سورة النور 63 ليس بأمرٍ محتومٍ بل هو مفوَّض إلى رأيِه صلى الله عليه وسلم والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي بعد ما تحقَّق أنَّ الكاملين في الإيمان هم المستأذنُون فإذا استأذنوك {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أي لبعضِ أمرِهم المهم وخَطبهم المُلِّمِ {فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} لما علمتَ في ذلك من حكمةٍ ومصلحةٍ {واستغفر لَهُمُ الله} فإنَّ الاستئذانَ وإنْ كان لعذرٍ قويَ لا يخلُو عن شائبةِ تقديمِ أمرِ الدُّنيا على أمرِ الآخرةِ {أَنَّ الله غَفُورٌ} مبالِغٌ في مغفرةِ فرطاتِ العبادِ {رَّحِيمٌ} مبالِغٌ في إفاضةِ آثار الرَّحمةِ عليهم والجملةُ تعليلٌ للمغفرة الموعودةِ في ضمن الأمرِ بالاستغفار لهم(6/198)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ} استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله والالتفاتُ لإبراز مزيدِ الاعتناءِ بشأنِه أَيْ لاَ تجعلوا دعوته صلى الله عليه وسلم إيَّاكم في الاعتقاد والعملِ بها {كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً} أي لا تقيسُوا دعاءَه صلى الله عليه وسلم إيَّاكُم على دعاء بعضِكم بعضاً في حالٍ من الأحوالِ وأمرٍ من الأمور التي من جُملتها المساهلةُ فيه والرُّجوعُ عن مجلسه صلى الله عليه وسلم بغير استئذانٍ فإنَّ ذلكَ من المحرَّماتِ وقيل لا تجعلوا دعاءه صلى الله عليه وسلم ربَّه كدعاءِ صغيرِكم كبيرَكم يجيبه مرَّةً ويردُّه أُخرى فإنَّ دعاءَه مستجابٌ لا مردَّ له عند الله عزَّ وجلَّ وتقريرُ الجملةِ حينئذٍ لما قبلها أما من حيثُ إنَّ استجابتَه تعالى لدعائه صلى الله عليه وسلم ممَّا يُوجب امتثالَهم بأوامره صلى الله عليه سلم ومتابعتَهم له في الورود والصُّدورِ أكملَ إيجابٍ وأما من حيثُ إنها موجبةٌ للاحتراز عن التَّعرض لسخطه صلى الله عليه وسلم المؤدِّي إلى ما يُوجبُ هلاكهم من دعائه صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ وأمَّا ما قيل من أنَّ المعنى لا تجعلوا نداءه صلى الله عليه وسلم كنداءِ بعضِكم بعضاً باسمِه ورفع الصَّوتِ والنِّداءِ من رواء الحجرات ولكن بلقيه المعظَّم مثل يا رسولَ الله يا نبيَّ الله مع غايةِ التَّوقيرِ والتَّفخيمِ والتَّواضعِ وخفضِ الصَّوتِ فلا يناسب المقامَ فإن قوله تعالى {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ} الخ وعيد لمخالفي أمره صلى الله عليه وسلم فيما ذكرَ من قبلُ فتوسيطُ ما ذكر بينهما مما لا وجهَ لَهُ والتسلل الخروج من البيت على التَّدريجِ والخفيةِ وقد للتَّحقيق كما أنَّ رُبَّ تجئ للتَّكثير حسبما بُيِّن في مطلع سورةِ الحجرِ أي يعلمُ الله الذين يخرجُون من الجماعة قليلاٌ قليلاً على خُفيةٍ {لِوَاذاً} أي مُلاوذةً بأن يستترَ بعضُهم ببعضٍ حتَّى يخرجَ أو بأن يلوذَ بمن يخرجُ بالإذنِ إراءةً أنَّه من أتباعه وقرئ بفتحِ اللاَّمِ وانتصابُه عَلى الحاليةِ من ضمير يتسللون أي مُلاوذين أو على أنَّه مصدرٌ مؤكدٌ لفعل مضمرٍ هو الحالُ في الحقيقة أي يلوذُون لِواذاً والفاء في قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ} لترتيب الحذرِ أو الأمرِ به على ما قبلها من علمه تعالى بأحوالهم فإنَّه ممَّا يُوجب الحذرَ البتةَ أي يخالفون أمرَه بترك مقتضاه ويذهبونَ سمتا خلاف سمته وعن إما لتضمُّنه معنى الإعراضِ أو حملِه على معنى يصدون عن أمره دُون المؤمنين من خالفَه عن الأمر إذا صدَّ عنه دونه وحذفُ المفعولِ لما أنَّ المقصودَ بيانُ المُخالِفِ والمُخالَفَ عنه والضَّميرُ لله تعالى لأنَّه الآمرُ حقيقةً أو للرَّسول صلى الله عليه وسلم لأنَّه المقصودُ بالذِّكر {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي محنةٌ في الدُّنيا أَوْ {يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي في الآخرةِ وكلمةُ أَوْ لمنعِ الخُلوّ دونَ الجمعِ وإعادة الفعل صريحا(6/198)
سورة النور 64 للاعتناء بالتَّهديد والتَّحذيرِ واستُدل به على أنَّ الأمرَ للإيجاب فإنَّ ترتيب العذابينِ على مخالفته كما يُعرب عنه التَّحذيرُ عن إصابتهما يوجبُ وجوبَ الامتثالِ به حتماً(6/199)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
{أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السماوات والأرض} من الموجوداتِ بأسرِها خلفا وملكا وتصرفا إيجادا وإعداما بدء وإعادةً {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} أيُّها المُكلَّفون من الأحوالِ والأوضاعِ التي من جُملتها الموافقةُ والمخالفةُ والإخلاصُ والنِّفاقُ {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} عطفٌ على ما أنتُم عليهِ أي يعلمُ يومَ يُرجع المنافقون المخالفون للأمرِ إليه تعالى للجزاءِ والعقابِ وتعليقُ علمِه تعالى بيومِ رجوعِهم لا يرجعهم لزيادةِ تحقيق علمِه تعالى بذلك وغايةُ تقريرِه لما أنَّ العلمَ بوقت وقوع الشيء مستلزم للعمل بوقوعِه على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وفيه إشعارٌ بأنَّ علمَه تعالى لنفسِ رجوعِهم منَ الظهورِ بحيثُ لا يحتاجُ إلى البيانِ قطعاً ويجوزُ أن يكونَ الخطابُ أيضاً خاصّاً بالمنافقين على طريقه الالتفات وقرئ يَرجعون مبنيّاً للفاعلِ {فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} منَ الأعمال السَّيئةِ التي من جُملتها مخالفةُ الأمر فيترتب عليه ما يليقُ به من التَّوبيخ والجزاء وقد مرَّ وجهُ التَّعبيرِ عن الجزاء بالتنبئة في قولِه تعالى إِنَّمَا بغيكم على أَنفُسِكُمْ الآيةَ {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ من مثقالُ ذَرَّةٍ في الأرضِ ولا في السَّماءِ} عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سُورةَ النُّور أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسناتٍ بعددِ كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ فيما مَضَى وفيما بَقِي والله سبحانَهُ وتعالَى أعلم(6/199)
سورة الفرقان 1 {
سورة الفرقان مكية إلا الآيات 68 و 69 و 70 فمدنية وآياتها 77 {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم}(6/200)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
{تَبَارَكَ الذى نَزَّلَ الفرقان} البركةُ النَّماءُ والزِّيادةُ حسيَّةً كانتْ أو معنويَّةً وكثرةُ الخير ودامه أيضاً ونسبتُها إلى الله عزَّ وجلَّ على المَعْنى الأوَّل وهُو الأليقُ بالمقامِ باعتبارِ تعاليهِ عمَّا سواهُ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ التي من جملتها تنزيل القُرآنِ الكريمِ المُعجزِ النَّاطقِ بعلُوِّ شأنِه تعالى وسموِّ صفاتِه وابتناءِ أفعالِه على أساس الحِكَمِ والمصالحِ وخلوِّها عن شائبة الخَلَلِ بالكُلِّيةِ وصيغةُ التَّفاعلُ للمبالغةِ فيما ذكر فإن مالا يُتصوَّرُ نسبتُه إليهِ سبحانَهُ حقيقةً من الصِّيغ كالتَّكبر ونحوِه لا تُنسب إليه تعالى إلا باعتبار غايتِها وعلى المعنى الثَّاني باعتبارِ كثرةِ ما يفيضُ منهُ على مخلوقاتِهِ لا سيَّما على الإنسان من فُنون الخيراتِ التي من جُملتها تنزيلُ القُرآن المنطويِ على جميع الخيراتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ والصِّيغةُ حينئذٍ يجوزُ أنْ تكون الإفادة نماءِ تلك الخيراتِ وتزايدها شيئاً فشيئاً وآناً فآناً بحسبِ حدوثِها أو حدوثِ متعلَّقاتِها ولاستقلالِها بالدِّلالة على غايةِ الكمالِ وتحقُّقِها بالفعلِ والإشعارِ بالتَّعجُّبِ المناسبِ للإنشاءِ والإنباءِ عن نهايةِ التَّعظيمِ لم يجُز استعمالُها في حقِّ غيرِه تعالى ولا استعمالُ غيرِها من الصِّيغِ في حقِّه تعالى والفُرقان مصدرُ فرقَ بينَ الشَّيئينِ أي فصَل بينهُما سمِّيَ به القرآنُ لغاية فرقِه بين الحقِّ والباطلِ بأحكامه أو بين المحق والمبطل بإعجازِه أو لكونه مفصولاً بعضِه من بعضٍ في نفسه أو في إنزاله {على عبده} محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وإيراده صلى الله عليه وسلم بذلك العُنوانِ لتشريفه والإيذانِ بكونه صلى الله عليه وسلم في أقصى مراتب العُبوديَّةِ والتنبيهِ على أنَّ الرَّسولَ لا يكونُ إلا عبداً للمرسِل ردًّا على النَّصارى {ليكون} غاية التنزيل أي نزَّله عليه ليكونَ هو صلى الله عليه وسلم أو الفرقانُ {للعالمين} من الثَّقلينِ {نَذِيراً} أيْ مُنذراً أو إنذاراً مبالغةً أو ليكون تنزيله إنذارا أو عدم التَّعرضِ للتَّبشير لانسياق الكلامِ على أحوالِ الكَفَرةِ وتقديمُ اللامِ على عاملِها لمراعاةِ الفواصل وإبراز تنزيل لفرقان في معرض الصِّلةِ التي حقَّها أن تكونَ معلومةَ الثبوتِ للموصولِ عند السَّامعِ مع إنكار الكَفَرةِ له لإجرائِه مُجرى المعلومِ المسلَّمِ تنبيهاً على كمال قُوَّةِ دلائلِه وكونِه بحيثُ لا يكادُ يجهلُه أحدٌ كقوله تعالَى لاَ رَيْبَ فِيهِ(6/200)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
{الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} أي له خاصَّة دُونَ غيرِه لا استقلالاً ولا اشتراكاً(6/200)
سورة الفرقان 3 السطان القاهرِ والاستيلاءِ الباهرِ عليهما المستلزمانِ للقدرة التَّامَّةِ والتَّصرفِ الكليِّ فيهمَا وفيمَا فيهما إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وأمراً ونهياً حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم والمَصَالحِ ومحلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها أو على أنَّه نعتٌ للموصولِ الأوَّلِ أو بيانٌ له أو بدلٌ منه وما بينهُمَا ليس بأجنبيَ لأنَّه من تمامِ صلتِه ومعلوميةُ مضمونِه للكَفرة مما لا ريبَ فيه لقولِه تعالى قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ونظائرِه أو مدحٌ له تعالى بالرفع أو بالنصر {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} كما يزعمُ الذين يقولون في حق المسيح ولملائكة ما يقولُون فسبحان الله عمَّا يصفون وهو معطوفٌ على ما قبله من الجملةِ الظَّرفيةِ ونظمه في سلك الصِّلةِ للإيذانِ بأنَّ مضمونَهُ من الوضوحِ والظهورِ بحيث لا يكاد يجهله جاهلٌ لا سيَّما بعد تقرير ما قبله {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك} أي مُلكِ السَّمواتِ والأرضِ وهو أيضاً عطفٌ على الصِّلةِ وإفرادُه بالذِّكر مع أنَّ ما ذُكر من اختصاص ملكِهما به تعالى مستلزمٌ له قطعاً للتَّصريح ببُطلان زعم الثَّنويَّةِ القائلينِ بتعددِ الآلهةِ والدَّرءِ في نحورِهم وتوسيطُ نفيِ اتِّخاذِ الولدِ بينهُما للتنبيهِ على استقلالِه وأصالتِه والاحترازِ عن توهُّم كونِه تتمة للأوَّلِ {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء} أي أحدثَ كلَّ موجودٍ من الموجوداتِ إحداثاً جارياً على سَنن التَّقديرِ حسبما اقتضتْهُ إرادتُه المبنيَّةُ على الحكم البالغةِ بأنْ خلقَ كُلاًّ منها من موادَّ مخصوصةٍ على صورٍ معينةٍ ورتَّب فيه قُوى وخواصَّ مختلفةَ الآثارِ والأحكامِ {فَقَدَّرَهُ} أي هيَّأه لما أرادَ به من الخصائص والأفعالِ اللاَّئقةِ به {تَقْدِيراً} بديعاً لا يُقادرُ قَدُرُه ولا يُبلغ كُنهُه كتهيئة الإنسانِ للفهمِ والإدراكِ والنَّظرِ والتَّدبرِ في أمور المعاشِ والمعادِ واستنباط الصائع المتنوع ومزاولةِ الأعمالِ المختلفةِ وهكذا أحوالُ سائرِ الأنواعِ وقيل أُريد بالخَلْقِ مطلقَ الإيجادِ والإحداثِ مجازاً من غيرِ ملاحظةِ معنى التَّقديرِ وإنْ لم يخلُ عنه في نفس الأمر فالمعنى أوجدَ كلَّ شيء فقدَّره في ذلك الإيجاد تقديراً وأما ما قيل من أنه أنَّه سَمَّى إحداثه تعالى خَلْقاً لأنَّه تعالى لا يُحدث شيئاً إلاَّ على وجه التَّقديرِ من غير تفاوت ففيه أنَّ ارتكابَ المجاز بحملِ الخلقِ على مُطلق الإحداثِ لتجريده عن معنى التَّقديرِ فاعتباره فيه بوجهٍ من الوجوه مخلٌّ بالمرام قطعاً وقيل المراد بالتَّقدير الثَّانِي هو التَّقديرُ للبقاء إلى الأجل المُسمَّى وأيا ما كان فالجملةُ جاريةٌ مجرى التَّعليلِ لما قبلها من الجُمل المنتظمةِ مثلَها في سلك الصِّلةِ فإنَّ خلقَهُ تعالى لجميع الأشياء على ذلك النَّمطِ البديعِ كما يقتضي استقلاله تعالى باتِّصافه بصفات الأُلوهيَّةِ يقتضي انتظامَ كلِّ ما سواه كائناً ما كان تحت ملكوته القاهرة بحيثُ لا يشِذُّ عنها شيءٌ من ذلك قطعاً وما كان كذلك كيف يُتوَّهم كونُه ولداً له سبحانه أو شريكاً في ملكه(6/201)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
{واتخذوا من دونه آلهة} بعدما بيَّن حقيقةَ الحقِّ في مطلع السورةِ الكريمة بذكر تنزله تعالى للفُرقان العظيم على رسوله صلى الله عليه وسلم ووصفِه تعالى بصفاتِ الكمال وتنزيهِه عمَّا لا يليقُ بشأنه الجليل عقَّب ذلك بحكايةِ أباطيلِ المُشركين في حقِّ المنزِّل سبحانَهُ والمنزَّلِ والمُنزَلِ عليه على التَّرتيب وإظهار بطلانها(6/201)
سورة الفرقان 4 والإضمارُ من غير جريان ذكرِهم للثقة بدلالة ما قبله من نفيِ الشَّريكِ عليهم أي اتَّخذوا لأنفسِهم متجاوزين الله تعالى الذي ذكر بعض شئونه الجليلةِ من اختصاصِ مُلكِ السَّمواتِ والأرضِ به تعالى وانتفاءِ الولد والشَّريكِ عنه وخلقِ جميعِ الأشياء وتقديرِها أبدعَ تقديرٍ آلهة {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا} أي لا يقدرون على خلق شيءٍ من الأشياءِ أصلاً {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} كسائر المخلوقاتِ وقيل لا يقدِرون على أن يختلقُوا شيئاً وهم يُختلقون حيث تختلقهم عبدتُهم بالنَّحت والتَّصويرِ وقولُه تعالى {وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} لبيان ما لم يدلَّ عليه ما قبله من مراتبِ عجزِهم وضعفِهم فإنَّ بعضَ المخلوقين العاجزينَ عن الخلقِ رُبَّما يملك دفع الضر وجلب النفع في الجملة كالحيوان وهؤلاءِ لا يقدرون على التصرف في ضُرَ ما ليدفعُوه عن أنفسِهم ولا في نفعٍ ما حتَّى يجلبوه إليهم فكيف يملكون شَيئاً منهما لغيرِهم وتقديمُ ذكرِ الضُّرِّ لأنَّ دفعَه مع كونِه أهمَّ في نفسه أوَّلُ مراتبِ النَّفعِ وأقدمُها والتَّنصيصُ على قولِه تعالى {وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةًَ وَلاَ نُشُوراً} أي لا يقدرون على التصرف في شيءٍ منها بإماتةِ الأحياءِ وإحياءِ المَوْتى وبعثِهم بعد بيانِ عجزِهم عمَّا هو أهونُ من هذه الأمور من دفع الضُّرِّ وجلب النَّفعِ للتَّصريحِ بعجزهم عن كلَّ واحدٍ ممَّا ذُكر على التَّفصيلِ والتَّنبيهِ على أنَّ الإله يجبُ أنْ يكونَ قادراً على جميعِ ذلك وفيه إيذانٌ بغاية جهلهم وسَخافةِ عقولِهم كأنَّهم غيرُ عارفين بانتفاء ما نُفي عن ألهتم من الأمور المذكورة مفتقرون إلى التَّصريح بذلك(6/202)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ} شروعٌ في حكاية أباطليهم المتعلِّقةِ بالمنزَّلِ والمنزَّل عليه معاً وإبطالِها والموصولُ إمَّا عبارةٌ عن غُلاتِهم في الكفر والطُّغيانِ وهم النَّضرُ بن الحرث وعبدُ اللَّهِ بنُ أميةَ ونوفلَ بنِ خُويلدٍ ومَن ضامّهم ورُوي عن الكَلْبيِّ ومُقاتلٍ أنَّ القائلَ هُو مضر بن الحرث والجمعُ لمشايعةِ الباقين له في ذلك وإمَّا عن كلِّهم ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم لذمِّهم بما في حيِّز الصِّلةِ والإيذانِ بأنَّ ما تفوَّهوا به كفرٌ عظيم في كلمةِ هذا حطٌّ لرتبة المشارِ إليه أي ما هذا إِلاَّ كذبٌ مصروفٌ عن وجهِه {افتراه} يريدون أنَّه اختلقَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ} أي على اختلاقه {قوم آخرون} يعنُون اليَّهودَ بأنْ يُلقوا إليه أخبار الأممِ الدَّارجةِ وهو يعبِّر عنها بعبارتِه وقيل هما جبرٌ ويسارٌ كانا يصنعانِ السيفَ بمكَّةَ ويقرآنِ التَّوراةَ والإنجيلَ وقيل هو عابسٌ وقد مرَّ تفصيلُه في سورة النَّحلِ {فقد جاؤوا ظُلْماً} منصوبٌ بجاءوا فإنَّ جاءوا أتى يستعملان في معنى فعل فيُعدَّيانِ تعديتَه أو بنزعِ الخافضِ أي بظلمٍ قاله الزَّجَّاجُ والتَّنوينُ للتَّفخيمِ أي جَاءوا بما قالُوا ظلماً هائلاً عظيما لا يُقادر قَدرُه حيث جعلُوا الحقَّ البحتَ الذي لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا منْ خلفِه إفكاً مُفترى من قبل البشرِ وهو من جهة نظمِه الرَّائقِ وطرزه الفائقِ بحيث لو اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ على مباراتِه لعجزُوا عن الإتيان بمثل آيةٍ من آياتِه ومن جهة اشتمالِه على الحِكَمِ الخفيَّةِ والأحكامِ المستتبعةِ للسَّعاداتِ الدِّينيةِ والدُّنيويَّةِ والأمور الغيبيَّةِ بحيثُ لا يناله عقولُ البشرِ ولا يفي بفهمه القُوى والقُدر(6/202)
سورة الفرقان 7 {وَزُوراً} أي كذباً كبيراً لا يُبلغ غايتُه حيث نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم ما هو برئ منه والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنَّهما أمرانِ مُتغايرانِ حقيقة يقع أحدُهما عقيب الآخرِ أو يحصل بسببه بل على أنَّ الثَّانِي هو عينُ الأوَّلِ حقيقة وإنَّما الترتيبُ بحسَب التَّغايرِ الاعتباريِّ وقد لتحقيقِ ذلك المعنى فإنَّ ما جاءوه من الظَّلمِ والزُّورِ هو عينُ ما حُكي عنهم لكنه لما كان مُغايراً له في المفهوم وأظهرَ منه بُطلاناً رُتِّبَ عليه بالفاء ترتيبَ اللازم على الملزوم تَهويلاً لأمره(6/203)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
{وَقَالُواْ أساطير الأولين} بعد ما جعلوا الحقَّ الذي لا محيدَ عنه إفكاً مختلَقاً بإعانة البشرِ بيَّنوا على زعمهم الفاسدِ كيفيَّةَ الإعانة والأساطير جمع أساطر أو أُسطورةٍ كأُحدوثةٍ وهي ما سطرَه المتقدِّمون من الخُرافاتِ {اكتتبها} أي كتبها لنفسِه على الإسنادِ المجازيِّ أو استكتبها وقرئ على البناءِ للمفعولِ لأنَّه صلى الله عليه وسلم أُميٌّ وأصله اكتتبها له كاتبٌ فحذف اللامُ وأُفضيَ الفعلُ إلى الضَّميرِ فصار اكتتبَها إيَّاه كاتبٌ ثم حُذف الفاعلُ لعدم تعلقِ الغرضِ العلميِّ بخصوصِه وبُني الفعلُ للضَّميرِ المنفصلِ فاستترَ فيه {فَهِىَ تملى عَلَيْهِ} أي تُلقي عليه تلك الأساطيرُ بعد اكتتابِها ليحفظَها من أفواهِ مَن يُمليها عليه من ذلك المكتتب لكونِه أميّاً لا يقدرُ على أنْ يتلقَّاها منه بالقراءةِ أو تملي على الكاتب على أنَّ معنى اكتتبها أرادَ اكتتابَها أو استكتابَها ورجعُ الضَّميرِ المجرورِ إليه صلى الله عليه وسلم لإسنادِ الكتابةِ في ضمن الاكتتاب إليه صلى الله عليه وسلم {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي دائماً أو خُفية قبل انتشارِ الناس وحين يأوون إلى مساكنِهم انظُر إلى هذهِ الرُّتبةِ من الجراءةِ العظيمةِ قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون(6/203)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
{قُلْ} لهم ردًّا عليهم وتحقيقاً للحقِّ {أَنزَلَهُ الذى يعلم السر في السماوات والأرض} وصفه تعالى بإحاطةِ علمِه بجميع المعلومات الجليَّةِ والخفيَّةِ للإيذان بانطواءِ ما أنزله على أسرارٍ مطويَّةٍ عن عقول البشر مع ما فيه من التَّعريضِ بمجازاتِهم بجناياتهم المحكيَّةِ التي هي من جُملة معلوماتِه تعالى أي ليس ذلك ممَّا يُفترى ويُفتعل بإعانة قومٍ وكتابة آخرين من الأحاديثِ المُلفَّقة وأساطيرِ الأوَّلينَ بل هو أمر سماويٌّ أنزله الله الذي لاَ يعزُب عنْ علمِه شيء من الأشياءِ وأودع فيه فنونَ الحكمِ والأسرارِ على وجهٍ بديعٍ لا يحومُ حوله الأفهامُ حيث أعجزَكم قاطبةً بفصاحتِه وبلاغتِه وأخبركم بمغيَّباتٍ مستقبلةٍ وأمورٍ مكنونةٍ لا يُهتدى إليها ولا يُوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبيرِ وقد جعلتمُوه إفكاً مُفترى من قبيل الأساطير واستوجبتُم بذلك أنُ يُصَبَّ عليكم سوطُ العذابِ صبّاً فقولُه تعالى {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} تعليلٌ ما هو المشاهد من تأخير العقوبة أي أنَّه تعالى أزلاً وأبداً مستمرٌّ على المغفرةِ والرَّحمةِ المستتبعين للتَّأخيرِ فلذلك لا يُعجِّلُ بعقوبتِكم على ما تقولن في حقِّه مع كمال استيجابِه إيَّاها وغاية قُدرتِه تعالى عليها(6/203)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
{وَقَالُواْ مَا لهذا الرسول} شروع في حكاية(6/203)
سورة الفرقان 8 9 جنايتهم المتعلِّقة بخصوصيَّةِ المنزَّلِ عليهِ وما استفهاميَّةٌ بمعنى إنكار الوقوع ونفيه مرفوعةٌ على الابتداءِ خبرُها مَا بعدها من الجارِّ والمجرورِ وفي هذا تصغيرٌ لشأنه صلى الله عليه وسلم وتسميته صلى الله عليه وسلم رسولاً بطريقِ الاستهزاءِ به صلى الله عليه وسلم كما قال فرعونُ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إليكم وقولُه تعالى {يَأْكُلُ الطعام} حالٌ من الرَّسولِ والعاملُ فيها ما عملَ في الجارِّ من مَعْنى الاستقرارِ أيْ أيُّ شيءٍ وأيُّ سببٍ حصلَ لهذا الذي يدَّعي الرِّسالةَ حالَ كونِه يأكلُ الطَّعامَ كما نأكلُ {وَيَمْشِى فِى الأسواق} لابتغاءِ الأرزاقِ كما نفعلُه على توجهيه الإنكارِ والنَّفي إلى السببِ فقط مع تحقُّقِ المُسبَّبِ الذي هو مضمون الجملة الحاليَّةِ كما في قوله تعالى فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وقوله مالكم لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً فكما أنَّ كلاً من عدمِ الإيمانِ وعدمِ الرجاءِ أمرٌ محققٌ قد أنكروا ستبعد تحقُّقه لانتفاءِ سببِه بل لوجود سبب نقيضه كذلك كل من الأكل والمشي أمرٌ محقَّقٌ قد استبعد تحقُّقه لانتفاءِ سببِه بل لوجود سبب عدمِه خَلاَ أنَّ استبعادَ المسبَّبِ وإنكارَ السَّببِ ونفيَه في عدمِ الإيمانِ وعدمِ الرجاءِ بطريق التَّحقيقِ وفي الأكل والمشيِ بطريق التَّهكُّمِ والاستهزاء فإنَّهم لا يستبعدونهما ولا يُنكرون سببَهما حقيقةً بل هم مُعترفون بوجودِهما وتحقُّقِ سببِهما وإنَّما الذي يستبعدونَهُ الرِّسالةَ المُنافيةَ لهما على زعمِهم يعنون أنَّه إنْ صحَّ ما يدَّعيه فما بالُه لم يخالفْ حالُه حالَنا وهل هو إلا لعمهِهم ورَكَاكةِ عقولِهم وقصور أنظارهم على المحسُوسات فإنَّ تميُّزَ الرُّسلِ عمَّن عداهم ليس بأمورٍ جُسمانيَّةٍ وإنما هو بأمورٍ نفسانيَّةٍ كما أُشير إليه بقولِه تعالى قُلْ إنما أنا بشرٌ مثلُكم يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} أي على صورتِه وهيئتِه {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} تنزُّلٌ منهم من اقتراحِ أنْ يكونَ مَلَكاً مستغنيا عن الأكل والشرب إلى اقتراح أنْ يكونَ معه مَلكٌ يصدِّقه ويكون رِدْءاً له في الإنذار وهو يُعبر عنه ويفسِّر ما يقوله للعامَّةِ وقوله تعالى(6/204)
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
{أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} تنزُّلٌ من تلك المرتبةِ إلى اقتراح أنْ يُلقى إليه من السَّماءِ كنزٌ يستظهرُ به ولا يحتاجُ إلى طلب المعاشِ ويكون دليلاً على صدقه وقولُه تعالى {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} تنزُّلٌ من ذلك إلى اقتراحِ ما هو أيسرُ منه وأقرب من الوقوع وقرئ نأكلُ بنون الحكايةِ وفيه مزيدُ مكابرةٍ وفَرط تَحكُّمٍ {وَقَالَ الظالمون} هم القائلونَ الأوَّلونَ وإنما وضع المظهرِ وضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم وتجاوزِ الحدِّ فيما قالوه ملكونه إضلالاً خارجاً عن حدِّ الضَّلالِ مع ما فيه من نسبته صلى الله عليه وسلم إلى المَسْحُوريَّةِ أي قالُوا للمؤمنينَ {إِن تَتَّبِعُونَ} أي ما تَتَّبِعُونَ {إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} قد سُحرَ فغُلبَ على عقلِه وقيل ذَا سَحْرٍ وهي الرِّئةُ أي بَشراً لا مَلكاً على أنَّ الوصفَ لزيادة التَّقريرِ والأوَّلُ هو الأنسبُ بحالِهم(6/204)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} استعظامٌ للأباطيل التي اجترءوا على التفوه بها وتجيب منها أي انظُر كيف قالوا في حقِّك تلكَ الأقاويلَ العجيبةَ الخارجة عن العقول الجاريةَ لغرابتها مجرى الأمثالِ واخترعُوا لك تلك الصِّفاتِ والأحوالِ الشَّاذةَ البعيدة من الوقوعِ {فُضّلُواْ} أي عن طريقِ المُحاجّةِ حيث لم يأتُوا بشيءٍ يُمكن صدوره(6/204)
سورة الفرقان 10 11 عمَّن له أدنى عقلٍ وتمييز فبقوا متحيرين {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} إلى القدح في نبوتك بأنْ يجدوا قولاً يستقرُّون عليه وإنْ كان باطلاً في نفسِه أو فضلُّوا عن الحقِّ ضلالاً مبيناً فلا يحدون طريقاً موصِّلاً إليه فإنَّ مَن اعتاد استعمال أمثال هذه الأباطيلِ لا يكادُ يهتدِي إلى استعمال المقدِّماتِ الحقَّةِ(6/205)
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
{تَبَارَكَ الذى} أي تكاثرَ وتزايد خيرالذي {إِن شَاء جَعَلَ لَكَ} في الدُّنيا عاجلاً شيئاً {خَيْرًا} لك {مّن ذلك} الذي اقترحُوه مِن أنْ يكونَ لك جنَّةٌ تأكل منها بأن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرةِ وقولُه تعالَى {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} بدلٌ من خَيراً ومحقق لخيرته مَّما قالُوا لأنَّ ذلك كان مُطلقاً عن قيدِ التَّعددِ وجريان الأنهارِ {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} عطفٌ على محلِّ الجزاء الذي هو جعل وقرئ بالرَّفعِ عطفاً على نفسِه لأنَّ الشرَّطَ إذا كان ماضياً جاز في جزائِه الرَّفعُ والجزمُ كما في قولِ القائل ... وَإِنْ أَتَاهُ خليل يوم مسئلة ... يقُولُ لا غَائبٌ مالِي ولا حرِمُ ... ويجوزُ أنْ يكونَ استئنافاً بوعدِ ما يكون له في الآخرةِ وقرئ بالنصب على أنه جواب بالواوِ وتعليقُ ذلك بمشيئتِه تعالى للإيذانِ بأنَّ عدمَ جعلها بمشيئته المبنيةِ على الحِكَم والمصالحِ وعدمُ التعَّرضِ لجواب الاقتراحينِ الأوَّلينِ للتنبيه على خروجِهما عن دائرة العقل واستغنائهما عن الجواب لظهورِ بُطلانِهما ومنافاتِهما للحكمة التَّشريعيَّةِ وإنَّما الذي له وجهٌ في الجملة هو الاقتراحُ الأخيرُ فإنَّه غير منافٍ للحكمة بالكلِّيةِ فإنَّ بعضَ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام قد أو توافي الدُّنيا مع النُّبوةِ مُلكاً عظيماً(6/205)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)
{بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة} إضرابٌ عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السَّابقةِ وانتقالٌ منه إلى توبيخهم بحكاية جناياتهم الأخرى للتَّخلُّص إلى بيان ما لهم في الآخرة بسببها من فُنون العذابِ بقوله تعالى {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً} الخ أي أعتدنا لهم ناراً عظيمةً شديدةَ الاشتعالِ شأنُها كيتَ وكيتَ بسبب تكذيبهم بها على ما يُشعر به وُضع الموصولُ موضعَ ضميرِهم أو لكلِّ مَن كذَّب بها كائناً مَنْ كان وهم داهلون في زُمرتهم دُخولاً أوليَّا ووضعُ السَّاعة موضعَ ضميرهِا للمبالغةِ في التَّشنيع ومدارُ إعناد السَّعيرِ لهم وإنْ لم يكن مجرَّد تكذيبهم بالسَّاعةِ بل مع تكذيبهم بسائر ما جاء به الشريعة الشَّريفة لكن السَّاعةَ لمَّا كانتْ هي العلَّةَ القريبة لدخولِهم السَّعيرَ أُشير إلى سببيَّةِ تكذيبها لدخولِها وقيل هو عطفٌ على وقالُوا ما لهاذ الخ على معنى بل أتوا بأعجبَ من ذلك حيثُ كذَّبوا بالسَّاعةِ وأنكروها والحالُ أنَّا قد أعتدنا لكلِّ مَن كذَّب بها سعيراً فإنَّ جراءتَهم على التَّكذيب بها وعدمَ خوفِهم مَّما أُعدَّ لمن كذَّب بها من أنواعِ العذابِ أعجبُ من القولِ السَّابقِ وقيل هو مُتَّصل بما قبلَه من الجوابِ المبنيِّ على التحقيق المنبئ عن الوعدِ بالجنَّاتِ في الآخرةِ مسوق لبيان أنَّ ذلك لا يجُدي نفعاً ولا يحلى بطائل على طريقة قول من قال ... عُوجُوا لنُعمٍ فَحَيُّوا دِمنَةَ الدار ... ماذا تحيون من نُؤيٍ وأحجارِ ...
