ يطوفُ عليهم ولدانٌ فوقَهُم ثيابُ الخ وقيلَ حالٌ منْ ضميرِ عليهم أوحسبتهم أي يطوفُ عليهم ولدانٌ عالياً للمطوف عليهم ثيابٌ الخ أو حسبتَهُم لؤلؤاً منثوراً عالياً لهم ثيابُ الخ وقرئ عاليهم بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه ثيابُ أي ما يعلوهم من لباسِهم ثيابُ سندسٍ وقرئ خضرٍ بالجرِّ حملاً على سندسٍ بالمَعْنى لكونِه اسمَ جنسٍ {وَإِسْتَبْرَقٍ} بالرفعِ عطفاً على ثيابُ وقُرِىءَ برفعِ الأولِ وجرِّ الثانِي وقُرىءَ بالعكسِ وقُرِىءَ بجرِّهِما وقُرىءَ واستبرق يوصل الهمزةِ والفتحِ على أنه استفعلَ من البريقِ جُعل عَلَماً لهذا النوعِ من الثيابِ
وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ عطفٌ على يطوفُ عليهم ولا يُنافيه قولُه تعالى أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ لإمكانِ الجمعِ والمعاقبةِ والتبعيضِ فإنَّ حُلِيَّ أهلِ الجنةِ يختلفُ حسبَ اختلافِ أعمالِهم فلعلَّه تعالَى يفيضُ عليهم جزاءً لما عملُوه بأيديهم حلياً وأنواراً تتفاوتُ تفاوتَ الذهبِ والفضةِ أو حالٌ من ضميرِ عاليَهم بإضمارِ قَدْ وعلى هَذا يجوزُ أنْ يكونَ هذا للخدمِ وذاكَ للمخدومينَ
وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً هو نوعٌ آخرُ يفوقُ النوعينِ السالفينِ كما يرشدُ إليهِ إسنادُ سقيهِ إلى ربِّ العالمينَ ووصفُه بالطَّهوريةِ فإنَّه يطهرُ شاربَهُ عن دَنَسِ الميلِ إلى الملاذِّ الحسيةِ والركونِ إلى ما سِوى الحقِّ فيتجردُ لمطالعةِ جمالِه ملتذاً بلقائِه باقياً ببقائِه وهي الغايةُ القاصيةُ من منازلِ الصدِّيقينَ ولذلكَ خُتمَ بها مقالةُ ثوابِ الأبرارِ(9/75)
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
إِنَّ هَذَا على إضمارِ القولِ أي يقال لهم أن هذا الذى كر من فنون الكراماتِ
كَانَ لَكُمْ جَزَاء بمقابلة أعمالِكم الحسنةِ
وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً مرضياً مقبُولاً مُقابَلاً بالثوابِ(9/75)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنزِيلاً أيْ مُفرقاً مُنجَّماً لحكم بالغة مقتضية له لا غيرُنَا كما يعربُ عنه تكريرُ الضميرِ معَ إنَّ(9/75)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)
فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ بتأخير نصرك على الكفَّارِ فإنَّ له عاقبةً حميدةً
وَلاَ تطع منهم آثما أَوْ كَفُوراً أي كلَّ واحدٍ من مرتكبِ الإثمِ الدَّاعِي لكَ إليهِ ومن الغالِي في الكُفر الدَّاعِي إليهِ وأو للدلالة على أنَّهما سيَّانِ في استحقاق العصيانِ والاستقلالِ به والتقسيمُ باعتبار ما يدعُونَهُ إليه فإنَّ ترتبَ النَّهي على الوصفين مشعرٌ بعلَّيتِهما له فلا بد أن يكون النهيُ عن الإطاعةِ في الإثمِ والكفرِ فيما ليسَ بإثمٍ ولا كُفرٍ وقيلَ الآثمُ عُتبةُ فإنَّه كانَ ركابا للمأثم متعاطيات لأنواعِ الفسوقِ والكفورِ والوليدُ فإنه كان غاليا في الكُفر شديدَ الشكيمةِ في العُتوِّ(9/75)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)
واذكر اسم رك بُكْرَةً وَأَصِيلاً وداومْ على ذكره في جميعِ الأوقاتِ اودم على صلاة الفجرِ والظهرِ والعصرِ فإنَّ الأصيلَ ينتظمُهما(9/75)
سورة الإنسان (26 31)(9/76)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
ومن الليل فاسجد لَهُ
وبعضَ الليلَ فصلِّ له ولعلَّه صلاةُ المغربِ والعشاءِ وتقديمُ الظرفِ لما في صلاةِ الليلِ من مزيد كلفةٍ وخلوصٍ
وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً
وتهجدْ له قِطَعاً من الليلِ طويلاً(9/76)
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)
إِنَّ هَؤُلآء
الكفرةَ
يُحِبُّونَ العالجة
وينهمكنون في لذاتِها الفانيةِ
وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ
أي أمامَهم لا يستعدونَ أو ينبذون وراءَ ظُهورهم
يَوْماً ثَقِيلاً
لا يعبأونَ به ووصفُه بالثقل لتشبيه شدتِه وهولِه بثقل شيءٍ فادحٍ باهظٍ لحامله بطريقِ الاستعارةِ وهو كالتعليل لما أُمِرَ به ونُهيَ عنه(9/76)
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
نَّحْنُ خلقناهم
لا غيرُنا
وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ
أي أحكمنَا ربطَ مفاصلِهم بالأعصابِ
وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم
بعدَ إهلاكِهم
تَبْدِيلاً
بديعاً لا ريب فيهِ هو البعثُ كما ينبىء عنه كلمةُ إذَا أو بدَّلنا غيرَهُم ممن يطيعُ كقولِه تعالى يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ واذ للدلالةِ على تحققِ القُدرةِ وقوةِ الداعيةِ(9/76)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)
إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ
إشارةٌ إلى السورةِ أو الآياتِ القريبةِ
فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً
أي فمن شاء أن يتخذ إليهِ تعالى سبيلاً أي وسيلةً توصلُه إلى ثوابِه اتخذَهُ أي تقربَ إليهِ بالعمل بمَا في تضاعيفِها وقولُه تعالى(9/76)
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)
وما تشاؤن إلا أن يشاء الله
تحقيقٌ للحقِّ ببيان أنَّ مجردَ مشيئتِهم غيرُ كافيةٍ في اتخاذ السبيلِ كما هو المفهومُ من ظاهر الشرطية اي وما تشاؤن اتخاذَ السبيلِ ولا تقدرونَ على تحصيله في وقتٍ من الأوقاتِ إلا وقتَ مشيئتِه تعالى تحصيلَه لكُم إذ لا دخلَ لمشيئة العبدِ إلا في الكسبِ وإنَّما التأثيرُ والخلقُ لمشيئة الله عزَّ وجلَّ وقُرىء يشاؤن بالياءِ وقُرىءَ إلاَّ ما يشاءُ الله وقولُه تعالَى
إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
بيانٌ لكون مشيئتِه تعالى مبنيةً على أساس العلمِ والحكمةِ والمَعْنى أنَّه تعالَى مبالِغٌ في العلمِ والحكمةِ فيعلمُ ما يستأهلُه كلُّ أحدٍ فلا يشاءُ لهم إلا ما يستدعيهِ علمُه وتقتضيِه حكمتُه وقولُه تعالى(9/76)
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
يدخل من يشاء فى رَحْمَتِهِ
بيانٌ لأحكام مشيئتِه المترتبةِ على علمه وحكمتِه أي يُدخلُ في رحمتِه مَن يشاءُ أنْ يدخلَهُ فيها وهُو الذي يصرِفُ مشيئتَهُ نحوَ اتخاذِ السبيلِ إليهِ تعالى حيثُ يوفقُه لَما يَؤدِّي إلى دخول الجنةِ من الإيمانِ والطاعةِ
والظالمين
وهم الذينَ صَرفوا مشيئَتُهم إلى خلافِ ما ذُكِرَ
أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
أي متناهياً في الإيلامِ قالَ الزجاجُ نصبَ الظالمينَ لأنَّ ما قبلَهُ منصوبٌ أي يُدخلُ من يشاءُ في رحمته ويعذبُ الظالمينَ ويكونُ أعدَّ لَهُم تفسيراً لهَذا المضمرِ وقُرِىءَ بالرفع على(9/76)
77 سورة المرسلات (1 6) الابتداء عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ هَل أَتَى كانَ جزاؤُه على الله تعالَى جنة وحريرا
سورة المرسلات مكية الا آية 48 فمدنية وآياتها خمسون
بسم الله الرحمن الرحيم(9/77)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)
والمرسلات عرفا
فالعصفات عَصْفاً
والناشرات نَشْراً
فالفارقات فَرْقاً
فالملقيات ذِكْراً
إقسامٌ من اللَّهِ عزَّ وجل بطوائفَ من الملائكةِ أرسلهنَّ بأوامرِه فعصَفنَ في مُضيّهنَّ عصفَ الرياحِ مسارعةً في الامتثالِ بالأمرِ وبطوائفَ أُخرى نشرْن أجنحتَهنَّ في الجوِّ عندَ انحطاطِهنَّ بالوَحي أو نشرن الشرائعَ في الأقطارِ أو نشرن النفوسَ المَوْتى بالكفر والجهل بما او حين ففرقن بينَ الحقِّ والباطل فألقين ذكرا الا الأنبياءِ(9/77)
عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)
عُذْراً
للمحقِّينَ
أَوْ نُذْراً
للمبطلينَ ولعلَّ تقديمَ نشرِ الشرائعِ ونشرِ النفوسِ والفَرقِ على الالقاء للإيذان بكونها غايةً للإلقاء حقيقةً بالاعتناء بَها أو للإشعارِ بأنَّ كُلاً من الأوصافِ المذكورةِ مُستقلٌّ بالدلالةِ على استحقاق الطوائفِ الموصوفةِ بها التفخيم والاجلال بالاقسام بهن ولوجىء بها على ترتيب الوقوعِ لربَّما فُهمَ أنَّ مجموعَ الإلقاءِ والنشرِ والفرقِ هو الموجبُ لما ذكِرَ من الاستحقاقِ أو إقسامٌ برياحِ عذابٍ أرسلهنَّ فعصفنَ وبرياحِ رحمةٍ نشرنَ السحابَ في الجوِّ ففرقنَ بينَهُ كقولِه تعالى وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أو بسحائبَ نشرنَ المواتَ ففرقنَ كلَّ صنفٍ منها عن سائرِ الأصنافِ بالشكلِ واللونِ وسائرِ الخواصَّ أو فرقنَ بينَ من يشكرُ الله تعالَى وبينَ من يكفرُ بهِ فألقينَ ذكراً أما عُذراً للمعتذرينَ إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم عن مشاهدتهم(9/77)
77 سورة المرسلات (7 14)
لآثار رحمتِه تعالى في الغيث ويشكرونها واما انذارا للذين يكفرونَها وينسبونها إلى الأنواءِ وإسنادُ إلقاءِ الذكرِ إليهنَّ لكونِهن سبباً في حصوله إذَا شكرت النعمة فيهن أو كفرت أو إقسامٌ بآياتِ القُرآنِ المرسلةِ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصفنَ سائرَ الكتبِ بالنسخِ ونشرنَ آثارَ الهُدى من مشارق الأرضِ ومغاربِها وفرقنَ بين الحق والباطل فألقين ذكرَ الحقِّ في أكناف العالمينَ والعُرفُ إمَّا نقيضُ النُّكرِ وانتصابُه على العلةِ أي أرسلنَا للإحسانِ والمعروفِ فإنَّ إرسالَ ملائكةِ العذابِ معروفٌ للأنبياءِ عليهم السَّلامُ والمؤمنينَ أو بمَعْنى المتابعةِ من عُرفِ الفرسِ وانتصابُه على الحاليَّةِ والعُذرُ والنُّذرُ مصدرانِ من عَذَرَ إذا مَحَا الإساءةَ ومن أنذَرَ إِذَا خَوَّفَ وانتصابُهما على البدليةِ من ذِكراً أو عَلى العِليِّةِ وقُرِئَا بالتثقيلِ(9/78)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ
جوابٌ للقسمِ أيْ إنَّ الذي تُوعدونَهُ من مجيءِ القيامةِ كائنٌ لا محالةَ(9/78)
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)
فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ
مُحيتْ ومُحقتْ أو ذُهبَ بنورِها(9/78)
وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا السماء فُرِجَتْ
صُدعتْ وفُتحتْ فكانتْ أبواباً(9/78)
وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)
وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ
جُعلتْ كالحبِّ الذي يُنسفُ بالمنسفِ ونحوهُ وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً وقيل أُخذتْ منْ مقارِّها بسرعةٍ من انتسفتَ الشيءَ إذا اختطفتَهُ وقُرِىءَ طُمِّستْ وفُرِّجتْ ونُسِّفتْ مشددةً(9/78)
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)
وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ
أي عُيِّنَ لهُم الوقتُ الذي يحضرونَ فيه للشهادةِ على اممهم وذلك عند مجيئه وحضورهِ إذْ لا يتعينُ لهم قبله أو بلغُوا الميقاتَ الذي كانُوا ينتظرونَهُ وقُرِىءَ وُقِّتتْ على الأصلِ وبالتخفيفِ فيهما(9/78)
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)
لايّ يَوْمٍ أُجّلَتْ
مقدرٌ بقولٍ هُو جوابٌ لإذا في قولِه تعالى وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ أو حالٌ من مرفوعِ أقتت أي يقالُ لأيِّ يومٍ أُخرت الأمورُ المتعلقةُ بالرسل والمرادُ تعظيمُ ذلكَ اليومِ والتعجيبُ من هولِه وقولُه تعالَى(9/78)
لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)
لِيَوْمِ الفصل
بيانٌ ليومِ التأجيل وهو الذي يُفصلُ فيهِ بينَ الخلائقِ(9/78)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل
مَا مبتدأٌ أدراكَ خبرُهُ أيْ أيُّ شيءٍ جعلَكَ دارياً ما هُو فوضع موضع الضمير(9/78)
77 سورة المرسلات (15 23)
يومَ الفصلِ لزيادةِ تفظيعٍ وتهويلٍ على أنَّ مَا خبرٌ ويومُ الفصلِ مبتدأٌ لاَ بالعكسِ كما اختارَهُ سيبويِه لأنَّ محطَّ الفائدةِ بيانٌ كونِ يومِ الفصلِ أمراً بديعاً هائلاً لا يُقادرُ قَدُرُه ولا يُكتنُه كُنْههُ كَما يفيدُه خبريةُ مالا بيانُ كونِ أمرٍ بديعٍ من الأمورِ يومَ الفصلِ كما يُفيده عكْسُه(9/79)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
أيْ في ذلكَ اليومِ الهائلِ وويلٌ في الأصلِ مصدرٌ منصوبٌ سادٌّ مسدَّ فعلِه لكنْ عُدلَ بهِ إلى الرفعِ للدلالةِ على ثباتِ الهلاكِ ودوامِه للمدعوِّ عليهِ ويومئذٍ ظرفُه أو صفتُه(9/79)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)
أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين
كقومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ لتكذيبِهم بهِ وقُرِىءَ نَهلكَ بفتحِ النونِ من هلَكَه بمعنى أهلَكَه(9/79)
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الأخرين
بالرفعِ على ثمَّ نحنُ نتبعُهم الآخرينَ من نظرائِهم السالكينَ لمسلكِهم في الكفرِ والتكذيبِ وهُو وعيدٌ لكفارِ مكةَ وقُرِىءَ ثمَّ سنُتبعُهم وقُرِىءَ نُتبعْهُم بالجزمِ عطفاً على نُهلك فيكونُ المرادُ بالآخرينَ المتأخرينَ هلاكاً من المذكورينَ كقومِ لوطٍ وشعيبٍ ومُوسى عليهم السَّلامُ(9/79)
كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)
كذلك
مثلَ ذلكَ الفعلِ الفظيعِ
نَفْعَلُ بالمجرمين
أي سنَّتُنا جاريةٌ على ذلكَ(9/79)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
أيْ يومُ إذْ أهلكناهُم
لّلْمُكَذّبِينَ
بآياتِ الله تعالَى وأنبيائِه وليسَ فيه تكريرٌ لما أنَّ الويل الأول لعذاب اللآخرة وَهَذا لعذابِ الدُّنيا(9/79)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20)
أَلَمْ نَخْلُقكُّم
أي ألم نُقدرْكُم
مّن مَّاء مَّهِينٍ
أي من نُطفةٍ قذرةٍ مهينةٍ(9/79)
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21)
فجعلناه فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ
هو الرحمُ(9/79)
إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)
إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ
إلى مقدارٍ معلومٍ من الوقتِ قدَّرهُ الله تعالَى للولادةِ تسعةَ أشهرٍ أو أقلَّ منها أو أكثرَ(9/79)
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)
فَقَدَرْنَا
أي فقدرناهُ وقد قُرِىءَ مُشدداً أو فقدرنا على ذلك على أن المراد بالقدر ما يقارنُ وجودَ المقدورِ بالفعل
فَنِعْمَ القادرون
أي نحنُ(9/79)
77 سورة المرسلات (24 30)(9/80)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
بقدرتِنا على ذلك أو على الإعادةِ(9/80)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25)
أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً
الكِفاتُ اسمُ مَا يكْفِتُ اي يضم ويجمع مع كفتَ الشيءَ إذا ضمَّه وجمعَهُ كالضِّمامِ والجِماعِ لما يضمُّ ويجمعُ أي ألم نجعلْها كِفاتاً تكفتُ(9/80)
أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)
أَحْيَاء
كثيرةً على ظهرها
وأمواتا غيرَ محصورةٍ في بطنِها وقيلَ هُو مصدرٌ نُعِتَ به للمبالغةِ وقيلَ جمعُ كافتٍ كصائمٍ وصيامٍ أو كِفت وهو الوعاءُ أجرى على الأرض باعتبار بقاعها وقيل تنكيرُ أحياءً وأمواتاً لأنَّ أحياءَ الإنسِ وأمواتَهم بعضُ الأحياءِ والأمواتِ وقيلَ انتصابُهما على الحاليةِ من محذوفٍ أي كفاتاً تكفتكُم أحياءٌ وأمواتاً(9/80)
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27)
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ
أي جبالاً ثوابتَ
شامخات
طوالاً شواهقَ ووصفُ جمعِ المذكِر بجمعِ المؤنثِ في غيرِ العقلاءِ مُطَّردٌ كداجنٍ ودواجنٍ وأشهرٌ معلوماتٌ وتنكيرُها للتفخيمِ أو للاشعار بأن فيها مالم يُعرفْ
وأسقيناكم مَّاء فُرَاتاً
بأنْ خلقنَا فيها أنهاراً ومنابعَ(9/80)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
بأمثالِ هذه النعمِ العظيمةِ(9/80)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
انطلقوا
أي يقالُ لهم يومئذ للتوبيخ والتقريع انطلقُوا
إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ
في الدُّنيا من العذابِ(9/80)
انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30)
انطلقوا
خُصوصاً
إلى ظِلّ
أي ظِل دُخانِ جهنَّمَ كقولِه تعالَى وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ وقُرِىءَ انطَلقُوا على لفظ الماضي اخبار بعدَ الأمرِ عن عملِهم بموجبه لاضطرارِهم إليه طوعاً أو كرهاً
ذِى ثلاث شُعَبٍ
يتشعبُ لعِظمه ثلاثَ شُعبٍ كَما هُو شأنُ الدُّخانِ العظيمِ تراهُ يتفرقُ ذوائبَ وقيلَ يخرجُ لسانٌ من النار فيحيطُ بالكفارِ كالسُّرادقِ ويتشعبُ من دُخَانِها ثلاثُ شعبٍ فتظلهُم حتى يُفرغَ من حسابِهم والمؤمنونَ في ظلَ العرشِ قيلَ خُصوصيةُ الثلاثِ إما لأنَّ حجابَ النفسِ عن أنوارِ القدسِ الحسُّ والخيالُ والوهمُ أو لأنَّ المؤدِّي إلى هذا العذاب هو القوةُ الوهميةُ الشيطانيةُ الحَّالةُ في الدماغِ والقوةُ الغضبيةُ السبعيةُ التي عن يمينِ القلبِ والقوةُ الشهويةُ البهيميةُ التي عن يسارِه ولذلكَ قيلَ تقفُ شعبةٌ فوقَ الكافرِ وشعبةٌ عن يمينِه وشعبة عن يساره(9/80)
77 سورة الملاسلات (31 38)(9/81)
لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)
لاَّ ظَلِيلٍ
تهكمٌ بهم اورد لما أوهمَه لفظُ الظلِّ
وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهب
أي غيرُ مغنٍ لهم من حرِّ اللهبِ شيئاً(9/81)
إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كالقصر
أي كلُّ شررةٍ كالقصرِ من القصورِ في عِظَمِها وقيلَ هو الغليظُ من الشجر الواحدةُ قصرةٌ نحو جَمْرٍ وجمرةٍ وقُرِىءَ كالقَصَرِ بفتحتينِ وهي أعناقُ الإبلِ أو أعناقُ النخلِ نحو شجرةٍ وشجرٍ وقُرِىءَ كالقُصُر بمعنى القصور كرهن ورهُن وقرىء كالقصر جمع قصرة(9/81)
كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)
كَأَنَّهُ جمالة
قيلَ هو جمعُ جملٍ والتاءُ لتأنيثِ الجمعِ يقالُ جملٌ وجمالٌ وجمالةٌ وقيلَ اسمُ جمعٍ كالحجارة
صفر
فان الشرارة لما فيهِ من الناريةِ يكون اصفر وقيل أسود لأن سوادَ الإبلِ يضربُ إلى الصفرةِ والأولُ تشبيهٌ في العظمِ وهذا في اللونِ والكثرةِ والتتابعِ والاختلاطِ والحركةِ وقُرِىءَ جمالاتٌ جمعُ جَمالةٍ وقد قُرىءَ بها وهي الحبلُ العظيمُ من حبل السفنِ وقلوسِ الجسورِ والتشبيهُ في امتدادِه والتفافهِ(9/81)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
ويل يومئذ لممكذبين(9/81)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)
هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ
اشارة الى دخولِهم النارَ أيْ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ فيه بشىءٍ لما أنَّ السؤالَ والجوابَ والحسابَ قدْ انقضتْ قبلَ ذلكَ ويومُ القيامةِ طويلٌ له مواطنُ ومواقيتُ ينطقونَ في وقتٍ دُونَ وقت فعبر عن كل وقت بيوم اولا ينطقونَ بشيءٍ ينفعُهم فإن ذلكَ كلاَ نطقٍ وقُرِىءَ بنصبِ اليومِ أيْ هَذا الذي فُصِّلَ واقعٌ يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ(9/81)
وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)
وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ
عطفٌ على يُؤذنُ مُنتظمٌ في سلكِ النفي أيْ لا يكونُ لهم إذنٌ واعتذارٌ متعقبٌ له من غيرِ أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الإذن كما لو نصب(9/81)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
هذا يَوْمُ الفصلُ
بين الحقِّ والباطلِ والمحقِّ والمبطلِ
جمعناكم
خطابٌ لأمة محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام
والأولين
من الأممِ وهذا تقريرٌ وبيانٌ للفصل(9/81)
77 سورة المرسلات (39 48)(9/82)
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ
فإن جميعَ من كنتُم تقلدونهم وتقتدونَ بهم حاضرونَ وهذا تقريعٌ لهم على كيدِهم للمؤمنينَ في الدُّنيا وإظهارٌ لعجزِهم(9/82)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
حيثُ ظهرَ أنْ لا حيلةَ لهم في الخلاصِ من العذابِ(9/82)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41)
إِنَّ المتقين
من الكفرِ والتكذيبِ
فِى ظلال وَعُيُونٍ(9/82)
وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)
وفواكه مِمَّا يَشْتَهُونَ
أي مستقرونَ في فنونِ الترفِه وأنواعِ التنعمِ(9/82)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
كلوا واشربوا هنيئا بما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
مقدرٌ بقولٍ هو حالٌ من ضميرِ المتقينَ في الخبر أي مقولاً لهم كلُوا واشربُوا هنيئاً بما كنتُم تعملونَهُ في الدنيا من الأعمال الصالحةِ(9/82)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)
إِنَّا كَذَلِكَ
الجزاءِ العظيمِ
نَجْزِى المحسنين
أيْ في عقائدِهم وأعمالِهم لا جزاءً أَدْنَى منْهُ(9/82)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
حيثُ نالَ أعداؤُهم هذا الثوابَ الجزيلَ وهُم بقُوا في العذاب المخلَّدِ الوبيلِ(9/82)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46)
كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ
مقدرٌ بقولٍ هو حالٌ من المكذبينَ أي الويلُ ثابتٌ لهم مقولاً لهم ذلكَ تذكيراً لهم بحالِهم في الدُّنيا وبما جنَوا على أنفسِهم من إيثارِ المتاعِ الفانِي عن قريبٍ على النعيمِ الخالدِ وعلل ذلك بإجرامِهم دلالةً على أنَّ كلَّ مجرمٍ مآلهُ هَذا وقيل هو كلامٌ مستأنفٌ خُوطبَ به المكذبونَ في الدُّنيا بعدَ بيان مآلِ حالهم وقررَ ذلكَ بقولِه تعالى(9/82)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
لزيادة التوبيخِ والتقريعِ(9/82)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)
وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا
أي أطيعُوا الله واخشعُوا وتواضعُوا له بقبولِ وحيهِ واتباعِ دينهِ وارفضُوا هذا الاستكبارَ والنخوةَ
لاَ يَرْكَعُونَ
لا يخشعُون ولا يقبلُون ذلكَ ويصرونَ على ما هم(9/82)
77 سورة المرسلات (49 50)
عليهِ من الاستكبارِ وقيلَ إذَا أُمروا بالصَّلاةِ أو بالركوع لا يفعلونَ إذْ رُويَ أنه نزلَ حينَ أُمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيفاً بالصَّلاةِ فقالُوا لا نجي فإنَّها مسبَّةً علينا فقالَ عليه الصلاة والسلام لا خيرَ في دينٍ ليس فيه ركوعٌ ولا سجودٌ وقيلَ هُو يومَ القيامةِ حينَ يُدعونَ إلى السجودِ فَلا يستطيعونَ(9/83)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
وفيه دلالة على أنه الكفار مخاطبون بالفروع في حقِّ المؤاخذةِ(9/83)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ
أي بعدَ القرآنِ الناطقِ بأحاديثَ الدارينِ وأخبارِ النشأتينِ على نمطٍ بديعٍ مُعجزٍ مؤسسٍ على حججٍ قاطعةٍ وبراهينَ ساطعةٍ
يُؤْمِنُونَ
إذَا لم يؤمنوا به وقرىء تؤمنون على الخطابِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ المرسلات كتبَ لَهُ أنَّه ليسَ من المشركين(9/83)
78 سورة النبأ (1 2)
سورة النبأ مكية وآياتها اربعون
بسم الله الرحمن الرحيم(9/84)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)
عَمَّ
أصله عَمَّا فحذفَ منه الألفُ إمَّا فرقاً بينَ ما الاستفهاميةِ وغيرِها أو قصداً للخفةِ لكثرةِ استعمالِها وقد قُرِىءَ على الأصلِ وما فيهَا منَ الابهام للايذان بفخامة شأن المسؤل عنْهُ وهولِهِ وخروجِه عنْ حدودِ الأجناسِ المعهودةِ أيْ عنْ أيِّ شيءٍ عظيمٍ الشأنِ
يَتَسَاءلُونَ
أيْ أهلُ مكةَ وكانُوا يتساءلونَ عن البعثِ فيما بينهم ويخوضونَ فيه إنكاراً واستهزاءً لكنْ لا على طريقةِ التساؤلِ عن حقيقتِه ومسمَّاهُ بلْ عن وقوعِه الذي هو حالٌ من أحوالِه ووصفٌ من أوصافِه فإنَّ مَا وإنْ وضعتْ لطلبِ حقائقِ الأشياءِ ومسمياتِ أسمائِها كما في قولك ما الملَكُ وما الروحُ لكنَّها قد يُطلب بها الصفةُ والحالُ تقولُ ما زيدٌ فيقال عالمٌ أو طبيبٌ وقيل كانُوا يسألونَ عنه الرسولَ صلى الله عليه وسلم والمؤمنينَ استهزاءً كقولِهم يتداعونهم اي يدعونهم وتحقيقُه أنَّ صيغةَ التفاعلِ في الأفعالِ المتعديةِ موضوعة لإفادة صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يصير كل واحدٍ من ذلك فاعلا ومفعولا معاً لكنَّه يرفعُ بإسنادِ الفعلِ إليه ترجيحاً لجانبِ فاعليتِه ويحالُ بمفعوليتِه على دلالةِ العقلِ كما في قولك تراءى القوم أي رأى كلُّ واحد منهم الآخَرَ وقد تجردَ عن المعنى الثاني فيراد بها مجردُ صدورِ الفعلِ عن المتعددِ عارياً عن اعتبارِ وقوعِه عليهِ فيُذْكر للفعلِ حينئذٍ مفعولٌ متعدد كمَا في المثالِ المذكورِ أو واحد كما في قولِك تراءوا الهلالَ وقد يحذفُ لظهورهِ كما فيما نحن فيه فالمَعْنى عن أيِّ شيءٍ يسألُ هؤلاءِ القومُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم والمؤمنينَ وربَّما تجردَ عن صدور الفعل عن المتعدد أيضاً فيرادُ بها تعددُه باعتبارِ تعددِ متعلَّقِه مع وحدةِ الفاعلِ كما في قولِه تعالَى فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تتمارى وقولُه تعالى(9/84)
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)
عَنِ النبإ العظيم
بيانٌ لشأن المسؤل عنه اثر تفخيمه بابهام أمرِه وتوجيِه أذهانِ السامعينَ نحوَه وتنزيلِهم منزلَه المستفهمينَ فان ايراده على طريقةِ الاستفهامِ من علاَّمِ الغيوبِ للتنبيهِ على أنَّه لانقطاعِ قرينِه وانعدامِ نظيرِه خارجٌ عن دائرةِ علومِ الخلقِ خليقٌ بأنْ يُعتنى بمعرفتِه ويُسألَ عنْهُ كأنَّه قيلَ عنْ أيِّ شيءٍ يتساءلُون هلْ أُخبرِكُم بِه ثمَّ قيلَ بطريقِ الجوابِ عن النبأِ العظيمِ على منهاجِ قولِه تعالى لّمَنِ الملك اليوم(9/84)
78 سورة النبأ (3 4)
لِلَّهِ الواحد القهار فعنْ متعلقةٌ بما يدلُّ عليهِ المذكورُ من مضمرٍ حقُّه أنْ يقدرَ بعدَها مسارعةً إلى البيانِ ومراعاةً لترتيبِ السؤالِ هذا هو الحقيقُ بالجزالةِ التنزيليةِ وقد قيلَ هي متعلقةٌ بالمذكورِ وعمَّ متعلقٌ بمضمرٍ مفسرٍ بهِ وأيَّد ذلكَ بأنَّه قُرىء عَمَّه والأظهرُ أنَّه مبنيٌّ على إجراءِ الوصل مْجرى الوقفِ وقيل عن الأُولى للتعليل كأنَّه قيلَ لمَ يتساءلون عن النبأ العظيم وقيل قبل عن الثانية استفهام مضمر كأنه قيل عم يتساءلون أعن النبأ العظيم والنبأُ الخبرُ الذي له شأنٌ وخطرٌ وقد وصفَ بقولِه تعالى(9/85)
الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
الذى هم فيه مختلفون
بعد وصفِه بالعظيم تأكيداً لخطره إثرَ تأكيدٍ وإشعاراً بمدار التساؤلِ عنه وفيهِ متعلقٌ بمختلفونَ قدم عليه اهتماماً به ورعايةً للفواصلِ وجعلُ الصلةِ جملةً اسميةً للدلالةِ على الثباتِ أي هُم راسخونَ في الاختلافِ فيهِ فمِن جازمٍ باستحالته يقولُ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وشاكَ يقول ما ندري ما الساعة إن نظن إلاَّ ظنا وما نحن بمستقينين وقيلَ منهُم من ينكرُ المعادَينِ معاً كهؤلاءِ ومنهُم مَنْ ينكرُ المعادَ الجسمانيَّ فقطَّ كجمهور النَّصارى وقد حُملَ الاختلافُ على الاختلافِ في كيفيةِ الإنكارِ فمنْهُم مَنْ ينكرُه لإنكارِه الصانعَ المختارَ ومنهُم مَنْ يُنكرهُ بناء على استحالة اعادة المعدومِ بعينه وحملُه على الاختلاف بالنَّفي والإثباتِ بناءً على تعميم التساؤلِ لفريَقيْ المسلمينَ والكافرينَ على أنَّ سؤالَ الأولينَ ليزدادُوا خشيةً واستعداداً وسؤالَ الآخرينَ ليزدادُوا كُفراً وعناداً يردُّه قولُه تعالى(9/85)
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
الخ فإنَّه صريحٌ في أنَّ المرادَ اختلافُ الجاهلينَ بهِ المنكرينَ له إذْ عليه يدورُ الردعُ والوعيدُ لا على خلاف المؤمنينَ لهم وتخصيصُهما بالكفرة بناءً على تخصيص ضميرِ سيعلمونَ بهم مع عموم الضميرينِ السابقينِ للكلِّ ممَّا ينبغِي تنزيهُ التنزيلِ عن أمثالِه هَذا ما أدَّى إليه جليلُ النظرِ والذي يقتضيِه التحقيقُ ويستدعيهِ النظرُ الدقيقُ أنْ يحملَ اختلافُهم على مخالفتِهم للنبيِّ عليه الصلاة والسلام بأن يُعتبرَ في الاختلافِ محضُ صدور الفعل عن المتعدد حسبَما ذُكرَ في التساؤلِ فإنَّ الافتعالَ والتفاعلَ صيغتانِ مُتآخيتانِ كالاستباقِ والتسابقِ والانتضالِ والتناضلِ إلى غيرِ ذلكَ يجري في كل منهما ما يَجْري في الأُخرى لا على مخالفةِ بعضهِم لبعضٍ من الجانبينِ لأنَّ الكُلَّ وإنِ استحقَ الردعَ والوعيدَ لكنَّ استحقاقَ كلِّ جانبٍ لهُما ليسَ لمخالفتِه للجانب الآخر اذ لاحقية في شيء منها حتَّى يستحقَّ مَن يخالفُه المؤاخذة بل لمخالفته له عليه الصلاة والسلام فكَلاَّ ردعٌ لهم عن التساؤلِ والاختلافِ بالمعنيينِ المذكورينِ وسيعلمونَ وعيدٌ لهم بطريقِ الاستئنافِ وتعليلٌ للردعِ والسينُ للتقريبِ والتأكيدِ وليسَ مفعولُه ما يني عنه المقامُ من وقوعِ ما يتساءلونَ عنه ووقوعِ ما يختلفونَ فيهِ كما في قولِه تعالى وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ إلى قولِه تعالى لِيُبَيّنَ لَهُمُ الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ الآيةَ فإنَّ ذلكَ عارٍ عن صريحِ الوعيدِ بلْ هُو عبارةٌ عمَّا يلاقونَهُ من فنونِ الدَّواهِي والعقوباتِ والتعبيرُ عن لقائِها بالعلمِ(9/85)
78 سورة النبأ (5 10)
لوقوعِه في معرضِ التساؤلِ والاختلافِ والمَعْنى ليرتدعُوا عمَّا هُم عليهِ فإنَّهم سيعلمونَ عمَّا قليل حقيقةَ الحالِ إذا حلَّ بهم العذابُ والنكالُ وقولُه تعالى(9/86)
ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
تكريرٌ للردعِ والوعيدُ للمبالغةِ في التأكيدِ والتشديدِ وثمَّ للدَّلالة على أنَّ الوعيدَ الثَّاني أبلغُ وأشدُّ وقيلَ الأولُ عند النزعِ والثانِي في القيامةِ وقيلَ الأولُ للبعثِ والثاني للجزاءِ وقُرِىءَ ستعلمونَ بالتاءِ على نهجِ الالتفاتِ الى الخطاب المواقف لما بعده من الخطاباتِ تشديداً للردعِ والوعيدِ لا على تقديرِ قُل لهم كما تُوُهم فإنَّ فيهِ من الإخلالِ بجَزَالةِ النظمِ الكريم مالا يَخْفى وقولُه تعالَى(9/86)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)
أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا
والجبال أَوْتَاداً
الخ استئنافٌ مسوق لتحقيق النبأ المستاءل عنُهُ بتعدادِ بعضِ الشواهدِ الناطقة بحقيقه إثرَ ما نبَّه عليها بما ذُكرَ من الردع والوعيدِ ومنْ ههُنا اتضحَ أنَّ المتساءَلَ عنه هو البعثُ لا القرآنُ أو نبوةُ النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسَّلامُ كما قيلَ والهمزةُ للتقريرِ والالتفاتُ إلى الخطابِ على القراءةِ المشهورةِ للمبالغة في الإلزام والتبكيتِ والمِهادُ البساطُ والفراشُ وقُرِىءَ مَهْداً على تشبيهها بمهدِ الصبيِّ وهو ما يُمهدُ له فينوم عليه تسمية للممهود بالمصدرِ وجعَلُ الجبالِ أوتاداً لها إرساؤُها بها كما يُرسي البيتُ بالأوتادِ(9/86)
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)
وخلقناكم
عطف على المضارعِ المنفيِّ بلمْ داخلٌ في حُكمِه فإنَّه في قوةِ أمَا جعلَنا الخ أو على ما يقتضيهِ الإنكارُ التقريريُّ فإنَّه في قوَّةِ أنْ يقالَ قد جعلَنا الخ
أزواجا
اصنافا ذكرا وأنثى ليسكنَ كلٌّ من الصنفينِ إلى الآخرِ وينتظمَ أمرُ المعاشرةِ والمعاشِ ويتسنَّى التناسلُ(9/86)
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً
أي موتاً لأنَّه أحدُ التوفيينِ لَما بينهُمَا من المشاركةِ التَّامةِ في انقطاعِ أحكامِ الحياةِ وعليهِ قولُه تعالى وَهُوَ الذى يتوفاكم بالليل وقولُه تعالى الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا وقيلَ قطعاً عنِ الإحساسِ والحركةِ لإراحةِ القُوى الحيوانيةِ وازاحة كلاهما والأولُ هو اللائقُ بالمقامِ كما ستعرفه(9/86)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)
وجعلنا الليل
الذي فيهِ يقعُ النومُ غالباً
لِبَاساً
يسترُكم بظلامِه كما يسترُكم اللباسُ ولعلَّ المرادَ به ما يستر به عندَ النومِ من اللحافِ ونحوِه فإنَّ شبهَ الليلِ به أكملُ واعتبارَهُ في تحقيقِ المقصدِ أدخلُ فهو جعلَ الليلَ محلاً للنومِ الذي جْعلَ موتاً كما جعلَ النَّهارَ محلاً لليقظة(9/86)
78 سورة النبأ (11 14)
المعبرِ عنها بالحياةِ في قولِه تعالى(9/87)
وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً
أي وقتَ حياةٍ تُبعثونَ فيهِ من نومكم الذي هُو أخوُ الموتِ كَما في قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً وَجَعَلَ النهار نُشُوراً وجعلُ كونِ الليلِ لباساً عبارةٌ عن تره عن العيونِ لمنْ أرادَ هرباً منْ عدوَ أو بياتاً له أو نحوِ ذلكَ ممَّا لا مناسبةَ له بالمقامِ وكذا جعلُ النهارِ وقتَ التقلبِ في تحصيلِ المعايشِ والحوايجِ(9/87)
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً
أي سبعَ سمواتٍ قويةِ الخلقِ محكمةِ البناءِ لا يُؤثر فيها مرُّ الدهورِ وكرُّ العصورِ والتعبيرُ عن خلقها بالبناء مبنيٌّ على تنزيلِها منزلةَ القبابِ المضروبةِ على الخلقِ وتقديمُ الظرفِ على المفعولِ ليسَ لمراعاةِ الفواصلِ فقطْ بلْ للتشويقِ إليهِ فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً له فإذا وردَ عليها تمكّنَ عندَها فضلُ تمكنٍ(9/87)
وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً
هذا الجعلُ بمعنى الإنشاءُ والإبداعِ كالخلقِ خَلا أنه مختصٌّ بالإنشاءِ التكوينيِّ وفيه مَعنى التقديرِ والتسويةِ وهذا عامٌّ له كَما في الآيةِ الكريمةِ وللتشريعيِّ أيضاً كَما في قوله تعالى مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ الخ وقولِه تعالى لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا وأياما كانَ ففيهِ إنباءٌ عن ملابسةِ مفعولِه بشيءٍ آخرَ بأنْ يكونَ فيهِ أولَهُ أوْ مِنْهُ أو نحوُ ذلكَ ملابسةٌ مصحِّحةٌ لأنْ يتوسَّطَ بينهُمَا شيءٌ من الظروفِ لغواً كانَ أو مستقراً لكنْ لا على أنْ يكونَ عُمدةً في الكلامِ بل قيداً فيهِ كما في قوله تعالى وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وقولُه تعالَى وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وقولِه تعالى واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً الآيةَ فإن كلَّ واحدٍ من هذهِ الظروفِ إمَّا متعلقٌ بنفسِ الجعلِ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعولِه تقدمتْ عليه لكونِه نكرةً ايا ما كانَ فهو قيدٌ في الكلامِ حتَّى إذا اقتضَى الحالُ وقوعَه عمدةً فيه يكون الجمل متعدياً إلى اثنينِ هُو ثانيهما كما في قولِه تعالى يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى آذانهم ورُبَّما يَشتبِهُ الأمرُ فيُظن أنَّه عمدةٌ فيهِ وهو في الحقيقة قيدٌ بأحدِ الوجهينِ كما سلفَ في قولِه تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً والوهَّاجُ الوقَّادُ المتلألىءُ من وهجتِ النارُ إذا أضاءتْ أو البالغُ في الحرارةِ من الوهجِ والمرادُ به الشمسُ والتعبيرُ عنها بالسراجِ من روادفِ التعبيرِ عن خلقِ السمواتِ بالبناءِ(9/87)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)
وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات
هي السحائبُ إذا أَعْصرتْ أي شَارفتْ أنْ تعصُرَها الرياحُ فتمطرَ كما في أحصدَ الزرعُ إذا حانَ له أنْ يُحصدَ ومنه أعصرتِ الجاريةُ إذا دنتْ أنْ تحيضَ أو الرياحُ التي حانَ لها أن تعصُرَ السحابَ وقُرِىءَ بالمعصرات ووجهُ ذلكَ أنَّ الإنزالَ حيثُ كانَ من المعصراتِ سواء أريدَ بها السحائبَ أو الرياحَ فقد كانَ بها كما يقالُ أعطاهُ من يدِه وبيدِه وقد فسرتِ المعصراتُ بالرياحِ ذواتِ الأعاصيرِ ووجههُ أنَّ الرياحَ هي التي(9/87)
78 سورة النبأ (15 17)
تنشيء السحاب وتدر أخلافَه فصلحتْ أنْ تجعلَ مبتدأً للإنزالِ
مَآءً ثَجَّاجاً
أي مُنصبَّاً بكثرةٍ يقالُ ثجَّ الماءُ أي سالَ بكثرةٍ وثجَّه أيْ أسالَه ومنه قولُه عليهِ الصَّلاةُ والسلام افضل الحَجِّ العَجُّ والثَّجُّ أي رفعُ الصوتِ بالتلبيةِ وصبُّ دماء الهدي وقرىء ثجاجا بالحاءِ بعدَ الجيمِ قالُوا مثاجحُ الماءِ مصابُّه(9/88)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15)
لِّنُخْرِجَ بِهِ
بذلك الماءِ
حَبّاً
يقتاتُ كالحنطةِ والشعيرِ ونحوهِما
وَنَبَاتاً
يعتلفُ كالتبنِ والحشيشِ وتقديمُ الحبِّ مع تأخرهِ عن النباتِ في الإخراجِ لأصالتِه وشرفِه لأنَّ غالبَهُ غذاءُ الإنسانِ(9/88)
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
وجنات
الجنَّةُ في الأصلِ هي المرةُ من مصدرِ جَنَّه إذا سترَهُ تُطلق على المخل والشجرِ المتكاثفِ المُظللِ بالتفافِ أغصانِه قالَ زُهيرِ بنِ أبي سُلْمى ... كأنَّ عيني في غَربي مقتلة ... منَ النواضِحِ تَسقِي جنَّةً سُحُقاً ... وعَلَى الأرضِ ذاتُ الشجرِ قال الفَرَّاءُ الجنةُ ما فيهِ النخيلُ والفِردوسُ ما فيه الكَرْم والأولُ هو المرادُ وقولُه تعالَى
أَلْفَافاً
أي ملتفةً تداخلَ بعضُها في بعضٍ قالُوا لا واحدَ له كالأوزاعِ والأخيافِ وقيلَ الواحدُ لِفٌّ كَكِنَ وأكنانٍ أو لفيفٌ كشريفٍ وأشرافٍ وقيلَ هو جمعُ اف جمع لفَّاءَ كخضر وخضراءَ وقيلَ جمعُ ملتفةٍ بحذفِ الزوائدِ واعلم أنَّ فيما ذكر من أفعالَه عزَّ وجلَّ دلالةٌ على صحة البعثِ وحقِّيتِه من وجوه ثلاثةٍ الأولُ باعتبار قدرتِه تعالَى فإنَّ مَن قدَر على إنشاءِ هذهِ الأفعالِ البديعةِ من غيرِ مثالِ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيهِ كانَ على الإعادةِ أقدرَ وأقوى الثَّانِي باعتبار علمِه وحكمتِه فإنَّ من أبدعَ هذه المصنوعاتِ على نمطِ رائع مستتبعٍ لغاياتِ جليلةٍ ومنافعَ جميلةٍ عائدة الى الخلق يتسحيل ان ينفيها بالكلية ولا يجعلَ لها عاقبةً باقيةً والثالثُ باعتبار نفسِ الفعلِ فإنَّ اليقظةَ بعد النومِ أنموذجٍ للبعث بعد الموتِ يشاهدونَها كلَّ يومٍ وكَذا إخراجُ الحبِّ والنباتِ من الأرض الميتةِ يعاينوه كلَّ حينٍ كأنَّه قيلَ ألم نفعلْ هذهِ الأفعالَ الآفاقيةَ والأنفسيةَ الدالةَ بفنون الدلالاتِ على حقية البعثِ الموجبةِ للإيمان به فما لكُم تخوضونَ فيه إنكاراً وتتساءلونَ عنه استهزاءً وقولُه تعالَى(9/88)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)
إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ ميقاتا
شروعٌ في بيان سرِّ تأخيرِ ما يتساءلونَ عنه ويستعجلونَ به قائلينَ متى هذا الوعد إِن كنتُم صادقينَ ونوعُ تفصيلٍ لكيفيةِ وقوعَه وما سيلقَونه عند ذلكَ من فُنون العذابِ حسبما جَرى به الوعيدُ إجمالاً أي إنَّ يومَ فصلِ الله عزَّ وجلَّ بينَ الخلائقِ كان في علمِه وتقديرِه ميقاتاً وميعاداً لبعثِ الأولينَ والآخرينَ وما يترتبُ عليهِ من الجزاءِ ثواباً وعقاباً لا يكادُ يتخطاهُ بالتقدمِ والتأخرِ وقيل حداً توقتُ به الدُّنيا وتنتهي عندَهُ أو حدا للخلائق ينتهون فيهِ ولا ريبَ في أنَّهما بمعزلٍ من التقريب الذي أشيرَ إليه على أنَّ الدنيا تنتهي عند النفخةِ الاولى(9/88)
78 سورة النبأ (18 19)
وقوله تعالى(9/89)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور
أي نفخةً ثانيةً بدلٌ من يومِ الفصلِ أو عطفُ بيانٍ له مفيد لزيادةِ تفخيمِه وتهويلِه ولا ضيرَ في تأخرِ الفصلِ عن النفخِ فإنَّه زمانٌ ممتدٌّ يقعُ في مبدئه النفخةُ وفي بقيته الفصلُ ومباديه وآثارُه والصُّور هُو القَرْنُ الذي ينفخُ فيه إسرافيلُ عليه السَّلامُ عنْ أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لمَّا فرغَ الله تعالى مِن خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ خلقَ الصُّور فأعطاهُ إسرافيلَ فهُو واضُعه على فيهِ شاخصٌ بصرُه إلى العرش متى يؤمر بهِ فينفخُ فيه نفخةً لا يبقى عندَها في الحياةِ غيرُ مَن شاءَ الله تعالى وذلكَ قولُه تعالى وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فى السموات ومن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله ثم يُؤمر بأُخرى فينفخُ نفخَّة لا يبقَى معها ميتٌ إلا بُعث وقامَ وذلكَ قولُه تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ والفاء في قوله تعالى
فَتَأْتُونَ
فصيحةٌ تفصحُ عن جملةٍ قد حُذفتْ ثقةً بدلالهِ الحالِ عليها وإيذانا بغاية سرعةِ الإتيانِ كمَا في قوله تعالى فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق أي فتبعثونَ من قبورِكم فتأتونَ إلى الموقفِ عَقيبَ ذلكَ من غير لبثٍ أصلا
افواجا
اي أمماً كلُّ أمةٍ معَ إمامِها كما في قولِه تعالى يوم ندعو كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم أو زمراً وجماعاتٍ مختلفةَ الأحوالِ متباينةَ الأوضاعِ حسبَ اختلافِ أعمالِهم وتباينِها عن معاذٍ رضيَ الله عنه أنَّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم يا معاذُ سألتَ عن أمرٍ عظيمٍ من الأمورِ ثم أرسلَ عينيهِ وقالَ تحشرُ عشرةُ أصنافٍ من أمَّتي بعضُهم على صورةِ القردةِ وبعضُهم على صورةِ الخنازيرِ وبعضُهم منكسونَ أرجلُهم فوقَ وجوهِهم يُسحبونَ عليها وبعضُهم عميٌ وبعضُهم صمٌّ بكم وبعضهم يمضغون ألسنتَهُم فهيَ مدلاَّةٌ على صدورِهم يسيلُ القيحُ من أفواههم يتقذرهُم أهلُ الجمعِ وبعضُهم مقطعةٌ أيديهم وأرجلُهم وبعضُهم مصلَّبونَ على جذوعٍ من نارٍ وبعضُهم أشدّ نتناً من الجيف وبعضُهم يلبسونَ جباباً سابغةً من قطرانٍ لازقةً بجلودِهم فأمَّا الذينَ على صورةِ القردةِ فالقتَّاتُ من الناسِ وأمَّا الذين على صورة الخنازير فأهلُ السحتِ وأمَّا المنكسونَ على وجوهِهم فأكلةُ الرِّبا وأما العميُ فالذينَ يجورونَ في الحكمِ وأمَّا الصمُّ البكم فالمعجبونَ بأعمالِهم وأمَّا الذينَ يمضغُون ألسنتَهُم فالعلماءُ الذينَ خالفتْ أقوالُهم أعمالَهم وأما الذينَ قُطعتْ أيديهم وأرجلُهم فهم الذين يؤذونَ جيرانَهم وأما المصلبونَ على جذوعٍ من نارٍ فالسعاةُ بالناسِ إلى السلطانِ وأمَّا الذينَ هم أشدُّ نتناً من الجيفِ فالذينَ يتبعون الشهواتِ واللذاتِ ومنعُوا حقَّ الله تعالى في أموالِهم وأما الذينَ يلبسونَ الجبابَ فأهلُ الكبرِ والفخرِ والخُيلاَءِ(9/89)
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)
وَفُتِحَتِ السماء
عطفٌ على ينفخُ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التحققِ وقُرِىءَ فُتِّحتْ بالتشديدِ وهو الأنسبُ بقولِه تعالى
فَكَانَتْ أبوابا
أي كثرت ابوابها المفتح لنزولِ الملائِكةِ نزولاً غيرَ مُعتادٍ حتى صارتْ كأنَّها ليستْ إلاَّ أبواباً مفتحةً(9/89)
78 سورة النبأ (20 22)
كقوله تعالى وفجرنا الارض عُيُوناً كأنَّ كلها عيونٌ متفجرةٌ وهو المرادُ بقولِه تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وهو الغَمامُ الذي ذُكر في قوله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله أي أمرُه وبأسه فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمامِ والملائكةِ وقيلَ الأبوابُ الطرقُ والمسالكُ أي تكشط فينتفح مكانُها وتصيرُ طرقاً لا يسدُّها شيءٌ(9/90)
وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
وسُيرتِ الجبالُ
أي في الجوِّ على هيآتها بعد قلعِها من مقارِّها كما يعرب عنه قوله تعالى وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب أي تَرَاها رأيَ العينِ ساكنةً في أماكِنها والحالُ أنَّها تمرُّ مرَّ السحابِ الذي يسيرُه الرِّياح سيراً حثيثاً وذلكَ أنَّ الأجرامَ العظامَ إذا تحركتْ نحواً من الأنحاءِ لا تكادُ يتبينُ حركتُها وإنْ كانتْ في غايةِ السرعةِ لا سيمَّا من بعيدٍ وعليهِ قولُ مَنْ قالَ بأرعنَ مثلِ الطَّوْدِ تحسَب أنَّهم وقوفٌ لحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ وقد أُدمج في هذا التشبيهِ تشبيهُ حالِ الجبالِ بحالِ السَّحابِ في تخلخل الأجزاءِ وانتفاشِها كما ينطق به قوله تعالى وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش يبدلُ الله تعالى الأرضَ ويغيرُ هيأتَها ويسيرُ الجبالُ على تلكَ الهيئةِ الهائلةِ عند حشرِ الخلائقِ بعد النفخةِ الثانيةِ ليشاهدُوها ثم يفرقها في الهواء وذلك قولُه تعالى
فَكَانَتْ سَرَاباً
أي فصارتْ بعدَ تسييرِها مثلَ السرابِ كقولِه تعالى وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هباء منبثا أي غُباراً مُنتشراً وهيَ وان اندكت ونصدعت عند النَّفخةِ الأولى لكنْ تسييرُها وتسويِةُ الأرضِ إنَّما يكونانِ بعد النَّفخةِ الثانيةِ كما نطق به قوله تعالى ويسألونك عن الجبال فقل ينفسها رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صفصفا لا ترى فيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى وقولُه تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسموات وبرزوا الله الواحد الْقَهَّارِ فإنَّ اتّباعَ الدَّاعِي الذي هُو إسرافيلُ عليهِ السَّلام وبروزُ الخلقِ لله تعالى لا يكونُ إلا بعدَ النَّفخةِ الثَّانيةِ(9/90)
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21)
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً
شروعٌ في تفصيل أحكامِ الفصلِ الذي أضيفَ إليه اليوم اثر بيان هو له ووجهُ تقديمِ بيانِ حالِ الكفارِ غنيٌّ عن البيان والمرصادُ اسمٌ للمكان الذي يُرصد فيه كالمضمارِ الذي هُو اسمٌ للمكان الذي يُضمَّر فيه الخيلُ والمنهاجُ اسمٌ للمكانِ الذي ينهجُ فيهِ أيْ أنَّها كانتْ في حُكمِ الله تعالى وقضائِه موضعَ رصدٍ يرصدُ فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها(9/90)
لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)
للطاغين
متعلق بمضمر هو إمَّا نعتٌ لمرصاداً أي كائناً للطاغينَ وقولُه تعالَى
مآبا
بدلٌ منه أيْ مرجعاً يرجعونَ إليهِ لا محالةَ وإمَّا حالٌ مِنْ مآبا قُدِّمت عليهِ لكونِه نكرةٌ ولو تأخرتْ لكانتْ صفةً له وقد جُوِّزَ أنْ يتعلقَ بنفسِ مآبا على أنَّها مرصادٌ للفريقينِ مآبٌ للكافرينِ خاصَّة ولا يَخْفى بُعدُه فإنَّ المتبادرَ من كونِها مرصاداً لطائفةٍ كونُهم معذبينَ بَها وقد قيلَ إنَّها مرصادٌ لأهل الجنةِ يرصدُهم الملائكةُ الذين يستقبلونَهم عندَها لأنَّ مجازَهم عليها وهي مآب للطاغين(9/90)
78 سورة النبأ (23 29) وقيل المرصاد صيغة مبالغة من الرصد والمعنى أنها مجدة في ترصد الكفار لئلاَّ يشذَّ منُهم أحدٌ وقرىء أنَّ بالفتحِ على تعليلِ قيامِ الساعةِ بأنَّها مرصادٌ للطاغينَ(9/91)
لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
لابثين فِيهَا حالٌ مقدرةٌ من المستكنِّ في للطاغينَ وقُرىءَ لبثينَ وقوله تعالى
أَحْقَاباً ظرفٌ للبثِهم أي دُهُوراً متتابعةً كلما مضَى حقبٌ تبعَهُ حقبٌ آخرُ إلى غيرِ نهايةٍ فإن الحقبَ لا يكادُ يستعملُ إلا حيثُ يرادُ تتابعُ الأزمنةِ وتواليها فليسَ فيه ما يدلُّ على تَنَاهِي تلكَ الأحقابِ ولو أُريدَ بالحقب ثمانونَ سنةً أو سبعونَ ألفَ سنةٍ وقولُه تعالى(9/91)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً ولا شرابا إلا حميم وَغَسَّاقاً جملةٌ مبتدأه أخبرَ عنهم بأنهم لا يذوقون فيها شيئاً ما من بردَ ورَوْحٍ ينفسُ عنُهم حر النار ولا شرابٍ يُسكِّنُ من عطشِهم ولكنْ يذوقونَ فيها حميماً وغسَّاقاً وقيلَ البردُ النومُ وقرىء غساقا بالتخفيف وكلاهُما ما يسيلُ من صديدِهم(9/91)
جَزَاءً وِفَاقًا (26)
جَزَاء أي جُوزوا بذلكَ جزاءً
وفاقا ذَا وفاقٍ لأعمالِهم أو نفسُ الوفاقِ مبالغةٌ أو وافقَها وِفاقاً وقُرِىءَ وَفَاقاً على أنَّه فَعالٌ من وَفَقُه كذا أي لاقَهُ(9/91)
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)
إنهم كانوا الا يَرْجُونَ حِسَاباً تعليلٌ لاستحقاقِهم الجزاءَ المذكورَ أي كانُوا لا يخافونَ أنْ يُحاسبُوا بأعمالهم(9/91)
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)
وكذبوا يآياتنا الناطقةِ بذلكَ
كِذَّاباً أي تكذيباً مُفرطاً ولذلكَ كانُوا مصرينَ على الكفرِ وفنونِ المَعَاصِي وفِعَّالٌ من بابِ فَعَّلَ شائعٌ فيما بينَ الفصحاء وقرىء بالتخفيف وهو مصدرُ كذبَ قالَ فَصدَقتُها وَكذَبتُها والمرءُ ينفعُهُ كِذَابُه وانتصابُه إمَّا بفعلِه المدلولِ عليهِ بكذبوا أي وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً وإما بنفس كذبوا لتضمينه معنى كذَّبوا فإنَّ كلَّ مَنْ يكذبُ بالحقِّ فهو كاذبٌ وقُرِىءَ كُذَّاباً وهو جَمعُ كاذبَ فانتصابُه على الحاليةِ أي كذَّبُوا بآياتِنا كاذبينَ وقد يكونُ الكذَّابُ بمعنى الواحدِ البليغِ في الكذبِ فيجعلُ صفةً لمصدرِ كذبوا أي تكذيبا كذابا مُفرطاً كذبُه(9/91)
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
وَكُلَّ شىْء من الأشياءِ التي منْ جُملتِها أعمالُهم وانتصابُه بمضمرٍ يفسرُه
أحصيناه أي حفظناهُ وضبطناهُ وقُرِىءَ(9/91)
79 سورة النبأ (30 36) بالرفعِ على الابتداءِ
كتابا مصدرٌ مؤكدٌ لأحصيناهُ لما أنَّ الإحصاءَ والكتبةَ من وادٍ واحدٍ أو لفعلِه المقدرِ أو حالٌ بمعنى مكتوباً في اللوحِ أو في صحفِ الحفظةِ والجملةُ اعتراضٌ وقولُه تعالى(9/92)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً مسببٌ عن كفرِهم بالحسابِ وتكذيبِهم بالآياتِ وفي الالتفاتِ المنبىءِ عن التشديدِ في التهديدِ وإيرادِ لَنْ المفيدةِ لكونِ تركِ الزيادةِ من قبيل مالا يدخلُ تحتَ الصحةِ من الدلالةِ على تبالُغِ الغضبِ مالا يخفى وقد روى النبي عليه الصلاةَ والسلام أنَّ هذهِ الآيةِ أشدُّ ما في القرآنِ على أهلِ النَّارِ(9/92)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً شروعٌ في بيانِ محاسنِ أحوالِ المُؤمنين إثرَ بيانِ سوءِ أحوالِ الكفرةِ أي إنَّ للذينَ يتقونَ الكفرَ وسائرَ قبائحِ أعمالِ الكفرةِ فوزاً وظفراً بمباغيهم أو موضعَ فوزٍ وقيلَ نجاةً ممَّا فيه أولئكَ أو موضعَ نجاةٍ وقولُه تعالى(9/92)
حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)
حَدَائِقَ وأعنابا أيْ بساتينَ فيها أنواعٌ الأشجارِ المثمرةِ وكروماً بدلٌ منْ مفازاً(9/92)
وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)
وَكَوَاعِبَ أي نساءٌ فلكتْ ثُديهنَّ وهُنَّ النَّواهدُ
أَتْرَاباً أي لداتٍ(9/92)
وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)
وَكَأْساً دِهَاقاً أي مُترعةً يقال أدهقَ الحوضَ أي ملأه(9/92)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)
لايسمعون فِيهَا أي في الجنةِ وقيل في الكأسِ
لَغْواً ولا كذابا أي لا ينطقونَ بلغوٍ ولا يكذب بعضاً وقُرِىءَ كِذاباً بالتخفيفِ أي لا يكذبُه أو لا يكاذبُه(9/92)
جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
جَزَاء مّن رَّبّكَ مصدرٌ مؤكدٌ منصوبٌ بمعنى أنَّ للمتقينَ مفازاً فإنه في قوَّةِ أنْ يقالَ جازَى المتقينَ بمفازٍ جزاءً كائناً من ربِّك والتعرّضُ لعنوانِ الربوبيةِ المُنْبئة عن التبليغِ إلى الكمالِ شيئاً فشيئاً مع الإضافة إلى ضميره عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مزيدُ تشريف له صلى الله عليه وسلم
عطاء أي تفيضلا وإحساناً منه تعالَى إذْ لا يجبُ عليهِ شيءٌ وهو بدلٌ من جزاءً
حساب صفةٌ لعطاءً بمعنى كافياً على مصدرٌ أقيمَ مقامَ الوصفِ أو بُولغَ فيه من أحسبهُ الشيءُ إذا كفاهُ حتَّى قال حَسْبي وقيلَ على حسبِ أعمالِهم وقُرىءَ حِسَّاباً بالتشديدِ على أنَّه بمعنى المتحسب كالدراك بمعنى المدرك(9/92)
79 سورة النبأ (37 38)(9/93)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
رب السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بدلٌ من ربِّك وقولُه تعالَى
الرحمن صفةٌ له وقيلَ صفةٌ للأولِ وأيا ما كان ففي ذكرِ ربوبيتِه تعالى للكلِّ ورحمتِه الواسعةِ إشعارٌ بمدارِ الجزاءِ المذكورِ وقوله تعالى
لايملكون مِنْهُ خِطَاباً استئنافٌ مقررٌ لما أفادَهُ الربوبيةُ العامةُ من غايةِ العظمةِ والكبرياءِ وإستقلاله تعالى بما ذُكر من الجزاءِ والعطاءِ من غير أن يكون لأحدٍ قدرةٌ عليهِ وقُرِىءَ برفعِهما فقيلَ على أنَّهما خبرانِ لمبتدأٍ مضمرٍ وقيلَ الثَّانِي نعتٌ للأولِ وقيلَ الأَولُ مبتدأٌ والثاني خبرُهُ ولا يملكونَ خبرٌ آخرُ أو هو الخبرُ والرحمنُ صفةٌ للأولِ وقيلَ لا يملكونَ حالٌ لازمةٌ وقيلَ الأولُ مبتدأٌ والرحمنُ مبتدأٌ ثان ولايملكون خبرُه والجملةُ خبرٌ للأولِ وحصلَ الربطَ بتكريرِ المبتدأِ بمعناهُ على رأي مَنْ يقولُ بهِ والأوجهُ أنْ يكونَ كلاهُما مرفوعاً على المدحِ أو يكونَ الثانِي نعتاً للأولِ ولا يملكونَ استئنافاً على حالِه ففيهِ ما ذُكر من الإشعارِ بمدار الجزاء والعطاءِ كما في البدليةِ لما أنَّ المرفوعَ أو المنصوبَ مدحاً تابعٌ لما قبله معنى إن كان مَنقطعاً عنه إعراباً كما فُصِّل في قولِه تعالى الذين يؤمنون بالغيب من سورةِ البقرةِ وقُرىء بجرِّ الأَولِ على البدليةِ ورفعِ الثانِي على الابتداءِ والخبرُ ما بعدَهُ أو على أنَّه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ وما بعدَهُ استئنافٌ أو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ وضميرُ لا يملكونَ لأهلِ السمواتِ والأرضِ أي لا يملكون أنْ يخاطبُوه تعالَى من تلقاءِ أنفسِهم كما ينبىءُ عنه لفظُ الملكِ خطاباً مَا في شيءٍ مَا والمرادُ نفيُ قدرتِهم على أنْ يخاطبُوه تعالَى بشيءٍ من نقص العذابِ أو زيادةِ الثوابِ من غيرِ إذنِه على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وقيلَ ليسَ في أيديهم ممَّا يخاطب الله به يأمر به في أمرِ الثوابِ والعقابُ خطابٌ واحدٌ يتصرفونَ فيه تصرفَ الملاَّكِ فيزيدونَ فيهِ أو ينقصونَ منْهُ(9/93)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً قيلَ الروحُ خلقٌ أعظمُ من الملائكةِ وأشرفُ منهم وأقربُ من ربِّ العالمين وقيل هم مَلكٌ ما خلقِ الله عزَّ وجلَّ بعدَ العرشِ خلقاً أعظمَ منْهُ عنِ ابن عباس رضي الله عنهُمَا أنَّه إذا كانَ يومُ القيامةِ قامَ هو وحدَهُ صَفّاً والملائكةُ كلُّهم صفاً وعنْهُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ الروحُ جندٌ من جنودِ الله تعالى ليسوا ملائكة لهم رؤس وأيدٍ وأرجلٌ يأكلونَ الطعامَ ثُمَّ قرأَ يومَ يقومُ الروحُ الآيةَ وهذَا قولُ أبي صالحٍ ومجاهدٍ قالُوا ما ينزلُ من السماءِ ملكٌ إلا ومعه واحدٌ منُهم نقلَهُ البغويُّ وقيل هم أشرافُ الملائكةُ وقيلَ هم حفظة على الملائكة وقيلَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ وصفَّا حالٌ أي مصطفينَ قيلَ هما صفَّانِ الروحُ صفٌّ واحدٌ أو متعددٌ والملائكةُ صفٌّ وقيلَ صفوفٌ وهو الأفق لقولِه تعالى والملك صَفّاً صَفّاً وقيلَ يقومُ الكُلُّ صفّاً وَاحِداً ويومَ ظرفٌ لقولِه تعالى
لاَّ يَتَكَلَّمُونَ وقوله تعالى
إِلاَّ مِن أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً بدلٌ من ضميرِ لا يتكلمونَ العائدِ إلى أهلِ السمواتِ والأرضِ الذينَ من جُملتهم الروحُ والملائكةُ وذكرُ قيامِهم واصطفافِهم لتحقيق عظمةِ سلطانِه وكبرياءِ ربوبيتِه وتهويلِ يومِ البعثِ الذي عليهِ مدارُ الكلامِ من(9/93)
79 سورة النبأ (39 40) مطلعِ السُّورةِ الكريمةِ إلى مقطعِها والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ قولِه تعالى لا يملكون الخ ومؤكد له على مَعْنى أنَّ أهلَ السمواتِ والأرضِ إذَا لم يقدرُوا يومئذٍ على أنْ يتكلمُوا بشيءٍ من جنسِ الكلامِ إلاَّ مَنْ أذنَ الله تعالى له منُهم في التلكم وقال ذلكَ المأذونُ له قولاً صواباً أي حقّاً فكيفَ يملكون خطابَ ربِّ العزةِ مع كونه أخصَّ من مطلق الكلامُ وأعزَّ منه مراماً لا على مَعْنى أنَّ الروحَ والملائكةَ مع كونِهم أفضلَ الخلائقِ وأقربَهم من الله تعالى إذَا لم يقدرُوا أنْ يتكلمُوا بما هُو صوابٌ من الشفاعة لمن ارتضَى إلا بإذنه فكيف يكلمه غيرُهم كما قيلَ فإنَّه مؤسَّسٌ على قاعدة الاعتزالِ فمن سلكَهُ مع تجويزه أنْ يكونَ يومَ ظرفاً للايملكونَ فقد اشتبَه عليهِ الشؤن واختلطَ به الظنونُ وقيلَ إلا من أذنَ الخ منصوبٌ على أصلِ الاستثناءِ والمَعْنى لا يتكلمونَ إلا في حقِّ شخصٍ أَذِنَ لَهُ الرحمنُ وَقَالَ ذلكَ الشخصُ صواباً أي حقَّاً هُو التوحيدُ وإظهارُ الرحمنِ في موضعِ الإضمارِ للإيذانِ بأنَّ مناطَ الإذنِ هو الرحمةُ البالغةُ لا أنَّ أحداً يستحقُّه عليهِ سبحانَه وتعالَى(9/94)
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)
ذلك إشارةٌ إلى يوم قيامِهم على الوجه المذكورِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان بعلو درجتِه وبُعد منزلتِه في الهولِ والفخامةِ ومحلُّه الرفعُ على الابتداءِ خبرُه ما بعدَهُ أي ذلكَ اليومُ العظيمُ الذي يقومُ فيه روح والملائكةُ مصطفينَ غيرَ قادرينَ هُم وغيرُهم على التكلمِ من الهيبةِ والجلالِ
اليوم الحق أي الثابتُ المتحققُ لا محالة من غير صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيهِ والفاءُ في قولِه تعالى
فَمَن شَاء اتخذ إلى ربه مآبا فصيحة تصفح عن شرطٍ محذوفٍ ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لوقوعِها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ وانتفاءِ الغرابةِ في تعلقِه بها حسبَ القاعدةِ المستمرةِ وإلى ربِّه متعلقٌ بمآباً قدم عليه اهتماما به ورعايةً للفواصلِ كأنَّه قيلَ وإذا كان الأمر كما ذُكرَ منْ تحققِ اليومِ المذكورِ لا محالةَ فمن شاءَ أن يتخذَ مرجعاً إلى ثوابِ ربِّه الذي ذُكِرَ شأنُه العظيمُ فعلَ ذلكَ بالإيمانِ والطاعةِ وقالَ قَتَادةُ مآباً أي سبيلاً وتعلق الجارية لما فيه من معنى الإفضاءِ والإيصالِ كما مرَّ في قوله تعالى مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً(9/94)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
إِنَّا أنذرناكم أيْ بمَا ذُكرَ في السورةِ من الآيات الناطقةِ بالبعث وبمَا بعدَهُ من الدَّواهي أو بها بسائر القوارعِ الواردةِ في القرآن
عَذَاباً قَرِيباً هو عذابُ الآخرة وقربه لتحقيق إتيانِه حَتْماً ولأنَّه قريبٌ بالنسبة إليه تعالى وإنْ رَأَوْه بعيداً وسيرونَهُ قريباً لقولِه تعالى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها وعن قَتَادَةَ هو عقوبةُ الدُّنيا لأنَّه أقربُ العذابينِ وعن مقاتلٍ هو قتلُ قريشٍ يوم بدر وقوله تعالى
يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ فإنَّه إما بدلٌ من عذاباً أو ظرفٌ لمضمرٍ هو صفةٌ له أي عذاباً كائناً يومَ ينظرُ المرءُ أي يشاهد(9/94)
79 سورة النازعات (1 5) ما قدمَهُ من خيرٍ أو شرَ على أنَّ مَا موصولةٌ منصوبةٌ بينظرُ والعائدُ محذوفٌ أو ينظرُ أيَّ شيءٍ قدمتْ يداهُ على أنَّها استفهاميةٌ منصوبةٌ بقدمتْ وقيلَ المرءُ عبارةٌ عن الكافر وما في قوله تعالى
وَيَقُولُ الكافر يا ليتني كُنتُ ترابا ظاهرٌ وُضع موضعَ الضميرِ لزيادةِ الذمِّ قيلَ معنى تمنيهِ ليتني كنتُ تراباً في الدُّنيا فلم أخلق ولم ولم أُكلَّف أو ليتني كنتُ تُراباً في هذا اليومِ فلم أُبعثْ وقيلَ يحشرُ الله تعالى الحيوانَ فيقتصُّ للجمَّاءِ من القرناءِ ثم يردُّه تراباً فيودُّ الكافرُ حالَه وقيلَ الكافرُ إبليسُ يَرَى آدمَ وولدَهُ وثوابَهُم فيتمنَّى أنْ يكونَ الشيءَ الذي احتقرَهُ حينَ قالَ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ من طينٍ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ عَمَّ يتساءلونَ سقاهُ الله تعالى بردَ الشرابِ يومَ القيامةِ والحمدُ لله وحده سورة النازعات مكية آياتها ست وأربعون
{بسم الله الرحمن الرحيم}(9/95)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
{والنازعات غَرْقاً}
{والناشطات نَشْطاً}
{والسابحات سَبْحاً فالسابقات سَبْقاً}
{فالمدبرات أَمْراً} إقسامٌ من اللَّهِ عزَّ وجل بطوائف الملائكةِ الذينَ ينزِعونَ الأرواحَ من الأجساد على الإطلاقِ كما قاله ابن عباس رضيَ الله عنهُمَا ومجاهدٌ أو أرواحَ الكفرةِ كما قالَهُ عليٌّ رضيَ الله عنْهُ وابنُ مسعودٍ وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ ومسروقٌ وينشِطونَها أي يُخرجونَها من الأجسادِ من نشَطَ الدلوَ من البئرِ إذا أخرجَها ويسبحونَ في إخراجِها سبحَ الغواصِ الذي يُخرجُ من البحرِ ما يخرجُ فيسبقونَ بأرواحِ الكفرةِ إلى النارِ وبأرواحِ المؤمنينَ إلى الجنةِ فيدبرونَ أمرَ عقابِها وثوابِها بأنْ يهيؤها لإدراك ما أعدلها منَ الآلامِ واللَّذاتِ والعطفُ مع اتحاد الكل بتزيلي التغايرِ الذاتيِّ كما في قوله(9/95)
79 سورة النازعات (6 7) إلى الملكِ القَرمِ وابنِ الهُمام وليثِ الكتائبِ في المُزدَحمْ [للإشعارِ بأنَّ كلَّ واحدٍ من الأوصافِ المعدودةِ من معظماتِ الأمورِ حقيقٌ بأن يكونَ على حيالِه مناطاً لاستحقاقِ موصوفِه للإجلالِ والإعظامِ بالإقسامِ بهِ من غيرِ انضمامِ الأوصافِ الأُخرِ إليهِ والفاءُ في الأخيرينِ للدلالةِ على ترتبِهما على ما قبلهما بغير مهملة كما في قوله] يا لهف زبابة الصائح فالغانمِ فالآئبِ [وغَرْقاً مصدرٌ مؤكِّدٌ بحذف الزَّوائد أيْ إغراقاً في النزع حيثُ تنزعُها منْ أقاصِي الأجسادِ قال ابن مسعود رضي الله عنه تنزعُ روحَ الكافرِ من جسدِه من تحتِ كلِّ شعرةٍ ومن تحتِ الأظافيرِ وأصولِ القدمينِ ثم تُغرقها في جسدِه ثم تنزعُها حتَّى إذَا كادتْ تخرجُ تردها في جسدِه فهذا عملُها بالكفار وقيلَ يَرى الكافرُ نفسَهُ في وقت النزعِ كأنها تغرقُ وانتصابُ نَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً أيضاً على المصدريةِ وأما أمراً فمفعول للمدبرات وتنكيره وللتهويل والتفخيمِ ويجوزُ أنْ يُرادَ بالسابحاتِ وما بعدَهَا طوائفُ من الملائكةِ يسبحونَ في مُضيهم أي يُسرعونَ فيهِ فيسبقونَ ألى مَا أُمروا بهِ من الأمورِ الدنيويةِ والأخرويةِ والمُقسمُ عليهِ محذوفٌ تَعْويلاً على إشارةِ ما قبلَهُ من المقسمِ بهِ إليهِ ودلالةِ ما بعدَهُ من أحوالِ القيامةِ عليهِ وهو لتبعثنَّ فإنَّ الإقسامَ بمَنْ يتولَّى نزعَ الأرواحِ ويقومُ بتدبيرِ أُمورِها يلوحُ بكونِ المقسمِ عليهِ من قبيلِ تلكَ الأمورِ لا محالةَ وفيهِ مِنَ الجزالةِ مالا يَخْفى وقَدْ جُوِّزَ أنْ يكونَ إقساماً بالنجومِ التي تنزعُ من المشرقِ إلى المغربِ غرقاً في النزعِ بأن تقطعَ الفَلكَ حتَّى تنحطَّ في أقْصَى الغربِ وتنشطَ من برجٍ إلى برجٍ أي تخرجُ من نشطِ الثورِ إذَا خرجَ من بلدٍ إلى بلدٍ وتسبحُ في الفلكِ فيسبقُ بعضُها بعضاً فتدبرُ أمراً نيطَ بهَا كاختلاف الفصولِ وتقدير والأزمنة وتبينِ مواقيتِ العباداتِ وحيثُ كانتْ حركاتُها من المشرق إلى المغربِ قسريةً وحركاتُها من برجٍ إلى برجٍ ملائمةً عُبِّرَ عنِ الأُولى بالنزع وعن الثاني بالنشطِ أو بأنفسِ الغُزاةِ أو أيديهِم التي تنزعُ القِسِيَّ بإغراقِ السهامِ وينشطونَ بالسهمِ للرميِ ويسبحونَ في البرِّ والبحرِ فيسبقونَ إلى حربِ العدوِّ فيدبرونَ أمرَها أو بخيلِهم التي تنزعُ في أعنَّتِها نزعاً تغرقُ فيه الأعنةَ لطول أعناقِها لأنها عِرابٌ وتخرجُ منْ دارِ الإسلامِ إلى دارِ الحربِ وتسبحُ في جَريها لتسبق إلى الغابة فتدبرُ أمرَ الظفرِ والغلبةِ وإسنادُ التدبيرِ إليها لأنَّها من أسبابِه هذا والذي يليقُ بشأنِ التنزيلِ هُو الأول قوله تعالى(9/96)
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)
يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة منصوبٌ بالجوابِ المُضمرِ والمرادُ بالراجفةِ الواقعةُ التي ترجفُ عندَهَا الأجرامُ الساكنةُ أي تتحركُ حركة شديدة وتتنزلزل زلزلزلة عظيمةً كالأرضِ والجبالِ وهيَ النفخة الأولى وقيل الرجفة الأرضُ والجبالُ لقولِه تعالى يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال وقولُه تعالَى(9/96)
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
تَتْبَعُهَا الرادفة أي الواقعةُ التي تُردِفُ الأُولى وهيَ النفخةِ الثانيةِ تابعةً لها لا قبلَ ذلكَ فإنَّه عبارةٌ عن الزمانِ الممتدِّ الذي يقعُ فيهِ النفختانِ وبينهما أربعونَ سنةً واعتبارُ امتدادِه معَ أنَّ البعثَ لا يكون إلا عند النفخةِ الثانيةِ لتهويل اليومِ ببيان كونه موقعا(9/96)
79 سورة النازعات (8 10) لداهيتينِ عظيمتينِ لا يَبْقى عندَ وقوعِ الأُولى حيٌّ إلا ماتَ ولا عندَ وقوع الثانية إلا بُعثَ وقامَ ووجْهُ إضافتِه إلى الأُولى ظَاهِرٌ وقيلَ يومَ ترجفُ منصوبٌ باذكُرْ فتكونُ الجملةُ استئنافاً مقرراً لمضمون الجوابِ المُضْمرِ كأنَّه قيلَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم اذكُر لهم يومَ النفختينِ فإنه وقتُ بعثِهم وقيلَ هو منصوبٌ بما دلَّ عليه قولُه تعالَى(9/97)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} أي يومَ ترجفُ وجفتِ القلوبُ قيلَ قلوبٌ مبتدأٌ ويومئذٍ متعلقٌ بواجفةٌ وهيَ صفةٌ لقلوبٌ مُسوِّغةٌ لوقوعِه مبتدأً وقوله تعالى(9/97)
أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)
{أبصارها} أي أبصار أصحاب {خاشعة} جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ وقعتْ خبراً لقلوبٌ وقَدْ مرَّ أنَّ حقَّ الصفة أن تكون معلومةَ الانتسابِ إلى الموصوف عند السامعِ حتَّى قالُوا إن الصفاتِ قبلَ العلمِ بها أخبارٌ والأخبارُ بعدَ العلمِ بها صفاتٌ فحيثُ كانَ ثبوتُ الوجيفِ للقلوبِ وثبوتُ الخشوعِ لأبصارِ أصحابِها سواءً في المعرفةِ والجهالةِ كانَ جعلُ الأولِ عُنواناً للموضوعِ مسلمَ الثبوتِ مفروغاً عنْهُ وجعل الثاني مخبرا به مقصودَ الإفادةِ تحكماً بحتاً على أنَّ الوجيفَ الذي هُو عبارةٌ عنْ شدةِ اضطرابِ القلبِ وقلقِه من الخوفِ والوجلِ أشدُّ من خشوعِ البصرِ وأهولُ فجعلُ أهونَ الشرَّيْن عُمدةً وأشدِّهما فضلةً مما لا عهدَ له في الكلامِ وأيضاً فتخصيصُ الخشوعِ بقلوبٍ موصوفةٍ بصفةٍ معينةٍ غيرُ مشعرةٍ بالعمومِ والشمولِ تهوينٌ للخطب في موقع التهويلِ فالوجْهُ أنْ يُقالَ تنكيرُ قلوبٌ يقومُ مقامَ الوصفِ المختصِّ سواء على حمل التنويعِ كما قيلَ وإنْ لم يذكر النوع المقابل فإنَّ المَعْنى منسحبٌ عليهِ أو على التكثيرِ كما في شرٌّ أَهَرَّ ذَا نابٍ فإنَّ التفخيمَ كما يكونُ بالكيفيةِ يكونُ بالكميةِ أيضاً كأنَّه قيلَ قلوبٌ كثيرةٌ يومَ إذْ يقعُ النفختانِ واجفةٌ أيْ شديدةُ الاضطرابِ قال ابن عباس رضي الله عنهُما خائفةٌ وَجِلةٌ وقال السدى رائلة عنْ أماكنِها كما في قولِه تعالى إِذِ القلوب لَدَى الحناجر وقولُه تعالى(9/97)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)
يقولون أننا لمردودن فِى الحافرة حكايةٌ لما يقولُه المنكرونَ للبعث المكذبونَ بالآيات الناطقةِ به إثرَ بيان وقوعِه بطريق التوكيدِ القَسَمي وذكر مقدماتِه الهائلةِ وما يعرضُ عندَ وقوعِها للقلوب والأبصارِ أي يقولونَ إذا قيلَ لهم إنكُم تبعثونَ منكرينَ له متعجبينَ منهُ أئنا لمردودونَ بعدَ موتِنا في الحافرة أي في الحالة الأُولى يعنونَ الحياةَ من قولهم رجعَ فلانٌ في حافرته أي في طريقتِه التي جاءَ فيها فحفرَها أي أثَّر فيها بمشيه وتسميتُها حافرةً مع أنها محفورةٌ كقولِه تعالَى فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ أي منسوبةٌ إلى الحفرِ والرِّضا أو كقولِهم نهارُه صائمٌ على تشبيهِ القابلِ بالفاعلِ وقُرِىءَ في الحُفْرةِ وهي بمعنى المحفورة(9/97)
79 سورة النازعات (11 15)
وقوله تعالى(9/98)
أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)
ائذا كُنَّا عظاما نَّخِرَةً
تأكيدٌ لإنكار الردِّ ونفيِه بنسبتِه إلى حالةٍ منافيةٍ له والعاملُ في إذَا مضمرٌ يدلُّ عليهِ مردودونَ أي أَئِذا كُنَّا عظاماً باليةً نُردُّ ونبعثُ مع كونِها أبعدَ شيءٍ من الحياةِ وقُرِىءَ إذَا كُنَّا على الخبرِ أو إسقاطِ حرفِ الإنكارِ وناخرةٌ منْ نَخَر العظمُ فهو نَخِرٌ ونَاخِرٌ وهُو البَالِي الأَجْوفُ الذي يمرُّ به الريحُ فيُسمعُ له نخيرٌ(9/98)
قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
قالوا
حكاية لكفر آخرهم متفرعٍ على كُفْرِهم السابقِ ولعلَّ توسيطَ قالُوا بينهُمَا للإيذانِ بأنَّ صدورَ هذا الكفرِ عنهُم ليسَ بطريقِ الاطرادِ والاستمرارِ مثلَ كفرِهم السابقِ المستمرِّ صدورُه عنهُم في كافةِ أوقاتِهم حسبَما ينبىءُ عنْهُ حكايتُه بصيغةِ المضارعِ أيْ قالُوا بطريق الاستهزاءِ مشيرينَ إلى ما أنكرُوه من الردة في الحافرةِ مشعرينَ بغايةِ بُعدِها من الوقوعِ
تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة
أي ذاتُ خسرانٍ أو خاسرةٌ أصحابُها أيْ إنْ صحَّتْ فنحنُ اذن خاسرون لتكذبينا بهَا وقولُه تعالَى(9/98)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة
تعليلٌ لمقدَّرٍ يقتضيهِ إنكارُهم لإحياءِ العظامِ النخرةِ التي عبرُوا عنهَا بالكرَّةِ فإنَّ مدارَهُ لما كانَ استصعابُهم إيَّاها ردَّ عليهم ذلكَ فقيلَ لا تستصعبُوهَا فإنَّما هيَ صيحةٌ واحدةٌ أي حاصلةٌ بصيحةٍ واحدةٍ وهي النفخةُ الثانيةُ عبِّر عنهَا بها تنبيها على كمال اتصالِها بها كأنَّها عينُها وقيلَ هيَ راجعٌ الى الرادفة فقوله تعلى(9/98)
فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
فَإِذَا هُم بالساهرة
حينئذٍ بيانٌ لترتب الكرّةِ على الزجرة مفاجأة اي فاذا هُم أحياءٌ على وجه الأرضِ بعدَ ما كانُوا أمواتاً في جَوفِها وعلى الأول بيانٌ لحضورِهم الموقفَ عقيبَ الكرةِ التي عبرَ عنها بالزجرةِ والساهرةُ الأرضُ البيضاءُ المستويةُ سُميتْ بذلكَ لأنَّ السرابَ يَجْري فيهَا من قولِهم عينٌ ساهرةٌ جاريةُ الماءِ وفي ضِدِّهَا نائمةٌ وقيلَ لأنَّ سالِكَها لا ينامُ خوفَ الهلكةِ وقيل اسمٌ لجهنمَ وقالَ الراغبُ هي وجهُ الأرضِ وقيلَ هيَ أرضُ القيامةِ ورَوَى الضحَّاكُ عنِ ابنِ عباس رضي الله عنهما أنَّ الساهرةَ أرضٌ من فضةٍ لم يعصَ الله تعالَى عليهَا قطْ خلقَها حينئذٍ وقيلَ هيَ أرضٌ يجددها الله عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ وقيلَ هيَ اسمُ الأرضِ السابعةِ يأتِي بها الله تعالَى فيحاسبُ الخلائقَ عليها وذلك حين تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض وقال الثوريُّ الساهرةُ أرضُ الشامِ وقال وهبُ بنُ منبهٍ جبلُ بيتِ المقدسِ وقيل الساهرةُ بمَعْنى الصحراء على شفيرِ جهنمَ وقولُه تعالى(9/98)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى
كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لتسلية رسولة الله صلى الله عليه وسلم من تكذيبِ قومِه بأنَّه يصبهم مثل ما أصاب(9/98)
79 سورة النازعات (16 20)
من كانَ أَقْوى منهُم وأعظمَ ومَعْنى هلْ أتاكَ إنِ اعتُبرَ هذا أولَ ما أتاهُ عليه الصلاةُ والسلامُ من حديثِه عليه السلامُ ترغيبٌ له عليه الصلاةُ والسلامُ في استماعِ حديثِه كأنَّه قيلَ هل أتاكَ حديثُه أنَا أُخبرَك بهِ وإنِ اعتُبرَ إتيانُه قبل هذا وهُو المتبادرُ من الإيجازِ في الاقتصاصِ حملَهُ عليه الصلاة والسلام على أنْ يقرَّ بأمرٍ يعرفُه قبلَ ذلكَ كأنَّه قيلَ أليس قد أتاكَ حديثُه وقولُه تعالَى(9/99)
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس
ظرفٌ للحديثِ لا للإتيانِ لاختلافِ وَقْتَيهِما
طُوًى
بضمِّ الطاءِ غيرُ منونٍ وقُرِىءَ منوناً وقُرِىءَ بالكسرِ منوناً وغيرَ منونٍ فمَنْ نونَّهُ أوَّلهُ بالمكانِ دونَ البقعة وقيل هو كشنى مصدرٌ لنَادَى أو المقدسِ أيْ ناداهُ ندائينِ أو المقدسِ مرةً بعدَ أُخْرى(9/99)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)
اذهب إلى فِرْعَوْنَ
على إرادةِ القولِ وقيلَ هو تفسيرٌ للنداءِ أي ناداهُ إذهبْ وقيلَ هُو على حذفِ أَنِ المفسرةِ ويدلُّ عليه قراءةُ عبدِ اللَّهِ أنِ اذهبْ لأنَّ في النداءِ مَعْنى القولِ
إِنَّهُ طغى
تعليلٌ للأمرِ أو لوجوبِ الامتثالِ بهِ(9/99)
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)
فقل
بعدما أتيتَهُ
هَل لَّكَ
رغبةٌ وتوجهٌ
إلى أَن تزكى
بحذف إحدى التاءين من تتزكَّى أيْ تتطهرُ من دنسِ الكُفرِ والطغيانِ وقُرِىءَ تزَّكَّى بالتشديدِ(9/99)
وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)
وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ
وأُرشدكَ إلى معرفتِه عزَّ وجلَّ فتعرِفَهُ
فتخشى
إذِ الخشيةُ لا تكونُ إلا بعدَ معرفتِه تعالَى قالَ عزَّ وجلَّ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء وجَعلُ الخشيةِ غايةً للهدايةِ لأنَّها مِلاكُ الأمرِ مَنْ خشَى الله تعالى أتَى منْهُ كلَّ خيرٍ ومَنْ أَمِنَ اجتر على كلِّ شرَ أُمرَ عليه الصلاة والسلام بأن يخاطبَهُ بالاستفهامِ الذي معناهُ العرضُ ليستدعيَهُ بالتلطفِ في القولِ ويستنزلَهُ بالمُداراةِ من عُتوِّهِ وهذا ضربُ تفصيلٍ لقولِه تعالى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى والفاءُ في قولِه تعالَى(9/99)
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)
فَأَرَاهُ الأية الكبرى
فصيحةٌ تُفصحُ عن جملٍ قد طُويتْ تعويلاً على تفصيلِها في السورِ الأُخرى فإنه عليه الصلاة والسلام ما أراه اياها عيب هذا الأمرِ بل بعدَ ما جَرى بينَهُ وبين الله تعالَى ما جَرى من الاستدعاءِ والإجابةِ وغيرِهما من المراجعاتِ وبعد ما جَرَى بينَهُ وبينَ فرعونٍ ما جَرَى من المحاوراتِ الى أن قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بآية فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين والإراءةُ إما بمَعْنى التبصيرِ أو التعريفِ فإن اللعينَ حينَ أبصرَها عرفَها وادعاءُ سحريتها إنَّما كانَ إراءةً منهُ وإظهاراً للتجلدِ ونسبتُهَا إليه عليه الصلاة والسلام بالنظرِ إلى الظاهرِ كما أنَّ نسبتَها إلى نونِ العظمةِ في قولِه تعالى وَلَقَدْ أريناه آياتنا بالنظر(9/99)
79 سورة النازعات (21 25)
إلى الحقيقةِ والمرادُ بالآية الكُبْرى قلبُ العصَا حيةً وهو قولُ ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا فإنَّها كانتِ المقدمةَ والأصلَ والأُخْرَى كالتبع لها أوهما جَميعاً وهو قَولُ مجاهدٍ فإنَّهما كالآيةِ الواحدةِ وقدْ عبرَ عنهُمَا بصيغةِ الجمعِ حيثُ قالَ اذهب أَنتَ وأخوك بآياتي باعتبر ما في تضاعيفهما من بدائع الأمورِ التي كلٌّ منهَا آيةٌ بينةٌ لقومٍ يعقلون كما في سورة طه ولا مساغَ لحملها على مجموع معجزاتِه فإن ما عدا هاتين الآيتين من الآيات التسعِ إنما ظهرتْ على يدِه عليه الصلاةُ والسلامُ بعدَ مَا غلبَ السحرةَ على مهلٍ في نحوٍ من عشرينَ سنةً كما مرَّ في سورةِ الأعرافِ ولا ريب في أن هذا مطلعُ القصةِ وأمرُ السحرةِ مترقبٌ بعدُ(9/100)
فَكَذَّبَ وَعَصَى (21)
فَكَذَّبَ
بمُوسَى عليهِ السلامُ وسمي معجزاته سِحْراً
وعصى
الله عزَّ وجلَّ بالتمردِ بعدَ ما علَم صحةَ الأمرِ ووجوبَ الطاعةِ أشدَّ عصيانٍ وأقبحَهُ حيثُ اجترأَ على إنكارِ وجودِ ربِّ العالمينَ رَأْساً وكان اللعينُ وقومُه مأمورينَ بعبادتِه عزَّ وجلَّ وتركِ العظيمةِ التي كانَ يدَّعِيها الطاغيةُ ويقبلُها منهُ فئتُه الباغيةُ لا بإرسالِ بني إسرائيلَ من الأسرِ والقَسْرِ فقطْ(9/100)
ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22)
ثُمَّ أَدْبَرَ
أي تولَّى عن الطاعةِ أو انصرفَ عنِ المجلسِ
يسعى
أي يجتهدُ في معارضةِ الآيةِ أو أُريدَ ثم أقبلَ أي أنشأَ يسعَى فوضَع موضعَهُ أدبرَ تحاشياً عن وصفِه بالإقبالِ وقيلَ أدبرَ هارباً من الثعبانِ فإنَّه روي أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ لَمَّا ألقَى العَصَا انقلبتْ ثُعباناً أشعَرَ فاغراً فاهُ بين لَحْيَيهِ ثمانونَ ذراعاً وَضع لَحيَه الأسفلَ عَلى الأرضِ والأَعْلى على سُورِ القصرِ فتوجَّهَ نحوَ فرعونَ فهربَ وأحدثَ وانهزم الناس مردحمون فماتَ منهُم خمسةٌ وعشرونَ ألفاً من قومِه وقيلَ إنها حينَ انقلبتْ حيةً ارتفعتْ في السماءِ قدرَ ميلٍ ثمَّ انحطتْ مُقبلةً نحوَ فرعونٍ وجعلتْ تقولُ يا مُوسَى مُرْني بما شئتَ ويقولُ فرعونُ أنشدكَ بالذي أرسلكَ إلا أخذتَه فأخذَهُ فعادَ عصا ويأباهُ أنَّ ذلكَ كانَ قبلَ الإصرار على التكذيبِ والعصيانِ والتصدِّي للمعارضة كما يعربُ عنه قولُه تعالَى(9/100)
فَحَشَرَ فَنَادَى (23)
فَحَشَرَ
أي فجمعَ السحرةَ لقولِه فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى المدائن حاشرين وقوله تعالى فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي ما يُكادُ به من السحرة وآلاتِهم وقيلَ جنودُه ويجوزُ أنْ يرادَ جميعُ الناسِ
فنادى
في المجمع بنفسه أو بواسطة المُنادِي(9/100)
فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى
قيلَ قامَ فيهم خطيباً فقال تلكَ العظيمةَ(9/100)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الأخرة والأولى
النكالُ بمَعْنى التنكيلِ كالسلامِ بمعنى التسليمِ وهو التعذيبُ الذي ينكلُ منْ(9/100)
79 سورة النازعات (26 29)
رآهُ أو سمعَهُ ويمنعُه من تعاطِي ما يُفضِي اله ومحلُّه النصبُ على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ كوعدَ الله وصبغةَ الله كأنَّه قيلَ نكَّلَ الله به نكالَ الآخرةِ والأُولى وهو الإحراقُ في الآخرة والإغراقُ في الدُّنيا وقيلَ مصدرٌ لأخذَ أي أخذَهُ الله أخذَ نكالِ الآخرةِ الخ وقيلَ مفعولٌ له أي أخذَهُ لأجل نكالِ الخ وقيلَ نُصب على نزعِ الخافضِ أي أخذَهُ بنكال الآخرةِ والأولى واضافته الى الداين باعتبار وقوعِ نفسِ الأخذِ فيهمَا لا باعتبارِ أنَّ ما فيه من معنى المنعِ يكونُ فيهمَا فإن ذلكَ لا يتصورُ في الآخرةِ بل في الدُّنيا فإن العقوبةَ الأخرويةَ تنكلُ من سمعَها وتمنعُه من تعاطِي ما يُؤدي إليها لا محالةَ وقيلَ المرادُ بالآخرةِ والأُولى قولُه أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى وقولُه مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى قيل كان بينَ الكلمتينِ أربعونَ سنةً فالإضافةُ إضافةُ المسبِّبِ إلى السببِ(9/101)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
إِنَّ فِى ذَلِكَ
أي فيمَا ذُكِرَ من قصة فرعونَ وما فَعَل وما فُعلِ به
لَعِبْرَةً
عظيمةً
لّمَن يخشى
أي لمَنْ مِنْ شأنِه أنْ يخشَى وهو مَنْ مِنْ شأنِه المعرفة وقوله تعالى(9/101)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)
أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً
خطابٌ لأهل مكةَ المنكرين للبعث بناءً على صعوبتِه في زَعْمِهم بطريقِ التوبيخِ والتبكيتِ بعدَ ما بيّنَ كمالُ سهولتِه بالنسبةِ إلى قُدرةِ الله تعالى بقولِه تعالى فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة أي أخلقُكُم بعد موتِكم أشدُّ أي أشقُّ وأصعبُ في تقديرِكم
أَمِ السماء
أي أمْ خلقُ السماءِ على عِظَمِها وانطوائِها على تعاجيبِ البدائعِ التي تحارُ العقولُ عن ملاحظةِ أدناهَا كقولِه تعالى لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس وقولِه تعالى أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وقولِه تعالى
بناها
الخ بيانٌ وتفصيلٌ لكيفيةِ خلقِها المستفادِ من قولِه أمِ السماءُ وفي عدمِ ذكرِ الفاعلِ فيه وفيما عُطف عليهِ من الأفعالِ من التنبيهِ على تعينِه وتفخيمِ شأنِه عزَّ وجلَّ ما لا يخفى وقوله تعالى(9/101)
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)
رَفَعَ سَمْكَهَا
بيانٌ للبناء أي جعلَ مقدارَ ارتفاعِها من الأرضِ وذهابِها إلى سمتِ العلوِّ مديداً رفيعاً مسيرةً خمسمائةِ عامٍ
فَسَوَّاهَا
فعلدها مستويةً ملساءَ ليسَ فيها تفاوتٌ ولا فطورٌ أو فتممَها بما عَلم أنها تتمُّ بهِ من الكواكبِ والتداويرِ وغيرِها مما لا يعلمُه إلا الخلاَّقُ العليمُ من قولِهم سَوَّى أمرَ فلان إذا صلحه(9/101)
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أي جعلَه مظلماً يقال غطشَ الليلُ وأغطشَهُ الله تعالَى كما يقالُ ظلَم وأظلَمَهُ وقد مَرَّ هذا في قولِه تعالى وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ ويقال أيضاً أغطشَ الليلُ كما يقالُ أظلمَ {وَأَخْرَجَ ضحاها} أي أبرزَ نهارَهَا عبرَ عنْهُ بالضُّحىَ لأنه أشرفُ أوقاتهِ وأطيبُها فكانَ أحقَّ بالذكرِ في مقامِ الامتنانِ وهو السرُّ في تأخير ذكره عن ذكرِ الليلِ وفي التعبيرِ عن إحداثهِ بالاخراجِ فإنَّ إضافة النورِ بعد الظلمةِ أتمُّ في الإنعام(9/101)
79 سورة النازعات (30 32)
وأكملُ في الإحسانِ وإضافةُ الليلِ والضُّحى إلى السماء لدوران حدوثهما على حركتهما ويجوز أن تكون إضافة الضحى إليها بواسطةِ الشمسِ أي أبرزَ ضوءَ شمسِها والتعبيرُ عنه بالضُّحى لأنَّه وقت قيام سلطانها وكما إشراقِها(9/102)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)
والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها
أي بسطَها ومهَّدها لسكْنى أهلِها وتقلبِهم في أقطارِها وانتصابُ الأرضَ بمضمرٍ يفسرُه دحاهَا(9/102)
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)
{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا} بأنْ فجرَ منها عيوناً وأجْرَى أنهاراً
ومرعاها
أي رعيَها وهو في الأصلِ موضعُ الرَّعِي وقيلَ هو مصدرٌ ميمي بمعنى مفعول وتجريدُ الجملةِ عن العاطفِ إما لأنَّها بيانٌ وتفسيرٌ لدحاهَا وتكملةٌ له فإنَّ السكْنى لا تتأتَّى بمجرد البسطِ والتمهيدِ بلْ لا بدَّ من تسوية أمرِ المعاشِ من المأكلِ والمشربِ حتماً وإما لأنها حالٌ من فاعلِه بإضمارِ قدْ عندَ الجمهورِ أو بدونِه عن الكوفيينَ والأخفشِ كما في قولِه تعالى أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ(9/102)
وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)
والجبال
منصوبٌ بمضمرٍ يفسرُهُ
أرساها
أي أثبتَها وأثبتَ بها الأرضَ أن تميدَ بأهلِها وهذا تحقيقٌ للحقِّ وتنبيهٌ على أنَّ الرسوَّ المنسوبَ إليهَا في مواضعَ كثيرةٍ من التنزيلِ بالتعبيرِ عنها بالرَّوَاسِي ليسَ من مقتضياتِ ذواتِها بلْ هو بإرسائِه عزَّ وجلَّ ولولاهُ لما ثبتتْ في أنفسِها فضلاً عنْ إثباتِها للأرضِ وقُرِىءَ والأرضُ والجبالُ بالرفعِ على الابتداءِ ولعلَّ تقديمَ إخراجِ الماءِ والمَرْعى ذكراً مع تقدمِ الإرساءِ عليهِ وجُوداً وشدةِ تعلقِه بالدَّحْوِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ المأكلِ والمشربِ معَ ما فيهِ من دفعِ توهمِ رجوعِ ضميرَيْ الماءِ والمَرْعَى إلى الجبالِ وهذا كما ترى يدل يظاهره على تأخرِ دحوِ الأرضِ عن خلقِ السماءِ وما فيهَا كمَا يُروى عن الحسنِ مِنْ أنَّه تعالَى خَلَقَ الأرضَ فِى موضعِ بيتِ المقدسِ كهيئةِ الفِهْرِ عليه دخانٌ ملتزقٌ بها ثمَّ أصعدَ الدخانَ وخلقَ منهُ السمواتِ وأمسكَ الفِهْرَ في موضعِها وبسَط منها الأرضَ وذلكَ قولُه تعالى كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما الآيةَ وقد مرَّ في سورةِ حم السجدةِ أنَّ قولَه تعالَى قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ إلى قولِه تعالى ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ الآيةَ إنْ حُملَ ما فيهِ من الخلقِ وما عُطف عليهِ من الأفعالِ الثلاثةِ على معانيها الظاهرةِ لا على تقديرِها فهُو وما في سورةِ البقرةِ من قولِه تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات يدلانِ على تقدم خلقِ الأرضِ وما فيها على خلق السماءِ وما فيها وعليه إطباقُ أكثرِ أهلِ التفسيرِ وقد رُويَ أنَّ العرشَ كانَ قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ على الماء ثم إنه تعالَى أحدثَ في الماء اضطراباً فأزبدَ فارتفعَ منه دخانٌ فأما الزبدُ فبقيَ على وجه الماءِ فخلق منه اليُبوسةَ فجعلَه أرضاً واحدةً ثم فتقَها فجعلَها أرَضينَ وأما الدخانُ فارتفعَ وعلاَ فخلقَ منه السمواتِ ورُويَ أنَّه تعالَى خلقَ جِرْمَ الأرضِ يومَ الأحدِ ويومَ(9/102)
79 سورة النازعات (33 35)
الاثنينِ ودحاهَا وخلقَ ما فيها يومَ الثلاثاءِ ويومَ الأربعاءِ وخلقَ السمواتِ وما فيهن يومَ الخميسِ ويومَ الجمعةِ وخلقَ آدمَ عليه السلامُ في آخرِ ساعةٍ منه وهيَ الساعةُ التي تقومُ فيها القيامةُ فالأقربُ كما قيل تأمويل هذه الآيةِ بأن يُجعلَ ذلكَ إشارةً إلى ذكِر ما ذُكِرَ من بناءِ السماءِ ورفعِ سَمِكها وتسويتِها وغيرَها لا إلى أنفسِها ويحمل بعدية في الذكرِ كما هُو المعهودُ في ألسنة العربِ والعجمِ لا في الوجود لما عرفتَ من أنَّ انتصابَ الأرضِ بمضمرٍ مقدمٍ قد حُذِفَ على شريطةِ التفسيرِ لا بما ذُكِرَ بعدَهُ ليفيدَ القصرَ وتتعينَ البعديةُ في الوجودِ وفائدةُ تأخيرِه في الذكرِ إما التنبيهُ على أنَّه قاصرٌ في الدلالةِ على القدرة القاهرةِ بالنسبةِ إلى أحوالِ السماءِ وإما الإشعارُ بأنَّه أدخلُ في الإلزامِ لما أنَّ المنافعَ المنوطةَ بما في الأرض أكثرُ وتعلقَ مصالحِ الناسِ بذلكَ أظهرُ وإحاطتَهم بتفاصيلِ أحوالِه أكملُ وليسَ ما رُويَ عن الحسنِ نصاً في تأخرِ دحوِ الأرضِ عن خلق السماءِ فإن بسطَ الأرضِ معطوفٌ على إصعادِ الدخانِ وخلقِ السماء بالواو هي بمعزلٍ من الدلالةِ على الترتيبِ هذا على تقديرِ حملِ ما ذكرَ في آياتِ سورةِ السجدةِ من الخلقِ وما عُطف عليهِ من الأفعالِ الثلاثةِ على معانيها الظاهرةِ وأما إذا حُملتْ على تقديرِها فلا دلالةَ فيها إلا على تقدمِ تقدير الأرضِ وما فيهَا على إيجاد السماءِ كما لا دلالةَ على الترتيب أصلاً إذا حُملتْ كلمةُ ثُمَّ فيها وفيمَا في سورةِ البقرةِ على التراخِي في الرتبةِ وقد سلفَ تفصيلُ الكلامِ في السورةِ المذكورةِ وقوله تعالى(9/103)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم
إمَّا مفعول له أي فعل ذلكَ تمتيعاً لكُم ولأنعامِكم لأنَّ فائدةَ ما ذُكرَ من البسط والتميهد وإخراجِ الماءِ والمَرْعى واصلةٌ إليهم وإلى أنعامِهم فإن المراد المرعى ما يعمُّ ما يأكلُه الإنسانُ وغيرُه بناءً على استعارةِ الرَّعي لتناولِ المأكولِ على الإطلاقِ كاستعارةِ المرسنِ للأنفِ وقيلَ مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلِه المضمرِ أي متَّعكُم بذلكَ متاعاً أو مصدرٌ من غير لفظه فإن قولَه تعالَى أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها في معنى متَّع بذلكَ وقوله تعالى(9/103)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)
فإذا جاءت الطامة الكبرى
أي الداهيةُ العُظمى التي تطمُّ على سائرِ الطاماتِ أي تعلُوها وتغلبُها وهي القيامةُ أو النفخةُ الثانيةُ وقيلَ هي الساعةُ التي يساق الخَلائقُ إلى محشرِهم وقيلَ التي يساق أهلُ الجنةِ إلى الجنةِ وأهلُ النارِ إلى النارِ شروعٌ في بيان أحوالِ معادِهم إثرَ بيانِ أحوالِ معاشِهم بقولِه تعالى متاعا لَّكُمْ الخ والفاءُ للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلَها عما قليل كما يبنى منه لفظُ المتاعِ(9/103)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)
يوم يتذكر الإنسان ما سعى
قيلَ هو بدلٌ من إذَا جاءتْ والأظهرُ أنه منصوبٌ بأَعْنِي كما قيلَ تفسيراً للطامةِ الكُبرى فإن الإبدالَ منها بالظرف المحضِ مما يُوهن تعلقَها بالجوابِ ويجوزُ أن يكونَ بدلاً من الطامةِ الكُبرى مفتوحاً لإضافتِه إلى الفعلِ على رأي الكوفيينَ أي يتذكر فيه كل(9/103)
79 سورة النازعات (36 41)
أحدٍ ما عملَهُ من خيرٍ أو شرَ بأنْ يشاهدَهُ مدوناً في صحيفةِ أعمالِه وقد كانَ نسيَهُ من فرطِ الغفلةِ وطولِ الأمدِ كقولِه تعالى أحصاه الله وَنَسُوهُ ويجوزُ أنْ تكونَ ما مصدريةً(9/104)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
وَبُرّزَتِ الجحيم
عطفٌ على جاءتْ أي أظهرتْ إظهاراً بيناً لا يَخْفى على أحدٍ
لِمَن يرى
كائناً من كانَ يُروى أنه يكشف عنها فتتلظى فيرها كلُّ ذي بصرٍ وقرىء وبُرِزَتْ بالتخفيفِ ولمن رَأَى ولمن ترى على فيهِ ضميرَ الجحيمِ كما في قوله تعالى إذا رأتهم من مكان بعيد وعلى أنه خطابٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أي لم تراهُ من الكفارِ وقولُه تعالى(9/104)
فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37)
فَأَمَّا مَن طغى
الخ جوابُ فإذَا جاءتْ على طريقةِ قولِه تعالَى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى الآيةَ وقيلَ هُو تفصيلٌ للجوابِ المحذوفِ تقديرُه انقسمِ الراؤونَ قسمين فأما فأمَّا من الخ والذي تستدعيهِ فخامةُ التنزيلِ ويقتضيه مقامُ التهويلِ أنَّ الجوابَ المحذوفَ كانَ من عظائمِ الشؤن ما لَم تُشاهِدْهُ العيونُ كما مر في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل أي فأما من عَتا وتمردَ عن الطاعةِ وجاوزَ الحدَّ في العصيانِ(9/104)
وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38)
آثر الحياة الدنيا
الفانيةَ التي هي على جناحِ الفواتِ فانهمكَ فيما متعَ به فيهَا ولم يستعدَّ للحياةِ الأخرويةِ الأبديةِ بالإيمانِ والطاعةِ(9/104)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)
فَإِنَّ الجحيم
التي ذُكِرَ شأنُها
هِىَ المأوى
أي هيَ مأواهُ واللامُ سادَّةٌ مسدَّ الإضافةِ للعلمِ بأن صاحبَ المَأْوى هو الطاغِي كما في قولِكَ غُضَّ الطَّرْفَ ودخولُ اللامِ في المَأوى والطرفِ للتعريفِ لأنهما معروفانِ وهيَ إما ضميرُ فصلٍ أو مبتدأٌ قيلَ نزلتِ الآيةُ في النضرِ وأبيه الحرث المشهورينِ بالغُلوِّ في الكُفرِ والطغيانِ(9/104)
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ
أيْ مقامَهُ بين يَدَيْ مالكِ أمرِه يومَ الطامةِ الكُبرَى يومَ يتذكرُ الإنسانُ ما سعَى
وَنَهَى النفس عَنِ الهوى
عن الميلِ إليهِ بحكمِ الجبلةِ البشريةِ ولم يعتدَّ بمتاعِ الحياةِ الدُّنيا وزهرتِها ولم يغترَّ بزخارفِها وزينتِها علماً منه بوخامة عاقبتِها(9/104)
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
فَإِنَّ الجنة هِىَ المأوى
لهُ لا غيرُهَا وقيلَ نزلت الآياتان في أبِي عزيزِ بنِ عميرٍ ومصعب بنِ عميرٍ وقد قتلَ مصعبٌ أخاهُ أبا عزيزٍ يومَ أحدٍ ووقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استُشهدَ رضيَ الله عنْهُ هذا وقد قيلَ جوابُ إذَا مَا يدلُّ عليهِ قولُه تعالَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الخ أيْ فإذَا جاءتِ الطامةُ الكُبْرى يتذكرُ الإنسانُ ما سَعَى على طريقة(9/104)
79 سورة النازعات (42 45)
قولِه تعالَى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ وقوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ فيكونُ قولُه تعالَى وَبُرّزَتِ الجحيم عطفاً عليهِ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التحققِ أو حالاً من الإنسانِ بإضمارِ قدْ أو بدونِه على اختلافِ الرأيينِ ولمنْ يَرَى مغنٍ عن العائدِ وقولُه تعالى فَأَمَّا مَن طغى الخ تفصيلاً لحالَيْ الإنسانِ الذي يتذكرُ ما سَعَى وتقسيماً لهُ بحسبِ أعمالِه إلى القسمينِ المذكورين(9/105)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42)
يسألونك عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها
مَتَى إرساؤُها أي إقامتُها يردون متى يقيمُها الله تعالَى ويثبتها ويكونها وقيل أيام مُنتهاهَا ومُستقرهَا كما أنَّ مَرسى السفينةِ حيثُ تنتهي إليهِ وتستقرُّ فيهِ وقولُه تعالى(9/105)
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)
فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا
إنكارٌ وردٌّ لسؤالِ المشركينَ عنْهَا أيْ في أيِّ شيءٍ أنت من تذكرَ لهُم وقتَها وتعلمهم بهِ حَتَّى يسألُونكَ بيانَها كقوله تعالى يسألونك كأنك خفي عَنْهَا أي ما أنتَ من ذكرها لهُم وتبيينِ وقتِها في شيءٍ لأنَّ ذلكَ فرعُ علمكَ به وأنَّى لكَ ذلكَ وهو مما استأثرَ بعلمه علامُ الغيوبِ ومن قال بصدد التعليل فإنَّ ذكرها لا زيدهم إلا غياً فقد نَأَى عن الحقِّ وقيلَ فيمَ إنكارٌ لسؤالهم وما بعدَهُ من الاستئنافِ تعليلٌ للإنكار وبيانٌ لبطلان السؤالِ أيْ فيمَ هذا السؤالُ ثمَّ ابتُدِىءَ فقيلَ أنتَ من ذكراه أي إرسالُك وأنتَ خاتمُ الأنبياءِ المبعوثُ في نسيم الساعةِ علامةٌ من علاماتِها ودليلٌ يدُلُّهم على العلمِ بوقُوعِها عن قريبٍ فحسبُهم هذه المرتبةُ من العلمِ فمَعْنى قولِه تعالى(9/105)
إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)
إلى رَبّكَ منتهاها
على هذا الوجهِ إليهِ تعالَى يرجع متهى علمِها أيْ علمُها بكُنهِها وتفاصيل أمرها ووقت وقوعِها لا إلى أحدٍ غيرِه وإنما وظيفتُهم أنْ يعلموا باقترابها ومشارفتا وقدْ حصلَ لهم ذلكَ بمبعثكَ فما مَعْنى سؤالِهم عنها بعدَ ذلك وأمَّا على الوجهِ الأولِ فمعناهُ إليهِ تعالَى انتهاءُ علمِها ليسَ لأحدٍ منه شيءٌ ما كائناً من كانَ فلأيِّ شيءٍ يسألونَكَ عنها وقولُه تعالى(9/105)
إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)
إنما أنت منذر من يخشاها
على الوجه الأولِ تقريرٌ لما قبلَهُ من قوله تعالى فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا وتحقيقٌ لما هُو المرادُ منه وبيانٌ لوظيفتِه عليه الصلاةُ والسلامُ في ذلكَ الشأنِ فإنَّ إنكارَ كونهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ في شيءٍ من ذِكراهَا مما يُوهمُ بظاهرِه أنْ ليسَ له عليهِ الصلاةُ والسلامُ أنْ يذكرَها بوجهٍ من الوجوهِ فأُزيحَ ذلكَ ببيانِ أنَّ المنفَى عنه عليه الصلاة والسلام ذكرُهَا لهم بتعيينِ وقتِها حسبَما كانُوا يسألونَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عنهَا فالمَعْنى إنما أنت منذر من يخشاهَا وظيفتُكَ الامتثالُ بما أمرت به من بيانِ اقترابِها وتفصيلِ ما فيها من فنُون الأهوالِ كما تحيطُ به خبراً لا تعيينِ وقتِها الذي لم يُفوضْ إليكَ فما لهم يسألونَكَ عمَّا ليسَ من وظائِفكَ بيانُه وعلى(9/105)
79 سورة النازعات (46)
الوجهِ الثانِي هو تقريرٌ لقولِه تعالى أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ببيانِ أنَّ إرسالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو خاتمُ الأنبياءِ عليهم السلامُ منذرٌ بمجيءِ الساعةِ كما ينطقُ به قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعثتُ أنَا والساعة كهاتي إنْ كادتْ لتسبقُني وقُرِىءَ منذرٌ بالتنوينِ وهو الأصلُ والإضافةُ تخفيفٌ صالحٌ للحالِ والاستقبالِ فإذا أُريدَ الماضِي تعينتِ الإضافةُ وتخصيصُ الإنذارِ بمن يخشَى مع عمومِ الدعوةِ لأنَّه المنتفعُ بهِ وقولُه تعالى(9/106)
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
كأنهم يوم يرونها لم يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها
إما تقريرٌ وتأكيدٌ لما ينبىءُ عنه الإنذارُ من سرعة مجيءِ المُنذَر بهِ لا سيَّما على الوجهِ الثَّانِي أيْ كأنَّهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار بها إلا عشيةَ يومٍ واحدٍ أو ضحاهُ فلما تُركَ اليومُ أضيفَ ضُحاه إلى عشيتِه وإمَّا ردٌّ لمَا أدمجُوه في سؤالِهم فإنَّهم كانُوا يسألونَ عنها بطريق الاستبطاءِ مستعجلينَ بها وإنْ كانَ على نهجِ الاستهزاءِ بهَا وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين فالمَعْنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعدَ الوعيدِ تحقيقاً للإنذارِ وردًّا لاستبطائِهم والجملةُ على الأولِ حالٌ من الموصولِ فإنَّه على تقديرَيْ الإضافةِ وعدمِها مفعولٌ لمنذرُ كما أنَّ قولَه تعالى كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار حالٌ من ضميرِ المفعولِ في يحشرُهم أي يحشرهم مشبيهن بمن لم يلبثْ في الدُّنيا إلا ساعةً خلا أن الشبهَ هناكَ في الأحوالِ الظاهرةِ من الزيِّ والهيئةِ وفيمَا نحنُ فيه في الاعتقاد كأنَّه قيلَ تنذرُهم مشبهينَ يومَ يَرَونها في الاعتقادِ بمن لم يلبثْ بعد الإنذارِ بها إلا تلك المدةَ اليسيرةَ وعلى الثانِي مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة النازعات كانَ ممن حبسَهُ الله عزَّ وجلَّ في القبرِ والقيامةِ حتى يدخلَ الجنةَ قدرَ صلاةٍ مكتوبةٍ والله أعلم(9/106)
80 سورة عبس (1 3)
سورة عبس مكية وآياتها اثنان وأربعون
بسم الله الرحمن الرحيم(9/107)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
عَبَسَ وتولى
أَن جَاءهُ الأعمى
رُويَ أنَّ ابنَ أمِّ مكتومٍ واسمُه عبدُ اللَّه بنُ شُريحِ بنِ مالكِ بنِ أبي ربيعةَ الفهريُّ وأمُّ مكتومٍ اسمُ أم أبيهِ أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعندَهُ صناديدُ قريشٍ عتبةُ وشيبةُ ابنا ربيعةَ وأبُو جهل بنُ هشامٍ والعباسُ بنُ عبدِ المطلبِ وأميةُ بنُ خلفٍ والوليدُ بنُ المغيرةِ يدعُوهم إلى الإسلامِ رجاءَ أنْ يسلمَ بإسلامِهم غيرُهم فقالَ له يا رسولَ الله أقرئْنِي وعلمنِي مما علمكَ الله تعالَى وكررَ ذلكَ وهو لا يعلمُ تشاغلَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ بالقوم فكرِه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس اعرض عنه فنزلتْ فكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكرمُه ويقولُ إذا رآه مرحباً بمن عاتبَني فيه ربِّي ويقولُ لهُ هل لكَ من حاجةٍ واستخلفَهُ على المدينة مرتينِ وقرىء عبَّس بالتشديدِ للمبالغةِ وأنْ جاءَهُ علةٌ لتولَّى أو عَبَس على اختلافِ الرأيينِ أيْ لأَنْ جاءَهُ الأعمى والتعرضُ لعنوانِ عماهُ إمَّا لتمهيدِ عُذرِه في الإقدامِ على قطعِ كلامِه عليه الصَّلاة والسَّلام بالقومِ والإيذانِ باستحقاقه بالرفق والرأفة وما لزيادةِ الإنكارِ كأنَّه قيلَ تولَّى لكونِه أَعْمى كما أنَّ الالتفاتَ في قولِه تعالى(9/107)
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
وَمَا يُدْرِيكَ
لذلكَ فإنَّ المشافهةَ أدخلُ في تشديدِ العتابِ أيْ وأيُّ شيءٍ يجعلُكَ دارياً بحالِه حتى تُعرضَ عنْهُ وقولُه تعالى
لَعَلَّهُ يزكى
استئنافٌ واردٌ لبيانِ ما يلوحُ به ما قبلَه فإنه معَ إشعارِه بأنَّ له شأناً منافياً للإعراضِ عنه خارجاً عن درايةِ الغيرِ وادرائِه مؤذنٌ بأنه تعالَى يُدريه ذلكَ أي لعلَّه يتطهرُ بما يقتبسُ منكَ من أوضارِ الأوزارِ بالكليةِ وكلمةُ لعلَّ مع تحققِ التزكِّي واردةٌ على سَننِ الكِبْرِياء أو على اعتبارِ مَعْنى الترجِّي بالنسبةِ إليه عليه الصلاةُ والسلامُ للتنبيه على أن الإعراضَ عنه عند كونِه مرجوَّ التزكِّي مما لا يجوزُ فكيفَ إذا كان مقطوعاً بالتزكِّي كما في قولِك لعلَّك ستندمُ على ما فعلتَ وفيه إشارةٌ إلى أنَّ من تصدَّى لتزكيتهم من الكفرة لا يُرجى منهم التزكِّي والتذكر أصلا(9/107)
80 سورة عبس (4 11)
وقولُه تعالى(9/108)
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
(أَوْ يَذَّكَّرُ
عطفٌ على يزكَّى داخلٌ معه في حكم الترجِّي وقولُه تعالَى
فَتَنفَعَهُ الذكرى
بالنصب على جواب لعلَّ وقرىء بالرفع عطفا على يذكَّرُ أي أو يتذكرُ فتنفعُه موعظتُك إنْ لم يبلغْ درجةَ التزكِّي التامِّ وقيلَ الضميرُ في لعلَّه للكافر فالمَعْنى أنك طمعتَ في أنْ يتزكَّى أو يذكرَ فتقربُه الذكرَى إلى قبولِ الحقِّ ولذلكَ توليتَ عن الأَعْمى وما يُدريكَ أن ذلكَ مرجُّوُ الوقوعِ(9/108)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5)
أَمَّا مَنِ استغنى
أي عن الإيمان وعما عندك من العلومِ والمعارفِ التي ينطوي عليها القرآنُ(9/108)
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
فَأَنتَ لَهُ تصدى
أي تتصدَّى وتتعرضُ بالإقبالِ عليهِ والاهتمامِ بإرشادِه واستصلاحِه وفيه مزيدُ تنفيرٍ له عليه الصلاةُ والسلامُ عن مصاحبتِهم فإن الإقبالَ على المُدبرِ ليسَ من شيمِ الكبارِ وقُرِىءَ تصَّدَّى بإدغامِ التَّاءِ في الصَّادِ وقُرِىءَ تُصدى بضمِّ التاءِ أيْ تُعرضُ ومعناهُ يدعوكَ إلى التصدِّي له داعٍ من الحرص والتهالكُ على إسلامِه(9/108)
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)
وما عليك ان لا يزكى
وليسَ عليكَ بأسٌ في أن لا يتزكى بالإسلام حتَّى تهتمَّ بأمره وتعرضَ عمَّن أسلمَ والجملةُ حالٌ من ضمير تصدى وقيل ما استفهامية للإنكار أيْ أيُّ شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله النفيُ أيضاً(9/108)
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8)
وَأَمَّا مَن جَاءكَ يسعى
أيْ حالَ كونِه مسرعاً طالباً لما عندكَ من أحكام الرشدِ وخصالِ الخيرِ(9/108)
وَهُوَ يَخْشَى (9)
وَهُوَ يخشى
أي الله تعالَى وقيلَ يخشَى أذيةَ الكفارِ في إتيانِك وقيلَ يخشى الكبوةَ إذ لم يكن معهُ قائدٌ والجملةُ حال من فاعل يعسى كما أنه حالٌ من فاعل جاءك(9/108)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
فَأَنتَ عَنْهُ تلهى
تتشاغلُ يقالُ لَهَى عنه والتهِى وتَلهَّى وقُرِىءَ تتلهى وتلهى أي يُلهيك شأنُ الصناديدِ في تقديم ضميرِه عليه الصلاةُ والسلام على الفعلين تبيه على أنَّ مناطَ الإنكارِ خصوصيتُه عليه الصلاةُ والسلامُ أي مثلُك خصوصاً لا ينبغِي أن يتصدَّى للمستغنِي ويتلهَّى الفقيرَ الطالبَ للخيرِ وتقديمُ لَه وعنْهُ للتعريض باهتمامه عليه الصلاةُ والسلامُ بمضمونهما رُويَ أنه عليه الصلاةُ والسلامُ ما عبسَ بعذ ذلكَ في وجهِ فقيرٍ قط ولا تصدَّى لغنى(9/108)
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)
كلا(9/108)
80 سورة عبس (12 15) ردع له عليه الصلاة والسلامُ عمَّا عُوتبَ عليهِ من التصدِّي لمن استغنَى عمادعاه إليهِ من الإيمانِ والطاعةِ وما يوجبهُما من القرآنِ الكريمِ مبالغاً في الاهتمامِ بأمره متهالكا على إسلامِه معرضاً بسببِ ذلكَ عن إرشادِ من يسترشدُه وقولُه تعالى
إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ أي موعظةٌ يجبُ أن يتعظَ بها ويعملَ بموجبِها تعليلٌ للردعِ عما ذُكِرَ ببيانِ علوِّ رتبةِ القرآنِ العظيمِ الذي استغنى عنه من تصدَّى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لهُ وتحقيقُ أن شأنه أن يكونُ موعظةً حقيقةً بالاتعاظِ بها فمن رغبَ فيها اتَّعظَ بها كما نطقَ به قولُه تعالى(9/109)
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)
فَمَن شَاء ذَكَرَهُ أي حفظَهُ واتَّعظَ بهِ ومن رغبَ عنهَا كما فعلَ المستغنيُّ فلا حاجةَ إلى الاهتمامِ بأمرِه فالضميرانِ للقرآنِ تأنيث الأولُ لتأنيثِ خبرِه وقيلَ الأولُ للسورةِ أو للآياتِ السابقةِ والثانِي للتذكرةِ والتذكيرِ لأنها في مَعْنى الذكرِ والوعظ وليس بذاك فإن السورةَ والآياتِ وإن كانتْ متصفةً بما سيأتِي من الصفاتِ الشريفةِ لكنها ليستْ مما أُلقي على من استغنى عنه واستحقَ بسببِ ذلكَ ما سيأتِي من الدعاءِ عليهِ والتعجبِ من كفرِه المفرطِ لنزولِها بعد الحادثةِ وأما من جوَّز رجوعَهما إلى العتابِ المذكورِ فقد أخطأَ وأساءَ الأدبَ وخبطَ خبطاً يقضي منه العجبُ فتأمَّل وكُن على الحقِّ المبينِ وقولُه وتعالى(9/109)
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)
فَى صُحُفٍ متعلقٌ بمضمرٍ هُو صفةٌ لتذكرةٌ وما بينهما اعتراضٌ جيءَ به للترغيبِ فيها والحثِّ على حفظِها أي كائنةٌ في صحفٍ منتسخةٍ من اللوحِ أو خبرٌ ثانٍ لأنَّ
مُّكَرَّمَةٍ عندَ الله عزَّ وجلَّ(9/109)
مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
مَّرْفُوعَةٍ أي في السماءِ السابعةِ أو مرفوعةِ المقدارِ والذكرِ
مُّطَهَّرَةٍ منزهةٍ عن مساسِ أيدِي الشياطينِ(9/109)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
بِأَيْدِى سَفَرَةٍ أي كتبةٍ من الملائكةِ ينتسخونَ الكتبَ من اللوحِ على أنه جمعُ سافرٍ من السفرِ وهو الكتبِ وقيل بأيدِي رسلٍ من الملائكةِ يسفرونَ بالوحْي بينَهُ تعالَى وبين الأنبياءِ على أنه جمعُ سفيرٍ من السفارةِ وحملُهم على الأنبياءِ عليهم السلامُ بعيدٌ فإن وظيفتَهم التلقِّي من الوَحْي لا الكتبُ منه وإرشادُ الأمةِ بالأمرِ والنَّهي وتعليمُ الشرائعِ والأحكامِ لا مجردُ السفارةِ إليهم وكذَا حملُهم على القراءِ لقراءتِهم الأسفارَ أو على أصحابِه عليه الصلاةُ والسلامُ وقد قالُوا هذه اللفظةُ مختصةٌ بالملائكةِ لا تكادُ تطلقُ على غيرِهم وإن جازَ الإطلاقُ بحسبِ اللغةِ والباءُ متعلقةٌ بمطهرةٍ قال القَفَّالُ لما لم يمسَّها إلا الملائكةُ المطهرونَ أضيفَ التطهيرُ إليها لطهارة من يمسُّها وقال القرطبيُّ إن المرادَ بما في قوله تعالى لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون هؤلاء السفرةُ الكرامُ البررة(9/109)
سورة عبس (16 23)(9/110)
كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
كِرَامٍ عند الله عزَّ وجلَّ أو متعطفينَ على المؤمنين يكلمونهم ويستغفرونَ لهم
بَرَرَةٍ أتقياءَ وقيل مطيعينَ لله تعالى من قولهم فلانٌ يبرُّ خالقه أي يطيعه وقيل صادقينَ من برَّ في يمينه(9/110)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
قُتِلَ الإنسان دعاءٌ عليه بأشنعِ الدعواتِ وقوله تعالى
مَا أَكْفَرَهُ تعجبٌ من إفراطه في الكفران وبيانٌ لاستحقاقِه للدعاءِ عليه والمرادُ به إمَّا من استغنَى عن القُرآن الكريمِ الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال عليه والإيمان به وإما الجنسُ باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده لا باعتبار جميعِ أفرادِه وفيه مع قصرِ متنه وتقاربِ قُطريه من الإنباءِ عن سخطٍ عظيمٍ ومذمةٍ بالغة مالا غايةَ وراءَهُ وقولُه تعالَى(9/110)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)
مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ شروعٌ في بيانِ إفراطِه في الكفرانِ بتفصيلِ ما أفاضَ عليه من مبدأ فطرتِه إلى مُنْتهَى عمرِه من فُنونِ النعمِ الموجبةِ بالشكرِ والطاعةِ مع إخلالِه بذلكَ وفي الاستفهامِ عن مبدأ خلقِه ثم بيانِه بقولِه تعالى(9/110)
مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ تحقيرٌ له أيِّ شيءٍ حَقيرٍ مهينٍ خلقه من نطفة قدرة خلقَهُ
فَقَدَّرَهُ فهيَّأهُ لما يصلحُ لهُ ويليقُ به من الأعضاءِ والأشكالِ أو فقدَّرَهُ أطْواراً إلى أنْ تمَّ خلقُه وقولُه تعالَى(9/110)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ منصوبٌ بمُضمرٍ يفسرُهُ الظاهرُ أيْ ثم سهَّلَ مخرجَهُ من البطن بأن فتح فتحَ فمَ الرحمِ وألهمَهُ أنْ ينتكسَ أو يسرَ له سبيلَ الخيرِ والشرِّ ومكنه من السلوك وتعريفُ السبيلِ باللامِ دونَ الإضافةِ للإشعارِ بعمومِه(9/110)
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعلَهُ ذَا قبرٍ يُوارَى فيه تكرمةً لهُ ولم يدعْهُ مطروحاً على وجهِ الأرض جرزا للسباعِ والطير كسائرِ الحيوانِ يقالُ قبرَ الميتَ إذَا دفنَهُ وأقبرَهُ إذا أمرَ بدفنِه أو مكنَ منْهُ وعَدُّ الإماتةِ من النعمِ لأنَّها وصلةٌ في الجُملةِ إلى الحياةِ الأبديةِ والنعيمِ المقيمِ(9/110)
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)
ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ أي إذا شاء أنشره وأنشر على القاعدةُ المستمرةُ في حذفِ مفعولِ المشيئةِ وفي تعليقِ الإنشارِ بمشيئتِه تعالى إيان بأنَّ وقتَهُ غيرُ متعينٍ بلْ هُو تابعٌ لهَا وقُرِىءَ نَشَرهُ(9/110)
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
كلا ردع للإنسان(9/110)
سورة (24 27) عمَّا هو عليه وقولُه تعالى
لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ بيانٌ لسبب الرَّدعِ أي لم يقضِ بعدُ من لدُنْ آدمَ عليهِ السَّلامُ إلى هذه الغايةِ مع طولِ المَدَى وامتدادِه ما أمرَهُ الله تعالَى بأسرِه إذْ لا يخلُو أحد عن تقصير ما كذا قالُوا وهكَذا نُقلَ عن مجاهدٍ وقَتَادَةَ ولا ريبَ في أنَّ مساقَ الآياتِ الكريمةِ لبيان غاية عظم جنايةِ الإنسانِ وتحقيقِ كُفرانِه المفرطِ المستوجب للسخطِ العظيمِ وظاهرٌ أنَّ ذلكَ لا يتحققُ بهذا القدرِ من نوع تقصير لايخلو عنْهُ أحدٌ من أفرادِه كيفَ لا وقَدْ قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ شيَّبتني سورةُ هودٍ لمَا فيهَا من قولِه تعالى فاستقمْ كَما أُمرتَ فالوجُه أنْ يحملَ عدمُ القضاءِ على عمومِ النفي لا على نفي العمومِ إمَّا عَلى أنَّ المحكومَ عليهِ هُو المستغني أو هو الجنسُ لكنْ لا عَلى الإطلاقِ بَلْ على أنَّ مصداقَ الحكمِ بعدمِ القضاءِ بعضُ أفرادِه وقد أُسندَ إلى الكُلِّ كَما في قولِه تعالى إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ للإشباعِ في اللومِ بحكمِ المجانسةِ على طريقةِ قولِهم بنُو فلان قتلُوا فلاناً والقاتلُ واحدٌ منهم وإمَّا على أنَّ مصداقَهُ الكلُّ من حيثُ هو كلٌّ بطريقِ رفعِ الإيجابِ الكليِّ دونَ السلبِ الكليِّ فالمَعْنى لَمَّا يقضِ جميعُ أفرادِه ما أمرَهُ بل أخلَّ به بعضُها بالكفرِ والعصيانِ مع أنْ مُقتضَى ما فُصل من فنون النعماءِ الشاملةِ للكلِّ أنْ لا يتخلفُ عنه أحدٌ أصلاً هذا وقد قيلَ كلاَّ بمَعْنى حقاً فيتعلقُ بما بعدَهُ أي حقَّاً لم يعملْ بِما أمرَهُ به(9/111)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)
فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ شروعٌ في تعدادِ النعمِ المتعلقةِ ببقائِه بعد تفصيلِ النعمِ المتعلقةِ بحدوثِه أي فلينظرْ إلى طعامِه الذي عليه يدورُ أمرُ معاشهِ كيفَ دبرنَاهُ وقولُه تعالى(9/111)
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)
أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً أي الغيثَ بدلُ اشتمالٍ من طعامِه لأنَّ الماءَ سببٌ لحدوثِ الطعامِ فهُو مشتَملٌ عليهِ وقُرِىءَ إنَّا على الاستئنافِ وقُرِىءَ أنى بالإمالةِ أي كيفَ صببَنا إلى آخرِه أي صببنَاهُ صبا عجبا(9/111)
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض أي بالنباتِ
شَقّاً بديعاً لائقاً بما يشقُّها من النباتِ صِغَراً وكِبرَاً وشكلاً وهيئةً وحملُ شقِّها على ما بالكرابِ بجعلِ إسنادِه إلى نونِ العظمةِ من قبيلِ إسنادِ الفعلِ إلى سببِه يأباهُ كلمةُ ثمَّ والفاءُ في قولِه تعالى(9/111)
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27)
فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً فإنَّ الشقَّ بالمَعْنى المذكور لا ترتبَ بينَهُ وبين الأمطارِ أصلاً ولا بينَهُ وبينَ إنبات الحب بلا فإنَّ المرادَ بالنبات ما نبتَ من الأرضِ إلى أن يتكامل النمو وينقعد الحبُّ فإنَّ انشقاقَ الأرضِ بالنباتِ لا يزالُ يتزايدُ ويتسعُ إلى تلكَ المرتبةِ على أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيانِ النعمِ الفائضةِ من جنابهِ تعالى على وجهٍ بديعٍ خارجٍ عن العادات المعهودة كما ينبىءُ عنه تأكيدُ الفعلينِ بالمصدرينِ فتوسيطُ فعلِ المنعمِ عليهِ في حصولِ تلك النعمِ مخلٌّ بالمرامِ(9/111)
سورة عبس (28 34) وقوله تعالى(9/112)
وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)
وَعِنَباً عطفٌ على حباً وليسَ من لوازم العطفِ أنْ يُقيدَ المعطوفُ بجميع ما قُيِّد به المعطوفُ عليه فلا ضيرَ في خُلوِّ إنباتِ العنبِ عن شقِّ الأرضِ
وَقَضْباً أي رطبة سُميتْ بمصدرِ قضَبهُ أي قطَعهُ مبالغةً كأنَّها لتكرر قطعِها وتكثرِه نفسُ القطعِ(9/112)
وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً الكلامُ فيهما وفي أمثلهما كما في العنبِ(9/112)
وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)
وَحَدَائِقَ غُلْباً أي عظاماً وصفَ به الحدائقُ لتكاثفها وكثرةِ أشجارِها أو لأنَّها ذات أشجارِها أو لأنَّها ذاتُ أشجارٍ غلاظٍ مستعارٌ من وصفِ الرقابِ(9/112)
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)
وفاكهة وَأَبّاً أي مَرْعى من أبَّه إذَا أمَّه أي قصَدُه لأنَّه يُؤمُ ويُنتجعُ أو منْ أبَّ لكذا إذا تهيأ لأنه متهيء للرَّعِي أو فاكهةً يابسةً تؤبُ للشتاءِ وعن الصدِّيقِ رضيَ الله عنه أنه سُئلَ عن الأبِّ فقالَ أيُّ سماءٍ تُظلِني وأيُّ أرضٍ تُقِلَني إذَا قلتُ في كتاب الله مالا علَم لى بهِ وعن عمر رضيَ الله عنه أنَّه قرأَ هذه الآيةَ فقالَ كلُّ هذا قد عرفَنا فَما الأبُّ ثم رفض عصاً كانتْ بيدِه وقالَ هَذا لعَمْرُ الله التكلفُ وما عليكَ يا ابنَ أُمِّ عمرَ أنْ لا تدريَ ما الأبُّ ثم قالَ اتبعُوا ما تبينَ لكُم من هذا الكتابِ ومالا فدعُوه(9/112)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم إمَّا مفعول له أي فعل ذلكَ تمتيعاً لكُم ولمواشيكُم فإنَّ بعضَ النعمِ المعدودةِ طعامٌ لهم وبعضَها علفٌ لدوابِّهم والالتفاتُ لتكميل الامتنانِ وإمَّا مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعله المضمرِ بحذف الزوائدة أي متعكم بذلك متاعا أو لفعلٍ مترتبٍ عليهِ أي متعكم بذلك فتمتعتُم متاعاً أي تمتعا كما مر غيره مرةٍ أو مصدرٌ من غير لفظهِ فإنَّ ما ذُكر من الأفعالِ الثلاثةِ في مَعْنى التمتيعِ(9/112)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
فَإِذَا جَاءتِ الصاخة شروعٌ في بيان أحوالِ معادهم إثرَ بيانِ مبدأِ خلقِهم ومعاشِهم والفاءُ للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها من فُنون النعمِ عن قريب كما يشعرُ لفظُ المتاعِ بسرعة زَوَالِها وقربِ اضمحلالِها والصاخةُ هي الداهيةُ العظيمةُ التي يصخُّ لها الخلائقُ أي يصيخونَ لها من صخَّ لحديثِه إذا أصاخَ له واستمتع وصفتْ بها النفخةُ الثانيةُ لأنَّ الناسَ يصيخُونَ لها وقيل هي الصيحةُ التي تصخُّ الآذانَ أي تصمَّها لشدةِ وقعِها وقيلَ هي مأخوذةٌ من صخَّهُ بالحجرِ أي صكَّهُ وقولُه تعالى(9/112)
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)
يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ(9/112)
سورة عبس (35 41)
أَخِيهِ(9/113)
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
وأمِّه وَأَبِيهِ
وصاحبتِه وبنيه وإما منصوبٌ بأعِني تفسيراً للصاخَّة أو بدلٌ منها مبنيٌّ على الفتحِ بالإضافةِ إلى الفعل على رأي الكوفيين وقيلَ بدلٌ من إذَا جاءتْ كما مرَّ في قوله تعالى يوم يتذكر الخ أي يعرضُ عنُهم ولا يصاحبُهم ولا يسألُ عن حالِهم كما في الدُّنيا لاشتغالِه بحالِ نفسِه وأمَّا تعليلُ ذلكَ بعلمِه بأنهم لايغنون عنه شيئاً أو بالحذرِ من مطالبتِهم بالتبعاتِ فيأباهُ قولُه تعالى(9/113)
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ فإنَّه استئنافٌ واردٌ لبيانِ سببِ الفرارِ أي لكُلِّ واحدٍ من المذكورينَ شغلٌ شاغلٌ وخطبٌ هائلٌ يكفيِه في الاهتمامِ به وأما الفرار حذار من مطالبتِهم أو بُغضاً لهُم كَما يُروَى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهُمَا أنَّه يفرُّ قابيلُ من أخيِه هابيلَ ويفر النبي صلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم منْ أُمِّه ويفرُّ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ من أبيهِ ونوحٌ عليهِ السَّلامُ من ابنِه ولوطٌ عليهِ السَّلامُ من امرأتِه فليسَ من قبيلِ هذا الفرارِ وكَذا مَا يُروَى أنَّ الرجلَ يفرُّ من أصحابِه وأقربائِه لئلاَّ يَروَه على ما هُو عليهِ من سُوءِ الحالِ وقُرِىءَ يَعْنِيه بالياءِ المفتوحةِ والعينِ المُهملةِ أي يُهمَّهُ من عناهُ الأمرُ إذا أهمَّه أي أوقعَهُ في الهمِّ ومنْهُ منْ حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه مالا يعنيه لامن عناهُ إذا قصدَهُ كما قيلَ وقولُه تعالى(9/113)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ بيانٌ لما أمرِ المذكورينَ وانقسامِهم إلى السعداءِ والأشقياءِ بعد ذكرِ وقوعِهم في داهيةٍ دهياءَ فوجوهٌ مبتدأٌ وإنْ كانتْ نكرةً لكونِها في حيزِ التنويعِ ومسفرةٌ خبرُهُ ويومئذٍ متعلقٌ به أي مضيئةٌ متهللةٌ منْ أسفرَ الصبحُ إذَا أضاءَ وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما أنَّ ذلكَ من قيامِ الليلِ وفي الحديثِ مَنْ كثر صلاته باليل حسُن وجهُه بالنهارِ وعنِ الضحَّاكِ منْ آثارِ الوضوءِ وقيلَ من طولِ ما اغبرّتْ في سبيلِ الله(9/113)
ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ بما تشاهدُ من النعيم المقيمِ والبهجةِ الدائمةِ(9/113)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ أي غبارٌ وكدورةٌ(9/113)
تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41)
تَرْهَقُهَا أي تعلُوها وتغشاهَا
قترة أي سوادو ظلمة(9/113)
سورة عبس (42) وسورة التكوير (1 3)(9/114)
أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
أولئك إشارةٌ إلى أصحاب تلك الوجوهِ وما فيهِ من معنى البعد للإيذان ببُعد درجتِهم في سُوءِ الحالِ أي أولئكَ الموصوفونَ بسوادِ الوجوهِ وغيره
هُمُ الكفرة الفجرة الجامعونَ بين الكفرِ والفجورِ فلذلكَ جمعَ الله تعالى إلى سواد وجوهِهم الغبرةَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ عبسَ جاءَ يومَ القيامةِ وجهه ضاحك مستبشر سورة التكوير مكية وآياتها تسع وعشرون
{بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم}(9/114)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
{إِذَا الشمس كُوّرَتْ} أي لُفَّتْ من كَوَّرتَ العمامةَ إذا لففتَها على أَنَّ المرادَ بذلكَ إمَّا رفعُها وإزالتُها منْ مقرِّها فإنَّ الثوبَ إذا أُريدَ رفعُهُ يُلفُّ لفاً ويُطْوى ونحُوه قولُه تعَالَى يَوْمَ نَطْوِى السماء وأما لف صوئها المنبسطِ في الآفاقِ المُنتشرِ في الأقطارِ على أنَّه عبارةٌ عنْ إزالتها والذهابِ بها بحكمِ استلزامِ زوالِ اللازم لنزوال الملزومِ أو ألقيتْ عن فلكها كَما وُصفتِ النجومُ بالانكدارِ من طعنَهُ فكوَّرَهُ إذا ألقاهُ عَلى الأرضِ وعن أبي صالحِ كُورتْ نُكِّستْ وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا تكويرُهُا إدخالُها في العرشِ ومدارُ التركيبِ على الإدارةِ والجمعِ وارتفاعُ الشمسِ على أنَّه فاعلٌ لفعلٍ مضمرٍ يُفسِّرُه المذكورُ وعندَ البعضِ عَلى الابتداءِ(9/114)
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)
{وَإِذَا النجوم انكدرت} أي انقضَّتْ وَقيلَ تناثرتْ وَتساقطتْ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لا يَبْقَى يومئذٍ نجمٌ إلا سقطَ في الأرضِ وعنْهُ رضيَ الله عنْهُ أنَّ النُّجومَ قناديلُ معلقةٌ بينَ السماءِ والأرضِ بسلاسلَ منْ نورٍ بأيدي ملائكةٍ من نورٍ فإذَا ماتَ من فى السموات ومن في الأرضِ تساقطتْ من أيديهم وقيلَ انكدارُها انطماسُ نُورِها ويُروَى أنَّ الشمسَ والنجومَ تُطرحُ في جهنَم ليراهَا مَنْ عبدَها كما قالَ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ(9/114)
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)
{وَإِذَا الجبال سُيّرَتْ} أيْ عنْ أماكنِها بالرجفة الحاصلةِ لافي الجوِّ فإنَّ ذلكَ بعدَ النفخة الثانية(9/114)
سورة التكوير (4 9)(9/115)
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا العشار جمعُ عُشَراءَ وهيَ الناقةُ التي أتى على حملِها عشرةُ أشهرٍ وهو اسمُها إلى أنْ تضعَ لتمامِ السنةِ وهي أنفسُ ما يكونُ عندَ أهلِها وأعزُّها عليهمْ
عُطّلَتْ تُرِكتْ مهملةً لاشتغالِ أهلِها بأنفسِهم وقيلَ العشارُ السحائبُ فإنَّ العربَ تُشبهها بالحامل ومنهُ قولُه تعالىَ فالحاملات وِقْراً وتعطيلُها عدمُ إمطارِها وقُرِىءَ عُطِلَتْ بالتخفيفِ(9/115)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ أي جُمعتْ من كلِّ جانبٍ وقيلَ بُعثتْ للقصاصِ قالَ قتادةُ يُحشرُ كلُّ شيءٍ حتَّى الذبابُ للقصاصِ فإذَا قُضِيَ بينَها رُدَّتْ تُراباً فلا يَبقْى منها إلا مافيه سرورٌ لبني آدمَ وإعجابٌ بصورته كالطاوس ونحوِه وقُرِىءَ حُشِّرَتْ بالتشديدِ(9/115)
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)
وَإِذَا البحار سُجّرَتْ أي أحميت أو ملئت يتفجير بعضِها إلى بعضٍ حتَّى تعودَ بحراً واحداً مِنْ سجرَ التنورَ إذا ملأَهُ بالحطبِ ليحميَهُ وقيلَ مُلئتْ نيرانا تضطرم لتعذيب أهلِ النارِ وعن الحسنِ يذهبُ ماؤُها حتَّى لا يبقى فيها قطرةٌ وقرىء سجرت بالتخفيف(9/115)
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
إذا النفوس زُوّجَتْ أي قُرِنتْ بأجسادها أو قُرِنتْ كلُّ نفسٍ بشكلِها أو بكتابِها أو بعملِها أو نفوسُ المؤمنينَ بالحُورِ ونفوسُ الكافرينَ بالشياطين(9/115)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)
وإذا الموؤدة أي المدفونة حيةً وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق أو لحوقِ العارِ بهم من أجلهنَّ قيلَ كان رجل منهُم إذَا وُلِدتْ له بنتٌ ألبسها جُبَّةً من صُوفٍ أو شَعَرٍ حَتَّى إذَا بلغتْ ستَّ سنينَ ذهبَ بها إلى الصحراءِ وقد حفرَ لها حُفرةً فيُلقيها فيهَا ويُهيلُ عليها الترابَ وقيلَ كانتِ الحاملُ إذا قربت حفرتْ حُفرةً فتمخضتْ على رأسِ الحُفرةِ فإذا ولدتْ بنتاً رمتْ بهَا وإنْ ولدتْ ابناً حبستْهُ
سُئِلَتْ(9/115)
بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ توجيهُ السؤالِ إليهَا لتسليتِها وإظهارِ كمالِ الغيظِ والسَّخطِ لوائدها وإسقاطِه عن درجةِ الخطابِ والمبالغةِ في تبكيتِه كما في قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين وقُرىءَ سَأَلتْ أي خاصمتْ أو سألتِ الله تعالَى أو قاتِلَها وإنما قيلَ قُتلتْ لما أنَّ الكلامَ إخبارٌ عنها لا حكايةٌ لما خُوطبتْ بهِ حينَ سُئلتْ ليقالَ قُتِلْتِ على الخطابِ ولا حكايةٌ لكلامِها حينَ سَألتْ ليقالَ قُتِلْتُ على الحكايةِ عن نفِسها وقد قرىء كذلك بالتشديد أيضاً وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه سُئِلَ عن أطفالِ المشركينَ فقال لا يعذبون(9/115)
سورة التكوير (10 14) واحتجَّ بهذهِ الآيةِ(9/116)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ أيْ صحفُ الأعمالِ فإنَّها تُطوى عندَ الموتِ وتنشرُ عند الحساب عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنَّه قالَ يُحشرُ النَّاسُ عُراةً حُفاةً فقالتْ أمُّ سلمةَ فكيفَ بالنساءِ فقالَ شُغلَ الناسُ يا أُمَّ سلمةَ قالتْ وما شغلَهُم قالَ نشرُ الصحفِ فيها مثاقيلُ الذرِّ ومثاقيلُ الخردلِ وقيلَ نُشرتْ أي فُرِّقتْ بينَ أصحابِها وعن مَرْثَدِ بنِ وَدَاعةَ إذَا كانَ يومُ القيامةِ تطايرتِ الصحفُ من تحتِ العرشِ فتقعُ صحيفةُ المؤمنِ في يدِه في جنةٍ عاليةٍ وتقعُ صحيفةُ الكافرِ في يده في سَمومٍ وحميمٍ أي مكتوبٌ فيها ذلكَ وهيَ صُحفٌ غيرُ صحفِ الأعمالِ(9/116)
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)
وَإِذَا السماء كُشِطَتْ قُطعتْ وأُزيلتْ كما يُكشطُ الإهابُ عن الذبيحةِ والغطاءُ عن الشيء المستور به وقرئ قُشطتْ واعتقابُ الكافِ والقافِ غيرُ عزيز كالكافُور والقافُورِ(9/116)
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)
وَإِذَا الجحيم سُعّرَتْ أي أوقدت إتقادا شديداً قيلَ سَعَّرهَا غضبُ الله عزوجل وخطايا بنى آدم وقرئ سُعِرَتْ بالتَّخفيفِ(9/116)
وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)
وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ أي قُرَّبتْ من المتقينَ كقولِه تعالى وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ قيلَ هذهِ اثنتا عشرةَ خصلةً ستٌّ منها في الدُّنيا أي فيمَا بينَ النفختينِ وهُنَّ من أول السورةِ إلى قوله تعالى وَإِذَا البحار سُجّرَتْ على أنَّ المرادَ بحشرِ الوحوشِ جمعُها من كل ناحية لأبعثها للقصاصِ وستٌّ في الآخرةِ أي بعدَ النفخةِ الثانيةِ وقوله تعالى(9/116)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ جوابُ إذَا على أنَّ المرادَ بها زمانٌ واحدٌ ممتدٌّ يسعَ ما في سباقها وسباقِ ما عُطفَ عليها من الخصالِ مبدؤُه النفخةُ الأُولى ومنتهاهُ فصلُ القضاءِ بينَ الخلائقِ لكنْ لا بمعْنى أنها تعلمُ ما تعلُم في كلُّ جزءٍ من أجزاءِ ذلكَ الوقتِ المديدِ أو عند وقوعِ داهيةٍ من تلكَ الدواهِي بلْ عند نشرِ الصحفِ إلا أنَّه لما كانَ بعضُ تلك الدَّواهِي من مباديهِ وبعضُها من روادفِه نُسبَ علمُها بذلكَ إلى زمان وقع كُلِّها تهويلاً للخطب وتفظيعاً للحال والمرادُ بمَا أَحضرتْ أعمالها من الخير والبشر وبحضورِها إما حضورُ صحائِفها كما يعربُ عنه نشرُها وإما حضورُ أنفسِها على ما قالُوا من أنَّ الأعمالَ الظاهرةَ في هذه النشأة بصورة عرضيةٍ تبرُز في النشأة الآخرة بصور جوهريةٍ مناسبةٍ له في الحسنِ والقُبحِ على كبفيات مخصومة وهيآت مُعينةٍ حتى إنَّ الذنوبَ والمعاصيَ تتجسم هناك وتتصورُ بصورةِ النَّارِ وعَلى ذلكَ حُمل قولُه تعالى وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين وقوله تعالى إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وكذا قولُه(9/116)
سورة التكوير
آية (15) عليه الصلاة والسلام في حقِّ مَنْ يشربُ من آنيةِ الذهبِ والفضةِ إنما يُجرجِر في بطنِه نارَ جهنمَ ولا بُعدَ في ذلكَ ألا يُرى أن العلمَ يَظهر في عالمِ المثالِ على صورة البن كما لايخفى على مَنْ له خِبرةٌ بأحوالِ الحضَراتِ الخمس وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنةٍ وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع النفوسِ أو لبعضِ منها للإيذانِ بأن ثبوتَهُ لجميعِ أفرادِها قاطبةً من الظهورِ والوضوحِ بحيثُ لا يكادُ يحومُ حولَهُ شائبةُ اشتباهٍ قطعاً يعرفُه كلُّ أحدٍ ولوجئ بعابرة تدلُّ على خلافِه وللرمزِ إى أنَّ تلكَ النفوسَ العالمةَ بما ذُكِرَ مع توفرِ أفرادِها وتكثرِ أعدادِها مما يُستقل بالنسبةِ إلى جناب الكبرياءِ الذي أشير إلى بعض بدائع شؤنه المنبئةِ عن عظمِ سُلطانِه واما قيلَ منْ أنَّ هذَا من قبيلِ عكسِ كلامِهم الذي يقصِدون به الإفراطَ فيما يُعكسُ عنْهُ وتمثيله بقولِه تعالى رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ وبقول منْ قالَ قَدْ أتركَ القِرْنَ مُصفرّاً أناملُهُ وبقولِ من قالَ حينَ سُئلَ عن عددِ فرسانِه رُبَّ فارسٍ عندِي وعندُه المقانبُ قاصداً بذلكَ التماديَ في تكثير فُرسانِه وإظهارَ براءتِه من التزيد وأنَّه ممَّن يقللُ كثيرَ مَا عندَهُ فضلاً أنْ يتزيدَ فمن لوائحِ النظرِ الجليلِ إلا أنَّ الكلامَ المعكوسَ عنْهُ فيما ذُكِرَ من الأمثلةِ مما يقبلُ الإفراطَ والتماديَ فيه فإنَّه في الأولِ كثيراً ما يودُّ وفي الثانِي كثيراً ما أتركُ وفي الثالث كثيرٌ من الفرسانِ وكلُّ واحدٍ من ذلكَ قابلٌ للإفراطِ والمبالغةِ فيهِ لعدمِ انحصارِ مراتبِ الكثرةِ وقدْ قُصدَ بعكسِه ما ذكر من التمادي في التكثير حسبما فضل أما قيما نحن فيه فالكلام الذي عكس عنه علمت كلُّ نفسٍ ما أحضرتْ كما صرَّحَ به القائلُ وليسَ فيه إمكانُ التكثيرِ حتَّى يُقصدَ بعكسِه المبالغةُ والتَّمادِي فيهِ وإنما الذي يمكنُ فيه من المبالغةِ ما ذكرناهُ فتأملْ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ للإشعارِ بأنَّه إذا علمتْ حينئذٍ نفسٌ من النفوسِ ما أحضرتْ وجبَ على كلِّ نفسٍ إصلاحُ عملِها مخافةَ أنْ تكونَ هيَ تلكَ التي علمتْ ما أحضرتْ فكيفَ وكلُّ نفسٍ تعلمُه على طريقةِ قولِك لمن تنصحُه لعلكَ ستندمُ على ما فعلتَ ورُبَّما ندِم الإنسان على مافعل فإنك لا تقصدُ بذلكَ لاتقصد بذلكَ أنَّ ندمَهُ مرجوُّ الوجود لامتيقن بهِ أو نادرُ الوقوعِ بلْ تريدُ أنَّ العاقلَ يجبُ عليهِ أنْ يجتنبَ أمراً يُرجى فيهِ الندمُ أو قلَّماً يقعُ فيهِ فكيفَ بهِ إذَا كانَ قطعى الوجود كثير الوجود(9/117)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)
فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس أي الكواكبِ الرواجع مِنْ خَنَسَ إذا تأخر وهي ماعدا النيرينَ منَ الدَّرارِي الخمسةِ وهيَ بهرامُ وزُحَلُ وعُطَارِدُ والزُّهْرَةُ والمُشتَرى وُصفتْ بقولِه تعالى(9/117)
سورة التكوير (16 22)(9/118)
الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)
الجوار الكنس لأنها تَجْري مع الشمسِ والقمرِ وترجعُ حتى تخفي تحتَ ضوءِ الشمسِ فخنُوسها رجوعُها وكنوسُها اختفاؤُها تحتَ ضوئها من كنس الوحشى إذا دخلَ كُناسَهُ وهو البيتُ الذي يتخذهُ من أغصانِ الشجرِ وقيل هي جميعُ الكواكبِ تخنِسُ بالنهار فتغيبُ عنِ العُيونِ وتكنسُ بالليل أي تطلعُ في أماكنِها كالوحشِ في كُنُسِها(9/118)
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)
والليل إِذَا عَسْعَسَ أي أدبرَ ظلامُه أو أقبلَ فإِنَّه منَ الأضَّدادِ وكذلكَ سعسعَ قالَ الفراءُ أجمعَ المفسرونَ على أنَّ معنى عسعسَ أدبر عليه قولُ العَجَّاجِ] حَتَّى إِذَا الصبح لها تَنفَّسَا وَانجَابَ عنَها ليلُها وعَسْعَسَا وقيلَ هيَ لغةُ قريشٍ خاصَّة وقيلَ مَعْنى إقبالِ ظلامِه أوفقُ لقولِه تعالى(9/118)
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)
والصبح إِذَا تَنَفَّسَ لأنَّه أولُ النهارِ وقيل إدبارُه أقربُ من تنفسِ الصبحِ ومعناهُ أنَّ الصبحَ إذَا أقبلَ يقبلُ بإقبالِه رَوحٌ ونسيمٌ فجعلَ ذلكَ نفساً لَهُ مجازاً فقيلَ تنفَّسَ الصبحُ(9/118)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
أَنَّهُ أي القرآنَ الكريمَ الناطق بما ذكر من الدواهي الهائلة
لقوله رسول كريم وهو جبريلُ عليهِ السَّلامُ قالَه من جهةِ الله عزَّ وجلَّ(9/118)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
ذِى قُوَّةٍ شديدةٍ كقولِه تعالَى شَدِيدُ القوى وقيلَ المرادُ القوةُ في أداءِ طاعةِ الله تعالَى وتركِ الإخلالِ بَها من أولِ الخلقِ إلى آخرِ زمانِ التكليفِ
عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ ذِي مكانةٍ رفيعةٍ عندَ الله تعالى عنديةَ إكراما وتشريف لاعندية مكانٍ(9/118)
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
مطاع فيما بينَ ملائكتِه المقربينَ يصدرُون عن أمرِه ويرجعونَ إلى رأيه
ثَمَّ أَمِينٍ على الوَحْي وثمَّ ظرفٌ لما قبَلهُ وقيلَ لما بعدَهُ وقرىء ثُمَّ تعظيماً لوصفِ الأمانِةَ وتفضيلاً لها على سائرِ الأَوْصَافِ(9/118)
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
وَمَا صاحبكم هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
بِمَجْنُونٍ كما تبهتُه الكفرةُ والتعرضُ لعنوانِ المصاحبةِ للتلويحِ بإحاطتِهم بتفاصيلِ أحوالِه عليه الصلاة والسلام خبرا علمهم بنزاهتِه عليه السَّلامُ عمَّا نسبُوه إليهِ بالكليةِ وقد استُدلَّ بهِ على فضلِ جبريلَ عليِه عليهما السَّلامُ للتباين البينِ بين وصفيهما وهو ضعيفٌ إذِ المقصودُ ردُّ قولِ الكفرةِ في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسلام إنما يعلمه بشرٌ أفترى عَلَى الله كَذِباً أم بهِ جِنَّة لا تعدادُ فضائلها والموازنة(9/118)
81 سورة التكوير (23 29)(9/119)
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
ولقد رآه أي وبالله لقد رأى رسولُ الله جبريلُ عليهما الصلاة والسلام
بلأفق المبين بمطلعِ الشمسِ الأَعْلى(9/119)
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَمَا هُوَ أي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
عَلَى الغيب على ما يخبرُه من الوَحْي إليهِ وغيرِه من الغيوبِ
بِضَنِينٍ أي ببخيل بالوَحْي ولا يُقصِّرُ في التبليغ والتعليمِ وقُرِىءَ بظنينٍ أي بمتهمٍ من الظنة وهي التهمةُ(9/119)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شيطان رَّجِيمٍ أي قولِ بعضِ المُسترقةِ للسمعِ وهو نفيٌ لقولِهم إنَّه كهانةٌ وسحرٌ(9/119)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
فَأيْنَ تَذْهَبُونَ استضلالٌ لهم فيما يسلكونَهُ في أمرِ القرآنِ والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها من ظهورِ أنَّه وحيٌ مبين وليس مما يقولونه في شيءٍ كما تقولُ لمن تركَ الجادَّةَ بعدَ ظهورِها هذا الطريقُ الواضحُ فأينَ تذهبُ(9/119)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)
إِنْ هُوَ مَا هُو
إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين موعظة وتذكيرٌ لهم وقولُه تعالَى(9/119)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)
لِمَن شَاء مِنكُمْ بدلٌ من العالمينَ بإعادةِ الجارِّ وقولُه تعالَى
أَن يَسْتَقِيمَ مفعولُ شاءَ أيْ لمَنْ شاء منكم الإستقامة يتحرى الحقِّ وملازمةِ الصوابِ وإبدالُه منَ العالمينَ لأنَّهم المنتفعونَ بالتذكير(9/119)
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
وما تشاؤن أي الاستقامةَ مشيئةَ مستتبعةَ لها في وقتٍ من الأوقاتِ
إلا أن يشاء الله أي إلا وقتَ أنْ يشاءَ الله تعالَى تلكَ المشيئةَ أي المستتبِعة للاستقامةِ فإن مشيئتكم لا تستبعها بدون مشيئةِ الله تعالى لها
رَبّ العالمين مالكُ الخلقِ ومربيهم أجمعينَ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ التكويرِ أعاذَهُ الله أنْ يفضحَهُ حينَ تُنشرُ صحيفته(9/119)
82 سورة الإنفطار (1 5)
بسم الله الرحمن الرحيم(9/120)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
إِذَا السماء انفطرت أي انشقتْ لنزول الملائكةِ كقولِه تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً وقولُه تعالى وَفُتِحَتِ السماء فَكَانَتْ أبوابا والكلامُ في ارتفاع السماءِ كما مرَّ في ارتفاعِ الشمسِ(9/120)
وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)
وَإِذَا الكواكب انتثرت أي تساقطتْ متفرقةً(9/120)
وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)
وَإِذَا البحار فُجّرَتْ فُتحَ بعضُها إلى بعضٍ فاختلطَ العذبُ بالأُجاجِ وزالَ ما بينهما من البرزخ الحاجزِ وصارتِ البحارُ بَحْراً واحِداً ورُويَ أن الأرضَ تنشفُ الماءَ بعد امتلاءِ البحارِ فتصيرُ مستويةً وهو مَعْنى التسجيرِ عند الحسنِ رضيَ الله عنه وقيلَ إنَّ مياه البحارِ الآنَ راكدةٌ مجتمعةٌ فإذَا فجرتْ تفرقتْ وذهبت وقرئ فُجِرَتْ بالتخفيفِ مبنياً للمفعولِ وَمبنياً للفاعلِ أيضاً بمْعَنى بغتْ من الفجورِ نظراً إلى قولِه تعالى لاَ يَبْغِيَانِ(9/120)
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ أي قلب وأُخرجَ موتاهَا ونظيرُه بَحْثر لفظاً ومَعْنى وهُما مركبانِ من البعثِ والبحثِ مع راءٍ ضُمَّتْ إليهمَا وقولُه تعالى(9/120)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ جوابُ إذا لكنْ لاَ على أنَّها تعلمُه عندَ البعثِ بل عند نشرِ الصحفِ لما عرفتَ من أنَّ المرادَ بها زمانٌ واحدٌ مبدؤُه النفخةُ الأُولى ومنتهاهُ الفصلُ بينَ الخلائق لا أزمنة متعددة حسب تعددِ كلمةِ إذَا وإنما كُررتْ لتهويلِ ما في حيزهَا من الدَّواهِي والكلام في كالذي مرَّ تفصيلُه في نظيره ومَعْنى ما قَدَّم وأخَّر ما أسلفَ من عملِ خيرٍ أو شرَ وأخَّر من سنة حسنة أو سيئةٍ يُعملُ بها بعدَهُ قالَه ابنِ عباسٍ وابنِ مسعودٍ وعن ابن عباسٍ أيضاً ما قدمَ منْ معصيةٍ وأخَّر من طاعةٍ وهو قولُ قتادةٍ وقيلَ ما قدمَ من أمواله لنفسه وماأخر لوثته وقيلَ ما قدمَ من فرض وأخَّر من فرض وقيل أو عملِه وآخرُهُ ومعنى علمِها التفصيليُّ حسبما ذُكِرَ فيَما مر مرارا(9/120)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم أيْ أيُّ شيءٍ خدعكَ وجرَّأك على عصيانِه وقد علمتَ ما بينَ يديكَ من الدواهِي التامَّةِ والعراقيلِ الطَّامة وما سيكونُ حينئذٍ من مُشاهدةِ أعمالِك كُلِّها والتعرضُ لعنوانِ كرمِه تعالَى للإيذانِ بأنَّه ليسَ مما يصلُح أن يكونَ مدارا لاغتراره يغويهِ الشيطانُ ويقولُ له افعلْ ما شئتْ فإنَّ ربكَ كريمٌ قد تفضلَ عليكَ في الدُّنيا وسيفعلُ مثَلُه في الآخرةِ فإنَّه قياسٌ عقيمٌ وتمنيةٌ باطلةٌ بل هُو ممَّا يوجبّ المبالغةَ في الإقبالِ على الإيمانِ والطاعةِ والاجتنابِ عن الكفرِ والعصيانِ كأنَّه قيلَ ما حملكَ على عصيانِ ربِّكَ الموصوفِ بالصفاتِ الزاجرةِ عنهُ الداعيةِ إلى خلافِه وقولُه تعالى(9/121)
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
الذى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ صفة ثانية مقررة للربويية مبيَّنة للكرم منبهةٌ على أن من مَنْ قدَرَ على ذلكَ بدَءاً قدرَ عليه إعادةً والتسويةُ جعلُ الأعضاءِ سليمةً سويةً مُعدةً لمنافعها وعدلها عدلَ بعضِها ببعضٍ بحيثُ اعتدلتْ وَلَم تتفاوتْ أو صَرْفُها عن خِلْقةٍ غيرِ ملائمةٍ لها وقُرِىءَ فعدّلكَ بالتشديد أى صيرك متعدلا متناسبَ الخلقِ من غير تفاوتٍ فيه(9/121)
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
في اي صُورَةٍ مَّا شاء ركبك أى وركبك في أي صورة شاءها من الصور المختلفةِ ومَا مزيدةٌ وشاءَ صفةٌ لصورةٍ أي ركبك في أي صورةٍ شاءَها واختارَها لكَ من الصورِ العجيبةِ الحسنةِ كقولِه تعالَى لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فى أحسن تقويم وإنما لَمْ يعطفْ الجملةِ على ما قبلَها لأنها بيانٌ لعدلكَ(9/121)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
كَلاَّ ردعٌ عن الاغترارِ بكرمِ الله تعالَى وجعلِه ذريعةً إلى الكفرِ والمعاصِي مع كونِه موجباً للشكرِ والطاعةِ وقولُه تعالى
بَلْ تُكَذّبُونَ بالدين إضرابٌ عن جملة مقدر ينساقُ إليها الكلامُ كأَّنه قيلَ بعد الردعِ بطريق الاعتراضِ وأنتم لا ترتدعونَ عن ذلكَ بل تجترئونَ على أعظمِ من ذلكَ حيثُ تكذبونَ بالجزاءِ والبعثِ رأساً أو بدينِ الإسلامِ الذي هُما من جملةِ أحكامِه فلا تصدقونَ سؤالاً ولا جواباً ولا ثواباً ولا عقاب وقيلَ كأنَّه قيل إنَّكم لا تستقيمونَ على ما توجيه نِعَمِي عليكُم وإرشادِي لكُم بل تكذبونَ الخ وقال القفالُ ليسَ الأمرُ كَما تقولونَ من أنَّه لا بعثَ ولا نشورَ ثم قيلَ أنتُم لا تتبينونَ بهذا البيانِ بل تكذبونَ بيومِ الدينِ وقولُه تعالى(9/121)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين حالٌ من فاعلِ تكذبونَ مفيدةٌ لبطلان تكذبيهم وتحققِ ما يكذبونَ بهِ أي تكذبونَ بالجزاءِ والحالُ أنَّ عليكُم من قبلِنا لحافظين لأعمالكم(9/121)
82 سورة الانفطار (11 18)(9/122)
كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)
كراما لدنيا
كاتبين لها(9/122)
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
يعملون مَا تَفْعَلُونَ من الأفعالِ قليلاً وكثيراً ويضبطونَهُ نَقيراً وقِطْميراً لتجازوا بذلكَ وفي تعظيمِ الكاتبينِ بالثناءِ عليهم تفخيمٌ لأمرِ الجزاءِ وأنه عند الله عز وجل من جلائلِ الأمورِ حيثُ يستعملُ فيه هؤلاءِ الكرامَ وقولُه تعالَى(9/122)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ
وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ استئنافٌ مسوق لبيان نتيجةِ الحفظِ والكتابِ من الثوابِ والعقابِ وفي تنكيرِ النعيمِ والجحيمِ من التفخيمِ والتهويلِ ما لايخفى وقولُه تعالَى(9/122)
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)
يَصْلَوْنَهَا إما صفةٌ لجحيمٍ أو استئنافٌ مبنيُّ على سؤالٍ نشأَ منْ تهويلِها كأنَّه قيلَ ما حالُهم فيها فقيلَ يُقاسونَ حرَّهَا
يَوْمِ الدين يومَ الجزاءِ الذي كانُوا يكذِّبون بهِ(9/122)
وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)
وما هم عنهابغائبين طرفةَ عينٍ فإن المرادَ دوام نفى الغيبة لانفى دوامِ الغيبة لما مرَّ مِراراً من أنَّ الجملةَ الاسميةَ المنفيةَ قد يُرادُ بها استمرارَ النَّفِي لا نفيَ الاستمرارِ باعتبارِ ما تفيدُه من الدوامِ والثباتِ بعد النَّفِي لا قبلَهُ وقيل معناهُ وما كانُوا غائبينَ عنها قبل ذلكَ بالكليةِ بل كانُوا يجدونَ سمومَها في قبورِهم حسبما قال النبي صلى عليه وسلم القبرُ روضةٌ من رياض الجنةِ أو حُفرةٌ من حُفَرِ النيرانِ وقولُه تعالَى(9/122)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين
ثم أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين تفخيمٌ لشأن يومِ الدينِ الذي يكذبونَ به إثرَ تفخيمٍ وتهويلٌ لأمرِه بعدَ تهويلٍ ببيانِ أنَّه خارجٌ عن دائرة دراية الخلق على أى صورة تصوره فهو فوقَها وكيفما تخيلوه فهو أطمُّ من ذلكَ وأعظمُ أيْ وأيُّ شيءٍ جعلكَ دارياً ما يومُ الدينِ على أنَّ ما الا ستفهامية خبر ليوم الدين إلا بالعكسُ كما هُو رأيُ سيبويهِ لما مرَّ منْ أنَّ مدارَ الافادةِ هُو الخبرُ لا المبتدأُ ولا ريبَ في أنَّ مناطَ إفادةِ الهولِ والفخامةِ هُنا هو مَا لا يومَ الدينِ أيْ أيُّ شيءٍ عجيبٍ هو في الهولِ والفظاعةِ لما مرَّ غيرَ مرةٍ أن كلمةَ مَا قد يطلب بها الوصف وإن كانتْ موضوعةً(9/122)
لطلبِ الحقيقةِ وشرحِ الاسمِ يقالُ ما زيدٌ فيقالُ في الجوابِ كاتبٌ أو طبيبٌ وفي إظهارِ يومُ الدينِ في موقعِ الاضمارِ تأكيدٌ لهولِه وفخامتِه وقولُه تعالَى(9/123)
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
يوم لا تملك نفس لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ بيانٌ إجماليٌّ لشأن يومِ الدينِ إثرَ إبهامِه وبيانِ خروجِه عنْ علومِ الخلقِ بطريقِ إنجازِ الوعدِ فإن لفى إدرائِهم مشعرٌ بالوعد الكريمِ بالإدراءِ قالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا كلُّ ما في القرآنِ من قولِه تعالَى مَا أدراكَ فقدْ أدراهُ وكلُّ ما فيهِ من قولِه وما يدريكَ فقد طُويَ عنْهُ ويومَ مرفوعٌ على أنَّه خبر مبتدأ محذوف وحركته الفتحِ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كأنَّه قيلَ هُو يومَ لا يملكُ فيه نفس من النفوس لنفس من النفوسِ شيئاً من الأشياءِ الخ أو منصوبٌ بإصمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيمِ أمرِ يومِ الدينِ وتشويقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى معرفتِه اذكُر يومَ لا تملكُ نفسٌ الخ فإنه يُدريكَ ما هُو وقيلَ بإضمارِ يُدانونَ وليسَ بذاكَ فإنه عارٍ عن إفادةِ ما يفيدُه ما قبلَهُ كما أنَّ إبدالهُ من يومِ الدينِ على قراءةِ الرفعِ كذلكَ بل الحقُّ حينئذٍ الرفعُ على أنه خير لمبتدأٍ محذوفٍ عنْ رسولِ الله صلى الله اعليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الا نفطار كتبَ الله تعالَى له بعددِ كلِّ قطرةٍ من السماءِ وبعددِ كلِّ قبرٍ حسنةً والله تعالَى أعلمُ(9/123)
83 سورة المطففين (1 2)
بسم الله الرحمن الرحيم(9/124)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
ويل للمطففين قبل الويلُ شدةُ الشرِّ وقيلَ العذابُ الأليمُ وقيلَ هو وادٍ في جهنمَ يهوي فيه الكافرُ أربعينَ خريفاً قبل أنْ يبلُغ قَعْرَه وقيلَ وقيلَ وأياً ما كانَ فهو مبتدأٌ وإنْ كان نكرةً لوقوعِه في موقعِ الدُّعاءِ والتطفيفُ البخسُ في الكيل والوزنِ لأنَّ ما يُبخسُ شيءٌ طفيفٌ حقيرٌ ورويَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قدَم المدينةَ وكانَ أهلُها من أخبثِ الناسِ كيلاً فنزلتْ فأحسنُوا الكيلَ وقيلَ قدمَها عليهِ الصلاةُ والسلامُ وبها رجلٌ يعرفُ بأبي جهينةَ ومعه صاعانِ يكيلُ بأحدهما وكتال بالآخرِ وقيلَ كانْ أهلُ المدينةِ تجاراً يطففونَ وكانتْ بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقرأَها عليهمُ وقالَ خمسٍ بخمس ما نقض قوم العهد الإسلط الله عليهم عدوَّهم وما حكمُوا بغيرِ ما أنزلَ الله إلا فشَا فيهم الفقرُ وما ظهرتْ فيهم الموتُ ولا طففُوا الكيلَ الإمنعوا النبات وأخذوا بالسنينَ ولا منعُوا الزكاةَ إلا حُبِس عنهم القطرُ وقولُه تعالَى(9/124)
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ إلخ صفةٌ كاشفةٌ للمطففينَ شارحةٌ لكيفية تطفيفهم الذين استحقُّوا بهِ الذمَّ والدعاءَ بالويل أي إذَا اكتالُوا منَ النَّاسِ مكيلَهم بحكمِ الشراءِ ونحوِهِ يأخذونَهُ وافياً وافراً وتبديلُ كلمةِ عَلَى بمِنَ لتضمينِ الاكتيالِ مَعْنى الاستيلاءِ أو للإشارةِ إلى أنَّه اكتيال مضربهم لكنْ لاَ علَى اعتبارِ الضررِ في حيزِ الشرطِ الذي يتضمنُه كلمةُ إذَا لإخلالِه بالمَعْنى بلْ في نفسِ الأمرِ بموجبِ الجوابِ فإن المراد بلاستيفاء ليسَ أخذَ الحقِّ وافياً من غيرِ نقصٍ بل مجردُ الأخذِ الوافِي الوافِر حسبما أرادُوا بأيِّ وجهٍ تيسرَ من وجوهِ الحيلِ وكانُوا يفعلونَهُ بكبسِ المكيلِ وتحريك المكيال واحتيال في ملئهِ وأما ما قيلَ من أنَّ ذلكَ للدلالةِ على أنَّ اكتيالَهُم لمَا لَهُم على النَّاسِ فمعَ اقتضائِه لعدمِ شمولِ الحكمِ لاكتيالِهم قبلَ أنْ يكونَ لهم على الناسِ شئ بطريقِ الشراءِ ونحوِه معَ أنَّه الشائعْ فيما بينَهم يقتضِي أنْ يكونَ معنى الاستيفاءِ أخذُ ما لهم عليهم وافياً من غيرِ نقصٍ إذْ هُو المتبادَرُ منه عند الإطلاقِ في معرضِ الحقِّ فلا يكونُ مداراً لذمِّهم والدعاءِ عليهم وحملِ ما لهم عليهم على مَعْنى ما سيكونُ(9/124)
83 سورة (3 6)
لهم عليهم مع كونِه بعيداً جداً مما لا يُجدي نفعاً فإنَّ اعتبارَ كونِ المكيلِ لهم حالاً كان أو مآلا لا يستدعِي كونَ الاستيفاءِ بالمعنى المذكورِ حَتْماً وهكذا حالُ ما نُقلَ عنِ الفرَّاءِ من أنَّ مِنْ وعَلَى تعتقبانِ في هذا الموضعِ لأنَّه حقٌّ عليهِ فإذَا قال اكتلت عليك فأنه قال أخذتُ ما عليكَ وإذا قالَ اكتلتُ منكَ فكقولِه استوفيتُ منكَ فتأملْ وقد جُوِّز أن تكون على متعلقةً بيستوفونَ ويكون تقديمُها على الفعلِ لإفادة الخصوصيةِ أي يستوفونَ على النَّاسِ خاصَّة فأما أنفسُهم فيستوفونَ لها وأنتَ خبيرٌ بأن القَصْر بتقديم الجار والمجرور انما يكونُ فيما يمكنُ تعلقُ الفعلِ بغير المجرورِ أيضاً حسبَ تعلقِه به فيقصد بالتقديمِ قصرُه عليه بطريقِ القلبِ أو الإفرادِ أو التعيينِ حسبما يقتضيهِ المقامُ ولا ريب في أن الاستيفاءَ الذي هو عبارةٌ عن الأخذ الوافي مما لا يُتصوّر أن يكونَ على أنفسهم حَتَّى يقصد بتقديم الجارِّ والمجرورِ قصرُه على النَّاسِ على أنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعلِ لا فيما وقعَ عليهِ فتدبرْ والضميرُ البارزُ في قولِه تعالى(9/125)
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
واذا كالوهم أو وزونوهم
للناس أي اذا كالُوا لهم أو وزنُوا لهم للبيعِ ونحوِه
يُخْسِرُونَ
أي ينقصونَ يقالُ خسِر الميزانَ وأخسرَهُ فحذفَ الجارَّ وأوصلَ الفعلَ كما في قولِه
وَلَقَدْ جَنَيتُكَ أَكْمُؤاً وعَسَاقِلاً
أي جنيتُ لكَ وجعلُ البارزِ تأكيداً للمستكنِّ مما لا يليقُ بجزالةِ التنزيلِ ولعلَّ ذكرَ الكيلِ والوزنِ في صورةِ الإخسارِ والاقتصار على الاكتيالِ في صورةِ الاستيفاءِ لما أنهم لم يكونوا متمكنينَ من الاحتيالِ عند الاتزانِ تمكنهم منه عند الكيلِ والوزنِ وعدمُ التعرضِ للمكيلِ والموزونِ في الصورتينِ لأن مساقَ الكلام لبيان سواء معالمتم في الأخذِ والإعطاءِ لا في خصوصيةِ المأخوذِ والمُعطَى وقولُه تعالى(9/125)
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ
استئنافٌ واردٌ لتهويلِ ما ارتكبُوه من التطفيفِ والتعجيبِ من اجترائِهم عليهِ وأولئكَ إشارةٌ إلى المطففينَ ووضعه موضع ضميرهم للإشعارِ بمناطِ الحُكمِ الذي هُو وصفُهم فإنَّ الإشارةَ إلى الشيءِ متعرضةٌ له من حيثُ اتِّصافُه بوصفِه وأما الضميرُ فلا يتعرضُ لوصفِه وللإيذانِ بأنَّهم ممتازونَ بذلكَ الوصفِ القبيحِ عن سائرِ النَّاسِ أكملَ امتيازٍ نازلون منزلة الأمور المشارِ إليها إشارةً حسيةً وما فيه من معنى البعدِ للإشعارِ ببُعد درجتِهم في الشَّرارةِ والفسادِ أي ألا يظنُّ أولئكَ الموصوفونَ بذلكَ الوصفِ الشنيعِ الهائلِ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ(9/125)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ
لا يُقادَرُ قدرُ عِظَمِه وعِظَمِ ما فيهِ ومحاسبونَ فيهِ على مقدارِ الذرةِ والخردلةِ فإنَّ من يظنُّ ذلكَ وإن كان ظناً ضعيفاً متاخماً للشكِّ والوهمِ لا يكادُ يتجاسرُ على أمثالِ هاتيكَ القبائحِ فكيفَ بمن تيقنُه وقولُه تعالَى(9/125)
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
يوم يقوم الناس لرب العالمين(9/125)
83 سورة المطففين (7 13)
أي لحُكمِه وقضائِه منصوبٌ بإضمارِ أعنِي وقيلَ بمبعوثونَ أو مرفوعُ المحلِّ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ أو مجرورٌ بدلاً من يومٍ عظيمٍ مبني على الفتح لإضافته إلى الفعلِ وإنْ كانَ مضارعا كما هو رأيُ الكوفيِّينَ ويؤيد الأخيرينِ القَراءةُ بالرفعِ وبالجَرِّ وفي هَذا الإنكارِ والتعجيبِ وإيرادِ الظنِّ ووصفِ اليومِ بالعِظمِ وقيامِ الناسِ فيه كافَّة لله تعالَى خاضعينَ ووصفِه تعالَى بربوبيَّةِ العالمين من البيانِ البليغِ لعظمِ الذنبِ وتفاقمِ الإثمِ فِي التطفيف وأمثاله مالا يَخْفى(9/126)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