والمعنى أنَّهم لا يُؤمنون بالسَّاعةِ فكيفَ يقتنعُون بهذا الجوابِ وكيف يصدقون بتعجيل(6/205)
سورة الفرقان 12 13 14 مثل ما وعدك في الآخرة وقيل المنى بل كذَّبوا بها فقصُرت أنظارُهم على الحظوظِ الدُّنيوَّيةِ وظنُّوا أنَّ الكرامة ليستْ إلا بالمالِ وجعلُوا فقرك ذريعةً إلى تكذيبك وقولُه تعالى(6/206)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
{إِذَا رَأَتْهُمْ} الخ صفة للسَّعيرِ أي إذا كانت منهم بمرأى الناظرِ في البُعد كقوله صلى الله عليه وسلم لا تَتَراءَى نارَاهُما أيْ لا تتقاربانِ بحيثُ تكونُ إحداهما بمرأى مِن الأُخرى على المجاز كأنَّ بعضَها يرى البعضَ ونسبةُ الرُّؤيةِ إليها لا إليهم للإيذان بأنَّ التغيظ والزفير منها لهجيان غضبِها عليهم عند رُؤيتها إيَّاهم حقيقةً أو تمثيلاً ومِنْ في قولِه تعالَى {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} إشعارٌ بأن بعد ما بينها وبينهم من المسافة حين رأتهُم خارجٌ عن حدود البُعدِ المعتاد في المسافات المعهودةِ وفيه مزيدُ تهويلٍ لأمرها قال الكَلْبيُّ والسُّدِّيُّ من مسيرةِ عامٍ وقيل من مسيرة مائةِ سنةٍ {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} أي صوتُ تغيظٍ على تشبيه صوتِ غليانها بصوتِ المُغتاظِ وزفيرِه وهو صوتٌ يُسمع من جوفِه هذا وإن الحياةَ لمَّا لم تكُن مشروطةً عندنا بالبنية أمكن أنْ يخلُق الله تعالى فيها حياةً فترى وتتغيظُ وتزفرُ وقيل إنَّ ذلك لزبانيتها فنُسب إليها على حذفِ المضافِ(6/206)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
{وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً} نُصبَ على الظَّرفَّيةِ ومنها حالٌ منه لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له {ضَيّقاً} صفةٌ لمكاناً مفيدةٌ لزيادة شدَّةٍ فإنَّ الكَرْبَ مع الضَّيقِ كما أنَّ الرَّوحَ مع السَّعةِ وهو السِّرُّ في وصف الجنَّةِ بأنَّ عرضها السموات والأرض وعن ابن عباسٍ وابنِ عمرَ رضي الله تعالى عنهم تضيقُ جهنَّمُ عليهم كما يضيقُ الزُّجُّ على الرمح وسئل النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم عن ذلك فقال والذي نفسي بيدهِ إنَّهم ليُستكرهون في النَّارِ كما يُستكرِه الوَتِدُ في الحائطِ قال الكلبيُّ الأسفلُون يرفعهم اللَّهبُ والأعْلوَن يحطُّهم الدَّاخلونَ فيزدحمُون فيها وقرئ ضَيْقاً بسكون الياء {مُقْرِنِينَ} حالٌ من مفعول أُلقوا أي إذا أُلقوا منها مكاناً ضَيِّقاً حالَ كونِهم مقرَّنين قد قُرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامَع وقيل مقرَّنين مع الشَّياطين في السَّلاسلِ كلُّ كافرٍ مع شيطانٍ وفي أرجلهم الأصفادُ {دَعَوْاْ هُنَالِكَ} أي في ذلك المكانِ الهائلِ والحالةِ الفظيعةِ {ثُبُوراً} أي يتمنَّون هلاكاً وينادُونه يا ثبُوراه تعالَ فهذا حِينُك وأوانُك(6/206)
لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
{لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا} على تقدير قول إمَّا منصوبٌ على أنَّه حالٌ من فاعلِ دَعَوا أي دَعَوه مقُولاً لهم ذلك حقيقة بأنْ يخاطبهم الملائكةُ به لتنبيههم على خلودِ عذابِهم وأنَّهم لا يُجابون إلى ما يَدْعُونه ولا ينالون ما يتمنَّونه من الهلاكِ المنجِّي أو تمثيلاً وتصويراً لحالهم بحال مَن يُقال له ذلك من غير أن يكون هناك قولٌ ولا خطابٌ أي دَعَوه حالَ كونِهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإمَّا مُستأنفٌ وقع جوابا عن سؤال ينسحبُ عليه الكلامُ كأنَّه قيلَ فماذَا يكونُ عند دُعائِهم المذكورِ فقيل يُقال لهم ذلك إقناطاً مَّما علَّقوا به أطماعَهم من الهلاك وتنبيهاً على أنَّ عذابهم الملجئ لهم إلى استدعاء الهلاكِ بالمَّرةِ أبديٌّ لا خلاصَ لهم منه أي(6/206)
سورة الفرقان 15 16 لا تقتصِرُوا على دُعاء ثبورٍ واحدٍ (وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً) أي بحسب كثرة الدُّعاء المتعلِّق به لا بحسب كثرتِه في نفسِه فإنَّ ما يدعونَه ثبورٌ واحدٌ في حدِّ ذاته لكنه كلَّما تعلَّق به دعاءٌ من تلك الأدعية الكثيرةِ صارَ كأنَّه ثبورٌ مغايرٌ لما تعلَّق به دعاءٌ آخرُ منها وتحقيقُه لا تدعُوه دُعاءً واحداً وادعُوه أدعيةً كثيرةً فإنَّ ما أنتُم فيه من العذابِ لغايةِ شدَّتِه وطولِ مُدَّتِه مستوجبٌ لتكرير الدُّعاءِ في كلِّ آنٍ وهذا أدلُّ على فظاعة العذابِ وهو له من جعل تعدد الدُّعاءِ وتجدده لتعدد العذاب بتعدد أنواعه وألوانِه أو لتعدُّدِه بتجدُّدِ الجلودِ كما لا يَخْفى وأما ما قيل من أنَّ المعنى إنَّكم وقعتُم فيما ليس ثبورُكم فيه واحداً إنَّما هو ثبورٌ كثيرٌ إمَّا لأنَّ العذابَ أنواعٌ وألوانٌ كلُّ نوعٍ منها ثبورٌ لشدَّتِه وفظاعتِه أو لأنَّهم كلمَّا نضجتْ جلودُهم بُدِّلوا غيرَها فلا غاية لهلاكِهم فلا يلائم المقامَ كيف لا وهُم إنَّما يدعُون هَلاَكاً ينهي عذابهم وينجيهم منه فلابد أنْ يكونَ الجوابُ إقناطاً لهم من ذلك ببيانِ استحالتِه ودوام ما يوجبُ استدعاءَه من العذاب الشَّديدِ وتقييدُ النَّهي والأمر باليوم لمزيد التَّهويل والتَّفظيعِ والتَّنبيهِ على أنَّه ليس كسائر الأيَّامِ المعهُودةِ(6/207)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)
(قُلْ) تقريعاً لهم وتهكُّماً بهم وتحسيراً على ما فاتَهم (أذلك) إشارةٌ إلى ما ذُكر من السَّعير باعتبار اتَّصافها بما فُصِّل من الأحوال الهائلة وما فيه من معنى البعد للإشعار بكونها في الغايةِ القاصيةِ من الهول والفظاعة أي قُل لهم أذلك الذي ذُكر من السَّعير التي أعتدت لمن كذَّب بالسَّاعة وشأنُها كيتَ وكيتَ وشأنُ أهلِها ذيتَ وذيتَ (خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التى وُعِدَ المتقون) أي وُعدها المتَّقون وإضافةُ الجَّنةِ إلى الخُلد للمدحِ وقيل للتَّمييز عن جنَّاتِ الدُّنيا والمرادُ بالمتَّقين المتَّصفون بمطلق التقَّوى لا بالمرتبة الثَّانيةِ ولا الثَّالثةِ منها فَقَطْ (كَانَتْ) تلك الجَّنةُ (لَهُمْ) في علم الله تعالى أو في اللوحِ المحفوظِ أو لأنَّ ما وعده الله تعالى فهو كائنٌ لا محالةَ فحُكي تحقُّقه ووقوعُه (جَزَاء) على أعمالِهم حسبما مرَّ من الوعد الكريم (وَمَصِيراً) ينقلبون إليه(6/207)
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
(لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ) أي ما يشاءونه من فنُون الملاذِّ والمُشتَهيات وأنواع النَّعيمِ كما في قولِه تعالى وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ ولعلَّ كلَّ فريقٍ منهم يقتنعُ بما أُتيح له من درجات النَّعيم ولا تمتدُّ أعناقُ هممِهم إلى ما فوق ذلك من المراتبِ العاليةِ فلا يلزم الحرمانُ ولا تساوي مراتبِ أهلِ الجنانِ (خالدين) حالٌ من الضَّمير المستكن في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ وقيل من فاعل يشاءون (كَانَ) أي ما يشاءونه وقيل الوعدُ المدلولِ عليه بقوله تعالى وُعد المتقَّون (على رَبّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً) أي موعُوداً حقيقيَّا بأنْ يُسألَ ويُطلبَ لكونِه مَّما يتنافسُ فيه المُتنافسون أو مسئولا يسألُه النَّاسُ في دُعائهم بقولِهم ربنا وآتنا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ أو الملائكة بقولهم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم وما في على من معنى الوجوبِ لامتناع الخُلفِ في وعدِه تعالى ولا يلزم منه الإلجاءُ إلى الإنجازِ فإنَّ تعلَّق الإرادة بالموعودِ متقدِّمٌ على الوعدِ الموجبِ للإنجاز وفي التَّعرضِ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه والإشعارِ بأنه صلى الله عليه وسلم هو الفائزُ آثر ذي أثيرٍ بمغانم الوعدِ الكريمِ مَا لاَ يَخْفى(6/207)
سورة الفرقان(6/208)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
17 - 1 {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) نُصب على أنَّه مفعول لمضمرٍ مقدَّمٍ معطوف على قوله تعالى قل أذلك الخ أي واذكر لهم بعد التَّقريعِ والتَّحسيرِ يوم يحشرهم الله عزَّ وجلَّ وتعليقُ التَّذكيرِ باليوم مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادثِ الهائلةِ قد مرَّ وجُهه غيرَ مرَّةٍ أو على أنَّه ظرفٌ لمضمرٍ مؤخَّرٍ قد حُذف للتَّنبيةِ على كمال هو له وفظاعةِ ما فيه والإيذانِ بقُصورِ العبارةِ عن بيانِه أي يومَ يحشرُهم يكون من الأحوالُ والأهوالُ ما لا يفي ببيانِه المقالُ وقرئ بنونِ العظمةِ بطريقِ الالتفاتِ من الغَيبةِ إلى التَّكلمِ وبكسرِ الشِّينِ أيضاً (وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله) أُريد به ما يعمُّ العقلاء وغيرَهم إمَّا لأنَّ كلمةَ ما موضوعةٌ للكلِّ كما ينبئ عنه أنك إذا رأيت شَبَحاً من بعيدٍ تقولُ ما هو أو لأنَّه أُريد به الوصفُ لا الذَّاتُ كأنَّه قيل ومعبوديهم أو لتغليب الأصنامِ على غيرِها تنبيهاً على أنَّهم مثلُها في السُّقوطِ عن رتبة المعبودية أو اعتبارا لغلبة عبدتِها أو أُريد به الملائكةُ والمسيحُ وعزيرٌ بقرينةِ السُّؤالِ والجوابِ أو الأصنامُ ينطقها الله تعالى أو تكلُّم بلسانِ الحالِ كما قيل في شهادةِ الأيدِي والأرجلِ (فَيَقُولُ) أي الله عزل وجلَّ للمعبودينَ إثرَ حشرِ الكلِّ تقريعاً للعَبَدةِ وتبكيتاً لهم وقرئ بالنُّون كما عُطف عليه وقرئ هذا بالياء والأولُ بالنُّون على طريق الالتفاتِ إلى الغيبة (أأنتم أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء) بأنْ دعوتُموهم إلى عبادتِكم كما في قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل) أي عن السَّبيلِ بأنفسِهم لإخلالِهم بالنَّظر الصَّحيحِ وإعراضهم عن المرشدِ فحذف الجارَّ وأوصل الفعلُ إلى المفعول كقوله تعالى وهو يهدِي السَّبيلَ والأصلُ إلى السَّبيلِ أو السبيل وتقديم الضَّميرينِ على الفعلينِ لأنَّ المقصودَ بالسُّؤالِ هو المُتصدَّي للفعل لا نفسُه(6/208)
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
(قالوا) استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالوا في الجواب فقيل قالوا (سبحانك) تعجُّباً ممَّا قيل لهم لأنَّهم إمَّا ملائكة معصومون وجمادات لا قُدرةَ لها على شيءٍ أو إشعاراً بأنَّهم الموسُومون بتسبيحِه تعالى وتوحيدِه فكيف يتأتَّى منهم إضلالُ عبادِه أو تنزيهاً له تعالى عن الأندادِ (مَا كان ينبغي لها) أي ما صح وما استقام لنا (أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ) أي متجاوزينَ إيَّاك (مِنْ أَوْلِيَاء) نعبدُهم لِما بنا من الحالةِ المُنافيةِ له فأنَّى يُتصوَّرُ أن نحمل غيرنا على أنْ يتَّخذَ ولياً غيرَك فضلاً أنْ يتخذنا وليا أو أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ أولياءَ أي أتباعاً فإنَّ الولي كما يُطلق على المتبوعِ يُطلق على التَّابعِ كالمَوْلى يُطلق على الأَعلى والأسفلِ ومنه أولياءُ الشَّيطانِ أي أتباعه وقرئ على البناءِ للمفعولِ من المتعدي إلى المفعولين كما في قوله تعالى واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً ومفعوله الثَّاني من أولياء على أنَّ مِن للتبعيضِ أي أنْ نتخذَ بعضَ أولياءٍ وهي على الأول مزيدةٌ وتنكيرُ أولياء من حيثُ إنَّهم أولياء مخصوصون(6/208)
سورة الفرقان 19 وهم الجنُّ والأصنام (ولكن متعتهم وآباءهم) استدارك مسوقٌ لبيان أنَّهم هم الضَّالُّون بعد بيان تنزههم عن إضلالهم وقد نُعي عليهم سوءُ صنيعِهم حيث جعلُوا أسبابَ الهداية أسباباً للضَّلالة أي ما أضللناهم ولكنَّك متعتهم وآباءَهم بأنواع النِّعم ليعرفوا حقَّها ويشكروها فاستغرقُوا في الشَّهواتِ وانهمكُوا فيها (حتى نَسُواْ الذكر) أي غفَلوا عن ذكرِك أو عن التَّذكرِ في آلائِك والتَّدبرِ في آياتِك فجعلُوا أسبابَ الهداية بسوء اختيارِهم ذريعةً إلى الغَوايةِ (وَكَانُواْ) أي في قضائِك المبنيِّ على علمِك الأزليِّ المتعلق بما سيصدرُ عنهم فيما لا يزال باختيارِهم من الأعمالِ السَّيئةِ (قَوْماً بُوراً) أي هالكينَ على أنَّ بُوراً مصدرٌ وُصف به الفاعلُ مبالغةً ولذلك يستوي فيه الواحدُ والجمعُ أو جمعُ بائرٍ كعُوذٍ في جمعِ عائذٍ والجملةُ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله وقوله تعالى(6/209)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) حكايةٌ لاحتجاجِه تعالى على العَبَدة بطريق تلوين الخطابِ وصرفِه عن المعبودينَ عند تمام جوابِهم وتوجيهه إلى العَبَدة مبالغةٌ في تقريعهم وتبكيتِهم على تقديرِ قولٍ مرتَّبٍ على الجواب أي فقال الله تعالى عند ذلك فقد كذَّبوكم المعبودون أيُّها الكفرةُ (بِمَا تَقُولُونَ) أي في قولِكم إنَّهم آلهةٌ وقيل في قولكم هؤلاء أضلُّونا ويأباه أنَّ تكذيبَهم في هذا القول لا تعلق له بما بعَدُه من عدم استطاعتِهم للصَّرف والنصر أصلاً وإنما الذي يستتبُعه تكذيبُهم في زعمهم أنَّهم آلهتهم وناصروهم وأيَّا ما كان فالباءُ بمعنى في أو هي صلةٌ للتكذيب على أنَّ الجارَّ والمجرورَ بدل اشتمال من الضمير المنصوب وقرئ بالياء أي كَذبوكم بقولهم سبحانك الآيةَ (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ) أي ما تملكُون (صَرْفاً) أي دفعاً للعذاب عنكم بوجه من الوجه كما يعرف عنه التَّنكيرُ أي لا بالذَّاتِ ولا بالواسطة وقيل حيلةً من قولهم إنَّه ليتصرف في أموره أي يحتال فهيا وقيل توبة (وَلاَ نَصْراً) أي فرداً من أفراد النَّصر لا من جهةِ أنفسِكم ولا من جهةِ غيرِكم والفاءُ لترتيبِ عدمِ الاستطاعةِ على ما قبلها من التَّكذيبِ لكن لا على منى أنه لولاء لوُجدتْ الاستطاعةُ حقيقةً بل في زعمِهم حيثُ كانُوا يزعُمون أنَّهم يدفعون عنهم العذابَ وينصرونهم وفيه ضربُ تهكّمٍ بهم وقرئ يستطيعون على صيغة الغَيبةِ أي ما يستطيعُ آلهتُكم أنْ يصرفوا عنكم العذابَ أو يحتالُوا لكم ولا ينصروكم وترتب ما بعد الفاء عَلى ما قبلَها كَما مرَّ بيانُه (وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ) أيُّها المكلَّفون كدأبِ هؤلاءِ حيث ركبُوا متنَ المُكابرة والعناد واستمرُّوا على ما هم عليه من الفساد وتجاوزوا في اللجاجِ كلَّ حدَ معتادٍ (نُذِقْةُ) في الآخرة (عَذَاباً كَبِيراً) لاَ يقادَر قدرُه وهُوَ عذابُ النار وقرئ يُذقه على أنَّ الضَّمير لله سبحانه وتعالى وقيل لمصدر الفعلِ الواقعِ شرطاً وتعميمُ الظُّلمِ لا يستلزمُ اشتراكَ الفاسقِ للكافر في إذاقة العذابِ الكبيرِ فإنَّ الشَّرطَ في اقتضاء الجزاءِ مقيَّدٌ بعدمِ المُزاحمِ وفاقاً وهو التَّوبةُ والإحباطِ بالطَّاعةِ إجماعا وبالعفو عندنا(6/209)
سورة الفرقان(6/210)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
20 - 2 (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الأسواق) جوابٌ عن قولهم مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الأسواق والجملةُ الواقعةُ بعد إلاَّ صفةٌ لموصوفٍ قد حُذف ثقةٍ بدلالةِ الجارِّ والمجرورِ عليه وأقيمتْ هي مقامَه كما في قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ والمعنى ما أرسلَنا أحداً قبلكَ من المُرسلين إلا آكلينَ وماشينَ وقيل هي حالٌ والتَّقديرُ إلاَّ وإنَّهم ليأكلون الخ وقرئ يمشون على البناء للمفعول أي يُمشيهم حوائجُهم أو النَّاسُ (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ) تلوينٌ للخطاب بتعميمِه لسائر الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسلامُ بطريق التَّغليبِ والمرادُ بهذا البعضِ كفار الأمم فإن اختصاهم بالرُّسل وتبعيتهم لهم مصحِّحٌ لأنْ يعدُّوا بعضاً منهم وبما في قوله تعالى (لِبَعْضٍ) رسلِهم لكنْ لا على مَعْنى جعلنا مجموعَ البعضِ الأولِ (فِتْنَةً) أي ابتلاءً ومحنةً لمجموعِ البعض الثَّاني ولا على معنى جعلنا كلَّ فردٍ من أفراد البعض الأول فتنةً لكلِّ فردٍ من أفراد البعض الثَّاني ولا على معنى جعلنا بعضاً مُبهماً من لأولين فتنةً لبعضٍ مُبهمٍ من الآخرين ضرورةَ أنَّ مجموعَ الرُّسل من حيثُ هو مجموعٌ غير مفتون بجموع الأُممِ ولا كلُّ فردٍ منهم بكلِّ فردٍ من لأم ولا بعض مبهمٌ من الأولين ببعض منهم من الآخرين على بل معنى جعلنا كلَّ بعضً مُعيَّنٍ من الأُمم فتنةً لبعض معَّين من الرُّسلِ كأنَّه قيل وجعلنا كلَّ أمَّةٍ مخصوصةٍ من الأُممِ الكافرةِ فتنةً لرسولِها المعيَّنِ المبعوثِ إليها وإنَّما لم يصرخ بذلك تعويلاً على شهادةِ الحالِ هذا وأمَّا تعميمُ الخطابِ لجميع المكلَّفين وإبقاء البعضين على العمومِ والإبهامِ على معنى وجعلنا بعضَكم ايها الناس فتنةً لبعضٍ آخرَ منكم فيأباهُ قولُه تعالى (أَتَصْبِرُونَ) فإنَّه غايةٌ للجعلِ المذكورِ ومن البيِّنِ أنْ ليسَ ابتلاءُ كلِّ أحدٍ من آحادِ النَّاسِ مُغيًّا بالصَّبرِ بل بما يناسبُ حالَه على أنَّ الاقتصارَ على ذكرهِ من غير تعرّض لمعادل له مما يدلُّ على أنَّ الَّلائقَ بحال المفتونينَ والمتوقع صدورُه عنهم هو الصبر لا غير فلابد أنْ يكونَ المرادُ بهم الرُّسلَ فيحصل به تسليتُه صلى الله عليه وسلم فالمعنى جرتْ سُنَّتنا بموجب حكمتِنا على ابتلاءِ المُرسلينَ بأممِهم وبمناصبتهم لهم العداوةَ وإيذائهم لهم وأقاويلِهم الخارجةِ عن حدود الإنصاف لنعم صبرَكم وقوله تعالى (وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً) وعدٌ كريم للرسول صلى الله عليه وسلم بالأجرِ الجزيلِ لصبرِه الجميلِ مع مزيدِ تشريفٍ له صلى الله عليه وسلم بالالتفاتِ إلى اسمِ الربِّ مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم(6/210)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
(وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا) شروعٌ في حكايةِ بعضٍ آخرَ من أقاويلِهم الباطلةِ وبيانِ بُطلانِها إثرَ إبطالِ أباطيلهم السَّابقةِ والجملةُ معطوفةٌ على قولِه تعالى وَقَالُواْ مَا لهذا الرسول الخ ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ للتنبيهِ بما في حيزِ الصلة على أن ما يُحكى عنهم من الشَّناعةِ بحيثُ لا يصدرُ عمَّن يعتقدُ المصيرَ إلى الله(6/210)
سورة الفرقان 22 عزَّ وجلَّ ولقاءُ الشَّيءِ عبارةٌ عن مصادفتهِ من غيرِ أنْ يمنعَ مانعٌ من إدراكِه بوجهٍ من الوجوهِ والمرادُ بلقائِه تعالى إمَّا الرجوعُ إليه تعالى بالبعث والحشر رأو لقاءُ حسابه تعالى كما في قوله تعالى أن ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ وبعدم رجائِهم إيَّاه عدمُ توقُّعهم له أصلاً لإنكارِهم البعث والحساب بالكليِّة لا عدمُ أملِهم حسنَ اللقاءِ ولا عدمُ خوفِهم سوءَ اللقَّاءِ لأنَّ عدمَهما غيرُ مستلزمٍ لِما هم عليه من العُتوِّ والاستكبار وإنكارِ البعثِ والحسابِ رأساً أي وقال الذَين لا يتوقعَّون الرجوعَ إلينا أو حسابَنا المؤدِّيَ إلى سُوءِ العذابِ الذي تستوجبه مقالتُهم (لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ) أي هلاَّ أُنزلوا علينا ليخبرونا بصدق محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وقيل هَلاَّ أُنزلوا علينا بطريق الرسالة وهو الأنسب قولهم (أَوْ نرى رَبَّنَا) من حيثُ أنَّ كلا القولينِ ناشئ عن غايةِ غُلوهم في المكابرة العتو حسبما يُعرب عنه قوله تعالى (لَقَدِ استكبروا فِى أَنفُسِهِمْ) أي في شأنِها حتى اجترءوا على التَّفوه بمثل هذه العظيمةِ الشنعاءِ (وَعَتَوْا) أي تجاوزا الحدَّ في الظُّلم والطُّغيانِ (عُتُوّاً كَبِيراً) بالغاً أقصَى غاياتَه حيثُ أمَّلوا نيلَ مرتبةِ المفاوضةِ الإلهيةِ من غير توسطِ الرَّسولِ والمَلك كما قالوا لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله ولم يكتفُوا بما عاينوا من المعجزاتِ القاهرةِ التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبالِ فذهبْوا في الاقتراح كلَّ مذهبٍ حتَّى منَّتهم أنفسُهم الخبيثةُ أمانيَّ لا تكاد ترنوا إليها أحداقُ الأممِ ولا تمتدُّ إليها أعناقُ الهمم ولا ينالها إلا أولوا العزائم الماضيةِ من الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله لقد استكبروا الآيةَ وفيه من الدلالة على غايةِ قُبح ما هُم عليه والإشعارِ بالتَّعجبِ من استكبارِهم وعُتوِّهم ما لا يخفى(6/211)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
(يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة) استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ ما يلقَونه عند مشاهدتِهم لما اقترحُوه من نزول الملائكة علهم السَّلامُ بعد استعظامِه وبيانِ كون في غايةِ ما يكونُ من الشَّناعة وإنمَّا قيلَ يوم يَرَون دُون أنْ يقالَ يومَ ينزلُ الملائكةُ إيذانا من أولِ الأمرِ بأنَّ رؤيتَهم لهم ليست على طريقِ الإجابةِ إلى ما اقترحُوه بل على وجهٍ آخرَ غيرِ معهودٍ ويومَ منصوبٌ على الظَّرفية بما يدلُّ عليه قولُه تعالى (لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ) فإنَّه في معنى لا يُبشَّر يومئذٍ المُجرمون والعُدولُ إلى نفيِ الجنسِ للمبالغةِ في نفيِ البُشرى وما قيل من أنَّه بمعنى يمُنعون البُشرى أو يعدمونها تهوين للخطب في مقام التَّهويل فإنَّ منعَ البُشرى وفقدانُها مُشعرانِ بأنَّ هناك بُشرى يمنعونَها أو يفقِدونها وأينَ هذا من نفيها بالكُليِّة وحيثُ كان نفيُها كنايةً عن إثباتِ ضدِّها كما أنَّ نفيَ المحبةِ في مثلِ قولِه تعالى والله لاَ يُحِبُّ الكافرين كنايةٌ عن البُغض والمَقْتِ دلَّ على ثبوت النذر لهم على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وقيل منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يُؤكِّده بشرى على أنَّ لا غير نافية للجنس وقيل منصور على المفعولة بمضمرٍ مقدَّمٍ عليه أي اذكُر يومَ رؤيتهم الملائكةَ ويومئذٍ على كلِّ حالٍ تكريرٌ للتأكيد والتَّهويلِ مع ما فيه من الإيذانِ بأنَّ تقديمَ الظَّرفِ للاهتمامِ لا لقصرِ نفيِ البُشرى على ذلك الوقتِ فقط فإنَّ ذلك مخلٌّ بتفظيعِ حالِهم وللمجرمين تبيين على أنَّه مظهرٌ وُضع موضعَ الضميرِ تسجيلاً عليه بالإجرام مع ما هم عليه من الكفر وحملُه على العموم بحيث يتناولوا فسَّاقَ المؤمنين ثم الالتجاءُ في إخراجِهم عن الحرمانِ الكليِّ إلى أنَّ نفيَ البُشرى حينئذٍ لا يستلزمُ نفيَه في جميعِ الأوقاتِ فيجوزُ أنْ يُبشَّروا بالعفوِ والشَّفاعةِ في وقتٍ آخرَ بمعزلٍ عن الحقِّ بعيدٍ(6/211)
سورة الفرقان 23 24 (وَيَقُولُونَ) عطفٌ على ما ذُكر من الفعلِ المنفيِّ المنبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر وغاية هول مطلعه ببيان أنهم يقولون عند مشاهدتِهم له (حِجْراً مَّحْجُوراً) وهي كلمةٌ يتكلَّمون بها عند لقاءِ عدوَ موتورٍ وهجومِ نازلةٍ هائلةٍ يضعونها موضعَ الاستعاذةِ حيثُ يطلبون من الله تعالى أن يمنع المكروه فلا يلحقهم فكان المَعنى نسألُ الله تعالى أنْ يمنعَ ذلك مَنْعاً ويحجُره حَجْراً وكسرُ الحاءِ تصرف فيه لاختصاصه بموضوع واحدٍ كما في قِعدَك وعمرك وقد قرئ حُجْراً بالضمِّ والمعنى أنَّهم يطلبون نزولَ الملائكةِ عليهم السَّلامُ ويقترحونَه وهم إذا رَأوهم كرِهُوا لقاءهم أشدَّ كراهةٍ وفزعُوا منهم فزعاً شَديداً وقالوا ما كانوا يقولونَه عند نزولِ خطبٍ شنيعٍ وحلولِ بأسٍ شديدٍ فظيعٍ ومحجُوراً صفةٌ لحِجراً وإرادةٌ للتَّأكيدِ كما قالوا ذيلٌ ذَائلٌ وليلٌ أليلُ وقيل يقولُها الملائكةُ إقناطاً للكفرة بمعنى حراما محركا عليكم الغفرانُ أو الجنَّة أو البُشرى أي جعل الله تعالى ذلك حَرَاماً عليكم وليس بواضح(6/212)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
{وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} بيانٌ لحالِ ما كانُوا يعملونَه في الدُّنيا من صلةِ رحمٍ وإغاثةِ ملهوفٍ وقرى ضيفٍ ومنَ على أسير وغير ذلك من مكارمِهم ومحاسِنهم التي لو كانُوا عملُوها مع الإيمانِ لنالُوا ثَوابَها بتمثيلِ حالهم وحال أعمالهم المذكور بحال قومٍ خالفُوا سلطانَهم واستعصَوا عليه فقدمَ إلى أشيائِهم وقصدَ ما تحت أيديهم فأنحى عليها بالإفسادِ والتحريف ومزَّقها كلَّ تمزيقٍ بحيث لم يَدع لها عيناً ولا أثراً أي عمَدنا إليها وأبطلَناها أي أظهرنا بُطلانَها بالكلِّيةِ من غير أنْ يكونَ هناك قدومٌ ولا شيء يُقصد تشبيهه به والهَبَاءُ شبه غبارٍ يُرى في شعاعِ الشَّمسِ يطلع من الكُوَّة من الهبوةِ وهي الغبارُ ومنثُوراً صفتُه شبه به أعمالَهم المُحبَطةَ في الحقارةِ وعدمِ الجَدوى ثمَّ بالمنثُور منه في الانتشارِ بحيثُ لا يمكن نظمُه أو مفعولٌ ثالثٌ من حيثُ إنَّه كالخبر بعد لخبر كما في قوله تعالى كَونُواْ قِرَدَةً خاسئين(6/212)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
{أصحاب الجنة} هم المؤمنون المشارِ إليهم في قوله تعالى قل أذلك خير أَمْ جَنَّةُ الخلد التى وُعد المتَّقون الخ {يَوْمَئِذٍ} أي يومَ إذ يكونُ ما ذكر رمن عدمِ التَّبشير وقولِهم حِجْراً محجُوراً وجعلِ أعمالِهم هباءً منثُوراً {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} المستقرُّ المكانُ الذي يُستقرُّ فيه في أكثرِ الأوقاتِ للتَّجالسِ والتَّحادثِ {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} المقيلُ المكانُ الذي يؤوى إليه للاسترواح إلى الأزواج والمتنع بمغازلتهم سُمِّي بذلك لما أنَّ التَّمتعَ به يكون وقتَ القَيلولهِ غالباً وقيل لأنه يُفرغٍ من الحسابِ في منتصف ذلك اليوم فيقيل أهلُ الجَّنة في الجنَّةِ وأهلُ النَّار في النَّارِ وفي وصفه بزيادةِ الحُسن مع حصولِ الخيرَّيةِ بعطفه على المستقرِّ رمزٌ إلى أنه مزَّينٌ بفنون الزَّينِ والزَّخارفِ والتَّفضيلُ المُعتبر فيهما إمَّا لإرادةِ الزِّيادةِ على الاطلاقِ أي هُم في أقصى ما يكونُ من خيرَّيةِ المُستقرِّ وحسنِ المَقيلِ وإمَّا بالإضافةِ إلى مَا للكَفَرةِ المُتنعِّمينَ في الدُّنيا أو إلى ما لَهُم في الآخرةِ بطريق التَّهكُّمِ بهم كما مرَّ في قوله تعالى قل أذلك خَيْرٌ الآيةَ هذا وقد جوِّز أنْ يُرادَ بأحدِهما المصدرُ أو الزَّمانُ إشارةً إلى أنَّ مكانَهم وزمانَهم أطيب ما يتخيل من الأمكنة والأزمنة(6/212)
سورة الفرقان (25 27)(6/213)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء} أي تتفتحُ وأصلُه تتشقَّقُ فحُذفتْ إحدى التَّاءينِ كما في تلظى وقرئ بإدغامِ التَّاءِ في الشِّينِ {بالغمام} بسببِ طلوعِ الغمامِ منها وهو الغَمامُ الذي ذُكر في قوله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام والملائكة قيل هو غمامٌ أبيضُ رقيقٌ مثل الضبابة لم يكُنْ إلاَّ لبني إسرائيلَ {وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً} أي تنزيلاً عجيباً غيرَ معُهودٍ قيل تنشق سماءً سماءً وينزل الملائكةُ خلالَ ذلك الغمامِ بصحائفِ أعمالِ العبادِ وقرئ ونزلت الملائكة وننزيل وتنزل على صيغة المتكلم من الإنزالِ والتَّنزيل ونزَّل الملائكةَ وأنزل الملائكة ونزل الملائكةُ على حذف النُّون الذي هو فاءُ الفعلِ من تنزل(6/213)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
{الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} أي السَّلطنةُ القاهرِةُ والاستيلاءُ الكليُّ العام الثَّابتُ صورةً ومعنى ظاهراً وباطناً بحيثُ لا زوالَ له أصلاً ثابت للرحمن يؤمئذ فالمُلكُ مبتدأٌ والحقُّ صفتُه وللرحمن خبرة ويومئذ ظرفٌ لثبُوتِ الخبرِ للمبتدأِ وفائدةُ التَّقييدِ أنَّ ثبوت المُلك المذكور له تعالى خاصَّةً يومئذٍ وأمَّا فيما عداهُ من أيَّامِ الدُّنيا فيكون لغيرهِ أيضاً تصرُّفٌ صوريُّ في الجُملةِ وقيل المُلك مبتدأٌ والحقُّ خبرُه وللرَّحمنُ متعلَّق بالحقِّ أو بمحذوفٍ على التَّبيين أو بمحذوفٍ هو صفةٌ للحقِّ ويومئذٍ معمولٌ للملك وقيلَ الخبرُ يومئذٍ والحقُّ نعتٌ للملكِ وللرحمن على ما ذُكر وأيَّاً ما كان فالجملةُ بمعناها عاملةٌ في الظَّرفِ أي ينفردُ الله تعالَى بالملكِ يومَ تشقَّقُ وقيل الظَّرفُ منصوبٌ بما ذُكر فالجملةُ حينئذٍ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ أحوالِه وأهوالِه وإيرادُه تعالى بعُنوانِ الرَّحمانيةِ للإيذانِ بأنَّ اتصِّافَه تعالى بغايةِ الرَّحمةِ لا يهُوِّنُ الخَطْبَ على الكَفَرةِ لعدمِ استحقاقِهم للرَّحمةِ كما في قوله تعالى يأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم والمعنى أنَّ الملكَ الحقيقيَّ يومئذٍ للرَّحمنِ {وَكَانَ} ذلكَ اليوم مع كونِ المُلكِ فيه لله تعالى المبالغ في الرَّحمةِ لعبادِه {يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً} شَديداً لهُم وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لمُراعاةِ الفواصلِ وأمَّا للمُؤمنين فيكون يَسيراً بفضلِ الله تعالى وقد جاءَ في الحديثِ أنَّه يُهوَّن يومُ القيامةِ على المؤمنِ حتَّى يكونَ أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبةٍ صلاَّها في الدّنيا والجملةُ اعتراضٌ تذييلي مقرر لما قبله(6/213)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} عضُّ اليدينِ والأناملِ وأكلُ البنانِ وحرقُ الأسنانِ ونحوها كناياتٌ عن الغيظِ والحسرة لأنها من رواد فهما والمرادُ بالظَّالمِ إمَّا عقبةُ بنُ أبي مُعيطٍ على ما قيلَ من أنه كان يُكثر مجالسةَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فدعاه صلى الله عليه وسلم يوماً إلى ضيافتِه فأبى صلى الله عليه وسلم أنْ يأكلَ من طعامِه حتَّى ينطِقَ بالشَّهادتينِ ففعلَ وكان أُبيُّ بنُ خَلَفٍ صديقَه فعاتبَه فقال صَبأتَ فقال لا ولكنْ أَبَى أنْ يأكلَ منْ طَعَامي وهو في بيتي فاستحييتُ منه فشهدتُ له فقال إنيِّ لا أرضى منكَ إلا أنْ تأتيَه فتطأَ قفاهُ وتبزقَ في وجههِ فوجدَه ساجداً في دارِ النَّدوةِ ففعل ذلك فقال صلى الله عليه وسلم لا ألقاكَ خارجاً من مكَّةَ إلاَّ علوتُ رأسَك بالسَّيفِ فأُسرَ يوم بدرٍ فأمر(6/213)
سورة الفرقان (28 30) عليا رضي الله عنه فقتَلَه وقيل قَتَله عاصمُ بن ثابت الأنصاري وطعن صلى الله عليه وسلم أُبيَّاً يومَ أُحدٍ في المُبارزة فرجعَ إلى مكَّةَ وماتَ وإما جنسُ الظَّالم وهو داخلٌ فيه دُخولاً أوليَّا وقولُه تعالَى {يِقُولُ} الخ حالٌ من فاعلِ بعض وقوله تعالى {يا ليتني} الخ محكيٌّ به ويَا إمَّا لمجرَّدِ التَّنبيهِ من غيرِ قصدٍ إلى تعيينِ المنبَّهِ أو المُنادي محذوفٌ أي يا هؤلاءِ ليتني {اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً} أي طريقاً واحداً منجياً من هذه الورطاتِ وهو طريقُ الحقِّ ولم تتشعبْ بي طريق الضَّلالةِ أو حَصَّلتُ في صحبته صلى الله عليه وسلم طريقاً ولم أكُن ضالاَّ لا طريقَ لي قط(6/214)
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)
{يا ويلنا} بقلب ياءِ المتكلِّمِ الفاً كما في صحارى ومدارى وقرئ على الأصل ياويلتي أي هَلَكتي تعالَيْ واحضريْ فهذا أوانُكِ {لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} يريدُ مَن أضلَّه في الدُّنيا فإنَّ فُلانا كنايةٌ عن الأعلامِ كما أن الهَنَ كنايةُ عن الأجناسِ وقيل فُلانٌ كنايةٌ عن علَم ذكورِ مَن يعقلُ وفُلانةٌ عن علم إناثم وفل كنايةٌ عن نكرةِ مَن يعقلُ من الذكور وفُلة عمَّن يعقلُ من الإناثِ والفُلانُ والفُلانةُ من غير العاقل ويخص فُل بالنِّداءِ إلاَّ في ضرورةٍ كما في قوله ... في لُجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاناً عن فل ... وقوله ... خذ حد ثاني عن فلن وفُلانِ ...