كلا
ردع عمَّا كانوا عليهِ من التطفيفِ والغفلةِ عن البعثِ والحسابِ وقوله تعالى
إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سِجّينٍ
الخ تعليل للردع أو وجوب الارتداعِ بطريقِ التحقيقِ وسجينٌ علمٌ لكتابٍ جامعٍ هو ديوانُ الشرِّ دْوّنَ فيه أعمالُ الشياطينِ وأعمالُ الكفرةِ والفسقةِ من الثقلينِ منقولٌ من وصف كخاتم وأصلُه فِعِّيلٌ من السجنِ وهو الحبسُ والتضييقُ لأنَّه سببُ الحبسِ والتضييقِ في جهنَمَ أو لأنَّه مطروحٌ كما قيلَ تحتَ الأرضِ السابعةِ في مكانٍ مُظلمٍ وحش وهو مسكنُ إبليسَ وذريتِه فالمَعْنى أنَّ كتابَ الفجَّارِ الذينَ من جُمْلتِهم المطففونَ أي ما يكتبُ من أعمالِهم أو كتابةَ أعمالِهم لفي ذلكَ الكتابِ المُدونِ فيه قبائحُ أعمالِ المذكورينَ وقوله تعالى(9/126)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ
تهويلٌ لأمرِه أي هُو بحيثُ لا يبلغه درايةُ أحدٍ وقولُه تعالى(9/126)
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
كتاب مَّرْقُومٌ
أي مسطورٌ بينُ الكتابةِ أو معلَّمٌ يعلُم مَنْ رآهُ أنه لا خيرَ فيه وقيلَ هو اسمُ المكانِ والتقديرُ ما كتابُ السجينِ أو محلُّ كتابٍ مرقومٍ وقولُه تعالى(9/126)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ
متصلٌ بقولِه تعالى يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين وما بينهما اعتراض بقوله تعالى(9/126)
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
الذين يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدين
إما مجرورٌ على أنه صفةٌ ذامةٌ للمكذبينَ أو بدلٌ منه أو مرفوعٌ أو منصوبٌ على الذمِّ(9/126)
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ
أي متجاوزِ عن حدودِ النَّظرِ والاعتبارِ غالٍ في التقليدِ حتَّى استقصرَ قُدرةَ الله تعالى وعلمَهُ عنِ الإعادةِ مع مشاهدتِه للبدءِ
أَثِيمٍ
أي منهمكٍ في الشهواتِ المخدجةِ الفانيةِ بحيثُ شغلتْهُ عمَّا وراءَها منَ اللذاتِ التامةِ الباقيةِ وحملتْه على إنكارِها(9/126)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
اذا تتلى عليه(9/126)
83 سورة المطففين (14 18) آياتنا
الناطقةُ بذلكَ
قَالَ
من فرطِ جهلهِ وإعراضِه عن الحق الذي لا محيد عنْهُ
أساطير الأولين
أي هي حكاياتُ الأولينَ قال الكلبيُّ المرادُ بالمُعتدي الأثيمِ هو الوليد بن المغيرة وقيل النضر بن الحرث وقيلَ عامٌّ لكلِّ مَن اتصفَ بالأوصافِ المذكورةِ وقُرِىءَ إذَا يُتلى بتذكيرِ الفعلِ وقُرِىءَ أَإِذَا تُتلى على الاستفهامِ الإنكاريِّ(9/127)
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
كَلاَّ
ردعٌ للمعتدي الأثيمِ عن ذلكَ القولِ الباطلِ وتكذيبٌ له فيهِ وقولُه تعالَى
بَلْ رَانَ على قلبوهم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
بيانٌ لما أدَّى بهم إلى التفوهِ بتلكَ العظيمةِ أي ليسَ في آياتِنا ما يصحُّ أنْ يقالَ في شأنِها مثلُ هذه المقالاتِ الباطلةِ بلْ رَكِبَ على قلوبِهم وغلبَ عليها ما كانوا يكسبونها من الكفرِ والمعاصِي حتى صارتْ كالصدأِ في المرآةِ فحالَ ذاكَ بينُهم وبينَ معرفةِ الحقِّ كما قال صلى الله عليه وسلم إنَّ العبدَ كلما أذنبَ ذنباً حصلَ في قلبِه نكتة سوداء حتى يسودَّ قلبُه ولذلكَ قالُوا ما قالُوا والرينُ الصدأُ يقالُ رانَ عليهِ الذنبُ وغانَ عليهِ ريناً وغيناً ويُقالُ رانَ فيه النومُ أي رسخَ فيهِ وقُرِىءَ بإدغامِ اللامِ في الراءِ(9/127)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
كَلاَّ
ردعٌ وزجرٌ عن الكسبِ الرائنِ
إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ
فَلا يكادونَ يَرَونَهُ بخلافِ المؤمنينَ وقيلَ هو تمثيلٌ لإهانتِهم بإهانةِ من يُحجبُ عن الدخولِ على الملوكِ وعن ابنِ عبَّاسٍ وقَتَادةَ وابنِ أبي مليكةَ محجوبونَ عن رحمتِه وعن ابنِ كيسانَ عن كرامتِه(9/127)
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم
أي داخلوا النارِ وثمَّ لتراخِي الرتبةِ فإنَّ صلْيَ الجحيمِ أشدُّ من الإهانةِ والحرمانِ من الرحمةِ والكرامةِ(9/127)
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
ثُمَّ يُقَالُ
لهُم توبيخاً وتقريعاً من جهةِ الزبانيةِ
هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ
فذوقُوا عذابَهُ(9/127)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
كلا
ردع عما كانوا عليه بعد ردع زجر اثررجر وقوله تعالى
إن كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ
استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ محلِ كتابِ الأبرارِ بعدَهُ بيانُ سوءِ حالِ الفُجَّارِ مُتصلاً ببيانِ سُوءِ حالِ كتابِهم وفيه تأكيد للردع ووجوب الاتداع وكتابُهم ما كُتبَ من أعمالِهم وعليونَ علمٌ لديوانِ الخيرِ الذي دُوِّنَ فيه كل ما أعملته الملائكةُ وصلحاءُ الثقلينِ منقولٌ من جمعٍ على فعيلٍ من العُلوِّ سُمِّيَ بذلكَ إمَّا لأنَّه سببُ الارتفاعِ إلى أعالِي الدرجاتِ في الجنةِ وإمَّا لأنَّهُ مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ حيثُ يسكنُ الكروبيونَ تكريماً له وتعظيماً والكلامُ في قولِه تعالى(9/127)
83 سورة المطففين (19 26)(9/128)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ
كتاب مَّرْقُومٌ
كما مرَّ في نظيرِه وقولُه تعالَى(9/128)
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
يَشْهَدُهُ المقربون
صفةٌ أُخرى لكتابَ أي يحضرونَهُ ويحفظونَهُ أو يشهدونَ بما فيه يومَ القيامةِ(9/128)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ
شروعٌ في بيانِ محاسنِ أحوالِهم إثرَ بيانِ حالِ كتابهم على طريقة مامر في شأن الفجَّارِ(9/128)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)
على الأرائك
أي على الأسرةِ في الحجالِ ولا يكادُ تطلقُ الأريكةُ على السرير عندهم كونِه في الحَجَلةِ
يُنظَرُونَ
أي الا ما شاؤا مدَّ أعينِهم إليه من رغائب مناظرِ الجنةِ وإلى ما أولاهُم الله تعالى من النعمةِ والكرامةِ وإلى أعدائهم يعذبونَ في النارِ وما تحجبُ الحجالُ أبصارَهُم عن الإدراك(9/128)
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
{تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أي بهجةَ التنعمِ وماءَهُ ورونَقُه والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممن له حظ منَ الخطابِ للإيذانِ بأنَّ مالهم النعيم أي بهجةَ التنعمِ وماءَهُ ورونَقُه والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممن له حظ منَ الخطابِ للإيذانِ بأنَّ مالهم من آثارِ النعمةِ وأحكامِ البهجةِ بحيثُ لا يختصُّ برؤيته راءٍ دُونَ راءٍ(9/128)
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
{يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} شرابٍ خالص لاغش فيهِ مَّخْتُومٍ(9/128)
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
{ختامه مِسْكٌ} أي مختومٌ أوانيه وأكوابُه بالمسكِ مكانَ الطينِ ولعلَّه تمثيلٌ لكمالِ نفاستِه وقيل ختامُه مسكٌ أي مقطعُه رائحةُ مسكٍ وقُرِىءَ خَاتَمهُ بفتحِ التاء وكسرِها أي ما يُختم به ويُقطع {وَفِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى الرحيقِ وهو الأنسبُ لما بعدَهُ أو إلى ما ذُكر من أحوالِهم وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ إما للإشعارِ بعلوِّ مرتبتِه وبُعد منزلتِه أو لكونِه في الجنةِ أي في ذلكَ خاصَّةً دونَ غيرِه
فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون
أي فليرغبْ الراغبونَ بالمبادرة إلى طاعةِ الله تعالى وقيلَ فليعملِ العاملونَ كقولِه تعالى لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون وقيل فليستبقِ المستبقونَ وأصلُ التنافسِ التغالبُ في الشيء النفيس النفس وأصلُه من النفس لعزتها قال الواحديُّ نفستُ الشيءَ أنفسُه نفاسةً والتنافسُ تفاعلٌ منه كأنَّ كلَّ واحدٍ من الشخصينِ يريدُ أنْ يستأثرَ به وقال البغويُّ وأصله من الشيء النفس الذي يحرص(9/128)
9 -
83 سورة المطففين (27 33)
عليه نفوس الناس ويزيده كلُّ أحدٍ لنفسِه وينفسُ به على غيرِه أي يضنّ بهِ(9/129)
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ
عطفٌ على ختامُه صفةٌ أخرى لرحيقٍ مثله وما بينَهما اعتراضٌ مقررٌ لنفاستِه أي ما يمزج به على الرحيق من ما تسنيمٍ على أنَّ مِن بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ أو من نفِسه على أنَّها ابتدائيةٌ والتسنيمُ علمٌ لعينٍ بعينِها سميتُ به إمَّا لأنَّها أرفعُ شرابٍ في الجنة واما لأنها تأتيم من فوقِ رُويَ أنَّها تجري في الهواء متسئمة فتصب في أوانيهم(9/129)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
عَيْناً
نصبَ على الاختصاصِ وجوازُ أنْ يكونَ حالاً من تسنيمٍ مع كونِه جامدا لاتصافه وقولُه تعالى
يَشْرَبُ بِهَا المقربون
فإنَّهم يشربونها صِرفاً وتمزجُ لسائر أهلِ الجنةِ فالباءُ مزيدةٌ أو بمَعْنى من قولِه تعالَى(9/129)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ
الخ حكايةٌ لبعضِ قبائحِ مُشركي قريشٍ جيءَ بها تمهيداً لذكرِ بعضِ أحوالِ الأبرارِ في الجنةِ
كَانُواْ
في الدنيا
من الذينَ آمنوا يضحكونَ
أي يستهزئونَ بفقرائهم كعمارٍ وصهيبٍ وخبَّابٍ وبلالٍ وغيرِهم من فقراءِ المؤمنينَ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ إمَّا للقصرِ إشعاراً بغايةِ شناعةِ ما فعلُوا أي كانُوا من الذينَ آمنوا يضحكونَ مع ظهور عدمِ استحقاقِهم لذلكَ على منهاج قوله تعالى أَفِى الله شَكٌّ أو لمراعاةِ الفواصلِ(9/129)
وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)
وَإِذَا مَرُّواْ
أي فقراءُ المؤمنين
بِهِمُ
أي بالمشركينَ وهم في أنديتِهم وهو الأظهر وان جازَ العكسُ أيضاً
يَتَغَامَزُونَ
أي يغمزُ بعضهم بعضاً ويشيرونَ بأعينِهم(9/129)
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
وَإِذَا انقلبوا
من مجالسهِم
إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فَكِهِينَ
ملتذينَ بذكرِهم بالسوءِ والسخريةِ منهم وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم كانُوا لا يفعلونَ ذلكَ بمرأى من المارينَ بهم ويكتفونَ حينئذٍ بالتغامزِ وقُرِىءَ فاكهينَ قيلَ هُمَا بمَعْنَى وقيلَ فكهينَ أشرينَ وقيلَ فرحينَ وفاكهينَ متفكهينَ وقيلَ ناعمينَ وقيلَ مازحينَ(9/129)
وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)
وَإِذَا رَأَوْهُمْ
أينما كانُوا
قالوا إن هؤلاء لضالون
أي نسبُوا المسلمينَ ممن رأوهم ومن غيرهم إلى الضلال بطريق التأكيد(9/129)
وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)
وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ
على المسلمينَ
حافظين
حالٌ من واو(9/129)
سورة المطففين (34 36)
قالوا أي قالو ذلك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى موكلينَ بهم يحفظونَ عليهم أحوالَهم ويهيمنونَ على أعمالِهم ويشهدونَ برشدِهم وضلالِهم وهذا تهكمٌ بهم وإشعارٌ بأنَّ ما اجترؤا عليه من القولِ من وظائفِ من أرسلَ من جهته تعالى ووقد جُوِّزَ أن يكونَ ذلك من جملةِ قولِ المجرمينَ كأنَّهم قالُوا إنَّ هؤلاءِ لضالونَ وما أُرسلوا علينا حافظينَ إنكاراً لصدِّهم عن الشركِ ودعائِهم إلى الإسلامِ وإنما قيلَ عليهم نقلاً له بالمعنى كما في قولك حلفَ ليفعلنَّ لا بالعبارةِ كما في قولِك حلف لأفعلنَّ(9/130)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
فاليوم الذين آمنوا
أي المعهودون من الفقراءِ
مّنَ الكفار
أي من المعهودينَ وهو الأظهر وان أمكن التنعيم من الجانبينِ
يَضْحَكُونَ
حين يرونهم أذلاء مغلولينَ قد غِشيهم فنونُ الهوانِ والصَّغارِ بعد العزةِ والكبرِ ورهقهم ألوانُ العذابِ بعد التنعمِ والترفهِ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ للقصرِ تحقيقاً للمقابلةِ أي فاليومَ هم من الكفارِ يضحكونَ لا الكفارُ منهم كما كانُوا يفعلونَ في الدُّنيا وقولُه تعالى(9/130)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35)
عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ
حالٌ من فاعلِ يضحكونَ أي يضحكون منهم ناظرين اليه وإلى ما هُم فيه من سوءِ الحالِ وقيلَ يفتح للكفارِ بابٌ إلى الجنةِ فيقالُ لهم اخرجُوا اليها فاذا وصولا إليها أُغلقَ دُونهم يفعلُ بهم ذلكَ مراراً ويضحكُ المؤمنونَ مِنْهُمْ ويأباهُ قولُه تعالى(9/130)
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
هَلْ ثُوّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
فإنه صريحٌ في أنَّ ضحكَ المؤمنين منهم جزاءٌ لضحكِهم منهم في الدُّنيا فلا بدَّ من المجانسةِ والمشاكلةِ حتماً والتثويبُ والإثابةُ المجازاةُ وقُرِىءَ بإدغامِ اللامِ في الثاءِ وعنه صلى الله عليه وسلم منْ قرأَ سورةَ المطففينَ سقاهُ الله تعالى يومَ القيامةِ من الرحيقِ المختومِ(9/130)
84 سورة الانشقاق (1 5)
سورة الانشقاق مكية وآيها خمس وعشرون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم(9/131)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
إِذَا السماء انشقت
أي بالغمامِ كما في قولِه تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه تنشقُ من المجرةِ(9/131)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)
وأذنب لِرَبّهَا
أي واستمعتْ أي انقادات وأذعنتْ لتأثيرِ قُدرتِهِ تعالى حين تعلقتْ إرادتهُ بانشقاقِها انقيادَ المأمورِ المطواعِ إذا وردَ عليه أمرُ الآمرِ المُطاعِ والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إليها للإشعارِ بعلةِ الحُكْمِ وهذه الجملةُ ونَظيرتُها الآتيةُ بمنزلة قولِه تعالى أَتَيْنَا طَائِعِينَ في الإنباء عن كونِ ما نُسبَ إلى السماءِ والأرضِ من الانشقاق المد وغيرِهما جارياً على مُقتضى الحكمةِ كما أُشيرَ إليهِ فيما سلفَ
وَحُقَّتْ
أي جُعلت حقيقةً بالاستماع والانقيادِ لكنْ لا بعدَ أنْ لم تكن كذلك بل في نفسها وحدذاتها من قولهم هو محقوقٌ بكَذا وحقيقٌ به والمَعْنى انقادتْ لربِّها وهيَ حقيقةٌ بذلكَ لكنْ لا على أنَّ المرادَ خصوصيةُ ذاتها من بين سائرِ المقدوراتِ بل خصوصية القدرة القاهرةِ الربانيةِ التي يتأتى لها كلُّ مقدورٍ ولا يتخلفُ عنها أمرٌ من الأمورِ فحقُّ الجملةِ أن تكونَ اعتراضاً مقرراً لما قبلَها لا معطوفةً عليهِ(9/131)
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)
وَإِذَا الأرض مُدَّتْ
أي بُسطتْ بإزالة جبالِها وآكامِها من مقارِّها وتسويتِها بحيثُ صارتُ قاعاً صفصفاً لا ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً أو زيدتْ سعَةً وبسطةً منْ مدَّهُ بمعنى أمدَّه أي زادَهُ(9/131)
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا
أي رمتْ ما في جوفِها من الموتَى والكنوزِ كقولِه تعالى وَأَخْرَجَتِ الارض أَثْقَالَهَا
وخلتْ عمَّا فيها غايةَ الخلوِّ حتَّى لم يبقَ فيها شيءٌ منه كأنَّها تكلفتْ في ذلكَ أقصَى جُهدِها(9/131)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا
في الإلقاءِ والتخلِّي
وَحُقَّتْ
أيْ وهيَ حقيقةٌ بذلكَ أي شأنُها ذلكَ بالنسبةِ إلى القدرةِ(9/131)
84 سورة الانشقاق (6 13)
الربانيةِ وتكريرُ كلمةِ إذا ما اتحادِ الأفعالِ المنسوبةِ إلى السماءِ والأرضِ وقُوعاً في الوقتِ الممتدِّ الذي هُو مدلولُها قد مرَّ سِرُّه فيمَا مَرَّ(9/132)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
يأَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ كَدْحاً
أي جاهدٌ ومجدٌّ إلى الموت وما بعدَهُ من الأحوالِ التي مُثِّلتْ باللقاءِ مبالغٌ في ذلكَ فإنَّ الكدحَ جهدُ النفسِ في العملِ والكدُّ فيهِ بحيثُ يؤثرُ فيها من كدح جله إذا خدَشَةُ
فملاقيه
أي فملاقٍ لهُ عقيبَ ذلكَ لا محالة من غير صارف يلويك عنه قوله تعالى(9/132)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً
الخ قيلَ جوابُ إذا كما في قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم منى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وقولُه تعالى يأيها الإنسان الخ اعتراضٌ وقيلَ هو محذوفٌ للتهويل والإيماءِ إلى قصورِ العبارةِ عن بيانِه أوْ للتعويلِ على مامر في سورةِ التكويرِ والانفطارِ عليهِ وقيلَ هو ما دل عليه قوله تعالى يأيها الانسان الخ تقديره لا قي الإنسانُ كَدحَهُ وقيلَ هو قولهُ تعالى فملاقيهِ وما قبله اعتراضٌ وقيلَ هو يأيها الإنسانُ الخ بإضمارِ القولِ يسير سهلاً لا مناقشةَ فيه ولا اعتراضَ وعن الصديقةِ رضي الله عنها هُو أن يُعرّفَ ذنوبَهُ ثم يُتجاوزَ عَنْهُ(9/132)
وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً
أي عشيرتِه المؤمنينَ أو فريقَ المؤمنينَ مُبتهجاً بحالِه قائلا هاؤم اقرؤا كتابيه وقيلَ إلى أهلهِ في الجنةِ من الحورِ والغلمانِ(9/132)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاء ظَهْرِهِ
أي يُؤتاهُ بشمالِه من وراءِ ظهرِه قيلَ تُغلُّ يمناهُ إلى عنقِه ويجعلُ شمالُه وراءَ ظهرِه فيؤتى كتابَهُ بشمالِه وقيلَ تخلعُ يدُه اليُسْرَى من وراءِ ظهرِه(9/132)
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً
أي يتمنَّى الثبورَ وهو الهلاكُ ويدعوه يا ثبوراه تعالى فإنه أوانُكَ وأنَّى له ذلكَ(9/132)
وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)
ويصلى سَعِيراً
أي يدخلُها وقُرِىءَ يُصلّى كقوله تعالى وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ وقرىءَ ويصلى كما في قوله تعالى ونصليه جهنم(9/132)
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)
إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ
فيما بينَ أهلِه وعشيرتِه في الدنيا
مسرورا(9/132)
84 سورة الانشقاق (14 20)
مترفاً بَطِراً مستبشراً كديدنِ الفجارِ الذينَ لا يهمهم ولا يخطر ببالهم أمورُ الآخرةِ ولا يتفكرونَ في العواقبِ ولم يكُنْ حَزيناً متفكراً في حالهِ ومآلهِ كسنةِ الصلحاءِ والمتقينَ والجملةُ استئنافٌ لبيانِ علةِ ما قَبلها وقولُه تعالى(9/133)
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ
تعليلٌ لسرورِه في الدنيا أي ظن أنْ لَنْ يرجِعُ إلى الله تعالى تكذبيا للمعادِ وإنْ مخففةٌ مِنْ أنَّ سادّةٌ معَ ما في حيزِها مسدَّ مفعولَيْ الظنِّ أو أحدَهُما عَلى الخِلافِ المعروفِ(9/133)
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
بلى
إيجابٌ لما بعدَ لَنْ وقولُه تعالى
إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً
تحقيقٌ وتعليلٌ لهُ أيْ بَلَى ليحورَنَّ البتةَ إنَّ ربَّهُ الذي خلقَهُ كانَ به وبأعمالِه الموجبةِ للجزاءِ بصيراً بحيثُ لا يَخْفى منها خافيةٌ فلا بُدَّ منْ رجعهِ وحسابِه وجزائِه عليها حَتماً وقيلَ نزلتْ الآيتانِ في أبي سَلَمةَ بنِ عبْدِ الأشد وأخيه الأسودِ(9/133)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)
فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق
هي الحمرةُ التي تُشاهدُ في أفقِ المغربِ بعد الغروبِ أو البياضُ الذي يليها سُميَ بهِ لرقتِه ومنْهُ الشفقةُ التي هي عبارةٌ عن رقة القلب(9/133)
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)
والليل وَمَا وَسَقَ
وما جمعَ وضمَّ يقالُ وسقَهُ فاتَّسقَ واستوسقَ أي جمعهُ فاجتمعَ وما عبارةٌ عمَّا يجتمعُ بالليلِ ويأوِي إلى مكانهِ من الدوابِّ وغيرِها(9/133)
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
والقمر إِذَا اتسق
أي اجتمعَ وتمَّ بدراً ليلة اربع عشر(9/133)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ
أي لتُلاقُنَّ حالاً بعدَ حالٍ كُلُّ واحدةٍ منهَا مطابقةٌ لأختها في الشدةِ والفظاعةِ وقيلَ الطبقُ جمع طبقةٍ وهي المرتبةُ وهو اأوفق للركوبِ المنبىءُ عن الاعتلاءِ والمَعْنَى لتركَبُنَّ أحوالاً بعدَ أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدةِ بعضُها أرفعُ من بعضٍ وهي الموتُ وما بعدَه من مواطنِ القيامةِ ودواهيها وقُرِىءَ لتَرْكَبَنَّ بالإفرادِ على خطابِ الإنسانِ باعتبارِ اللفظِ لا باعتبارِ شمولهِ لأفرادِه كالقراءةِ الأولى وقُرِىءَ بكسر الباء على خطابِ النفسِ وليَرْكَبَنَّ بالياءِ أي ليركَبَنَّ الإنسانُ ومحلُّ عن طبقٍ النصبِ على أنَّه صفةٌ لطبقاً أي طبقاً مجاوزاً لطبقٍ أو حال من الضمير في لتركبنَّ طبقاً مجاوزينَ أو مجاورا أو مجاوزةً على حسبِ القراءةِ والفاءُ في قولِه تعالى(9/133)
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
فما لهم لايؤمنون
لترتيب ما بعَدَها منَ الإنكار والتعجيبِ على ما قبلها من أحوالِ القيامةِ وأهوالِها الموجبة(9/133)
84 سورة الانشقاق (21 25)
للإيمانِ والسجودِ أيْ إذا كانَ حالُهم يومَ القيامةِ كما ذُكِرَ فأيُّ شيءٍ لهم حالَ كونِهم غيرَ مؤمنينَ أي أيُّ شيءٍ يمنعُهم من الإيمانِ معَ تعاضدِ موجباتِه وقولُه تعالى(9/134)
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)
واذا قرىء عليهم القرآن لاَ يَسْجُدُونَ
جملةٌ شرطيةٌ محلُّها النصبُ عَلى الحاليةِ نسقاً على ما قَبلَها أيْ فأيُّ مانعٍ لهم حالُ عدمِ سجودِهم وخضوعِهم واستكانتهم عندَ قراءةِ القُرآنِ وقيلَ قرأ النبيُّ عليه الصلاةَ والسَّلامُ ذاتَ يومٍ واسجدْ واقتربْ فسجدَ هُو ومَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفرْ فنزلتْ وبه احتجَّ أبو حنيفة رحمه الله تعالَى عَلى وجوبِ السجدةِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما ليسَ في المفصلِ سجدةٌ وعن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّه سجَدَ فيها وقالَ والله ما سجدتُ إلا بعدَ أن رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يسجدُ فيها وعن أنسٌ رضيَ الله عَنْهُ صليتُ خلفَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ رضيَ الله عنهم فسجدُوا وعن الحسنِ هي غيرُ واجبةٍ(9/134)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)
بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ
بالقُرآنِ النَّاطقِ بما ذُكر من أحوال القيامة وأهوال مع تحققِ موجباتِ تصديقهِ ولذلكَ لا يخضعونَ عندَ تلاوتِه(9/134)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)
والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ
بما يضمرونَ في قلوبِهم ويجمعونَ في صدورِهم من الكفرِ والحسدِ والبغي والبغضاءِ أو بما يجمعونَ في صحفهم من أعمال السواء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذابِ علماً فعلياً(9/134)
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)
فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
لأنَّ علمَهُ تعالَى بذلكَ على الوجه المذكورِ موجبٌ لتعذيبهم حتما(9/134)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
الا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
استثناءٌ منقطعٌ إنْ جُعل الموصولُ عبارةً عن المؤمنينَ كافَّة ومتصلٌ إنْ أريدَ به منْ امنَ منهمُ بعدَ ذلكَ وقولُه تعالى
لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
أي غيرُ مقطوعٍ أو ممنونٍ به عليم استئنافٌ مقررٌ لما أفادَهُ الاستثناءُ من انتفاءِ العذابِ عنهم ومبينٌ لكيفيتهِ ومقارنتِه للثوابِ العظيمِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الانشقاق أعاذَهُ الله تعالَى أنْ يعطيَهُ كتابَهُ وراءَ ظهرِه(9/134)
85 سورة البروج (1 4)
بسم الله الرحمن الرحيم(9/135)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)
{والسماء ذَاتِ البروج} هيَ البروجُ الاثنَا عشرَ شبهتْ بالقصورِ لأنَّها تنزلُها السياراتُ ويكونُ فيِها الثوابتُ أو منازلُ القمرِ أو عظامُ الكواكبِ سميتْ بروجاً لظهورِها أو أبوابِ السماءِ فإنَّ النوازلَ تخرجُ منها وأصلُ التركيبِ للظهورِ(9/135)
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)
{واليوم الموعود} أي يومُ القيامةِ(9/135)
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
{وشاهد وَمَشْهُودٍ} أيْ ومَنْ يشهدُ في ذلكَ اليومِ من الخلائقِ وما يحضرُ فيه من العجائب وتنكرهما للإبهامِ في الوصفِ أي وشاهدٍ ومشهودٍ لا يُكتنهُ وصفُهُمَا أو للمبالغةِ في الكثرةِ وقيلَ الشاهدُ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم والمشهودُ يومُ القيامةِ وقيلَ عيسَى عليهِ السلامُ وأمتهُ لقولِه تعالى وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً الخ وقيلَ أمةُ محمدٍ وسائرُ الأممِ وقيلَ يومُ الترويةِ ويومُ عرفةٍ وقيلَ يومُ عرفةَ ويومُ الجمعةِ وقيلَ الحجرُ الأسودُ والحجيجُ وقيلَ الأيامُ والليالي وبنُو آدمَ وعن الحسنِ مَا منْ يومٍ إلا ويُنادي إني يومٌ جديدٌ وإنِّي عَلى ما يعملُ فيَّ شهيدٌ فاغتنمني فَلَوْ غَابَتْ شَمْسِي لَمْ تُدركِني إلى يومِ القيامةِ وقيلَ الحفظةُ وبنُو آدمَ وقيلَ الأنبياءُ ومحمدُ عليهم الصلاةُ والسلام(9/135)
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)
{قُتِلَ أصحاب الأخدود} قيلَ هوَ جوابُ القسمِ عَلَى حذفِ اللامِ منهُ للطولِ والأصلُ لقتلَ كَمَا في قولِ مَنْ قالَ حَلَفتُ لَها بالله حِلْفَةَ فَاجِر لَنَامُوا فَمَا إنْ مِنْ حَدِيثٍ وَلاَ صَالِ وقيلَ تقديرُهُ لَقدْ قتلَ وأياً ما كانَ فالجملةُ خبريةٌ والأظهرُ أنَّها دعائيةٌ دالةٌ على الجواب كأنه قيلَ أقسمُ بهذهِ الأشياءِ أنهمْ أيْ كفارَ مكةَ ملعونونَ كما لعنَ أصحابُ الأخدودِ لَمَّا أنَّ السورةَ وردتْ لتثبيتِ المؤمنينِ عَلى ما هم عليه من الإيمان وصبرهم عليه من الإيمانِ وتصبيرِهم على أذية الكفرةِ وتذكيرهم بما جرى عَلى مَنْ تقدَّمهم من التعذيبِ على الإيمانِ وصبرُهُم عَلى ذلكَ حتى يأتسوا بِهمْ ويصبُروا على ما كانُوا يلقونَ من قومِهم ويعلُموا أنَّ هؤلاءِ عندَ الله عزَّ وجلَّ(9/135)
بمنزلةِ أولئكِ المُعذِّبينِ ملعونونَ مثلُهم أحقاءُ بأنْ يقالَ فيهمْ ما قَدْ قيلَ فيهم وقرئ قُتِّلَ بالتشديدِ والأخدودُ الخَدُّ في الأرضِ وهو الشقُّ ونحوهما بناء ومعنى الخق والأخقوق وروى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه كانَ لبعضِ الملوكِ ساحرٌ فلما كبرَ ضَمَّ إليه غلام ليعلِّمهُ السحرَ وكانَ في طريقِ الغلامِ راهبٌ فسمعَ منْهُ فرأى في طريقهِ ذاتَ يومٍ دابةً قدْ حبستِ النَّاسَ قيلَ كانتِ الدابةُ أسداً فأخذَ حَجَراً فقالَ اللهمّ إنْ كانَ الراهبُ أحبَّ إليكَ منَ الساحر فاقتلها فقتلها فكانَ الغلامُ بعدَ ذلكَ يبرئ الأكمه والأبرصَ ويَشفيَ من الأدواء وعمى جليس للملك فأبره فأبصرَهُ الملكُ فسألهُ منْ رد عليك فقالَ ربِّي فغضبَ فعذَّبه فدلَّ علَى الغلامِ فعذَّبه فدلَّ على الراهبِ فلم يرجعِ الراهبُ عن دينِه فقدَّ بالمنشارِ وأبى الغلامُ فذهبَ بهِ إلى جبلٍ ليطرحَ من ذروته فدعا فرجفَ بالقومِ فطاحُوا ونجَا فذهبَ به إلى قُرْقُورٍ فلججُوا بِه ليغرقُوه فدعا فانكفأتْ بهم السفينةُ فغرقُوا ونجا وقال للملكِ لستَ بقاتِلي حَتَّى تجمعَ النَّاسَ في صعيدٍ وتصلبني عَلى جذْعٍ وتأخذَ سهما من كناتى وتقولَ باسمِ الله ربِّ الغُلامِ ثمَّ ترميني بهِ فرماهُ فوقعَ في صُدغِه فوضَعَ يَدَهُ عليهِ وماتَ فقالَ النَّاسُ آمنَّا بربِّ الغلام فقيل للملك نزلَ بكَ ما كنتَ تحذرُ فأمرَ بأخاديدَ في أفواهِ السككِ وأوقدتْ فيها النيرانُ فمنْ لَمْ يرجعْ منهمْ طرحَهُ فيها حتَّى جاءت امرأةٌ معها صبيٌّ فتقاسمت فقالَ الصبيُّ يا أماهُ اصبري فإنَّكِ على الحق فاقتحمتْ وقيلَ قال لها قعى ولا تنافقى ماهي غلا غمبضة فصبرتْ قيلَ أُخرجَ الغلامُ منْ قبرهِ في خلافةِ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنهُ وأصبعُهُ على صُدْغِه كَما وضعها حينَ قتلَ وعَنْ عليَ رضيَ الله عنهُ أنَّ بعضَ ملوكِ المجوسِ وقعَ عَلىَ أختهِ وهو سكرانُ فلما صحا ندمَ وطلبَ المخرجَ فقالتْ لَهُ المخرجُ أن تخطبَ بالنَّاسِ فتقولَ إنَّ الله قدْ أحلَّ نكاحَ الأخواتِ ثمَّ تخطبُهم بعدَ ذلكَ أنَّ الله قد حرَمَهُ فخطبَ فلم يقبلُوا مِنْهُ فقالتْ لَهُ ابسطْ فيهمْ السوطَ ففعلَ فلم يقبلوا فقالتْ لَهُ ابسطْ فيهمْ السيفَ ففعلَ فلم يقبلُوا فأمرَ بالأخاديدِ وإيقادِ النارِ وطرحَ منْ أَبَى فيها فهم الذين أراد الله تعالى بقولِه قُتِلَ أصحاب الأخدود وقيلَ وقعَ إلى نجران رجل مما كانَ على دينِ عيسى عليه السلامُ فدعاهُم فأجابوُه فسارَ إليهم ذُو نواسٍ اليهوديُّ بجنودٍ من حِمْيرٍ فخيرهُمْ بينَ النارِ واليهوديةِ فأبو فأحرقَ منهمْ اثني عشرَ ألفاً في الأخاديدِ وقيلَ سبعينَ ألفاً وذكرَ أنَّ طولَ الأخدودِ أربعونَ ذراعاً وعرضَهُ اثنا عشرَ ذِراعاً(9/136)
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)
النار بد اشتمال من الخدود
ذَاتِ الوقود وصفٌ لها بغاية العطظم وارتفاعِ اللهبِ وكثرةِ ما يوجبُهُ منَ الحطبِ وأبدانِ الناس وقرئ الوقودُ بالضمِّ وقولُه تعالى(9/136)
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)
إذ هم عليها تعود ظرفٌ لقتلَ أي لعنُوا حينَ أحدقُوا بالنَّارِ قاعدينَ حولَها في مكانٍ مشرفٍ علَيها من حافاتِ الأخدودِ كما في قولِه
وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالمُحَلَّقُ(9/136)
85 سورة البروج (7 11)(9/137)
وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)
وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ
أيْ يشهدُ بعضُهم لبعضٍ عندَ الملكِ بأنَّ أحداً لمْ يقصرْ فيما أُمِرَ بهِ أوْ أنهم شهودٌ يشهدونَ بما فعلُوا بالمؤمنينَ يومَ القيامةِ يومَ تشهدُ عليهم أَلْسِنَتُهُمْ وأيديهُمْ وقيلَ عَلَى بمعنَى معَ والمعْنَى وهُم معَ مَا يفعلونَ بالمؤمنينَ منَ العذابِ حضورٌ لاَ يرقُّونَ لهم لغايةِ قسوةِ قُلُوبِهمْ هَذَا هُو الذي يستدعيه النظمُ الكريمُ وتنطقُ بِه الرواياتُ المشهورةُ وَقْد رُويَ أنَّ الجبابرةَ لما ألقوا المؤمنينَ في النَّارِ وهم قعودٌ حولَها علقت بهمْ النَّارُ فأحرقتُهمْ ونجَّى الله عزَّ وجلَّ المؤمنينَ منها سالمينَ وإلى هَذَا القولِ ذهَبَ الربيعُ بنُ أنسٍ والواحديُّ وعلى ذَلكَ حَمَلا قولَهُ تعالى ولهم عذابُ الحريقِ(9/137)
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ
أيْ ما أنكرُوا منهم وما عابُوا
إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد
استئناف مفصحٌ عن براءتِهم عَمَّا يعاب وينكرُ بالكليةِ على منهاجِ قولهِ ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ ضيوفَهُم تُلامُ بنسيانِ الأحبَّةِ والوطن ووَصفُهُ تعالَى بكونِه عزيزاً غالباً يُخشى عقابُه وحميداً منعماً يُرجَى ثوابُه وتأكيدُ ذلكَ بقولِه تعالَى(9/137)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض
للإشعارِ بمناطِ إيمانهِم وقولُه تعالى
والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ
وعدٌ لهم ووعيدٌ شديدٌ لمعذبيهمْ فإنَّ علمِه تعالى بجميعِ الأشياءِ التي من جُملتِها أعمالُ الفريقينِ يستدعي توفيرَ جزاءِ كُلِّ منهمَا حَتْماً(9/137)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات
أي محنوهُم في دينهم ليرجعُوا عَنْهُ والمرادُ بهمْ إمَّا أصحابُ الأخدودِ خاصة وبالمفتونين المطرحون في الأخدودِ وإما الذينَ بلوهم في ذلكَ بالأذيةِ والتعذيبِ على الإطلاقِ وهم داخلونَ في جملتِهم دخولاً أولياً
ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ
أي عن كفرِهم وفتنتهم فإنَّ ما ذُكر من الفتنةِ في الدينِ لا يتصورُ من غيرِ الكافرِ قطعا وقولُه تعالَى
فَلَهُمْ عَذَابُ جهنم
حملة وقت خبراً لأنَّ أوْ الخبر لَهُم وعذابٌ مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ وهو الأحسنُ والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرطِ ولا ضيرَ في نسخِه بأنَّ وإنْ خالفَ الأخفشُ والمَعنى لهُم في الآخرة عذاب جهنَم بسببِ كفرِهم
وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق
وهي نارٌ أُخرى عظيمةٌ بسببِ فتنتِهم للمؤمنين(9/137)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
ان الذين آمنوا وعملوا(9/137)
85 سورة البروج (12 16) الصالحات
على الإطلاقِ منَ المفتونينَ وغيرِهم
لَهُمْ
بسببِ ما ذكر من الإيمان والعملِ الصالحِ
جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار
إن أريد بالجنات الأشجار لجريان الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ وإنْ أُريد بها الأرضُ المشتعلة عليها فالتحية باعتبارِ جزئِها الظاهرِ فإن أشجارَها ساترةٌ لساحتِها كما يعربُ عنْهُ اسمُ الجنةِ وقد مرَّ بيانُه مراراً
ذلك
إشارةٌ إمَّا إلى الجناتِ الموصوفةِ والتذكيرُ لتأويلِها بما ذكرَ للإشعارِ بأنَّ مدارَ الحكمِ عنوانُهَا الذي يتنافس فيها المتنافسون فإنَّ اسمَ الإشارةِ متعرضٌ لذاتِ المشارِ إليهِ منْ حيثُ اتصافُهُ بأوصافِه المذكورةِ لا لذاتِه فقطْ كما هو الشأن الضميرِ فإذا أشيرَ إلى الجناتِ منْ حيثُ ذكرُهَا فقد اعتبر منها عنوانُها المذكورُ حتماً وإما إلى ما يُفيده قولُه تعالَى لهم جناتٌ الخ من حيازتِهم لَها فإنَّ حصولها لهم مستلزم لحايزتهم لها قَطْعاً وأيَّا ما كان فما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتِه وبُعدِ منزلتِه في الفضلِ والشرفِ ومحله الرفعُ على الابتداءِ خبرُه ما بعدُه أي ذلكَ المذكورُ العظيمُ الشأنِ
الفوز الكبير
الذي تصغر عندَهُ الدُّنيا وَمَا فِيْهَا من فنون الرغائب بحذافيرها والفوزُ النجاةُ منَ الشرِّ والظفر بالخير فعالى الأولِ هو مصدرٌ أُطلق على المفعولِ مبالغة وعلى الثانِي مصدرٌ عَلَى حالِه(9/138)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ
استئنافٌ خُوطب بهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنَّ لكفارِ قومِهِ نصيباً موفُوراً منْ مضمونِه كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلامُ والبطشُ الأخذُ بعُنْفٍ وحيثُ وصفَ بالشدةِ فقدْ تضاعفَ وتفاقمَ وهو بطشُه بالجبابرةِ والظلمةَ وَأخذُه إيَّاهُم بالعذابِ والانتقامِ كقولِه تعالَى وكذلك أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِىَ ظالمة إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(9/138)
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ
أيْ هُو يُبدْىءُ الخلقِ وهو يعيده من غيرِ دخلٍ لأحدٍ في شيءٍ منْهُمَا ففيهِ مزيد تقرير لشدته بطشِه أوُ هُو يبدىءُ البطشَ بالكفرةِ في الدُّنيا وَيعيدُه فِي الآخرةِ(9/138)
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
وَهُوَ الغفور
لمن تاب وآمنَ
الودود
المحبُّ لمَنْ أطاعَ(9/138)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)
ذُو العرش
خالقُه وقيلَ المرادُ بالعرشِ الملكُ أيْ ذُو السلطنةِ القاهرةِ وقُرِىءَ ذِي العَرشِ عَلى أنَّهُ صفةُ ربِّك
المجيد
العظيمُ في ذاتِه وصفاتِه فإنَّهُ واجبُ الوجودِ تامُّ القُدرةِ كاملُ الحكمةِ وقُرِىءَ بالجرِّ على أنَّه صفةٌ لربِّكَ أَوْ للعرشِ ومجدُه علوّه وعظمتُه(9/138)
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)
فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ
بحيثُ لا يتخلفُ عنْ إرادتِه مرادٌ من أفعالِه تعالَى وأفعالِ غيرِه وهو خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ(9/138)
85 سورة البروج (17 22)
وقوله تعالى(9/139)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)
هل أتاك حَدِيثُ الجنود
استئنافٌ مقررٌ لشدةِ بطشِه تعالَى بالظلمةِ العصاة والكفرة والعتاة وكونُه فعالاً لما يريدُ متضمنٌ لتسليتِه عليه الصلاةُ والسلامُ بالإشعارِ بأنهُ سيصيبُ قومَهُ ما أصابَ الجنودَ(9/139)
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ
بدلٌ منَ الجنودِ لأنَّ المرادَ بفرعونَ هُوَ وقومُه والمرادُ بحديثِهم ما صدرَ عنهُم من التمادِي في الكفرِ والضلالِ وما حلَّ بهمْ منَ العذابِ والنكالِ وَالمَعْنى قدْ أتاك حديثهم وعرفت ما فعلوا وما فُعل بهمْ فذكِّر قومكَ بشؤونِ الله تعالَى وأنذرهم ان يصبهم مثل ما أصاب أمثالهم وقوله تعالى(9/139)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ
إضراب عن مماثلتِهم لهُم وبيانٌ لكونِهم أشدَّ منُهم في الكفرِ والطغيانِ كأنَّه قيلَ ليسُوا مثلُهم في ذلك بل هم أشدُّ منهمُ في استحقاقِ العذابِ واستيجابِ العقابِ فإنَّهم مستقرونَ فِي تكذيبٍ شديدٍ للقرآنِ الكريمِ أو قيلَ ليستْ جنايتُهم مجردَ عدمِ التذكر والاتعاظ بما سمعُوا منْ حديثِهم بلْ هُم معَ ذلكَ في تكذيب شديدٍ للقُرآنِ الناطقِ بذلكَ لكنْ لا أنَّهم يكذبونَ بوقوعِ الحادثةِ بلْ بكونِ ما نطقَ بهِ قرآناً منْ عندِ الله تعالى معَ وضوحِ أمرِه وظهور حاله بالبيانات الباهرةِ(9/139)
وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)
والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ
تمثيلٌ لعدمِ نجاتِهم منْ بأسِ الله تعالَى بعدمِ فوتِ المحاطِ المحيطَ وقولُه تعالى(9/139)
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
بل هو قرآن مَّجِيدٌ
ردٌّ لكفرهم وإبطالٌ لتكذيبهم وتحقيقٌ للحقِّ أيْ ليسَ الأمرُ كَما قالُوا بلْ هُو كتابٌ شريف عالِي الطبقةِ فَيما بينَ الكتبِ الإلهيةِ في النظمِ والمَعْنى وقُرِىءَ قرآنُ مجيدٍ بالإضافةِ أيْ قرآنُ ربَ مجيدٍ(9/139)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ
أيْ منَ التحريفِ ووصولِ الشياطين إليهِ وقُرِىءَ محفوظٌ بالرَّفعِ عَلى أنَّه صفةُ قرآنٍ وقُرِىءَ في لوحٍ وَهُوَ الهَوَاءُ أي ما فوقَ السماءِ السابعةِ الذي فيهِ اللوح عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ البروجِ أعطاهُ الله تعالَى بعددِ كلِّ جمعةٍ وعرفةٍ تكونُ في الدُّنيا عشر حسنات(9/139)
86 سورة الطارق (1 4)
سورة الطارق مكية وآيها سبع عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم(9/140)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
والسماء والطارق
الطارقُ في الأصلِ اسمُ فاعلٍ منْ طرق طرقا وطرقا إذَا جاءَ ليلاً قالَ المَاوِرْدِيُّ وأصلُ الطرقِ الدقُّ ومنه سميتِ المطرقةُ وإنما سميَ قاصدُ الليلِ طارقاً لاحتياجِه إلى طرقِ البابِ غالباً ثم اتُّسعَ في كلِّ ما ظهرَ بالليلِ كائناً ما كانَ ثم أشبعَ في التوسعِ حتى اطلق على الصور الخالية الباديةِ بالليلِ قال طرقَ الخيالُ ولا كليلةِ مدلج سدكاً بأرجلنَا ولم يتبرجِ والمرادُ ههنا الكوكبُ البادِي بالليلِ أما عَلى أنَّه اسمُ جنسٍ أو كوكبٌ معهودٌ وقيلَ الطارقُ النجمُ الذي يقالُ له كوكبُ الصبحِ وقولُه تعالى(9/140)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارق
تنويهٌ بشأنِه إثرَ تفخيمِه بالإقسامِ به وتنبيهٌ على أنَّ رفعةَ قدرِه بحيثُ لا ينالُها إدراكُ الخلقِ فلا بُدَّ من تلقِّيها من الخلاَّقِ العليمِ فما الأُولى مبتدأٌ وأدراكَ خبرٌ والثانيةُ خبرٌ والطارقُ مبتدأٌ حسبما بينَ في نظائرِه أي وأي شيء أعلمك ما الطارقُ وقولُه تعالى(9/140)
النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
النجم الثاقب
خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ استئنافٌ وقعَ جواباً عن استفهامٍ نشأَ مما قبله كأنه قيل ما هو فقيلَ النجمُ المضيءُ في الغايةِ كأنَّه يثقبُ الظلامُ أو الأفلاكُ بضوئِه وينفذُ فيَها والمرادُ بهِ إما الجنسُ فإنَّ لكلِّ كوكبٍ ضوءاً ثاقباً لا محالةَ وإما كوكبٌ معهودٌ قيلَ هو زُحَلُ وقيلَ هو الثُّريَّا وقيلَ هو الجَديُ وقيل النجمُ الثاقبُ نجمٌ في السماءِ السابعةِ لا يسكُنها غيرُه فإذا أخذتِ النجومُ أمكنتَها من السماءِ هبط فكانَ معها ثم يرجعُ إلى مكانِه من السماءِ السابعةِ وهو زُحل فهو طارقٌ حينَ ينزلُ وحينَ يصعدُ وفي إيرادِه عندَ الإقسامِ به بوصفٍ مشتركٍ بينه وبين غيرِه ثم الإشارةِ إلى أنَّ ذلكَ الوصفَ غير كنِه أمرِه وأن ذلكَ مما لا تبلغه أفكارُ الخلائقِ ثم تفسيرِه بالنجمِ الثاقبِ من تفخيمِ شأنه وإجلال محله ما لا يخفى وقوله تعالى(9/140)
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} جوابٌ للقسمِ وما بينهما اعتراضٌ جيءَ به لما(9/140)
ذكرمن تأكيد فخامة المقسمبه المستتبعِ لتأكيدِ مضمونِ الجملةِ المقسمِ عليها وإنْ نافيةٌ ولما بمعنى إلا أي ما كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا حافظٌ مهيمنٌ رقيبٌ وهو الله عزَّ وجلَّ كما في قوله تعالى وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء رَّقِيباً وقيلَ هو من يحفظُ عملَها ويُحصي تعالى {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَاماً} الآيةَ وقولُه تعالى {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} وقولُه تعالى {لَهُ معقبات مّن بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفِه يَحْفَظُونَهُ} وقُرِىءَ لَمَا مخففةٌ على أنَّ إنْ مخففةٌ من الثقيلةِ واسمُها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ والَّلامُ هي الفارقةُ وما مزيدةٌ أي أنَّ الشأنَ كلُّ نفسٍ لعليها حافظٌ والفاء في قوله تعالى(9/141)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)
فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ
للتنبيهِ على أنَّ مَا بُينَ مِنْ أن كلَّ نفسٍ عليها حافظٌ يُحصي عليها كلَّ ما يصدرُ عنها من قولٍ وفعلٍ مستوجبٌ على الإنسانِ أنْ يتفكرَ في مبدأِ فطرتِه حق التفكر حتى يتضح له أن من قدر على إنشائه من موادّ لم تشمّ رائحة الحياة قط فهو قادرٌ على إعادتِه بل أقدرُ على قياسِ العقلِ فيعملَ ليومِ الإعادةِ والجزاءِ ما ينفعُه يومئذٍ ويجديهِ ولا يملى على حافظِه ما يرد به وقولُه تعالى(9/141)
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)
خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ
استئنافٌ وقع جوابا عن استفهامٍ مقدرٍ كأنه قيلَ ممَّ خلقَ فقيلَ خلقَ من ماءٍ ذِي دفقٍ وهو صبٌّ فيه دفعٌ وسيلانٌ بسرعةٍ والمرادُ بهِ الممتزجُ من الماءينِ في الرحمِ كما ينبىءُ عنه قولُه تعالى(9/141)
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب
أي صلبِ الرجلِ وترائبِ المرأةِ وهي عظامُ صدرِها قالوا إن النطفةَ تتولدُ من فضلِ الهضمِ الرابعِ وتنفصلُ عن جميعِ الأعضاءِ حتى تستعدَّ لأنْ يتولدَ منها مثلُ تلك الأعضاءِ ومقرُّها عروقٌ ملتفٌ بعضُها بالبعضِ عند البيضتينِ فالدماغُ أعظمُ الأعضاءِ معونةً في توليدِها ولذلك تشبهُه ويورثُ الإفراطُ في الجماعِ الضعفَ فيهِ وله خليفه هي النخاعُ وهو في الصلبِ وشعبٌ كثيرةٌ نازلة إلى الترائبِ وهما أقربُ إلى أوعيةِ المنيِّ فلذلك خُصَّا بالذكرِ وقُرِىءَ الصَّلَبِ بفتحتينِ والصُّلُبِ بضمتينِ وفيه لغةٌ رابعةٌ هي صالبُ(9/141)
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
أَنَّهُ
الضميرُ للخالقِ تعالَى فإنَّ قولَه خُلِقَ يدلُّ عليهِ أيْ أنَّ ذلكَ الذي خلقَهُ إبتداءً مما ذكرَ
على رَجْعِهِ
أي على إعادتِه بعد موتِه
لَقَادِرٌ
لبينُ القدرة(9/141)
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)
يَوْمَ تبلى السرائر
أي يُتعرفُ ويُتصفحُ ما أُسرَّ في القلوبِ من العقائدِ والنياتِ وغيرها وما أُخفي من الأعمالِ ويُميزُ بين ما طابَ منها وما خبث وهو(9/141)
86 سورة الطارق (10 14)
ظرفٌ لرجعِه(9/142)
فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
فَمَا لَهُ
أي للإنسانِ
مِن قُوَّةٍ
في نفسِه يمتنعُ بها
وَلاَ نَاصِرٍ
ينتصرُ به(9/142)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)
والسماء ذَاتِ الرجع
أي المطرِ سميَ رَجْعاً لَما أن العربَ كانوا يزعمونَ أن السحابَ يحملُ الماءَ من يحار الأرضِ ثم يرجعُه إلى الأرضِ أو أرادُوا بذلكَ التفاؤلَ ليرجعَ ولذلك سمَّوه أوباً أو لأنَّ الله تعالى يرجعه(9/142)
وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)
والأرض ذَاتِ الصدع
هو ما تتصدعُ عنه الأرضُ من النباتِ أو مصدرٌ من المبنيِّ للمفعولِ وهو تشققُها بالنباتِ لا بالعيونِ كما قيلَ فإن وصفَ السماءِ والأرضِ عند الإقسامِ بهما على حقية القرآنِ الناطقِ بالبعثِ بما ذُكِرَ منَ الوصفينِ للإيماءِ إلى أنَّهما في أنفسِهما من شواهدِه وهو السرُّ في التعبيرِ بالصدعِ عنه وعن المطرِ بالرجعِ وذلك في تشققِ الأرضِ بالنباتِ المحاكِي للنشورِ حسبما ذكرَ في مواقعَ من التنزيلِ لا في تشققِها بالعيونِ(9/142)
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)
أَنَّهُ
أي القُرآنَ الذي من جُملته ما تُلي من الآياتِ الناطقةِ بمبدأِ حال الإنسانِ ومعادِه
لَقَوْلٌ فَصْلٌ
أي فاصلٌ بين الحقِّ والباطلِ مبالغٌ في ذلك كأنه نفسُ الفصلِ(9/142)
وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
وَمَا هوَ بالهزل
ليس في شيءٍ منه شائبةُ هزلٍ بل كله جدٌّ محضٌ لا هوادةَ فيه فمن حقِّه أن يهتديَ به الغواةُ وتخضعَ له رقابُ العتاةِ(9/142)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)
أَنَّهُمْ
أي أهلَ مكةَ
يَكِيدُونَ
في إبطالِ أمرِه وإطفاءِ نورِه
كَيْداً
حسبما نفى به قدرتُهم(9/142)
وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)
وَأَكِيدُ كَيْداً
أي أقابلهُم بكيدٍ متينٍ لا يمكنُ ردُّه حيثُ أستدرجُهم من حيثُ لا يعلمونَ(9/142)
فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
فَمَهّلِ الكافرين
أي لا تشتغلْ بالانتقامِ منهم ولا تدع عليهم بالهلاك اولا تستعجلْ بهِ والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها فإنَّ الإخبارَ بتوليهِ تعالى لكيدهم بالذاتِ مما يوجبُ إمهالَهم وتركَ التصدِّي لمكايدتِهم قطعاً وقولُه تعالى
أَمْهِلْهُمْ
بدلٌ من مَهِّل وقولُه تعالى
رُوَيْداً
إما مصدر مؤكد لمعنى العاملِ أو نعتٌ لمصدره المحذوف اي أمهلهم إمهالاً رُويداً أي قريباً كما قاله ابن عباس رضيَ الله عنْهُما أو قليلا(9/142)
87 سورة الأعلى (1 3)
كما قاله قَتادةُ قال أبو عبيدةَ هُو في الأصلِ تصغيرُ رُود بالضمِّ وأنشدَ كأنَّها ثَمِلٌ تَمشي عَلى رُودِ أي على مهل وقيل تصغيرا رواد مصدرا رود بالترخيمِ وله في الاستعمالِ وجهانِ آخرانِ كونُه اسمَ فعل نحو رويدا زيد وكونُه حالاً نحو سارَ القومُ رويداً أَي متمهلينَ وفي إيرادِ البدلِ بصيغةٍ لا تحتملُ التكثيرَ وتقييدُه برويداً على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ من تسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتسكين قلبه مالا يخفى وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأَ سورةَ الطارقِ أعطاه الله تعالى بعدد كلِّ نجمَ في السماءِ عشرَ حسناتٍ والله أعلمُ
سورة الأعلى مكية وآيها تسع عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم(9/143)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى
أي نزه اسَمُه عزَّ وجلَّ عن الإلحادِ فيه بالتأويلاتِ الزائغةِ وعن إطلاقِه على غيرِه بوجهٍ يُشعرُ بتشاركِهما فيهِ وعن ذكرِه لاَ عَلى وجهِ الإعظامِ والإجلالِ والأعلى إمَّا صفةُ للربِّ وهو الأظهرُ أو للاسمِ وقُرِىءَ سُبحانَ ربِّيَ الأَعْلَى وفي الحديثِ لما نزلتْ {فسبح باسمِ ربِّكَ العظيمِ} قال عليه الصَّلاةُ والسلام اجلعوها في ركوعِكم فلمَّا نزلَ {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} قالَ اجعلُوها في سُجودِكم وكانُوا يقولونَ في الركوعِ اللهمَّ لكَ ركعتُ وفي السجودِ اللَّهم لكَ سجدتُ(9/143)
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)
الذى خَلَقَ فسوى
صفةٌ أُخرى للربِّ على الوجهِ الأولِ ومنصوبٌ على المدحِ على الثَّانِي لئلا يلزمَ الفصلُ بين الموصوفِ والصفةِ بصفةِ غيرِه أيْ خلقَ كلَّ شيءٍ فسوَّى خلقَهُ بأنْ جعلَ له ما به يتأتى كما له ويتسنَّى معاشُه وقولُه تعالَى(9/143)
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)
والذى قَدَّرَ
إمَّا صفةٌ أُخْرى للربِّ كالموصول الأولِ أو معطوفٌ عليهِ وكذا حالُ ما بعدَهُ قدَّرَ أجناسَ الأشياءِ وأنواعِها وأفرادَها ومقاديرَها وصفاتِها وأفعالَها وآجالَها
فهدى
أيْ فوجَّه كلَّ واحدٍ منَها إلى ما يصدرُ عنْهُ وينبغِي لهُ طبعاً أو اختياراً ويسرهُ لما خُلقَ له بخلقِ الميولِ والإلهاماتِ ونصبُ الدلائلِ وإنزالِ الآياتِ ولو تتبعتَ احوال النباتات والحيوانات(9/143)
87 سورة الأعلى (4 7)