وليس فُل مرخَّماً من فُلان خلافاً للفرَّاء واختلفُوا في لامِ فُل وفُلان فقيلَ واوٌ وقيل ياءٌ هذا فإنْ أرُيدَ بالظَّالم عقبةُ ففُلان كنايةٌ عن أَبيَ وإنْ أُريدَ بن الجنسُ فهوُ كنايةٌ عن علَمِ كلِّ مَن يضلُّه كائنا من كان من شياطينِ الإنس والجنِّ وهذا التَّمنِّي منه وإنْ كان مسُوقاً لإبراز النَّدمِ والحسرةِ لكنَّه متضمنٌ لنوعِ تعللٍ واعتذارٍ بتوريك جنايتِه إلى الغيرِ وقوله تعالى(6/214)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
{لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذكر} تعليلٌ لتمنيه المذكورِ وتوضيحٌ لتعللُّهِ وتصديُره باللامِ القسميَّةِ للُمبالغةِ في بيانِ خطئِه وإظهارِ ندمهِ وحسرتِه أي والله لقد أضلَّني عن ذكرِ الله تعالى أو عن القرآنِ أو عن موعظةِ الرسول صلى الله عليه وسلم أو كلمةِ الشَّهادةِ {بَعْدَ إِذْ جَاءنِى} وتمكَّنتُ منه وقوله تعالى {وَكَانَ الشيطان للإنسان خَذُولاً} أي مُبالغاً في الخِذلانِ حيثُ يواليهِ حتَّى يؤدِّيه إلى الهلاكِ ثمَّ يتركُه ولا ينفَعُه اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَه إما من جهتِه تعالى أو من تمام كلامِ الظَّالمِ على أنَّه سَمَّي خليلَه شيطاناً بعد وصفهِ بالإضلالِ الذي هو أخصُّ الأوصافِ الشَّيطانيَّةِ أو على أنَّه أرادَ بالشَّيطانِ إبليسَ لأنَّه الذي حملَه على مخالَّةِ المُضلِّين ومخالفةِ الرسول الهادي صلى الله عليه وسلم بوسوستِه وإغوائِه لكن وصفُه بالخِذلانِ يُشعر بأنَّه كانَ يعِدُه في الدُّنيا ويُمنيه بأن ينفعه في الآخرةِ وهو أوفقُ بحالِ إبليسَ(6/214)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
{وَقَالَ الرسول} عطفٌ على قوله تعالى وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وما بينها اعتراض مسوق لاستعظام ما قالُوه وبيانِ ما يحيقُ بهم في الآخرةِ من الأهوال والخطوب وإيراده صلى الله عليه وسلم بعُنوانِ الرِّسالةِ لتحقيقِ الحقِّ والردِّ على نحورِهم حيثُ كانَ ما حُكي عنهم قدحا في رسالته صلى الله عليه وسلم أي قالُوا كيتَ وكيتَ وقال الرَّسولُ إثرَ ما شاهد منهم غاية(6/214)
سورة الفرقان (31 32) العُتوِّ ونهايةَ الطُّغيان بطريق البثِّ إلى ربِّه عزَّ وجل (يا رب إِنَّ قَوْمِى) يعني الذين حُكي عنهم ما حُكي من الشَّنائعِ ( {اتخذوا هذا القُرآنَ} الذي من جُملتِه هذه الآياتُ النَّاطقةُ بما يحيقُ بهم في الآخرةِ من فُنونِ العقابِ كما ينبئ عنه كلمةُ الإشارةِ (مَهْجُوراً) أي أنه متروكاً بالكلِّيةِ ولم يُؤمنوا به ولم بعرفوا إليهِ رأساً ولم يتأثَّرُوا بوعيدِه وفيه تلويحٌ بأنَّ من حقِّ المؤمنِ أنْ يكونَ كثيرَ التَّعاهدِ للقرآن كيلا يندرجَ تحت ظاهرُ النَّظمِ الكريمِ فإنَّه رُوي عنه صلى الله عليه السلام أنَّه قال مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّق مُصحفاً لم يتعاهدْهُ ولم ينظرْ فيهِ جاءَ يومَ القيامةِ متعلِّقاً به العالمين عبدك هذا أتخذل مهجُوراً اقضِ بيني وبينَهُ وقيل هو من هجَر إذا هَذَى أي جعلوه مهجُوراً فيه إمَّا على زعمِهم الباطلِ وإمَّا بأنْ هجَّروا فيه إذا سمعُوه كما يحكى عنهم من قولِهم لا تسمعُوا لهذا القُرآنِ والغَوا فيهِ وقد جوز أن يكون المهجورُ بمعنى الهَجْر كالمجلود والمعقول فالمعنى اتخذوه وهجرا وهذيانا وفيه من التخدير والتخويف مالا يَخْفى فإنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ إذا شكَوا إلى الله تعالى قولهم عجَّل لهم العذابَ ولم يُنظَروا وقوله تعالى(6/215)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً مّنَ المجرمين} تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحملٌ له على الاقتداءِ بمن قبلَه من الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أي كما جعلنا لك أعداءً من المُشركين يقولُون ما بقولون ويفعلون من الأباطيلِ جعلنا لكلِّ نبيَ من الأنبياءِ الذينَ هم أصحابُ الشَّريعةِ والدّعوة إليها عدوَّاً من مُجرمي قومِهم فاصبرْ كما صبرُوا وقوله تعالى (وكفى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) وعدٌ كريمٌ له صلى الله عليه وسلم بالهدايةِ إلى كافَّةِ مطالبِه والنَّصرِ على أعدائِه أي كَفَاك مالكُ أمرِك ومُبلِّغك إلى الكمالِ هَادياً لك إلى ما وصلك إلى غاية الغابات التي من جُملتها تبليغُ الكتابِ أجلَه وإجراء أحكامِه في أكتاف الدُّنيا إلى يومِ القيامةِ ونصيراً لك على جميعِ مَن يُعاديك(6/215)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} حكايةٌ لا قتراحم الخاصِّ بالقُرآن الكريمِ بعد حكايةِ اقتراحِهم في حقِّه صلى الله عليه وسلم والقائلون هم القائلونَ أوَّلاً وإيرادُهم بعُنوانِ الكفرِ لذمِّهم به والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ {لولا نزل عليه القرآن} التَّنزيلُ هَهُنا مجرَّدٌ عن مَعْنى التَّدريجِ كما في في قوله تعالى أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء ويجوزُ أن يرادَ بهِ الدِّلالةُ على كثرةِ المُنزَّلِ في نفسِه أي هلاَّ أُنزل كلُّه {جُمْلَةً واحدة} كالكتب الثَّلاثةِ وبُطلان هذه الكلمةِ الحمقاءِ ممَّا لا يكاد يخفى على أحد فإنَّ الكتبَ المتقدِّمةَ لم يكُن شاهدَ صحَّتِها ودليلَ كونها من عند الله تعالى إعجازُها وأمَّا القرآنُ الكريم فبينة صحته آية كونه من عند الله تعالى نظمُه المعجزُ الباقي على مرِّ الدّهورِ المتحقِّقُ في كلُّ جزءٍ من أجزائه المرقدة بمقدار أقصرِ السُّورِ حسبما وقع به التَّحدِّي ولا ريب في أن ما يدور عليه فلَكُ الإعجاز هو المطابقةُ لما تقتضيه الأحوالُ ومن ضرورة تغيّرِها وتجدُّدها تغيُّر ما يُطابقها حتماً على أنَّ فيه فوائد جمه أشير إلى بعض منها بقوله تعالى {كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} فإنَّه استئناف وارد من جهته تعلى لرد مقالهم الباطل(6/215)
سورة الفرقان (33) وبيانِ الحكمة في التَّنزيلِ التَّدريجيِّ ومحلُّ الكافِ النَّصبُ على أنَّها صفة لمصدرٍ مؤكِّدٍ لمضمر معلَّلٍ بما يعده وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما يُفهم من كلامِهم أي مثلَ ذلك التَّنزيلِ المُفرَّق الذي قد حوا فيه واقترحوا خلافه ونزلناه لا تنزيل مُغايراً له لنقويَ بذلك التَّنزيلِ المفرَّقِ فؤادَك فإنَّ فيه تيسير الحفظ النَّظمِ وفهم المعانِي وضبطِ الأحكامِ والوقوفِ على تفاصيلِ ما رُوعي فيها من الحكم والمصالح المبينة على المناسبة على أنها مونطة بأسبابها الدَّاعيةِ إلى شَرعها ابتداءً أو تبديلاً بالنَّسخِ من أحوال المكلَّفينَ وكذلك عامة ما وردَ في القرآنِ المجيدِ من الأخبار وغيرِها متعلِّقةٌ بأمورٍ حادثةٍ من الأقاويل والأفاعيل ومن قضية تجدُّدِها تجددُ ما يتعلَّقُ بها كالاقتراحاتِ الواقعة من الكَفَرة الدَّاعيةِ إلى حكايتِها وإبطالِها وبيانِ ما يؤول إليه حالُهم في الآخرِة على أنَّهم في هذا الاقتراحِ كالباحث عن حَتْفه بظلفه حيثُ أُمروا بالاتيان بمثل نَوبةٍ من نُوبِ التَّنزيل فظهرَ عجزُهم عن المعارضةِ وضاقتْ عليهم الأرضُ بما رَحُبتْ فكيف لو تُحدُّوا بكلمة وقوله تعالى (رتلناه تَرْتِيلاً) عطفٌ على ذلك المُضمر وتنكيرُ ترتيلاً للتَّفخيمِ أي كذلك نزَّلناهُ ورتلناهُ تَرتْيلا بديعاً لا يُقادرُ قدره معنى ترتيلهِ تفريقُه آيةً بعدَ آيةٍ قالَه النَّخعيُّ والحسنُ وقَتَادةُ وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما بيَّناهُ بياناً فيه ترتيلٌ وتثيبت وقال السُّدِّيُّ فصَّلناهُ تفصيلاً وقال مجاهُدُ جعلنا بعضَه في إثر بعضٍ وقيل هو الأمرُ بترتيلِ قراءتِه بقوله تعالى ورتل القرآن تَرْتِيلاً وقيل قرأناه عليكَ بلسانِ جبرِيلَ عليهِ السَّلامُ شيئا فشئيا في عشرين أو ثلاث وعشرين سنة على تُؤَدةٍ وتَمهلٍ(6/216)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} من الأمثال من جملتها ما حكي من اقتراحاتِهم القبيحةِ الخارجةِ عن دائرةِ العقولِ الجاريةِ لذلك مجرى الأمثالِ أي لا يأتونَك بكلامٍ عجيبٍ هو مَثَلٌ في البُطلان يريدون به القَدْحَ في حقِّك وحقِّ القُرآنِ {إِلاَّ جئناك} في مُقابلتِه {بالحق} أي بالجوابِ الحقِّ الثَّابتِ الذي ينْحي عليه بالإبطالِ ويَحسمُ مادَّةَ القِيلِ والقالِ كما مرَّ من الأجوبةِ الحقَّةِ القالعةِ لعروقِ أسئلتِهم الشَّنيعةِ الدَّامغةِ لها بالكُلِّيةِ وقوله تعالى {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} عطفٌ على الحقِّ أي جئناك بأحسن الحُسنِ في حدِّ ذاته لا أنَّ ما يأتون به له حَسنٌ في الجملة وهذا أحسنُ منه كما مروا الاستثناء مفرغ محلُّه النصب على الحالية أي لا يأنونك بمثل إلا حال إتياننا إيَّاك الحقَّ الذي لا مجيد عنه وفيه من الدِلالة على المُسارعة إلى إبطالِ ما أتوا به وتثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم مالا يخفى وهذا بعبارته ناطقٌ ببطلان جميع الأسئلة وبصحَّةِ جميع الأجوبة وبإشارته منبىءٌ عن بُطلانِ السُّؤالِ الأخير وصحة جوابة إذلولا أنَّ تنزيلَ القرآن على التَّدريجِ لما أمكن إبطالُ تلك الاقتراحاتِ الشَّنيعةِ ولما حصل تثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم من تلك الحيثيَّةِ هذا وقد جوِّز أنْ يكون المَثَلُ عبارةً عن الصِّفةِ العريبة التي كانُوا يقترحون كونَه صلى الله عليه وسلم عليها من مقارنة الملكِ والاستغناء عن الأكل والشُّربِ وحيازة الكنز والجنَّة ونزول القرآن عليه جملةً واحدةً على معنى لا يأتوك بحال عجيبة يقترحون اتِّصافك بها قائلين هلاَّ كان على هذه الحالة إلا أعطياك نحنُ من الأحوال الممكنة ما يحقُّ لك في حكمتِنا ومشيئتنا أنْ تُعطاهُ وما هو أحسنُ تكشيفاً لما بُعثت عليه ودلالةً على صحَّته وهو الذي أنتَ عليه في الذَّاتِ(6/216)
سورة الفرقان (3436) والصِّفاتِ ويأباهُ الاستثناءُ المذكور فإن المتبادر منه يكون ما أعطاهُ الله تعالى منَ الحقِّ مترتباً على ما أتَوا به من الأباطيلِ دامغاً لها ولا ريب في ما آتاه الله تعالى من المَلَكاتِ السَّنيةِ اللاَّئقةِ بالرَّسالة قد أتاه من أوَّلِ الأمر لا بمقابلة ما حكي عنهم من الاقتراحات لأجلِ دمغها وإبطالِها(6/217)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
{الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ} أي يُحشرون كائين على وجوههم يسبحون عليها ويُجرُّون إلى جهنَّمَ وقيل مقلوبين وجوهُهم على قفاهم وأرجلُهم إلى فوقٍ روى عنه صلى الله عليه وسلم يُحشر النَّاسُ يومَ القيامةِ على ثلاثةِ أثلاثٍ ثلثٌ على الدَّوابِّ وثُلثٌ على وجوههم وثلث على وثُلثٌ على أقدامِهم ينسِلون نَسلاً وأما ما قيل متعلقةً قلوبهم بالسُّفليَّاتِ متوجِّهةً وجوههم إليها فبيعد لأنَّ هول ذلك اليومِ ليس بحيث يبقى لهم عنده تعلُّقٌ بالسُّفليَّاتِ أو توجُّه إليها في الجملة ومحلُّ الموصول إمَّا النَّصبُ أو الرفع على الذم أو الرفعُ على الابتداءِ وقولُه تعالَى {أولئك} بدلٌ منه أو بيانٌ له وقوله تعالى {شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} خبر له أو اسمُ الإشارة مبتدأٌ ثانٍ وشرُّ خبرُه والجملة خبر للمصول ووصف السَّبيلِ بالضَّلالِ من باب الإسناد المجازيِّ للمبالغة والمفضل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم على مهاج قوله تعالى قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ كأنه قي إنَّ حاملهم على هذه الاقتراحات تحقير مكانه صلى الله عليه وسلم بتضليل سبيله ولا يعلمون حالَهم ليعلموا أنَّهم شرٌّ مكاناً وأضلُّ سبيلاً وقيل هو متَّصلٌ بقوله تعالى أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً(6/217)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)
(ولقد آتينا موسى) جملةٌ مستأنفةٌ سيقتْ لتأكيد ما مرَّ من التَّسليةِ والوعد بالهداية والنَّصرِ في قوله تعالى وكفى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً بحكايةِ ما جرى بينَ مَن ذُكر من الأنبياء عليهم الصلاة والسَّلامُ وبين قومِهم حكايةً إجماليَّةً كافيةً فيما هو المقصود واللامُ جوابٌ لقسمٍ محذوف أي وبالله لقد آتينا مُوسى التَّوراةَ أي أنزلناها عليه بالآخرةِ {وَجَعَلْنَا مَعَهُ} الظَّرف متعلِّق بجعلنا وقوله تعالى {أَخَاهُ} مفعولٌ أوَّلٌ له وقوله تعالى {هارون} بدل منن أخاه أو عطفُ بيانٍ له على عكس ما وقع في سورةِ طه وقوله تعالى {وزيرا} وفعول به ثان له وقد مرئمة معنى الوير أي جلعناه في أوَّلِ الأمر وزيراً له(6/217)
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
{فقلنا} لهما حينذ {اذهبا إِلَى القوم الذين كذبوا بآياتنا} هم فرعونُ وقومه والآياتُ هي المعجزات التِّسعُ المفصَّلاتُ الظَّاهرُة على يَدَيْ موسى عليع السَّلامُ ولم يُوصفِ القومُ لهما عند إرسالِهما إليهم بهذا الوصف ضرورةَ تأخُّرِ تكذيب الآيات عن إظهارِها المتأخِّر عن ذهابهما المتأخِّر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عنه الحكاية لرسو ل الله صلى الله عليه وسلم بيانا لعلة استحفافهم لما يُحكى بعده من التَّدميرِ أي فذهبا إليهم فأرياهم آياتتا كلَّها فكذَّبوها تكذيباً مُستمرَّاً {فدمرناهم} التكذيب إثرَ ذلك التَّكذيبِ المستمرِّ {تَدْمِيرًا} عجيباً هائلاً لا يُقادرُ قَدرُه ولا يُدرك كُنهُه فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء(6/217)
سورة الفرقان (37 35) بما هو المقصودُ وحَملُ قوله تعالى فدمَّرناهم على معنى فحكمنا بتدميرِهم مع كونه تعسفا ظاهرا مما لا وجهَ لَهُ إذ لا فائدةَ يُعتدُّ بها في حكاية الحكم بيتدمير قد وقع وانقضى والتَّعرضُ في مطلع القصَّةِ لإيتاء الكتاب مع أنَّه كان بعد مهلكِ القوم ولم يكن له مدخلٌ في هلاكهم كسائرِ الأيات للإيذانِ من أوَّلِ الأمرِ ببلوغِه صلى الله عليه وسلم غايةَ الكمالِ ونيله نهايةَ الآمالِ التي هي إنجاءُ بني إسرائيلَ من ملكة فرعون وإرشادهم إلى الطريق الحق صلى الله عليه وسلم غايى الكمال ونيله نهاية بما في التَّوراة من الأحكام إذا به يحصُلُ تأكيدُ الوعدِ بالهدايةِ على الوجه الذي مربيانه وقرىء فدمرتهم وفدمراهم وفدمراهم على التَّأكيد بالنُّون الثَّقيلةِ(6/218)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
{وَقَوْمَ نُوحٍ} منصوبٌ بمضمرٍ يدل عليه قوله تعالى فدمَّرناهم أي ودمَّرنا قومَ نوحٍ وقيل عطف على مفعول فدمر ناهم وليس من ضرورة ترتيب تدميرهم على ما قبله ترتُّبُ تدميرِ هؤلاء عليه لا سيَّما وقد بُيِّن سببُه بقوله تعالى {لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل} أي نوحاً ومن قبله من الرُّسل أو نوحاً وحدَهُ لأنَّ تكذيبه تكذيب للكل لا تفاقهم على التَّوحيدِ والإسلامِ وقيل هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى {أغرقناهم} وإنَّما يتسنَّى ذلك على تقديرِ كونِ كلمة لَّماً ظرفَ زمانٍ وأمَّا على تقدير كونِها حرفَ وجودٍ لوجودٍ فلا لأنَّه حينئذٍ جواب لها وجواب لما لا يفسَّر ما قبله مع أنَّه مخلٌّ بعطف المنصوبات الآتية على قوم نوح لما أنَّ إهلاكَهم ليس بالإغراق فالوجهُ ما نقدم وقوله تعالى أغرقناهم استناف مبيِّن لكيفيَّةِ تدميرِهم (وجعلناهم) أي جعلنا إفراقهم أو قصتهم (للاس آيه) أيْ آيةً عظيمةً يعتبرُ بها كلُّ مَن شاهدها أو سمعها وهي مفعول ثانٍ لجعلنا وللنَّاس ظرفٌ لغوله أو متعلق محذوف وق حالاً من آيةً إذ لو تأخَّر عنها لكان صفةً لها (وَأَعْتَدْنَا للظالمين) أي لهم والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ للإبذان بتجاوزهم الحدَّ في الكفر والتَّكذيبِ (عَذَاباً أَلِيماً) هو عذاب الآخرة لا فائدة في الإخبار بإعتياد العذابِ الذي قد أُخبر بوقوعه من قبلُ أو لجميع الظَّالمينَ الباقينَ الذين لم يعتبرُوا بمَا جَرى عليهمْ من العذاب فيدخل في زُمرتهم قُريشٌ دخولاً أة ليا ويحتمل العذاب الدنيوي الأخروى(6/218)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
(وَعَاداً) عطفٌ على قوم نوح وقيل على المفعول الأول لجعلناهم وقيل على الظالمين إذهو في معنى وعدنا الظالمين وكلاهما بعيدٌ (وَثَمُودُ) الكلامُ فيه وفيما بعدَه كما فيما قبلَه وقُرىء وثموداً على تأويل الحى أنه الأبِ الأقصى (وأصحاب الرس) هم قومٌ يعبدون الأصنامَ فبعثَ الله تعالى إليهم شُعيباً عليه السَّلامُ فكذَّبُوه فبينما هم حَولَ الرَّسِّ وهي البءر التي لم تُطْوَ بعدُ إذِ انهارتُ فخُسف بهم وبديارِهم وقيل الرَّسُّ قرية بفَلْجِ اليمامةِ كان فيها بقايا ثمودَ فبَعث إليهم نبي فقتلوخ فهلكوا أو قيل هو الأخدود وقيل بءر بأنطاكيَّةَ قتلوا فيها حبيباً النَّجارَ وقيل هم أصحابُ حنظلةَ بنِ صفوانَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ابتلاهم الله بطيرٍ عظيمٍ كان فيها من كلِّ لون وسمَّوها عنقاءَ لطولِ عُنقِها وكانت تسكنُ جبلَهم الذي يقالُ له فتخ أو دمخ فتنقضُّ على صبيانِهم فتخطفُهم إن أعوزها الصيد(6/218)
سورة الفرقان (39 40) ولذلك سُمِّيتْ مُغْرِبا فدعا عليها حنظلةُ عليه السَّلامُ فأصابتْها الصَّاعقةُ ثم إنَّهم قتلُوه عليه السَّلامُ فأُهلكوا وقيل قومٌ كذَّبُوا رسولَهم فرسُّوه أي دسُّوه في بئرٍ {وَقُرُوناً} أي أهلَ قرونٍ قيل القرنُ أربعونَ سنةً وقيل سبعونَ وقيل مائةٌ وعشرون {بَيْنَ ذلك} أي بين ذلك المذكورِ من الطَّوائفِ والأُمم وقد يذكرُ الذَّاكرُ أشياءَ مختلفةً ثمَّ يشيرُ إليها بذلك ويحسبُ الحاسبُ أعداداً مُتكاثرةً ثمَّ يقولُ فذلك كيتَ وكيتَ على ذلك المذكورِ وذلك المحسوبِ {كَثِيراً} لا يعلم مقدارَها إلاَّ العليمُ الخبيرُ ولعلَّ الاكتفاءَ في شؤن تلك القرُونِ بهذا البيان الإجماليِّ لما أنَّ كلَّ قرنٍ منها لم يكن في الشُّهرةِ وغرَابةِ القصَّةِ بمثابة الأُممِ المذكِورةِ(6/219)
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
{وَكُلاًّ} منصوبٌ بمضمرٍ يدلُّ عليه ما بعده فإنَّ ضربَ المثلِ في معنى التَّذكيرِ والتَّحذيرِ والمحذوفُ الذي عُوّض عنه التنوينُ عبارةٌ إمَّا عن الأُممِ التي لم يُذكر أسبابُ إهلاكِهم وإمَّا عن الكلِّ فإنَّ ما حُكي عن قومِ نوحٍ وقومِ فرعونَ تكذيبُهم للآياتِ والرُّسلِ لا عدمُ التأثير من الأمثالِ المضروبة أي ذكرنا وأنذرنا كلَّ واحدٍ من المذكورين {ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال} أي بينَّا له القصص العجينة الزَّاجرةَ عمَّا هُم عليهِ من الكُفر والمعاصي بواسطةِ الرسل {وكلا} الآمالِ التي هي إنجاءُ بني إسرائيل {تبرنا تتبيرا} عجيبا هلائلا لما أنَّهم لم يتأثَّروا بذلكَ ولم يرفعُوا له رأساً وتمادَوا على ما هم عليه عن الكُفرِ والعُدوانِ وأصلُ التَّتبيرُ التَّفتيتُ قال الزَّجَّاجُ كلُّ شيء كسرته وفتتته فقد تبَّرتَه ومنه التِّبرُ لفئات الذَّهبِ والفِضَّةِ(6/219)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
{وَلَقَدْ أَتَوْا} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيانِ مشاهدتهم لآثارِ هلاك بعض الأُمم المتبَّرةِ وعدم اتِّعاظِهم بها وتصديرُها بالقسم لمزيدِ تقريرِ مضمونِها أي وبالله لقد أتى قُريشٌ في متاجرهم إلى الشَّامِ {عَلَى القرية التى أُمْطِرَتْ} أي أُهلكت بالحجارة وهي قُرى قومِ لوطٍ وكانت خمسَ قُرى ما نجتْ منها إلاَّ واحدةٌ كان أهلُها لا يعملون العملَ الخبيثَ وأمَّا البواقي فأهلكها الله تعالى بالحجارةِ وهي المرادة بقول تعالى {مَطَرَ السوء} وانتصابُه إمَّا على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ بحذف الزَّوائد كما قيل في أنبتَه الله تعالى نباتاً حسنَاً أي إمطارَ السَّوءِ أو على تركهم بعلَّةِ الحُكمِ {لَوْلاَ نُزّلَ عليه القرآن} التَّنزيلُ هَهُنا مجرَّدٌ عن مَعْنى التَّدريجِ كما في قوله تعالى يسألك الآمالِ التي هي إنجاءُ بني إسرائيل التَّذكر عند مُشاهدة ما يُوجبه والهمزة لإنكار نفي استمرار رؤيتِهم لها وتقريرِ استمرارِها حسب استمرارِ ما يُوجبها من إتيانِهم عليها لا لإنكارِ استمرارِ نفي رؤيتِهم وتقريرِ رؤيتِهم لها في الجُملةِ والفاءُ لعطفِ مدخولِها على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ أي ألم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يَرونها أو أكانُوا ينظرون إليها فلم يكونُوا يَرونها في مرارِ مرورِهم ليتَّعظِوا بما كانُوا يُشاهدونَهُ من آثارِ العذابِ فالمنكر في الأوَّلِ تركُ النَّظرِ وعدمُ النظر الرُّؤيةِ معاً وفي الثَّانِي عدمُ الرُّؤيةِ مع تحقُّقِ النَّظرِ الموجبِ لها وقوله تعالى {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} إما إضرابٌ عمَّا قبلَه من عدمِ رؤيتِهم لآثار ما جَرى على أهلِ القُرى من العقوبة وبيان لكون وعدم اتِّعاظِهم بسبب إنكارِهم لكون ذلك عقوبة(6/219)
سورة الفرقان 41 43
لمعاصيهم لا لعدم رؤيتهم لآثارِها خلا أنَّه اكتفى عن التَّصريحِ بإنكارِهم ذلك بذكرِ ما يستلزمُه من إنكارهم للجزاءِ الأُخرويِّ الذي هو الغابة من خلق العالمِ وقد كُني عن ذلك بعدم النُّشورِ أي عدم توقُّعهِ كأنَّه قيل بل كانُوا ينكرون النُّشورَ المستتبع للجزاءِ الأُخرويِّ ولا يرَون لنفسٍ من النُّفوسِ نُشوراً أصلاً مع تحقُّقهِ حتماً وشمولِه للنَّاسِ عموماً واطِّرادِه وقوعاً فكيف يعترفُون بالجزاء الدٌّنيويِّ في حقِّ طائفةٍ خاصَّةً مع عدم الاطِّرادِ والملازمة بينه وبين المعاصي حتَّى يتذكَّروا ويتَّعظوا بما شاهدوه من آثارِ الهلاك وإنَّما يحملونه على الاتِّفاقِ وإمَّا انتقالٌ من التَّوبيخِ بما ذُكر منْ تركِ التَّذكرِ إلى التَّوبيخِ بما هو أعظمُ منه من عدمِ توقُّعِ النُّشورِ(6/220)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} أي ما يتخذونك إلا مهزوءا به على معنى قصر معاملتهم معه صلى الله عليه وسلم على اتخاذهم إياه صلى الله عليه وسلم هُزؤاً لا على معنى قصر اتخاذهم على كونه هُزؤاً كما هو المتبادَرُ من ظاهر العبارةِ كأنَّه قيل ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزؤا وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى أَنِ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ من سورة الأنعام وقوله تعالى {أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً} محكيٌّ بعد قول مضمر هو حالٌ من فاعلِ يتَّخذونك أي يستهزؤن بك قائلينَ أهذا الذي الخ والإشارةُ للاستحقارِ وإبراز بعث الله رسولاً في معرض التَّسليمِ بجعله صلةً للموصول الذي هو صفتُه صلى الله عليه وسلم مع كونِهم في غاية النكير لبعثه صلى الله عليه وسلم بطريقِ التَّهكُّمِ والاستهزاءِ وإلاَّ لقالُوا أبعثَ الله هذا رسولا أو أهذأ الذي يزعمُ أنَّه بعثه الله رسولاً(6/220)
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
{إِن كَادَ} إنْ مخففةٌ منْ أنَّ وضميرُ الشأن محذوفٌ أيْ إنَّه كادَ {ليضلنا عن آلهتنا} أي ليصرفنا عن عبادتِها صرفاً كليَّاً بحيث يُبعدنا عنها لا عن عبادتِها فقط والعدولُ إلى الإضلال لغاية ضلالِهم بادَّعاء أنَّ عبادتَها طريقٌ سويٌّ {لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} ثبتْنا عليها واستمسكنَا بعبادتِها ولولا في أمثال هذا الكلامِ تجري مَجرى التقييدِ للحُكم المطلقِ من حيثُ المعنى كما أشير إليه في قوله تعالى وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ الخ وهذا اعترافٌ منهم بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الاجتهادِ في الدعوة إلى الحق وإظهارِ المعجزاتِ وإقامةِ الحججِ والبيِّناتِ إلى حيثُ شارفُوا أنْ يتركُوا دينَهم لولا فرطُ لجَاجِهم وغايةُ عنادِهم يُروى أنَّه من قولِ أبي جهلٍ {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} جوابٌ من جهتهِ تعالى لآخرِ كلامِهم وردٌّ لما ينبىءُ عنه من نسبته صلى الله عليه وسلم إلى الضَّلالِ في ضمن الإضلال أي سوف يعلمونَ البتةَ وإنْ تراخى {حِينَ يَرَوْنَ العذاب} الذي يستوجبُه كفرُهم وعنادُهم {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وفيه ما لا يَخفْى من الوعيدِ والتَّنبيهِ على أنَّه تعالى لا يهملهم وإن أمهلهم(6/220)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
{أرأيت مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من شناعةِ حالِهم بعد حكاية قبائحِهم من الأقوالِ(6/220)