لرأيت كلَ منَها ما تحارُ فيه العقولُ يُروى أنَّ الأفعَى إذَا بلغتْ ألفَ سنةٍ عميتْ وقدْ ألهمَها الله تعالَى أنْ تمسحَ عينَها بورقِ الرازيانجِ الغضِّ يُردُّ إليها بصرُها فربَّما كانتْ عندَ عُروضِ العَمَى لها في بريةٍ بينَها وبين الريفِ مسافةٌ طويلةٌ فتطويها حتى تهجمَ في بعضِ البساتينِ على شجرة الرازيانجِ لا تُخطئها فتحكَّ عينَها بورَقِها وترجعَ باصرةً بإذنِ الله عزَّ وجلَّ ويُروى أنَّ التمساحَ لا يكونُ له دُبرٌ وإنَّما يخرجُ فضلاتِ ما يأكلُه من فمِه حيثُ قيَّضَ الله له طائراً قُدِّر غذاؤُه من ذلكَ فإذَا رآهُ التمساحُ يفتحُ فمَهَ فيدخُلُه الطائرُ فيأكلُ ما فيهِ وقد خلقَ الله تعالى له من فوقِ منقارِه ومن تحتِه قرنينِ لئلا يطبقَ عليه التمساحُ فمَهُ هَذا وأمَّا فنونُ هداياتِه سبحانَهُ وتعالَى للإنسانِ من حيثُ الجسميةُ ومن حيثُ الحيوانيةُ لا سيِّما من حيثُ الإنسانيةُ فممَّا لا يحيطُ به فَلَكُ العبارةِ والتحريرُ ولا يعلمُه إلا العليمُ الخبر(9/144)
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)
والذى أَخْرَجَ المرعى
أيْ أنبتَ ما يرعاهُ الدوابُّ غضّاً طرياً يرفُ(9/144)
فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
فَجَعَلَهُ
بعدَ ذلكَ
غُثَاء أحوى
أي دَريناً أسودَ وقيلَ أحْوَى حالٌ من المَرْعى أي أخرجَهُ أَحْوَى من شدة الخضرةِ والريِّ فجعلَه غُثاءً بعدَ ذلكَ وقولُه تعالى(9/144)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)
سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى
بيانٌ لهداية الله تعالَى الخاصَّةِ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم إثرَ بيانِ هدايتِه تعالى العامَّةِ لكافَّةِ مخلوقاتِه وهي هدايته عليه الصلاة والسلام لتلقِّي الوَحْي وحفظِ القرآنِ الذي هو هُدى للعالمينَ وتوفيقُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لهدايةِ الناسِ أجمعينَ والسين إمَّا للتأكيدِ وإمَّا لأنَّ المرادَ إقراءُ ما أَوْحى الله إليهِ حينئذٍ وما سيُوحى إليهِ بعدَ ذلكَ فهو وعد كريم باستمرار الوَحْي في ضمنِ الوعدِ بالإقراءِ أي سنُقرئكَ ما نُوحِي إليكَ الآنَ وفيما بعدُ على لسانِ جبريلَ عليهِ السَّلامُ أو سنجعلكَ قارئاً بإلهامِ القراءةِ فلا تنْسى أصلاً من قوةِ الحفظِ والإتقانِ مع أنَّكَ أميٌّ لا تدرِي ما الكتابُ وما القراءةُ ليكونَ ذلك آيةً أُخْرى لكَ معَ ما في تضاعيفِ ما تقرؤه من الآياتِ البيناتِ من حيثُ الإعجازُ ومن حيثُ الإخبارُ بالمغيباتِ وقيلَ فلا تنْسى نهيٌ والألفُ لمراعاة الفاصلةِ كما في قولِه تعالى {فأضلُّونَا السبيلاَ} وقولُه تعالى(9/144)
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
إلا ما شاء الله
استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم المفاعيلِ أيْ لا تَنْسى ممَّا تقرؤُه شيئاً من الأشياءِ إلا ما شاءَ الله أنْ تنساهُ أبداً بأنْ نُسخَ تلاوتُه والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابةِ والإيذانِ بدورانِ المشيئةِ على عُنوانِ الأُلوهيةِ المستتبعةِ لسائرِ الصفاتِ وقيل المرادُ به النسيانُ في الجملةِ على القلةِ والندرةِ كما روي أنه عليه الصلاة والسَّلامُ أسقطَ آيةً في قراءته في الصلاة فحسب أبيُّ أنها نُسختْ فسألَه فقال عليه الصلاة(9/144)
87 سورة الأعلى (8 10)
والسَّلامُ نسيتُها وقيلَ نَفيُ النسيانِ رأساً فإنَّ القَّلةَ قد تُستعملُ في النَّفي فالمراد بالنسيان حينئذ النسيان بالكليةِ إذُ هو المنفيُّ رأساً لا ما قَدْ ينسى ثم يذكر
إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى
تعليلٌ لمَا قبلَهُ أيْ يعلم ما ظهرَ وما بطنَ من الأمور التي من جُملتِها ما أُوحيَ إليكَ فيُنْسِي ما يشاءُ إنساءَهُ ويُبقي محفوظاً ما يشاءُ إبقاءَهُ لما نيطَ بكلَ منهُما من مصالحِ دينِكم(9/145)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)
وَنُيَسّرُكَ لليسرى
عطفٌ على نُقرئكَ كما يُنْبىءُ عنه الالتفاتُ إلى الحكايةِ وما بينهما اعتراضٌ واردُ لما ذُكرَ من التعليلِ وتعليقٌ التيسيرِ به عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ مع أنَّ الشائعَ تعليقُه بالأمورِ المسخرةِ للفاعلِ كما في قوله تعالى {وَيَسّرْ لِى أَمْرِى} للإيذانِ بقوةِ تمكينِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من اليُسرى والتصرفِ فيها بحيثُ صارَ ذلكَ ملكةً راسخةً له كأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جُبلَ عليها كما في قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ اعملُوا فكُلٌّ ميسرٌ لِمَا خُلقَ له أي نوفقكَ توفيقاً مستمراً للطريقةِ اليُسرى في كُلّ بَابٍ من أبوابِ الدينِ علماً وتعليماً واهتداءً وهدايةً فيندرجُ فيه تيسيرُ طريقِ تلقِّي الوَحْي والإحاطةِ بما فيه منْ أحكامِ الشريعةِ السمحةِ والنواميسِ الإلهيةِ مما يتعلقُ بتكميل نفسِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ وتكميلِ غيرِه كَما تُفصحُ عنه الفاءُ في قوله تعالى(9/145)
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)
فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى
أي فذكرِ الناسَ حسبما يَسَّرناكَ لهُ بما يُوحى إليكَ واهدِهِم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعيةِ كما كنتَ تفعلُه لا بعدَ ما استتبَ لك الأمرُ كما قيلَ وتقييد التذكير بنفع الذكرَى لما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم طالمَا كانَ يذكرهُم ويستفرغُ فيه غايةَ المجهودِ ويتجاوزُ في الجِد كلَّ حدَ معهودٍ حرصاً على إيمانِهم وما كانَ يزيدُ ذلكَ بعضُهم إلا كُفراً وعناداً فأمر عليه الصلاة والسلام بأنْ يخصَّ التذكيرَ بموادِّ النفعِ في الجملةِ بأنْ يكونَ مَنْ يذكرُهُ كلاً أو بعضاً مِمَّنْ يُرجى منه التذكرُ ولا يتعبُ نفسَه في تذكيرِ مَن لا يورثُهُ التذكيرُ إلا عتواً ونفوراً من المطبوعِ على قلوبِهم كما في قوله تعالى {فذكر بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} وقولِه تعالى {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} وقيلَ هُو ذمٌّ للمذكرينَ وإخبارٌ عن حالِهم واستبعادٌ لتأثيرِ التذكيرِ فيهم وتسجيلٌ عليهمْ بالطبعِ على قلوبِهم كقولكَ للواعظ عظِ المكَّاسينَ إنْ سمعُوا منك قصداً إلى أنَّه مما لا يكونُ والأولُ أنسبُ لقوله تعالى(9/145)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10)
سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى
أي سيتذكرُ بتذكيرِكَ مَنْ مِنْ شأنُه أنْ يخشَى الله تعالى حقَّ خشيتِه أو مَنْ يخشَى الله تعالَى في الجملةِ فيزدادُ ذلكَ بالتذكيرِ فيتفكرُ في أمرِ مَا تذكرَ به فيقفُ على حقيتِه فيؤمنُ بهِ وقيلَ إنْ بمَعْنى إذْ كما في قوله تعالى {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي إذْ كنتُم وقيلَ هيَ بمَعْنى مَا أيُ فذكْر ما نفعتِ الذكرَى فإنَّها لا تخلُو(9/145)
87 سورة الأعلى (11 17)
عن نفعٍ بكلِّ حالٍ وقيلَ هناكَ محذوفٌ والتقديرُ إنْ نفعتِ الذكرَى وإنْ لم تنفعْ كقولِه تعالى {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} قالَهُ الفَّراءُ والنَّحاسُ والجُرجُانيُّ والزهراويُّ(9/146)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)
وَيَتَجَنَّبُهَا
أي الذكرَى
الأشقى
من الكفرة لتوغله في عداوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقيل نزلت في الوليد بنِ المغيرةِ وعتبةَ بنِ أبي ربيعةَ(9/146)
الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12)
الذى يَصْلَى النار الكبرى
أي الطبقةَ السُّفلَى من طبقاتِ النارِ وقيلَ الكُبرى نارُ جهنمَ والصُّغْرى نارُ الدُّنيا لقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ نارُكُم هذهِ جزءٌ من سبعين جزءا من نارِ جهنَم(9/146)
ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا
حتى يستريحَ
وَلاَ يحيى
حياةً تنفعُه وثمَّ للتراخِي في مراتبِ الشدةِ لأن الترددَ بين الموتَ والحياةِ أفظعُ من الصَّلْي(9/146)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
قَدْ أَفْلَحَ
أي نجَا من المكروهِ وظفرَ بما يرجُوه
مَن تزكى
أيْ تطهرَ من الكفرِ والمعاصِي بتذكرِه واتعاظِه بالذكرَى أو تكثر من التَّقوى والخشيةِ مْنَ الزكاءِ وهو النماءُ وقيل تطهر للصلاة وقيلَ تزكَّى تفعَّل من الزكاةِ وكلمةُ قَدْ لَما أنَّ عندَ الإخبارِ بسوءِ حالِ المتجنبِ عنِ الذكرَى في الآخرةِ يتوقعُ السامعُ الأخبارَ بحسنِ حالِ المتذكرِ فيَها وينتظرُه(9/146)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
وَذَكَرَ اسم رَبّهِ
بقلبِه ولسانِه
فصلى
أقامَ الصلواتِ الخمس كقوله تعالى {وأقم الصلاة لذكري} أو كبرَ تكبيرةَ الافتتاحِ فصلَّى وقيلَ تزكَّى أي تصدقَ صدقة الفطرِ وذكر اسمَ ربِّه أي كبَّرهُ يومَ العيدِ فصلَّى أيْ صلاتَهُ(9/146)
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)
بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا
إضرابٌ عن مقدَّرٍ ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيلَ إثرَ بيانِ ما يؤدِّي الى الفلاح لا تفلعون ذلكَ بلْ تؤثرونَ اللذاتِ العاجلةَ الفانيةَ فتسعَونَ لتحصيلِها والخطابُ إمَّا للكفرةِ فالمرادُ بإيثارِ الحياةِ الدُّنيا هُو الرِّضا والاطمئنانُ بهَا والإعراضُ عن الآخرةِ بالكليةِ كما في قوله تعالى {إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا} الآيةَ أو للكُلِّ فالمرادُ بإيثارها ما هُو أعمُّ ممَّا ذُكرَ وما لا يخلُو عنْهُ الإنسانُ غالباً من ترجيح جانبِ الدُّنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادىء والالتفاتُ على الأولِ لتشديدِ التوبيخِ وعلى الثَّانِي كذلكَ في حقِّ الكفرةِ وتشديدِ العتابِ في حقِّ المسلمينَ وقُرِىءَ يُؤثرونَ بالياءِ وقولُه تعالى(9/146)
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)
والآخرة(9/146)
87 سورة الأعلى (18 19)
خَيْرٌ وأبقى
حالٌ من فاعلِ تؤثرونَ مؤكدةٌ للتوبيخِ والعتابِ أي تُؤثرونَها على الآخرةِ والحالُ أنَّ الآخرةَ خيرٌ في نفسِها لمَا أنَّ نعيمَها مع كونِه في غايةِ ما يكونُ من اللذةِ خالصٌ عن شائبةِ الغائلةِ أبديٌّ لا انصرامَ لَه وعدمُ التعرضِ لبيانِ تكدرِ نعيمِ الدُّنيا بالمنغصاتِ وانقطاعِه عمَّا قليلٍ لغايةِ ظهورِه(9/147)
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)
إِنَّ هَذَا
إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من قولِه تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} وقيلَ إلى ما في السورةِ جميعاً
لَفِى الصحف الأولى
أي ثابتٌ فيها معناهُ(9/147)
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
صُحُفِ إبراهيم وموسى
بدلٌ من الصحفِ الأُولى وفي إبهامِها ووصفِها بالقدمِ ثم بيانِها وتفسيرِها من تفخيمِ شأنها مالا يَخْفى رُويَ أن جميعَ ما أنزلَ الله عزَّ وجلَّ من كتابٍ مائةٌ وأربعةُ كتبٍ أنزلَ على آدمَ عليهِ السَّلامُ عشرَ صحفٍ وعلى شيثٍ خمسينَ صحيفةً وعلى إدريسَ ثلاثينَ صحيفةً وعلى إبراهيمَ عشرَ صحائفَ عليهم السَّلامُ والتوراةَ والإنجيلُ والزبورُ والفرقانَ عن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الأعلى أعطاه الله تعالى عشرَ حسناتٍ بعددِ كلِّ حرفٍ أنزلَهُ الله تعالَى على إبراهيمَ ومُوسى ومحمدٍ عليهم السلام(9/147)
88 سورة الغاشية (1 4)
سورة الغاشية مكية وآيها ست وعشرون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم(9/148)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية
قيلَ هِلْ بمَعْنى قَدْ كما في قوله تعالى {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} الآيةَ قالَ قُطْربٌ أيْ قد جاءكَ يا محمدُ حديثُ الغاشيةِ وليسَ بذاكَ بلْ هو استفهامٌ أُريدَ به التعجيبُ ممَّا في حيزِه والتشويقُ إلى استماعِه والإشعارُ بأنَّه من الأحاديثِ البديعةِ التي حقُّها أنْ يتناقلها الرواة ويتنافس في تلقيها الوعاةُ مِنْ كلِّ حاضِرٍ وبادٍ والغاشيةُ الداهيةُ الشديدةُ التي تغشَى الناسَ بشدائدِها وتكتنفُهم بأهوالِها وهيَ القيامةُ من قولِه تعالى {يَوْمَ يغشاهم العذاب} الخ وقيلَ هيَ النارُ من قولِه تعالى {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} وقولِه تعالى {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} والأولُ هو الحقُّ فإنَّ ما سيُروى من حديثِها ليسَ مختصاً بالنَّارِ وأهلِها بلْ ناطقٌ بأحوال أهلِ الجنةِ أيضاً وقولُه تعالى(9/148)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشعة
إلى قولِه تعالى مَبْثُوثَةٌ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ من الاستفهام التشويقيِّ كأنَّه قيلَ من جهتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما أتانِي حديثُها فما هو فقيلَ وجوهٌ يومئذٍ أيْ يومَ إذْ غشيتْ ذليلةٌ قالَ ابن عباس رضي الله عنهُمَا لم يكنْ أتاهُ عليه الصَّلاة والسَّلامُ حديثُها فأخبرَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عنهَا فقالَ وجوهٌ الخ فوجوهٌ مبتدأٌ ولا بأسَ بتنكيرِها لأنَّها في موقعِ التنويعِ وخاشعةٌ خبرُهُ وقولُه تعالى(9/148)
عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)
عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ
خبرانِ آخرانِ لوجوهٌ إذِ المرادُ بهَا أصحابُها أي تعملُ أعمالاً شاقةً تتعبُ فيها وهيَ جرُّ السلاسلِ والأغلالِ والخوضُ في النَّارِ خوضَ الإبلِ في الوحلِ والصعودُ والهبوطُ في تلالِ النارِ ووهادِها وقيلَ عملتْ في الدُّنيا أعمالَ السوءِ والتذتْ بها فهيَ يومئذٍ في نصبٍ منها وقيلَ عملتْ ونصبتْ في أعمالِ لا تُجدي عليهَا في الآخرةِ وقولُه تعالَى(9/148)
تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)
تصلى
أي تدخلُ
نَاراً حَامِيَةً
أي متناهيةً في الحرِّ خبرٌ آخرُ لوجوهٌ وقيلَ هو الخبرُ وما قبلَهُ صفاتٌ لوجوهٌ وقد مر غير مرة أن الصفةَ حقُّها أن تكونَ معلومة(9/148)
88 سورة الغاشية (5 8)
الانتساب إلى الموصوف عند السامعِ قبلَ جعلِها صفةً له ولا ريبَ في أنَّ صليَ النارِ وما قبلَهُ من الخشوعِ والعملِ والنَّصَبِ أمورٌ متساويةٌ في الانتسابِ إلى الوجوهِ معرفةً وجهالةً فجعلُ بعضِها عُنواناً للموضوعِ قيداً مفروغاً عنه غيرَ مقصودِ الإفادةِ وبعضِها مناطاً للإفادةِ تحكُّمٌ بحتٌ ويجوز أن يكون هذا وما بعدَهُ من الجملتينِ استئنافاً مبيناً لتفاصيلِ أحوالِها(9/149)
تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
تسقى من عين آنية
أي متناهية في الحر كما في قوله تعالى {وبين حميم آن}(9/149)
لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)
لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ
بيانٌ لطعامِهم إثرَ بيانِ شرابِهم والضريعُ ييس الشبرقِ وهو شوكٌ ترعاهُ الإبلُ ما دامَ رطباً وإذا يبسَ تحامتْهُ وهو سمٌّ قاتلٌ وقيلَ هي شجرةٌ ناريةٌ تشبهُ الضريعَ وقال ابنُ كيسانٍ هو طعام يضرعون عندَهُ ويذلُّونَ ويتضرعونَ إلى الله تعالى طلباً للخلاصِ منه فسمِّيَ بذلكَ وهذا طعامٌ لبعضِ أهلِ النارِ والزقومُ والغسلينُ لآخرينِ(9/149)
لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ
أي ليسَ من شأنِه الإسمانُ والإشباعُ كما هو شأنُ طعامِ الدُّنيا وإنما هُو شيءٌ يضطرونَ إلى أكلِه من غيرِ أنْ يكونَ له دفعٌ لضرورتِهم لكنْ لا على أنَّ لهم استعداداً للشبعِ والسمنِ إلا أنَّه لا يفيدُهم شيئاً منهمَا بلْ على أنَّه لا استعدادَ من جهتِهم ولا إفادةَ من جهةِ طعامِهم وتحقيقُ ذلكَ أنَّ جوعَهُم وعطشَهُم ليسا من قبيلِ ما هُو المعهودُ منهما في هذه النشأةِ من حالةٍ عارضةٍ للإنسانِ عندَ استدعاءِ الطبيعةِ لبدلِ ما يتحللُ من البدنِ مشوقةً له إلى المطعومِ والمشروبِ بحيث يلتذ بهما عندَ الأكلِ والشربِ ويستغنِي بهمَا عن غيرِهما عندَ استقرارِهما في المعدةِ ويستفيدُ منهما قوةً وسمناً عند انهضامِهما بلْ جوعُهم عبارةٌ عن اضطرامِ النارِ في أحشائِهم إلى إدخالِ شيءٍ كثيفٍ يملؤُها ويُخرجُ ما فيها من اللهبِ وأما أن يكونَ لهم شوقٌ إلى مطعومٍ ما أو التذاذٌ به عندَ الأكلِ واستغناءٌ به عن الغير أو استفادةُ قوةٍ فهيهاتَ وكذا عطشُهم عبارةٌ عن اضطرارهم عند أكلِ الضريعِ والتهابِه في بطونِهم إلى شيءٍ مائعٍ باردٍ يطفئُه من غيرِ أنْ يكونَ لهم التذاذٌ بشربه أو استفادةُ قوةٍ به في الجملة وهو المعنيُّ بما رُويَ أنه تعالَى يسلطُ عليهم الجوعَ بحيثُ يَضطرهُم إلى أكلِ الضريعِ فإذا أكلُوه يسلطُ عليهم العطشَ فيضطرهُم إلى شرب الحميمِ فيشوِي وجوهَهُم ويقطعُ أمعاءَهُم وتنكيرُ الجوعَ للتحقيرِ أيْ لا يُغني من جوعٍ ما وتأخيرُ نَفي الإغناءِ منْهُ لمراعاةِ الفواصلِ والتوسلِ به إلى التصريحِ بنفي كلا الأمرينِ إذ لو قُدمَ لما احتيجَ إلى ذكر نفي الإسمانِ ضرورة استلزامِ نفي الإغناءِ عن الجوعِ إيَّاه بخلاف العكسِ ولذلك كررَ لاَ لتأكيدِ النَّفي وقولُه تعالَى(9/149)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ
شروعٌ في روايةِ حديثِ أهلِ الجنةِ وتقديمُ حكايةِ حالِ أهلِ النارِ لأنَّه أدخلُ(9/149)
88 سورة الغاشية (9 17)
في تهويلِ الغاشيةِ وتفخيمِ حديثِها ولأنَّ حكايةَ حسنِ حالِ أهلِ الجنةِ بعدَ حكايةِ سُوءِ حالِ أهلِ النارِ مما يزيدُ المحكيَّ حُسناً وبهجةً والكلامُ في إعرابِ الجملةِ كالذي مرَّ في نظيرتِها وإنما لم تُعطفْ عليها إيذاناً بكمالِ تباينِ مضمونَيهِما ومعنى ناعمةٌ ذاتُ بهجةٍ وحسنٍ كقولِه تعالى {تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أو متنعمةٌ(9/150)
لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)
لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ
أي لعملها الذي عملتْهُ في الدُّنيا حيثُ شاهدتْ ثمرتَهُ(9/150)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)
فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ
مرتفعةِ المحلِّ أو عليةِ المقدارِ(9/150)
لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
لاَ تُسْمِعُ
أي أنتَ أو الوجوهُ
فِيهَا لاغية
لغواً أو كلمةً ذاتَ لغوٍ أو نفساً تلغُو فإنَّ كلامَ أهلِ الجنةِ كلَّه أذكارٌ وحكمٌ وقُرِىءَ لا تُسمعُ على البناءِ للمفعول بالياءِ والتاءِ ورفعِ لاغيةً(9/150)
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ
أيْ عيونٌ كثيرةٌ تجرِي مياهُها كقولِه تعالَى عَلِمَتْ نَفْسٌ(9/150)
فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ
رفيعةُ السمكِ أو المقدارِ(9/150)
وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَأَكْوابٍ
جمعُ كوبٍ وهو إناءٌ لا عُروةَ لهُ
مَّوْضُوعَةٌ
أي بينَ أيديهِم(9/150)
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
وَنَمَارِقُ
وسائدُ جمعُ نمرقة بالفتحِ والضمِّ
مَصْفُوفَةٌ
بعضُها إلى بعضٍ(9/150)
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
وَزَرَابِيُّ
أي بسطٌ فاخرةٌ جمعُ زُرْبيَّةٌ
مَبْثُوثَةٌ أيْ مبسوطةٌ(9/150)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ
استئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ ما فصلَ من حديثِ الغاشيةِ وما هو مبنيٌّ عليهِ من البعثِ الذى هم فيه مختلفون بالاستشهادِ عليهِ بما لا يستطيعونَ إنكارَهُ والهمزةُ للإنكارِ والتوبيخِ والفاءُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ وكلمة كيف منصوبة بما يعدها كما في قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله معلقةٌ لفعلِ النظرِ والجملةُ في حيِّز الجرِّ على أنَّها بدلُ اشتمالٍ من الإبلِ أي أينكرونَ ما ذُكِرَ من البعثِ وأحكامِه ويستبعدونَ وقوعَهُ من قدرةِ الله عزَّ وجلَّ فلا ينظرونَ إلى الإبلِ التي هي نصب أعينهم يتسعملونها كلَّ حينٍ إلى أنَّها كيف(9/150)
88 سورة الغاشية (18 23)
خُلقتْ خلقاً بديعاً معدولاً بهِ عن سُننِ خلقةِ سائرِ أنواعِ الحيواناتِ في عظمِ جثتِها وشدةِ قوتِها وعجيبِ هيأتِها اللائقةِ بتأتِّي ما يصدرُ عنها من ألأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلةِ وجرِّ الأثقالِ الفادحةِ إلى الأقطارِ النازحةِ وفي صبرها على الجو والعطشِ حتى إن أظماءَها لتبلغُ العشرَ فصاعداً واكتفائِها باليسيرِ ورعيها لكلِّ ما يتيسرَ من شوكٍ وشجرٍ وغير ذلك مما لا يكاد يزعاه سائرُ البهائمِ وفي انقيادِها مع ذلكَ للإنسانِ في الحركةِ والسكونِ والبروكِ والنهوضِ حيثُ يستعملُها في ذلكَ كيفما يشاءُ ويقتادُها بقطارِها كلُّ صغيرٍ وكبيرٍ(9/151)
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
وَإِلَى السماء
التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار
كَيْفَ رُفِعَتْ
رفعاً سحيق المدى بلا عمادٍ ولا مساكٍ بحيث لا يناله الفهم والادراك(9/151)
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
وَإِلَى الجبال
التي ينزلون في أقطارها وينتفعون بمياهها وأشجارها
كَيْفَ نُصِبَتْ
نصباً رصيناً فهيَ راسخةٌ لا تميلُ ولا تميدُ(9/151)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
وَإِلَى الأرض
التي يضربونَ فيها ويتقلبونَ عليها
كَيْفَ سُطِحَتْ
سطحاً بتوطئةٍ وتمهيدٍ وتسويةٍ وتوطيدٍ حسبما يقتضيهِ صلاحُ أمورِ ما عليها من الخلائقِ وقُرِىءَ سُطِّحتْ مُشدداً وقُرِئتْ الأفعالُ الأربعةُ على بناء الفاعل للمتلكم وحذف الراجعِ المنصوبِ والمعنى أفلا ينظرونَ نظرَ التدبرِ والاعتبارِ إلى كيفيةِ خلقِ هذه المخلوقاتِ الشاهدةِ بحقيةِ البعثِ والنشورِ ليرجعُوا عمَّا هُم عليهِ من الإنكارِ والنفورِ ويسمعُوا إنذاركَ ويستعدُّوا للقائِه بالإيمانِ والطاعةِ والفاءُ في قولِه تعالى(9/151)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
فَذَكّرْ
لترتيبِ الأمرِ بالتذكيرِ على ما ينبىءُ عنه الإنكارُ السابقُ من عدمِ النظرِ أي فاقتصرْ على التذكيرِ ولا تلحَّ عليهم ولا يُهمنَّكَ أنَّهم لا ينظرونَ ولا يتذكرونَ وقولُه تعالى
إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ
تعليلٌ للأمرِ وقولُه تعالَى(9/151)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
لست عليهم بمصيطر
تقريرٌ لهُ وتحقيقٌ لمَعْنى الإنذارِ أي لستَ بمتسلطٍ عليهم تجبرُهم على ما تريد كقوله تعالى وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ وقُرِىءَ بالسينِ على الأصلِ وبالاشمام وقُرِىءَ بفتحِ الطاءِ قيلَ هي لغة بني تمتم فإنَّ سيطرَ عندهم متعدَ ومنه قولُهم تسيطرُ وقولُه تعالَى(9/151)
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)
إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ
استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ من تولَّى منهم فإنَّ لله تعالَى الولايةَ والقهرَ(9/151)
88 سورة الغاشية (24 26)(9/152)
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)
فَيْعَذّبُهُ الله العذاب الأكبر
الذي هُو عذابُ جهنمَ وقيلَ استثناءٌ مُتَّصلٌ من قولِه تعالَى فَذَكّرْ أي فذكرْ إلاَّ من انقطعَ طمعُكَ من إيمانِه وتولَّى فاستحقَّ العذابَ الأكبرَ وما بينهما اعتراضٌ ويعضدُ الأولَ أنه قُرِىءَ أَلاَ على التنبيهِ وقولُه تعالى(9/152)
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ
تعليلٌ لتعذبيه تعالَى بالعذابِ الأكبرِ أيْ إنَّ إلينا رجوعَهُم بالموتِ والبعثِ لا إلى أحدٍ سوانا لا استقلالاً ولا اشتراكاً وجمعُ الضَّميرُ فيه وفيما بعدَه باعتبارِ مَعْنى مَنْ كما أن إفراده فيما سبق باعتبارِ لفظِها وقُرِىءَ إيَّابَهُم على أنَّه فِيْعَالٌ مصدرُ فَيْعَلٍ من الإيابِ أو فِعَّالٌ من أَوَبَ كفِسَّارٍ من فَسَرَ ثمَّ قيلَ إِيْوَاباً كدِيُوَانٍ في دِوَّانٍ ثُمَّ قُلبتْ الواوُ ياءً فأدغمتِ الياءُ الأُولى في الثانيةِ(9/152)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ
في المحشرِ لا على غيرِنا وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ لا في الزمانِ فإن الترتبَ الزمانيَّ بين إيابِهم وحسابِهم لا بينَ كونِ إيابِهم إليهِ تعالَى وحسابِهم عليهِ تعالى فإنَّهما أمرانِ مستمرانِ وفي تصديرِ الجملتينِ بأنَّ وتقديمُ خبرِها وعطفُ الثانيةِ على الأُولى بكلمةِ ثُمَّ المفيدةِ لبعدِ منزلةِ الحسابِ في الشدةِ من الإنباءِ عن غايةِ السخطِ الموجبِ لتشديدِ العذابِ مالا يخفى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الغاشيةِ يحاسبُه الله تعالى حساباً يسيراً(9/152)
89 سورة الفجر (1 5)
سورة الفجر مكية وآيها ثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم(9/153)
وَالْفَجْرِ (1)
والفجر
أقسمَ سبحانَهُ بالفجرِ كما أقسمَ بالصبحِ حيثُ قال والصبح إِذَا تَنَفَّسَ وقيلَ المرادُ به صلاتُه(9/153)
وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
وَلَيالٍ عَشْرٍ
هن عشرُ ذِي الحجةِ ولذلكَ فُسِّرَ الفجرُ بفجرِ عرفةَ أو النحرِ أو العشرُ الأواخرُ من رمضانَ وتنكيرُها للتفخيمِ وقُرِىءَ وَليالٍ عشرٍ بالإضافةِ على أنَّ المرادَ بالعشرِ الأيامُ(9/153)
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
والشفع والوتر
أي الأشياءِ كلِّها شفعِها ووترِها أو شفعِ هذه الليالِي ووترِها وقد رُويَ أن النبيَّ عليه الصلاةُ والسلامُ فسرهُمَا بيومِ النحرِ ويومِ عرفةٍ ولقد كثُرتْ فيهما الأقوالُ والله تعالَى أعلمُ بحقيقةِ الحالِ وقُرِىءَ بكسرِ الواوِ وهما لغتانِ كالحَبْرِ والحِبْرِ وقيلَ الوَترُ بالفتحِ في العددِ وبالكسرِ في الذَحل وقُرِىءَ والوَتِرِ بفتحِ الواوِ وكسر التاء(9/153)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)
والليل إِذَا يَسْرِ
أيْ يَمْضِي كقوله تعالى {والليل إذ أدبر} {والليل إِذَا عَسْعَسَ} والتقييدُ لما فيهِ من وضوحِ الدِلالة على كمالِ القدرةِ ووفورِ النعمةِ أو يُسرِيَ فيهِ من قولِهم صَلَّى المقامُ أي صُلِّيَ فيهِ وحَذْفُ الياءِ اكتفاءً بالكسرِ وقُرِىءَ بإثباتِها على الإطلاقِ وبحذفِها في الوقفِ خاصَّة وقُرِىءَ يسرٍ بالتنوينِ كما قُرِىءَ والفجرٍ والوترٍ وهو التنوينُ الذي يقعُ بدلاً من حرفِ الإطلاقِ(9/153)
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ
الخ تحقيقٌ وتقريرٌ لفخامةِ شأنِ المُقْسَمِ بهَا وكونِها أموراً جليلةً حقيقةً بالإعظامِ والإجلالِ عندَ أربابِ العقولِ وتنبيهٌ على أنَّ الإقسامَ بها أمرٌ معتدٌّ به خليقٌ بأنّ يُؤكدَ بهِ الأخبارُ على طريقةِ قولِه تعالى وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ وذلكَ إشارةٌ إمَّا إلى الأمورِ المقسمِ(9/153)
89 سورة الفجر (6 7)
بهَا والتذكيرُ بتأويلِ ما ذُكِرَ كما مَرَّ تحقيقُه أو إلى الإقسامِ بهَا وأيَّا ما كان فما فيه من معنى البعد للإيذان بعلوِّ رُتبةِ المُشار إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الشرفِ والفضلِ أيْ هِلْ فيما ذُكِرَ من الأشياءِ قسمٌ أيْ مقسمٌ بهِ
لّذِى حِجْرٍ
يراهُ حقيقاً بأنْ يقسمَ بهِ إجلالاً وتعظيماً والمرادُ تحقيقُ أنَّ الكلَّ كذلكَ وإنما أوثرتْ هذه الطريقةُ هَضْماً للخلقِ وإيذاناً بظهورِ الأمرِ أو هَلْ في إقسامِي بتلكَ الأشياءِ إقسامٌ لذي حجرٍ مقبولٌ عندَهُ يعتدُّ بهِ ويفعلُ مثلَهُ ويؤكدُ بهِ المقسمَ عليهِ والحِجْرُ العقلُ لأنه يحجُرُ صاحبَهُ أي يمنعُهُ من التهافتِ فيمَا لا ينبغِي كما سُميَ عقلاً ونُهيةً لأنَّه يعقلُ ويَنْهَى وحصاةً أيضاً من الإحصاءِ وهو الضبطُ قال الفراءُ يقالُ إنَّه لذُو حجرٍ إذَا كانَ قاهِراً لنفسِه ضابطاً لهَا والمقسمُ عليهِ محذوفٌ وهُو ليُعذَّبَنَّ كما ينبىء عنه قوله تعالَى(9/154)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
الخ فإنَّه استشهادٌ بعلمِه عليهِ الصَّلاة والسَّلام بمَا يدلُّ عليهِ من تعذيبِ عَادٍ وأضرابِهم المشاركينَ لقومِه عليه الصلاةُ والسلامُ في الطغيانِ والفسادِ على طريقة قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ} الآيةَ وقولُه تعالَى {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ} كأنَّه قيلَ ألم تعلم علما يقينيا كيفَ عذبَ ربُّكَ عاداً ونظائرَهُم فيعذبُ هؤلاءِ أيضاً لاشتراكِهم فيما يوجبُه من الكفرِ والمعاصِي والمرادُ بعادٍ أولادُ عادٍ بنِ عوصَ بن إرم بن سام بنِ نوحٍ عليه السلام قومُ هودٍ عليه السلامُ سُمُّوا باسمِ أبيهِم كما سُمِّيَ بنُو هاشمٍ هاشماً وقد قيلَ لأوائلِهم عادٌ الأُولى ولأواخرِهم عادٌ الآخرةُ قال عمادُ الدينِ بنُ كثيرٍ كلُّ ما وردَ في القرآنِ خبرُ عادٍ الأُولى إلا مَا في سورةِ الأحقافِ وقولُه تعالى(9/154)
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)
إِرَمَ
عطفُ بيانٍ لعادٍ للإيذانِ بأنَّهم عادٌ الأُولى بتقديرِ مضافٍ أيْ سبطُ إرمٍ أو أهلُ إرمٍ على ما قبل من أنَّ إرمَ اسمُ بلدتِهم أو أرضِهم التي كانُوا فيهَا ويؤيدُه القراءةُ بالإضافةِ وأياً ما كانَ فامتناعُ صرفِها للتعريفِ والتأنيثِ وقُرِىءَ إِرْمَ بإسكانِ الراءِ تخفيفاً كما قُرِىءَ بِوَرْقِكُم
ذَاتِ العماد
صفةٌ لإرمَ أيْ ذاتُ القدودِ الطوالِ على تشبيهِ قاماتِهم بالأعمدةِ ومنه قولُهم رجلٌ عمدٌ وعمدان إذا كان طويلاً أو ذاتُ الخيامِ والأعمدةِ حيثُ كانُوا بدويينَ أهلَ عُمُدٍ أو ذاتُ البناءِ الرفيعِ أو ذاتُ الأساطينِ على أنَّ إرمَ اسمُ بلدتهم وقرىء إرم ذات العمادِ بإضافةِ إرمٍ إلى ذاتِ العمادِ والإرم العلمُ أي بعادٍ أهلِ إعلامِ ذاتِ العمادِ على أنها اسم بلدتهم وقرىء إرم ذاتَ العمادِ أي جعلَها الله تعالَى رَميماً بدلٌ من فعلَ ربُّك وقيل هي جملةٌ دعائيةٌ اعترضتْ بين الموصوفِ والصفةِ ورُويَ أنه كانَ لعادٍ ابنانِ شديدٌ وشدادٌ فملَكا وقَهَرا ثم ماتَ شديدٌ وخلصَ الأمرُ لشدادٍ فملَك الدنيا ودانتْ له ملوكُها فسمعَ بذكرِ الجنةِ فقال أبنِي مثلَها فبنَى إرمَ في بعضِ صَحارِي عدنٍ في ثلثمائة سنةٍ وهيَ مدينةٌ عظيمةٌ قصورُها من الذهبِ والفضةِ وأساطينُها من الزبرجدِ والياقوتِ وفيها أصنافُ الأشجارِ والأنهارِ المطردةِ ولمَّا تمَّ بناؤُها سار اليها أهل مملكتِه فلما كانَ منها على مسيرة يومٍ وليلةٍ بعثَ الله تعالى عليهم صيحةً من السَّماءِ فهلكُوا وعن عبدِ اللَّهِ بنِ قلابة(9/154)
89 سورة الفجر (8 13)
أنه خرجَ في طلبِ إبلٍ له فوقعَ عليهَا فحملَ ما قدرَ عليهِ ممَّا ثمةَ وبلغَ خبرُه معاويةَ فاستحضرَهُ فقصَّ عليهِ فبعثَ إلى كعبٍ فسألَه فقالَ هيَ إرمُ ذاتُ العماد وسيد خلها رجلٌ من المسلمينَ في زمانِك أحمرُ أشقرُ قصيرٌ على حاجبِه خالٌ وعلى عقبِه خالٌ يخرجُ في طلبِ إبلٍ لَهُ ثم التفتَ إلى ابن قلابةٍ فقال هذا والله ذلكَ الرجلُ(9/155)
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
التى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى البلاد
صفةٌ أُخرى لإرمَ أيْ لم يُخلقْ مثلُهم في عِظَم الأجرامِ والقوةِ حيثُ كانَ طولُ الرجلِ منهم أربعمائةِ ذراعٍ وكانَ يأتِي الصخرةَ العظيمةَ فيحملُها ويُلقيها على الحي فيهلكُهم أو لم يُخلقْ مثلُ مدينةِ شدادٍ في جميعِ بلادِ الدُّنيا وقُرِىءَ لَم يخلُقْ على إسنادِه إلى الله تعالَى(9/155)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)
وَثَمُودُ عطفٌ على عادٍ وهي قبيلةٌ مشهورةٌ سُمِّيتْ باسمِ جدِّهم ثمودَ أَخِي جَديسٍ وهما ابنَا عامرِ بن إرم بن سام بنِ نوحٍ عليه السلام وكانُوا عرباً من العاربةِ يسكنونَ الحجرَ بين الحجازِ وتبوكَ وكانُوا يعبدونَ الأصنامَ كعادٍ
الذين جَابُواْ الصخر بالواد
أي قطعُوا صخرَ الجبالِ فاتخذُوا فيها بُيوتاً نحتوهَا من الصخرِ كقولِه تعالى {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً} قيلَ هُم أول من نحتَ الجبالَ والصخورَ والرخامَ وقد بَنَوا ألفاً وسبعمائةِ مدينةٍ كلها من الحجارةِ(9/155)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد
وصفَ بذلكَ لكثرة جنودِه وخيامِهم التي يضربُونَها في منازلِهم أو لتعذيبه بالأوتادِ(9/155)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11)
الذين طَغَوْاْ فِى البلاد
إما مجرورٌ على أنه صفةٌ للمذكورينَ أو منصوبٌ أو مرفوعٌ على الذمِّ أي طَغَى كلُّ طائفةٍ منهُم في بلادِهم وكذا الكلامُ في قوله تعالى(9/155)
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)
فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد
أي بالكفرِ وسائرِ المعاصِي(9/155)
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)
فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ
أي أنزلَ إنزالاً شديداً على كلِّ طائفةٍ من أولئكَ الطوائفِ عقيبَ ما فعلتْهُ من الطغيانِ والفسادِ
سَوْطَ عَذَابٍ
أيُّ عذابٌ شَدِيدٍ لا يُدركُ غايتُهُ وهو عبارةٌ عمَّا حلَّ بكُلَ منهُم من فنونِ العذابِ التي شُرِحتْ في سائرِ السورِ الكريمةِ وتسميتُه سوطاً للإشارةِ إلى أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى ما أَعدَّ لَهُم في الآخرةِ بمنزلةِ السوطِ عندَ السيفِ والتعبيرُ عن إنزالِه بالصبِّ للإيذانِ بكثرتِه واستمرارِه وتتابعِه فإنه عبارةٌ عن إراقةِ شيءٍ مائعٍ أو جارٍ مجراهُ في السيلانِ كالرملِ والحبوبِ وإفراغِه بشدةٍ وكثرةٍ واستمرارٍ ونسبته إلى السوطِ مع أنه ليسَ من ذلكَ القبيل باعتبر تشبيهِه في نزولِه المتتابعِ المتداركِ على المضروبِ بقطراتِ الشيءِ المصبوبِ وقيلَ السوطُ(9/155)
89 سورة الفجر (14 17)
خلطُ الشيءِ بعضَه ببعضٍ فالمَعْنى ما خُلِطَ لهم من أنواعِ العذابِ وقد فسر بالنصيب وبالشدةِ أيضاً لأن السوطَ يطلقُ على كلَ منهُما لغةً فلا حاجةَ حينئذٍ في تشبيهِه بالمصبوبِ إلى اعتبارِ تكررِ تعلقِه بالمعذبِ كما في المَعْنى الأولِ فإن كلَّ واحدٍ من هذه المعاني مما يقبلُ الاستمرارَ في نفسه وقولُه تعالَى(9/156)
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد
تعليلٌ لما قبلَهُ وإيذانٌ بأن كفارَ قومِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سيصيبُهم مثلُ ما أصابَ المذكورينَ من العذابِ كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلامُ وقيلَ هو جوابُ القسمِ وما بينهما اعتراضٌ والمرصادُ المكانُ الذي يَترقبُ فيه الرصدُ مِفْعَالٌ منْ رصدَهُ كالميقاتِ من وقتَهُ وهذا تمثيلٌ لإرصادِه تعالى بالعُصاةِ وأنَّهم لا يفوتونَهُ وقولُه تعالى(9/156)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
فَأَمَّا الإنسان
الخ متصلٌ بما قبلَهُ كأنَّه قيلَ إنه تعالَى بصددِ مراقبةِ أحوالِ عبادِه ومجازاتِهم بأعمالِهم خيراً وشراً فأما الإنسانُ فلاَ يهمُّهُ ذلكَ وإنما مطمحُ أنظارِه ومرصدُ أفكارِه الدُّنيا ولذائذِها
إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ
أي عاملَهُ معاملةَ من يبتليهِ بالغِنَى واليسارِ والفاءُ في قولِه تعالى
فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
تفسيريةٌ فإنَّ الإكرامَ والتنعيمَ من الابتلاءِ
فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ
أي فضلنِي بما أعطانِي من المال والجاهِ حسَبما كنتُ أستحقهُ ولا يخطُر بباله أنه فضلٌ تفضلَ به عليهِ ليبلوَهُ أيشكرُ أم يكفرُ وهوُ خبرٌ للمبتدأ الذي هُوَ الإنسانُ والفاءُ لما في أمَّا منْ مَعْنى الشرطِ والظرفُ المتوسطُ على نيةِ التأخيرِ كأنَّه قيلَ فأمَّا الإنسانُ فيقولُ ربِي أكرمنِ وقتَ ابتلائِه بالإنعامِ وإنما تقديمُه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ الإكرامَ والتنعيمَ بطريق الابتلاءِ ليتضحَ اختلالُ قولِه المحكيِّ(9/156)
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه
أيْ وأما هُو إذا ما ابتلاهُ ربُّه
فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم البالغةِ
فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ
ولا يخطر ببالِه أنَّ ذلكَ ليبلوهُ أيصبرُ أم يجزعُ مع أنه ليسَ من الإهانةِ في شيءٍ بل التقتيرُ قد يُؤدِّي إلى كرامةِ الدارينِ والتوسعةُ قد تُفْضِي إلى خسرانِهما وقُرِىءَ فقدَّرَ بالتشديدِ وقرىء أكرمني وأهانني بإثبات الياء وأكرمنْ وأهاننْ بسكون النون في الوقف(9/156)
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
كلا
ردع للإنسان عن مقالتِه المحكيةِ وتكذيبٌ له فيهَا في كلتَا الحالتينِ قال ابن عباس رضي الله عنهُمَا المَعْنى لم أبتله بالغنى (سقط 156) عليَّ ولم أبتلِه بالفقرِ لهوانِه عليَّ بلْ ذلكَ لمحضِ القضاءِ والقدرِ وحملُ الردعِ والتكذيبِ إلى قولِه الأخيرِ بعيدٌ وقولُه تعالَى
بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم
انتقالٌ من بيانِ سوءِ أقوالِه إلى بيانِ سوءِ أفعالِه والالتفاتُ إلى الخطابِ للإيذانِ باقتضاءِ ملاحظةِ جنايته السابقةِ لمشافهتِه بالتوبيخِ تشديداً للتقريعِ وتأكيداً للتشنيعِ والجمعُ باعتبار(9/156)
89 سورة الفجر (18 23)
مَعْنى الإنسانِ إذِ المرادُ هو الجنسُ أي بَلْ لكم أحوالٌ أشدُّ شَراً مما ذُكِرَ وأدلُّ عَلى تهالُكِكم على المالِ حيثُ يُكْرمكم الله تعالَى بكثرةِ المالِ فلاَ تُؤدونَ ما يلزمكُم فيهِ من إكرامِ اليتيمِ بالمبرةِ به وقُرِىءَ لا يكرمونَ(9/157)
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
وَلاَ تَحَاضُّونَ
بحذفِ إحْدَى التاءينِ من تَتَحاضُّون أيْ لاَ يحضُّ بعضُكم بعضاً
على طَعَامِ المسكين
أي على إطعامِه وقُرِىءَ تحاضونَ من المحاضةِ وقُرِىءَ يَحُضُّونَ بالياءِ والتاءِ(9/157)
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)
وَتَأْكُلُونَ التراث
أي الميراثَ وأصله وارث
أَكْلاً لَّمّاً
أيْ ذَا لمٍ أي جمعٍ بينَ الحلالِ والحرامِ فإنهم كانُوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون انصباءهم او يأكلون ما جمعَهُ المورثُ من حلالٍ وحرامٍ عالمينَ بذلكَ(9/157)
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً
كثيراً معَ حِرص وشرَه وقرىء يحبون بالياءِ(9/157)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
كَلاَّ
ردعٌ لهم عن ذلكَ وقولُه تعالَى
إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً
الخ استئناف جىء به بطريق الوعيدِ تعليلاً للردعِ أيْ إذَا دكتِ الأرضُ دكاً متتابعاً حتى انكسرَ وذهبَ كلُّ ما عَلى وجهِها من جبالٍ وأبنيةٍ وقصورٍ حينَ زُلزلتْ وصَارتْ هباءً مُنبثاً وقيلَ الدكُّ حطُّ المرتفعِ بالبسطِ والتسويةِ فالمَعْنى إذا سُويتْ تسويةً بعدَ تسويةٍ ولم يبقَ على وجهها شيءٌ حَتَّى صارتُ كالصخرةِ الملساءِ وأياً مَا كانَ فهو عبارةٌ عما عرضَ لها عند النفخةِ الثانيةِ(9/157)
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
وَجَاء رَبُّكَ
أي ظهرتْ آياتُ قُدرتِه وآثارُ قهرهِ مثلَ ذلكَ بما يظهرُ عندَ حضورِ السلطانِ من أحكامِ هيبتِه وسياستِه وقيلَ جاءَ أمرُهُ تعالَى وقضاؤُه على حذفِ المضافِ للتهويلِ
والملك صَفّاً صَفّاً
أي مُصطفينَ أو ذَوِي صفوفٍ فإنه ينزلُ يومئذٍ ملائكةُ كلِّ سماءٍ فيصطفونَ صفاً بعدَ صفٍ بحسب منازلِهم ومراتبِهم مُحدقينَ بالجِنِّ والإنسِ(9/157)
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ
كقولِه تعالَى وَبُرّزَتِ الجحيم قال ابنُ مسعودٍ ومقاتلٌ تُقادُ جهنمُ بسبعينَ ألفَ زمامٍ كل زمام سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يَجرونَها حتى تُنصبَ عن يسارِ العرشِ لها تغيظٌ وزفيرٌ وقد رَواهُ مسلمٌ في صحيحِه عن ابنِ مسعودٍ مَرْفُوعاً
يَوْمَئِذٍ
بدلٌ مِنْ إذَا دكتْ والعاملُ فيهمَا قولُه تعالى
يَتَذَكَّرُ الإنسان
أي يتذكرُ ما فرَّطَ فيهِ بتفاصيلِه بمشاهدةِ آثارِه وأحكامِه أو بمعاينةِ عينِه على أنَّ الأعمالَ تتجسمُ في النشأةِ الآخرةِ فيبرز كلٌّ من الحسناتِ والسيئاتِ بما يناسبُها من الصورِ الحسنة(9/157)
89 سورة الفجر (24 27)
والقبيحةِ أَوْ يتعظُ وقولُه تعالى
وأنى لَهُ الذكرى
اعتراضٌ جِىءَ بهِ لتحقيقِ أنه ليسَ يتذكرُ حقيقةً لعرائِه عن الجَدوى بعدمِ وقوعِه فى أوانه وأنَّى خبرٌ مقدمٌ والذكْرَى مبتدأٌ وله متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ أيْ ومنْ أينَ يكونُ له الذكْرَى وقد فاتَ أوانُها وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ أيْ وأنَّى له منفعةُ الذكْرَى والاستدلالُ به عَلى عدم وجوبِ قبولِ التوبةِ في دارِ التكليفِ مما لا وجهَ لَهُ على أن تذكّره ليسَ من التوبةِ في شيءٍ فإنَّه عالمٌ بأنَّها إنما تكونُ في الدُّنيا كما يُعربُ عنْهُ قوله تعالى(9/158)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)
يقول يا ليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى
وهو بدلٌ اشتمالٍ من يتذكرُ أو استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ منْهُ كأنَّه قيلَ ماذَا يقولُ عندَ تذكرِه فقيلَ يقولُ يا ليتني عملتْ لأجل حياتِي هذِه أو وقتَ حياتِي في الدُّنيا أعمالاً صالحةً أنتفعُ بَها اليومَ وليس في هذا التمنِي شائبةُ دَلالةٌ على استقلالِ العبدِ بفعله وإنما الذي يدلُّ عليهِ ذلكَ اعتقادُ كونِه متمكناً من تقديمِ الأعمالِ الصالحةِ وأما أنَّ ذلكَ بمحضٍ قدرتِه أو بخلقِ الله تعالَى عندَ صرفِ قدرتِه الكاسبةِ إليهِ فكَلاَّ وأما ما قيل من أن المحجورَ قد يتمنَّى إن كانَ ممكناً منْهُ فربما يوهُم أنَّ منْ صرفَ قدرتَهُ إلى أحدِ طَرفي الفعلِ يعتقدُ أنه محجورٌ من الطرفِ الآخرِ وليس كذلكَ بل كلُّ أحدٍ جازمٌ بأنَّه لو صرف قدرتَهُ إلى أي طرفٍ كانَ من أفعالِه الاختياريةِ لحصلَ وعلى هذا يدورُ فلكُ التكليفِ وإلزامُ الحجةِ(9/158)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)
فيومئذ
أي يومَ إذ يكونُ ما ذكر من الأحوالِ والأقوالِ
لاَّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(9/158)
وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ
الهاءُ لله تعالَى أيْ لا يتولَّى عذابَ الله تعالَى ووثاقَهُ أحدٌ سواهُ إذِ الأمرُ كلُّه لهُ أو الانسان أي لا يعذب أحد من الزبانيةِ مثلَ ما يعذبونَهُ وقُرِىءَ الفعلانِ على البناءِ للمفعولِ والضميرُ للإنسان أيضاً وقيل المراد به أُبيّ بن خلف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يُوثقُ بالسلاسلِ والأغلالِ مثلَ وثاقِه لتناهيهِ في الكفرِ والعنادِ وقيلَ لا يحملُ عذابَ الإنسانِ احد كقولِه تعالى {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} وقولُه تعالى(9/158)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
يا أيتها النفس المطمئنة
حكايةٌ لأحوالِ مَنِ اطمأنَّ بذكرِ الله عزَّ وجلَّ وطاعتِه إثرَ حكايةِ أحوالِ مَنِ اطمأنَّ بالدُّنيَا وصفتْ بالاطمئنانِ لأنَّها تترقَى في معارجِ الأسبابِ والمسبباتِ إلى المبدأِ المؤثرِ بالذاتِ فتستقرُ دونَ معرفتِه وتَستْغني بهِ في وجودِها وسائرِ شؤونِها عن غيرِه بالكليةِ وقيلَ هي النفسُ المطمئنةُ إلى الحقِّ الواصلةُ إلى ثَلَجِ اليقينِ بحيثُ لا يُخالجها شكٌّ مَا وقيلَ هي الآمنةُ التي لا يستفزُهَا خوفٌ ولا حزنٌ ويؤيدُه أنَّه قُرِىءَ يا أيتها النفسُ الآمنةُ المطمئنة أي يقول(9/158)
89 سورة الفجر (28 30)
الله تعالَى ذلكَ بالذاتِ كما كلَّم مُوسى عليه السلامُ أو على لسان المَلَكِ عندَ تمامِ حسابِ الناسِ وهو الأظهرُ وقيلَ عندَ البعثِ وقيلَ عند الموتِ(9/159)
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
ارجعى إلى رَبّكِ
أي إلى موعدِه أو إلى أمرِه
رَّاضِيَةٍ
بما أوتيتِ من النعيم المقيمِ
مَّرْضِيَّةً
عند الله عز وجل(9/159)
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
فادخلى فِى عِبَادِى
في زمرةِ عبادِي الصالحينَ المختصينَ بي(9/159)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
وادخلى جَنَّتِى
معهُم أو انتظمِي في سلكِ المقربينَ واستضييء بأنوارهم فإنَّ الجواهرَ القدسيةَ كالمَرَايا المتقابلة وقيل المرادُ بالنفسِ الروحُ والمَعنْى فادخُلى اجساد عبادي التي فارقت عنْهَا وادخُلِي دارَ ثوابِي وهَذا يؤيدُ كونَ الخطابِ عندَ البعثِ وقُرِىءَ فادخلي في عَبْدِي وقُرِىءَ في جسدِ عَبْدي وقيلَ نزلتْ في حزة بنِ عبد المطلبِ وقيل في حُبيبِ بنِ عديَ رضيَ الله عنهُمَا والظاهرُ العموم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة الفجرِ في الليالِي العشرِ غُفرَ لَهُ ومنْ قرأهَا في سائرِ الأيامِ كانتْ له نوراً يومَ القيامةِ(9/159)
90 سورة البلد (1 3)
سورة البلد مكية وآيها عشرون
بسم الله الرحمن الرحيم(9/160)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)
لا أقسم بهذا البلد
أقسمَ سبحانَهُ بالبلدِ الحرامِ وبَما عُطف عليهِ عَلى أنَّ الإنسانَ خُلقَ ممنوَّاً بمقاساةِ الشدائدِ ومعاناةِ المشاقِّ واعترضَ بينَ القسمِ وجوابِه بقولِه تعالَى(9/160)
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)
وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد
إمَّا لتشريفهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بجعلِ حلولِه بهِ مناطاً لإعظامِه بالإقسامِ بهِ او للتنبيه منْ أولِ الأمرِ عَلى تحققِ مضمونِ الجوابِ بذكرِ بعضِ موادِّ المكابدةِ على نهجِ براعةِ الاستهلالِ وبيانِ أنه عليه الصلاةُ والسلام معَ جلالةِ قدرةِ وعظمِ حُرمتِه قد استحلُّوه في هَذا البلدِ الحرامِ وتعرضُوا لَهُ بما لاَ خيرَ فيهِ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ عن شُرَحْبيلَ يحرمونَ أن يقتلُوا بَها صيداً ويعضدُوا بَها شجرةً ويستحلُّونَ إخراجَكَ وقتلكَ أو لتسليتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بالوعدِ بفتحِه عَلى مَعْنى وأنتَ حلٌّ بهِ في المستقبلِ كما في قوله تعالى {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} تصنعُ فيهِ ما تريدُ من القتلِ والأسرِ وقد كانَ كذلكَ حيثُ أحلَّ له عليه الصلاة والسلام مكةَ وفتحَها عليهِ وما فتحتْ عَلى أحدٍ قَبْله ولاَ أحلتْ لهُ فأحلَّ عليه الصَّلاة والسَّلام فيها ما شاءَ وحرَّم ما شاءَ قتلَ ابْنَ خطلٍ وهو متعلِّقٌ بأستارِ الكعبةِ ومقيسَ بْنَ ضبابةَ وغيرَهُما وحرَّمَ دارَ أبي سفيانَ ثمَّ قالَ إنَّ الله حرَّمَ مكةَ يَوْمَ خَلَقَ السمواتِ والأرضَ فهَى حرامٌ إلى أنْ تقومَ الساعةُ لم تحلَّ لأحدٍ قَبْلي ولنْ تحلَّ لأحدٍ بعدي ولم تحلَّ لي إِلاَّ سَاعَةً من نَّهَارٍ فَلا يُعضدُ شجرُهَا ولا يُختلى خَلاها ولا ينفرُ صيدُهَا ولا تحلُّ لُقطتُها إلا لمنشدٍ فقالَ العباسُ يا رسولَ الله إلا الإِذْخِرَ فإنَّه لقيونِنا وقبورِنا وبيوتِنا فقال عليه الصلاة والسلام إلاَّ الإذخرَ(9/160)
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)
وَوَالِدٍ
عطفٌ على هَذا البلدِ والمرادُ بهِ إبراهيمُ وبقولِه تعالَى
وَمَا وَلَدَ
إسماعيلُ والنبيُّ صلواتُ الله عليهمْ أجمعينَ حسبَما ينبىءُ عنْهُ المعطوفُ عليهِ فإنُه حرمُ إبراهيمَ ومنشأُ إسماعيلَ ومسقطُ رأسِ رسولِ الله عليهمُ الصلاةُ والسلامُ والتعبيرُ عنهمَا بَما دُونَ مَنْ للتفخيمِ والتعظيمِ كتنكيرِ والدٍ وإيرادُهم بعنوانِ الولادِ ترشيحٌ لمضمون الجواب ايماء إلى أنَّه متحققٌ في حالتي الوالدية والولدية(9/160)
90 سورة البلد (4 11)
وقيلَ آدمُ عليهِ السلامُ ونسلُه وهُو أنسبُ لمضمونِ الجوابِ من حيثُ شمولُه للكُلِّ إلا أنَّ التفخيمَ المستفادَ من كلمةِ مَا لا بُدَّ فيهِ من اعتبارِ التغليبِ وقيلَ وكُلُّ والدٍ وولدهُ(9/161)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ
أي تعبٌ ومشقةٌ فإنَّه لا يزالُ يُقاسِي فنونَ الشدائدِ منْ وقتِ نفخ الروح الى نَزْعِها وما وراءَهُ يقالُ كبد الرجل كبدا إذَا وجعتْ كبدُه وأصلُه كبدَهُ إذَا أصابَ كبدَهُ ثم اتْسعَ فيهِ حَتَّى استمع في كُلِّ نصبٍ ومشقةٍ ومنهُ اشتقتْ المكابدةُ كما قيلَ كبتَهُ بمعنى أهلَكُه وهو تسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم مما كانَ يكابدُه من كفارِ قريشٍ والضميرُ في قولِه تعالَى(9/161)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
أَيَحْسَبُ
لبعضِهم الذي كانَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يكابدُ منهم ما يكابد كالوليدِ بنِ المغيرةِ وأضرابِه وقيلَ هُوَ أبُو الأشدِّ بن كلدة الجمحي وكان شديدَ القوةِ مغتراً بقوتِه وكان يبسطُ له الأديمُ العكاظيُّ فيقومُ عليهِ ويقولُ منْ أزالَني عنْهُ فلَهُ كذا فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً ولا تزلُّ قدماهُ أيْ أيظنُّ هَذا القويُّ الماردُ المتضعفُ للمؤمنينَ
أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
إنْ مخففةٌ منْ أنَّ واسمها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ أيْ أيحسبُ أنَّه لنْ يقدرَ عَلى الانتقامِ منهُ أحدٌ(9/161)
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً
يريدُ كثرةَ ما أنفقَهُ فيَما كانَ أهلُ الجاهليةِ يسمونَها مكارمَ ويدعونَها معاليَ ومفاخرَ(9/161)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ
حينَ كانَ ينفقُ وأنه تعالَى لا يسألُه عنْهُ ولا يجازيِه عليهِ(9/161)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)
أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ
يبصرُ بهمَا(9/161)
وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)
وَلِسَاناً
يترجمُ بهِ عنْ ضمائره
وشفتين
يستربهما فاهُ ويستعينُ بهَما على النطقِ والأكلِ والشربِ وغيرِها(9/161)
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
وهديناه النجدين
أيْ طَريقي الخيرِ والشرِّ أو الثديينِ وأصلُ النجدِ المكانُ المرتفعُ(9/161)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
فَلاَ اقتحم العقبة
أيْ فَلمْ يشكرْ تلكَ النعمَ الجليلةَ بالأعمالِ الصالحةِ وعبرَ عنها(9/161)
90 سورة البلد (12 20)
بالعقبةِ التي هيَ الطريقُ في الجبل لصعوبة سلوكِها وقوله تعالى(9/162)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة
أيْ أيُّ شيءٍ أعلمكَ ما اقتحامُ العقبةِ لزيادةِ تقريرِها وكونِها عندَ الله تعالَى بمكانةٍ رفيعةٍ(9/162)
فَكُّ رَقَبَةٍ (13)
فَكُّ رَقَبَةٍ
أيْ هُو إعتاقُ رقبةٍ(9/162)
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ
أيْ مجاعةٌ(9/162)
يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)
يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ
أيْ قَرابةٌ(9/162)
أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)
أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ
أي افتقارٌ وحيثُ كانَ المرادُ باقتحامِ العقبةِ هذهِ الأمورَ حسُنَ دخولُ لاَ عَلى الماضِي فإنَّها لا تكادُ تقعُ إلا مكررةً إذِ المَعْنى فلا فكَّ رقبةً ولا أطعَم يتيماً أو مسكيناً والمسغبةُ والمقربةُ والمتربةُ مفعلاتٌ من سغِبَ إذا جاعَ وقرُبَ منْ النسبِ وترِبَ إذا افتقرَ وقُرِىءَ فكَّ رقبةٍ أوْ أطعمَ على الإبدالِ من اقتحمَ(9/162)
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمنوا
عطفٌ عَلى المنفيِّ بَلا وثم للدلالة على تراخي رتبةِ الإيمانِ ورفعةِ محلِّه لاشتراط جميعِ الأعمالِ الصالحةِ بهِ
وَتَوَاصَوْاْ بالصبر
عطفٌ على آمنُوا أيْ أوصَى بعضُهم بعضاً بالصبر على طاعة الله
وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة
بالرحمةِ عَلى عبادهِ أو بموجباتِ رحمتِه من الخيراتِ(9/162)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
أولئك
إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز صلتِه وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذانِ ببُعد درجتِهم في الشرفِ والفضلِ أيْ أولئكَ الموصوفونَ بالنعوتِ الجليلةِ المذكورةِ
أصحاب الميمنة
أي اليمينُ أو اليمنُ(9/162)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
والذين كفروا بآياتنا
بما نصبنَاهُ دليلاً على الحقِّ من كتابٍ وحجة أو بالقرآنِ
هُمْ أصحاب المشأمة
أي الشمالِ أو الشؤمِ(9/162)
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ
مطبقةٌ من آصدتُ البابَ إذا(9/162)
91 سورة الشمس (1 6)
أطبقتهُ وأغلقتَهُ وقُرىءَ مُوصدةٌ بغيرِ همزةٍ منْ أوصدتُهُ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة البلدِ أعطاهُ الله تعالَى الأمانَ من غضبِه يومَ القيامة
سورة الشمس مكية وآيها خمس عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم(9/163)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
والشمس وضحاها
أي ضوئِها إذَا أشرقتْ وقام سلطانُها وقيل الضَّحوةُ ارتفاعُ النهارِ والضُّحى فوقَ ذلكَ والضحاءُ بالفتحِ والمدِّ إذا امتدَّ النهارُ وكادَ ينتصفُ(9/163)
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)
والقمر إِذَا تلاها
بأنْ طلعَ بعد غروبِها وقيل إذا تلا طلوعُه طلوعَها وقيلَ إذا تلاهَا في الاستدارةِ وكمال النُّورِ(9/163)
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)
والنهار إِذَا جلاها
أي جَلَّى الشمسَ فإنها تتجلَّى عند انبساطِ النهارِ فكأنه جلاَّها مع أنَّها التي تبسطُه أو جلَّى الظلمةَ أو الدُّنيا أو الأرضَ وإن لم يجْرِ لها ذكر للعلم بها(9/163)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)
والليل إِذَا يغشاها
أي الشمسَ فيغطي ضوؤها أو الآفاقَ أو الأرضَ وحيثُ كانت الواواتُ العاطفةُ نوائبَ للواو الأُولى القسميةِ القائمةِ مقامَ الفعلِ والباءُ سادَّةً مسدَّهما معاً في قولكَ أقسمُ بالله حققْن أن يعمَلن عملَ الفعلِ والجارّ جميعاً كما تقول ضرب زيد عَمراً وبكرٌ وخالدا(9/163)
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)
والسماء وَمَا بناها
أيْ ومَنْ بنَاها وإيثارُ مَا على مَنْ لإرادةِ الوصفيةِ تفخيماً كأنَّه قيلَ والقادرِ العظيمِ الشأنِ الذي بناهَا وجعلَها مصدريةً مخلٌّ بالنظمِ الكريمِ وكذا الكلامُ في قولِه تعالَى(9/163)
وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)
والأرض وَمَا طحاها
أي بسطَها من كلِّ جانبٍ كدحاها(9/163)
91 سورة الشمس (7 13)(9/164)
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا
أي أنشأَها وأبدعَها مستعدةً لكمالاتِها والتنكيرُ للتفخيمِ على أنَّ المرادَ نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ أو للتكثيرِ وهو الأنسبُ للجوابِ(9/164)
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
أي افهمها اياهما وعرفها حالهما من الحُسْنِ والقُبحِ وما يؤدي إليه كلٌّ منهُمَا ومكَّنها من اختيارِ أيِّهما شاءتْ وتقديمُ الفجورِ لمراعاةِ الفواصلِ(9/164)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها
أيْ فازَ بكلِّ مطلوبٍ ونجَا من كلِّ مكروهٍ مَنْ أنماهَا وأعلاها بالتقوى وهو جوابُ القسمِ وحذفُ اللامِ لطولِ الكلامِ وتكريرُ قَدْ في قولِه تعالَى(9/164)
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
وَقَدْ خَابَ مَن دساها
لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِه والإيذانِ بتعلقِ القسمِ بهِ أيضاً أصالةً أيْ خسرَ مَنْ نقصَها وأخفَاها بالفجورِ وأصلُ دَسَّى دَسَّسَ كتقضَّى وتَقْضَّضَ وقيلَ هو كلامٌ تابعٌ لقولِه تعالى {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} بطريقِ الاستطرادِ وإنما الجوابُ ما حذفَ تعويلاً على دلالة قولِه تعالى(9/164)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا
عليه كأنه قيل ليدمد من الله تعالَى على كفارِ مكةَ لتكذيبِهم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كما دمدمَ على ثمودَ لتكذيبِهم صالحاً عليهِ السلامُ وهو على الأولِ استئنافٌ واردٌ لتقريرِ مضمونِ قولِه تعالى {وَقَدْ خَابَ من دساها} والطَّغوى بالفتحِ الطُّغيانُ والباءُ للسببيةِ أيْ فعلتِ التكذيبَ بسببِ طُغيانِها كما تقولُ ظلمنِي بجراءتِه على الله تعالى أو صلةٌ للتكذيبِ أيْ كذَّبتْ بمَا او عدت بهِ منَ العذابِ ذي الطَّغوى كقولِه تعالَى {فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} وقُرِىءَ بطُغواهَا بضم الطاء وهو أيضاً مصدرٌ كالرُّجعى(9/164)
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)
إِذِ انبعث أشقاها
منصوبٌ بكذبتْ أو بالطَّغوى أيْ حينَ قامَ أَشْقى ثمودٍ وهو قدار بن سلف أو هُو ومَنْ تصدَّى معه لعقرِ الناقةِ من الأشقياء فان أفعل التفصيل إذا أضيفَ يصلُح للواحدِ والمتعددِ والمذكرِ والمؤنثِ وفضلُ شقاوتِهم على مَنْ عداهُم لمباشرتِهم العقَر معَ اشتراكِ الكل في الرضابه(9/164)
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
فَقَالَ لَهُمُ
أي لثمودَ
رَسُولِ الله
أي صالحٌ عليه السلامُ عبرَ عنه بعنوانِ الرسالةِ إيذاناً بوجوبِ طاعتِه وبياناً لغايةِ عُتوهم وتمادِيهم في الطغيانِ وهو السرُّ في إضافةِ الناقةِ إلى الله تعالَى في قولِه تعالى
نَاقَةُ الله(9/164)
91 سورة الشمس (14 15)
أي ذرُوا ناقةَ الله
وسقياها
ولا تذودُوها عنها في نوبتها(9/165)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)
فَكَذَّبُوهُ
أي في وعيدِه بقولِه تعالَى {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقد جوز أن يكون ضميرُ لهُم للأشقينِ ولا يلائمهُ ذكرُ سقياهَا
فَعَقَرُوهَا
أي الأشقى والجمعُ على تقديرِ وحدتِه لرِّضا الكلِّ بفعلِه وقال قَتَادةُ بلغنا أنَّه لم يعقرْها حتى تابعَه صغيرُهم وكبيرُهم وذكرُهم وأنثاهُم وقال الفرَّاءُ عقرَها اثنانِ والعربُ تقولُ هذانِ أفضلُ الناسِ
فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ
فأطبقَ عليهم العذابَ وهو من تكريرِ قولِهم ناقة مدمدمة إذا ألبسَها الشحمُ
بِذَنبِهِمْ
بسببِ ذنبِهم المحكيِّ والتصريحُ بذلكَ مع دِلالة الفاءِ عليهِ للإنذارِ بعاقبةِ الذنبِ ليعتبرَ به كلُّ مذنبٍ
فَسَوَّاهَا
أي الدمدمةَ بينهُم لم يفلتْ منهُم أحدٌ من صغيرٍ وكبيرٍ أو فسوَّى ثمودَ بالأرضِ أو سوَّاها في الهلاكِ(9/165)
وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
وَلاَ يَخَافُ عقباها
أي عاقبتَها وتبعتَها كما يخافُ سائرُ المعاقبينَ من الملوكِ فيبقِي بعضَ الإبقاءِ وذلك أنَّه تعالَى لا يفعلُ فعلاً إلاَّ بحقَ وكلُّ من فعلَ بحق فانه لا يخافُ عاقبةَ فعلِه وإنْ كانَ من شأنِه الخوفُ والواوُ للحالِ أو للاستئنافِ وقُرِىءَ فَلاَ يخافُ وقرىء لم يخفْ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ الشمسِ فكأنما تصدقَ بكلِّ شيءٍ طلعتْ عليهِ الشمسُ والقمرُ(9/165)
92 سورة الليل (1 8)
سورة الليل مكية وآيها احدى وعشرون
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم(9/166)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)
والليل إِذَا يغشى
أي حينَ يغشَى الشمسَ كقولِه تعالَى {والليل إِذَا يغشاها} أو النهارَ أو كلَّ ما يواريِه بظلامِه(9/166)
وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)
والنهار إِذَا تجلى
ظهرَ بزوالِ ظلمةِ الليل أو تبينَ وتكشفَ بطلوعِ الشمسِ(9/166)
وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)
وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى
أي والقادرِ العظيمِ القدرةِ الذي خلقَ صنفيَّ الذكرِ والأنثى من كل ماله توالدٌ وقيلَ هُما آدمُ وحواءُ وقُرىءَ والذكرِ والأُنثْى وقُرَىءَ وَالذي خلقَ الذكرَ والأُنْثى وقيلَ مَا مصدريةٌ(9/166)
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى
جوابُ القسمِ وشَتَّى جمع شتيتٍ أي أنَّ مساعيَكُم لأشتاتٍ مختلفةٍ وقولُه تعالى(9/166)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)
فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى
وَصَدَّقَ بالحسنى
الخ تفصيلٌ لتلك المساعِي المشتتةِ وتبيينٌ لأحكامِها أي فأمَّا من أعطَى حقوقَ مالِه واتقى محارمَ الله تعالى التي نهىَ عنها وصدَّق بالخصلةِ الحُسْنى وهي الإيمانُ أو بالكلمةِ الحُسْنى وهي كلمةُ التوحيدِ أو بالملةِ الحُسْنى وهي ملةُ الإسلامُ أو بالمثوبةِ الحُسْنى وهي الجنةُ(9/166)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)
فَسَنُيَسّرُهُ لليسرى
فسنهيئُه للخصلةِ التي تؤدِي إلى يُسرٍ وراحةٍ كدخولِ الجنةِ ومباديِه من يسرَ الفرسَ للركوبِ إذا أسرجَها وألجمَها(9/166)
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)
وَأَمَّا مَن بَخِلَ
أي بمالِه فلم يبذلْه في سبيل الخير(9/166)
92 سورة الليل (9 16)
واستغنى
أي زهدَ فيما عنده تعالَى كأنَّه مستغنٍ عنْهُ فلم يتَّقِهِ أو استغنى بشهواتِ الدُّنيا عن نعيمِ الآخرةِ(9/167)
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)
وَكَذَّبَ بالحسنى
أي ما ذكرَ من المعانِي المتلازمِة(9/167)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى
أي للخصلةِ المؤديةِ إلى العسرِ والشدةِ كدخولِ النارِ ومقدماتِه لاختيارِه لَها ولعلَّ تصديرَ القسمينِ بالإعطاءِ والبخلِ مع أنَّ كلاً منهما أدْنى رتبةً مما بعدهُما في استتباعِ التيسير لليسرى والتيسير للعسرى للإيذانِ بأنَّ كلاً منهما أصل فيما ذكر لاتتمة لما بعدهُما من التصديقِ والتَّقوى والتكذيبِ والاستغناءِ وتفسيرُ الأولِ بإعطاءِ الطاعةِ والثاني بالبخل بما امر به مع كونِه خلافَ الظاهرِ يأباهُ قولُه تعالَى(9/167)
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
وَمَا يُغْنِى عَنْهُ
أيْ ولا يُغنِي أو أيُّ شيءٍ يُغني عنْهُ
مَالَهُ
الذي يبخلُ به
إِذَا تردى
أي هلكَ تفعَّلَ من الرَّدَى الذي هو الهلاكُ أو تردَّى في الحفرةِ إذا قُبرَ أو تردَّى في قعرِ جهنمَ(9/167)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)
إِنَّ عَلَيْنَا للهدى
استئنافٌ مقررٌ لمَا قبلَهُ أيْ إنَّ علينا بموجبِ قضائِنا المبنيِّ على الحِكَم البالغةِ حيث خلقنَا الخلقَ للعبادةِ أن نبينَ لهم طريقَ الهُدى وما يؤدِّي إليهِ من طريقِ الضلالِ وما يؤدِّي إليه وقد فعلنَا ذلكَ بما لا مزيدَ عليهِ حيثُ بيَّنا حالَ من سلكَ كلا الطريقينِ ترغيبا وترهيبا ومن ههنا تبينَ أنَّ الهدايةَ هي الدِلالة على ما يوصِل إلى البغيةِ لا الدلالةُ الموصلةُ إليها قطعاً(9/167)
وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)
وَإِنَّ لَنَا لَلأَخِرَةَ والأولى
أي التصرف الكلي فيهما كيفما نشاءُ فنفعلُ فيهما ما نشاءُ من الأفعالِ التي من جملتها ما وعدنَا من التيسيرِ لليُسرى والتيسيرِ للعُسرى وقيلَ إن لنا كلَّ ما في الدُّنيا والآخرةِ فلا يضرنا تركُكُم الاهتداءَ بهدانَا(9/167)
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)
فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى
بحذفِ إحْدى التاءينِ من تتلظَّى أي تتلهبُ وقِرِىءَ على الأصلِ(9/167)
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)
لا يصلاها
صليا لازما
إِلاَّ الأشقى
إلا الكافرُ فإنَّ الفاسقَ لا يصلاهَا صلياً لازماً وقد صرَّحَ به قولُه تعالى(9/167)
الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
الذى كَذَّبَ وتولى
أي كذَّبَ بالحقِّ وأعرضَ عن الطاعة(9/167)
92 سورة الليل (17 21)(9/168)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17)
وَسَيُجَنَّبُهَا
أي سَيُبعدُ عنْها
إلا تقى
المبالغُ في اتقاءِ الكفرِ والمعاصِي فلا يحومُ حولَها فضلاً عن دخولِها أو صليِها الأبديِّ وأما من دُونَهُ ممن يتقي الكفرَ دُونَ المعاصِي فلا يُبعد عنْها هذا التبعيدَ وذلكَ لا يستلزمُ صليها بالمَعْنى المذكورِ فلا يقدحُ في الحصرِ السابقِ(9/168)
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)
الذى يُؤْتِى مَالَهُ
يُعْطيه ويصرفُهُ في وجوهِ البرِّ والحسناتِ وقولُه تعالى
يتزكى
إما بدلٌ من يُؤتِي داخلٌ في حكمِ الصلةِ لا محلَّ لهُ أو في حيزِ النصبِ على أنه حالٌ من ضميرِ يُؤتِي أي يطلبُ أن يكونَ عند الله تعالى زاكيا ناميا لا يريدون بهِ رياءً ولا سمعةً(9/168)
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)
وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى
استئنافٌ مقررٌ لكونِ إيتائِه للتزكِّي خالصاً لوجهِ الله تعالى أي ليسَ لأحدٍ عنده نعمةٌ من شأنِها أنْ تُجزى وتكافأَ فيقصدَ بإيتاءِ ما يُؤتى مجازاتِها وقولُه تعالى(9/168)
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)
إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى
استثناءٌ منقطعٌ من نعمةٍ وقُرِىءَ بالرفعِ على البدلِ من محلِّ نعمةٍ فإنَّه الرفعُ إما على الفاعليةِ أو على الابتداءِ ومِنْ مزيدةٌ ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً لهُ لأنَّ المَعْنى لا يُؤتِي مالَه إلا ابتغاء وجه ربه لا لمكافأةِ نعمةٍ والآياتُ نزلتْ في حقِّ أبِي بكرٍ الصدِّيقِ رضيَ الله عنه حينَ اشترَى بلالاً في جماعةٍ كان يؤذيهم المشركونَ فأعتقُهم ولذلكَ قالُوا المراد بالأشقى او جهلٍ أو أميةُ بنُ خلفٍ وقد رَوَى عطاءٌ والضحاكُ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنه عذَّبَ المشركونَ بلالاً وبلالٌ يقولُ أَحَدٌ أَحَدٌ فمرَّ به النبي عليه الصلاةَ والسلامُ فقالَ أَحَدٌ يعني الله تعالَى ينجيكَ ثم قال لأبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ إنَّ بلالاً يعذبُ في الله فعرفَ مرادَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ فانصرفَ إلى منزلِه فأخذ رطلاً من ذهبٍ ومَضَى به إلى أميةَ بنِ خلفٍ فقالَ له أتبيعُنِي بلالاً قالَ نعَم فاشتراهُ فأعتقَهُ فقالَ المشركونَ ما أعتقَهُ أبُو بكرٍ إلا ليدٍ كانتْ له عندَهُ فنزلتْ وقولُه تعالَى(9/168)
وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
وَلَسَوْفَ يرضى
جوابُ قَسَمٍ مضمرٍ أيْ وبالله لسوفَ يَرْضَى وهو وعدٌ كريمٌ بنيلِ جميعَ ما يبتغيهِ على أكملِ الوجوهِ وأجملِها إذْ بهِ يتحققُ الرِّضَا وقُرِىءَ يُرْضَى مبنياً للمفعولِ من الإرضاءِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الليل أعطاه الله تعالى حَتَّى يَرْضَى وعافاهُ من العُسرِ ويسر له اليسر(9/168)
93 - سورة الضحى (1 4)
سورة الضحى مكية وآيها احدى عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم(9/169)
وَالضُّحَى (1)
والضحى
هُوَ وقتُ ارتفاعِ الشمسِ وصدرُ النهارِ قالُوا تخصيصُهُ بالإقسامِ بهِ لأنَّها الساعةُ التي كلَّم فيهَا مُوسَى عليهِ السلامُ وألقَى فيهَا السحرةُ سُجدّاً لقولِه تعالَى {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} وقيلَ أريدَ بهِ النهارُ كمَا في قولِه تعالَى {أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى} في مقابلةِ بياتاً(9/169)
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
والليل
أيْ جِنْسِ الليلِ
إِذَا سجى
أيْ سكنَ أهلُه أو ركدَ ظلامُه من سَجَا البحرُ سَجْواً إذَا سكنَتْ أمواجُهُ وَنُقِلَ عن قتادةَ ومقاتلٍ وجعفرٍ الصَّادقِ أنَّ المرادَ بالضُّحَى هُوَ الضُّحى الذي كلَّمَ الله تعالَى فيهِ مُوسَى عليهِ السلامُ وبالليلِ ليلةُ المعراجِ وقولُه تعالَى(9/169)
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ
جوابُ القسمِ أيْ ما قطعكَ قطعَ المودعِ وقُرِىءَ بالتخفيفِ أيْ ما ترككَ
وَمَا قلى
أيْ ومَا أبغضكَ وحَذفُ المفعولِ إما للاستغناءِ عنْهُ بذكرِهِ من قبلُ أو للقصدِ إلى نفي صدورِ الفعلِ عنْهُ تعالَى بالكليةِ مع أنَّ فيهِ مراعاةً للفواصلِ رُوي أنَّ الوحيَ تأخرَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أياماً لتركِه الاستثناءَ كما مَرَّ في سُورةِ الكهفِ أو لزجرِهِ سائلاً ملحاً فقالَ المشركونَ إنَّ محمداً ودعَهُ ربُّهُ وقلاَهُ فنزلتْ رَدًّا عليهم وتَبْشيراً لهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بالكرامةِ الحاصلةِ والمترقبةِ كما يُشعِرُ به إيرادُ اسمِ الربِّ المنبىءِ عنِ التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلامُ وحيثُ تضمنَ ما سبقَ من نفي التوديعِ والقِلَى أنَّه تعالى يواصلُه بالوَحْي والكرامةِ في الدُّنيا بشرهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بأنَّ مَا سيؤتيه في الآخرةِ أجلُّ وأعظمُ من ذلكَ فقيلَ(9/169)
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)
وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى
لما أنَّها باقيةٌ صافيةٌ عنِ الشوائبِ على الإطلاقِ وهذه فانيةٌ مشوبةٌ بالمضارِّ وما أُوتي عليهِ الصَّلاة والسَّلام من شرفِ النبوةِ وإنْ كانَ مما لا يعادلُه شرفٌ ولاَ يدانيه فضل(9/169)
93 سورة الضحى (5 7)
لكنَّهُ لا يخلُو في الدُّنيا من بعضِ العوارضِ الفادحةِ في تمشيةِ الأحكامِ معَ أنَّه عندَمَا أعدَّ له عليه الصلاة والسلام في الآخرةِ من السبقِ والتقدمِ على كافةِ الأنبياءِ والرسلِ يومَ الجمعِ يَوْمَ يقوم الناس لرب العالمين وكونُ أمتِه شهداءَ على سائرِ الأممِ ورفعُ درجاتِ المؤمنينَ وإعلاءُ مراتبِهم بشفاعتِه وغيرُ ذلكَ من الكراماتِ السَّنيةِ التي لا تحيطُ بهَا العبارةُ بمنزلةِ بعضِ المبادىء بالنسبةِ إلى المَطَالبِ وقيلَ المرادُ بالآخرةِ عاقبةُ أمرِه عليه الصلاة والسلام أي لنهايةُ أمركَ خيرٌ من بدايتِه لا تزالُ تتزايدُ قوةً وتتصاعدُ رفعةً وقولُه تعالَى(9/170)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى
عِدَةٌ كريمةٌ شاملةٌ لمَا أعطاهُ الله تعالَى في الدُّنيا من كمالِ النفسِ وعلومِ الأولينَ والآخرينَ وظهورِ الأمرِ وإعلاءِ الدينِ بالفتوحِ الواقعةِ في عصرِه عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ وفي أيامِ خلفائِه الراشدينَ وغيرِهم من الملوكِ الإسلاميةِ وفشُوِّ الدعوةِ والإسلامِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها ولما ادخرَ لهُ من الكراماتِ التي لا يعلمُها إلا الله تعالَى وقدْ أنبأ ابنَ عباسٍ رضيَ الله عنهُما عن شَمَّةٍ منهَا حيثُ قالَ له عليه الصلاة والسلام في الجنة الف قصرمن لؤلؤٍ أبيضَ ترابُه المسكُ واللامُ للابتداءِ دخلتِ الخبرَ لتأكيدِ مضمونِ الجُملةِ والمبتدأُ محذوفٌ تقديرُهُ ولأنتَ سوفَ يُعطيكَ الخ لا للقسمِ لأنَّها لا تدخلُ على المضارعِ إلاَّ معَ النونِ المؤكدةِ وجمعُها معَ سوفَ للدلالةِ على أنَّ الإعطاءَ كائنٌ لا محالةَ وإنْ تراخَى لحكمةٍ وقيلَ هيَ للقسمِ وقاعدةُ التلازمِ بينَها وبينَ نونِ التأكيدِ قد استثنى النجاة منهَا صورتينِ إحداهُمَا أنْ يفصلَ بينَها وبينَ الفعلِ بحرفِ التنفيسِ كهذه الآية وكقولِه والله لسأعطيكَ والثانيةُ أن يُفصلَ بينهما بمعمولِ الفعلِ كقولِه تعالَى {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} وقال أبُو عليَ الفارسيُّ ليستْ هذه اللامُ هيَ التي في قولِكَ إنَّ زيداً لقائمٌ بلْ هيَ التي في قولِكَ لأقومَنَّ ونابتْ سوفَ عن إحدَى نونِي التأكيدِ فكأنَّه قيلَ وليعطينكَ وكذلكَ اللامُ في قولِه تعالَى وَلَلأَخِرَةُ الخ وقولُه تعالَى(9/170)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فاوى
تعديدٌ لمَا أفاضَ عليه عليه الصلاة والسلام من أول أمرِه إلى ذلكَ الوقتِ من فنونِ النعماءِ العظامِ ليستشهدَ بالحاضر الموجودِ على المترقبِ الموعودِ فيطمئنَّ قلبُه وينشرحَ صدرُهُ والهمزةُ لإنكارِ النفي وتقريرِ المنفي على أبلغ وَجْهٍ كأنَّه قيلَ قد وجدكَ الخ والوجودُ بمعنى العلمِ ويتيماً مفعولُه الثَّانِي وقيلَ بمعنى المصادقةِ ويتيماً حال من مفعولِه رُويَ أنَّ أباهُ ماتَ وهُوَ جنينٌ قد أتتْ عليهِ ستةُ أشهرٍ وماتتْ أمُّهُ وهوَ ابنُ ثمانِ سنينَ فكفلَهُ عَمُّه أبُو طالبٍ وعطّفه الله عليه فأحسنَ تربيتَهُ وذلكَ إيواؤُهُ وقُرِىءَ فَأَوَى وهُوَ إمَّا من أواهُ بمعنى آواهُ أو من أوَى لَهُ إذَا رَحِمَهُ وقولُه تعالَى(9/170)
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
وَوَجَدَكَ ضَالاًّ
عطفٌ على ما يقتضيهِ الإنكارُ السابقُ كمَا أُشير إليهِ أو على المضارعِ المنفيِّ بلمْ داخلٌ في حُكمِه كأنَّهُ قيلَ أمَا وجدكَ يتيماً فآوى ووجدكَ غافلاً عنِ الشرائعِ التي لا تهتدِي(9/170)
سورة الضحى آية 8 11
إليهَا العقولُ كمَا في قوله تعالى {كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب} وقيلَ ضلَّ في صباهُ في بعضِ شعابِ مكةَ فردَّه أبُو جهلٍ إلى عبدِ المطلبِ وقيلَ ضَلَّ مرةً أُخرَى وطلبُوه فلم يجدُوه فطافَ عبدُ المطلبِ بالكعبةِ سبعاً وتضرعَ إلى الله تعالَى فسمعُوا منادياً ينادِي من السماءِ يا معشرالناس لا تضجُّوا فإنَّ لمحمدٍ ربًّا لا يخذلُهُ ولا يضيعُهُ وإنَّ محمداً بوادِي تهامةَ عندَ شجرِ السَّمُرِ فسارَ عبدُ المطلبِ وورقةُ بنُ نوفلٍ فإذَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم قائمٌ تحتَ شجرةٍ يلعبُ بالأغصانِ والأوراقِ وقيلَ أضلتهُ مرضعتُه حليمةُ عندَ بابِ مكةَ حينَ فطمتْهُ وجاءتْ بهِ لتردُه على عبدِ المطلبِ وقيلَ ضَلَّ في طريقِ الشامِ حينَ خرجَ بهِ أبُو طالبٍ
يُروى أنَّ إبليسَ أخذَ بزمامِ ناقتِه في ليلةٍ ظلماء فعدلَ بهِ عن الطريقِ فجاءَ جبريلُ عليهِ السلامُ فنفخ إبليس نفخةً وقع منهَا إلى أرضِ الهندِ ورَدَّهُ إلى القافلةِ {فهدى} فهداكَ إلى مناهجِ الشرائعِ المنطويةِ في تضاعيفِ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتابِ المبينِ وعلمكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أو أزالَ ضلالكَ عن جدكَ أو عمكَ(9/171)
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
{وَوَجَدَكَ عَائِلاً} أيْ فقيراً وقُرِىءَ عَيُلاً وقُرِىءَ عديماً {فأغنى} فأغناكَ بمالِ خديجةَ أو بمالٍ حصلَ لكَ من ربحِ التجارةِ أو بمال أفاءَ عليكَ من الغنائمِ قال عليه الصلاة والسلام جُعِلَ رِزْقِي تحتَ ظلِّ رُمْحِي وقيلَ قنعكَ وأَغْنى قلبكَ(9/171)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)
{فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} فلا تغلبْهُ على مالِه وقالَ مجاهدٌ لا تَحْتقرْ وقُرىءَ فلاَ تَكْهَرْ أيْ فلا تعبسْ في وجهِه(9/171)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
{وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ} فلا تزجُرْ وَلاَ تُغلظْ لهُ القولَ بلْ رُدَّهُ ردًّا جميلاً قالَ أبراهيمُ بن أدهم نعم القول السؤّالُ يحملونَ زادنَا إلى الآخرةِ وقالَ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ السائلُ يريدُ الآخرةَ يجيءُ إلى بابِ أحدِكُم فيقولُ أتبعثونَ إلى أهليكُم بشيءٍ وقيل المراد بالسائل ههنا الذي يسألُ عنِ الدينِ(9/171)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ} بشكرِهَا وإشاعتِها وإظهارِ آثارِها وأحكامِها أريدَ بهَا ما أفاضَهُ الله تعالَى عليهِ الصلاةُ والسلامُ من فنونِ النِّعمِ التي من جُملتِها النعمُ المعدودةُ الموجودةُ منهَا والموعودةُ والمَعْنى أنكَ كنتَ يتيماً وضالاًّ وعائلاً فآواكَ الله تعالَى وهداكَ وأغناكَ فمهمَا يكُنْ من شيءٍ فلا تنسَ حقوقَ نعمةِ الله تعالَى عليكَ في هذه الثلاثِ واقتدِ بالله تعالَى وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إليكَ فتعطفَ على اليتيمِ فآوِه وترحمْ على السائلِ وتفقدهُ بمعروفكَ ولا تزجرهُ عن بابكَ وحدثْ بنعمةِ الله كُلِّها وحيثُ كانَ معظمُها نعمةَ النبوةِ فقدِ اندرجَ تحتَ الأمرِ هدايته عليه الصلاة والسلام للضلالِ وتعليمُه للشرائعِ والأحكامِ حسبمَا هداهُ الله عزَّ وجلَّ وعلمَهُ من الكتابِ والحكمة
عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة الضحى جعلَهُ الله تعالَى فيمنْ يرضَى لمحمدٍ أنْ يشفعَ لهُ وعشرُ حسناتٍ يكتبُهَا الله لَهُ بعددِ كُلِّ يتيم وسائل(9/171)
سورة الشرح مكية وهي ثمان آيات
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم(9/172)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} لما كانَ الصدرُ محلاًّ لأحوالِ النفسِ ومخزناً لسرائرِها من العلومِ والإدراكاتِ والملكاتِ والإراداتِ وغيرِها عبرَ بشرحِه عن توسيعِ دائرةِ تصرفاتِها بتأييدِها بالقوةِ القدسيةِ وتحليتِها بالكمالاتِ الأُنسيةِ أيْ ألمْ نفسحْهُ حَتَّى حَوَى عَالَمِيْ الغيبِ والشَّهادةِ وجمعَ بينَ مَلكَتِيْ الاستفادةِ والإفادةِ فمَا صدَّكَ الملابسةُ بالعلائقِ الجسمانيةِ عنِ اقتباسِ أنوارِ الملكاتِ الروحانيةِ وَمَا عاقكَ التعلقُ بمصالحِ الخلقِ عن الاستغراقِ في شؤونِ الحقِّ وقيلَ أريدَ بهِ ما رُويَ أنَّ جبريلَ أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في صباهُ أو يومَ الميثاقِ فاستخرجَ قلبَهُ فغسلَهُ ثمَّ ملأهُ إيماناً وعلماً ولعلَّه تمثيلٌ لما ذُكِرَ أو أُنْمُوذَجٌ جُسمانيٌّ ممَّا سيظهرُ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ من الكمالِ الرُّوحانيِّ والتعبيرُ عن ثبوتِ الشَّرحِ بالاستفهامِ الإنكاريِّ عنِ انتفائِه للإيذانِ بأنَّ ثبوتَهُ منَ الظهورِ بحيثُ لا يقدرُ أحدٌ على أنْ يجيبَ عنْهُ بغيرِ بَلَى وزيادةُ الجارِّ والمجرورِ معَ توسيطِه بينَ الفعلِ ومفعولِه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ الشَّرحَ من منافِعِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ومصالحِه مسارعةً إلى إدخالِ المسرةِ في قلبِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وتشويقاً لهُ إلى ما يعقبُهُ ليتمكَّنَ عندَهُ وقتَ ورودِه فضلَ تمكِّنٍ وقوله تعالى(9/172)
وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)
{وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} عطفٌ على ما أشيرَ إليهِ من مدلولِ الجملةِ السابقةِ كأنه قدْ شرحنَا صدرَكَ ووضعنَا الخ وعنكَ متعلقٌ بوضعنَا وتقديمُهُ على المفعولِ الصريحِ مع أن حقه التأخرُ عنْهُ لما مرَّ آنِفاً منَ القصدِ إلى تعجيلِ المسرَّةِ والتِّشويقِ إلى المؤخَّرِ ولِما أنَّ في وصفِه نوعَ طُولٍ فتأخيرُ الجارِّ والمجرور عنْهُ لما مرَّ آنِفاً منَ القصدِ إلى تعجيلِ أيْ حططنَا عنكَ عِبأكَ الثقيلَ(9/172)
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)
{الذى أَنقَضَ ظَهْرَكَ} أيْ حملَهُ على النقيضِ وَهُوَ صوت الانتقاض والانفكاكَ كمَا يُسْمَعُ منَ الرَّحلِ المُتداعِي إلى الانتقاضِ من ثقلِ الحملِ مُثّل بهِ حالُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ممَّا كانَ يثقلُ عليه ويغمه من فرطاته قبلَ النبوةِ أو من عدمِ إحاطتِه بتفاصيلِ الأحكامِ والشرائعِ أو من تهالُكِهِ على إسلام المعاندين(9/172)
94 سورة الشرح آية (4 8) من قومِه وتلهفِهِ ووضعِهِ عند مغفرتَهُ وتعليمِ الشرائعِ وتمهيدِ عُذرِهِ بعدَ أنْ بلَّغَ وبالغَ وقُرِىءَ وَحططنَا وَحللنَا مكانَ وضعنَا وقُرِىءَ وحللنَا عنكَ وِقْرَك(9/173)
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} بعنوان النبوةِ وأحكامِها أيَّ رفعٍ حيثُ قرنَ اسمُهُ باسمِ الله تعالَى في كلمةِ الشهادةِ والأذانِ والإقامةِ وجُعلَ طاعتُه طاعتَه تعالَى وصلَّى عليهِ هُو وملائكتُه وأمرَ المؤمنينَ بالصَّلاةِ عليهِ وسُمِّيَ رسولَ الله ونبيَّ الله والكلامُ في العطفِ وزيادةِ لكَ كالذي سلفَ وقولُه تعالَى(9/173)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)
{فإن مع العسر يسرا} تقرير لما قبله ووعده كريمٌ بتيسيرِ كُلِّ عسيرٍ له عليه الصلاة والسلام وللمؤمنينَ كأنَّه قيلَ خوَّلناكَ ما خوَّلناكَ من جلائلِ النعمِ فكُنْ على ثقةٍ بفضلِ الله تعالَى ولطفِه فإن مع العسر يسرا كثيرا وفي كلمته معَ إشعارٌ بغايةِ سرعةِ مجيءِ اليسرِ كأنَّه مقارنٌ للعسرِ(9/173)
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
{إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} تكريرٌ للتأكيدِ أو عدةٌ مستأنفةٌ بأنَّ العسرَ مشفوعٌ بيسرٍ آخرَ كثوابِ الآخرةِ كقولك إن للصائم فرحتان للصائم فرحةً أيَّ فرحة عندَ الإفطارِ وفرحةً عندَ لقاءِ الربِّ وعليهِ قولُه صلى الله عليه وسلم لَنْ يغلبَ عسرٌ يسرينِ فإنَّ المُعرَّفَ إذَا أعيدَ يكونُ الثاني عينَ الأولِ سواءً كانَ معهوداً أو جنساً وأما المنكرُ فيحتملُ أنْ يرادَ بالثانِي فردٌ مغايرٌ لمَا أريدَ بالأولِ(9/173)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)
{فَإِذَا فَرَغْتَ} أيْ منَ التبليغِ وقيلَ من الغزوِ {فانصب} فاجتهدْ في العبادةِ واتعبْ شكراً لما أوليناكَ من النعمِ السالفةِ ووعدناكَ من الآلاءِ الآنفةِ وقيلَ فإذَا فرغتَ من صلاتِك فاجتهدْ في الدُّعاءِ وقيلَ إذَا فرغتَ من دنياكَ فانصبْ في صلاتِكَ(9/173)
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
{وإلى رَبّكَ} وَحْدَهُ {فارغب} بالسؤالِ ولاَ تسألْ غيرَهُ فإنَّه القادرُ على إسعافِكَ لا غيرُهُ وقُرِىءَ فرَغِّبْ أي فرَغِّبِ النَّاسَ إلى طلبِ ما عندَهُ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ ألمْ نشرحْ فكأنَّما جاءَنِي وأنَا مغتمٌّ ففرجَ عَنِّي(9/173)
سورة التين مكية وقيل مدنية وآيها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم(9/174)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)
{والتين والزيتون} هما هذا التين وهذا الزيتون خصهماالله سبحانَهُ من بينِ الثمارِ بالإقسامِ بهما لاختصاصِهما بخواصَّ جليلةٍ فإنَّ التينَ فاكهةٌ طيبةٌ لا فُضلَ لهُ غذاء لطيفٌ سريعُ الهضمِ ودواءٌ كثيرُ النفعِ يلينُ الطبعَ ويحللُ البلغمَ ويطهرُ الكليتينِ ويزيلُ ما في المثانةِ من الرملِ ويسمن البدنَ ويفتحُ سددَ الكبدِ والطِّحالِ ورَوَى أبو ذرَ رضيَ الله عنْهُ أنَّه أهدَى للنبي صلى الله عليه وسلم سلٌّ من تينٍ فأكلَ منْهُ وقالَ لأصحابِه كُلوا فلَو قلتُ إن فاكهةً نزلتْ من الجنةِ لقلتُ هذا لأنَّ فاكهةَ الجنَّةِ بلا عجمَ فكلُوهَا فإنَّها تقطعُ البواسيرَ وتنفعُ منَ النِقرسِ وعَنْ عليِّ بنِ مُوسى الرِّضَا التينُ يزيلُ نكهةَ الفمِ ويطولُ الشعرَ وهُوَ أمانٌ منَ الفالجِ وأما الزيتونُ فهو فاكهةٌ وإدامٌ ودواءٌ ولو لم يكنْ له سِوى اختصاصِه بدهنِ كثيرِ المنافعِ معَ حصولِه في بقاعٍ لا دهنيةَ فيهَا لكَفى به فضلاً وشجرتُه هيَ الشجرةُ المباركةُ المشهودُ لهَا في التنزيلِ ومرَّ معاذُ بنُ جبلٍ رضيَ الله عنْهُ بشجرةِ الزيتونِ فأخذَ منهَا قضيا واستاكَ بهِ وقالَ سمعتُ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يقولُ نعمَ السواكُ الزيتونُ من الشجرةِ المباركةِ يطيبُ الفمَ ويذهبُ بالحفرةِ وسمعتُه يقولُ هوَ سواكِي وسواكُ الأنبياءِ قبلِي وقيلَ هما جبلانِ من الأرضِ المقدسةِ يقال لهما بالسريانية طور تينا وطور زيتا لأنهمَا منبِتا التينِ والزيتونِ وقيل التين جبل ما بينَ حلوانَ وهمدانَ والزيتونُ جبالُ الشامِ لأنهمَا منابتَهما كأنه قيلَ ومنابتِ التينِ والزيتونِ وَقالَ قَتَادةُ التينُ الجبلُ الذي عليهِ دمشقُ والزيتونُ الجبلُ الذي عليهِ بيتُ المقدسِ وقال عكرمةُ وَابنُ زيدِ التينُ دمشقُ والزيتونُ بيتُ المقدسِ وهو اختيارالطبري وقالَ محمدُ بنُ كعبٍ التينُ مسجدُ أصحابِ الكهفِ والزيتونُ مسجدُ إِيْليَا وعن ابن عباس رضي الله عنهماالتين مسجدُ نوحٍ عليهِ السلامُ الذي بناهُ على الجُودِيِّ والزيتونُ مسجدُ بيتِ المقدسِ وقالَ الضحَّاكُ التينُ المسجدُ الحرامُ والزيتونُ المسجدُ الأَقْصى والصحيحُ هُوَ الأولُ قالَ ابن عباس رضي الله عنهُمَا هو تينُكُم الذي تأكلونَ وزيتونُكم الذي تعصِرونَ منْهُ الزيتَ وبه قالَ مجاهدٌ وعكرمةُ وإبراهيمُ النخعيُّ وعطاءٌ وجابرٌ وزيدٌ ومقاتلٌ والكلبيُّ(9/174)
وَطُورِ سِينِينَ (2)
{وَطُورِ سِينِينَ}(9/174)
هو الجبلُ الذي ناجَى عليهِ موسى ربَّهُ وسينينَ وسيناءُ علمانِ للموضعِ الذي هُوَ فيهِ ولذلكَ أضيفَ إليهمَا وسينونَ كبيرونَ في جوازِ الإعرابِ بالواوِ والياءِ والإقرارِ على الياءِ وتحريكِ النونِ بالحركاتِ الإعرابيةِ(9/175)
وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
{وهذا البلد الأمين} أيْ الآمنِ من أمنَ الرجلُ أمانةً فهُو أمينٌ وهُوَ مكةَ شرَّفها الله تعَالَى وأمانتُها أنَّها تحفظُ من دخلَها كما يحفظُ الأمينُ ما يؤتمنُ عليهِ ويجوزُ أنْ يكونَ فعيلاً بمَعْنى مفعولٍ من أمنَهُ لأنَّه مأمونُ الغَوَائلِ كما وصفَ بالآمنِ في قولِه تعالَى {حَرَماً آمنا} بمَعْنى ذِي أمنٍ ووجْهُ الإقسامِ بهاتيكَ البقاع المباركةِ المشحونةِ ببركاتِ الدُّنيا والدِّينِ غنيٌّ عن الشَّرحِ والتبيينِ(9/175)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} أيْ جنسُ الإنسانِ {فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أيْ كائناً في أحسنُ ما يكونُ من التقويمِ والتعديلِ صورةً ومَعْنى حيثُ برأه الله تعالَى مستويَ القامةِ متناسبَ الأعضاءِ متصفاً بالحياةِ والعلمِ والقدرةِ والإرادةِ والتكلمِ والسمعِ والبصرِ وغيرِ ذلكَ منَ الصفاتِ التي هيَ مِنْ أنموذجاتٍ منَ الصفاتِ السبحانيةِ وآثارٌ لهَا وقدْ عبرَ بعضُ العلماءِ عنْ ذلكَ بقولِه خلقَ آدمَ علَى صورتِه وفي روايةٍ على صورةِ الرحمن وبَنَى عليهِ تحقيقَ مَعْنى قولِه مَنْ عرفَ نفسَهُ فقدْ عرفَ رَبَّه وقالَ إنَّ النفسَ الإنسانيةَ مجردةٌ ليستْ حالّةً في البدنِ ولا خارجةً عنْهُ متعلقةً بهِ تعلقَ التدبيرِ والتصرفِ تستعملُه كيفمَا شاءتْ فإذَا أرادتْ فعلاً من الأفاعيلِ الجُسمانيةِ تلقيهِ إلى مَا في القلبِ منَ الروحِ الحيوانيِّ الذي هُوَ أعدلُ الأرواحِ وأصفاهَا وأقربُها منْهَا وأقواهَا مناسبةً إلى عالمِ المجرداتِ إلقاءً روحانياً وهو يلقيهِ بواسطةِ ما في الشرايينِ منَ الأرواحِ إلى الدماغِ الذي هُو منبتُ الأعصابِ التي فيهَا القُوَى المحركةُ للإنسانِ فعندَ ذلكَ يحركُ منَ الأعضاءِ ما يليقُ بذلكَ الفعلِ من مباديهِ البعيدةِ والقريبةِ فيصدرُ عنْهُ ذلكَ بهذه الطريقةِ فمَنْ عرفَ نفسَهُ على هذه الكيفيةِ من صفاتِها وأفعالِها تسنَّى لهُ أن يترقى إلى معرفةِ ربِّ العزةِ عَزَّ سلطانُهُ ويطلعُ على أنَّه سبحانَهُ منزهٌ عنْ كونِه داخلاً في العالمِ أو خارجاً عنْهُ يفعلُ فيهِ ما يشاء ويحكُم ما يريدُ بواسطةِ ما رتبَهُ فيهِ منَ الملائكةِ الذينَ يستدلُّ على شؤونِهم بما ذكرَ من الأرواحِ والقُوى المرتبةِ في العالمِ الإنسانيِّ الذي هُوَ نسخةٌ للعالمِ الأكبر وأنموذح مِنْهُ وقوله تعالى(9/175)
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
{ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} أيْ جعلنَاهُ من أهلِ النَّارِ الذينَ هُم أقبحُ من كُلِّ قبيحٍ وأسفلُ من كُلِّ سافلٍ لعدمِ جريانِه على موجبِ ما خلقناهُ عليهِ منَ الصفاتِ التي لو عملَ بمقتضاهَا لكانَ في أعْلَى عليينَ وقيلَ رددناهُ إلى أَرْذَلِ العمرِ وهُو الهرمُ بعدَ الشبابِ والضعفُ بعدَ القوةِ كقولِه تعالَى {وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الخلق} وأياً ما كانَ فأسفلُ سافلينَ إمَّا حالٌ منَ المفعولِ أيْ رددناهُ حالَ كونِه أسفلَ سافلينَ أو صفةٌ لمكانٍ محذوفٍ أيْ رددناهُ مكاناً أسفلَ سافلينَ والأولُ أظهر وقرىء(9/175)
95 سورة التين آية (6 8) أسفلَ السافلينَ وقولُه تعالَى(9/176)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
{إلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} على الأولِ استثناءٌ متصلٌ منْ ضميرِ رددناه فإنَّه فِي معْنَى الجمعِ وعلى الثاني منقطعٌ أيْ لكنْ الذينَ كانُوا صالحينَ منْ الهَرْمَى {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} غيرُ منقطعٍ عَلى طاعتِهم وصبرِهم على بلاء الله تعالَى بالشيخوخةِ والهرمِ وعَلى مقاساةِ المشاقِّ والقيامِ بالعبادةِ على تخاذلِ نهوضِهم أو غيرِ ممنونٍ بهِ عليهمْ وهذِه الجملةُ على الأولِ مقررةٌ لمَا يفيدهُ الاستثناءُ منْ خروجِ المؤمنين عن حكم الرد ومبينة لكيفيةِ حالِهم والخطابُ في قولِه تعالَى(9/176)
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)
{فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين} للرسول صلى الله عليه وسلم أيْ فأيُّ شيءٍ يكذبكَ دلالةً أو نطقاً بالجزاءِ بعدَ ظهورِ هذهِ الدلائلِ الناطقةِ بهِ وقيلَ ما بمعنَى مَنْ وقيلَ الخطابُ للإنسانِ على طريقِ الالتفاتِ لتشديدِ التوبيخِ والتبكيتِ أيْ فَما يجعلكَ كاذباً بسببِ الدينِ وأنكارِه بعدَ هذهِ الدلائلِ والمَعنى أنَّ خلقَ الإنسانِ منْ نطفةٍ وتقويمَهُ بشراً سوياً وتحويلِه منْ حالٍ إلى حالٍ كمالاً ونُقصاناً من أوضحِ الدلائلِ على قُدرةِ الله عزَّ وجلَّ على البعثِ والجزاءِ فأيُّ شيءٍ يضطركَ بعدَ هَذَا الدليلِ القاطعِ إلى أنْ تكونَ كاذباً بسببِ تكذيبهِ أيُّها الإنسانُ(9/176)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
{أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} أي أليسَ الذي فعلَ ما ذُكرَ بأحكمِ الحاكمينَ صنعاً وتدبيراً حتَّى يتوهَم عدمُ الإعادةِ والجزاءِ وحيثُ استحالَ عدمُ كونهِ أحكَمَ الحاكمينَ تعينَ الإعادةُ والجزاءُ فالجملةُ تقريرٌ لما قبلَها وقيلَ الحكمُ بمعْنَى القضاءِ فهي وعيدٌ للكفارِ وأنَّه يحكمُ عليهم بما يستحقونَهُ منَ العذابِ
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كانَ إذَا قَرأها يقولُ بَلَى وأنَا عَلى ذلكَ منَ الشاهدينَ وعنْهُ صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة التين أعطاهُ الله تعالى الخصلتينِ العافيةَ واليقينَ ما دامَ في دار الدُّنيا وإذا ماتَ أعطاهُ الله تعالى من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة(9/176)
سورة العلق سورة العلق مكية وأيها تسع عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم(9/177)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
{اقرأ} أيْ مَا يوحَى إليكَ فإنَّ الأمرَ بالقراءةِ يقتَضي المقروءَ قطعاً وحيثُ لَمْ يُعينَ وجبَ أنْ يكونَ ذلكَ ما يتصلُ بالأمرِ حتماً سواءً كانتِ السورةُ أولَ ما نزلَ أولا والأقربُ أنَّ هَذا إلى قولِه تعالى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} أولُ ما نزلَ عليه عليه الصلاة والسلام كما ينطقُ بهِ حديثُ الزهر المشهورُ وقولِه تعالى {باسم رَبّكَ} متعلقٌ بمضمرٍ هُو حالٌ من ضميرالفاعل أي اقرأْ ملتبساً باسمهِ تعالى أيْ مُبتدئاً بِه لتتحقق مقارنته لجميع أجزاءِ المقروءِ والتعرّضُ لعنوانِ الربوبيةِ المُنْبئة عن التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمالِ اللائقِ شيْئاً فشيئا مع الإضافة إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ للإشعارِ بتبليغِه عليِه السَّلامُ إلى الغايةِ القاصيةِ منَ الكمالاتِ البشريةِ بإنزالِ الوَحي المتواتِرِ ووصفُ الربَّ بقولِه تعالَى {الذى خَلَقَ} لتذكيرِ أولِ النعماءِ الفائضةِ عليهِ عليه الصلاة والسلام منه تعالى والتنبيهِ على أنَّ منْ قدرَ عَلى خلقِ الإنسانِ على ما هو عليه من الحياةَ وما يتبعُها منَ الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ منْ مادةٍ لم تشمَّ رائحةَ الحياةِ فضلاً عن سائرِ الكمالاتِ قادرٌ على تعليمِ القراءةِ للحيِّ العالمِ المتكلمِ أي الذي أنشأَ الخلقَ واستأثرَ بِه أوْ خلَقَ كُلّ شَىْء وقولُه تعالى(9/177)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
{خَلَقَ الإنسان} عَلى الأولِ تخصيص لخلق اإلإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقاتِ لاستقلالِه ببدائعِ الصنعِ والتدبيرِ وَعَلى الثاني إفرادٌ للإنسانِ منْ بينِ سائرِ المخلوقاتِ بالبيانِ وتفخيمٌ لشأنِه إذْ هُو أشرفُهم وإليهِ التنزيلُ وهُو المأمورُ بالقراءةِ ويجوزُ أنْ يرادَ بالفعلِ الأولِ أيضاً خلقُ الإنسانِ ويقصدُ بتجريدِه عن المفعولِ الإبهامِ ثمَّ التفسيرِ رَوْماً لتفخيمِ فطرتِه وقولُه تعالى {مِنْ عَلَقٍ} أيْ دمٍ جامدٍ لبيانِ كمالِ قُدرتِه تعالى بإظهارِ مَا بينَ حالتِه الأولى والآخرةِ من التباينِ البينِ وإيرادُه بلفظِ الجمعِ بناءً على أنَّ الإنسانَ في مَعْنى الجمعِ لمراعاةِ الفواصلِ ولعلَّه هو السرُّ في تخصيصِه بالذكرِ منْ بينِ سائرِ أطوارِ الفطرة الإنسانيةِ معَ كونِ النطفةِ والترابِ أدلَّ منْهُ عَلَى كمالِ القُدرةِ لكونِهما أبعدَ منْهُ بالنسبةِ إلى الإنسانيةِ ولَمَّا كانَ خلقُ الإنسان أول النعمُ الفائضةِ عليه عليهِ الصلاة والسلام منه تعالى(9/177)
96 سورة العلق آية (3 7) وأقدم الدلائلِ الدالةِ على وجودِه عزَّ وجلَّ وكمالِ قُدرتِه وعلمِه وحكمتِه وصفَ ذاتَه تَعالى بذلكَ أولاً ليستشهدَ عليه السلامُ بهِ على تمكينهِ تعالى لَه منَ القراءةِ ثم كررَ الأمرَ بقولِه تعالى(9/178)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)
{اقرأ} أي افعلْ ما أُمرت بِه تأكيداً للإيجابِ وتمهيداً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {وَرَبُّكَ الاكرم} الخ فأنَّه كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لإزاحةِ ما بينَهُ عليه السَّلامُ منَ العُذرِ بقولِه عليهِ السَّلامُ مَا أنَا بقارىءٍ يريدُ أنَّ القراءةَ شأنُ منْ يكتبُ ويقرأُ وأنَا أُميٌّ فقيلَ لَهُ وربُّكَ الذي أمركَ بالقراءةِ مبتدئاً باسمِه هو الأكرمُ(9/178)
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
{الذى عَلَّمَ بالقلم} أي علمَ ما علمَ بواسطةِ القلم لا غيره فكما علَّم القارىءَ بواسطةِ الكتابةِ والقلمِ يعلمكَ بدونِهما وقولُه تعالَى(9/178)
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
{عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} بدلُ اشتمالٍ منْ عَلَّمَ بالقلمِ أي علَّمه بهِ وبدونِه منَ الأمورِ الكليةِ والجزئيةِ والجليةِ والخفيةِ مالم يخطرُ ببالِه وفي حذفِ المفعولِ أولاً وإيرادِه بعنوانِ عدمِ المعلوميةِ ثانياً من الدلالةِ عَلى كمالِ قُدرتِه تعالى وكمالِ كَرَمِه والإشعارِ بأنَّه تعالى يعلمُه من العلوم ما لا تحيطُ بِه العقولُ ما لا يخفى(9/178)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)
{كَلاَّ} ردعٌ لمن كفرَ بنعمةِ الله تعالى بطغيانِه وإن لم يسبقْ ذكرُهُ للمبالغةِ في الزجرِ وقولُه تعالَى {إِنَّ الإنسان ليطغى} أيْ ليجاوزُ الحدَّ ويستكبرُ عَلى ربِّه بيانٌ للمردوعِ والمردوعِ عَنْهُ قيلَ هَذَا إلى آخرِ السورةِ نزلَ في أبي جهلٍ بعدَ الزمان وهو الظاهرُ وقولُه تعالَى(9/178)
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)
{أن رآه استغنى} مفعولٌ لَهُ أي يطغى لأنْ رَأى نفسَهُ مستغنياً عَلى أنَّ استغنى مفعولٌ ثانٍ لرأى لأنه بمَعْنى علمَ ولذلكَ ساغَ كونُ فاعلِه ومفعولِه ضميريْ واحدٍ كَمَا في علمتني وإن جَوَّزَهُ بعضُهم فِي الرؤيةِ البصريةِ أيضاً وجعلَ من ذلك قول عائشةَ رضيَ الله عنها لقد رأيتُنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما لَنا طعامٌ إلاَّ الأسودانِ وتعليلُ طُغيانِه برؤيتهِ لا بنفسِ الاستغناءِ كمَا ينبىء عنه قوله تعالى {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الارض} للإيذانِ بأنَّ مَدَارَ طُغيانهِ زعمه الفاسد
رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتزعمُ أنَّ منِ استغنى طغَى فاجعلُ لنَا جبالَ مكةَ فضةً وذهباً لعلنَا نأخذُ منْهَا فنطغَى فندعَ ديننَا ونتبعَ دينكَ فنزلَ عليهِ جبريلُ عليهِ السَّلامُ فقالَ إن شئْتَ فعلنَا ذلكَ ثُمَّ إنْ لَمْ يُؤمنوا فعلْنا بهمْ مَا فعلنَا بأصحابِ المائدةِ فكفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدُّعاءِ إبقاءً عليهمْ وقوله تعالى(9/178)
96 سورة العلق آية (8 14)(9/179)
إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)
{إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} تهديدٌ للطاغي وتحذيرٌ لَهُ من عاقبةِ الطغيانِ والالتفاتُ للتشديدِ في التهديدِ والرُّجعى مصدرٌ بمعنَى الرُّجوعِ كالبشرى وتقديمُ الجار والمجرور عليه لقصره عليهِ أيْ إنَّ إلى مالكِ أمركِ رجوعَ الكُلِّ بالموتِ والبعثِ لا إلى غيره استقلالا ولااشتراكا فسترى حينئذٍ عاقبةَ طُغيانِكَ وقوله تعالى(9/179)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)
{أرأيتَ الَّذي يَنْهى عبْداً إِذَا صلى} تقبيحٌ وتشنيعٌ لحالهِ وتعجيبٌ منهَا وإيذانٌ بأنَّها منَ الشناعةِ والغرابةِ بحيثُ يجبُ أنْ يَراهَا كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ ويقضي منهَا العجبَ
رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ قالَ في ملأٍ من طُغاةِ قريشٍ لئِنْ رأيتُ محمداً يُصلي لأطأنَّ عنقَهُ فرآهُ عليهِ السَّلامُ في الصَّلاةِ فجاءَهُ ثُمَّ نكصَ على عقبيه فقالوا مالك قال إن بيني وبينهُ لخندقاً منْ نارٍ وهولاً وأجنحةً فنزلتْ ولفظُ العبدِ وتنكيرُه لتفخيمِه عليهِ السَّلامُ واستعظامِ النَّهي وتأكيدِ التعجبِ منْهُ والرؤيةُ هَهُنا بصريةٌ وأمَّا ما في قولِه تعالى(9/179)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)
{أرأيت إن كان على الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى} ومَا في قوله تعالى(9/179)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
{أرأيت إِن كَذَّبَ وتولى} فقلبيةٌ معناهُ أخبرني فإنَّ الرؤيةَ لما كانت سبباً للإخبارِ عنِ المَرئي أجرى الاستفهامُ عنْهَا مجرى الاستخبارِ عنْ متعلَّقها والخطابُ لكلِّ منْ صلُحَ للخطابِ ونظمُ الأمرِ والتكذيبِ والتولِّي في سلكِ الشرط المتردد بين الوقوع وعدمه ليس ليسَ باعتبارِ نفسَ الأفعالِ المذكورةِ منْ حيثُ صدورُها عن الفاعلِ فإنَّ ذلكَ ليسَ في حيزِ الترددِ أصلاً بلْ باعتبارِ أوصافها التي هِيَ كونُها أمراً بالتقوى وتكذيباً وتولياً كَمَا في قوله تعالى {قل أرأيتم إن كان مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} كَمَا مرَّ والمفعولُ الأولُ لأرأيتَ محذوفٌ وهو ضميرٌ يعودُ إلى الموصولِ أو اسمُ إشارةِ يُشارُ بهِ إليهِ ومفعولُه الثاني سدَّ مسدَّهُ الجملةُ الشرطيةُ بجوابها المحذوفِ فإنَّ المفعولَ الثاني لأرأيتَ لا يكونُ إلا جملةً استفهاميةً أو قسميةً والمعَنى أخبرني ذلك الناهي إن كان على الهدى فيمَا ينهي عَنْهُ منْ عبادةِ الله تعالى أوْ آمراً بالتَّقوى فيمَا يأمرُ بهِ من عبادةِ الأوثانِ كما يعتقدُه أوْ مكذباً للحق معرضا عن الصوب كما نقول نحن(9/179)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)
{ألم يعلم بأن الله يرى} أيْ يطلعُ على أحواله فيجازيه(9/179)