سورة الفرقان 44 والأفعالِ وبيانِ ما لهم من المصيرِ والمآلِ وتنبيهٌ على أنَّ ذلك من الغرابةِ بحيث يجبُ أنْ يرى ويتعجَّبَ منه وإلههَ مفعول ثانٍ لاتَّخذ قُدِّم على الأوَّلِ للاعتناء به لأنَّه الذي يدورُ عليهِ أمرُ التعجب ومَن توهَّم أنهما على التَّرتيبِ بناء على تساويهما في التَّعريفِ فقد زلَّ منه أن المفعول الثَّانِي في هذا الباب هو المتلبِّسُ بالحالة الحادثِة أي أرأيتَ مَن جعلَ هواهُ إلهاً لنفسهِ من غير أن يلاحَظ وبنى عليه أمرَ دينِه مُعرِضاً عن استماع الحجَّةِ الباهرة البرهان النيِّرِ بالكلِّيةِ على معنى انظُر إليه وتعجَّب منه وقولُه تعالى {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} إنكارٌ واستبعادٌ لكونه صلى الله عليه وسلم حفيظاً عليه يزجرُه عمَّا هو عليه من الضَّلالِ ويُرشده إلى الحقَ طوعاً أو كَرهاً والفاءُ لترتيب الإنكارِ على ما قبله من الحالةِ المُوجبةِ له كأنَّه قيل أبعد ما شاهدت غلوَّه في طاعة الهوى وعتوَّه عن اتباع الهُدى تقسره على الإيمان شاء أو أَبَى وقوله تعالى(6/221)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} إضرابٌ وانتقال عن الإنكار المذكورِ إلى إنكار حسبانه صلى الله عليه وسلم لهم ممَّن يسمعُ أو يعقلُ حسبما ينبىءُ عنه جده صلى الله عليه وسلم في الدَّعوةِ واهتمامُه بالإرشاد والتَّذكيرِ لكن لا على أنَّه لا يقعُ كالأوَّلِ بلْ على أنَّه لا ينبغي أنْ يقعَ أي بل أتحسب أنَّ أكثرهم يسمعون ما تتلوا عليهم من الآيات حتى السَّماعِ أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ الزَّاجرةِ عن القبائح الدَّاعيةِ إلى المحاسن فتعتنِي بشأنِهم وتطمعُ في إيمانهم وضميرُ أكثرَهم لمَن وجمعُه باعتبارِ معناها كما أن الإفرادَ في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتبار لفظِها وضميرُ الفعلينِ لأكثرَ لاَ لِمَا أُضيف هُو إليهِ وقولُه تعالى {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام} الخ جملةٌ مستأنَفة مَسوقة لتقرير النَّكيرِ وتأكيدِه وحسم مادة الحُسبانِ بالمرَّةِ أي ما هُم في عدم الانتفاعِ بما يقرعُ آذانَهم من قوارع الآياتِ وانتفاء التَّدبرِ فيما يشاهدونَهُ من الدَّلائلِ والمُعجزاتِ إلا كالبهائمِ التي هي مَثَلٌ في الغفلةِ وعَلَمٌ في الضَّلالةِ {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} منها {سَبِيلاً} لما أنها تنقادُ لصاحبها الذي يعلِفها ويتعهدُّها وتعرف مَن يُحسِن إليها ممَّن يُسيء إليها وتطلبُ ما ينفعها وتجتنبُ ما يضرُّها وتهتدي لمراعيها ومشاربها وتأوِي إلى معاطنِها وهؤلاءِ لا ينقادونَ لربِّهم وخالقِهم ورازقِهم ولا يعرفون إحسانهم إليهم من إساءةِ الشَّيطانِ الذي هو أعدى عدوِّهم ولا يطلبون الثَّوابَ الذي هو أعظمُ المنافع ولا يتَّقون العقابَ الذي هو أشدُّ المضارِّ والمهالك ولا يهتدون للحقِّ الذي هو المشرع الهنيُّ والمورد العذبُ الرَّويُّ ولأنها إنْ لم تعتقِد حقَّاً مستتبِعاً لاكتساب الخيرِ لم تعتقد باطلاً مستوجباً لاقترافِ الشَّرِّ بخلاف هؤلاء حيث مهّدوا قواعدَ الباطلِ وفرَّعُوا عليها أحكامُ الشُّرورِ ولأنَّ أحكامَ جهالتِها وضلالتها مقصورةٌ على أنفسها لاتتعدى إلى أحدٍ وجهالةُ هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفتنى والفسادِ وصدِّ النَّاسِ عن سنين السَّدادِ وهيجان الهَرْجِ والمَرْجِ فيما بين العباد ولأنَّها غيرُ معطلةٍ لقوَّةٍ من القُوى المُودَعة بل صارفة لها إلى ما خُلِقت هي له فلا تقصيرَ من قبلها في طلبِ الكمالِ وأمَّا هؤلاءِ فهم مُعطِّلون لقواهم العقلية مضيِّعون للفطرةِ الأصليةِ التي فُطر النَّاسُ عليها مستحقُّون بذلك أعظم العقابِ وأشدَّ النَّكالِ(6/221)
سورة الفرقان 45(6/222)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
{أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ} بيانٌ لبعضِ دلائل التَّوحيدِ إثرَ بيانِ جهالةِ المُعرِضينِ عنها وضلالتهم والخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم والهمزةُ للتَّقريرِ والتَّعرضُ لعُنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه صلى الله عليه وسلم وللإيذانِ بأنَّ ما يعقُبه من آثارِ ربوبيَّتِه ورحمتِه تعالى أيْ ألمْ تنظرُ إِلَى بديعِ صُنعه تعالى {كَيْفَ مَدَّ الظل} أي كيف أنشأ ظلَّ أيَّ مُظَلَ كان من جبلٍ أو بناء أو شجر عند ابتداء طلوع الشَّمسِ ممتداً لا أنَّه تعالى مدَّهَ بعد أنْ لم يكن كذلك كما بعدَ نصفِ النهار إلى غروبها فإنَّ ذلك مع خُلوِّه عن التَّصريح بكون نفسه بإنشائه تعالى وإحداثِه يأباهُ سياق النظم الكريم وأم ما قيل من أن المرادَ بالظِّل ما بينَ طُلوعِ الفجرِ وطُلوع الشَّمسِ وأنه أطيبُ الأوقاتِ فإنَّ الظُّلمةَ الخالصةَ تنفِرُ عنها الطِّباعُ وشعاع الشمس يسخِّنُ الجوَّ ويبهر البصرَ ولذلك وَصَف به الجَّنةَ في قوله تعالى وَظِلّ مَّمْدُودٍ فغير سديد إذ لاريب في أنَّ المرادَ تنبيهُ النَّاسِ على عظيم قُدرة الله عزَّ وجلَّ وبالغِ حكمتِه فيما يشاهدونَه فلا بدَّ أنْ يُرادُ بالظلِّ ما يتعارفونه من حالةٍ مخصوصةٍ يشاهدونها في موضعٍ يحول بينه وبين الشَّمسِ جسمٌ كثيفٌ مخالفةً لما في جوانبه من مواقعِ ضحِّ الشَّمسِ وما ذُكر وإن كانَ في الحقيقةِ ظلاَّ للأفق الشرقيِّ لكنَّهم لا يعدونه ظلاً ولا يصفونه بأوصافهِ المعهودةِ ولعلَّ توجيه الرُّؤية إليه سبحانه وتعالى مع أنَّ المرادَ تقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم لكيفة مدِّ الظِّلِّ للتنبيهِ على أن نظره صلى الله عليه وسلم غير مقصور على ما يُطالعه من الآثارِ والصَّنائعِ بل مطمح أنظارِه معرفةُ شئون الصَّانعِ المجيدِ وقوله تعالى {وَلَوْ شَآء لجعله ساكنا} جملةٌ اعترضتْ بين المعطوفين للتنبيه منْ أولِ الأمرِ عَلى أنَّه لا مدخل فيما ذكر من المدِّ للأسباب العاديَّةِ وإنَّما المؤثر فيه المشيئةُ والقدرةُ ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ على القاعدة المستمرَّة من وقوعها وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ أي ولو شاء سكونَه لجعله ساكناً أي ثابتاً على حالِه من الطُّولِ والامتدادِ وإنما عُبِّر عن ذلك بالسُّكونِ لما أنَّ مقابِلَه الذي هو تغيُّر حاله حسب تغُّيرِ الأوضاعِ بين المضل وبين الشَّمسِ يُرَى رأيَ العينِ حركة وانتقالاً وحاصلُه أنه لا يعتريهِ اختلافُ حالٍ بأن لا تنسخه الشَّمسُ وأمَّا التَّعليلُ بأنْ يجعل الشَّمسَ مقيمةً على وضع واحد فمداره الغفُول عما سيق له النظم الكريم ونطقَ به صريحاً من بيان كمال قُدرته القاهرة وحِكمته الباهرة بنسبة جميعِ الأمور الحادثة إليه تعالى الذات وإسقاط الأسباب العاديَّةِ عن رُتبة السَّببيَّةِ والتَّاثيرِ بالكُلِّيةِ وقصرِها على مجرَّدِ الدِّلالةِ على وجود المسبَّبات لا بذكر قُدرته تعالى على بعض الخوارق كإقامةِ الشَّمسِ في مُقام واحدٍ على أنَّها أعظمُ من إبقاء الظلِّ على حالِه في الدِلالة على ما ذُكر من كمال القُدرةِ والحكمة مكونه من فُروعها ومُستتبعاتها فهي أَوْلَى وأحقُّ بالإيراد في معرضِ البيانِ وقولُه تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً} عطفٌ على مدَّ داخلٌ في حُكمهِ أيْ جعلناها علامةً يستدلُّ بأحوالها المتغيِّرة على أحوالِه من غير أنْ يكونَ بينهما سببيّة وتأثيرٌ قطعاً حسبما نطقَ به الشَّرطيةُ المعترضة والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لما في الجعلِ المذكورِ العاري عن التَّأثيرِ مع ما يشاهد بين الشَّمسِ والظلِّ من الدَّورانِ المُطَّردِ المنبىءِ عن السَّببيّةِ من مزيد دلالة على عظمِ القُدرةِ ودقة الحكمةِ وهو السرُّ في إيراد كلمة التَّراخي وقولُه تعالى {ثُمَّ قبضناه}(6/222)
سورة الفرقان (46 48)(6/223)
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
{ثُمَّ قبضناه} عطف على مد داخل في حكمه وثمَّ للتَّراخي الزَّماني لما أنَّ في بيان كون القبض والمد مر تبين دائرينِ على قطبِ مصالحِ المخلوقاتِ مزيدَ دلالةِ على الحكمة الرَّبانيَّةِ ويجوز أنْ تكونَ للتَّراخي الرُّتبي أي أزلناه بهد ما أنشأناهُ ممتدَّاً ومحوناه بمحص قُدرتنا ومشيئتنا عند إيقاعِ شعاعِ الشَّمس موقعَه من غير أن يكون له تأثيرٌ في ذلك أصلاً وإنَّما عبَّر عنه بالقبضِ المنبىء عن جميع المنبسطِ وطيِّه لمَا أنَّه قد عبَّر عن إحداثِه بالمدِّ الذي هو البسطُ طولاً وقوله تعالى {إِلَيْنَا} للتَّنصيصِ على كونِ مرجعِه إليه تعالى كما أنَّ حدوثَه منع عزَّ وجلَّ {قَبْضاً يَسِيراً} أي على مهل قليلاً حسب ارتفاعِ دليله على وتيرة معيَّنةٍ مطَّردةٍ مستتبعة لمصالح المخلوقات ومرافقها وقبل إنَّ الله تعالى حين بنى السماء كالقبلة المضروبة ودَحَا الأرضَ تحتها ألقت القبة طلها على الأرضِ لعدمِ النيِّر وذلك مدُّه تعالى إيَّاه ولو شاء لجعله ساكنا مستقرَّاً على تلك الحالةِ ثم خلق الشَّمسَ وجعلها على ذلك الظلِّ أي سلَّطها عليه ونصَبها دليلاً متبوعاً له كما يتبعُ الدَّليل في الطَّريقِ فهو يزيدُ بها وينقصُ ويمتدُّ ويقلصُ ثم نسخه بها فقبضه قبضاً سهلاً يسيراً غير عسيرا وقبضا سهلاً عند قيام السَّاعةِ بقبضِ أسبابهِ وهي الأجرامُ التي تلقي الظلَّ فيكون قد ذُكر إعدامُه بإعدامِ أسبابِه كما ذُكر إنشاؤه بإنشائِها ووصفه باليسرِ على طريقةِ قوله تعالى ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على تحقُّقِ الوقوع(6/223)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
{وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً} بيانٌ لبعض بدائعِ آثارِ قُدرتِه تعالى وحكمتِه وروائع أحكام رحمته ونعمه الفائضِة على الخلق وتلوينُ الخطابِ لتوفيةِ مقامِ الامتنانِ حقَّه واللامُ متعلِّقةٌ بجعلَ وتقديمُها على مفعولَيْه للاعتناءِ ببيان كونِ ما يعقُبه من منافعِهم وفي تعقيبِ بيان أحوال الظل ببيان أحكامِ اللَّيلِ الذي هُو ظلُّ الأرضِ من لُطف المسلكِ ما لا مزيدَ عليه أي هُوَ الذى جعلَ لكُم اللَّيلَ كاللِّباسِ يسترُكم بظلامِه كما يسترُكم اللِّباسُ {والنوم سُبَاتاً} أي وجعلَ النَّومَ الذي يقعُ في اللَّيلِ غالباً قطعاً عن الأفاعيل المختصَّة بحال اليقظةِ عبَّر عنه بالسُّباتِ الذي الموتُ لما بينها من المُشابهةِ التَّامةِ في انقطاعِ أحكامِ الحياةِ وعليهِ قولُه تعالى وَهُوَ الذى يتوفاكم بالليل وقولُه تعالى الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا {وَجَعَلَ النهار نُشُوراً} أي زمانَ بعثٍ من ذلك السُّباتِ كبعثِ الموتى على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه أو نفسُ البعثِ على طريق المبالغة وفيه إشارة إلى أن النَّومَ واليقظةَ أنموذجٌ للموتِ والنُّشورِ وعن لُقمانَ عليه السَّلامُ يا بُنيَّ كما تنامُ فتوقظُ كذلك تموتُ وتنشرُ(6/223)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
{وَهُوَ الذى أَرْسَلَ الرياح} وقُرىء بالتَّوحيدِ على أنَّ المرادَ هو الجنسُ {بُشْرًا} تخفيفُ بُشُر جمعُ بَشُورٍ أي مُبشِّرينَ وقُرىء بُشْرى وقرى نُشْراً بالنُّونِ جمعُ نَشور أي ناشرات للَّسَّحابِ وقُرىء بالتَّخفيفِ وبفتحِ النُّونِ أيضاً على أنه مصدرٌ(6/223)
سورة الفرقان (46 48)
وُصف به مبالغةً وقولُه تعالى {بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} استعارةٌ بديعةٌ أي قُدامَ المطرِ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في قولِه تعالى {وَأَنزَلْنَا من السماء ماء طَهُوراً} لإبرازِ كمالِ العنايةِ بالإيزال لأنَّه نتيجةُ ما ذُكر من إرسالِ الرِّياحِ أي أنزلنا بعظمتِنا بما رتَّبنا من إرسالِ الرِّياح من جهةِ الفوقِ ماءً بليغاً في الطَّهارةِ وما قيل إنَّه ما يكون طاهراً في نفسه ومطهراً لغيرهِ فهو شرح لبلاغته في الطَّهارةِ كما ينبُىء عنه قوله تعالى وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ فإنَّ الطَّهورَ في العربيةِ إمَّا صفةٌ كما تقول ماء طهورا واسم كما في قوله صلى الله عليه وسلم التُّرابُ طهورُ المؤمنِ وقد جاء بمعنى الطَّهارةِ كما في قولك تطهرتُ طَهوراً حسناً كقولك وَضُوءاً حسناً ومنه قوله تعالى صلى الله عليه وسلم لا صلاةَ إلا بطَهورٍ ووصف الماءِ به إشعارٌ بتمام النِّعمةِ فيه وتتميم للنِّعمةِ فيما بعده فإنَّ الماءَ الطَّهورَ أهنأُ وأنفعُ ممَّا خالطه ما يزيل طهوريَّتَه وتنبيه على أنَّ ظواهرهم لما كانت ممَّا ينبغي أن يطهورها فبواطهم أحقُّ بذلك وأولى(6/224)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
{لّنُحْيِىَ بِهِ} أي بما أنزلنا من الماءِ الطَّهورِ {بَلْدَةً مَّيْتاً} بإنبات النَّباتِ والتَّذكيرُ لأنَّ البلدةَ بمعنى البلدِ ولأنَّه غير جارٍ على الفعل كسائر أبنية المبالغةِ فأُجريَ مُجرى الجامدِ والمرادُ به القطعةُ من الأرضِ عامرةً كانت أو غامرةً {وَنُسْقِيَهِ} أي ذلك الماءُ الطَّهورُ عند جريانه في الأوديةِ أو اجتماعه في الحياضِ والمنافعِ أو الآبارِ {مِمَّا خَلَقْنَا أنعاما وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً} أي أهلَ البوادي الذين يعيشون بالحَيَا ولذلك نكَّر الأنعامَ والأَناسيَّ وتخصيصهم بالذكر لأنَّ أهل القرى والأمصار يقيمون بقرب الأنهار والمبالغ فيهم وبما لهم من الأنعام غنيةٌ عن سُقيا السَّماءِ وسائرُ الحيوانات تبعدُ في طلب الماء فلا يُعوِزُها الشُّربُ غالباً مع أنَّ مساقَ الآياتِ الكريمةِ كما هو للدِّلالة على عظم القدرة فهو لتعداد أنواع النِّعمةِ والأنعامُ حيث كانت قُنيةً للإنسان وعامة منافعهم ومعايشهم مَنوطةٌ بها قُدِّمَ سقيُها على سقيهم كما قُدِّم عليها إحياءُ الأرضِ فإنَّه سببٌ لحياتِها وتعيُّشِها وقُرىء نُسقيه وأَسْقَى وسَقَى لغتان وقيل أسقاهُ جعل له سُقيا وأَناسيَّ جمع إنسيَ أو إنسانٍ كظرابي في ظربان على أنَّ أصله أناسينَ فقُلبت نونُه ياءً وقُرىء أَناسيْ بالتَّخفيفِ بحذف ياءِ أفاعيلَ كأناعمَ في أناعيمَ(6/224)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
{ولقد صرفناه} أي وبالله لقد كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر لما مر من الغايات الجميلة في القرآن وغيره من الكتب السماوية {بينهم} أي بين الناس من المتقدمين والمتأخرين {ليذكروا} ليتفكروا ويعرفوا بذلك كمال قدرته تعالى وواسع رحمته في ذلك ويقوموا بشكر نعمته حق قيام وقيل الضمير للمطر وتصريفه بينهم إنزاله في بعض البلاد دون غيرها أو في بعض الأوقات دون بعض أو جعله تارة وابلا وأخرى طلا وحينا ديمه ووقتا رهمة والأول هو الأظهر {فأبى أكثر الناس} ممن سلف وخلف {إلا كفورا} أي لم يفعل إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث لها أو وإلا جحودها بأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ولا يذكر وصنع الله تعالى ورحمته ومن لا يرى الأمطار إلا من الأنواء فهو كافر بخلاف من يرى أن الكل يخلق الله تعالى(6/224)
سورة الفرقان (51 53)
والأنواء أمارات لجعله تعالى(6/225)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} نبيَّاً ينذر أهلها فيخف عليك أعباءَ النبوةِ لكن لم نشأْ ذلك فلم نفعلْه بل قصرنا الأمرَ عليك حسبما ينطِق به قوله تعالى لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً إجلالاً لك وتعظيماً وتفضيلاً لك على سائر الرُّسلِ(6/225)
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
{فَلاَ تُطِعِ الكافرين} أي فقابل ذلك بالثَّباتِ والاجتهاد في الدَّعوةِ وإظهار الحقِّ والتَّشددِ معهم كأنَّه نهيٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُداراة معهم والتَّلطفِ في الدَّعوةِ لما أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يودُّ أنْ يدخُلوا في الإسلام ويجتهدُ في ذلك بتأليفِ قلوبهم أشدَّ الاجتهاد {وجاهدهم بِهِ} أي بالقُرآن بتلاوةِ ما في تضاعيفِه من القوارع والزَّواجرِ والمَواعظِ وتذكير أحوال الأممِ المكذِّبةِ {جِهَاداً كَبيراً} فإنَّ دعوةَ كلِّ العالمينَ على الوجهِ المذكورِ جهادٌ كبيرٌ لا يُقادرُ قدرُه كمًّا وكيفاً وقيل الضَّميرُ المجرورُ لتِركِ الطَّاعةِ المفهوم من النَّهي عن الطَّاعةِ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ مجرَّد تركِ الطَّاعةِ يتحقَّقُ بلا دعوةٍ أصلاً وليس فيه شائبةُ الجهاد فضلان عن الجهاد الكبيرِ اللهمَّ إلاَّ أنْ تجعلَ الباء للملابسةِ ليكون المعنى وجاهِدْهم بما ذُكر من أحكامِ القُرآن الكريم ملابَساً بتركِ طاعتِهم كأنَّه قيل فجاهدْهم بالشِّدَّةِ والعُنفِ لا بالمُلاءمةِ والمُداراةِ كما في قوله تعالى يأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وقد جُعل الضميرُ لما دلَّ عليه قولُه تعالى ولو شئنا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نذيرا من كونه صلى الله عليه وسلم نذيرَ كافَّةِ القُرى لأنَّه لو بُعث في كلِّ قرية نذير لوجبَ على كلِّ نذير مجاهدةُ قريتِه فاجتمعتْ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم تلك المجاهداتُ كلُّها فكبُر من أجلِ ذلك جهادُه وعظم فقيل له صلى الله عليه وسلم وجاهدْهم بسببِ كونِك نذيرَ كافَّةِ القُرى جهاداً كبيراً جامعاً لكلِّ مُجاهدةٍ وأنت خبيرٌ بأنَّ بيانَ سبب كِبَرِ المُجاهدةِ بحسب الكميَّةِ ليس فيه مزيد فإنَّه بيِّنٌ بنفسِه وإنَّما اللائقُ بالمقامِ بيانُ سببِ كبرِها وعظمِها في الكيفيَّةِ(6/225)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
{وَهُوَ الذى مَرَجَ البحرين} أي خلاَّهما متجاورينِ مُتلاصقين بحيثُ لا يتمازجانِ من مَرَجَ دابَّته إذا خلاَّها {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} قامعٌ للعطشِ لغايةِ عذوبتِه {وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} بليغُ المُلوحةِ وقُرىء مَلْحٌ فلعلَّه تخفيفُ مالحٍ كبَرْدٍ في باردٍ {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} حاجزاً غيرَ مرئيَ من قُدرتِه كما في قوله تعالى بغير عمد وترونها {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} وتنافراً مُفرِطاً كأن كلامهما يتعوَّذُ من الآخرِ بتلك المقالِة وقيل حَدَّاً محدُوداً وذلك كدجلةَ تدخلُ البحرَ وتشقُّه وتجري في خلالِه فراسخَ لا يتغيَّرُ طعمُها وقيل المرادُ بالبحرِ العذبِ اله العظيمُ وبالمالحِ البحرُ الكبيرُ وبالبرزخ ما بينهما من الأرضِ فيكون أثرُ القُدرة في الفصلِ واختلافِ الصِّفةِ مع أنَّ مُقتضى طبيعةِ كلِّ عُنصرٍ التَّضامُّ والتَّلاصقُ والتشابه في الكيفية(6/225)
سورة الفرقان (54 59)(6/226)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
{وَهُوَ الذى خَلَقَ مِنَ الماء بَشَراً} هو الماءُ الذي خمَّر به طينة آدمَ عليه السَّلامُ أو جعله جُزءاً من مادَّةِ البشر ليجتمع ويسلسَ ويستعدَّ لقبول الأشكال والهيئاتِ بسهولة أو هو النُّطفةُ {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} أي قسمه قسمينِ ذوَيْ نسبٍ أي ذكوراً يُنتسبُ إليهم وذوات صهرا أي أناثاً يُصاهرُ بهنَّ كقولهِ تعالى فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والانثى {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} مبالغاً في القُدرة حيث قدرَ على أنْ يخلقَ من مادَّةٍ واحدةٍ بشراً ذَا أعضاءٍ مختلفةٍ وطباعٍ مُتباعدةٍ وجعله قسمين متقابلتين ورُبَّما يخلق من نُطفةٍ واحدة توأمين ذكرا وأنثى(6/226)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} الذي شأنه ما ذكر {مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ} أي ما ليس من شأنِه النَّفعُ والضُّرُّ أصلاً وهو الأصنامُ أو كل ما يعبدون من دونه تعالى إذْ ما من مخلوقٍ يستقلُّ بالنَّفع والضُّرُّ {وَكَانَ الكافر على رَبّهِ} الذي ذُكرتْ آثارُ ربوبَّيتهِ {ظَهِيرًا} يُظاهر الشَّيطانَ بالعداوةِ والشركِ والمرادُ بالكافر الجنسُ أو أبُو جهلٍ وقيل هيِّناً مهيناً لا اعتدادَ به عندَه تعالى من قولِهم ظهرتَ به إذا نبذته خلفَ ظهرِك فيكون كقولِه تعالى وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ(6/226)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا} للمؤمنين {وَنَذِيرًا} للكافرين(6/226)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
{قُلْ} لهم {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على تبليغِ الرَّسالةِ الذي ينبىءُ عنه الإرسالُ مِنْ {أَجْرٍ} من جهتكم {إِلاَّ مَن شَاء أن يتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} أي الأفعال من يُريد أنْ يتقرَّبَ إليه تعالى ويطلبَ الزُّلْفى عندَه بالإيمانِ والطَّاعةِ حسبَما أدعُوهم إليهما فصوَّرَ ذلك بصورةِ الأجرِ من حيثُ إنَّه مقصودُ الإتيانِ به واستثنى منه قلعاً كلَّياً لشائبةِ الطَّمعِ وإظهاراً لغاية الشَّفقةِ عليهم حيثُ جعلَ ذلك مع كونِ نفعِه عائدا إليهم عائدا إليه صلى الله عليه وسلم وقيل الاستثناءُ منقطعٌ أي لكِنْ منَ شاء أنْ يتخذ إلى ربه سبيلا فليفعلْ(6/226)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الحى الذى لاَ يَمُوتُ} في الاستكفاءِ عن شرورِهم والإغناءِ عن أجورِهم فإنَّه الحقيقُ بأنْ يتوكل بأن عليه دون الأحياء الذين من شأنِهم الموتُ فإنَّهم إذا ماتوا اضاع مَن توكَّل عليهم {وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ} ونزَّهه عن صفاتِ النُّقصانِ مُثنياً عليه بنعوتِ الكمالِ طالباً لمزيدِ الإنعامِ بالشُّكرِ على سوابغِه {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ} ما ظهرَ منها وما بطنَ {خَبِيراً} أي مُطَّلِعاً عليها بحيثُ لا يَخْفى عليه شيءٌ منها فيجزيهم جزاءً وافيا(6/226)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
{الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش}(6/226)
قد سلفَ تفسيرُه ومحلُّ الموصولِ الجرُّ على أنَّه صفةٌ أُخرى للحيِّ وصف بالصِّفةِ الفعلية بعد وصفهِ بالأبديَّةِ التي هي من الصَّفاتِ الذَّاتيةِ والإشارةُ إلى الصافة بالعلمِ الشَّاملِ لتقريرِ وجوبُ التوكلِ عليه تعالى وتأكيده فإنَّ من أنشأَ هذه الأجرامَ العظامَ على هذا النمطِ الفائقِ والنَّسقِ الرَّائقِ بتدبيرٍ متينٍ وترتيبٍ رصينٍ في أوقاتٍ معيَّنة مع كمال قدرتِه على إبداعها دفعةً لحكمِ جليلةٍ وغاياتٍ جميلةٍ لا تقف على تفاصيلِها العقولُ أحقُّ مَن يُتوكَّل عليه وأَولى من يُفوَّضُ الأمرُ إليه {الرحمن} مرفوعٌ على المدحِ أي هو الرحمنُ وهو في الحقيقةِ وصفٌ آخرُ للحيِّ كما قُرىء بالجرِّ مفيد لزيادة تأكيد ما ذُكر من وجوبُ التوكلِ عليه تعالى وإنْ لم يتبْعه في الإعرابِ لما تقرَّر من أنَّ المنصوبَ والمرفوعَ مَدحاً وإنْ خرجَا عن التبيعة لما قبلهما صورةً حيثُ لم يتبعاهُ في الإعرابِ وبذلك سُمّيا قطعاً لكنَّهما تابعانِ له حقيقةً أَلاَ يرى كيف النزموا حذف الفعل والمتدأ في النصب والرفع وما لتصوير كلَ منهما بصورةِ متعلِّقٍ من متعلَّقات ما قبلَه وتنبيهاً على شدَّةِ الاتِّصالِ بينهما وقد مرَّ تمامُ التَّحقيق في تفسير قولِه عزَّ وجلَّ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب الآيةَ وقيل الموصولُ مبتدأٌ والرَّحمنُ خبرُه وقيل الرَّحمنُ بدلٌ من المستكنِّ في استوى {فَاسْأَلْ بِهِ} أي بتفاصيلِ ما ذُكر إجمالاً من الخَلْقِ واستواء لا بنفسِهما فقط إذْ بعد بيانِهما لا يبقى إلى السُّؤالِ حاجةٌ ولا في تعديتهِ بالباءِ فائدةٌ فإنَّها مبنيَّةٌ على تضمينهِ معنى الاعتناءِ المستدعِي لكون المسؤل أمراً خطيراً مهتمًّا بشأنِه غيرَ حاصلٍ للسَّائلِ وظاهرٌ أنَّ نفسَ الخلقِ والاستواءِ بعد الذِّكرِ ليس كذلكَ وما قيل من أن التَّقديرَ إنْ شككتَ فيه فاسألْ به خَبيراً على أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمرادَ غيرُه بمعزلٍ من السَّدادِ بل التَّقديرُ إنْ شئتَ تحقيقَ ما ذُكر أو تفصيلَ ما ذُكر فاسألْ معنيًّا بهِ {خَبِيراً} عظيمَ الشَّأنِ محيطاً بظواهرِ الأمورِ وبواطِنها وهو الله سبحانَه يُطلعك على جليَّةِ الأمرِ وقيل فاسألْ به من جده في الكتبِ المتقدِّمةِ ليصدُقكَ فيه فلا حاجةَ حينئذٍ إلى ما ذَكرنا وقيل الضَّميرُ للرَّحمنِ والمعنى إنْ أنكرُوا إطلاقُه على الله تعالى فاسألْ عنه مَن يُخبرك من أهلِ الكتابِ ليعرفوا مجيء ما يردافه في كتبِهم وعلى هَذا يجوزُ أنْ يكونَ الرَّحمنُ مبتدأ وما بعده خبرا وقُرىء فَسَلْ(6/227)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن} قالوا لما أنهم ما كانوا يُطلقونَهُ على الله تعالى أو لأنَّهم ظنُّوا أنَّ المرادَ به غيرُه تعالى ولذلك قالُوا {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي للذي تأمرُنا بسجودِه أو لأمرِك إيَّانا من غيرِ أنْ نعرفَ أن المسجود له ماذا وقيل لأنَّه كانَ مُعرَّباً لم يسمعُوه وقُرىء يأْمُرنا بياءِ الغَيبةِ على أنَّه قولُ بعضِهم لبعضٍ {وَزَادَهُمْ} أي الأمرُ بسجودِ الرَّحمنِ {نُفُورًا} عن الإيمانِ(6/227)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
{تَبَارَكَ الذى جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً} هيَ البروجُ الاثنَا عشرَ سُّمِّيتْ به وهي القُصور العاليةُ لأنَّها للكواكبِ السَّيارةِ كالمنازلِ الرَّفيعةِ لسُكَّانِها واشتقاقُه من البُرجِ لظهورِه {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} هي الشَّمسُ لقولِه تَعالَى وجعل الشَّمسَ سراجاً وقُرىء سرجا وهي(6/227)
سورة الفرقان (62 65)
الشَّمسُ والكواكبُ الكبارُ {وَقَمَراً مُّنِيراً} مُضيئاً بالليَّل وقُرىء قمرا أي ذا قمر وهي مع قَمراءَ ولما أنَّ اللَّياليَ بالقمر تكون قمرا ضيف إليها ثمَّ حُذفَ وأُجريَ حكمُه على المضافِ إليهِ القائمِ مقامَهُ كما في قولِ حسَّانَ رضَي الله عنه {بردى يضيق بالرَّحيقِ السَّلسلِ} أي ماءُ بَردى ويُحتمل أنَّ يكونَ بمعنى القمرِ كالرَّشدِ والرُّشدِ والعَرَبِ والعُرْبِ(6/228)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
{وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفَةً} أي ذَوَي خلفةٍ يخلفُ كلٌّ منهما الآخرَ بأنْ يقومَ مقامَه فيما ينبغي أنْ يَعملَ فيه أو بأنْ يَعتِقبا كقوله تعالى واختلاف الليل والنهار وهي اسمٌ للحالةِ من خلفَ كالرِّكبةِ والجِلسةِ من رَكِبَ وجَلَس {لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} أي يتذكَّر آلاءَ الله عزَّ وجلَّ ويتفكَّر في بدائعِ صُنَعهِ فيعلم أنَّه لا بُدَّ لها من صانعٍ حكيمٍ واجبِ الذَّاتِ رحيمٍ للعبادِ {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} أي أنْ يشكَر الله تعالى على ما فيهما من النِّعمِ أو ليكونا وقتين للذاكربن مَن فاتَهُ وِرْدُه في أحدهما تداركه في الآخر وقرى أنْ يذكُرَ من ذَكَر بمعنى تذكَّر(6/228)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
{وَعِبَادُ الرحمن} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أو صاف خلَّصِ عبادِ الرَّحمنِ وأحوالِهم الدَّنيويةِ والأخُروَّيةِ بعد بيان حال النَّافرين عن عبادتِه والسُّجودِ له والإضافةُ للتَّشريفِ وهو مبتدأ خبرُه ما بعدَهُ من الموصولِ وما عُطف عليهِ وقيلَ هو ما في آخرِ السُّورةِ الكريمةِ من الجُملةِ المصدَّرةِ الإشارةِ وقُرىء عبادُ الرَّحمنِ أي عبادُه المقبُولونَ {الذين يَمْشُونَ على الارض هَوْناً} أي بسكينةٍ وتواضعٍ وهَوْناً مصدرٌ وُصف به ونصبُه إمَّا على أنَّه حالٌ من فاعلِ يمشُون أو على أنه نعث لمضدره أي يمشُون هيِّنين ليِّنيِ الجانبِ من غيرِ فظاظةٍ أو مشياً هيِّنا وقولُه تعالى {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون} أي السُّفهاءُ كما في قول من قال ألا لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَينا فنجهل فوق جهل الجاهلية ...