96 سورة العلق آية (15 18) بِهَا حتَّى اجترأ على ما فعلَ وإنَّما أفردَ التكذيبَ والتولِّي بشرطيةٍ مستقلةٍ مقرونةٍ بالجوابِ مصدرةٍ باستخبارٍ مستأنفِ ولم ينظمَا في سلكِ الشرطِ الأولِ بعطفهما على كانَ للإيذانِ باستقلالهما بالوقوعِ في نفسِ الأمرِ واستتباعِ الوعيدِ الذي ينطقُ بهِ الجوابُ وأما القسمُ الأولُ فأمرٌ مستحيلٌ قد ذكر في حيزالشرط لتوسيعِ الدائرةِ وهو السرُّ في تجريدِ الشرطيةِ الأولى عنِ الجوابِ والإحالةِ بهِ على جوابِ الثانيةِ هَذا وقد قيلَ أرأيتَ الأولُ بمعنى أخبرني مفعولُه الأولُ الموصولُ ومفعولُه الثاني الشرطيةُ الأولى بجوابها المحذوفِ لدلالةِ جوابِ الشرطيةِ الثانيةِ عليه وأرأيتَ في الموضعينِ تكريرٌ للتأكيدِ ومعناهُ أخبرني عمَّنْ ينهى بعضَ عبادِ الله عن صلاته إنْ كانَ ذلكَ النَّاهي علَى طريقةٍ سديدةِ فيما ينهى عنْ عبادةِ الله تعالى أوْ كانَ آمراً بالمعروفِ والتَّقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده وكذلكَ إنْ كانَ على التكذيبِ للحقِّ والتولِّي عنِ الدينِ الصحيح كما نقولُ نحن {ألم يعلم بأن الله يرى} ويطلعُ على أحوالِه منْ هُداهُ وضلالهِ فيجازيَهُ عَلى حسبِ ذلكَ فتأملْ وقيلَ المَعْنى أرأيتَ الَّذي يَنْهى عبْداً يُصلي والمُنهيُّ عنِ الهُدى آمرٌ بالتقوى والناهي مكذب متول فما أعجبَ من ذَا وقيلَ الخطابُ الثاني للكافرِ فإنَّه تعالَى كالحاكمِ الذي حضَرهُ الخصمانِ يخاطبُ هذا مرةً والآخرَ أُخرى وكأنَّه قالَ يا كافرُ أخبرني إنْ كانَ صلاتُه هُدى ودُعاؤُه إلى الله تعالى أمراً بالتَّقوى أتنهاهُ وقيلَ هُو أُميةُ بنُ خلفٍ كانَ ينْهى سلمانَ عنِ الصَّلاةِ(9/180)
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)
{كَلاَّ} ردعٌ للناهي اللعينِ وخسوءٌ لَهُ واللامُ في قولِه تعالَى {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ} موطئةٌ للقسمِ أي والله لئِن لَمْ ينتِه عَمَّا هُو عليهِ ولمْ ينزجرْ {لَنَسْفَعاً بالناصية} لنأخذنَّ بناصيتهِ ولنسحبنّهُ بِهَا إلى النَّارِ والسفعُ القبضُ على الشيءِ وجذبُه بعنفٍ وشدةٍ وقُرِىءَ لنسفعنَّ بالنونِ المشددةِ وقُرِىءَ لأسفعنَّ وكتبتهُ في المصحفِ بالألفِ عَلى حكمِ الوقفِ والاكتفاءُ بلامِ العهدِ عنِ الإضافةِ لظهورِ أنَّ المرادَ ناصيةُ المذكورِ(9/180)
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)
{نَاصِيَةٍ كاذبة خَاطِئَةٍ} بدلٌ منَ الناصيةِ وإنَّما جازَ إبدالُها منَ المعرفةِ وهي نكرةٌ لوصفِها وقُرئَتْ بالرفعِ على هِيَ ناصيةٌ وبالنصبِ وكلاهُما على الذمِّ والشتمِ ووصفُها بالكذبِ والخطإِ على الإسنادِ المجازيِّ وهُمَا لصاحبها وفيه من الجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب المخطىء(9/180)
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)
{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أيْ أهلَ ناديهِ ليعينوهُ وهُو المجلسُ الَّذي ينتدي فيه القومُ أي يجتمعونَ
رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ مرَّ برسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم وهُو يُصلي فقالَ ألم أنهكَ فأغلظَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ أتهددني وأنا أكثرُ أهلِ الوادي نادياً فنزلتْ(9/180)
سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)
{سَنَدْعُ الزبانية} ليجروه إلى النار والزبانية(9/180)
96 سورة العلق آية (19) الشرطُ الواحدُ زبْنيةٌ كعفريةٍ من الزِّبنِ وهُوَ الدَّفعْ وقيلَ زَبَنِي وكأنَّه نسبَ إلى الزبنِ ثُمَّ غير كأمْسى وأصلُها زَبَاني فقيلَ زبانيةٌ بتعويضِ التاءِ عن الياءِ والمرادُ ملائكةُ العذابِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لَوْ دَعا ناديه لأخذتْهُ الزبانيةُ عياناً(9/181)
كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
{كَلاَّ} ردعٌ بعدَ ردعٍ وزجرٌ إثرَ زجرٍ {لاَ تُطِعْهُ} أيْ دُم عَلى ما أنت عليه من معاصاتِه {واسجد} وواظبْ عَلى سجودِكَ وصلاتك غيرَ مكترثٍ بِه {واقترب} وتقربْ بذلك إلى ربِّكَ وفي الحديثِ أقربُ ما يكونُ العبدُ إلى ربِّه إذَا سجدَ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ العلقِ أُعطيَ منَ الأجرِ كأنَّما قرأالمفصل كله(9/181)
سسورة القدر سورة مكية مختلف فيها وآيها خمس
بسم الله الرحمن الرحيم(9/182)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
{إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر} تنويهٌ بشأنِ القرآنِ الكريمِ وإجلالٌ لمحلِه بإضمارِهِ المُؤذنِ بغايةِ نباهتِهِ المغنيةِ عن التصريحِ بهِ كأنهُ حاضرٌ فِي جميعِ الأذهانِ وبإسنادِ إنزالِه إلى نونِ العظمة المنبئ عنْ كمالِ العنايةِ بهِ وتفخيمُ وقتِ إنزالِه بقولِه تعالى(9/182)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2)
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر} لما فيهِ منَ الدلالةِ عَلى أنَّ علوِّ قدرِها خارجٌ عنْ دائرةِ درايةِ الخَلْقِ لا يدريَها وَلاَ يدريَها إلاَّ علاَّمُ الغيوبِ كمَا يُشعر بهِ قولُه تعالَى(9/182)
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
{لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فإنهُ بيانٌ إجماليٌّ لشأنها إثرَ تشويقهِ عليهِ السلامُ إلى درايتها فإنَّ ذلكَ معربٌ عنِ الوعدِ بإدرائها وقدْ مرَّ بيانُ كيفيةِ إعرابِ الجملتينِ وفي إظهارِ ليلةِ القدرِ في الموضعينِ منْ تأكيدِ التفخيم مالا يخفى والمرادُ بإنزالِه فيها إمَّا إنزالُ كُلِّه إلى السماءِ الدُّنيا كَما رُوي أنَّه أُنزل جملةً واحدةً في ليلةِ القدرِ من اللوحِ المحفوظِ إلى السماءِ الدُّنيا وأملاهُ جبريلَ عليهِ السَّلامُ على السَفَرة ثُمَّ كانَ ينزلهُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم نُجوماً في ثلاثٍ وعشرينَ سنةً وإمَّا ابتداءُ إنزالِه فيها كما نُقلَ عن الشَّعبيِّ وقيلَ المَعْنى أنزلناهُ في شأنِ ليلةِ القدرِ وفضلِها كَما في قولِ عمر رضي الله عنه خشيتُ أن ينزلَ فيَّ قرآن وقولِ عائشةَ رضيَ الله عنها لأنَا أحقرُ في نفسي منْ أن ينزلَ فيَّ قرآن فالأنسبُ أن يجعلَ الضميرُ حينئذٍ للسورةِ التي هيَ جزءٌ من القرآنِ لا للكُلِّ واختلفوا في وقتها فأكثرهم على أنها في شهرِ رمضانَ في العشرِ الأواخرِ في أوتارِها وأكثرُ الأقوالِ أنها السابعةُ منها ولعلَّ السرِّ في إخفائها تعريضُ منْ يريدُها للثوابِ الكثير بإحياءِ الليالي الكثيرةِ رجاءً لموافقتها وتسميتُها بذلكَ إمَّا لتقدير الأمورِ وقضائها فيها لقولِه تعالى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أو لخطرها وشرفها على سائرِ الليالي وتخصيصُ الألفِ بالذكرِ إمَّا للتكثيرِ أوْ لمَا روي أنه صلى الله عليه وسلم ذكرَ رجلاً من بني إسرائيلَ لبسَ السلاحَ في سبيلِ الله ألفَ شهرٍ فعجبَ المؤمنونَ منه وتقاصرتْ إليهم أعمالهم فأعطوا ليلةً هيَ خير منْ مدةِ ذلكَ الغازي وقيلَ إنَّ رجل فيما مَضَى مَا كانَ يقالُ لَهُ عابدٌ حَتَّى يعبدَ الله تعالى ألفَ شهر فأعطوا(9/182)
97 سورة القدر آية (4 5) ليلةً إنْ أحيوْها كانُوا أحقَّ بأن يُسمَّوا عابدينَ من أولئكَ العبادِ وقيلَ أري النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أعمارَ الأممِ كافةً فاستقصرَ أعمار أمنه فخافَ أنْ لا يبلغوا من العملِ مثلَ ما بلغَ غيرهم في طولِ العمرِ فأعطاهُ الله ليلةَ القدرِ وجعلها خيراً منْ ألفِ شهرٍ لسائرِ الأممِ وقيلَ كانَ ملكُ سليمانَ خمسمائةَ شهرٍ وملكُ ذي القرنينِ خمسمائةَ شهرٍ فجعلَ الله تعالَى العملَ في هذهِ الليلةِ لمنْ أدركها خيراً منْ مُلكِهِمَا وقولُه تعالَى(9/183)
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
{تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} استئنافٌ مبينٌ لمناطِ فضلِها على تلكَ المدةِ المتطاولةِ وقد سبقَ في سورةِ النبأ ما قيلَ في شَأنِ الروحِ عَلى التفصيلِ وقيلَ هم خلقٌ منَ الملائكةِ لا يراهُم الملائكةُ إلا تلكَ الليلةَ أيْ تتنزل الملائكةُ والروحُ في تلكَ الليلةِ منْ كُلِّ سماءٍ إلى الأرضِ أوْ إلى السماءِ الدُّنيا {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} متعلقٌ بتنزلُ أوْ بمحذوفٍ هُو حالٌ من فاعلِه أيْ ملتبسينَ بِإِذْنِ رَبّهِمْ أيْ بأمرِه {مّن كُلّ أَمْرٍ} أي من أجلِ كُلِّ أمرٍ قضاهُ الله عزَّ وجلَّ لتلكَ السنةِ إلى قابلِ كقولِه تعالَى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حكيم وقرئ من كل امرئ أي من أجل كل إنسانٍ قيلَ لا يلقونَ فيها مؤمنا ولا مؤمنةً إلا سلمُوا عليهِ(9/183)
سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
{سلام هِىَ} أيْ مَا هيَ إلا سلامةٌ أيْ لا يقدرُ الله تعالى فيها إلا السلامةَ والخيرَ وأمَّا في غيرِها فيقضي سلامةً وبلاءً أوْ ما هيَ إلا سلامٌ لكثرةِ ما يسلمونَ فيها على المؤمنينَ {حتى مَطْلَعِ الفجر} أيْ وقت طلوعه وقرئ بالكسرِ على أنهُ مصدرٌ كالمرجعِ أو اسمُ زمانٍ على غيرِ قياسٍ كالمشرِقِ وحتَّى متعلقةٌ بتنزلُ على أنها غايةٌ لحكمِ التنزلِ أي لمكثِهمْ في محلِ تنزلِهم أو لنفسِ تنزلهم بأنْ لا ينقطعَ تنزلُهم فوجاً بعدَ فوجٍ إلى طلوعِ الفجرِ وقيلَ متعلقةٌ بسلامٍ بناءً على أنَّ الفصلَ بين المصدرِ ومعمولِه بالمبتدأ مغتفرٌ في الجارِّ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم من قرأسورة القدرِ أعطي من الأجرِ كَمَنْ صامَ رمضانَ وأَحْيَا ليلة القدر(9/183)
سورة البينة مدنية مختلف فيها وآيها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم(9/184)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
{لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مّنْ أَهْلِ الكتاب} أي اليهودُ والنَّصارَى وإيرادُهم بذلكَ العنوانِ للإشعارِ بعلةِ ما نُسبَ إليهمْ من الوعدِ باتباعِ الحقِّ فإنَّ مناطَ ذلكَ وجدانُهم لَهُ في كتابِهم وَإِيرادُ الصلةِ فعلاً لما أنَّ كُفرهم حادثٌ بعدَ أنبيائِهم {والمشركين} أيْ عبدة الأصنام وقرئ وَالمشركونَ عطفاً على الموصولِ {مُنفَكّينَ} أي عمَّا كانُوا عليهِ من الوعدِ باتباعِ الحقِّ والإيمانِ بالرسولِ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ والعزمِ على إنجازِه وهَذَا الوعدُ من أهلِ الكتابِ مما لا ريبَ فيه حَتَّى إنَّهم كانُوا يستفتحونَ ويقولونَ اللهمَّ افتحْ علينَا وانصرنا بالنبيِّ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ ويقولونَ لأعدائِهم منَ المشركينَ قد أظلَّ زمانُ نبيَ يخرجُ بتصديقِ ما قلنَا فنقتلُكُم مَعَهُ قتلَ عادٍ وإرمَ وأما منَ المشركينَ فلعلَّهُ قدْ وقعَ من متأخريهمْ بعدَ مَا شَاعَ ذلكَ من أهلِ الكتابِ واعتقدوا صحتَهُ بَمَا شاهدُوا من نصرتهم على أسلافم كما يشهدُ به أنهم كانوا يسألونهم عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم هلْ هُوَ المذكورُ في كتابِهم وكانوا يغرونَهُم بتغييرِ نعوتِه عليهِ السَّلامُ وانفكاكُ الشيء عن الشيءِ أنْ يزايَلَهُ بعدَ التحامِه كالعظمِ إذا انفكَّ من مفصلِه وفيهِ إشارةٌ إلى كمالِ وكادةِ وعدِهم أيْ لم يكُونوا مفارقينَ للوعدِ المذكورِ بلْ كانُوا مجمعينَ عليهِ عازمينَ على إنجازِه {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} التي كانُوا قد جعلوا إتيانها ميقاتاً لاجتماعِ الكلمةِ والاتفاقِ عَلى الحقِّ فجعلوه ميقاتاً للانفكاكِ والافتراقِ وإخلافِ الوعدِ والتعبيرُ عن إتيانِها بصيغةِ المضارعِ باعتبارِ حالِ المحكيِّ لا باعتبارِ حالِ الحكايةِ كما في قولِه تعالَى {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} أي تلتْ وقولُه تعالى(9/184)
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)
{رَّسُولٍ} بدلٌ منَ البينةِ عبرَ عنه عليهِ السَّلامُ بالبينة للإيدان بغاية ظهورِ أمرِهِ وكونِه ذلكَ الموعودَ في الكتابينِ وقولُه تعالى {مِنَ الله} متعلق بمضمر هو صفة لرسولٍ مؤكِّدٌ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي رسولٌ وأيُّ رسولٍ كائنٌ منْهُ تعالى وقولُه تعالى {يَتْلُو} صفةٌ أخرى له أو حالٌ من الضمير في متعلق الجارِّ {صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} أيْ منزهةً عنِ الباطلِ لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا من خلفه أو من أنْ يمسَّهُ غيرُ المطهرينَ ونسبةُ تلاوتِها إليه عليه(9/184)
سورة البينة آية (3 5) السلامُ منْ حيثُ إنَّ تلاوةَ مَا فيها بمنزلةِ تلاوتِها وقولُه تعالى(9/185)
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)
{فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ} صفةٌ لصحفاً أوْ حالٌ منْ ضميرها في مطهرةٍ ويجوزُ أنْ يكونَ الصفةُ أو الحالُ الجارَّ والمجرورَ فَقَطْ وكتبٌ مرتفعاً بِه على الفاعليَّةِ ومَعْنى قيمةٌ مستقيمةٌ ناطقةٌ بالحقِّ والصوابِ
وقولُه تعالَى(9/185)
وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
{وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} إلخ كلامٌ مسوقٌ لغايةِ تشنيعِ أهلِ الكتابِ خاصَّةٌ وتغليظِ جناياتِهم ببيانِ أنَّ ما نسبَ إليهمْ من الانفكاكِ لم يكُنْ لاشتباهٍ مَا في الأمرِ بلْ كانَ بعدَ وضوحِ الحقِّ وتبينِ الحالِ وانقطاعِ الأعذار بالكليةِ وهُوَ السرُّ في وصفِهم بإيتاءِ الكتابِ المنبئ عن كمالِ تمكنِهم منْ مطالعتِه والإحاطةِ بَما فِي تضاعيفِه من الأحكامِ والأخبارِ التي مِنْ جُملتِها نعوتُ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بعدَ ذكِرَهم فيما سبقَ بما هُوَ جارٍ مَجْرَى اسمِ الجنسِ للطائفتينِ ولَمَّا كانَ هؤلاءِ وَالمشركونَ باعتبارِ اتفاقِهم عَلَى الرأي المذكورِ في حكمِ فريقٍ واحدٍ عبرَ عَمَّا صدرَ عنهمْ عقيبَ الاتفاقِ عندِ الإخبارِ بوقوعِه بالانفكاكِ وعندَ بيانِ كيفية وقوعه بالتفرق اعتبارا لاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذاناً بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي أخر بل بطريق الاختلاف القديم وقولُه تعالى {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} استثناءٌ مفرغٌ منْ أعمِّ الأوقاتِ أيْ وما تفرقُوا في وقتٍ منَ الأوقاتِ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الحجةُ الواضحةُ الدالَّةُ على أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو الموعودُ في كتابِهم دلالةً جليةً لا ريبَ فيَها كقولِه تعالى {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم وقولُه تعالى(9/185)
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
{وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} جملةُ حاليةٌ مفيدةٌ لغايةِ قبحِ ما فعلُوا أيْ والحالُ أنَّهم ما أُمروا في كتابِهم إلا لأجلِ أنْ يعبدُوا الله وقيلَ اللامُ بمَعْنى أنْ أي إلا بأنْ يعبدُوا الله ويعضدُه قراءةُ إلا أنْ يعبدُوا الله {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي جاعلينَ دينَهُم خَالِصاً له تعالَى أو جاعلينَ أنفسَهُم خالِصةً لَهُ تعالَى في الدِّينِ {حُنَفَاء} مائلينَ عن جميعِ العقائدِ الزائغةِ إلى الإسلامِ {ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة} إنْ أُريدَ بهما ما في شريعتِهم من الصَّلاةِ والزَّكاةِ فالأمرُ ظاهرٌ وإنْ أُريدَ ما في شريعتِنا فمَعْنى أمرِهم بهما في الكتابينِ أنَّ أمرَهُم باتباعِ شريعتِنا أمرٌ لهم بجميعِ أحكامِها التي هُمَا من جُملتها {وَذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من عبادةِ الله تعالى وبالإخلاص وإقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وما فيه من معنى البُعدِ للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعد منزلتِه {دِينُ القيمة} أي دينُ الملةِ القيمةِ وقرئ الدينُ القيمةُ على تأويلِ الدينِ بالملةِ هذا وقد قيلَ قولُه تعالى {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} إلى(9/185)
98 سورة البينة آية (6 7) قولِه {كتبٌ قيمةٌ} حكايةٌ لما كانُوا يقولونَهُ قبلَ مبعثِه عليهِ السَّلامُ من أنَّهم لا ينفكونَ عنْ دينِهم إلى مَبْعثِه ويعدون أنْ ينفكُّوا عنه حينئذٍ ويتفقوا على الحقِّ وقولُه تعالَى {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أوتوا الكتاب} الخ بيان لإخلافِهم الوعدَ وتعكيسِهم الأمرَ بجعلِهم ما هُو سببٌ لانفكاكِهم عن دينِهم الباطلِ حسبَما وعدُوه سبباً لثباتِهم عليهِ وعدمِ انفكاكِهم عنه ومثلُ ذلكَ بأنْ يقولَ الفقيرُ الفاسقُ لمن يعظهُ لا أنفكُّ عمَّا أنَا فيه حتَّى أستغني فيستغني فيزدادُ فسقاً فيقولَ له واعظُه لم تكنْ منفكَّاً عن الفسقِ حتى توسرَ وما عكفتَ على الفسقِ إلا بعدَ اليسارِ وأنت خبيرٌ بأنَّ هَذا إنَّما يتسنّى بعد اللَّتيا والتي على تقدير أن يرادَ بالتفرقِ تفرقُهم عن الحقِّ بأنْ يقال التفرقُ عن الحقِّ مستلزمٌ للثباتِ على الباطلِ فكأنَّه قيلَ وما أجمعُوا على دينِهم إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينةُ وأما على تقديرِ أنْ يرادَ به تفرقُهم فرقاً فمنُهم من آمنَ ومنُهم من أنكرَ ومنُهم من عرفَ وعاندَ كَمَا جوَّزه القائلُ فلا فتأملْ(9/186)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِى نَارِ جَهَنَّمَ} بيانٌ لحالِ الفريقينِ في الآخرةِ بعد بيانِ حالِهم في الدُّنيا وذَكَرَ المشركينَ لئلاَّ يتوهَم اختصاصُ الحكمِ بأهلِ الكتابِ حسبَ اختصاصِ مشاهدةِ شواهدِ النبوةِ في الكتابِ بهم ومَعْنى كونِهم فيها أنَّهم يصيرون إليها يومَ القيامةِ وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للإيذان بتحقق مضمونِها لا محالةَ أو أنَّهم فيها الآنَ إما على تنزيل ملابستِهم لما يوجبُها منزلَة ملابستِهم لها وإما عَلى أنَّ ما هُم فيه من الكفر والمعاصي عينُ النارِ إلا أنَّها ظهرتْ في هذهِ النشأةِ بصور عَرَضيةٍ وستخلعُها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقة كما مر في قوله تعالى {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} في سورة الأعرافِ {خالدين فِيهَا} حالٌ من المستكنِّ في الخبرِ واشتراكُ الفريقينِ في دخولِ دارِ العذابِ بطريقِ الخُلودِ لا يُنافِي تفاوتَ عذابِهم في الكيفيةِ فإنَّ جهنَم دركاتٌ وعذابَها ألوانٌ {أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتصافِهم بما هُم فيه من القبائحِ المذكورة وما فيه من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ بغايةِ بُعدِ منزلتِهم في الشرِّ أي أولئكَ البعداءُ المذكورونَ {هُمْ شَرُّ البرية} شرُّ الخليقةِ أي أعمالاً وهو الموافقُ لما سيأتِي في حقِّ المؤمنينَ فيكونُ في حيزِ التعليلِ لخلودِهم في النارِ أو شرُّهم مقاماً ومصيراً فيكونَ تأكيداً لفظاعةِ حالهم وقرئ بالهمزة على الأصل(9/186)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
{إن الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بيانٌ لمحاسن أحوالِ المُؤمنين إثرَ بيانُ سوءِ حالِ الكفرةِ جرياً على السنةِ القرآنيةِ من شفعِ الترهيبِ بالترغيبِ {أولئك} المنعوتونَ بَما هُو في القاصيةِ من الشرفِ والفضيلةِ من الإيمان والطاعة {هُمْ خير البرية} وقرئ خيارُ البريةِ وهو جمعُ خيِّر نحوٌ جيدٌ وجيادٌ(9/186)
98 سورة البينة آية (8)(9/187)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
{جَزَآؤُهُمْ} بمقابلةِ ما لهُم من الإيمانِ والطاعةِ {عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} إن أُريد بالجنَّاتِ الأشجارُ الملتفةُ الأغصانِ كمَا هو الظاهرُ فجريانُ الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ وإنْ أُريد بها مجموعُ الأرضِ ومَا عليها فهُو باعتبارِ الجزءِ الظاهرِ وأيا ما كان فالمرادُ جريانُها بغيرِ أخدودٍ {خالدين فيها أبدا} متنعمين بفنونِ النعمِ الجُسمانيةِ والروحانيةِ وفي تقديمِ مدحِهم بخيرية وذكرِ الجزاءِ المؤذنِ بكونِ ما مُنحوهُ في مقابلةِ ما وُصفوا بهِ وبيان كونُه من عندِه تعالَى والتعّرضُ لعنوان الربوبيةِ المنبئة عن التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرِهم وجمعِ الجنَّاتِ وتقييدِها بالإضافةِ وبما يزيدُها نعيماً وتأكيد الخلودِ بالأبودِ من الدلالةِ على غايةِ حُسنِ حالِهم مالا يَخْفى {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} استئنافٌ مبينٌ لما يتفضلُ عليهم زيادةً على ما ذُكرَ من أجزيةِ أعمالِهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} حيثُ بلغُوا من المطالبِ قاصيتَها وملكُوا من المآربِ ناصيتَها وأُتيحَ لهم مالا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلبِ بشرٍ {ذلك} أيْ ما ذكرمن الجزاءِ والرضوانِ {لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} فإنَّ الخشيةَ التي هيَ من خصائصِ العلماءِ بشؤون الله عز وجل مناطٌ لجميعِ الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ المستتبعةِ للسعادةِ الدينيةِ والدنيويةِ والتعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ المُعربةِ عن المالكيةِ والتربيةِ للإشعارِ بعلَّةِ الخشيةِ والتحذيرِ من الاغترارِ بالتربيةِ
عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ البينة لم يكن كانَ يومَ القيامةِ مع خيرِ البريةِ مساءً ومَقيلاً(9/187)
سورة الزلزلة مدنية مختلف فيها وآيها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم(9/188)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض} أَيْ حُرِّكتْ تحريكاً عنيفاً مُتكرراً متداركا أي الزلزالُ المخصوصُ بَها على مقتضى المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم البالغة وهُو الزلزالُ الشديدُ الذي لا غايةَ وراءَه أو زلزالُها العجيبُ الذي لا يُقَادرُ قدرُهُ أو زلزالُها الداخلُ في حيزِ الإمكانِ وقرئ بفتح بفتح الزاء وهو اسمٌ وليسَ في الأبنيةِ فعلالٌ بالفتحِ إلا في المضاعف وقولهم ناقة خَزْعَالٌ نادرٌ وقَدْ قيلَ الزلزالُ بالفتحِ أيضاً مصدرٌ كالوَسواسِ والجرَجارِ والقَلقالِ وذلكَ عندَ النفخةِ الثانيةِ لقولِه عزَّ وجلَّ(9/188)
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)
{وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} أي ما في جوفها من الأمواتِ والدفائنِ جمعُ ثَقَلٍ وهُو متاعُ البيتِ وإظهارُ الأرضِ في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التقريرِ أوْ للإيماءِ إلى تُبَدَّلُ الأرضِ غَيْرَ الأرضِ أو لأنَّ إخراجَ الأثقالِ حالُ بعضِ أجزائِها(9/188)
وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)
{وَقَالَ الإنسان} أيْ كُلُّ فردٍ من أفرادِه لما يَدهمُهْم منَ الطامَّةِ التامَّةِ ويبهرهُم مِنَ الدَّاهيةِ العامَّةِ {مَا لَهَا} زُلزلتْ هذهِ المرتبةَ الشديدةَ منَ الزلزالِ وأخرجتْ ما فيَها منَ الأثقالِ استعظاماً لما شاهدُوه منَ الأمرِ الهائلِ وقد سيرتِ الجبالُ في الجَوِّ وصيرتْ هباءً وقيلَ هُو قول الكافر إذا لمْ يكُنْ مؤمناً بالبعثِ والأظهرُ هُو الأولُ عَلى أنَّ المؤمنَ يقولُه بطريقِ الاستعظامُ والكافرُ بطريق التعجبِ(9/188)
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)
{يومئذ} بدل من إذا وقولُه تعالَى {تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا} عَامِلٌ فيهمَا ويجوزُ أن يكونَ إذَا منتصباً بمضمرٍ أيْ يومُ إذْ زلزلتْ الأرضُ تحدثُ الخلقَ أخبارِها إمَّا بلسانِ الحالِ حيثُ تدلُّ دلالةً ظاهرةً على ما لأجلِه زلزالُها وإخراجُ أثقالِها وإما بلسانِ المقالِ حيثُ يُنطقها الله تعالَى فتخبرُ بما عُمِلَ عليَها منْ خيرٍ وشرَ ورُوِيَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنها تشهدُ على كُلِّ أحدٍ بما عَمِلَ عَلى(9/188)
99 سورة الزلزلة آية (5 8) ظهرها وقرئ تنبي أخبارها وقرئ منَ الإنباءِ(9/189)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)
{بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} أي تحدثُ أخبارَهَا بسببِ إيحاءِ ربِّكَ لَها وَأمْرِهِ إيَّاهَا بالتَّحديثِ عَلَى أَحَدِ الوجهينِ وَيَجُوزُ أَنْ يكُونَ بَدَلاً مِنْ أَخْبَارِهَا كَأنَّه قيلَ تحدثُ بأخبارِهَا بأَنَّ ربَّكَ أوحى لأَنَّ التحديثَ يستعمل بالباء وبدونها وأَوْحَى لَها بمعنى أَوْحَى إليَها(9/189)
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
{يومئذ} أي يوم إذ يقعُ ما ذُكِرَ {يَصْدُرُ الناس} من قبورِهم إلى موقفِ الحسابِ {أَشْتَاتاً} متفرقينَ بحسبِ طبقاتِهم بيضِ الوجوهِ آمنينَ وسودِ الوجوهِ فزعينَ كما مر في قوله تعالَى {فتأتونَ أفواجاٍ} وقيلَ يصدرُون عن الموقفِ أشتاتاً ذات اليمين إلى الجنة وذاتَ الشمالِ إلى النارِ {لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} أي أجزيةَ أعمالِهم خيراً كانَ أَوْ شراً وقرئ ليَروا بالفتحِ وقولُه تعالَى(9/189)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} تفصيل ليروا وقرئ يُرَه والذرةُ النملةُ الصغيرةُ وَقيلَ ما يُرى في شعاعِ الشَّمسِ منَ الهباءِ وَأياً مَا كان فمَعنى رؤية ما يعادلُها منْ خيرٍ وشرَ إما مشاهدةُ جزائِه فَمَنِ الأُولى مختصةٌ بالسُّعداءِ والثانيةُ بالأشقياءِ كيفَ لا وحسناتُ الكافرِ محبطةٌ بالكفرِ وسيئاتُ المؤمنِ المجتنبِ عن الكبائرِ معفوةٌ وما قيلَ مِنْ أن حسنةَ الكافرِ تؤثرُ في نقصِ العقابِ يردُّه قولُه تعالَى {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} وأما مشاهدةُ نفسِه من غيرِ أنْ يعتبرَ مَعَهُ الجزاءُ ولاَ عدمُه بلْ يفوضُ كلٌّ منَهما إلى سائرِ الدلائلِ الناطقةِ بعفوِ صغائرِ المؤمنِ المجتنبِ عنِ الكبائرِ وإثابتِه بجميعِ حسناتِه وبحبوطِ حسناتِ الكافرِ ومعاقبتِه بجميعِ معاصيهِ فالمَعْنى ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما ليس منْ مؤمنٍ وَلاَ كافرٍ عملَ خيراً أو شراً إلا أراهُ الله تعالَى إيَّاهُ أما المؤمنُ فيغفرُ له سيئاتِه ويثيبُه بحسناتِه وأما الكافِرُ فيردُّ حسناتِه تحسراً ويعاقبُه بسيئاتِه
عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الزلزلة أربعَ مراتٍ كانَ كمَنْ قرأَ القرآنَ كُلَّه والله أعلم(9/189)
سورة العاديات مكية مختلف فيها وآيها إحدى عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم(9/190)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)
{والعاديات} أقسمَ سبحانَهُ بخيلِ الغُزاةِ التي تعدُو نحوَ العدوِّ وقولُه تعالَى {ضَبْحاً} مصدر منصور إما بفعلِه المحذوفِ الواقعِ حالاً منَها أي تضبحُ ضبحا وهو صوت أنفسها عندَ عدوها أوْ بالعادياتِ فإن العدوَ مستلزمٌ للضبحِ كأنَّه قيلَ والضابحاتِ أو حالٌ على أنَّه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ أيْ ضابحاتٌ(9/190)
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)
{فالموريات قَدْحاً} الإيراءُ إخراجُ النَّارِ والقدحُ الصَّكُّ يقالَ قدح فأورى أي تُورِى النارَ منْ حوافرِها وانتصابُ قَدحاً كانتصابِ ضبحاً على الوجوهِ الثلاثةِ(9/190)
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)
{فالمغيرات} أسند الإغارةَ التي هيَ مباغتةُ العدوِّ للنهبِ أو للقتلِ أو للأسرِ إليَها وهيَ حالُ أهلِها إيذانا بأنَّها العمدةُ في إغارتِهم {صُبْحاً} أي في وقتِ الصبحِ وهو المعتادُ في الغاراتِ يعدونَ ليلاً لئلا يشعرُ بهمْ العدوّ ويهجمونَ عليهم صباحاً ليَرَوا مَا يأتونَ ومَا يذرونَ وَقَولُه تعالَى(9/190)
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)
{فَأَثَرْنَ بِهِ} عطفٌ على الفعلِ الذي دلَّ عَلَيهِ اسمُ الفاعلِ إذِ المَعْنى واللاتِي عدونَ فأورينَ فأغرنَ فأثرنَ بهِ أيْ فهيجنَ بذلكَ الوقتِ {نَقْعاً} أيْ غُباراً وتخصيصُ إثارتِه بالصُّبحِ لأنَّه لا يثورُ أو لا يظهرُ ثورانُه بالليلِ وبهذا ظهرَ أنَّ الإيراءَ الذي لا يظهرُ في النهارِ واقعٌ في الليلِ ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وَقيلَ النقعُ الصياحُ والجَلَبةُ وقُرِىءَ فأثَّرنَ بالتشديدِ بمَعْنى فأظهرنَ بهِ غُباراً لأنَّ التأثيرَ فيهِ مَعْنى الإظْهارِ(9/190)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
{فَوَسَطْنَ بِهِ} أي توسطنَ بذلك الوقتِ أو توسطنَ ملتبساتٍ بالنقعِ {جَمْعاً} من جموعِ الأعداءِ والفاءاتُ للدلالةِ عَلَى ترتبِ ما بعدَ كُلَ مِنْها عَلى ما قبلَها كَما في قولِه ... يَا لهفَ زيّابةَ للحارثِ الله ... صابح فالغَانمِ فالآيبِ ...
فإنَّ توسطَ الجمعِ مترتبٌ عَلى الإثارةِ المترتبة(9/190)
} 00 سورة العاديات آية (6 11)
على الإيراءِ المترتبِ على العدوِ
وقولُه تعالَى(9/191)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
{إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ} أَيْ لكفورٌ مِنْ كندَ النعمةَ كنوداً جوابُ القسمِ والمرادُ بالإنسانِ بعضُ أفرادِه رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثَ إلى أناسٍ منْ بنِي كنانةَ سريةً واستعملَ عليَها المنذرَ بنَ عمروٍ الأنصاريو كان أحدَ النقباءِ فأبطأ عليهِ الصلاةُ والسلامُ خبرُهَا شهراً فقالَ المنافقونَ إنُهم قُتلوا فنزلتْ السورةُ إخباراً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بسلامتِها وبشارةً لهُ بإغارتِها على القومِ ونعياً على المُرجفينَ في حقِّهم مَا هُم فيهِ من الكنودِ وفي تخصيصِ خيلِ الغُزاةِ بالإقسامِ بَها منَ البراعةِ ما لا مزيدَ عليه كأنه قيلَ وخيلِ الغُزاةِ التي فعلتْ كيتَ وكيتَ وقد أرجفَ هؤلاءِ في حقِّ أربابِها ما أرجفُوا أنهم مبالغونَ في الكفرانِ(9/191)
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)
{وَإِنَّهُ على ذَلِكَ} أيْ وإنَّ الإنسانَ على كنودِه {لَشَهِيدٌ} يشهدُ عَلى نفسِه بالكنودِ لظهورِ أثرِه عليهِ(9/191)
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
{وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير} أي المالِ كمَا في قولِه تعالَى إنْ تركَ خيراً {لَشَدِيدٌ} أيْ قويٌ مطيقٌ مجدٌّ في طلبِه وتحصيلِه متهالكٌ عليهِ يقالُ هُوَ شديدٌ لهذا الأمرِ وقويٌّ لَهُ إذا كانَ مطيقاً لَهُ ضَابطاً وقيلَ الشديدُ البخيلُ أيْ إنَّه لأجلِ حُبِّ المالِ وثقلِ إنفاقِه عليهِ لبخيلٌ ممسكٌ ولعَلَّ وصفَهُ بهذا الوصفِ القبيحِ بعدَ وصفِه بالكنودِ للإيماءِ إلى أنَّ من جملةِ الأمورِ الداعيةِ للمنافقينَ إلى النفاقِ حبَّ المالِ لأنَّهم بما يظهرونَ من الإيمانِ يعصمونَ أموالَهُم ويحوزونَ من الغنائمِ نصيباً(9/191)
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)
وقولُه تعالَى {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى القبور} الخ تهديدٌ ووعيدٌ والهمزةُ للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيفعلُ ما يفعلُ من القبائحِ أو أَلا يلاحظُ فلا يعلمُ حالَهُ إذا بعثَ منْ فِي القبورِ من المَوْتى وإيرادُ ما لكونِهم إذْ ذاكَ بمعزل من رتبة العقلاء بُحْثرَ وبُحِثَ وبَحْثَر وبَحَثَ على بنائهم للفاعلِ(9/191)
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)
{وَحُصّلَ} أَيْ جمعَ محصلاً أوْ ميز خيرُه من شرِّهِ وقرىء وحَصَّلَ مبنياً للفاعلِ وحَصَلَ مخففاً {مَا فِى الصدور} منَ الأسرارِ الخفيةِ التي منْ جُملتِها ما يخفيه المنافقونَ من الكفرِ والمعاصِي فضلاً عن الأعمالِ الجليةِ(9/191)
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
{إِنَّ رَبَّهُم} أي المبعوثينَ كَنَّى عنْهُم بعدَ الإحياءِ الثاني بضمير العقلاء بعدما عبرَ عنهُمْ قبلَ ذلكَ بَما بناءً على تفاوتِهم في الحالينِ كما فعلَ نظيرَهُ بعد الإحياءِ الأولِ(9/191)
} 00 سورة العاديات آية (11) حيثُ التفتَ إلى الخطابِ في قوله تعالَى {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار} الأيةَ بعدَ قولِه ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ إيذاناً بصلاحيتِهم للخطابِ بعد نفخِ الروحِ وبعدمِها قبلَه كما أُشيرَ إليهِ هناكَ {بهم} بذاوتهم وصفاتِهم وأحوالِهم بتفاصيلِها {يَوْمَئِذٍ} يومَ إذْ يكونُ ما ذكرَ من بعثِ ما في القبورِ وتحصيلِ مَا فِي الصدورِ {لَّخَبِيرٌ} أيْ عالمٌ بظواهرِ ما عملُوا وبواطنِه علماً موجباً للجزاءِ متصلاً بهِ كما يُنبىء عنْهُ تقييدُه بذلكَ اليومِ وإلاَّ فمطلقُ علمِه سبحانَهُ محيطٌ بَما كانَ وما سيكونُ وقولُه تعالَى بِهم ويومئذَ متعلقانِ بخبيرٍ قدمَا عليه لمراعاة الفواصلِ واللامُ غيرُ مانعةٍ من ذلكَ وقرأ ابنُ السَّماكِ إنَّ ربهم بهم يومئذ لخبير عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة العاديات أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسناتٍ بعددِ منْ باتَ بمزدلفة وشهد جمعا
سورة القارعة مكية وآيها إحدى عشرة الآيات 1 3
بسم الله الرحمن الرحيم(9/192)
الْقَارِعَةُ (1)
{القارعة} القرعُ هو الضربُ بشدةٍ واعتمادٍ بحيثُ يحصلُ منهُ صوتٌ شديدٌ وَهيَ القيامةُ التي مبدؤُهَا النفخةُ الأُولى ومُنتهاهَا فصلُ القضاءِ بينَ الخلائقِ كما مرَّ في سورةِ التكويرِ سميتْ بَها لأنَّها تقرعُ القلوبَ والأسماعَ بفنونِ الأفزاعِ والأهوالِ وتُخْرِجُ جميعَ الأجرامِ العلويةِ والسفليةِ منْ حالٍ إلى حالٍ السماءَ بالانشقاقِ والانفطارِ والشمسَ والنجومَ بالتكويرِ والانكدارِ والانتشارِ والأرضَ بالزلزالِ والتبديلِ والجبالَ بالدكِّ والنسفِ وهيَ مبتدأ خبره قوله تعالى(9/192)
مَا الْقَارِعَةُ (2)
{مَا القارعة} على أنَّ ما الاستفهامية خبر والقارعة مبتدأٌ لا بالعكسِ لَما مر غير مرة أن محطَّ الفائدةِ هُوَ الخبرُ لا المبتدأُ ولا ريبَ في أنَّ مدارَ إفادةِ الهول والفخامة هاهنا هو كلمة مالا القارعة أَيُّ شيءٍ عجيبٍ هيَ في الفخامةِ والفظاعةِ وقد وضْعِ الظاهِرِ موضعَ الضَّميرِ تأكيداً للتهويل(9/192)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)
وقوله تعالى {وما أدراك مَا القارعة} تأكيد لهولِها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرةِ علومِ الخلقِ على معنى أن عظم شأنها بحيث لا تكاد(9/192)
} 01 سورة القارعة آية (4 6)
الآيات من 4 6 تنالُه درايةُ أحدٍ حَتَّى يدريكَ بَها وَمَا فِى حيزِ الرفعِ على الابتداءِ وأدراكَ هو الخبرُ وَلا سبيل إلى العكس هاهنا ومَا القارعةُ جملةٌ كما مَرَّ محلّها النصبُ على نزعِ الخافضِ لأنَّ أَدْرى يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله تعالَى وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فلما وقعتْ الجملةُ الاستفهاميةُ معلقة له كانت في مَوْقعِ المفعولِ الثانِي له والجملةُ الكبيرةُ معطوفةٌ على ما قبلها من الجملة الواقعةِ خبراً للمبتدأِ الأولِ أي وأي شيء أعلمك مَا شأنُ القارعةِ ولما كانَ هذَا منبئاً عن الوعدِ الكريمِ بإعلامِها أنجزَ ذلكَ بقولِه تعالَى(9/193)
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
{يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث} عَلى أنَّ يومَ مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف وحركته الفتح لإضافتِه إلى الفعلِ وإنْ كان مضارعا كما هو رأيُ الكوفيِّينَ أيْ هيَ يومٌ يكونُ الناسُ فيهِ كالفراشِ المبثوثِ في الكثرةِ والانتشارِ والضعفِ والذلةِ والاضطرابِ والتطايرِ إلى الداعِي كتطايرِ الفَراشِ إلى النارِ أو منصوبٌ بإضمار اذكُرْ كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعةِ وتشويقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى معرفتِها اذكُرْ يوم يكون الناس الخ فإنَّه يدريكَ ما هيَ هَذا وقد قيلَ إنه ظرفٌ ناصبُه مضمرٌ يدلُّ عليهِ القارعةُ أيْ تقرعُ يوم يكون الناس الخ وقيلَ تقديرُه ستأتيكُم القارعةُ يومَ يكونُ الخ(9/193)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
{وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} أي كالصوفِ الملونِ بالألوانِ المختلفةِ المندوفِ في تفرقِ أجزائِها وتطايرِها في الجوِّ حسبما نطق به قوله تعالى {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} وكِلا الأمرينِ من آثارِ القارعةِ بعد النَّفخةِ الثَّانيةِ عندَ حشرِ الخلقِ يُبدِّلُ الله عزَّ وجلَّ الأرض من غيرَ الأرضِ ويغيرُ هيئاتِها ويُسيِّر الجبالَ عن مقارِّهَا على ما ذكر من الهيئات الهائلةِ ليُشاهدَها أهلُ المحشرِ وهيَ وإنِ اندكتْ وتصدعتْ عندَ النَّفخةِ الأُولى لكنْ تسييرُها وتسويِةُ الأرضِ إنَّما يكونانِ بعد النَّفخةِ الثانيةِ كما ينطقُ به قوله تعالى {ويسألونك عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صفصفا لا ترى فيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى} وقولُه تعالى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} فإنَّ اتّباعَ الدَّاعِي الذي هُو إسرافيلُ عليهِ السَّلام وبروزُ الخلقِ لله سبحانَهُ لا يكونُ إلا بعدَ البعثِ قطعاً وقد مرَّ تمامُ الكلامِ في سورةِ النمل(9/193)
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6)
وقوله تعالى {فأما من ثَقُلَتْ موازينه} الخ بيانٌ إجماليٌّ لتحزبِ الناسِ إلى حزبينِ وتنبيهٌ على كيفيةِ الأحوالِ الخاصَّةِ بكلِّ منهُمَا إثرَ بيان الأحوالِ الشاملةِ للكُلِّ والموازينُ إمَّا جمعُ الموزونِ وهُوَ العملُ الذي لَهُ وزنٌ وخطرٌ عندَ الله كما قالَهُ الفَرَّاءُ أو جمعُ ميزانِ قالَ ابن عباس رضي الله عنهَما إنُّه ميزانٌ له لسانٌ وكِفتانِ لا يوزنُ فيهِ إلا الأعمالُ قالوا توضعُ فيه صحائفُ الأعمالِ فينظرُ إليهِ الخلائقُ إظهاراً(9/193)
} 01 سورة القارعة آية (7 11)
القارعة الآيات 7 0 11 للمعدلةِ وقطعاً للمعذرةِ وقيل الوزنُ عبارةٌ عن القضاءِ السويِّ والحُكمُ العادلُ وبهِ قال مجاهدٌ والأعمشُ والضحاكُ واختارَهُ كثيرٌ من المتأخرينَ قالوا إنَّ الميزانَ لا يتوصلُ بهِ إلا إِلى معرفةِ مقاديرِ الأجسامِ فكيفَ يمكنُ أن يعرفَ به مقاديرُ الأعمالِ التي هيَ أعراضُ منقضيةٌ وقيلَ إن الأعم الالظاهرة في هذِه النشأةِ بصورةٍ عرضيةٍ تبرُز في النشأة الآخرة بصورة جوهريةٍ مناسبةٍ لها في الحُسْنِ والقُبحِ وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه يُؤتى بالأعمال الصالحة على صورٍ حسنةٍ وبالأعمال السيئة على صورٍ قبيحةٍ فتوضعُ في الميزانِ أيْ فمَنْ ترجحتْ مقاديرُ حسناتِه(9/194)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)
{فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أي ذاتُ رِضا أو مرضيةٍ(9/194)
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8)
{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ موازينه} بأن لم يكن له حسنة يعتد بها أو ترجحت سيئاته على حسناته(9/194)
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)
{فَأُمُّهُ} أيْ فمأواهُ {هَاوِيَةٌ} هيَ من أسماءِ النارِ سميت بها لغايةِ عُمْقِها وبعدِ مَهْواها رُوىَ أنَّ أهلَ النارِ تهوِي فيها سبعينَ خريفاً وقيلَ إنها اسمٌ للبابِ الأسفلِ مِنْهَا وعبرَ عنِ المأْوى باللامِ لأَنَّ أهلَها يأوونَ إليَها كما يأوِي الولدُ إلى أمِه وعنْ قتادة وعكرمة والكلبي أنَّ المعنى فأُمُّ رأسِه هاويةٌ في قعرِ جهنَم لأنَّه يطرحُ فيهَا منكوساً والأوَّلُ هو الأوفقُ لقولهِ تعالى(9/194)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} {نَارٌ حَامِيَةٌ} فإنه تقريرٌ لهَا بعدَ إبهامِها والإشعارِ بخروجِها عنِ الحدودِ المعهودةِ للتفخيمِ والتهويلِ وهيَ ضميرُ الهاويةِ والهاءُ للسكتِ وإذَا وصلَ القارىءُ حذفَها وقيلَ حقُّه أنْ لا يُدرجَ لئلا يسقطَها الإدراجُ لأنها ثابتةٌ في المصحفِ وقد أجيز إثباتُها مع الوصلِ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة القارِعةَ ثَقَّلَ الله تعالَى بها ميزانه يوم القيامة(9/194)
} 02 سورة التكاثر مكية مختلف فيها وآيها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم(9/195)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1)
{ألهاكم التكاثر} أَىْ شغلكُم التغالبُ في الكثرةِ وَالتفاخرُ بَها رُوِىَ أنَّ بَنِي عبدِ مَنَافٍ وبَنِي سَهْمٍ تَفَاخرُوا وَتعادُّوا وَتكاثرُوا بالسَّادةِ والأشرافِ في الإسلامِ فقالَ كلٌّ منَ الفريقينِ نحنُ أكثرُ منكُم سيداً وأعزُّ عزيزاً وَأعظمُ نفراً فكثرَهُمْ بنُو عبدِ مَنَافٍ فَقَالَ بنُو سَهْمٍ إِنْ البغَي أفنانَا في الجَاهليةِ فعادُّونَا بِالأَحياءِ وَالأَمْواتِ فكثَرهُمْ بنُو سَهْمٍ وَالمَعنى أنكُم تكاثرتُمْ بالأَحياءِ(9/195)
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)
{حتى زُرْتُمُ المقابر} أيْ حَتَّى إذَا استوعبتُمْ عددهُم صرتم إلى التفاخم والتكاثرِ بالأمواتِ فعبرَ عنْ بلوغِهم ذكرَ المَوتى بزيارةِ القبورِ تهكُماً بِهمْ وقيلَ كَانُوا يزورونَ المقابَر فيقولونَ هَذَا قبرُ فُلانٍ وهَذا قبرُ فُلانٍ يفتخرونَ بذلكَ وقيلَ المَعْنى ألهاكُم التكاثُر بالأموالِ وَالأولادِ إلى أَنْ متمْ وقبرتمْ مضيعينَ أعمارَكُم في طلبِ الدُّنيا معرضينَ عَمَّا يهمكُم من السعي لأُخرَاكُم فتكونُ زيارةُ القبورِ عبارةً عنِ الموتِ وقُرِىءَ أألهاكُم عَلى الاستفهامِ التقريريِّ(9/195)
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3)
{كَلاَّ} رَدْعٌ وتنبيهٌ عَلَى أنّ العاقلَ ينبغي أنْ لا يكونَ معظمُ هَمِّه مقصُوراً عَلى الدُّنيا فإنَّ عاقبةَ ذلكَ وخَيمةٌ {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} سوءَ مغبةِ مَا أنتُم عليهِ إذَا عاينتُمْ عاقبَتهُ(9/195)
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
{ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تكريرٌ للتأكيدِ وثمَّ للدَّلالة عَلَى أنَّ الثَّانِي أبلغُ منَ الأولِ أوِ الأولُ عندَ الموتِ أو في القبرِ والثَّانِي عندَ النشورِ(9/195)
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)
{كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} أَيْ لَوْ تعلمونَ ما بينَ أيديكُم علَم الأمرِ اليقينِ أيْ كعلمكِم ما تستيقنونَهُ لفعلتُم ما لاَ يُوصفُ ولاَ يكتنهُ فحذفَ الجوابَ للتهويلِ
وقولُه تعالَى(9/195)
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)
{لترون الجحيم} جواب(9/195)
} 02 سورة التكاثر آية (7 8)
قسمٍ مضمرٍ أُكِّدَ بهِ لَهُ الوعيدُ وشددَ بهِ التهديدُ وأوضحَ بِهِ مَا أُنذروُه بعدَ إبهامِهِ تفخيماً(9/196)
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
{ثم لترونها} المشاهدةُ والمعاينةُ {عَيْنَ اليقين} أَيِ الرؤيةُ التي هيَ النفس اليقينِ فإنَّ علمَ المشاهدةِ أَقْصى مراتبِ اليقينِ(9/196)
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
{ثم لتسألن يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} أيْ عنِ النعيمِ الذي ألهاكُم الالتذاذ عنِ الدينِ وتكاليفِه فإنَّ الخطابَ مخصوصٌ بمنْ عكفَ همتَهُ عَلى استيفاءِ اللذاتِ وَلَمْ يعشْ إلاَّ ليأكلَ الطيبَ ويلبسَ اللينَ ويقطعَ أوقاتَهُ باللهوِ والطَّرَبِ لاَ يعبأُ بالعلمِ وَالعملِ ولا يحملُ نفسَهُ مشاقهما فأمَّا منْ تمتعَ بنعمةِ الله تعالَى وتقوَّى بَها عَلى طاعتِهِ وكانَ ناهضاً بالشكرِ فهُوَ منْ ذلكَ بمعزلٍ بعيدٍ وَقيلَ الآيةُ مخصوصةٌ بالكفار عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ التكاثرِ لَمْ يحاسبْه الله تعالَى بالنعيمِ الذي أنعمَ بهِ عليهِ في دارِ الدُّنيا وأُعطيَ منَ الأجرِ كأنَّما قرأَ ألفَ آية(9/196)
} 03 سورة العصر مكية وآيها ثلاث
بسم الله الرحمن الرحيم(9/197)
وَالْعَصْرِ (1)
{والعصر} أقسمَ سبحانَهُ بصلاةِ العصرِ لفضلِها الباهرِ أوْ بالعَشي الذَّيِ هُوَ ما بينَ الزوالِ والغروبِ كما أقسمَ بالضُّحى أو بعصرِ النبوةِ لظهورِ فضلِه عَلى سائرِ الأعصارِ أو بالدهرِ لانطوائِه عَلى تعاجيبِ الأمورِ القارةِ والمارةِ(9/197)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
{إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} أيْ خُسرانٌ في متاجرِهم ومساعيهم وصرفِ أعمارِهم في مباغيِهم والتعريفُ للجنسِ والتنكيرُ للتعظيم(9/197)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
{إلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنهمُ في تجارةٍ لنْ تبورَ حيثُ باعُوا الفانيَ الخسيسَ واشترَوا الباقيَ النفيسَ واستبدلُوا الباقياتِ الصالحات بالغاديات الرائحاتِ فيا لهَا منْ صفقةٍ ما أربَحها وَهَذا بيانٌ لتكميلِهم لأنفسِهم وقولُه تعالَى {وَتَوَاصَوْاْ بالحق} الخ بيانُ لتكميلِهم لغيرِهم أيْ وَصَّى بعضُهم بعضاً بالأمرِ الثَّابتِ الذي لا سبيلَ إلى إنكارِه ولا زوالَ في الدارينِ لمحاسنِ آثارِه وهُو الخيرُ كُلُّه منَ الإيمانِ بالله عزَّ وجَلَّ واتباعِ كتبهِ ورسلِه في كُلِّ عقدٍ وعملٍ {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} أيْ عنِ المعاصِي التي تشتاقُ إليها النفسُ بحكمِ الجِبلّةِ البشريةِ وعَلى الطاعاتِ التي يشقُّ عليَها أداؤُها أوْ عَلى ما يبلُو الله عزَّ وجلَّ بهِ عبادَهُ وتخصيص هَذا التواصِي بالذِّكرِ مع اندراجِه تحتَ التواصِي بالحقِّ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بهِ أو لأنَّ الأولَ عبارةٌ عن رتبةِ العبادةِ التي هيَ فعلُ ما يرضَى بهِ الله تعالَى والثانِي عن رتبةِ العبوديةِ التي هي الرِّضا بما فعلَ الله تعالَى فإنَّ المرادَ بالصبرِ ليسَ مجردَ حبسِ النفسِ عما تتشوقُ إليهِ من فعلٍ وتركٍ بلْ هُو تلقي ما وردَ منْه تعالَى بالجميلِ والرِّضا بهِ ظاهراً وباطناً عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ العصر غفرَ الله تَعَالَى لَهُ وكانَ ممنْ تواصَى بالحقِّ وتواصى بالصبر(9/197)
} 04 سورة الهمزة مكية وآيها تسع
بسم الله الرحمن الرحيم(9/198)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
{وَيْلٌ} مبتدأٌ خبرُهُ {لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} وساغَ الابتداءُ بِه معَ كونِه نكرةً لأنهُ دعاءٌ عليهم بالهلكةِ أو بشدةِ الشرِّ والهَمْزُ الكسرُ كالهزمِ واللمزِ الطعنُ كاللهزِ شَاعا في الكسرِ مِنْ أعراضِ النَّاسِ والطعن فيهمْ وبناء فُعَلةٍ للدِلالة عَلى أنَّ ذلكَ منْهُ عَادةٌ مُستمرةٌ قَد ضَرَى بَها وكذلكَ اللُّعَنةُ والضُّحَكَةُ وقُرِىءَ لكُلِّ هُمْزةٍ لُمْزةٍ بسكونِ الميمِ وهُوَ المسخرةُ الذي يأتي بالأضاحيكِ فيضحكُ منْهُ ويُستهزأُ بهِ وقيلَ نزلتْ في الأخنسِ بنِ شُرَيقٍ فإنَّهُ كانَ ضارياً بالغِيْبةِ والوقيعةِ وقيلَ في أميةَ بنِ خَلَفٍ وقيلَ في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغضه مِنْ جنابِه الرفيعِ واختصاصُ السببِ لا يستْدِعي خصوصَ الوعيدِ بهمِ بلْ كلُّ منْ اتصفَ بوصفهِم القبيحْ فلَهُ ذنوبٌ منْهُ مثلُ ذنوبِهم(9/198)
الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
{الذى جَمَعَ مَالاً} بدلٌ منْ كُلِّ أوْ منصوبٌ أو مرفوعٌ على الذمِّ وقرىء جمع بالتشديد للتكثير وتنكير ما لا للتفخيمِ والتكثيرِ الموافقُ لقولِه تعالَى {وَعَدَّدَهُ} وقيلَ مَعْنى عَدَّدَهُ جعلَهُ عدةً لنوائبِ الدَّهرِ وَقُرِىءَ وَعَدَدَهُ أيْ جمعَ المالَ وضبطَ عَدَدَهُ أوْ جمعَ مالَهُ وعددَهُ الذينَ ينصرونَهُ منْ قولِك فلانٌ ذُو عُددٍ وَعَددٍ إذَا كانَ لَهُ عددٌ وافرٌ منَ الأنصارِ والأعوانِ وقيلَ هُو فعلٌ ماضٍ بفكِّ الإدغامِ(9/198)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أيْ يعملُ عملَ منْ يظنُّ أنَّ مالَهُ يبقيهِ حياً والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التقريرِ وقيلَ طَوَّلَ المالُ أَمَلَه وَمَنَّاهُ الأَمَانيِّ البعيدةَ حَتَّى أصبحَ لفرطِ غفلتِه وطولِ أملِه يحسبُ أنَّ المالَ تركَهُ خَالداً في الدُّنيا لا يموتُ وقيلَ هُو تَعريضٌ بالعملِ الصالحِ والزهدِ في الدُّنيا وأنَّه هُوَ الذي أخلدَ صاحبَهُ في الحياةِ الأبديةِ والنعيمِ المقيمِ فأمَّا المال فليس بخالد ولا بمُخَلِّدٍ ورُوِيَ أنَّ الأخنسَ كانَ لهُ أربعةُ آلافِ دينارٍ وقيلَ عشرةُ آلافٍ والجملةُ مستأنفةٌ أو حالٌ منْ فاعلِ جَمَع(9/198)
كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
{كَلاَّ} ردعٌ لهُ عنْ(9/198)
} 04 سورة الهمزة آية (95)
ذلكَ الحْسبانِ الباطلِ وَقولُه تعالَى {لَيُنبَذَنَّ} جوابُ قسمٍ مقدرٍ وَالجملةُ استئنافٌ مبينٌ لعلةِ الردعِ أيْ والله ليطرحنَّ بسببِ تعاطيِه للأفعالِ المذكورةِ {فِى الحطمة} أيْ في النارِ التي شأنُها أنْ تحطمَ وتكسرَ كُلَّ مَا يُلْقَى فيهَا كَما أنَّ شأنَهُ كسرُ أعراضِ النَّاسِ وجمعُ المالِ وَقولُه تعالى(9/199)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحطمة} لتهويلِ أمرِهَا ببيانِ أنَّها ليستْ منِ الأمورِ التي تنالهَا عقولُ الخلقِ(9/199)
نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6)