{قَالُواْ سَلاَماً} بيانٌ لحالِهم في المُعاملة مع غيرِهم إِثرَ بيانِ حالِهم في أنفسِهم أي إذا خاطبُوهم بالسُّوءِ قالوا تسليماً منكمُ ومتاركةً لا خيرَ بيننا وبينكم شرَّ وقيل سَداداً من القولِ يسلمُون به من الأذيَّةِ والإثمِ وليسَ فيه تعرُّضٌ لمعاملتِهم مع الكَفَرةِ حتَّى يُقالَ نسختها آيةُ القتالِ كما نُقل عن أبي العاليةِ وقولُه تعالى(6/228)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
{وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وقياما} بيانٌ لحالِهم في معاملتِهم مع ربِّهم أي يكونون ساجدين لربِّهم وقائمين أي يحبون اللَّيلَ كُلاًّ أو بعضاً بالصَّلاةِ وقيل من قرأ شيئاً من القُرآنِ في صلاةٍ وإنْ قلَّ فقد باتَ ساجداً وقائماً وقيل هُما الرَّكعتانِ بعد المغربِ والرَّكعتانِ بعد العشاءِ وتقديمُ السُّجودِ على القيامِ لرعايةِ الفواصلِ(6/228)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
{والذين يَقُولُونَ} أي في أعقابِ صلواتِهم أو في عامة أو قاتهم {رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}(6/228)
أي شراً دائماً وهلاكاً لازماً وفيه مزيدُ مدحٍ لهم ببيان أنَّهم مع حُسن معاملتِهم مع الخلقِ واجتهادِهم في عبادةِ الحقِّ يخافُون العذابَ ويبتهلون إلى الله تعالَى في صرفِه عنهم مختلفين بأعمالِهم كقوله تعالَى والذين يُؤْتُونَ ما آتوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون(6/229)
إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
{إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} تعليلٌ لاستدعائِهم المذكورِ بسوءِ حالِها في نفسها إثرَ تعليلهِ بسوء حالِ عذابِها وقد جوز أن يكون تعليلاً للأُولى وليس بذاك وساءتْ في حكم بئستُ وفيها ضميرٌ مبهمٌ يفسِّره مستقرَّاً والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ معناه ساءتْ مستقرَّاً ومقاماً هَي وهذا الضَّميرُ هو الذي ربطَ الجملة باسمِ إنَّ وجعلَها خبراً لها قيلَ ويجوزُ أنْ يكونَ ساءتْ بمعنى أحزنتْ وفيها ضميرا اسم إنَّ ومستقرَّاً حالٌ أو تمييزٌ وهو بعيدٌ خالٍ عَّما في الأولِ من المبالغةِ في بيانِ سوءِ حالِها وكذا جعل التعليلينِ من جهتِه تعالى(6/229)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
{والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ} لم يجاوزُوا حدَّ الكرمِ {وَلَمْ يَقْتُرُواْ} ولم يضيِّقُوا تضييقَ الشَّحيحِ وقيل الإسراف هو الإتفاق في المعاصِي والقترُ منعُ الواجباتِ والقُربِ وقُرىء بكسرِ التَّاءِ مع فتحِ الياءِ وبكسرها مخففة ومشدة مع ضمِّ الياءِ {وَكَانَ بَيْنَ ذلك} أي بين ما ذكر من الإسراف والقَترِ {قَوَاماً} وسطاً وعدلاً سُمِّي به لاستقامةِ الطَّرفينِ كما سُمِّيَ به سواءً لا ستوائهما وقُرىء بالكسرِ وهو ما يُقام به الحاجةُ لا يفضلُ عنها ولا ينقصُ وهو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ مؤكِّدة أو هو الخبرُ وبين ذلك لغوٌ وقد جوز أن يكون اسمَ كانَ على أنَّه مبنيٌّ لأضافتِه إلى غيرِ متمكِّن ولا يَخْفى ضعفُه فإنَّه بمعنى القوام فيكون كالإخبارِ بشيءِ عن نفسِه(6/229)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
{والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخر} شروعٌ في بيان اجتنابِهم عن المعاصي بعد بيانِ إتيانِهم بالطَّاعات وذكرُ نفيِ الإسرافِ والقَتْرِ لتحقيقِ معنى الاقتصادِ والتَّصريحُ بوصفِهم بنفيِ الإشراكِ مع ظهورِ إيمانِهم لإظهارِ كمالِ الاعتناء بالتَّوحيدِ والإخلاصِ وتهويلِ أمرِ القتلِ والزِّنا بنظمِهما في سلكِه وللتَّعريضِ بما كانَ عليه الكَفَرةُ من قُريشٍ وغيرِهم أي لا يعبدونَ معه تعالى إلهاً آخرَ {وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله} أي حرَّمها بمعنى حرَّم قتلَها فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه مبالغةً في التَّحريمِ {إِلاَّ بالحق} أي لا يقتلونَها بسببٍ من الأسبابِ إلا بسببِ الحقِّ المزيلِ لحُرمتِها وعصمتِها أو لا يقتلون قتلاً ما إلا قتلاً ملتبساً بالحقِّ أو لا يقتلونها في حالٍ من الأحوالِ إلا حال كونهم ملتبسين بالحقِّ {وَلاَ يَزْنُونَ} أي الذين لا يفعلُون شيئاً من هذه العظائمِ القبيحةِ التي جمعهنَّ الكفرةُ حيث كانُوا مع إشراكِهم به سبحانه مداومين على قتلِ النُّفوسِ المحرَّمةِ التي من جُملتها الموءودةُ مكبِّين على الزنا لا يرعون عنه أصلاً {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي ما ذُكر كما هو دأبُ الكَفرةِ(6/229)
سورة الفرقان (69 72) المذكُورين {يَلْقَ} في الآخرةِ وقرىء يلقَّ بالتَّشديدِ مجزوماً {أَثَاماً} وهو جزاءُ الإثمِ كالوبال والنِّكال وزناً ومعنى وقيل هو الإثم أي يلقَ جزاءُ الإثم والتَّنوينُ على التَّقديرين للتفخيم وقُرىء أيَّاماً أي شدائدَ يقال يومٌ ذُو أيَّام لليومِ الصَّعبِ(6/230)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
{يضاعف لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة} بدلٌ من يلقَ لاتِّحادِهما في المعنى كقوله ... متى تأتِنا تُلمِمْ بنا في ديارِنا ... تجدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تأجَّجاً وقُرىء ...
بالرَّفع على الاستئنافِ أو على الحالَّيةِ وكذا ما عُطف عليه وقرىء يُضعَّف ونُضعِّف له العذابَ بالنُّون ونصبِ العذابِ {وَيَخْلُدْ فِيهِ} أي في ذلكَ العذابِ المضاعفِ {مُهَاناً} ذليلاً مستحقراً جامعاً للعذاب الجُسمانيِّ والرُّوحانيِّ وقرىء يُخلَد ويُخلَّد مبنياً للمفعول من الإخلاد والتَّخليدِ وقُرىء تخلُد بالتاء على الالتفات المنبىءِ عن شدَّة الغضبِ ومضاعفةِ العذابِ لانضمامِ المعاصي إلى الكفر كما يفصحُ عنه قولُه تعالى(6/230)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
{إلا من تاب وآمن وعمل صالحا} وذكر الموصوفِ مع جريانِ الصَّالحِ والصَّالحاتِ مَجرى الإسم للإعتناء والتنَّصيص على مغايرتهِ للأعمال السَّابقةِ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصولِ والجمعُ باعتبارِ معناه كما أن الإفراد في الأفعالِ الثَّلاثة باعتبار لفظةِ أي أولئك الموصُوفون بالتَّوبةِ والإيمانِ والعملِ الصَّالحِ {يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} بأنْ يمحوَ سوابقَ معاصِيهم بالتَّوبةِ ويثبت مكانَها لواحقَ طاعتِهم أو يبدلَ بملكة المعصيةِ ودواعيها في النفس ملكةَ الطَّاعةِ بأنْ يُزيلَ الأُولى ويأتيَ بالثَّانيةِ وقيل بأنْ يُوفقَه لأضدادِ ما سلف منه أو أن يُثبت له بدَل كلِّ عقابٍ ثواباً وقيل يبدلهم بالشِّركِ إيماناً وبقتل المسلمينَ قتلَ المشركين وبالزِّنا عفَّةً وإحصاناً {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} اعتراض تذيبلى مقرِّرٌ لما قبله من المحوِ والإثبات(6/230)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
{وَمَن تَابَ} أي عن المعاصي بتركها بالكليَّة والنَّدمِ عليها {وَعَمِلَ صالحا} يتلافى به ما فَرَطَ منه أو خرج عن المعاصي ودخل في الطَّاعات {فَإِنَّهُ} بما فعلَ {يَتُوبُ إِلَى الله} أي يرجعُ إليه تعالى {مَتاباً} أي متاباً عظيمَ الشَّأنِ مرضيّاً عنده تعالى ما حيا للعقاب محصِّلاً للثَّوابِ أو يتوب متاباً إلى الله تعالى الذي يحبُّ التَّوابينَ ويحسن إليهم أو فإنَّه يرجعُ إليه تعالى أو إلى ثوابه مرجعاً حسناً وهذا تعيمم بعد تخصيصِ(6/230)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
{والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} لا يُقيمون الشَّهادةَ الكاذبةَ أو لا يحضُرون محاضرَ الكذبِ فإنَّ مشاهدةَ الباطل مشاركةٌ فيه {وَإِذَا مَرُّواْ} على طريقِ الاتفاقِ {باللغو} أي ما يجبُ أنْ يُلغى ويُطرحَ مَّما لا خيرَ فيه {مَرُّواْ كِراماً} معرضين عنه مكرِمين أنفسَهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ومن ذلك الإغضاءُ عن الفواحش والصَّفحُ عن الذُّنوب والكنايةُ عمَّا يُستهجنُ التصريح به(6/230)
سورة الفرقان (73 75)(6/231)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
{والذين إذا ذكروا بآيات رَبّهِمْ} المنطويةِ على المواعظ والأحكامِ {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} أي أكبُّوا عليها سامعين بآذانٍ واعيةٍ مجلين لها بعيون راعية وإنما عبَّر عن ذلك بنفي الضِّدِّ تعريضاً بما يفعله الكفرةُ والمنافقون وقيل الضَّميرُ للمعاصي المدلولِ عليها باللغو(6/231)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
{والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} بتوفيقهم للطَّاعةِ وحيازة الفضائلِ فإنَّ المؤمنَ إذا ساعده أهلُه في طاغة الله عزَّ وجلَّ وشاركوه فيها يُسرُّ بهم قلبُه وتقرُّ بهم عينُه لما يشاهدُه من مشايعتهم له في مناهجِ الدِّينِ وتوقُّعِ لحوقِهم به في الجنَّة حسبما وعد بقوله تعالى أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ ومِن ابتدائتة او بيانية وقرئ وذريتا وتنكيرُ الأعينِ لإرادة تنكيرِ القُرَّة تعظيماً وتقليلُها لأنَّ المراد أعين المنقين ولا ريبَ في قلَّتِها نظراً إلى غيرِها {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} أي اجعلنا بحيثُ يقتدون بنا في إقامة مواسم الدِّين بإفاضة العلم والتَّوفيقِ للعمل وتوحيدُه للدِّلالة على الجنس وعدم الإلباس كقوله تعالى ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً أو لأنَّ المرادَ واجعلْ كلَّ واحدٍ مَّنا إماماً أو لأنَّهم كنفس واحدةٍ لاتِّحاد طريقتهم واتِّفاق كلمتِهم كذا قالُوا وأنت خبيرٌ بأن مدارَ الكلِّ صدورُ هذا الدُّعاء إما عن الكلِّ بطريق المعيَّةِ وأنه محال لاستحانة اجتماعِهم في عصرٍ واحدٍ فما ظك باجتماعهم في مجلسٍ واحدٍ واتِّفاقِهم على كلمةٍ واحدةَ وإما عنْ كلَّ واحدٍ منْهُم بطريق تشريك غيره في استدعاءِ الإمامةِ وأنَّه ليس بثابتٍ جَزْماً بل الظَّاهرُ صوره عنهم بطريقِ الانفرادِ وأنَّ عبارةَ كلِّ واحدٍ منهم عند الدُّعاء واجعلني للمتَّقين إماماً خلا أنه حُكيت عباراتُ الكلِّ بصيغة المتكلِّم مع الغيرِ للقصدِ إلى الإيجاز على طريقة قوله تعالى يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا وأتقى إماماً على حاله وقيل الإمامُ جمعُ آمَ بمعنى قاصد كصيام جمع صائم ومعناه قاصدين لهم مُقتدين بهم وإعادةُ الموصولِ في المواقع السَّبعةِ مع كفايةِ ذكرِ الصِّلات بطريقِ العطفِ على صلة الموصول الأول للإبذان بأنَّ كلَّ واحدٍ ممَّا ذُكر في حيَّزِ صلةِ الموصولاتِ المذكورة وصفٌ جليلٌ على حِياله له شأنٌ خُطيرٌ حقيقٌ بأنْ يُفردَ له موصوفٌ مستقلٌّ ولا يُجعل شيءٌ من ذلكَ تتمة لغيرهِ وتوسيط العاطفِ بين الموصولاتِ لتنزيلِ الاختلافِ العنوانيِّ منزلةَ الاختلافِ الذاتيِّ كما في قولِه ... إلى الملكِ القَرمِ وابنِ الهُمَام ... وليثِ الكتائبِ في المزْدَحَمْ ...(6/231)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
{أولئك} إشارةٌ إلى المتَّصفين بما فصل في حين صلة الموصُولات الثمَّانيةِ من حيثُ اتِّصافُهم به وفيهِ دلالةٌ على أنَّهم متميِّزون بذلك أكملَ تميُّز منتظِمون بسببه في سِلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعد منزلتِهم في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى {يُجْزَوْنَ الغرفة} والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مبينةٌ لما لَهُمْ فِى الآخرةِ من السَّعادةِ الأبديَّةِ إثرَ بيانِ ما لهُم في الدُّنيا من الأعمال السَّنيةِ والغُرفة الدَّرجةُ العاليةُ من المنازل وكلُّ بناء(6/231)
سورة الفرقان (76 77)
مرتفعٍ عالٍ أي يُثابون أعلى منازل الجنَّةِ وهي اسمُ جنسٍ أُريد به الجمع كقولِه تعالى وَهُمْ في الغرفات آمنون وقيل هي اسمٌ من أسماء الجنَّةِ {بِمَا صَبَرُواْ} أي بصبرِهم على المشاقِّ من مضض الطَّاعاتِ ورفض الشَّهواتِ وتحمُّلِ المجاهدات {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} من جهةِ الملائكةِ {تحية وسلاما} أي يحيهم الملائكةُ ويدعُون لهم بطول الحياة والسَّلامةِ من الآفاتِ أو يعطون النبقية والتَّخليدَ مع السَّلامةِ من كلِّ آفةٍ وقيل يُحيِّي بعضُهم بعضاً ويُسلِّم عليه وقُرىء يلقَون من لَقِي(6/232)
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)
{خالدين فِيهَا} لا يموتُون ولا يُخرجون {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} الكلامُ فيه كالذي مرَّ في مقابلة(6/232)
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
{قُلْ} أُمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنْ يبيِّن للنَّاسِ أنَّ الفائزون بتلك النَّعماءِ الجليلةِ التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ إنَّما نالُوها بما عُدِّدَ من محاسنهم ولولاها لم يُعتدَّ بهم أصلاً أي قُل لهم كافَّةً مشافِهاً لهم بما صدرَ عن جنسهم من خيرٍ وشر {ما يعبأ بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} أيْ أيُّ عبءٍ يُعبأُ بكم وأيُّ اعتدادٍ يُعتدُّ بكم لولا عبادتُكم له تعالى حسبما مرَّ تفصيلُه فإنَّ ما خُلق له الإنسانُ معرفتُه تعالى وطاعتُه وإلاَّ فهو وسائرُ البهائمِ سواءٌ وقال الزَّجَّاجُ معناه أيُّ وزنٍ يكون لكم عنده وقيل معناه ما يصنع بكم ربي لولا دعاؤه إيَّاكم إلى الإسلامِ وقيل ما يصنعُ بعذابِكم لولا دعاؤكم معه آلهةً ويجوز أن تكون مانافية وقوله تعالى {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} بيانٌ لحال الكَفَرةِ من المخاطَبين كما أنَّ ما قبله بيانٌ لحال المُؤمنين منُهم أي فقد كذَّبتُم بما أخبرتكم به وخالقتموه أيُّها الكَفَرةُ ولم تعملوا عملَ أولئك المذكورينَ وقيل فقد قصَّرتمُ في العبادة من قولهم كذَب القتالُ إذا لم يُبالغ فيه وقُرىء فقد كذبَ الكافرون أي الكافرون منكُم لعمومِ الخطابِ للفريقينِ وفائدتُه الإيذانُ بأنَّ مناطَ فوزِ أحدِهما وخسرانِ الآخر مع الاتِّحاد الجنسيِّ المصحِّحِ للاشتراكِ في الفوزِ ليس إلا اختلافُهما في الأعمال {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أي يكون جزاءُ التكذيبِ أو أثرُه لازماً يحيقُ بكم لا محالةَ حتَّى يُكبكم في النَّارِ كما تُعربُ عنه الفاءُ الدَّالَّةُ على لزومِ ما بعدها لما قبلَها وإنَّما أُضمر من غير ذكرٍ للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره وللتنبيه على أنه مَّما لا يُكتنهه البيانُ وقيل يكون العذابُ لزاماً وعن مجاهد رحمه الله هو القتلُ يومَ بدرٍ وأنه لُوزم بين القَتْلى وقُرىء لَزاماً بالفتح بمعنى اللُّزومِ كالثَّباتِ والثُّبوتِ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سورةَ الفرقانِ لقي الله تعالَى وهُو مؤمن بأن الساعة آنية لا ريبَ فيها وأُدخلَ الجنة بغير نصب(6/232)
سورة الشعراء (1 4)
سورة الشعراء مكية إلا الآيات 197 ومن آية 224 إلى آخر السورة فمدنية وآياتها 227
{بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم}(6/233)
طسم (1)
{طسم} بتفخيمِ الألف وبإمالتِها وإظهارِ النُّونِ وبإدغامِها في الميمِ وهو إمَّا مسرودٌ على نمطِ التعديدِ بطريقِ التَّحدِّي على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في فاتحة البقرةِ فلا محلَّ له من الإعرابِ وإمَّا اسمٌ للسورة كما عليه الإطباق الأكثرِ فمحلُّه الرفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ وهو أظهرُ من الرَّفع على الابتداءِ وقد مرَّ وجهُه في مطلعِ سُورة يونسَ عليه السَّلامُ أو النصبُ بتقديرِ فعلِ لائقٍ بالمقام نحوُ اذكُر أو اقرأْ وتلكَ في قولِه تعالى(6/233)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{تلك آيات الكتاب المبين} إشارةٌ إلى السُّورة سواءٌ كانَ طسم مسروداً على نمطِ التعديدِ أو اسماً للسُّورة حسبما مرَّ تحقيقُه هناك وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد للتنبيه على بُعد منزلةِ المشارِ إليه في الفخامةِ ومحلُّه الرفعُ على أنه مبتدأ خبرُه ما بعَدُه وعلى تقديرِ كونِ طسم مبتدأً فهو مبدأ ثانٍ أو بدلٌ من الأَّولِ والمرادُ بالكتابِ القرآنُ وبالمبينِ الظَّاهرُ إعجازُه على أنه من أبان بمعنى بانَ أو المُبينُ للأحكامِ الشَّرعيةِ وما يتعلَّقُ بها أو الفاصلِ بين الحقِّ والباطلِ والمعنى هي آياتٌ مخصوصةٌ منه مترجمةٌ باسمِ مستقلٍ والمرادُ ببيانُ كونِها بعضا منه وصفُها بما اشتُهر به الكُلُّ من النُّعوتِ الفاضلةِ(6/233)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
{لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ} أي قاتلٌ وأصلُ البَخعِ أنْ يبلغَ بالذَّبحِ النُّخاعَ وهو عرقٌ مستبطنُ الفقارِ وذلك أقصى حدِّ الذَّبحِ وقُرىء باخِعُ نفسِك على الإضافةِ ولعل للإشتفاق أي أشفقْ على نفسِك أنْ تقتلَها حسرةً على ما فاتَك من إسلامِ قومِك {أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي لعدمِ إيمانِهم بذلكَ الكتابِ المبينِ أو خيفةَ أنْ لا يُؤمنوا به وقوله تعالى(6/233)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
{إِن نَّشَأْ} الخ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ ما يُفهم من الكلام من النَّهي عن التَّحسرِ المذكور ببيانِ أنَّ إيمانَهم ليس ممَّا تعلَّقتْ به مشيئةُ الله تعالى حتماً فلا وجهَ للطَمعِ فيه والتَّألمِ من فواتِه ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لكونه مضمونَ الجزاءِ أعني قوله تعالى {نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ من السماء آية} أي ملجئةً لهم إلى الإيمانِ قاسرةً عليه وتقديمُ الظَّرفينِ على المفعول الصَّريحِ لما مر مرارا من الإهتمام بالمقدم(6/233)
سورة الشعراء (5 7)
والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ {فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين} أي مُنقادين وأصلُه فظلوا لها خاضعين فأقتحمت الأعناقُ لزيادةِ التَّقريرِ ببيانِ موضعِ الخضوعِ وتُرك الخبرُ على حالِه وقيل لمَّا وُصفت الأعناقُ بصفاتِ العُقلاء أُجريتْ مجراهم في الصِّيغةِ أيضاً كَما في قولِه تعالى رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ وقيل أُريد بها الرُّؤساءُ والجماعاتُ من قولِهم جاءنا عنقٌ من النَّاسِ أي فوجٌ منهم وقُرىء خاضعةً وقولُه تعالى فظلَّتْ عطفٌ على تنزل باعتبارِ محلِّه وقولُه تعالَى(6/234)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ من الرحمن محدث إلا كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ} بيانٌ لشدَّةِ شكيمتهم وعدمِ ارعوائهم عمَّا كانوا عليه من الكُفر والتَّكذيبِ بغير ما ذُكر من الآيةِ المُلجئةِ لصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرصِ على إسلامِهم وقطعِ رجائِه عنه ومِن الأولى مزيدة لتأكيد العموم والثَّانيةُ لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة الذكر وأياما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وشاعة ما فعلوا به والتعرض لعنُوان الرَّحمةِ لتغليظِ شناعتِهم وتهويلِ جنايتِهم فإنَّ الإعراضَ عمَّا يأتيهم من جنابِه عزَّ وجلَّ على الإطلاقِ شنيع قبيحٌ وعما يأتيهم بموجبِ رحمته تعالى المحض منفعتِهم أشنعُ وأقبحُ أي ما يأتيهم من موعظةٍ من المواعظ القرآنية أومن طائفة نازلة من القرآن تذكِّرهم أكملَ تذكيرٍ وتنبِّههم عن الغفلة أتم تنبيه كأنَّها نفسُ الذِّكرِ من جهتهِ تعالى بمقتضى رحمتِه الواسعةِ مجدد تنزيله حسبما تقتضيه الحكْمةُ والمصلحة إلا جدَّدوا إعراضاً عنه على وجه التكذيبِ والاستهزاء وإصرار أعلى ما كانوا عليه من الكفرِ والضَّلالِ والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوالِ محلُّه النصبُ على الحالية من مفعول يأتيهم بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهورِ أي مَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ في حالٍ من الأحوالِ إلا حال كونهم مُعرضين عنه(6/234)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
{فَقَدْ كَذَّبُواْ} أي كذَّبوا بالذِّكرِ الذي يأتيهم تكذيباً صَريحاً مُقارناً للاستهزاءِ به ولم يكتفُوا بالإعراضِ عنه حيثُ جعلُوه تارة سحراً وأُخرى أساطيرَ وأُخرى شعراً والفاء في قوله تعالى {فَسَيَأْتِيهِمْ} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلَها والسِّينُ لتأكيد مضمونِ الجملة وتقريرهِ أي فسيأتيهم البتةَ من غير تخلّفٍ أصلاً {أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون} عدلَ عمَّا يقتضيه سائرُ ما سلف من الإعراض والتَّكذيبِ للإيذان بأنَّهما كانا مقارنين للاستهزاءِ كما أشير إليه حسبما وقع في قوله تعالى وما تأتيهم من آيةٍ من آيات رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤن وأنباؤُه ما سيحيقُ بهم من العُقوبات العاجلةِ والآجلةِ عبر عنها بذاك إما لكونها مما نبأ أبها القُرآنُ الكريمُ وإمَّا لأنَّهم بمشاهدتِها يقفُون على حقيقةِ حالِ القُرآنِ كما يقفُون على الأحوالِ الخافيةِ عنهم باستماعِ الأنباءِ وفيه تهويلٌ له لأنَّ النَّبأَ لا يُطلق إلا على خبرٍ خطيرٍ له وقعٌ عظيمٌ أي فسيأتيهم لا محالةَ مصداق ما كانوا يستهزءون به قَبلُ مِنْ غير أنْ يتدَّبروا في أحوالِه ويقفوا عليها(6/234)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} الهمزةُ للإنكار التوبيخي(6/234)
سورة الشعراء (8 10) والواو للعطف على مقدار يقتضيه المقام أي افعلُوا ما فعلُوا من الإعراضِ عن الآيات والتَّكذيبِ والاستهزاء بها ولم ينظرُوا {إِلَى الأرض} أي عجائبها الزَّاجرةِ عمَّا فعلُوا الدَّاعيةِ إلى الإقبال على ما أعرضُوا عنه وإلى الإيمانِ بهِ وقولُه تعالَى {كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} استئنافٌ مبيِّن لما في الأرضِ من الآيات الزَّاجرةِ عن الكُفر الدَّاعيةِ إلى الإيمان وكمْ خبريةٌ منصوبةٌ بما بعدها على المفعوليَّةِ والجمعُ بينها وبينَ كلِّ لإفادةِ الإحاطةِ والكثرةِ معاً ومن كل زوج أي صنف تمييز والكريمُ من كلِّ شيءٍ مرضيُّه ومحمودُه أي كثيراً من كلِّ صنفٍ مرضيَ كثير المنافع أنبتنا فيها وتخصيصُ إنباته بالذِّكر دون ما عداه من الأصنافِ لاختصاصِه بالدِّلالةِ على القُدرة والنعمة معاً ويُحتمل أنْ يرادَ به جميعُ أصناف النبات نافعِها وضارِّها ويكون وصفُ الكلِّ بالكرمِ للتنبيه على أنَّه تعالى ما أنبتَ شيئا إلا وفيه حكمة فائدةٌ كما نطقَ به قوله تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً فإنَّ الحكيمَ لا يكادُ يفعلُ فعلاً إلا وفيه حكمةٌ بالغةٌ وإنْ غفلَ عنها الغافلونَ ولم يتوصَّلْ إلى معرفةِ كُنْهِها العاقلون(6/235)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى مصدرِ أنبتنا أو إلى كلُّ واحدٍ من تلك الأزواجٍ وأيَّا ما كان فما فيه من معنى البعد للإبذان ببُعدِ منزلتِهِ في الفضلِ {الآية} أي آيةً عظيمةً دالَّةً على كمالِ قُدرةِ مُنبتها وغايةِ وفُورِ علمهِ وحكمتِه ونهايةِ سعَةِ رحمتِه موجبةً للإيمانِ وازعةً عن الكُفرِ {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} أي أكثر قومه صلى الله عليه وسلم {مُّؤْمِنِينَ} قيل أي في علم الله تعالى وقضائِه حيثُ علم أزلاً أنَّهم سيُصرفون فيما لا يزالُ اختيارُهم الذي عليه يدورُ أمرُ التَّكليفِ إلى جانب الشَّرِّ ولا يتدبَّرون في هذه الآياتِ العظامِ وقال سيبويِه كانَ صلةٌ والمعنى وما أكثرُهم مؤمنين وهو الأنسبُ بمقامِ بيانِ عُتوِّهم وغُلوِّهم في المكابرةِ والعنادِ مع تعاضد موجبات الإيمان من جهتِه تعالى وأما نسبةُ كفرِهم إلى علمهِ تعالى وقضائِه فرُبَّما يتُوهَّم منها كونُهم معذورينَ فيه بحسبِ الظَّاهرِ لأنَّ ما أُشير إليهِ من التَّحقيقِ ممَّا خفيَ على مَهَرةِ العُلماء المُتقنين كأنَّه قيل إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً باهرةً موجبةً للإيمانِ وما أكثرُهم مُؤمنين مع ذلكَ لغايةِ تمادِيهم في الكُفرِ والضلالة وانهاكهم في المعنى والجَهَالةِ ونسبةُ عدمِ الإيمانِ إلى أكثرِهم لأنَّ منهم مَن سُيؤمن(6/235)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} الغالبُ على كلِّ ما يريده من الأمور التي من جملتها الانتقام من هؤلاء {الرحيم} المبالغ الرحمة ولذلك يمهلهم ولا يؤاخذهم بغته بما احترؤا عليهِ من العظائمِ المُوجبةِ لفُنون العُقُوباتِ وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفهِ والعِدَةِ الخفيَّةِ بالانتقامِ من الكَفَرةِ ما لا يَخفْى(6/235)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
{وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من إعراضِهم عن كلِّ ما يأتيهم من الآيات التنَّزيليةِ وتكذيبِهم بها إثرَ بيانِ إعراضهم عمَّا يُشاهدونه من الآياتِ التَّكوينَّيةِ وإذ منصوب(6/235)
سورة الشعراء (11 13)
على المفعوليةِ بمضمرِ خوطبَ به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم أي وأذكرُ لأولئك المعرضين المكذِّبين وقت ندائه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام وذكِّرهم بما جَرى على قوم فرعونَ بسبب تكذيبِهم إيَّاه زجراً لهم عمَّا هُم عليهِ من التكذيب وتحذيراً من أنْ يحيقَ بهم مثلُ ما حاق بأضرابهم المكذِّبين الظَّالمين حتَّى يتَّضحَ لك أنَّهم لا يُؤمنون بما يأتيهم من الآيات لكنْ لا بقياس حالِ هؤلاء بحالِ أُولئك فقط بل بمشاهدةِ إصرارُهم على ما هم عليه بعد سماع الوحي النَّاطقِ بقصَّتِهم وعدم اتِّعاظِهم بذلك كما يُلوِّحُ به تكريرُ قوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ عقيب كلِّ قصَّةٍ وتوجيهُ الأمر بالذِّكرِ إلى الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مر سره مرارا {أَنِ ائت} بمعنى أي ائت على أنَّ أنْ مفسرةٌ أو بأن ائت على أنَّها مصدريةٌ حُذف منها الجارُّ {القوم الظالمين} أي بالكفر واالمعاصي واستبعاد بني إسرائيلَ وذبحِ أبنائِهم وليس هذا مطلعَ ما رود في حيِّزِ النَّداءِ وإنَّما هو ما فُصِّل في سورةِ طه من قوله تعالى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ إلى قوله لِنُرِيَكَ مِنْ آياتنا الكبرى وإيراد ما جرى في قصَّةٍ واحدةٍ من المقالاتِ بعباراتٍ شَتَّى وأساليبَ مختلفةٍ قد مرَّ تحقيقُه في أوائل سورةِ الأعرافِ عند قوله تعالى أَنظِرْنِى(6/236)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
{قَوْمِ فِرْعَونَ} بدلٌ من الأولِ أو عطفُ بيانٍ له جيء به للإيذانِ بأنَّهم عَلَمٌ في الظُّلم كأنَّ معنى القومِ الظَّالمينَ وترجمتَهُ قومُ فرعونَ والاقتصارُ على ذكرِ قومِه للإيذانِ بشهرةِ أنَّ نفسَه أَوَّلُ داخلٍ في الحُكم {أَلا يَتَّقُونَ} استئنافٌ جيء به إثرَ إرسالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إليهم للإنذارِ تعجيباً من غُلوِّهم في الظُّلم وإفراطِهم في العُدوان وقُرىء بتاء الخطابِ على طريقة الالتفاتِ المنبىءِ عن زيادة الغَضَبِ عليهم كأنَّ ذكرَ ظُلمِهم أدَّى إلى مشافهتِهم بذلك وهُم وإن كانُوا حينئذٍ غُيّباً لكنَّهم قد أُجروا مجرى الحاضرين في كلام المُرسل إليهم من حيثُ إنَّه مبلغه إليهم وإسماعُه مبتدأُ إسماعِهم مع ما فيه من مزيد الحثِّ على التقوى لمن تدبَّر وتأمَّل وقُرىء بكسرِ النُّونِ اكتفاءً به عن باء المتكلِّم وقد جُوِّزَ أنْ يكون بمعنى ألا ياناس اتقون نحو أن لا يسجدُوا(6/236)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
{قال} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ ما مضى كأ هـ قيل فماذا قال موسى ععليه السَّلامُ فقيل قال متضرِّعاً إلى الله عزَّ وجلَّ {رَبّ إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ} من أوَّلِ الأمرِ(6/236)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
{ويضيق صدري ولا ينطلق لساني} معطوفا على أخافُ {فَأَرْسِلْ} أي جبريلَ عليهِ السَّلامُ {إِلَىَّ هارون} ليكون معنى وأتعاضدُ به في تبليغِ الرِّسالة رتَّب عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من حَبسةِ اللِّسان بانقباضِ الرُّوحِ إلى باطنِ القلبِ عند ضيقِه بحيث لا ينطبق لأنَّها إذا اجتمعتْ تمسُّ الحاجةُ إلى معينٍ يُقوِّي قلبه وينوبُ منابَه إذا اعتراء حبسه حتى(6/236)
سورة الشعراء (14 18)
لا تختلَّ دعوتُه ولا تنقطعَ حجَّتُه وليس هذا من التَّعلل والتَّوقف في تلقِّي الأمرِ في شيءٍ وإنَّما هو استدعاءٌ لما يُعينه على الامتثالِ به وتمهيدُ عذرٍ فيه وقُرىء ويضيق ولا ينطق بالنَّصبِ عطفاً على يكذِّبون فيكونانِ من جملةً ما يَخافُ منه(6/237)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
{وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ} أي تبعةُ ذنبٍ فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه أو سمِّي باسمِه والمرادُ به قتلُ القِبْطيِّ وتسميتُه ذنباً بحسبِ زعمِهم كما ينبىءُ عنه قولُه لهم وهذا إشارةٌ إلى قصَّةٍ مبسوطةٍ في غيرِ موضعٍ {فَأَخَافُ} أي إنْ أتيتهم وحدي {أَن يَقْتُلُونِ} بمقابلتِه قبل أداءِ الرِّسالةِ كما ينبِغي وليس هذا أيضاً تعلُّلاً وإنما هو استدفاعٌ المبلية المتوقّعةِ قبل وقوعِها وقوله تعالى(6/237)
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
{قال كلا فاذهبا بآياتنا} حكايةٌ لإجابتِه تعالى إلى الطِّلبتينِ الدَّفعِ المفهومِ من الرَّدعِ عن الخوفِ وضمِّ أخيهِ المفهومِ من توجيهِ الخطابِ إليهما بطريقِ التَّغليبِ فإنه معطوف على مضمر ينبىءُ عنه الرَّدعُ كأنَّه قيل ارتدِع يا موسى عمَّا تظنُّ فاذهب أنت ومن استدعيته وفي قوله بآياتنا رمزٌ إلى أنَّها تدفع ما يخافه وقوله تعالى {إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} تعليلٌ للرَّدعِ عن الخوفِ ومزيد تسلية لهما بضمانِ كمال الحفظ والنصرة كقولِه تعالى إِنَّنِى مَعَكُمَا أسمع وأرى حيث كان الموعد بمحضرٍ من فرعونَ اعتبر ههنا في المعيَّةِ وقيل أجريا مجرى الجماعةِ ويأباهُ ما قبله وما بعده من ضمير التثنية أي سامعون ما يجري بينكما وبينه فنظهر كما عليه مثَّل حالَه تعالى بحالِ ذِي شَوكةٍ قد حضَر مجادلَة قومٍ يستمعُ ما يجري بينَهم ليمدَّ أولياءَهُ ويُظهرهم على أعدائِهم مبالغةً في الوعدِ بالإعانةِ أو استعير الاستماع الذي هو بمعنى الإصغاءِ للسَّمعِ الذي هو العلمُ بالحروفِ والأصواتِ وهو خبرٌ ثانٍ أو خبرُ وحدَهُ ومعكم ظرفُ لغوٍ والفاءُ في قوله تعالى(6/237)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلَها من الوعدِ الكريمِ وليس هَذا مجرَّدَ تأكيدٍ للأمرِ بالذِّهابِ لأنَّ معناهُ الوصولُ إلى المأتيِّ لا مجرَّدَ التَّوجهِ إليه كالذِّهابِ وإفراد الرَّسول إمَّا باعتبارِ رسالةِ كلَ منهُمَا أو لاتحاد مطلهما اولأنه مصدرٌ وُصفَ به وأنْ في قولِه تعالَى(6/237)
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل} مفسِّرةٌ لتضمن الإرسالِ المفهومِ من الرَّسولِ معنى القولِ ومعنى إرسالِهم تخليتُهم وشأنَهم ليذهبُوا معهما إلى الشَّامِ(6/237)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
{قَالَ} أي فرعونُ لموسى عليه السلام بعد ما أتياهُ وقالا له ما أمر به يُروى أنَّهما انطلقا إلى بابِ فرعونَ فلم يؤذن لهم سنةً حتَّى قال البَّوابُ إنَّ ههنا إنساناً يزعمُ أنَّه رسولُ ربِّ العالمين فقال ائذنْ له لعلَّنا نضحكُ فأدَّيا إليه الرِّسالةَ فعرف(6/237)