وقولُه تعالَى {نَارُ الله} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ بيانٌ لشأنِ المسؤولِ عَنْها أيْ هيَ نارُ الله {الموقدة} بأمرِ الله عزَّ سلطانُهُ وفي إضافتها إليهِ سُبحانَهُ ووصفُهَا بالإيقادِ منْ تهويلِ أمرِهَا مَا لاَ مزيدَ عليهِ(9/199)
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
{التى تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة} أيْ تعلُو أوساطَ القلوبِ وتغشاهَا وتخصيصُها بالذكرِ لما أنَّ الفؤادَ ألطفُ ما في الجسدِ وأشدُّة تألماً بأدْنى أَذى يمسُّهُ أوْ لأَنَّه محلُ العقائدِ الزائغةِ والنياتِ الخبيثةِ ومنشأُ الأعمالِ السيئةِ(9/199)
إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8)
{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} أي مطبقة من أوصدت الباب وأصدته أي أطبقته(9/199)
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
{فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} إِمَّا حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ في عليهمْ أيْ كائنينَ في عمدٍ ممددةٍ أيْ موثقينَ فيهَا مثلُ المقاطرِ التي تُقطرُ فيهَا اللصوصُ أوْ خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ أيْ هُمْ في عمدٍ أو صفةٌ لمؤصدةٍ قالَه أبُو البقاءِ أيْ كائنةٌ في عمد ممددة بأنْ تؤصدَ عليهمْ الأبوابُ وتمددَ على الأبوابِ العمدُ استيثاقاً في استيثاقٍ اللهمَّ أجرنَا منها يا خيرَ مستجارٍ وَقُرِىءَ عُمُدٌ بضمتينِ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الهمزةِ أعطاهُ الله تعالى عشر حسنات بعدد منِ استهزأَ بمحمدٍ وأصحابِهِ(9/199)
} 05 سورة الفيل مكية وآيها خمس
بسم الله الرحمن الرحيم(9/200)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل} الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزةُ لتقريرِ رؤيتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بإنكارِ عَدَمِها وكيفَ معلقةٌ لفعلِ الرؤيةِ منصوبةٌ بما بعدَهَا والرؤيةُ عِلْميةٌ أيْ ألمْ تعلْم علماً رصيناً متاخماً للمشاهدةِ والعَيَانِ باستماعِ الأخبارِ المتواترةِ ومعاينةِ الآثارِ الظَّاهرةِ وَتعليقُ الرؤيةِ بكيفيةِ فعلِه عَزَّ وَجَلَّ لاَ بنفسِه بأَنْ يقالَ ألْم ترَ ما فعلَ ربُّكَ الخ لتهويلِ الحادثةِ والإيذانِ بوقوعِها عَلَى كيفيةٍ هائلةٍ وهيئةٍ عجيبةٍ دالةٍ عَلَى عظمِ قُدرةِ الله تعالَى وكمالِ علمِه وحكمتِه وعزةِ بيتِه وشرفِ رسوله صلى الله عليه وسلم فإنَّ ذلكَ منَ الإرهاصاتِ لما رُوي أنَّ القصةَ وقعتْ في السنةِ التي ولد فيها النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتفصيلُها أنَّ أبرهةَ بْنَ الصبَّاحِ الأشرمَ ملكَ اليمنِ مِنْ قبلِ أصحمةَ النجاشيِّ بنَى بصنعاءَ كنيسةً وسَمَّاها القُلَّيْسَ وأرادَ أنْ يصرفَ إليها الحاجَّ فخرجَ رجلٌ منْ كِنانةَ فقعدَ فيهَا ليلاً فأغضَبهُ ذلكَ وقيلَ أججتْ رفقةٌ منَ العربِ ناراً فحملتها الريحْ فأحرقتَها فحلف ليهد الكعبةَ فخرجَ معَ جيشِه ومعه فيلٌ له اسُمه محمودٌ وكانَ قوياً عظيماً وإثنا عشرَ فيلاً غيرهُ وقيلَ ثمانيةٌ وقيل ألفٌ وقيلَ كانَ معه وَحْدَهُ فلما بلغَ المُغمَّسَ خرجَ إليه عبدُ المطلبِ وعرضَ عليه ثلثَ أموالِ تهامةَ ليرجعَ فأبىَ وعبَّأَ جيشَهُ وقدَّمَ الفيلُ فكانَ كلمَا وجهوه إلى الحرمِ بركَ ولم يبرحْ وإذا وجهوه إلى اليمنِ أو إلى غيرِه من الجهاتِ هرولَ فأرسلَ الله تعالَى طيراً سُوداً وقيلَ خُضراً وقيل بيضَاً مع كُلِّ طائرٍ حجرٌ في منقارِه وحجرانِ في رجليهِ أكبرُ من العدسةِ وأصغرُ من الحِمُصَةِ فكان الحجر يلقى عَلى رأسِ الرجلِ فيخرجُ من دُبُرهِ وعلى كُلِّ حجرٍ اسمُ منْ يقعُ عليهِ ففروا فهلكُوا في كلِّ طريقٍ ومنهلٍ ورويَ أنَّ أبرهةَ تساقطتْ أناملُه وآرابُه وما ماتَ حتى انصدر صدْرُهُ عن قلبهِ وانفلتَ وزيرُهُ أبو يكسومَ وطائرٌ يُحلِّقُ فوقَهُ حتى بلغَ النجاشيِّ فقصَّ عليهِ القصةَ فلما أتمَّها وقعَ عليهِ الحجرُ فخرَّ ميتاً بينَ يديِه وقيلَ إنَّ أبرهةَ أخذَ لعبدِ المطلبِ مائتي بعيرٍ فخرجَ إليهِ في شأنِها فلما رآه أبرهةُ عظُمَ في عينِه وكانَ رجُلاً وَسيماً جَسيماً وقيلَ هذا سَيِّدُ قُريشٍ وصاحبُ عِيرِ مكةَ الذي يطعمُ الناسَ في السهلِ والوحوشَ في رؤوسِ الجبالِ فنزلَ أبرهةُ عن سريرهِ وجلسَ عَلَى بساطِه وقيل أجلَسه مَعَهُ على سريرِه ثم قالَ لترجمانِه قُلْ لَهُ ما حاجتُكَ فلما ذكرَ حاجتَهُ قالَ سقطتَ مِنْ عَينِي حيثُ جئتُ لأهدمَ البيتَ الذي هُوَ دينُكَ ودينُ(9/200)
آبائِك وعصمتُكم وشرفُكم في قديمِ الدهرِ لا تكلمِني فيهِ ألهاكَ عنْهُ ذَودٌ أخذتُ لكَ فقالَ عبدُ المطلبِ أنا ربُّ الإبلِ وإن للبيت رباً يحميِه ثم رجعَ وأتىَ بابَ الكعبةِ فأخذَ بحلقتِه ومعهَ نفرٌ من قريشٍ يدعونَ الله عَزَّ وجَلَّ فالتفتَ وهو يدعُو فإذا هو بطيرٍ منْ نحوِ اليمنِ فقالَ والله إنها لطيرٌ غريبةٌ مَا هيَ نجديةٌ ولا تهاميةٌ فأرسلَ حلقةَ البابِ ثمَّ انطلقَ معَ أصحابِه ينتظرونَ ماذَا يفعلُ أبرهةُ فأرسلَ الله تعالَى عليهُم الطيرَ فكانَ ما كانَ وقيلَ كانَ أَبْرهةُ جَدَّ النجاشيِّ الذي كانَ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعنْ عائشةَ رضيَ الله عَنْهَا قالتْ رأيتُ قائدَ الفيلِ وسائسَه أعميينِ مُقعدينِ يستطعمان وقُرِىءَ أَلم تَرْ بسكونِ الراءِ للجدِّ في إظهارِ أثرِ الجازمِ وقولُه تعالَى(9/201)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ} الخ بَيَانٌ إِجْمَاليٌ لمَا فعلَه الله تَعَالى بهمْ وَالهْمزةُ للتقريرِ كَما سبقَ ولذلكَ عطفٌ عَلَى الجملةِ الاستفهاميةِ ما بعدَهَا كأنَّه قيلَ قدْ جعلَ كيدَهُم في تعطيلِ الكعبةِ وتخريبِها في تضييعٍ وإبطالٍ بأنْ دمَّرهُم أشنعَ تدميرٍ(9/201)
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} أَيْ طوائفَ وجماعاتٍ جمعُ أبالةٍ وهيَ الحزمةُ الكبيرةُ شُبهتْ بَها الجماعةُ من الطيرِ في تضامِّها وقيلَ أبابيلَ مثلُ عبابيدَ وشماطيطَ لا واحدَ لهَا(9/201)
تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
{ترميهم بحجارة} صفة لطير وقُرِىءَ يَرْميهِمْ بالتذكيرِ لأنَّ الطير اسم جمع تأنيثه باعتبارِ المَعْنَى {مّن سِجّيلٍ} من طينٍ مُتحجرٍ مُعَرَّبُ سَنْك كِلْ وقيلَ كأنهُ عَلمٌ للديوانِ الذي كتبَ فيهِ عذابُ الكفارِ كما أنَّ سجيناً علمٌ للديوانِ الذي يكتبُ فيه أعمالُهم كأنَّه قيلَ بحجارةٍ من جملةِ العذابِ المكتوبِ المدونِ وَاشتقاقُه منَ الإسجالِ وهُوَ الإرسالُ(9/201)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} كورقِ زرع فيهِ الأكالُ وهُوَ أنْ يأكلُه الدودُ أوْ أكلَ حبُّه فبقَي صِفراً منْهُ أوْ كتبنٍ أكلتْهُ الدوابُّ وَرَاثتْهُ أشيرَ إليهِ بأولِّ أحواله عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الفيلِ أعفاهُ الله تعالَى أيامُ حياتِهِ منَ الخسفِ والمسخِ وَالله أعلمُ(9/201)
} 06 سورة قريش مكية وآيها أربع
بسم الله الرحمن الرحيم(9/202)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)
{لإيلاف قُرَيْشٍ} متعلقٌ بقولِه تعالَى فليعبدُوا والفاءُ لما في الكلامِ منْ مَعْنى الشَّرطِ إذِ المعَنْى أنَّ نِعمَ الله تعالَى عليهمْ غيرُ محصورةٍ فإنْ لَمْ يعبدُوه لسائرِ نعمهِ فليعبدُوه لهذِه النعمةِ الجليلةِ وقيلَ بمضمر تقديرُهُ فعلنَا مَا فعلنَا منْ إهلاكِ أصحابِ الفيلِ لإيلافِ الخ وقيلَ تقديرُهُ أعْجَبُوا لإيلافِ الخ وقيلَ بمَا قَبْلَهُ منْ قولِه تعالَى {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} ويؤيدُهُ أنهُمَا في مُصْحفِ أبي سورة واحدة فلا فصلٍ وَالمَعْنى أهلكَ مَنْ قصدَهُم منَ الحبشةِ ليتسامعَ الناس فيتهيبُوا لَهُمْ زيادةَ تهيبٍ ويحترمون فضلَ احترامٍ حَتَّى ينتظَم لهُمْ الأمنُ في رحلتيِهمْ فَلاَ يجترىءُ عليهمْ أحدٌ وكانتْ لقريشٍ رحلتانِ يرحلونَ في الشتاءِ إلى اليمنِ وفي الصيفِ إِلى الشامِ فيتمارون ويتجرونَ وكانُوا في رحلتيِهمْ آمنينَ لأنَّهُم أهلُ حرمِ الله تعالَى وولاةُ بيتِه العزيزِ فَلاَ يُتَعرضُ لهُمْ والنَّاسُ بينَ مُتخطَّفٍ ومنهوبٍ وَالإيلافُ منْ قولِكَ آلفتْ المكانَ إيلافاً إذا أَلفْتَهُ وقُرِىءَ لإلافِ قُريشٍ أيْ لمؤالفتِهمْ وقيلَ يقالُ ألفتُهُ إلفاً وإلافاً وَقُرِىءَ لإلفِ قريشٍ وقريشٌ ولدُ النَّضْرِ بنِ كنَانَةَ سُمُّوا بتصغيرِ القِرشِ وهُوَ دابةٌ عظيمةٌ في البحرِ تعبثُ بالسفنِ وَلاَ تُطَاقُ إِلاَّ بالنارِ والتصغيرُ للتعظيمِ وقيلَ منَ القَرْشِ وهُوَ الكسبُ لأنهمْ كانُوا كسَّابينَ بتجاراتِهمْ وضربِهمْ في البلادِ
وقولُه تعالَى(9/202)
إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
{إيلافهم رِحْلَةَ الشتاء والصيف} بدلٌ منَ الأولِ ورحلةَ مفعولٌ لإيلافِهم وإفرادُهَا معَ أنَّ المرادَ رِحْلَتي الشتاءِ والصيفِ لأمنِ الإلباسِ وَفي إطلاقِ الإيلافِ عنِ المفعولِ أولاً وإبدالُ هَذا منْهُ فتخيم لأمرِهِ وتذكيرُ لعظيمِ النعمةِ فيهِ وَقُرِىءَ ليألفَ قريشٌ إلَفهُمْ رحلةَ الشتاءِ والصيفِ وقُرِىءَ رُحلةَ بالضمِّ وهيَ الجهةُ التي يُرحلُ إليَها(9/202)
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
{فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} {الذى أَطْعَمَهُم} بسببِ تينكِ الرحلتينِ اللتينِ تمكُنوا فيهَما بواسطةِ كونِهم منْ جيرانِهِ(9/202)
} 06 سورة قريش آية (4) {مِن جُوعٍ} شديدٍ كانُوا فيهِ قَبْلَهُما وقيلَ أريدَ بهِ القحطُ الذي أكلُوا الجيف والعظام {وآمنهم مِّنْ خَوْفٍ} عظِيمٌ لاَ يُقادرُ قَدرُه وهُوَ خوفُ أصحابِ الفيلِ أوْ خوفُ التخطف في بلدهم ومسايرهم وقيلَ خوفُ الجُذَامِ فلاَ يصيبُهمْ في بلدِهِم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ قريشٍ أعطاهُ الله تَعالَى عشر حسنات بعدد من طَافَ بالكعبةِ واعتكفَ بَها
} 07 سورة الماعون مكية مختلف فيها وآيها سبع
بسم الله الرحمن الرحيم(9/203)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
{أرأيت الذى يُكَذّبُ بالدين} استفهامٌ أريدَ بهِ تشويقُ السامعِ إلى معرفةِ مَنْ سيقَ لَهُ الكلاَمُ والتعجيبُ منْهُ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيلَ لكُلِّ عاقلٍ والرؤيةُ بمَعْنى المَعْرفةِ وقُرِىءَ أرأيتَكَ بزيادةِ حَرْفِ الخطابِ والفاءُ في قولِه تعالَى(9/203)
فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
{فَذَلِكَ الذى يَدُعُّ اليتيم} جوابُ شرطٍ محذوفٍ على أن ذلك مبتدأو الموصول خبرُهُ والمَعْنى هَلْ عرفتَ الذي يكذبُ بالجزاءِ أو بالإسلامِ إنْ لَمْ تعرفْهُ أو إنْ أردتَ أنْ تعرفَهُ فهُوَ الذي يدفعُ اليتيمَ دفعاً عنيفاً ويزجرُهُ زَجْراً قَبيحاً ووضعُ اسمِ الإشارةِ المتعرِّضِ لوصفِ المشارِ إليهِ موضعَ الضميرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكم والتنبيهِ بمَا فيه من معنى البعد على بُعدِ منزلتِه في الشرِّ والفسادِ قيلَ هُوَ أبُو جهلٍ كانَ وصياً ليتيمٍ فأتاهُ عُرياناً يسألُهُ من مالِ نفسِه فدفعَهُ دفعاً شنيعاً وقيلَ أبُو سفيانَ نحرَ جزوراً فسألَهُ يتيمٌ لحماً فقرعَهُ بعصاهُ وقيلَ هُوَ الوليدُ بنُ المُغِيرَةِ وقيلَ هُوَ العَاصُ بنُ وائلٍ السَّهْمِيُّ وقيلَ هُوَ رجُلٌ بخيلٌ مِنَ المنافقينَ وقيلَ الموصولُ على عمومِهِ وقُرِىءَ يَدَعُ اليتيمَ أيْ يتركُه ويجفُوهُ(9/203)
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
{وَلاَ يَحُضُّ} أيْ أهلَهُ وغيرَهُم مِنَ الموسرينَ {على طَعَامِ المسكين} وإذَا كانَ حالُ من تركَ حَثَّ غيرَه على ما ذُكرَ فمَا ظنُّك بحالِ مَن ترك معَ القُدرةِ عليهِ
والفاءُ في قولِه تعالَى(9/203)
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
{فَوَيْلٌ} الخ إما لربطِ مَا بعدَهَا بشرطٍ محذوفٍ كأنَّه قيلَ إذَا كانَ ما ذُكر من(9/203)
} 07 سورة الماعون آية (5 7)
عدم المبالاة باليتيم والمسكين مِنْ دَلاَئلِ التكذيبِ بالدِّينِ وموجباتِ الذمِّ والتوبيخِ فويلٌ {لّلْمُصَلّينَ}(9/204)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
{الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} غافلونَ غيرُ مبالينَ بها(9/204)
الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)
{الذين هم يراؤون} أيْ يرونَ النَّاسَ أعمالَهُم ليروهُمْ الثناءَ عَلَيهَا(9/204)
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
{وَيَمْنَعُونَ الماعون} أي الزكاةَ مَا يُتعَاورُ عادةً فإنَّ عدم المبالاة باليتيم والمسكين حيثُ كانَ كمَا ذُكِرَ فعدمُ المبالاةِ بالصلاةِ التي هي عمادُ الدينِ والرياءُ الذي هُوَ شعبةٌ منَ الكفرِ ومنعُ الزكاةِ التي هيَ قنطرةُ الإسلامِ وسوءُ المعاملةِ مَعَ الخلقِ أحقُّ بذلكَ وإمَّا لترتيبِ الدعاءِ عليهم بالويلِ على ما ذكرَ من قبائحِهم ووضعُ المصلينَ موضعَ ضميرِهم ليتوسلَ بذلكَ إلى بيانِ أنَّ لهُم قبائحَ أُخَرَ غيرَ ما ذكرَ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الدينِ غُفرَ لَهُ إنْ كان للزكاة مؤديا(9/204)
} 08 سورة الكوثر مكية وآيها ثلاث
بسم الله الرحمن الرحيم(9/205)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
{إِنَّا أعطيناك} وقُرِىءَ أَنْطَينَاكَ {الكوثر} أيِ الخيرُ المفرطُ الكثيرُ من شرفِ النبوةِ الجامعةِ لخيريِّ الدارينِ والرياسةِ العامةِ المستتبعةِ لسعادةِ الدُّنيا والدين فوعلٌ منَ الكثرةِ وقيلَ هُوَ نهرٌ في الجَّنةِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه قرأهَا فقالَ أتدرونَ ما الكوثَرُ إنَّه نهرٌ في الجنةِ وَعَدنيهِ ربِّي فيهِ خيرٌ كثيرٌ ورُويَ في صفتِهِ أنَّه أَحْلَى من العسلِ وأشدُّ بياضاً من اللبنِ وأبردُ من الثلجِ وألينُ من الزبدِ حافتاهُ الزبرجدُ وأوانيهِ من فضةٍ عددَ نجومِ السماءِ ورُوي لا يظمأُ من شربَ منْهُ أبداً أولُ وارديهِ فقراءُ المهاجرينَ الدَّنِسُو الثيابِ الشُّعْثُ الرؤوسِ الذينَ لا يزوجونَ المنعمّاتِ ولا تفتحُ لهم أبوابُ السُّدَدِ يموتُ أحدُهم وحاجتُهُ تتلجلجُ في صدرِه لو أقسمَ على الله لأبرَّهُ وعنِ ابن عباس رضي الله عنهُما أنه فسرَ الكوثرَ بالخيرِ الكثيرِ فقالَ لَه سعيدُ بنُ جُبيرٍ فإنَّ ناساً يقولونَ هُوَ نهرٌ في الجنةِ فقالَ هُو منَ الخيرِ الكثيرِ وقيلَ هو حوضٌ فيهَا وقيلَ هو وأولاده وأتباعُه أو علماءُ أمتِه أو القرآنُ الحاوِي لخيرِ الدُّنيا والدينِ(9/205)
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
والفاء في قوله تعالى {فَصَلّ لِرَبّكَ} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها فإنَّ إعطاءَهُ تعالَى إيَّاهُ عليهِ السلامُ ما ذكرَ من العطيةِ التي لم يُعطِهَا ولنْ يعطيهَا أحداً منَ العالمينَ مستوجبٌ للمأمورِ بهِ أيَّ استيجابٍ أي فدُمْ على الصلاةِ لربكَ الذي أفاضَ عليكَ هذه النعمةِ الجليلةِ التي لاَ يضاهيها نعمة خالصا لوجهِه خلافَ الساهينَ عنهَا المرائينَ فيهَا أداءً لحقوقِ شكرِهَا فإنَّ الصلاةَ جامعةٌ لجميعِ أقسامِ الشكرِ {وانحر} البدنَ التي هيَ خيارُ أموالِ العربِ باسمِه تعالَى وتصدقْ على المحاويجِ خلافاً لمن يدعهُمْ ويمنعُ عنهُم الماعونَ وعن عطيةَ هيَ صلاةُ الفجرِ بجمعٍ والنحُرُ بمنًى وقيلَ صلاةُ العيدِ والتضحيةُ وقيلَ هيَ جنسُ الصلاةِ والنحرُ وضعُ اليمينِ على الشمالِ وقيلَ هُوَ أنْ يرفعَ يديهِ في التكبيرِ إلى نحرِه هُوَ المروي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهمَا استقبلِ القبلةَ بنحركَ وهُو قولُ الفَرَّاءِ والكَلْبي وأبي الأَحْوَص(9/205)
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
{إِنَّ شَانِئَكَ} أيْ مبغضكَ كائناً منْ كانَ {هُوَ الأبتر} الذي لاَ عقِبَ له(9/205)
} 08 سورة الكوثر آية (3) حيثُ لا يبقَى منهُ نسلٌ ولا حُسنُ ذكرٍ وأمَّا أنتَ فتبقَى ذريتُكَ وحسنُ صيتكَ وآثارُ فضلكَ إلى يوم القيامة لك في الآخرةِ ما لا يندرجُ تحتَ البيانِ وقيلَ نزلتْ في العاصِ بنِ وائلٍ وأياً ما كانَ فلا ريب وفي عمومِ الحكمِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ الكوثرِ سقاهُ الله تُعالى مِنْ كلِّ نهرٍ في الجنةِ ويكتبُ لهُ عشرَ حسناتٍ بعددِ كلِّ قُربانٍ قربَهُ العبادُ في يومِ النحرِ
} 09 سورة الكافرون مكية وآيها ست
بسم الله الرحمن الرحيم(9/206)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)
{قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون} هم كفرةٌ مخصوصونَ قدْ علَم الله تعالَى أنَّه لا يتأتَّى منهمْ الإيمانُ أبداً رُوِيَ أنَّ رهصا مِنْ عُتاةِ قريشٍ قالُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هلمَّ فاتبعْ دينَنَا ونتبعُ دينك تعبد آلهتنا ونعبدُ إلهك سنةً فقالَ معاذَ الله أنْ أشركَ بالله غيرَهُ فقالُوا فاستلمْ بعضَ آلهتِنَا نصدقكَ ونعبدَ إلهك فنزلتْ فغدَا إلى المسجدِ الحرامِ وفيهِ الملأُ من قريشٍ فقامَ على رؤوسِهم فقرأَهَا عليهم فأيِسوا(9/206)
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
{لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أيْ فيمَا يُستقبلُ لأَنَّ لاَ لاَ تدخلُ غالباً إلا على مضارع في الاستقبالِ كما أنَّ مَا لاَ تدخلُ إلاَّ على مضارعٍ في مَعْنى الحالِ والمَعْنى لا أفعلُ في المستقبلِ ما تطلبونَهُ مِنِّي من عبادةِ آلهتكم(9/206)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)
{وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} أيْ ولا أنتُم فاعلونَ فيهِ ما أطلبُ منكُم من عبادةِ إلهي(9/206)
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)
{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أيْ وما كنتُ قطُّ عابداً فيمَا سلفَ ما عبدتُم فيه أيْ لم يُعْهدْ مِنِّي عبادةُ صنمٍ في الجاهليةِ فكيفَ تُرْجَى مِنِّي في الإسلامِ(9/206)
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
{وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} أيْ وما عبدتُم في وقتٍ من الأوقاتِ مَا أنا على عبادتِهِ وقيلَ هاتانِ الجملتانِ لنفي العبادةِ حالاً كما أنَّ الأولين لنفيها استقبالاً وإنَّما لم يقُلْ ما عبدتُ(9/206)
} 09 سورة الكافرون آية (5)
ليوافق ما عبدتمم لأنَّهم كانُوا موسومينَ قبلَ البعثةِ بعبادةِ الأصنامِ وهُوَ عليهِ السلامُ لم يكُنْ حينئذٍ موسوماً بعبادةِ الله تعَالَى وإيثارُ مَا في أعبدُ على مَنْ لأنَّ المرادَ هُوَ الوصفُ كأنَّه قيلَ مَا أعبدُ مِنَ المعبودِ العظيمِ الشأنِ الذي لا يُقادَرُ قدرُ عظمتِهِ وقيلَ إنَّ مَا مصدريةٌ أي لا أعبد عبادتَكُم ولا تعبدونَ عبادَتِي وقيلَ الأوليانِ بمَعْنى الذي والأخريانِ مصدريتانِ وقيلَ قولُه تعالَى {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} تأكيدٌ لقولِه تعَالَى {لاَ أَعْبُدُ مَا تعبدون} وقوله تعالى {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} ثانياً تأكيدٌ لمثلِه المذكورِ أولاً
وقولُه تعالَى(9/207)
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
{لَكُمْ دِينَكُمْ} تقريرٌ لقولِه تعَالَى لاَ أَعْبُدُ مَا تعبدون وقوله تعالى ولا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ كما أن قوله تعالى {وَلِىَ دِينِ} تقريرٌ لقولِه تعالَى {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} والمَعْنى أنَّ دينَكُم الذي هُوَ الإشراكُ مقصورٌ على الحصولِ لكُم لا يتجاوزه إلى الحصول لِي أيضاً كما تطمعونَ فيهِ فلاَ تعلقُوا بهِ أمانيَّكُم الفارغةَ فإنَّ ذلكَ المُحالاتِ وأنَّ دينيَ الذي هُوَ التوحيدُ مقصورٌ على الحصولِ لي لا يتجاوزُه إلى الحصولِ لكُم أيضاً لأنَّكم علقتمُوه بالمحالِ الذي هُوَ عبادتِي لآلهتِكم أو استلامِي إيَّاها ولأنَّ ما وعدتمُوه عينُ الإشراكِ وحيثُ كانَ مَبْنى قولِهم تعبدُ آلهتَنَا سنةً ونعبدُ إلهك سنةً على شركةِ الفريقينِ في كلتا العبادتينِ كان القصرُ المستفادُ من تقديمِ المسندِ قصرُ إفرادٍ حتماً ويجوز أن يكون هذا تقريراً لقولِه تعالَى {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أيْ ولِي دِيني لا دينُكم كمَا هُوَ في قولِه تعَالَى {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُم} وقيلَ المَعْنى إنِّي نبيٌّ مبعوثٌ إليكُم لأدعوَكُم إلى الحقِّ والنجاةِ فإذَا لم تقبلُوا مِنِّي ولَمْ تتبعونِي فدعونِي كَفافاً ولا تدعونِي إلى الشركِ فتأملْ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ من سورةَ الكافرونَ فكأنَّما قرأَ ربعَ القرآنِ وتباعدتْ عنْهُ مَرَدةُ الشَّياطينِ وبرىءَ مِنَ الشركِ وتعافَى مِنَ الفزعِ الأكبر(9/207)
} 07 سورة النصر مدنية وآيها ثلاث
بسم الله الرحمن الرحيم(9/208)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
{إِذَا جَاء نَصْرُ الله} أيْ إعانتُهُ تعالَى وإظهارُهُ إياكَ على عدوكَ {والفتح} أيْ فتحُ مكةَ وقيلَ جنسُ نصرِ الله تعالَى ومطلقُ الفتحِ فإنَّ فتحَ مكةَ لمَّا كانَ مِفْتاحَ الفتوحِ ومناطَهَا كمَا أنَّ نفسَها أمُّ القُرَى وإمامُها جُعلَ مجيئُهُ بمنزلةِ مجيءِ سائرِ الفتوحِ وعلقَ بهِ أمرَهُ عليهِ السلامُ بالتسبيحِ والحمدِ والتعبيرُ عنْ حصولِ النصرِ والفتحِ بالمجيءِ للإيذانِ بأنهُمَا متوجهانِ نحوَهُ عليهِ السلامُ وأنهُمَا على جناحِ الوصولِ إليهِ عليهِ السلامُ عن قريبٍ رُوي أنها نزلتْ قبلَ الفتحِ وعليهِ الأكثرُ وقيلَ في أيامِ التشريقِ بمِنًى في حجةِ الوداع فلكمة إذَا حينئذٍ باعتبارِ أنَّ بعضَ مَا في حيزِهَا أَعْنِي رؤيةَ دخولِ الناسِ الخ غيرُ منقضٍ بعدُ وكانَ فتحُ مكةَ لعشرٍ مضينَ من شهرِ رمضانَ سنةَ ثمانٍ ومعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عشرةُ آلافٍ منَ المهاجرينَ والأنصارِ وطوائفِ العربِ وأقامَ بهَا خمس عشرَةَ ليلةً وحينَ دخلَها وقفَ على بابِ الكعبةِ ثمَّ قالَ لا إلهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شريكَ لَهُ صدقَ وعدَهُ ونصرَ عبدَهُ وهزمَ الأحزابَ وحدَهُ ثمَّ قالَ يا أهلَ مكةَ ما ترونَ أني فاعلٌ بكُم قالُوا خيراً أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ قالَ اذهبُوا فأنتُمْ الطلقاءُ فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدْ كانَ الله تعالَى أمكنَهُ من رقابِهم عنوةً وكانُوا له فياءً ولذلكَ سميَ أهلُ مكةَ الطلقاءَ ثمَّ بايعُوه على الإسلام ثمَّ خرجَ إلى هوازنَ(9/208)
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)
{وَرَأَيْتَ الناس} أيْ أبصرتهُمْ أو علمتهُمْ {يَدْخُلُونَ فِى دِينِ الله} أيْ ملةَ الإسلامِ التي لا دينَ يضافُ إليهِ تعالَى غيرُهَا والجملةُ على الأولِ حالٌ من الناسِ وعلى الثاني مفعولٌ ثانٍ لرأيتَ وقولُه تعالَى {أَفْوَاجاً} حالٌ من فاعلِ يدخلونَ أيْ يدخلونَ فيهِ جماعاتٍ كثيفةً كأهلِ مكةَ والطائفِ واليمنِ وهوازنَ وسائرِ قبائلِ العربِ وكانُوا قبلَ ذلكَ يدخلونَ فيهِ واحِداً واحِداً واثنينِ اثنينِ روي أنه عليه السلام لما فتحَ مكةَ أقبلتِ العربُ بعضُها على بعضٍ فقالوا إذَا ظفِرَ بأهلِ الحرمِ فلنْ يقاومَهُ أحدٌ وقدْ كانَ الله تعالَى أجارَهُم من أصحابِ الفيلِ ومن كُلِّ من أرادهُم فكانُوا يدخلونَ في دينِ الإسلامِ أفواجاً من غيرِ قتالٍ وقرىءَ فتحُ الله والنصر(9/208)
} 07 سورة النصر آية (3) وقرىء يدخلون على لبناء للمفعول
الآية 3(9/209)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
{فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} فقُلْ سبحانَ الله حامداً لهُ أو فتعجبَ لتيسيرِ الله تعالَى ما لَمْ يخطُرْ ببالِ أحدٍ من أنْ يغلبَ أحدٌ على أهْلِ حرمِهِ المحترمِ واحمدْهُ على جميلِ صُنعِه هذا على الروايةِ الأُولى ظاهرٌ وأمَّا على الثانيةِ فلعلَّهُ عليهِ السلامُ أُمر بأنْ يداومَ على ذلكَ استعظاماً لنعمِه لاِ بإحداثِ التعجبِ لما ذُكرَ فإنَّهُ إنما يناسبُ حالةَ الفتحِ أو فاذكُرْهُ مسبحاً حامداً زيادةً في عبادتِهِ والثناءِ عليهِ لزيادةِ إنعامِه عليكَ أو فصلِّ لهُ حامداً على نعمِه رُويَ أنَّه لما فتحَ بابَ الكعبةِ صلَّى صلاة الضحى ثمانِ ركعاتٍ أو فنزههُ عما يقولُه الظلمةُ حامداً لهُ على أنْ صدقَ وعدَهُ أو فاثنِ على الله تعالَى بصفاتِ الجلالِ حَامِداً له على صفاتِ الإكرامِ {واستغفره} هَضْماً لنفسكَ واستقصاراً لعملكَ واستعظاماً لحقوقِ الله تعالَى واستدراكاً لما فرَطَ منكَ من تركِ الأولَى عن عائشةَ رضيَ الله عنهَا أنه كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يكثرُ قبلَ موتِه أنْ يقولَ سُبْحانكَ اللهمَّ وبحمدكَ استغفركَ وأتوبُ إليكَ وعنهُ عليهِ السلامُ إنِّي لأستغفرُ في اليومِ والليلةِ مائةَ مرةٍ ورُويَ أنَّه لمَّا قرأها النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم على أصحابِه استبشرُوا وبكَى العباسُ فقالَ عليهِ السلامُ ما يبكيكَ يا عمُّ فقالَ نعيتْ إليكَ نفسُكَ قالَ عليهِ السلامُ إنَّها لكمَا تقولُ فلَمْ يُرَ عليهِ السلامُ بعدَ ذلكَ ضاحكاً مستبشراً وقيلَ إنَّ ابنَ عباسٍ هُو الذي قالَ ذلكَ فقالَ عليهِ السَّلامُ لقدْ أُوتي هذا الغلام علما كثيرا ولعل ذلكَ للدلالةِ على تمامِ أمرِ الدعوةِ وتكاملِ أمرِ الدينِ كقولِه تعالَى {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ورُوي أنَّها لمَّا نزلتْ خطبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ إنَّ عبداً خيرهُ الله تعالَى بينَ الدُّنيا وبينَ لقائِه فاختارَ لقاءَ الله تعَالَى فعلَم أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه فقالَ فديناكَ بأنفسِنا وآبائِنا وأولادِنا وعنْهُ عليهِ السلامُ أنهُ دعَا فاطمةَ رضيَ الله عنْهَا فقالَ يا بنتاهُ إنَّه نعيتْ إليَّ نفسِي فبكتْ فقالَ لا تبكِي فإنكِ أولُ أَهْلي لحوقاً بِي وعنِ ابنِ مسعود رضي الله عنه أنَّ هذه السورةَ تُسمَّى سورةَ التوديعِ وقيلَ هو أمرٌ بالاستغفارِ لأمتِه {إِنَّهُ كان توابا} منذُ خلقَ المكلفينَ أيْ مبالغاً في قَبول توبتِهم فليكُنْ كُلُّ تائبٍ مستغفرٍ متوقعاً للقبولِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ النصرِ أعطي من الأجر كمن شهدَ معَ محمدٍ يومَ فتح مكة(9/209)
} 11 سورة المسد مكية وآيها خمس
بسم الله الرحمن الرحيم(9/210)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
{تُبْتُ} أيْ هلكَتْ {يَدَا أَبِى لَهَبٍ} هُو عبدُ العُزَّى بنُ عبدِ المطلبِ وإيثارُ التبابِ على الهلاكِ وإسنادُه إلى يديهِ لما روى لما نزلَ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين رَقَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصَّفَا وجمعَ أقاربَهُ فأنذرهُم فقالَ أبُو لهبٍ تباً لكَ ألِهذَا دعوتَنَا وأخذَ حجراً ليرميهِ عليهِ السلامُ بهِ {وَتَبَّ} أيْ وهلكَ كُلُّه وقيلَ المرادُ بالأولِ هلاكُ جملتِه كقولِه تعالَى {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} ومَعْنى وتَبَّ وكانَ ذلكَ وحصلَ كقولِ من قالَ جَزَانِي جَزَاهُ الله شَرَّ جزائِه جزاءَ الكلابِ العاوياتِ وَقَدْ فَعَلْ ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ وقَدْ تَبَّ وقيلَ الأولُ إخبارٌ عن هلاكِ عملِه لأنَّ الأعمالَ تزاولُ غالباً بالأيدِي والثاني إخبار عن هلاك نفسه وقيل كلاهما دعاء عليه بالهلاك وقيل الأول دعاء والثاني إخبار وذِكرُ كنيتِه للتعريضِ بكونِه جُهنمياً ولاشتهارِه بهَا ولكراهةِ ذكرِ اسمِه القبيحِ وقُرِىءَ أَبُو لهبٍ كما قيلَ عليُّ بنُ أبُو طالبٍ وقرىءَ أبي لَهْبٍ بسكون الهاء(9/210)
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
{مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أيْ لَمْ يُغنِ عنْهُ حينَ حَلَّ بهِ التبابُ على أنَّ ما نافيةٌ أو أيَّ شيءٍ أغنَى عنْهُ على أنَّها استفهاميةٌ في مَعْنى الإنكارِ منصوبةٌ بمَا بعدَها أصلُ مالِه وما كسبَهُ مِنَ الأرباحِ والنتائجِ والمنافعِ والوجاهةِ والأتباعِ أو مالُه الموروثُ من أبيهِ والذي كسبَهُ بنفسِه أو عملُه الخبيثُ الذي هُو كيدُه في عداوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أو عملُه الذي ظَنَّ أنَّه منْهُ على شيءٍ كقولِه تعَالَى {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} وعَنِ ابن عباس رضي الله عنهُمَا ما كسبَ ولدُهُ ورُويَ أنه كانَ يقولُ إنْ كانَ ما يقولُ ابنُ أخِي حقاً فأنَا أفتدِي منْهُ نفسِي بمالِي وولدِي فأستخلصُ منهُ وقد خابَ مرجاهُ وما حصلَ ما تمناهُ فافترسَ ولدَهُ عتبةَ أسدٌ في طريقِ الشامِ بينَ العيرِ المكتنفةِ بهِ وقدْ كانَ عليهِ السلامُ دعَا عليهِ وقالَ اللهمَّ سلِّطْ عليهِ كلباً من كلابكَ وهلك نفسه بالعدسةِ بعدَ وقعةِ بدرٍ لسبعِ ليالٍ فاجتنبَهُ أهلُهُ مخافةَ العدوَى وكانتْ قريشٌ تتقيهَا كالطاعونِ فبقَي ثلاثاً حتى أنتنَ ثم استأجرُوا بعضَ السودانِ فاحتملُوه ودفنُوه فكان(9/210)
} 11 سورة المد آية (3 5)
الأمرُ كما أخبرَ بهِ القرآن
الآيات 3 5(9/211)
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)
{سيصلى} بفتحِ الياءِ وقُرِىءَ بضمِّها وفتحِ اللامِ بالتخفيفِ والتشديدِ والسينُ لتأكيدِ الوعيدِ وتشديدِه أيْ سيدخلُ لا محالةَ بعدَ هذا العذابِ العاجلِ في الآخرةِ {نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} أيْ ناراً عظيمةً ذاتَ اشتعالٍ وتوقدٍ وهيَ نارُ جهنمَ وليسَ هذا نصاً في أنَّه لا يؤمنُ أبداً حَتَّى يلزم من تكليفه الإيمان بالقرآن أن يكون مكلفاً بأنُ يؤمنَ بأنَّهُ لاَ يؤمنُ أبداً فيكونَ مأموراً بالجمعِ بينَ النقيضينِ كما هُوَ المشهورُ فإنَّ صِلي النارِ غيرُ مختصَ بالكفارِ فيجوزُ أنْ يفهمَ أبْو لهبٍ من هذا أنَّ دخولَهُ النارَ لفسقِه ومعاصيهِ لا لكفرِهِ فلا اضطرارَ إلى الجوابِ المشهورِ من أنَّ ما كلفَهُ هُوَ الإيمانُ بجميعِ ما جاء به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم إجمالاً لا الإيمانَ بتفاصيلِ ما نطقَ بهِ القرآنُ حتَّى يلزمَ أنْ يكلفَ الإيمانَ بعدمِ إيمانِه المستمرِ(9/211)
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
{وامرأته} عطفٌ على المستكنِّ في سيصلَى لمكانِ الفصلِ بالمفعولِ وهيَ أمُّ جميلٍ بنت حرب أخب أبي سفيانَ وكانتْ تحملُ حزمةً من الشوكِ والحَسَكِ والسعدانِ فتنثرَها بالليلِ في طريق النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يطؤُه كمَا يطأُ الحريرَ وقيلَ كانتْ تمشِي بالنميمةِ ويقالُ لمنْ يمشِي بالنمائمِ ويفسدُ بينَ الناسِ يحملُ الحطبَ بينهُمْ أيْ يوقدُ بينهُم النارَ {حَمَّالَةَ الحطب} بالنصبِ على الشتمِ والذمِّ وقيلَ على الحاليةِ بناءً على أنَّ الإضافةَ غيرُ حقيقيةٍ إذِ المرادُ أنَّها تحملُ يومَ القيامةِ حزمةً من حطبِ جهنمَ كالزقومِ والضريعِ وعن قتادةَ أنَّها معَ كثرةِ مالِها كانتْ تحملُ الحطبَ على ظهرِهَا لشدةِ بُخْلها فعيرتْ بالبخلِ فالنصبُ حينئذٍ على الشتمِ حتما وقرئ بالرفع على أنه خبرُ وأمرأته مبتدأ وقرئ حمالةٌ للحطبِ بالتنوينِ نصباً ورفعا وقرئ مُريَّتُهُ بالتصغيرِ للتحقيرِ(9/211)
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
{فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ} جملةٌ من خبرٍ مقدمٍ ومبتدأ مؤخرٍ والجملةُ حاليةٌ وقيلَ الظرفُ خبرٌ لامرأتِه وحبلٌ مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ وقيلَ هُو حالٌ من امرأتِه على تقديرِ عطفِها على ضميرِ سيصلَى وحبلٌ فاعلٌ كما ذُكرَ والمسدُ ما يُفتلُ من الحبالِ فتلاً شديداً من ليفِ المقلِ وقيلَ من أيِّ ليفٍ كانَ وقيلَ من لُحاءِ شجرٍ باليمنِ وقَدْ يكونُ من جلودِ الإبلِ وأوبارِها والمَعْنى في عنقِها حبلٌ ممَّا مسد من الحبل وأنها تحملُ تلكَ الحزمةَ من الشوكِ وتربطُها في جيدِها كما يفعلُ الحطابونَ تخسيساً بحالِها وتصويراً لهَا بصورةِ بعضِ الحطاباتِ من المواهنِ لتمتعضَ من ذلكَ ويتمعضَ بعلُها وهُما في بيتِ العزِّ والشرفِ قالَ مُرةُ الهَمْدانيُّ كانتْ أمُّ جميلٍ تأتِي كُلَّ يومٍ بإبالةٍ من حَسَكٍ فتطرحُها على طريقِ المسلمينَ فبينَا هي ذاتَ ليلةٍ حاملةٌ حزمةً أعيتْ فقعدتْ على حجرٍ لتستريحَ فجذبَها الملكُ من خلفِها فاختنقتْ بحبلِها عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة المسد ثبت رجوتُ أنْ لا يجمعَ الله بينَهُ وبينَ أبي لهبٍ في دارٍ واحدةٍ(9/211)
} 12 سورة الإخلاص مكية مختلف فيها وآيها أربع
بسم الله الرحمن الرحيم(9/212)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} الضميرُ للشأنِ ومدارُ وضعِهِ موضعه معَ عدمِ سبْق ذكرِه الإيذانُ بأنَّه منَ الشهرةِ والنباهةِ بحيثُ يستحضرُهُ كلُّ أحدٍ وإليهِ يشيرُ كُلُّ مشيرٍ وإليهِ يعودُ كلُّ ضميرٍ كما ينبىءُ عَنْهُ اسمُهُ الذي أصلُهُ القصدُ أطلق على المفعول مبالغة ومحله الرفع على الابتداء خبرُهُ الجملةُ بعدَهُ ولا حاجةَ إلى الربطِ لأَنَّها عينُ الشأنِ الذي عبرَ عَنْهُ بالضميرِ والسرُّ في تصديرِ الجملةِ بهِ التنبيهُ منْ أولِ الأمرِ عَلى فخامةِ مضمونِهَا وجلالةِ حيزِهَا مع ما فيه من زيادةِ تحقيقٍ وتقريرٍ فإنَّ الضميرَ لا يفهم منه من أولِ الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ جليلٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما أمامَهُ مما يفسرُهُ ويزيلُ إبهامَهُ فيتمكنُ عندَ ورودِه لَهُ فضلُ تمكنٍ وهمزةُ أحدٍ مُبدلةٌ منْ الواوِ وأصلُهُ وَحَدٌ لاَ كهمزةِ ما يلازمُ النفيَ ويرادُ بهِ العمومَ كمَا في قوله تعالى {فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين} ومَا في قولِهِ عليهِ السلامُ ما أُحِلَّتِ الغنائمُ لأحدٍ سودِ الرؤوسِ غيركم فإن أصليةٌ وقالَ مكيٌّ أصلُ أحدٍ واحدٌ فأبدلتْ الواوُ همزةً فاجتمعَ ألفانِ لأنَّ الهمزةَ تشبهُ الألفَ فحذفتْ إحداهُمَا تخفيفاً وقالَ ثعلبٌ إن أحد إلا يُبنى عليهِ العددُ ابتداءً فلا يقالُ أحدٌ واثنانِ كَما يقالُ واحدٌ واثنانِ ولا يقالُ رجلٌ أحدٌ كما يقالُ رجلٌ واحدٌ ولذلكَ اختصَّ بهِ تعالَى أو هو كما سئِلَ عَنْهُ أيِ الذي سألتُم عنْهُ هُو الله إذ رُوِيَ أنَّ قريشاً قالُوا صِفْ لَنَا ربكَ الذي تدعونَا إليهِ وانسُبْهُ فنزلتْ فالضميرُ مبتدأٌ والله خبرُهُ وأحدٌ بدلٌ منْهُ أو خبرٌ ثانٍ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقُرِىءَ هُوَ الله أحدٌ بغيرِ قُلْ وقرئ الله أحدٌ بغيرِ قُلْ هو وقرئ قُلْ هُوَ الواحدُ وقولُهُ تعالَى(9/212)
اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
{الله الصمد} مبتدأٌ وخبر والصمدُ فَعَلٌ بمَعْنَى مفعولٍ من صمد إليهِ إذَا قَصَدَهُ أيْ هُوَ السيدُ المصمودُ إليهِ في الحوائجِ المُسْتغنى بذاتِهِ وَكُلَّ ما عداهُ محتاجٌ إليهِ في جميعِ جهاتِهِ وقيلَ الصمدُ الدائمُ الباقِي الذي لَمْ يزلْ وَلاَ يزالُ وقيلَ الذي يفعلُ ما يشاء ويحكُم ما يريدُ وتعريفُهُ لعلمِهِم بصمديتِهِ بخلافِ أحديَتِهِ وتكريرُ الإسمِ الجليلِ للإشعارِ بأنَّ منْ لم يتصفْ بذلكَ فهوَ بمعزلٍ منَ استحقاقِ الألوهيةِ وتعريةُ الجملةِ عنِ العاطفِ لأنَّها كالنتيجةِ للأولى بيَّنَ أولا ألوهيته عن(9/212)
} 12 سورة الإخلاص آية (3 4) وجلَّ المستتبعةَ لكافةِ نعوتِ الكمالِ ثمَّ أحديتَهُ الموجبةَ تنزهَّهُ عنْ شائبةِ التعددِ والتركيبِ بوجهٍ منَ الوجوهِ وتوهمِ المشاركةِ في الحقيقةِ وخواصِّهَا ثُمَّ صمديتَهُ المقتضيةَ لاستغنائِهِ الذاتِيِّ عَمَّا سواهُ وافتقارِ جميعِ المخلوقاتِ إليهِ في وجودِهَا وبقائِهَا وسائرِ أحوالِهَا تحقيقاً للحقِّ وإرشاداً لهم إلى سننه الواضحِ ثُمَّ صرحَ ببعضِ أحكامٍ جزئيةٍ مندرجةٍ تحتَ الأحكامِ السابقةِ فقيلَ(9/213)
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)
{لَمْ يَلِدْ} تنصيصاً على إبطالِ زعمِ المفترينَ في حقِّ الملائكةِ والمسيحِ ولذلكَ وردَ النفيُ على صيغةِ الماضِي أيْ لَمْ يصدُرْ عنْهُ ولدٌ لأنَّهُ لا يجانسُهُ شيءٌ ليمكنَ أنْ يكونَ لهُ من جنسِهِ صاحبة فيتوالدا كما نطق به قوله تعالى {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} ولا يفتقرُ إلى ما يعينُهُ أو يخلفُهُ لاستحالةِ الحاجةِ والفناءِ عليهِ سبحانَهُ {وَلَمْ يُولَدْ} أيْ لمْ يصدر عن شيءٌ لاستحالةِ نسبةِ العدمِ إليه سابقاً ولاحقاً والتصريحُ بهِ مع كونهم معترفين بمضمونِهِ لتقريرِ ما قبلَهُ وتحقيقه بالإشارةِ إلى أنَّهما متلازمانِ إذِ المعهودُ أنَّ ما يلد يولد ومالا فَلاَ ومنْ قضيةِ الاعترافِ بأنه لم يولد الاعترافِ بأنَّهُ لا يلدُ فهو قريبٌ منْ عطفِ لا يستقدمون على ما يستأخرونَ كمَا مرَّ تحقيقُهُ(9/213)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} أيْ لم يكافئهُ أحدٌ ولَمْ يماثلهُ ولَمْ يشاكلهُ من صاحبةٍ وَغيرِهَا وله صلة لكفؤا قدمتْ عليهِ معَ أنَّ حَقَّهَا التأخرُ عَنْهُ للاهتمامِ بِهَا لأنَّ المقصودَ نفيُ المكافأةِ عنْ ذاتِهِ تعالَى وقد جُوِّزَ أنْ يكون خبراً لا صلةَ ويكونَ كُفؤاً حالاً من أحدٍ وليسَ بذاكَ وأما تأخيرُ اسمِ كانَ فلمراعاةِ الفواصلِ ووجهُ الوصلِ بينَ هذهِ الجملِ غنيٌّ عن البيانِ وقرئ بضمِّ الكافِ والفاءِ معَ تسهيلِ الهمزةِ وبضمِّ الكافِ وَكسرِهَا معَ سُكُونِ الفاءِ هَذا ولانطواءِ السورةِ الكريمةِ معَ تقاربِ قُطْريها عَلى أشتاتِ المعارفِ الإلهيةِ والردِّ عَلى منْ ألحَدَ فيهَا وردَ في الحديثِ النبويِّ أنها تدل ثلثَ القرآنِ فإنَّ مقاصدَهُ منحصرةٌ في بيانِ العقائدِ والأحكامِ والقصصِ ومَنْ عَدَلَها بكله اعتبرَ المقصودَ بالذاتِ منْهُ روى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال أسست السمزات السبعُ والأرضونَ السبعُ عَلى قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ أي ما خالقت إلا لتكونَ دلائلَ عَلَى توحيدِ الله تعالَى ومعرفةِ صفاتِهِ التي نطقتْ بها هذِه السورةُ وعنهُ عليهِ السَّلامُ أنه سمعَ رجلاً يقرأُ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ فقالَ وجبتْ فقيلَ وما وجبتْ يا رسولَ الله قالَ وجبتْ لَهُ الجنةُ(9/213)
} 13 سورة الفلق مكية مختلف فيها وآيها خمس بسم الله الرحمن الرحيم(9/214)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} الفَلَقُ الصُّبْحُ كالفرقِ لأنَّه يفلق عنه الليل ويفرق فَعَلٌ بمعنى مفعولٍ فإنَّ كلَّ واحدٍ منَ المفلوقِ والمفلوقِ عنْهُ مفعولٌ وقيلَ هُوَ ما انفلقَ منْ عمودِهِ وقيلَ هُو كُلَّ ما يفلُقُهُ الله تعالَى كالأض عنِ النباتِ والجبالِ عنِ العيونِ والسحابِ عنِ الأمطارِ والحبِّ والنَّوى عما يخرجُ منهُمَا وغيرُ ذلكَ وفِي تعليقِ العياذِ باسمِ الرَّبِّ المضافِ إلى الفلقِ المنبىءِ عنِ النورِ عَقيبَ الظلمةِ والسَّعةِ بعدَ الضيقِ والفتقِ بعدَ الرتقِ عدةٌ كريمةٌ بإعادة العائذِ مِمَّا يعوذُ منْهُ وإنجائِهِ منْهُ وتقويةٌ لرجائِهِ بتذكيرِ بعضِ نظائِرِهِ ومزيدُ ترغيبٍ لَهُ في الجدِّ والاعتناءِ بقرعِ بابِ الالتجاءِ إليهِ تعالَى وأمَّا الإشعارُ بأنَّ منْ قدرَ أنْ يزيلَ ظلمةَ الليلِ منْ هذَا العالمِ قدرَ أنْ يزيلَ عنِ العائذِ ما يخافُهُ كما قيلَ فَلاَ إذ لا ريب العائذ في قدرتِهِ تَعَالَى عَلى ذلكَ حتى يحتاجَ إلى التنبيهِ عليهَا(9/214)
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
{مِن شَرّ مَا خَلَقَ} أَيْ مِنْ شَرِّ ما خلقه من الثقلين وغيرِهم كائناً ما كانَ منْ ذواتِ الطبائعِ والاختيارِ وهَذَا كَمَا تَرَى شَاملٌ لجميعِ الشرورِ فمَنْ توهَم أنَّ الاستعاذة هاهنا من المضارِّ البدنيةِ وأنَّها تعم الإنسان وغيره بما بصددِ الاستعاذةِ ثُمَّ جعلَ عُمومَهَا مَداراً لإضافةِ الربِّ إلى الفلقِ فقدْ نَأَى عنِ الحَقِّ بمراحلَ وإضافةُ الشرِّ إليهِ لاختصاصِهِ بعالمِ الخلقِ المؤسسِ على امتزاجِ الموادِّ المتباينةِ وتفاعلِ كيفياتِهَا المتضادةِ المستتبعةِ للكونِ والفسادِ وأما عالمُ الأمرِ فهُوَ خيرٌ محضٌ منزهٌ عنْ شوائبِ الشرِّ بالمرةِ(9/214)
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
وقولُهُ تعالَى {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ} تخصيصٌ لبعضِ الشرورِ بالذكرِ معَ اندراجِهِ فيما قبلَهُ لزيادةِ مساسِ الحاجةِ إلى الاستعاذةِ منْهُ لكثرةِ وقوعِهِ ولأنَّ تعيينَ المستعاذِ منْهُ أدلّ على الاعتناءِ بالاستعاذةِ وأدعَى إلى الإعاذةِ أيْ وَمِنْ شرِّ ليلٍ مُعتكرٍ ظَلامُهُ مِنْ قوله تعالى {إلى غسق الليل} وأصل الغسق سيلانُ دمعِهَا وإضافةُ الشرِّ إلى اللليل لملابستِهِ لَهُ بحدوثِهِ فيهِ وتفكيره لعدمِ شمولِ الشرِّ لجميعِ أفرادِهِ ولا لكُلِّ أجزائِهِ وتقييدُهُ بقولِهِ تعالَى {إِذَا وقب}(9/214)
} 13 سورة الفلق آية (4 5) أيْ دخلَ ظلامُهُ في كُلِّ شيءٍ لأَنَّ حدوثَهُ فيهِ أكثرُ والتحرزَ منْهُ أصعبُ وأعسرُ ولذلكَ قيلَ الليلُ أَخْفَى للويلِ وقيلَ الغاسقُ هُوَ القمرُ إذَا امتلأَ ووقوبُهُ دخولُهُ في الخسوفِ واسودادُهُ لمَا رُوِيَ عن عائشةَ رضيَ الله عنْهَا أنَّها قالتْ أخذَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأشارَ إلى القمرِ فقالَ تعوذِي بالله تَعَالَى من شر هذا الغاسقُ إذَا وقبَ وقيلَ التعبيرُ عنِ القمرِ بالغاسقِ لأنَّ جُرْمَهُ مظلمٌ وإنما يستنيرُ بضوءِ الشمسِ ووقوبُهُ المحاقُ في آخرِ الشهرِ والمنجمونَ يعدونَهُ نحساً ولذلكَ لا يشتغلُ السحرةُ بالسحرِ المورث للتمريضِ إلاَّ في ذلكَ الوقتِ قيلَ وهُو المناسبُ لسببِ النزولِ وقيلَ الغاسقُ الثُّريا ووقوبُهَا سقوطُها لأنَّها إذَا سقطتْ كثرتِ الأمراضُ والطواعينُ وقيلَ هُو كلُّ شرَ يعترِي الإنسانَ ووقوبُهُ هجومُهُ(9/215)
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
{وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد} أيْ وَمِنْ شَرِّ النفوسِ أو النساءِ السواحرِ اللاتي يعقد عُقَداً في خيوطٍ ويَنْفُثنَ عليهَا والنفثُ النفخُ معَ ريقٍ وقيلَ بدونِ ريقٍ وقُرِىءَ النافثاتُ كما قُرِىءَ النفثاتُ بغيرِ ألفٍ وتعريفُهَا إمَّا للعهدِ أوْ للإيذانِ بشمولِ الشرِّ لجميعِ أفرادِهِنَّ وتمحضهنَّ فيهِ وتخصيصُهُ بالذكرِ لما رَوَى ابْنُ عبَّاسٍ وعائشةُ رَضِيَ الله عنهُم أنَّهُ كانَ غلامٌ من اليهود يخدم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وكانَ عندَهُ أسنانٌ منْ مشطه صلى الله عليه وسلم فأعطاها لليهود فسحرُوهُ عليهِ السلامُ فيهَا وتولاَّهُ لبَيْدُ بنُ الأَعصمِ اليهوديُّ وبناتُهُ وهُنَّ النافثاتُ في العقدِ فدفَنَها في بئرِ أريسٍ فمرضَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ بالمعوذتينِ وأخبرَهُ بموضعِ السحرِ وبمَنْ سحرَهُ وبمَ سحرَهُ فأرسل صلى الله عليه وسلم علياً كرمَ الله وجْهَهُ والزبيرَ وعمَّاراً رضيَ الله عنْهُما فنزحُوا ماءَ البئرِ فكأنَّهُ نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ ثمَّ رفعوا راعوثة البئرِ وهيَ الصخرةُ التي توضعُ في أسفلِ البئرِ فأخرجُوا منْ تحتِهَا الأسنانَ ومعَها وترٌ قدْ عُقِدَ فيهِ إحدَى عشرةَ عقدةً مغرزة بالإبرة فجاؤوا بها إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فجعلَ يقرأُ المعوذتينِ عليهَا فكانَ كلَّما قرأَ آيةً انحلت عقدة ووجد صلى الله عليه وسلم خفةً حتَّى انحلتْ العقدةُ الأخيرة عنه تمام السورتين فقام صلى الله عليه وسلم كأنَّما أُنْشِط مِنْ عِقال فقالُوا يا رسولَ الله أفلا نقتلُ الخبيثَ فقالَ صلى الله عليه وسلم أمَّا أنَا فقَد عافانِي الله عزَّ وجلَّ وأكرَهُ أنْ أثيرَ عَلى الناسِ شَراً قالتْ عائشةَ رضيَ الله عنهَا ما غضبَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم غضباً ينتقمُ لنفسِهِ قطُّ إلاَّ أنْ يكونَ شيئاً هُو لله تَعَالَى فيغضبُ لله وينتقمُ وقيلَ المرادُ بالنفثِ في العُقَدِ إبطالُ عزائم الرجال بالحيل ومستعار مِنْ تليينِ العقدةِ بنفثِ الريق ليسهلَ حلُّها(9/215)
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
{وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} أيْ إذَا أظهَرَ ما في نفسِه من الحسدِ وعملَ بمقتضاهُ بترتيبِ مقدماتِ الشرِّ ومبادىءِ الأضرارِ بالمحسودِ قولاً أو فعلاً والتقييدُ بذلكَ لما أنَّ ضررَ الحسدِ قبلَهُ إنما يحيق بالحسد لا غيره عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ المعوذتينِ فكأنَّما قرأَ الكتبَ التي أنزلَهَا الله تعالَى(9/215)
} 14 سورة الناس مكية مختلف فيها وآياتها ست
بسم الله الرحمن الرحيم(9/216)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1)
{قل أعوذ} وقرىء فى السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إِلى اللام {برب الناس} أَى مالك أُمورهم ومربيهم بإِفاضة ما يصلحهم ودفع ما يضرهم
وقوله تعالى(9/216)
مَلِكِ النَّاسِ (2)
{ملك الناس} عطف بيان جىء به لبيان أَن تربيته تعالى إِياهم ليست بطريق تربية سائرا لملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والتصرف الكلى والسلطان القاهر(9/216)
إِلَهِ النَّاسِ (3)
وكذا قوله تعالى {إله الناس} فإِنه لبيان أن ملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم والقيام بتدبير أمورهم وسياستهم والتولى لترتيب مبادىء حفظهم وحمايتهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلى فيهم إحياء وإماتة وإيجاداً وإعداماً وتخصيص الإِضافة بالناس مع انتظام جميع العالمين فى سلك ربوبيته تعالى وملكوتيته وألوهيته للإرشاد إلى منهج الاستعاذة المرضية عنده تعالى الحقيقة بالإِعاذة فإِن توسل العائذ بربه وانتسابه إليه تعالى بالمربوبية والمملوكية والعبودية فى ضمن جنس هو فرد من أفراده من دواعى مزيد الرحمة والرأفة وأمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة ولأن المستعاذ منه شر الشيطان المعروف بعداوتهم ففى التنصيص على انتظامهم فى سلك عبوديته تعالى وملكوته رمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان وتسلطه عليهم حسبما ينطِق به قوله تعالى {إِن عبادى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} فمن جعل مدار تخصيص الإضافة مجرد كون الاستعاذة من المضار المختصة بالنفوس البشرية فقد قصر فى توفية المقام حقه وأما جعل المستعاذ منه فيما سبق المضار البدنية فقد عرفت حاله وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة(9/216)
مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)
{من شر الوسواس} هو اسم بمعنى الوسوسة وهى الصوت الخفى كالزلزال بمعنى(9/216)
} 14 سورة الناس آية (5 6) الزلزلة وأما المصدر فبالكسر والمراد به الشيطان سمى بفعله مبالغة كأنه نفس الوسوسة {الخناس} الذى عادته أن يخنس أى يتأخر إذا ذكر الإنسان ربه(9/217)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)
{الذى يوسوس فى صدور الناس} إذا غفلوا عن ذكره تعالى ومحلُّ الموصولِ إما الجرُّ على الوصف وإما الرفع أو النصبُ على الذم(9/217)
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
{من الجنة والناس} بيان للذى يوسوس على أنه ضربان جنى وإنسى كما قال عز وجل شياطين الإنس والجن أو متعلق بيوسوس أي يوسوس في صدرهم من جهة الجن ومن جهة الإنس وقد جوز أن يكون بياناً للناس على أنه يطلق على الجن أيضاً حسب إطلاق النفر والرجال عليهم ولا تعويل عليه وأقرب منه أن يراد بالناس الناسى ويجعل سقوط الياء كسقوطها في قوله تعالى {يَوْمَ يدع الداع} ثم يبين بالجنة والناس فإن كلَّ فردٍ من أفراد الفريقين مبتلى بنسيان حق الله تعالى إلا من تداركه شوافع عصمته وتناوله واسع رحمته عصمنا الله تعالى من الغفلة عن ذكره ووفقنا لأداء حقوق شكره
تم بحمد الله وعونه هذا التفسير الجليل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين(9/217)
خاتمة المؤلف
قال العبد الذليل متضرعا إلى ربه الجليل اللهم يا ولي العصمة والإرشاد وهادي الغواة إلى سنن الرشاد بارىء البرية مالك الرقاب عليك توكلي وإليك متاب أنت المغيث لكل حائر ملهوف والمجير من كل هائل مخوف ألوذ بحرمك المأمون من غوائل ريب المنون وألتجئ إلى حرزك الحريز وآوى إلى ركنك العزيز وأسألك من خزائن برك المخزون في مكامن سر المكنون خير ما جرى به قلم التكوين من أمور الدنيا والدين وأعوذ بك من فنون الفتن والشرور لا سيما الاطمئنان بدار الغرور والاغترار بنعيمها وزهرتها والافتتان بزخارفها وزينتها فأعذني بحمايتك وأعني بعنايتك وأفض على من شوارق الأنوار الربانية وبوارق الآثار السبحانية ما يخلصني من العوائق الظلمانية ويجردني من العلائق الجسمانية وهذب نفسي الأبية من دنس الطبائع والأخلاق ونور قلبي القاسي بلوامع الإشراق ليستعد للعبور على سرائر الأنس ويتهيأ للحضور في حظائر القدس وثبتني على مناهج الحق والهدى وأرشدني إلى مسالك البر والتقى واجعل أعز مرامي ابتغاء رضاك وأشرف أيامي يوم لقاك يوم يقوم الناس لرب العالمين فريقا فريقا واحشرني مع الذين أنعمت عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا(9/218)