سورة الشعراء (19 22) مُوسى عليه السَّلامُ فقال عند ذلك {أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا} في حِجرِنا ومنازلِنا {وَلِيداً} أي طِفلاً عبر عنه بذلك لقُرب عهده بالولادة {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} قيل لبثَ فيهم ثلاثين سنةً ثم خرجَ إلى مدينَ وأقام بها عشرَ سنين ثمَّ عاد إليهم يدعُوهم إلى الله عزَّ وجلَّ ثلاثينَ سنة ثم بقي بعدَ الغرقِ خمسينَ سنة وقيل وكز القبطيَّ وهو ابنُ اثنتي عشرةَ سنة وفرَّ منهم على أثرِ ذلك والله أعلم(6/238)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التى فَعَلْتَ} يعني قتلَ القبطيِّ بعد ما عدَّد عليه نعمتَهُ من تربيته وتبليغِه مبلغَ الرِّجالِ وبَّخه بَما جَرَى عليه من قتلِ خبَّازِه وعظَّم ذلك وفظَّعه وقُرىء فِعلتك بكسر الفاء لأنَّها كانتْ نَوْعاً من القتل {وَأَنتَ مِنَ الكافرين} أي بنعمتي حيثُ عمدتَ إلى قتلِ رجلٍ من خواصّي أو أنت حينئذٍ ممَّن تكفِّرهم الآنَ وقد افترى عليه عليه الصلاة والسلام أو جهلَ أمره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حيثُ كان يعايشهم بالتقنية وإلا فأينَ هُو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من مشاركتِهم في الدين فالجملة حيئذ حال من إحدى التأمين ويجوزُ أنْ يكونَ حُكماً مبتدأ عليه أنه من الكافرينَ بإلهيته أو ممَّن يكفرُون في دينِهم حيثُ كانتْ لهم آلهةٌ يعبدونها أو من الكافرين بالنِّعم المعتادين لغمطها ومنِ اعتادَ ذلك لا يكونُ مثلُ هذه الجنايةِ بدعاً منْهُ(6/238)
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
{قَالَ} مجُيباً له مصدِّقاً له في القتلِ ومكذِّباً فيما نسبه إليه من الكفر {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} أي من الجاهلينَ وقد قُرىء كذلك لا من الكافرينَ كما زعمت افتراءً أي من الفاعلين فعل الجهلة والسُّفهاءِ أو من المخطئين لآنه لم يعتمد قتلَه بل أرادَ تأديبَه أو الذَّاهبين عمَّا يُؤدِّي إليه الوكز أو الناسين كقوله تعالى {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى(6/238)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
! فَفَرَرْتُ مِنكُمْ إلى ربيِّ {لما خفتكم} أن تصيبونني بمضرة وتؤاخذوني بماء لا استحقه بجنابتي من العقابِ {فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً} أي حكمةً أو النبوة {وجعلني من المرسلين} ردأ ولا بذلك ما وبَّخه به قدحاً في نبُّوته ثم كرَّ على ما عده عليه من النِّعمةِ ولم يصرِّحْ بردِّه حيثُ كان صدقاً غيرَ قادحٍ في دعواه بل نبَّه على أنَّ ذلك كان في الحقيقة نقمة فقال(6/238)
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أنْ عبَّدتَ بني إسرائيلَ} أي تلك التربيةُ نعمةٌ تمنُّ بها عليَّ ظاهراً وهي في الحقيقةِ تعبيدُك بني إسرائيلَ وقصدُك إيَّاهم بذبحِ أبنائِهم فإنَّه السببُ في وقوعي عندكَ وحصولي في تربيتِك وقيل إنه مقدَّرٌ بهمزةِ الإنكار أي أوَ تلك نعمة تمنُّها عليَّ وهي أنْ عبَّدتَ بني إسرائيلَ ومحلُّ أنْ عبَّدتَ الرُّفعُ على أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ أو بدلٌ من نعمةٌ أو الجرُّ بإضمارِ الباءِ أو النَّصبُ بحذفهِا وقيل تلك إشارةٌ إلى خصلةٍ شنعاءَ مبهمةٍ وأنْ عبَّدتَ عطفُ بيانٍ لها والمعنى تعبيدُك بني إسرائيلَ نعمةٌ تمنُّها عليَّ وتوحيدُ الخطابِ في تمنُّها وجمعه فيما قبلَه لأن المنة منه خاصَّة والخوفُ والفرارُ منه ومن ملئه(6/238)
سورة الشعراء (23 28)(6/239)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)
{قَالَ فِرْعَوْنُ} لمَّا سمعَ منه عليه الصلاة والسلام تلك المقالةَ المتينةَ وشاهد تصلُّبهَ في أمرِه وعدمَ تأثُّرِه بما قدَّمه من الإبراقِ والإرعاد شرعَ في الاعتراض على دعواهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فبدأ بالاستفسارِ عن المُرْسِل فقال {وَمَا رَبُّ العالمين} حكايةٌ لما وقع في عباراته عليه الصلاة والسلام أي أيُّ شيءٍ رب العالمينَ الذي أدَّعيتَ أنَّك رسولُه منكراً لأنْ يكون للعالمين ربٌّ سواه حسبما يُعرب عنه قولُه أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى وقولُه مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى وينطق به وعيدُه عند تمام أجوبتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ(6/239)
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
{قال} موسى عليه السلام مجيبا له {رب السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بتعيين ما أراه بالعالمين وتفصيله لزيادةِ التَّحقيقِ والتَّقريرِ وحسم مادَّةِ تزويرِ اللَّعينِ وتشكيكهِ بحملِ العالمينَ على ما تحت مملكتِه {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أي إن كنتم موقنين الأشياء محقِّقين لها علمتُم ذلك أو إنْ كنتُم موقنينَ بشيءٍ من الأشياءِ فهذا أولى بالإيقانِ لظهورِه وإنارةِ دليله(6/239)
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)
{قَالَ} أي فرعونُ عند سماع جوابِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خوفاً من تأثيرِه في قلوبِ قومِه وإذعانِهم له {لِمَنْ حَوْلَهُ} من أشراف قومه قال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا خمسائة عليهم الأساورُ وكانت للملوك خاصَّةً {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} مرائياً لهمَّ أنَّ ما سمعُوه من جوابِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع كونِه ممَّا لا يليق بأن يعتدبه أمر حقيق بأنْ يتُعجَّب منه كأنَّه قال ألا تستمعُون ما يقولُه فاستمعُوه وتعجَّبوا منه حيثُ يدَّعي خلافَ أمرٍ محقَّقٍ لا اشتباه فيه يُريد به ربوبيةَ نفسِه(6/239)
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
{قال} عليه الصلاة والسلام تصريحاً بما كان مُندرجاً تحت جوابيِه السَّابقينِ {رَبُّكُمْ ورب آبائكم الأولين} وحطّاً له من ادِّعاءِ الرُّبوبيَّةِ إلى مرتبةِ المربُوبَّيةِ(6/239)
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
{قَالَ} أي فرعونُ لمَّا واجهه مُوسى عليه السَّلامُ بما ذُكر غاظه ذلك وخافَ من تأثُّر قومِه منه فأراهُم أنَّ ما قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مما لا يصدُر عن العُقلاء صدَّاً لهمُ عن قبوله فقال مؤكدا لمفالته الشنعاء بحر في التَّأكيدِ {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ليفتنهم بذلَك ويصرفهم عن قبولِ الحقِّ وسَّماهُ رسولاً بطريقِ الإستهزاء وأضافه إلى محاطبية ترفُّعاً من أنْ يكونَ مُرْسَلاً إلى نفسِه(6/239)
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
{قال} عليه الصلاة والسلام {رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا} قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تكميلاً لجوابه الأوَّلِ وتفسيرا له(6/239)
سورة الشعراء (29 30)
وتنبيهاً على جهلِهم وعدمِ فهمِهم لمعنى مقالتِه فإنَّ بيانَ ربوبيَّتهِ تعالى للسَّموات والأرضِ وما بينَهما وإنْ كان متضمِّناً لبيانِ ربوبيَّتِه تعالى للخافقينِ وما بينَهُما لكن لمَّا لم يكُن فيه تصريحٌ بإستناد حركات السَّمواتِ وما فيها وتغيُّراتِ أحوالِها وأوضاعِها وكون الأرض تارةً مظلمةً وأخرى منورةً إلى الله تعالى أرشدَهُم إلى طريقِ معرفةِ ربوبيته تعالى لمَّا ذكر فإن ذكر المشرقِ والمغربِ منبىءٌ عن شروقِ الشَّمسِ وغروبِها المنُوطينَ بحركاتِ السَّمواتِ وما فيها على نمطٍ بديعٍ بترتيب عليه هذه الأوضاع الرَّصينةُ وكلُّ ذلك أمورٌ حادثةٌ مفتقرةٌ إلى محدثٍ قادرٍ عليمٍ حكيمٍ لا كذواتِ السَّمواتِ والأرضِ التي ربما يتوهَّم جهلةُ المُتوهمينَ باستمرارِها استغناءها عن الموجد المُتصرِّفِ {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إنْ كنتُم تعقلون شَيْئاً من الأشياءِ أو إنْ كنتُم من أهلِ العقلِ علمتُم أنَّ الأمرَ كمَا قتله وفيه إيذانٌ بغايةِ وضوحِ الأمرِ بحيثُ لا يشتبه على مَن له عقلٌ في الجُملةِ وتلويحٌ بأنَّهم بمعزلٍ من دائرةِ العقلِ وأنَّهم المتَّصفون بما رَمَوه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ به من الجنونِ(6/240)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
{قَالَ} لما سمع اللَّعينُ منه عليه الصلاة والسلام تلك المقالاتِ المبنيةِ على أساسِ الحِكَم البالغةِ وشاهدَ شدَّةَ حزمِه وقوَّةَ عزمِه على تمشية أمرِه وأنَّه ممَّن لا يجارى في حلبة المجاورة ضرب صفحا عن عن المُقاولةِ بالإنصافِ ونَأَى بجانبه إلى عُدْوةِ الجورِ والاعتسافِ فقال مُظهراً لما كانَ يُضمره عند السُّؤال والجوابِ {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} لم يقتنْع منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتركِ دعَوى الرِّسالةِ وعدمِ التَّعرض له حتَّى كلَّفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يتَّخذَه إلهاً لغاية عتوه وغلوه فيما فيه من دَعْوى الأُلوهيَّةِ وهذا صريحٌ في أنَّ تعجُّبَه وتعجيبَه من الجوابِ الأوَّلِ ونسبَتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى الجنُونِ في الجوابِ الثَّاني كان لنسبته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الرُّبوبَّيةَ إلى غيرِه وأما ما قيلَ مِنْ أنَّ سؤالَه كان عن حقيقةِ المُرْسِل وتعجُّبه من جوابِه كان لعدمِ مُطابقتِه له لكونِه بذكر أحوالَه فلا يُساعده النظمُ الكريمُ ولا حال فرعونَ ولا مقالُه واللامُ في المسجونينَ للعهدِ أي لأجعلنَّك ممَّن عرفتَ أحوالَهم في سجوني حيثُ كان يطرحُهم في هُوَّةٍ عميقة حتَّى يموتُوا ولذلك لم يقُل لأسجنَّنك(6/240)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ} أي أتفعلُ بي ذلك ولو جئتُك بشيء مبينٍ أي موضِّحٍ لصدقِ دعو اى يريد به المعجزةَ فإنَّها جامعةٌ بين الدِّلالةِ على وجودِ الصَّانعِ وحكمتِه وبين الدِّلالةِ على صدقِ دَعْوى مَن ظهرتْ على يدِه والتغيير عنها بالشَّيءِ للتَّهويلِ قالوا الواوُ في أولو جئتُك للحالِ دخلتْ عليها همزةُ الاستفهامِ أي جائياً بشيء مبينٍ وقد سلفَ منَّا مرار أنَّها للعطفِ وأنَّ كلمةَ لَوْ ليستْ لانتفاءِ الشيءِ في الزمان الماضي لانتفاء غيرِه فيه فلا يلاحظ لها جوابٌ قد حُذف تعويلاً على دِلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصدِ إلى بيان الإعرابِ على القواعد الصناعيةِ بل هي لبيان تحققِ ما يفيده الكلامُ السابق من حكم الموجَبِ أو المنفي على كل حالٍ مفروض من الأحوالِ المقارنةِ له على الإجمالي بإدخالها على أبعدها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ(6/240)
سورة الشعراء (31 35)
بثبوته أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤُه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشيءَ متى تحقق مع المنافي القويَّ فلأنْ يتحقَّقَ مع غيره أولى لذلك لا يُذكرُ معه شيءٌ من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر العاطف للجُملة على نظيرتها المقابلةِ لها الشاءلة لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها عند تعدُّدها ليظهر ما ذكر من تحقُّق الحكم على جميع الأحوال فإنَّك إذا قلتَ فلانٌ جوادٌ يُعطي ولو كان فقيرا تريد بيان تحقق الإعطاء منه على كلِّ حالٍ من أحوالِه المفروضةِ فتعلق الحكم بأبعدِها منه ليظهر بتحقُّقهِ معه تحقُّقه معَ ما عداه من الأحوال التي لا مُنافاة بينها وبينَ الحكم بطريقِ الأولويَّةِ المُصحِّحةِ للاكتفاء بذكرِ العاطفِ عن تفصيلِها كأنَّك قلتَ فلانٌ جوادٌ يُعطي لو لم يكنْ فَقيراً ولو كان فَقيراً أي يُعطى حال كونه غنيا وحال كونِه فقيراً فالحالُ في الحقيقة كلنا الجملتين المتعاطفين لا المذكورةُ على أنَّ الواوُ للحالِ وتصديرُ المجيءِ بما ذُكر من كلمة لَوْ دون أنْ ليس لبيانِ استبعادُه في نفسه بل بالنِّسبة إلى فرعونَ والمعنى أتفعلُ بي ذلك حال عدم مجييء بسيء مبين وحال مجيىء به(6/241)
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
{قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي فيما يدل عليه كلامُك من أنكَّ تأتي بشيءٍ مبينٍ موضِّحٍ لصدقِ دَعْواك أو في دَعْوى الرِّسالة وجوابُ الشَّرطِ المحذوفُ لدلالةِ ما قبله عليه(6/241)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)
{فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} أي ظاهرٌ تثعبانيته لا أنَّه شيءٌ يُشبهه واشتقاق الثعبان من ثعبت الماءَ فانثعبَ أي فجَّرتُه فانفجرَ وقد مرَّ بيانُ كيفيةِ الحالِ في سوُرة الأعرافِ وسورة طه(6/241)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
{ونزع يده} من جيبه {فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين} قيل لَّما رأى فرعون الآيةَ الأُولى وقال هل لكَ غيرُها فأخرجَ يدَهُ فقال ما هذه قال فرعونُ يدُك فما فيها فأدخلها في إبطهِ ثمَّ نزَعَها ولها شعاعٌ يكادُ يغشي الأبصارَ ويسدُّ الأفقَ(6/241)
قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
{قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ} أي مستقرِّين حولَه فهو ظرفٌ وقعَ موقعَ الحالِ {إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ} فائقٌ في فنِّ السِّحرِ(6/241)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)
{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم} قَسْراً {مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تأمرون} بهره سلطان لمعجزة وحيرَّه حتَّى حطَّه عن ذروةِ ادَّعاءِ الرُّبوبيةِ إلى حضيضِ الخُضوعِ لعبيدِه في زعمه والإمتثال بأمرهم وإلى مقامِ مؤامرتِهم ومشاورتِهم بعد ما كانَ مستقلاً في الرَّأيِ والتَّدبيرِ وأظهر استشعارُ الخوفِ من استيلائه على مُلكه ونسبةُ الإخراج والأرض إليهم لتنفيرهم عن موسى عليه السلام(6/241)
سورة الشعراء (36 44)(6/242)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)
{قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أخِّر أمرهما وقيل احبسهُما {وابعث فِى المدائن حاشرين} أي شُرَطاً يحشرُون السَّحرةَ(6/242)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
{يَأْتُوكَ} أي الحَاشرون {بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} فائقٍ في فنِّ السِّحرِ وقُرىء بكلِّ ساحرٍ(6/242)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
{فَجُمِعَ السحرة لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} هو ما عيَّنه مُوسى عليه السَّلامُ بقوله مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى(6/242)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
{وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ} قيل لهم ذلك استبطاءً لهم في الاجتماعِ وحثّاً لهم على المُبَادرة إليه(6/242)
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين} أي نتبعهم في دينِهم إنْ كانوا الغالبين لا مُوسى عليه السَّلامُ وليس مرادُهم بذلك أنْ يتَّبعوا دينَهم حقيقةً وإنَّما هو أنْ لا يتَّبعوا مُوسى عليه السَّلامُ لكنَّهم ساقُوا كلامَهم مساقَ الكنايةِ حَمْلاً لهم على الاهتمامِ والجِدَّ في المُغالبة(6/242)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)
{فَلَمَّا جَاء السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ إئِنَّ لَنَا لاجْرًا} أي أجراً عظيماً {إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} لا مُوسى عليه السَّلامُ(6/242)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
{قَالَ نَعَمْ} لكُم ذلك {وَإِنَّكُمْ} مع ذلك {إِذاً لَّمِنَ المقربين} عندي قيل قال لهم تكونُون أولَ من يدخلُ عليَّ وآخرَ مَن يخرجُ عنِّي وقُرىء نعِم بكسرِ العين وهُما لغُتانِ(6/242)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
{قَالَ لَهُمْ موسى} أي بعد ما قالَ له السَّحرةُ إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أنْ نكون أول من ألقى {أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} ولم يُرد به الأمرَ بالسِّحرِ والتَّمويهَ بل الإذنَ في تقديمِ ما هُم فاعلُوه البتةَ توسُّلاً به إلى إظهارِ الحقِّ وإبطالِ الباطلِ(6/242)
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
{فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ} أي وقد قالُوا عند الإلفاء {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} قالُوا ذلك لفرطِ اعتقادِهم في أنفسِهم وإتيانِهم بأقصى ما يُمكن أنْ يُؤتى به من السِّحرِ(6/242)
سورة الشعراء (45 51)(6/243)
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)
{فألقى موسى عصاه فَإِذَا هِىَ تلقَف} أي تبتلعُ بسرعة وقرىء تلقف بحذق إحدى التأمين من تَتَلقَّفُ {مَا يَأْفِكُونَ} أي ما يقلبونَهُ من وجهه وصورته بتمويههم وتزويرهم فيخيِّلُون حبالَهم وعصيَّهم أنَّها حيَّاتٌ تسعى أو إفكهم تسميةً للمأفوكِ به مبالغةً(6/243)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)
{فَأُلْقِىَ السحرة ساجدين} أي إثر ما شتهدوا ذلك من غيرِ تلعثمٍ وترددٍ غير متمالكينَ كأنَّ مُلقياً ألقاهُم لعلمِهم بأنَّ مثلَ ذلك خارجٌ عن حدودِ السِّحرِ وأنه أمرٌ إلهيٌّ قد ظهر على يدهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لتصديقه وفيه دليلٌ على أنَّ قصارَى ما ينتهِي إليه هممُ السَّحرةِ هو التَّمويهُ والتزوير تخيبل شيءٍ لا حقيقةَ له(6/243)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)
{قالوا آمنا بِرَبّ العالمين} بدلُ اشتمالٍ من أُلقي أو حالٌ بإضمار قد وقوله تعالى(6/243)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
{ربَّ موسى وهارون} بدلٌ من ربِّ العالمين للتَّوضيحِ ودفعِ توهم إرادةِ فرعونَ حيثُ كان قومُه الجَهَلةُ يسمونه بذلك والإشعار بأنَّ الموجبَ لإيمانِهم به تعالى ما أجراهُ على أيديهما من المُعجزةِ القاهرةِ(6/243)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
{قال} أي فرعون للسحرة {آمنتم له قبل أن آذن لَكُمْ} أي بغيرِ أنْ آذان لكم كما في قوله تعالى لنقد البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى لا أن الإذنَ منه ممكنٌ أو متوقَّعٌ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذى علمكم السحر} فتواطأتم على ما فعلتم أو علَّمكم شيئا دون شيء ولذلك غلبَكم أرادَ بذلك التَّلبيس على قومِه كيلا يعتقدُوا أنَّهم آمنُوا عن بصيرةٍ وظهورِ حقَ وقُرىء أأمنتُم بهمزتينِ {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي وبالَ ما فعلتُم وقوله {لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} بيانٌ لما أو عدهم به(6/243)
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)
{قَالُواْ} أي السَّحرةُ {لاَ ضَيْرَ} لا ضررَ فيه علينا وقولُه تعالى {إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} تعليلٌ لعدم الضَّيرِ أي لا ضيرَ في ذلك بل لنا فيه نفعٌ عظيمٌ لما يحصلُ لنا في الصَّبرِ عليه لوجهِ الله تعالى من تكفيرِ الخَطَايا والثَّوابِ العظيم أو لا ضيرَ علينا فيما تتوعَّدنا به من القتلِ أنه لا بُدَّ لنا من الانقلابِ إلى رَّبنا بسببِ من أسبابِ الموتِ والقتلُ أهونُها وأرجاها وقولُه تعالى(6/243)
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
{إنا نطمع أن يغفر لَنَا رَبُّنَا خطايانا أَن كُنَّا} أي لأن كنا {أَوَّلُ المؤمنين} أي من أتباعِ فرعونَ أو من أهل المشهد تعليل(6/243)
سورة الشعراء (52 58)
ثانٍ لنفي الضَّيرِ أي لا ضيرَ علينا في قتلِك إنَّا نطمعُ أنْ يغفر لنا ربنا خطايانا لكونِنا أوَّلَ المُؤمنين وقُرىء إِنْ كُنَّا على الشَّرطِ لهضمِ النَّفسِ وعدم الثَّقةِ بالخاتمة أو على طريقةِ قول المُدلِّ بأمرِه كقول العاملِ لمستأجرٍ أخَّر أجرتَه إنْ كنتُ عمِلتُ لك فوفِّني حقِّي(6/244)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
{وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى} وذلك بعد بضعِ سنينَ أقامَ بين أظهُرِهم يدعُوهم إلى الحقِّ ويُظهر لهم الآياتِ فلم يزيدُوا إلاَّ عُتُوَّاً وعناداً حسبما فُصِّل في سورة الاعراف بقوله تعالى وَلَقَدْ أخذنا آل فِرْعَوْنَ بالسنين الآيات وقرىء بكسر النون ووصل الألف من سرى وقرىء أنْ سِرْ من السير {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} تعليلٌ للأمرِ بالإسراءِ أي يتبعكُم فرعونُ وجنودُه مصبحينَ فأسرِ بمَن معك حتَّى لا يُدركوكم قبل الوصولِ إلى البحرِ فيدخلُوا مداخلَكم فأُطبقَه عليهم فأُغرقَهم(6/244)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)
{فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ} حين أُخبر بمسيرهم {فِى المدائن حاشرين} جامعينَ للعساكرِ ليتبعُوهم(6/244)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
{إِنَّ هَؤُلآء} يريدُ بني إسرائيلَ {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} استقلَّهم وهم ستمائة ألفٍ وسبعونَ ألفاً بالنسبةِ إلى جُنوده إذروي أنَّه أرسل في أثرِهم ألف ألف وخمسائة مَلكٍ مُسوَّرٍ مع كل مَلِكٍ ألفٌ وخرجَ فرعونُ في جمعٍ عظيم وكانت مقدِّمتُه سبعَمائة ألفِ رجلٍ على حصان وعلى رأسِه بيضةٌ وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما خرجَ فرعونُ في ألفِ ألفِ حصانٍ سوى الإناثِ(6/244)
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)
{وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} أي فاعلون ما يغيظُنا(6/244)
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذرون} يريدُ أنَّهم لقلَّتهم لا يُبالى بهم ولا يتوقَّع غلبتَهم وعلوَّهم ولكنَّهم يفعلون أفعالاً تغيظا وتضيق صدورَنا ونحن قومٌ عادتا التَّيقُّظُ والحذرُ واستعمالُ الحزمِ في الأمورِ فإذا خرجَ علينا خارج سارعنا إلى إطفاء نائرة فسادِه وهذه معاذيرُ اعتذر بها إلى أهلِ المدائن لئلاَّ يُظنُّ به ما يكسر من قهرهِ وسلطانه وقُرىء حَذِرون فالأوَّلُ دالٌّ على التَّجدُّدِ والثَّاني على الثَّباتِ وقيل الحاذرُ المؤدِّي في السلام وقُرىء حادِرون بالدَّالِ المُهملة أي أقوياءُ وأشدَّاءُ وقيل مدجَّجون في السِّلاحِ قد كسبهم ذلك حدارةً في أجسامِهم(6/244)
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57)
{فأخرجناهم} بأن خقلنا فيهم داعيةَ الخروجِ بهذا السبب فحملتهم عليه {مّن جنات وَعُيُونٍ}(6/244)
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
{وكنوز ومقام كريم {
سورة الشعراء (59 65)
كانت لهم جملة ذلك {كذلك}(6/244)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
{كذلك} إمَّا مصدرٌ تشبيهيٌّ لأخرجنا أي مثلَ ذلك لإخراج العجيبِ أخرجناهُم أو صفة لمقام كريم أي من مقامٍ كريمٍ كائنٍ كذلك أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي الأمرُ كذلك {وأورثناها بني إسرائيل} أي ملَّكناها إيَّاهم على طريقةِ تمليكِ مالِ المورَّثِ للوارثِ كأنَّهم ملكُوها من حينِ خروجِ أربابِها منها قبل أنْ يقبضُوها ويتسلَّموها(6/245)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
{فَأَتْبَعُوهُم} أي فلحقُوهم وقُرىء فاتَّبعوهم {مُشْرِقِينَ} داخلينَ في وقتِ شُروق الشَّمسِ أي طلوعها(6/245)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
{فلما تراءى الجمعان} تقارَبا بحيثُ رأى كل واحد منهما الآخرون وقُرىء تَراءتِ الفئتانِ {قَالَ أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} جاءوا بالجملةِ الاسميةِ مؤكَّدة بحر في التَّأكيدِ للدِّلالةِ على تحقُّقِ الإدراك واللحاقِ وتنجُّزهما وقُرىء لمدَّركُون بتشديد الدَّالِ من أدرك الشَّيءُ إذا تتابعَ ففنيَ أي لمتتابعون في الهلاكِ على أيديهم(6/245)
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
{قَالَ كَلاَّ} ارتدِعُوا عن ذلك فإنَّهم لا يُدركونكُم {إِنَّ مَعِىَ رَبّى} بالنَّصرةِ والهدايةِ {سَيَهْدِينِ} البتةَ إلى طريق النَّجاةِ منُهم بالكلَّية رُوي أَنَّ يُوشعِ عليه السَّلامُ قال يا كليَم الله أين أُمرتَ فقد غشِيَنا فرعونُ والبحرُ أمامَنا قال عليه السَّلامُ ههُنا فخاضَ يوشعُ عليه السَّلامُ الماءوضرب مُوسى عليه السَّلامُ بعصاهُ البحرَ فكانَ ما كانَ ورُوي أنَّ مؤمناً من آل فرعونَ كان بين يدي موسى عليه السلام فقال أينَ أُمرت فهذا البحرُ أمامَك وقد غشيك آلُ فرعونَ قال عليه السَّلامُ أُمرتُ بالبحر ولعلي أُومر بما أصنعُ فأمر بما أُمر بهِ وذلك قولُه تعالى(6/245)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
{فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضرِبْ بّعَصَاكَ البحر} الفلزم أو النِّيلَ {فانفلق} الفاء فصيحةٌ أي فضربَ فانفلق فصارَ اثني عشر فِرقاً بعددِ الأسباطِ بينهنّ مسالكُ {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} حاصلٍ بالانفلاق {كالطود العظيم} كالجبلِ المنيف الثابت في مقرِّه فدخلُوا في شعابِها كلُّ سِبْطٍ في شعبٍ منها(6/245)
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
{وَأَزْلَفْنَا} أي قرَّبنا {ثَمَّ الاخرين} أي فرعونَ وقومَه حتَّى دخلُوا على أثرِهم مداخلَهم(6/245)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)
{وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ} بحفظِ البحرِ على تلك الهيئةِ إلى أنْ عبروا إلى البر(6/245)
سورة الشعراء (66 68)(6/246)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
(ثم أغرقنا الآخرين) بإطبافه عليهم(6/246)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في جميعِ ما فُصِّل ممَّا صدرَ عن مُوسى عليه السَّلامُ وظهر على يديهِ من المعجزاتِ القاهرةِ وممَّا فعلَ فرعونُ وقومُه من الأقوالِ والأفعالِ وما فُعل بهمْ منَ العذابِ والنَّكالِ وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد لتهويل أمرِ المُشار إليهِ وتفظيعِه كتنكير الآيةِ في قوله تعالى {لآيَةً} أي أيّة آيةٍ أو أيةً عظيمة لا تكادُ تَوصف موجبة لأنْ يعتبرَ بها المعتبرون ويقيسُوا شأنَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بشأنِ مُوسى عليه السَّلامُ وحال أنفسهم بحال أولئك المُهَلكين ويجتنبُوا تعاطيَ ما كانُوا يتعاطَونه من الكفرِ والمَعَاصي ومخالفةِ الرَّسُولِ ويُؤمنوا بالله تعالى ويُطيعوا رسولَه كيلا يحِل بهم مثلُ ما حلَّ بأولئك أو إنَّ فيما فُصِّل من القصَّةِ من حيثُ حكايتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاها على ما هي عليه من غير أن يسمعها من أحد لآيَةً عظيمة دالة على أن ذلك بطريقِ الوحيِ الصَّادقِ موجبةً للإيمانِ بالله تعالى وَحْدَهُ وطاعةِ رسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} أي أكثرُ هؤلاءِ الذينَ سمعُوا قصَّتهم منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {مُّؤْمِنِينَ} لا بأنْ يقيسُوا شأنَه بشأن مُوسى عليهما السَّلامُ وحالَ أنفسِهم بحال أولئك المكذِّبين المهلكينَ ولا بأنْ يتدبَّروا في حكايتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لقصتهم من غيرِ أن يسمعها من أحد مع كونِ كلَ من الطَّريقينِ مَّما يُؤدِّي إلى الإيمان قطعاً ومعنى ما كان أكثرهم مؤمنين وما أكثرُهم مؤمنين على أنَّ كانَ زائدة كما هُو رأيُ سيبويهِ فيكون كقولِه تعالى وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وهو إخبارٌ منه تعالى بما سيكون من المشركين بعد ما سمعُوا الآياتِ النَّاطقةَ بالقصَّة تقريراً لما مرَّ من قوله تعالى وَمَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ الخ وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدلالة على استقرارهم على عدمِ الإيمانِ واستمرارهم عليه ويجوزُ أن يجعل كان كان بمعنى صَار كما فعل ذلك في قولِه تعالَى وَكَانَ مِنَ الكافرين فالمَعْنى وما صار أكثرُهم مؤمنين مع ما سمعُوا من الآية العظيمة الموجبة له بما ذُكر من الطرفين فيكون الإخبارُ بعدم الصَّيرورةِ قبل الحدوث للدِّلالةِ على كمالِ تحقُّقهِ وتقرّره كقولِه تعالى أتى أَمْرُ الله الآيةَ(6/246)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} الغالبُ على كلِّ ما يريده من الأمور التي من جملتها الانتقام من المكذِّبين {الرحيم} المبالِغُ في الرحمة ولذلك بمهلهم ولا يجعل عقوبتَهم بعدم إيمانهم بعد مُشاهدة هذه الآية العظيمة بطريقِ الوحيِ مع كمال استحقاقِهم لذلك هذا هو الذي يقتضيهِ جزالةُ النَّظمِ الكريمِ من مطلعِ السُّورةِ الكريمةِ إلى آخر القِصص السبع بل إلى آخرِ السورة الكريمة اقتضاء بيِّناً لا ريبَ فيه وأما ما قيل من أنَّ ضميرَ أكثرُهم لأهل عصرِ فرعونَ من القبطِ وغيرِهم وأنّ المعنى وما كان أكثرُ أهل مصرَ مؤمنين حيثُ لم يؤمن منهم إلا آسيةُ وحِزقيلُ ومريمُ ابنةُ يامُوشاً التي(6/246)
سورة الشعراء (69 72)
دلَّتْ على تابوتِ يوسفَ عليه السَّلامُ وبنُو إسرائيلَ بعد ما نجَوا سألُوا بقرةً يعبدونَها واتَّخذوا العجلَ وقالُوا لن نؤمنَ لك حتى نرى الله جهرة فبمزل من التَّحقيقِ كيف لا ومساقُ كل قصَّةٍ من القصص الواردةِ في السُّورة الكريمة سوى قصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ إنَّما هو لبيان حال طائفة معيَّنةٍ قد عتَوا عن أمر ربَّهم وعصَوا رسلَه عليهم الصلاة والسلام كما بفصح عنه تصدير القصصِ بتكذيبهم المرسلينَ بعد ما شاهدُوا بأيديهم من الآياتِ العظامِ ما يُوجب عليهم الإيمان ويزجرُهم عن الكفرِ والعصيانِ وأصرُّوا على ما هم عليه من التَّكذيب فعاقبهم الله تعالى لذلك بالعُقوبة الدُّنيويَّةِ وقطع دابَرهم بالكُليَّة فكيف يُمكن أن يخبرَ عنهم بعدم إيمان أكثرهم لا سيما بعد الإخبار بإهلاكهم وعدّ المؤمنين من جُملتهم أولاً وإخراجهم منها آخِراً مع عدم مشاركتِهم لهم في شيء ما حكي عنهم من الجنايات أصلاً مَّما يُوجب تنزيهُ التنزيلِ عن أمثالِه فتدبَّر(6/247)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)
{واتل عَلَيْهِمْ} عطفٌ على المضمرِ المقدَّر عاملاً لإذ نادى الخ أي واتل على المشركينَ {نَبَأَ إبراهيم} أي خبَره العظيمَ الشَّأنِ حسبما أُوحيَ إليك لتقف على ما ذكر م عدمِ إيمانِهم بما يأتيهم من الآيات بأحد الطَّريقين(6/247)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
{إِذْ قَالَ} منصوب إما على الظَّرفيةِ للنبأ أي نبأه وقت قوله {لاِبِيهِ وقومه} أو على المفعولية لاتلُ على أنَّه بدلٌ من نبأ أي واتلُ عليهم وقت قوله لهم {مَا تَعْبُدُونَ} على أنَّ المتلو ما قاله لهم في ذلك الوقتِ سألهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن ذلك ليبني على جوابِهم أنَّ ما يعبدونه بمعزل من استحقاقِ العبادةِ بالكُلِّية(6/247)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
{قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين} لم يقتصرُوا على الجواب الكافي بأنْ يقولُوا أصناماً كما في قوله تعالى ويسألونك مَاذا يُنْفِقُونَ قُل العفو وقوله تعالى مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق ونظائرهما بل أطنبُوا فيه بإظهار الفعلِ وعطفُ دوامِ عكوفهم على أصنامِهم قصداً إلى إبرازِ ما في نفوسِهم الخبيثةِ من الابتهاجِ والافتخارِ بذلك والمرادُ بالظلول الدَّوامُ وقيل كانُوا يعبدونَها بالنَّهارِ دُون اللَّيلِ وصلة العكوف كلمةُ عَلَى وإيرادُ اللاَّمِ لإفادةِ معنى زائدٍ كأنَّهم قالوا فنظلُّ لأجلِها مُقبلين على عبادتها أو مستدبرين حولَها وهذا أيضاً من جملة إطباعهم(6/247)
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)
{قال} استئناف مبني على سؤالِ نشأ من تفصيلِ جوابهم {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} أي هل يسمعُون دعاءَكم على حذف المضافِ أو يسمعونكم تدعُون كقولك سمعتُ زَيْداً يقول كيتَ وكيتَ فخذف لدلالةِ قوله تعالى {إِذْ تَدْعُونَ} عليه وقُرىء هل يُسمعونكم من الإسماع أي هل يُسمعونكم شَيْئاً من الأشياءِ أو الجواب عن دعائكم وهل يقدِرون على ذلك وصيغة المضارع مع إذ على حكايةِ الحالِ(6/247)
سورة الشعراء (73 78)
الماضيةِ لاستحضار صُورتِها كأنَّه قيل لهم استحضُروا الأحوالَ الماضيةَ التي كنتُم تدعونها فيها وأجيبُوا هل سمعُوا أو سنعوا قط(6/248)
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
{أَوْ يَنفَعُونَكُمْ} بسبب عبادتِكم لها {أَوْ يَضُرُّونَ} أي يضرونكم بترككم لعبادتها إذا لابد للعبادة لا سيَّما عند كونِها على ما وصفتُم من المبالغة فيها من جلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ(6/248)
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
{قالُوا بل وجدنا آباءَنا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} اعترفُوا بأنَّها بمعزلٍ مَّما ذكر من السَّمعِ والمنفعةِ والمضرَّةِ بالمرَّة واضطرُّوا إلى إظهار أنْ لا سندَ لهم سوى التَّقليد أي ما علمنا أو ما رأينا منهم ما ذُكِرَ منَ الأمورِ بل وجدنا آباءَنا كذلك يفعلُون أي مثلَ عبادِتنا يعبدون فاقتدينا بهم(6/248)
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75)
{قال أفرأيتم مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} أي أنظرتُم فأبصرتُم أو أتأمَّلتمُ فعلمتم ما كنتُم تعبدونَهُ(6/248)
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)
{أنتم وآباؤكم الأقدمون} حقَّ الإبصارِ أو حقَّ العلمِ وقوله(6/248)
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى} بيانٌ لحال ما يعبدونَه بعد التَّنبيهِ على عدم علمِهم بذلك أي فاعلموا أنَّهم أداء لعابديهم الذين يجبونهم كحبِّ الله تعالى لما أنهم يتضرَّرون من جهتهم فوق ما يتضرَّر الرَّجلُ من جهة عدوِّه أو لأنَّ مَن يُغريهم على عبادتهم ويحملُهم عليها هو الشيطان الذي هو أعدى عدوِّ الإنسانِ لكنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ صوَّر الأمر في نفسه تعريضاً بهم فإنَّه أنفعُ في النَّصيحة من التَّصريح وإشعاراً بأنَّها نصيحة بدأ بها نفسَه ليكون أدعى إلى القَبولِ والعدوُّ والصَّديقُ يجيئانِ في معنى الواحدِ والجمعِ ومنه قولَه تعالى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ شبها بالمصادر للموازنةِ كالقبول والولوع والحنين والصَّهيلِ {إلا رب العالمين} استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ ربُّ العالمينَ ليس كذلك بل هو وليّ في الدُّنيا والآخرة لا يزال يتفضَّلُ عليَّ بمنافعهما حسبما يُعرب عنه ما وصفه تعالى به من أحكام الولايةِ وقيل متَّصلٌ وهو قولُ الزَّجاجِ على أنَّ الضَّميرَ لكلِّ معبود وكان من آبائِهم من عبدَ الله تعالى وقوله تعالى(6/248)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
{الذى خَلَقَنِى} صفةٌ لربِّ العالمينَ وجعلُه مبتدأً وما بعْدَه خبراً غيرُ حقيقٍ بجزالة التَّنزيلِ وإنَّما وصفه تعالى بذلك وبما عطفه عليهِ مع اندراجِ الكلِّ تحت ربوبيتهِ تعالى للعالمين تصريحاً بالنِّعم الخاصَّةِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وتفصيلاً لها لكونِها أدخلَ في اقتضاءِ تخصيصَ العبادةِ به تعالى وقصرِ الالتجاء في جلبِ المنافعِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ المضارِّ العاجلةِ والآجلةِ عليه تعالى {فهو يهدين}(6/248)
سورة الشعراء (79 82)
يهديك أي هو يهديني وحدَهُ إلى كلِّ ما يُهمني ويُصلحني من أمور الدِّين والدُّنيا هدايةً متصلةً بحين الخلقِ ونفخ الرُّوحِ متجددة على الاستمرار كما ينبىءُ عنه الفاءُ وصيغةُ المضارعِ فإنَّه تعالى يهدي كلَّ ما خلقه لما خُلق له من أمور المعاش والمعادِ هدايةً متدرجة من مبدأ إتجاده إلى منتهى أجلِه يتمكَّن بها من جلبِ منافعهِ ودفع مضارِّه إمَّا طبعاً وإمَّا اختياراً مبدؤُها بالنَّسبة إلى الإنسان هداية الجنينِ لامتصاص دمِ الطَّمثِ ومنتهاها الهدايةُ إلى طريق الجنَّةِ والتَّنعمِ بنعيمها المقيمِ(6/249)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
{والذى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ} عطفٌ على الصِّفة الأولى وتكريرُ الموصولِ في المواقعِ الثَّلاثةِ مع كفاية عطف ما وقع في حيِّز الصِّلةِ من الجُمل السِّتِّ على صلة الموصول الأول للإيذانِ بأنَّ كلَّ واحدةٍ من تلك الصِّلاتِ نعتٌ جليلٌ له تعالى مستقلٌّ في استيجاب الحكم حقيقة بأنْ تجري عليه تعالى بحيالها ولا تجعل من روادِف غيرها(6/249)
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} عطفٌ على يُطعمني ويسقين نُظم معهما في سلك الصِّلةِ لموصول واحدٍ لما أنَّ الصِّحَّةَ والمرض من متفرِّعاتِ الأكل والشُّرب غالباً ونسبةُ المرضِ إلى نفسه والشفاءء إلى الله تعالى مع أنَّهما منه تعالى لمراعاة حُسنِ الأدبِ كما قال الخَضِرُ عليه السَّلامُ فأردتُ أنْ أعيبها وقال فأرادَ ربُّك أنْ يبلُغا أشدَّهما وأما الإماتُة فحيث كانتْ من معظم خصائصِه تعالى كالإحياءِ بدَءاً وإعادةً وقد نيطتْ أمورُ الآخرةِ جميعاً بها وبما بعدَها من البعث نظمهما في سمطٍ واحدٍ في قوله تعالى(6/249)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
{والذى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ} على أنَّ الموتَ لكونه ذريعةً إلى نيله عليه الصلاةُ والسَّلامُ للحياة الأبديَّةِ بمعزل من أن يكون غيرَ مطبوع عنده عليه الصَّلاة والسَّلام(6/249)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
{والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} ذِكرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هضماً لنفسه وتعليماً للأمَّةِ أنْ يجتنبُوا المعاصي ويكونوا على حَذَرٍ وطلب مغفرة لَما يفرطُ منهم وتلافياً لما عَسَى يندرُ منه عليه الصلاة والسلام من الصَّغائر وتنبيهاً لأبيه وقومه على أنْ يتأمَّلوا في أمرهم فيقفُوا على أنَّهم من سوء الحال في درجةٍ لا يقادَر قدرُها فإنَّ حالَه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مع كونه ف طاعة الله تعالى وعبادتِه في الغاية القاصيةِ حيثُ كانت بتلك المثابة فما ظك بحال أولئك المغمُورين في الكُفر وفُنون المعاصي والخطايا وحملُ الخطيئة على كلماتِه الثَّلاثِ إنِّي سقيمٌ بل فعله كبيرُهم وقوله لسارَّةَ حتى أختي مَّما لا سبيلَ إليه لأنَّها مع كونها معاريض لا من قبيل الخطايا المفتقرةِ إلى الاستغفار إنَّما صدرتْ عنه عليه الصلاة والسلام بعد هذه المقاولةِ الجاريةِ بينه وبين قومِه أما الثَّالثةُ فظاهرةٌ لوقوعِها بعد مهاجرتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى(6/249)
الشأمِ وأما الأوليانِ فلأنَّهما وقعتا مكتنفتينِ بكسرِ الأصنامِ ومن البيِّن أنَّ جريانَ هذه المقالاتِ فيما بينهم كان في مبادىءِ الأمرِ تعليق مغفرةِ الخطيئةِ بيومِ الدَّينِ مع أنَّها إنَّما تُغفر الدنيا لأن أثرها يومئذ يتبيَّن ولأنَّ في ذلك تهويلاً له وإشارةً إلى وقوعِ الجزاءِ فيه إنْ لم تُغفر(6/250)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
{رَبّ هَبْ لِى حُكْماً} بعد ما ذكر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم فنونَ الألطافِ الفائضةِ عليه من الله عزَّ وجلَّ من مبدأِ خلقِه إلى يومِ بعثهِ حمله ذلك على مُناجاتِه تعالى ودعائِه لربط العتيدِ وجلبِ المزيدِ والحكم الحكمة التي هي الكمالُ في العلم والعملِ بحيثُ يتمكَّنُ به من خلافةِ الحقِّ ورياسة الخلقِ {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} ووفقنِي من العُلومِ والأعمال والملكات لما يرشحن للانتظامِ في زُمرةِ الكاملينَ الرَّاسخينَ في الصَّلاحِ المنزَّهينَ عن كبائرِ الذُّنوبِ وصغائِرها أو اجمعْ بيني وبينَهُم في الجنَّة ولقد أجابَه تعالى حيثُ قال وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين(6/250)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
{واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الأخرين} أي جاهاً وحسنَ صيت في الدُّنيا بحيثُ يبقى أثرُه إلى يومِ الدِّين ولذلك لا ترى أمةً من الأُمم إلا وهي محبَّةٌ له ومثنيةٌ عليه أو صادقاً من ذريتي يحدد أصلَ ديني ويدعُو النَّاسَ إلى ما كنتُ أدعُوهم إليهِ من التَّوحيدِ وهو النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ(6/250)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
{واجعلنى} في الآخرةِ {مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم} وقد مرَّ معنى الوراثة في سورةِ مريمَ(6/250)
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
{واغفر لاِبِى} بالهدايةِ والتَّوفيقِ للإيمان كما يلوحُ به تعليلُه بقوله {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين} أي طريقَ الحقَّ وقد مرَّ تحقيقُ المقامِ في تفسير سورة التَّوبةِ وسورة مريمَ بما لا مزيدَ عليهِ(6/250)
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
{وَلاَ تُخْزِنِى} بمعاتبتي على ما فرطت أو ينقص رُتبتي عن بعض الورَّاثِ أو بتعذيبي لخفاءِ العاقبةِ وجوازِ التَّعذيبِ عقلاً كلُّ ذلك مبنيٌّ على هضمِ النَّفسِ منه عليه الصَّلاةُ والسلام أو بتعذيب ولدي أو يبعثه في عدادِ الضَّالين بعدمِ توفيقِه للإيمانِ وهو من الخِزيِ بمعنى الهران أو من الخزايةِ بمعنى الحياءِ {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي النَّاسُ كافَّةً والإضمار قبل الذكرِ لما في عُموم البعثِ من الشُّهرة الفاشيةِ المغنيةِ عنه وتخصيصه بالضَّالِّين مما يخلُّ بتهويلِ اليوم(6/250)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)
{يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} بدلٌ من يومَ يبعثُون جِيء به تأكيداً للتَّهويلِ وتمهيداً لما يعقُبه منْ الإستثناء وهو من أعمِّ المفاعيلِ أي(6/250)
سورة الشعراء (89 94)
لا ينفعُ مالٌ وإن كان مصرُوفاً في الدُّنيا إلى وجوهِ البرِّ والخيراتِ ولا بنون وإن كانُوا صُلحاءَ مستأهلينَ للشَّفاعةِ أحداً(6/251)
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
{إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي عن مرض الكُفرِ والنِّفاقِ ضرورةَ اشتراطِ نفع كلَ منهما بالإيمان وفيه تأييدٌ لكونِ استغفارِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبيه طلباً لهدايتِه إلى الإيمانِ لاستحالةِ طلبِ مغفرتِه بعد موته كافراً مع علمه عليه الصلاة والسلام بعدم نفعه لأنَّه من باب الشَّفاعةِ وقيل هو استثناءُ من فاعلٍ ينفعُ بتقدير المضاف أي إلا مال من أو بنو من أتى الله الآية وقيل المضاف المحذوف ليس من جنس المُستثنى منه حقيقةً بل بضرب من الاعتبارِ كما في قولِه تحيةُ بينِهم ضربٌ وجيعُ أي إلا حالَ من أتى الله بقلبٍ سليم على أنَّها عبارةٌ عن سلامة القلبِ كأنَّه قيل إلا سلامةَ قلبِ مَن أتى الله الآية وقيل المضاف المحذوف ما دلَّ عليه المالُ والبنون من الغنى وهو المُستثنى منه كأنَّه قيل يومَ لا ينفعُ غِنَى إلا غنى من أتى الله الآيةَ لأنَّ غنى المرءِ في دينِه بسلامةِ قلبِه وقيل الاستثناءُ منقطعُ والمعنى لكن سلامة قلبه تنفعه(6/251)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
{وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} عطف على لا ينفع وصيغةُ الماضي فيه وفيما بعدَهُ من الجُمل المنتظمةِ معه في سلك العطف للدِّلالة على تحقُّق الوقوعِ وتقرُّره كما أن صيغة المضارع في المعطوفِ عليه للدِّلالة على استمرار انتفاءِ النَّفع ودوامِه حسبما يقتضيهِ مقامُ التَّهويل والتَّفظيعِ أي قُربتِ الجنَّةُ للمتَّقين عنِ الكفرِ والمعاصِي بحيثُ يُشاهدونها من الموقفِ ويقفُون عَلى ما فَيها من فنُون المحاسنِ فيبتهجُون بأنَّهم المحشورون إليها(6/251)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
{وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} الضَّالِّين عن طريقِ الحقِّ الذي هو الإيمانُ والتَّقوى أي جُعلت بارزةً لهم بحيث يَرَونها مع ما فيها من أنواع الأحوالِ الهائلةِ ويُوقنون بأنَّهم مواقعوها ولا يجدون عنها مصرفا(6/251)
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
{قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} في الدنيا {ما تَعْبُدُونَ} {مِن دُونِ الله} أي أين آلهتكم الذين كنتُم تزعمون في الدُّنيا أنَّهم شفعاؤكم في هذا الموقفِ {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ} بدفعِ العذابِ عنكم {أَوْ يَنتَصِرُونَ} بدفعه عن أنفسهم وهذا سؤالُ تقريعٍ وتبكيتٍ لا يُتوقَّع له جوابٌ ولذلك قيل(6/251)
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
{فَكُبْكِبُواْ فِيهَا} أي أُلقوا في الجحيمِ على وجوهِهم مرة بعد أرى إلى أنْ يستقرُّوا في قعرها {هُمْ} أي آلهتُهم {والغاوون} الذين كانُوا يعبدونهم وفي تأخير(6/251)
سورة الشعراء (95 99)
ذكرهم عن ذكر آلهتم رمزٌ إلى أنَّهم يؤخَّرون عنها في الكبكبةِ ليُشاهدوا سوءَ حالِها فيزدادوا غمِّاً إلى غمَّهم(6/252)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
{وجنود إبليس} أي شياطنية الذين كانوا يغرونهم ويُوسوسون إليهم ويسوِّلون لهم ما هم عليه من عبادةِ الأصنام وسائر فنون الكُفر والمعاصي ليجتمعُوا في العذاب حسبما كانُوا مجتمعين فيما يُوجبه وقيل متبعوه من عصاة الثَّقلينِ والأوَّلُ هو الوجه {أجمعين} تأكيد للضمير وما عُطِف عليه وقوله تعالى(6/252)
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)
{قَالُواْ} الخ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ حالهم كأنه قيل ماذا قالوا حينَ فُعل بهم ما فُعل فقيل قال العَبَدةُ {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} أي قالوا معترفين بخطئهم في أنهما كهم في الضَّلالةِ متحسَّرين معيِّرين لأنفسهم والحال أنَّهم في الجحيم بصددِ الاختصام مع من معهم من المذكورينَ مخاطبين لمعبودِيهم على أنَّ الله تعالَى يجعلُ الأصنامَ صالحةً للاختصام بأنْ يُعطيها القدرةَ على الفهم والنُّطقِ(6/252)
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)
{تالله إِن كُنَّا لَفِى ضلال مُّبِينٍ} إنْ مخففةٌ من الثَّقيلةِ قد حُذف اسمَها الذي هو ضميرُ الشأن واللام فارقة بينها وبن النَّافيةِ أي إنَّ الشأنَ كُنَّا في ضلال واضح لإخفاء فيه ووصفهم له بالوضوح للإشباع في إظهار ندمهم وتحسُّرهم وبيان عِظَمِ خطئهم في رأيهم مع وضوح الحقِّ كما ينبىءُ عنه تصديرُ قَسَمهم بحرف التَّاءِ المُشعرةِ بالتَّعجُّبِ وقوله تعالى(6/252)
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
{إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين} ظرفٌ لكونهم في ضلالٍ مبين وقيل لما دل عليه الكلامُ أي ضللنا وقيل للضَّلال المذكورِ وإن كان فيه ضعفٌ صناعيٌّ من حيث إنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يعمل بعد الوصف وقيل ظرفٌ لمبين وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورَةِ الماضية أي تالله لقد كُنَّا في غاية الضَّلالِ الفاحش وقت تسويتنا إيَّاكُم أيُّها الأصنامُ في استحقاقِ العبادة بربِّ العالمين الذي أنتم أدنى مخلوقاته وأدلهم وأعجزُهم وقولهم(6/252)
وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)
{وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ المجرمون} بيان لسبب ضلالهم بعد اعترافِهم بصدوره عنهم لكنْ لا على مَعْنى قصرِ الإضلال على المجرمين دون عداهم بل على مَعنى قصر ضلالِهم على كونه بسبب إضلالهم من غير أنْ يستقلُّوا في تحقُّقهِ أو يكون بسبب إضلال الغيرِ كأنَّه قيل وما صدرَ عنَّا ذلك الضَّلالُ الفاحش إلا بسبب إضلالِهم والمرادُ بالمجرمين الذين أضلوهم روساؤهم وكُبراؤُهم كما في قولِه تعالى رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا وعن السدى رحمة الله الأَوَّلُون الذين اقتدَوا بهم وأياما كان ففيه أوفرُ نصيب من التعريض الذين قالُوا بل وجدنا آباءَنا كذلك يفعلون وعن ابنِ جريج(6/252)
سورة الشعراء (100 103)
إبليسُ وابنُ آدمَ القاتلُ لأنَّه أوَّلُ من سَنَّ القتلَ وأنواعَ المعاصِي(6/253)
فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100)
{فما لنا من شافعين} كما للمؤمنينَ من الملائكةِ والأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ(6/253)
وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
{وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} كما نرى لهم أصدقاءَ أو فما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميمٍ من الذين كنَّا نعدُّهم شفعاءَ وأصدقاءَ على أنَّ عدمَهما كنايةٌ عن عداوتِهما كما أنَّ عدمَ المحبَّةِ في مثلِ قولِه تعالى والله لاَ يُحِبُّ الفساد كنايةٌ عن البُغضِ حسبما ينبىءُ عنه قوله تعالى الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين أو وقعنا في مهلكة لا يخلصنا منها شافعٌ ولا صديقٌ على أنَّ المرادَ بعدمهما عدمُ أثرهِما وجمعُ الشَّافعِ لكثرة الشُّفعاءِ عادةً كما أنَّ إفرادَ الصَّديقِ لقلَّتهِ أو لصحَّةِ إطلاقِه على الجمعِ كالعدوِّ تشبيهاً لهما بالمصادرِ كالحنينِ والقَبولِ وكلمةُ لَوْ في قوله تعالى(6/253)
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
{فلو أن لنا كرة} للتَّمنِّي كليتَ لما أنَّ بينَ معنييهما تلاقياً في معنى الفرضِ والتَّقديرِ كأنَّه قيل فليتَ لنا كرَّةً أي رجعةً إلى الدُّنيا وقيل هي علي أصلِها من الشَّرطِ وجوابُه محذوفٌ كأنَّه قيل فلو أنَّ لنا كرةً لفعلنا من الخيراتِ كيتَ وكيتَ ويأَّباهُ قوله تعالى {فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} لتحتُّم كونِه جواباً للتمني مفيدا لترتيب إيمانهم على وقوعِ الكَرَّةِ البتة بلا تخلف كما هو مقتضى حالِهم وعطفه على كرة طريقة للبس عباءة وتقرعيني كما يستدعيه كون لو على أصلها إنَّما يفيد تحقُّقَ مضمون الجوابِ على تقدير تحقق كرتهموإيمانهم معاً من غير دلالة على استلزامِ الكرَّة للإيمانِ أصلاً مع أنَّه المقصودُ حتماً(6/253)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
{إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من نبأ إبراهيمَ عليه السَّلامُ المشتملِ على بيان بُطلانِ ما كان عليه أهلُ مكَّةَ من عبادةِ الأصنامِ وتفصيلِ ما يؤول إليه أمرُ عَبَدتها يومَ القيامةِ من اعترافِهم بخطئِهم الفاحشِ وندمِهم وتحسُّرهم على ما فاتَهُم من الإيمان وتمنِّيهم الرَّجعةَ إلى الدُّنيا ليكونُوا من المؤمنين عند مشاهدتِهم لما أزلفت لهم جنَّاتُ النَّعيمِ وبُرِّزتْ لأنفسهم الجحيم وغشيهم ما غشيهم من ألوانِ العذابِ وأنواعِ العقابِ {لآيَةً} أي آية عظيمةٌ لا يُقادرُ قَدرُها موجبةً على عبدة الأصنامِ كافَّةً لا سيَّما على أهلِ مكَّةَ الذين يدَّعُون أنَّهم على ملَّةِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يجتنبُوا كلَّ الاجتنابِ ما كانُوا عليه من عبادتها خوفاً أنْ يحيقَ بهم مثلُ ما حاق بأولئك من العذابِ بحكم الاشتراكِ فيما يُوجبه أو أن في ذكر نبئةِ وتلاوته عليهم على ما هو عليه من غير أنْ تسمعه من أحد لآيَةً عظيمة دالَّة على أنَّ ما تتلوه عليهم وحيٌ صادقٌ نازلٌ من جهةِ الله تعالى موجبة للإيمان به قطعاً {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمنين} أي أكثرُ هؤلاءِ الذينَ تتلُو عليهم النبأَ مؤمنين بل هم مُصرُّون على ما كانُوا عليهِ من الكُفرِ والضَّلالِ وأمَّا أنَّ ضمير أكثرُهم لقومِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ كما توهَّمُوا فمما لا سبيلَ إليه أصلاً لظهور أنَّهم ما ازدادوا مما سمعُوا منه عليه الصَّلاةُ والسلام(6/253)
سورة الشعراء (104 111)
إلا طُغياناً وكفراً حتَّى اجترؤا على تلك العظيمةِ التي فعلُوها به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فكيف يعبَّر عنهم بعدم إيمان أكثرِهم وإنما آمنَ له لوطٌ فنجَّاهُما الله عزَّ وجلَّ إلى الشَّامِ وقد مرَّ بقيَّةُ الكلام في آخرِ قصَّةِ موُسى عليه السَّلامُ(6/254)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي هو القادرُ على تعجيلِ العُقوبةِ لقومِك ولكنه يمهلهم بحكم الواسعةِ ليؤمن بعضٌ منهم أو من ذريَّاتِهم(6/254)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} القوم مؤَّنثٌ ولذلك يُصغَّر على قُويمةٍ وقيل القومُ بمعنى الأُمَّةِ وتكذيبهم للمرسلين إما باعتبارِ إجماع الكلِّ على التَّوحيد وأصولِ الشَّرائعِ التي لا تختلفُ باختلاف الأزمنةِ والأعصارِ وإمَّا لأنَّ المرادَ بالجمعِ الواحدُ كما يقال فلانٌ يركب الدَّوابَّ ويلبس البرود وماله إلا دابة وبردة وإذفى قوله تعالى(6/254)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ} ظرفٌ للتَّكذيبِ على أنَّه عبارةٌ عن زمانٍ مديدٍ وقعَ فيه ما وقعَ من الجانبينِ إلى تمام الأمر كما أنَّ تكذيبَهم عبارةٌ عمَّا صدرَ عنهم من ابتداءِ دعوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى انتهائها {أَخُوهُمْ} أي نسيبُهم {نُوحٌ أَلاَ تتقون} الله حين تعبدُون غيرهَ(6/254)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} من جهته تعالى {أَمِينٌ} مشهور بالأمانةِ فيما بينكم(6/254)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)
{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} فيما آمرُكم به من التَّوحيدِ والطَّاعةِ لله تعالى(6/254)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)
{وما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على ما أنا متصدَ له من الدُّعاءِ والنُّصحِ {مِنْ أَجْرٍ} أصلاً {إِنْ أَجْرِىَ} فيما أتولاَّهُ {إِلاَّ على رَبّ العالمين} والفاء في قوله تعالى(6/254)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها من تنزهه عليه الصلاة والسلام عن الطَّمعِ كما أن نظيرتَها السَّابقةَ لترتيب ما بعدها على أمانتِه والتَّكريرُ للَّتأكيدِ والتَّنبيهِ على أن كلاًّ منهما مستقلٌّ في إيجاب التَّقوى والطَّاعةِ فكيف إذا اجتمَعا وقُرىء إن أَجْرِيْ بسكون الياء(6/254)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} أي الأقلُّون جاهاً ومالاً جمع الأرذلِ على الصِّحَّةِ فإنَّه بالغلبة صار جاريا مجرى الإسم(6/254)
سورة الشعراء (112 118)
كالأكبرِ والأكابرِ وقيل جمعُ أرذُلٍ جمعُ رَذْلٍ كأكالبَ وأَكلُبٍ وكَلْبٍ وقُرىء وأتباعُك وهو جمع تابعٍ كشاهدٍ وأشهادٍ أو جمع تَبَع كبطلٍ وأبطالٍ يعنُون أنَّه لا عبرةَ باتِّباعِهم لك إذْ ليس لهم رزانةُ عقلٍ ولا إصابةَ رأيٍ وقد كان ذلك منهم في بادىءٍ الرَّأي كما ذكر في موضع آخر وهذا من كمال سخافةِ عقولِهم وقصرهم أنظارَهم على حطام الدنيا وكون الأشراف عندهم مَن هو أكثرُ منها حظَّاً والأرذلُ مَن حُرمها وجهلِهم بأنَّها لا تزنُ عندَ الله جناحَ بعوضةٍ وأنَّ النعيم هو نعيمُ الآخرةِ والأشرفُ من فازَ به والأرذلُ من حُرمه(6/255)
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)
{قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} جواب عَّما أُشير إليه من قولهم إنَّهم لم يُؤمنوا عن نظرٍ وبصيرةٍ أي وما وظيفتي إلاَّ اعتبارُ الظَّواهرِ وبناءُ الأحكامِ عليها دون التَّفتيشِ عن بواطنهم والشَّقِّ عن قلوبهم(6/255)
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)
{إِنْ حِسَابُهُمْ} أي ما محاسبةُ أعمالِهم والتَّنقيرُ عن كفايتها البارزةِ والكامنةِ {إِلاَّ على ربي} فإنه المضطلع السَّرائرِ والضَّمائرِ {لَوْ تَشْعُرُونَ} أي بشيءٍ من الأشياءِ أو لو كنتُم من أل الشُّعور لعلمتم ذلك ولكنَّكم لستُم كذلك فتقولون ما تقولُون(6/255)
وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
{وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} جواب عمَّا أوهمُه كلامُهم من استدعاءِ طردِهم وتعليقِ إيمانِهم بذلك حيثُ جعلوا اتِّباعَهم مانعاً عنه وقوله(6/255)
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
{إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} كالعلَّةِ أي ما أنا إلا رسولٌ مبعوثٌ لإنذار المكلَّفين وزجرهِم عن الكفر والمعاصي سواءً كانُوا من الأعزَّاء أو الأذِلاَّء فكيف يتسنَّى طرد الفُقراء لاستتباع الأغنياءِ أو ما عليَّ إلاَّ إنذارُكم بالبرهان الواضحِ وقد فعلتُه وما عليَّ استرضاءُ بعضِكم بطردِ الآخرين(6/255)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
{قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا نوح} عمَّا تقول {لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} من المشتُومين أو المرميين بالحجارةِ قالوه قاتلهم الله تعالى في أواخرِ الأمرِ ومعنى قوله تعالى(6/255)
قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)
{قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى كذبون} تموا على تكذيبي وأصرُّوا على ذلك بعد ما دعوتُهم هذه الأزمنةَ المُتطاولة ولم يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً كما يُعرب عنه دُعاؤْه بقولِه(6/255)
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
{فافتح بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} أي أحكُم بيننا بما يستحقُّه كلُّ واحدٍ منَّا وهذه حكايةٌ إجماليةٌ لدعائِه المفصَّل في سورة نوحٍ عليه {وَنَجّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ المؤمنينَ} أي من قصدِهم أو من(6/255)
سورة الشعراء (119 128)
شؤمِ أعمالِهم(6/256)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
{فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ} حسب دعائِه {فِى الفلك المشحون} أي المملوءِ بهم وبما لابد لهم منه(6/256)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ} أي بعد إنجائِهم {الباقين} أي من قومِه(6/256)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وما كان أكثرهم مؤمنين} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} الكلامُ فيه كالذي مرَّ خلا أنَّ حمل أكثرهم على أكثر قومِ نوحٍ أبعدُ من السَّدادِ وأبعدُ(6/256)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)
{كذبت عاد المرسلين} أنت عادٌ باعتبار القبيلةِ وهو اسمُ أبيهم الأقصى(6/256)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} الكلام في أن المراد بتكذيبهم وبما وقعَ فيه من الزَّمانِ ماذا كما مرَّ في صدرِ قصَّة نوحٍ عليه السلام أي أَلا تَتَّقُونَ الله تعالى فتفعلون ما تفعلونَ(6/256)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} {فاتقوا الله وأطيعون} {وما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إن أجرى إلا على رَبّ العالمين} الكلامُ فيه كالذي مرَّ وتَصديرُ القصص به للتنبيه على أنَّ مبنى البعثةِ هو الدُّعاءِ إلى معرفةِ الحقِّ والطَّاعةِ فيما يُقرب المدعوَّ إلى الثَّوابِ ويُبعده من العقابِ وأنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ مُجمعون على ذلك وإن اختلفُوا في بعض فروع الشَّرائعِ المختلفة باختلاف الأزمنةِ والأعصارِ وأنَّهم متنزِّهون عن المطامع الدنية والأغراض الدُّنيويةِ بالكُلِّية(6/256)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
{أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ} أي مكانٍ مرتفعٍ ومنه رِيعُ الأرض لإرتفاعها {آية} عَلَماً للمارة {تَعْبَثُونَ} أي ببنائها إذْ كانُوا يهتدون بالنُّجومِ في أسفارِهم فلا يحتاجُون إليها أو بروج الحمام(6/256)
سورة الشعراء (129 137)
أو بُنياناً يجتمعون إليه ليعبثوا لمن مرَّ عليهم أو قُصوراً عاليةً يفتخرونَ بها(6/257)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} أي مآخذَ الماءِ وقيل قُصوراً مشيَّدة وحصوناً {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي راجين أنْ تُخلدوا في الدُّنيا أي عاملين عملَ من يرجو من ذلك فلذلك تحكمُون بنيانها(6/257)
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
{وإذا بطشتم} بصوت أو سيفٍ {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} متصلطين غاشمينَ بلا رأفةٍ ولا قصدِ تأديبٍ ولا نظرٍ في العاقبةِ(6/257)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)
{فاتقوا الله} واتركُوا هذه الأفعال {وأطيعونِ} فيما أدعُوكم إليه فإنَّه أنفعُ لكم(6/257)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132)
{واتقوا الذى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} من أنواع النَّعماء وأصنافِ الآلاءِ أجملَها أوَّلاً ثم فصَّلها بقوله(6/257)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)
{أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ} بإعادة الفعل لزيادةِ التَّقريرِ فإنَّ التَّفصيلَ بعد الإجمال والتَّفسيرَ إثر الإبهامِ أدخلُ في ذلك(6/257)
وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
{وجنات وَعُيُونٍ} {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إنْ لم تقوموا بشكرِ هذهِ النِّعم {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في الدُّنيا والآخرةِ فإنَّ كُفران النِّعمةِ مستتبعٌ للعذاب كما أنَّ شكرَها مستلزمٌ لزيادتِها قال تعالى لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى شديد(6/257)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
{قَالُواْ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أم لم تكن من الواعظين} فإنَّا لنْ نرعويَ عما نحن عليه وتغير الشِّقِّ الثِّاني عن مقابله للمبالغة في بيان قلَّةِ اعتدادها بوعضه كأنهم قالوا ألم تكُن من أهلِ الوعظ ومباشريهِ أصلاً(6/257)
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
{إِنَّ هَذَا} ما هذا الذي جئتنا به {إِلاَّ خلق الأولين} أي عادتهم كانوا يلفِّقون مثلَه ويسطرونَه أو ما هذا الذي نحنُ عليه من الدِّين إلَّا خُلُق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الموتِ والحياةِ إلا عادةٌ قديمةٌ لم يزل النَّاسُ عليها وقُرىء خَلْق الأوَّلين بفتح الخاء أي إختلاق الأولَّينَ كما قالُوا أساطيرُ الأوَّلينَ أو ما خلقُنا هذا إلا خلقُهم نحيا(6/257)
سورة الشعراء (150 158)
كما حيُوا ونموت كما ماتُوا ولا بعثَ ولا حسابَ(6/258)
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} على ما نحنُ عليه من الأعمالِ(6/258)
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
{فَكَذَّبُوهُ} أي أصرُّوا على ذلك {فأهلكناهم} بسببه بريحٍ صرصرٍ {إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالح أَلا تَتَّقُونَ {الله تعالى} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين} {أتتركون في ما ها هنا آمِنِينَ} إنكارٌ ونفيٌ لأن يتركوا فيما هيم فيه من النِّعمة أو تذكير للنعمة في تخلينه تعالى إيَّاهم وأسباب تنعمِهم آمنين وقولُه تعالى(6/258)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
{فِى جنات وَعُيُونٍ} {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} تفسير لما قبله من المبهم والهضيمُ اللَّطيفُ الليِّنُ للطف الثمر أو لأنَّ النخلَ أُنثى وطلع الإناث ألطفُ وهو ما يطلع منها كنصل السَّيفِ في جوفه شماريخُ القنوِ أو متدلَ متكسرٌ من كثرةِ الحملِ وإفراد النخل لفضله على سائر أشجارِ الجنَّاتِ أو لأن المرادَ بها غيرُها من الأشجارِ(6/258)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين}(6/258)
بطرين أو حازقين من الفراهةِ وهي النَّشاطُ فإنَّ الحاذقَ يعملُ بنشاطٍ وطلب قلب وقرئ فَرِهين وهو أبلغ(6/259)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)
{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} {وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين} استعير الطَّاعة التي هي انقيادُ الأمرِ لامتثالِ الأمر وارتسامِه أو نُسب حكم الأمر إلى أمرِه مجازاً(6/259)
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
{الذين يُفْسِدُونَ فِى الأرض} وصف موضِّحٌ لإسرافهم ولذلك عطف {وَلاَ يُصْلِحُونَ} على يُفسدون لبيان خلوصِ إفسادِهم عن مخالطةِ الإصلاحِ(6/259)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)
{قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين} أي الذين سُحروا حتَّى غُلب على عقولِهم أو من ذوي السَّحْر أي من الإنسِ فيكون قوله تعالى(6/259)
مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
{مَا أَنتَ إِلاَّ بشرٌ مّثْلُنَا} تأكيداً له {فَأْتِ بآية إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي في دعواكَ(6/259)
قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
{قَالَ هذه نَاقَةٌ} أي بعد ما أخرجَها الله تعالى من الصَّخرةِ بدعائه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حسبمَا مرَّ تفصيلُه في سورة الأعراف وسورة هودٍ {لَّهَا شِرْبٌ} أي نصيبٌ من الماء كالسِّقيِ والقِيت للحظِّ من السِّقيِ والقوت وقرئ بالضَّمِّ {وَلَكُمْ شربُ يومٍ مَّعْلُومٍ} فاقتنعُوا بشربكم ولا تزاحمُوا على شِربها(6/259)
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
{وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء} كضرب وعقر {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وصف اليوم بالعظمِ لعظم ما يحلُّ فيه وهو أبلغُ من تعظيم العذابِ(6/259)
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)
{فَعَقَرُوهَا} أسند العقرَ إلى كلِّهم لما أنَّ عاقَرها عقرَها برأيهم ولذلك عمَّهم العذابُ {فَأَصْبَحُواْ نادمين} خوفاً من حُلول العذابِ لا توبةً أو عند معاينتهم لمباديه ولذلكَ لَمُ ينفعْهم النَّدمُ وإن كان بطريق التَّوبةِ(6/259)
فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)
{فَأَخَذَهُمُ العذاب} أي العذابُ الموعودُ {إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمنين}(6/259)
سورة الشعراء (159 168)(6/260)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} قيل في نفيِ الإيمان عن أكثرهم فلي هذا المعرض إيماءً إلى أنَّه لو آمن أكثرُهم أو شطرُهم لما أُخذوا بالعذابِ وأنَّ قُريشاً إنَّما عُصموا من مثلِه ببركةِ مَن آمنَ منهم وأنتَ خبيرٌ بأن قُريشاً هم المشهورونَ بعدمِ إيمانِ أكثرِهم(6/260)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين} {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أجرى إلا على رب العالمين} {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين} أى أتأتون من بينِ منَ عداكم من العالمين الذكران لا يشارككم فيه غيرُكم أو أتأتون الذكران من أولادِ آدمَ مع كثرتِهم وغلبة النَّساءِ فيهم مع كونهم أليقَ بالاستمتاعِ فالمرادُ بالعالمين على الأول ما يُنكح من الحيوانِ وعلى الثَّاني الناسُ(6/260)
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
{وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ} لأجل استمتاعِكم وكلمة مِن في قوله تعالى {مّنْ أزواجكم} للبيان إنْ أريد يما جنسُ الإناثِ وهو الظَّاهرُ وللتبعيضِ إنْ أُريد بها العُضو المباحُ منهنَّ تعريضاً بأنَّهم كانُوا يفعلون ذلك بنسائِهم أيضاً {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} متعدُّون متجاوزونَ الحدَّ في جميعِ المعاصي وهذا من جُملتها وقيل متجاوزونَ عن حدِّ الشَّهوةِ حيث زادُوا على سائرِ النَّاسِ بل الحيواناتِ(6/260)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
{قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا لوط} أي عن تقبيح أمرِنا ونهينا عنه أو عن دَعْوى النُّبوة التي من جُملةِ أحكامِها التَّعرضُ لنا {لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين} أي من المنفيينَ من قريتنا وكأنَّهم كانوا يخرجون منَ أخرجوه من بيتهم على عنفٍ وسوءِ حالٍ(6/260)
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
{قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ القالين}(6/260)
أي من المُبغضين غايةَ البغضِ كأنه يقْلى الفؤادَ والكبدَ لشدَّتِه وهو أبلغُ من أنْ يُقال إنِّي لعملِكم قالٍ لدلالتِه على أنه عليه الصلاةُ والسلام من زُمرة الرَّاسخين في بعضه المشهورينَ في قِلاه ولعلَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أراد إظهارَ الكراهة في مُساكنتِهم والرَّغبةِ في الخلاصِ من سوءِ جوارهم ولذلك أعرضَ عن محاورتِهم وتوجَّه إلى الله تعالى قائلاً(6/261)
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
{رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ} أي من شؤمِ عملهم وعائلته(6/261)
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170)
{فنجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أي أهلَ بيتهِ ومَن اتبعه في الدِّين بإخراجِهم من بينهم عند مشارفةِ حُلولِ العذابِ بهم(6/261)
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
{إِلاَّ عَجُوزاً} هي امرأةُ لوط استثنيت من أهله فلا يضرُّه كونُها كافرةً لأنَّ لها شركةً في الأهلية بحقِّ الزَّواجِ {فِى الغابرين} أي مقدرا كونُها من الباقين في العذابِ لأنَّها كانت مائلةً إلى القوم راضيةً بفعلهم وقد أصابها الحجرُ في الطَّريقِ فأهلكها كما مرَّ في سُورة الحجرِ وسُورة هودٍ وقيل كانت فيمن بقيَ في القريةِ ولم تخرجْ مع لوطٍ عليه السلام(6/261)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
{ثُمَّ دَمَّرْنَا الاخرين} أهلكناهم أشدَّ إهلاكٍ وأفظَعه(6/261)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} أي مطراً غيرَ معهودٍ قيل أمطر الله تعالى على شُذّاذ القوم حجارةً فأهلكتهم {فَسَاء مَطَرُ المنذرين} اللام فيه للجنسِ وبه يتسنَّى وقوعُ المضاف إليه فاعلَ ساءَ والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ وهو مطرهم(6/261)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
{إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وما كان أكثرهم مؤمنين} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} {كذب أصحاب الأيكة المرسلين} الأيكةُ الغَيضةُ التي تُنبتُ ناعمَ الشَّجر وهي غَيضةٌ بقرب مَدْيَن يسكنها طائفة وكانُوا ممَّن بُعثَ إليهم شعيبٌ عليه السالم وكان أجنبيَّاً منهم ولِذلك قيل(6/261)
إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} ولم يقُل(6/261)
سورة الشعراء (178 187) أخُوهم وقيل الأيكةُ الشَّجرُ الملتفُّ وكان شجرُهم الدَّومَ وهو المقل وقرئ بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللامِ وقُرئت كذلك مفتوحةً على أنَّها لَيْكةُ وهي اسمُ بلدهم وإنَّما كُتبت ههنا وفي ص بغيرِ ألفٍ إتباعاً للفظِ اللافظ(6/262)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} {فاتقوا الله وأطيعون} {وما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إن أجرى إلا على رب العالمين} {وَأَوْفُوا الكيل} أي أتمُّوه {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين} أي حقوقَ النَّاس بالتّطفيف(6/262)
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)
{وَزِنُواْ} أي الموزوناتِ {بالقسطاس المستقيم} بالميزانِ السَّويِّ وهو إن كانَ عربيَّاً فإنْ كان من القسط ففعلا س بتكرير العين وإلا ففعلا ل وقرئ بضمِّ القاف(6/262)
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
{وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} أي لا تُنقصوا شيئاً من حقوقِهم أي حقَ كان وهذا تعميمٌ بعد تخصيصِ بعضِ الموادِّ بالذكر لغاية أنهما كهم فيها {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ} بالقتل والغارة وقطعِ الطَّريقِ(6/262)
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
{واتقوا الذى خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} أى ذوى الجُبْلَّةِ الأوَّلينَ وهم مَن تقدمهم من الخلائق وقرئ بضمِّ الجيمِ والباءِ وبكسرِ الجيمِ وسكون الباءِ كالخِلْقة(6/262)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)
{قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين} {وَمَا أَنتَ إِلاَّ بشرٌ مثلُنا} إدخالُ الواو بين الجملتينِ للدِّلالة على أنَّ كلاً من التَّسحيرِ والبشريةِ منافٍ للرِّسالةِ مبالغةً في التَّكذيبِ {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} أي فيما تدَّعيه من النُّبوة(6/262)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماءِ} أى قطعا وقرئ بسكون السِّينِ وهو أيضاً جمعُ كِسفةٍ وقيل الكِسفُ والكِسفةُ كالرِّيعِ والرِّيعةِ وهي القطعةُ والمرادُ بالسَّماءِ إمَّا السَّحابُ أو المظلة ولعلَّه جواب(6/262)
سورة الشعراء (188 192) لام أشعر به الأمرُ بالتَّقوى من التَّهديد {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في دعواكَ ولم يكُن طلبُهم ذلك إلا لتصميمهم على الجُحود والتَّكذيبِ وإلاَّ لمَا أخطرُوه ببالهم فضلاً أنْ يطلبُوه(6/263)
قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)
{قَالَ رَبّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الكُفر والمعاصي وبما تستحقُّون بسببه من العذابِ فسينزله عليكم في وقتهِ المقدَّرِ لهُ لا محالة(6/263)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
{فَكَذَّبُوهُ} أي فتمُّوا على تكذيبه وأصرُّوا عليه {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} حسبما اقترحُوا أمَّا إن أرادُوا بالسَّماءِ السَّحابُ فظاهرٌ وأما إن أرادوا المظلة فلأنَّ نزولَ العذابِ من جهتها وفي إضافة العذابِ إلى يومِ الظُّلَةِ دون نفسها إيذانٌ بأنَّ لهم يومئذٍ عذاباً آخرَ غيرَ عذاب الظُّلة وذلك بأنْ سلَّط الله عليهم الحرَّ سبعةَ أيام ولياليَها فأخذَ بأنفاسهم لا ينفعه ظل ولا ماءٌ ولا سَرَبٌ فاضطرُّوا إلى أنْ خرجُوا إلى البريَّةِ فأظلتُهم سحابةٌ وجدوا لها بَرْداً ونَسيماً فاجتمعُوا تحتها فأمطرتْ عليهم ناراً فاحترقُوا جميعاً رُوي أن شعيبا عليه السلام بُعث إلى أمَّتينِ أصحابِ مَدْينَ وأصحابِ الأَيكةِ فأُهلكتْ مَدْينُ بالصَّيحةِ والرَّجفةِ وأصحابُ الأيكةِ بعذابِ يوم الظُّلَّةِ {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} أي في الشِّدَّةِ والهَوْلِ وفظاعةِ ما وقع فيه من الطَّامةِ والدَّاهيةِ التَّامةِ(6/263)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
{إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} هذا آخرُ القِصصِ السَّبعِ التي أُوحيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لصرفه صلى الله عليه وسلم عن الحرصِ على إسلام قومِه وقطعِ رجائه عنه ودفع تحسُّره على فواتِه تحقيقاً لمضمونِ ما مرَّ في مطلعِ السورةِ الكريمة من قوله تعالى وَمَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق الآيةَ فإنَّ كلَّ واحدةٍ من هذه القصص ذكرٌ مستقلُّ متجدِّد النُّزولِ قد أتاهم من جهتِه تعالى بموجب رحمتِه الواسعة وما كان أكثرُهم مؤمنين بعد ما سمعُوها على التَّفصيلِ قصَّةً بعد قصَّةٍ لا بأنْ يتدَّبروا فيها ويعتبروا بما في كلِّ واحدة منها من الدَّواعي إلى الإيمان والزَّواجرِ عن الكفر والطُّغيان ولا بأنْ يتأمَّلوا في شأن الآياتِ الكريمةِ النَّاطقة بتلك القصص على ما هي عليه مع علمهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يسمعْ شيئاً منها من أحدٍ أصلاً واستمرُّوا على ما كانُوا عليهِ من الكفرِ والضَّلالِ كأنْ لم يسمعوا شيئاً يزجرهم عن ذلكَ قطعاً كما حُقِّقَ في خاتمة قصَّةِ موسى عليه السلام(6/263)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
{وَأَنَّهُ} أي ما ذُكر من الآيات الكريمة النَّاطقةِ بالقصص المحكيَّة أو القُرآن الذي هي مِن جُملته {لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين} أي منزَّل من جهتِه تعالى سمِّي به مبالغةً ووصفه تعالى بربوبيَّةِ العالمين للإيذانِ بأنَّ تنزيلَه من أحكامِ تربيتهِ تعالى ورأفتِه للكُلِّ كقوله تعالى ومن أرسلناك إلا رحمة(6/263)
سورة الشعراء (193 197) العالمين(6/264)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
{نَزَلَ بِهِ} أي أنزلَه {الروح الأمين} أي جبريلَ عليهِ السَّلامُ فإنَّه أمينُ وحيهِ تعالى وموصِلُه إلى أنبيائِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وقرئ بتشديدِ الزَّايِ ونصبِ الرُّوحِ والأمينِ أي جعل الله تعالى الرُّوحَ الأمينَ نازلاً به(6/264)
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
{على قَلْبِكَ} أي رُوحك وإن أُريد به العُضو فتخصيصه به لأنَّ المعانَيَ الرُّوحانيَّةَ تنزل أولاً على الرُّوحِ ثمَّ تنتقلُ منه إلى القلبِ لما بينَهما من التَّعلُّق ثم تتصعدُ إلى الدماغ فينتصف بها لوحُ المتخيلةِ {لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} متعلِّق بنزلَ به أي أنزله لتنذرَهم بَما فِي تضاعيفِه من العقوباتِ الهائلةِ وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريم للدلالة على انتظامه صلى الله عليه وسلم في سلكِ أولئك المنذرينَ المشهورينَ في حقِّيةِ الرِّسالةِ وتقرُّرِ وقوعِ العذابِ المُنذَر(6/264)
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
{بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ} واضحِ المعنى ظاهرِ المدلولِ لئلاَّ يبقَى لهُم عذرٌ ما وهُو أيضاً متعلِّق بنزل به وتأخيره للاعتناءِ بأمر الإنذارِ وللإيماء إلى أنَّ مدارَ كونِه من جُملة المنذرين المذكورينَ عليهم السَّلامُ مجرد انزاله عليه صلى الله عليه وسلم لا إنزالُه باللِّسان العربيِّ وجعلُه متعلِّقاً بالمنذرين كما جَوَّزه الجمهورُ يؤدِّي إلى أنَّ غاية الإنزال كونُه صلى الله عليه وسلم من جملة المنذرينَ باللغة العربية فقط من هود وصالح وشعيب عليه السلام ولا يخفى فسادُه كيف لا والطَّامةُ الكُبرى في باب الإنذارِ ما أنذره نوح وموسى عليهما السلام وأشدُّ الزَّواجرِ تأثيراً في قلوب المشركينَ ما أنذَره إبراهيمُ عليه السلام لانتمائِهم وادِّعائِهم أنهم على ملَّته عليه الصلاة والسلام(6/264)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
{وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأولين} أي وإنَّ ذكره أو معناه لفي الكتبِ المتقدِّمةِ فإن أحكامه التي لا تحتملُ النَّسخَ والتَّبديلَ بحسب تبدُّلِ الأعصار من التَّوحيد وسائر ما يتعلَّق بالذَّات والصِّفاتِ مسطورة فيها وكذا ما في تضاعيفِه من المواعظ والقصصِ وقيلَ الضَّميرُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وليس بواضحٍ(6/264)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
{أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آية} الهمزة للإنكارِ والنَّفيِ والواو للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه الماقم كأنَّه قيل أغفلوا عن ذلك ولم يكن لهم آيةٌ دالَّةٌ على أنَّه تنزيلٌ مّن ربِّ العالمينَ وأنه في زُبُر الأوَّلينَ على أنه لهم متعلق بالكون قُدِّم على اسمه وخبرهِ للإهتمام به أو بمحذوفٍ هو حالٌ من آيةً قُدِّمت عليها لكونها نكرةً وآية خبر للكون قُدِّم على اسمهِ الذي هو قوله تعالى {أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بني إسرائيل} لما مر مرارا من الاعتياء والتشويق إلى المؤخر أي أن يعرفوه بنعوتِه المذكورة في كُتبهم ويعرفُوا من أنزل عليه وقرئ تكن بالتَّأنيثِ وجعلت آيةٌ اسماً وأن يعلمه خبراً وفيه ضعفٌ حيث وقع النَّكرةُ اسماً والمعرفة خبراً وقد قيل في تكن ضمير القصة(6/264)
سورة الشعراء (198 203) وآية أنْ يعلمَه جملة واقعة موقعَ الخبرِ ويجوزُ أن يكون لهم آيةٌ هي جملة الشَّأنِ وأن يعلمه بدلاً من آية ويجوز مع نصبِ آية تأنيث تكُن كما في قوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قالوا وقرئ تعلمُه بالتَّاءِ(6/265)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
{وَلَوْ نزلناه} كما هو بنظمه الرَّائقِ المعجز {على بَعْضِ الأعجمين} الذين لا يقدرُون على التَّكلُّمِ بالعربيةِ وهو جمع أعجمِي على التَّخفيفِ ولذلك جُمع جمعَ السلامة وقرئ الأعجميينَ وفي لفظ البعضِ إشارةٌ إلى كونِ ذلك واحداً من عرض تلك الطَّائفةِ كائناً من كان(6/265)
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
{فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم} قراءةً صحيحة خارقة للعادات {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} مع انضمامِ إِعجازَ القراءة إلى إعجازِ المقروءِ لفرطِ عنادِهم وشدَّةِ شكيمتهم في المكابرةِ وقيل المعنى ولو نزَّلناه على بعض الأعجمين بلغة العجمِ فقرأَهُ عليهم ما كانُوا به مؤمنين لعدم فهمِهم واستنكافِهم من اتِّباع العجمِ وليس بذاكَ فإنَّه بمعزل من المناسبة لمقام بيان تمادِيهم في المكابرةِ والعنادِ(6/265)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} أي مثلَ ذلك السَّلْكِ البديعِ المذكورِ سلكناهُ أي أدخلنا القرآنَ {فِى قُلُوبِ المجرمين} ففهمُوا معانيه وعرَفوا فصاحتَه وأنه خارجٌ عن القُوى البشرَّية من حيث النَّظمُ المُعجزُ ومن حيث الإخبار عن الغيبِ وقد انضمَّ إليه اتِّفاقُ علماء أهل الكتبِ المنزلة قبله على تضمها للبشارة إنزاله وبعثةِ مَن أنزل عليه بأوصافِه فقوله تعالى(6/265)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
{لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيانِ أنَّهم لا يتأثَّرون بأمثال تلك الأمور الداعية إلى الإيمان به بل يستمرُّون على ما هم عليه {حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم} الملجئ إلى الإيمانِ به حين لا ينفعُهم الإيمانُ(6/265)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
{فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً} أي فجأةً في الدَّنيا والآخرةِ {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانِه(6/265)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)
{فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} تحسُّراً على ما فاتَ من الإيمانِ وتمنيَّاً للإمهالِ لتلاِفي ما فرَّطُوه وقيل معنى كذلك سلكناهُ مثل تلك الحالِ وتلك الصِّفةِ من الكفرِ به والتَّكذيبِ له وضعناه في قلوبِهم وقوله تعالى لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ في موقعِ الإيضاحِ والتَّلخيص له أو في موقعِ الحالِ أي سلكناهُ فيها غير مؤمنٍ به والأولُ هو الأنسبُ بمقام بيان غايةِ عنادِهم ومكابرتِهم مع تعاضدِ أدلَّة الإيمانِ وتآخذ مبادئ الهدايةِ والإرشادِ وانقطاعِ أعذارِهم بالكلِّية وقيل ضمير سلكناهُ للكُفر المدلولِ عليه بمَا قَبْلَهُ منْ قولِه تعالى مَّا كَانُواْ بِهِ مؤمنين ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسنِ ومجاهدٍ رحمهما الله تعالى أدخلنا(6/265)
سورة الشعراء [204 209] الشِّركَ والتَّكذيبَ في قلوب المجرمين(6/266)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
{أفبعذابنا يستعجلون} بقولهم أمطر عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وقولهم فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ونحوهِما وحالهم عند نزولِ العذابِ كما وصف من طلبِ الإنذارِ فالفاءُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقام أي أيكونُ حالُهم كما ذُكر من الاستنظارِ عند نزول العذابِ الأليمِ فيستعجلون بعذابِنا وبينهما من التَّنافي ما لا يخفى لى أحد وأيغفلون عن ذلك مع تحقُّقِه وتقرُّرهِ فيستعجلونَ الخ وإنَّما قُدمِّ الجارُّ والمجرورُ للإيذانِ بأنَّ مصبَّ الإنكارِ والتَّوبيخِ كون المستعجل به عذابَه تعالى مع ما فيهِ من رعايةِ الفواصلِ(6/266)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)
{أَفَرَأَيْتَ} لمَّا كانت الرُّؤيةُ من أقوى أسبابِ الإخبارِ بالشَّيء وأَشهرِها شاعَ استعمالُ أرأيت في معنى أخبرني والخطابُ لكلِّ من يصلُح له كائناً من كانَ والفاء لترتيب الاستخبار على قولهم هل نحن منظرون وما بينَهما اعتراض للتَّوبيخِ والتَّبكيتِ وهي متقدِّمةٌ في المعنى على الهمزةِ وتأخيرها عنها صورةً لاقتضاءِ الهمزةِ الصدارة كما هو رأي الجمهور أي فاخبرنِي {إِن متعناهم سِنِينَ} متطاولةً بطول الأعمار وطيب المعاش(6/266)
ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)
{ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ} من العذابِ(6/266)
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
{مَا أغنى عَنْهُمْ} أيُّ شيء أو أى أعناه أغنى عنهم {ما كانوا يُمَتَّعُونَ} أي كونُهم ممتَّعينَ ذلك التمتيعَ المديدَ عَلى أنَّ مَا مصدريةٌ أو ما كانُوا يمتَّعون به من متاعِ الحياةِ الدُّنيا على أنَّها موصولةٌ حذف عائدها وأيَّاً ما كان فالاستفهامُ الإنكار والنَّفي وقيل ما نافيةٌ أي لم يغن عنهم تمتعهم المتطاولُ في دفعِ العذابِ وتخفيفِه والأول هو الأَولى لكونِه أوفقَ لصورة الاستخبارِ وأدلَّ على انتفاءِ الإغ 2 باء على أبلغِ وجهٍ وآكدِه كأن كلَّ مَن مِن شأنِه الخطابُ قد كلِّف أنْ يخبر بأنَّ تمتيعهم ماذا أفادَهم وأي شيء أغنى عنُهم فلم يقدرْ أحدٌ على أنْ يخبر بشيءٍ من ذلك أصلاً وقرئ يمتعون من الإمتاعِ(6/266)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} من القُرى المهلكة {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} قد أنذروا أهلَها إلزاماً للحجَّةِ(6/266)
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
{ذِكْرِى} أي تذكرةً ومحلُّها النصب على العلَّةِ أو المصدر لأنَّها في معنى الإنذارِ كأنَّه قيل مذكرون ذكرى أو على أنَّه مصدرٌ مؤكد لفعل هو صفةٌ لمنذرون أي إلا لها منذرون يذكرونهم ذكرى أو الرَّفع على أنَّها صفةُ منذرون بإضمار ذوو أو بجعلِهم ذكرى لإمعانِهم في التَّذكرةِ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ(6/266)
سورة الشعراء [210 215] والجملةُ اعتراضيةٌ وضميرُ لها للقُرى المدلولِ عليها بمفردِها الواقع في حيِّز النَّفي على أنَّ معنى أن للكل منذرين أعمُّ من أن يكونَ لكلِّ قريةٍ منها منذر واحد أو أكثر {وَمَا كُنَّا ظالمين} فنهلك غيرَ الظَّالمينَ وقيل الإنذارُ والتعبيرُ عن ذلك بنفي الظالمية مع أنه إهلاكَهم قبل الإنذارِ ليس بظلمٍ أصلاً على ما تقرر من قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ لبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلكَ بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنْهُ تعالَى من الظلم وقد مرَّ في سورةِ آلِ عمرانَ عند قولِه تعالى وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ(6/267)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} ردٌّ لما زعمه الكفرةُ في حقِّ القرآنِ الكريمِ من أنه من قبيل ما يُلقيه الشَّيطانُ على الكَهنةِ بعد تحقيقِ الحقِّ بيان أنه نزل به الرُّوحُ الأمينُ(6/267)
وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)
{وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ} أي وما يصِحّ وما يستقيمُ لهم ذلك {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ذلك أصلاً(6/267)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
{إِنَّهُمْ عَنِ السمع} لكلامِ الملائكة {لمعزولون} لانتفاء المشاركةِ بينهم وبين الملائكةِ في صفاء الذوات الاستعداد لقبولِ فيضان أنوار الحقِّ والانتقاش بصور العلومِ الرَّبانيةِ والمعارف النُّورانيةِ كيف لا ونفوسُهم خبيثةٌ ظلمانية شريرةٌ بالذَّاتِ غير مستعدة إلا لقبولِ ما لا خيرَ فيه أصلاً من فنُون الشُّرورِ فمن أينَ لهُم أنْ يحومُوا حولَ القرآن الكريم المنطوي على الحقائقِ الرَّائقةِ الغيبَّيةِ التي لا يمكن تلقِّيها إلا من الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام(6/267)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
{فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخر فَتَكُونَ مِنَ المعذبين} خُوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم مع ظهور استحالة صدور المنهى عنه عنه صلى الله عليه وسلم تهييجاً وحثاً على ازديادِ الإخلاصِ ولطفاً لسائرِ المكلَّفين ببيانِ أنَّ الإشراكَ من القُبح والسُّوء بحيث يُنهى عنه من لا يمكنُ صدورُه عنه فكيف بمن عداهُ(6/267)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
{وَأَنذِرِ} العذابَ الذي يستتبعهُ الشِّركُ والمُعاصي {عَشِيرَتَكَ الأقربين} الأقربَ منهم فالأقربَ فإنَّ الإهتمامَ بشأنِهم أهمُّ رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ صعدَ الصفا وناداهم فحذا فَخِذاً حتى اجتمعُوا إليه فقال لو أخبرتُكم أنَّ بسفح هذا الجبلِ خيلاً أكنتُم مُصدِّقِيّ قالوا نعمَ قال فإنيِّ نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد وروى أنه قال يا بنى عبدِ المطَّلبِ يا بني هاشمِ يا بني عبدِ منافٍ افتدُوا أنفسَكم من النَّارِ فإنِّي لا أُغني عنكم شيئاً ثم قالَ يا عائشةُ بنت أبي بكرٍ ويا حفصةُ بنتَ عمرَ ويا فاطمةُ بنتَ محمَّدٍ ويا صفيَّةُ عمَّة محمَّدٍ اشترينَ أنفسكنًّ من النَّارِ فإنِّي لا أُغني عنكُنَّ شيئاً(6/267)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
{واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك من المؤمنين}(6/267)
سورة الشعراء [216 223] أي ليِّن جانَبك لهم مستعارٌ من حال الطَّائرِ فإنَّه إذا أرادَ أنْ ينحطَّ خفضَ جناحَه ومن للتَّبيين لأنَّ من اتبَّع أعمّ ممَّن اتبع لدينِ أو غيره أو للتَّبعيض على أن المراد بالمؤمنينَ المشارفون للإيمانِ أو المصدِّقون باللَّسانِ فحسب(6/268)
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
{فَإِنْ عَصَوْكَ} ولم يتَّبعوك {فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ} أي ممَّا تعملُون أو من أعمالكم(6/268)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
{وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم} الذي يقدرُ على قهرِ أعدائِه ونصرِ أوليائِه يكفِك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم وقرئ فتوكل على أنَّه بدلٌ من جواب الشَّرطِ(6/268)
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)
{الذى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي إلى التَّهجد(6/268)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
{وَتَقَلُّبَكَ فِى الساجدين} وتردُّدك في تصفُّحِ أحوالِ المتهجديَن كما روي أنه لما نسخ فرضُ قيام اللَّيلِ طاف صلى الله عليه وسلم تلك الليلةَ ببيوت أصحابِه لينظرَ ما يصنعون حرصاً على كثرةِ طاعتِهم فوجدها كبيوتِ الزَّنابيرِ لمَا سمع منها من دندنِتهم بذكر الله تعالى والتِّلاوةِ أو تصرّفَك فيما بين المصلِّين بالقيامِ والرُّكوعِ والسُّجودِ والقُعودِ إذا أممتهم وإنَّما وصفَ الله تعالى ذاتَه بعلمِه بحاله صلى الله عليه وسلم التي بها يستأهلُ ولايتَه بعد أنْ عبَّر عنه بما ينبئ عن قهرِ أعدائِه ونصرِ أوليائِه من وصفي العزيزِ الرَّحيمِ تحقيقاً للتَّوكلِ وتوطيناً لقلبه عليه(6/268)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
{إِنَّهُ هُوَ السميع} لما تقوله {العليم} بما تنويه وتعلمه(6/268)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)
{هَلْ أُنَبّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين} أي تتنزلُ بحذف إحدى التامين وهو استئناف مسوق لبيان استحالةِ تنزُّلِ الشيَّاطينِ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم بعد بيانِ امتناع تنزُّلهم بالقرآنِ ودخولُ حرفِ الجرِّ على مَن الاستفهاميةِ لما أنَّها ليستْ موضوعةً للاستفهامِ بل الأصلُ أمن فحذف حرفُ الاستفهامِ واستمر الاستعمالُ على حذفِه كما حُذف من هَلْ والأصل أهَلْ وقوله تعالى(6/268)
تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
{تَنَزَّلُ على كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} قصرٌ لتنزُّلهم على كل من اتَّصف بالإفكِ الكثيرِ والإثمِ الكبيرِ من الكهنةِ والمتنبّئة وتخصيصٌ له بهم بحيثُ لا يتخطَّاهم إلى غيرِهم وحيثُ كانت ساحة رسول الله صلى الله عليه وسلم منزَّهةً عن أنْ يحومَ حولَها شائبةُ شيءٍ من تلك الأوصافِ اتَّضح استحالةُ تنزلهم عليه صلى الله عليه وسلم(6/268)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
{يُلْقُون} أي الأفَّاكون {السمع}(6/268)
سورة الشعراء [224] إلى الشَّياطينِ فيتلَّقَون منهم أوهاماً وأماراتٍ لنقصان علمهم فيضمُّون إليها بحسبِ تخيلاتِهم الباطلةِ خرافاتٍ لا يُطابق أكثرُها الواقعَ وذلك قوله تعالى {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} أي فيما قالُوه من الأقاويلِ وقدور في الحديثِ الكلمة يخطفُها الجنيُّ فيقرُّها في أذنِ وليَّهِ فيزيد فيها أكثرَ من مائةِ كذبةٍ أو يلقون السَّمعَ أي المسموعَ من الشياطين إلى الناس وأكثرُهم كاذبون يفترُون على الشَّياطينِ ما لم يوحوا إليهم والأظهر أنَّ الأكثريةَ باعتبار أقوالهم على معنى أنَّ هؤلاء قلَّما يصدُقون فيما يحكون عن الجنيِّ وأما في أكثره فهم كاذبونَ ومآلُه وأكثرُ أقوالِهم كاذبةٌ لا باعتبار ذواتِهم حتى يلزمَ من نسبة الكذبِ إلى أكثرهم كونُ أقلِّهم صادقينَ على الإطلاقِ وليس معنى الأفَّاكِ من لا ينطقُ إلا بالإفكَ حتَّى يمتنعَ منه الصِّدقُ بل من يكثُر الإفكَ فلا ينافيه أن يصدقَ نادراً في بعض الأحايين وقيل الضَّميرُ للشَّياطينِ أي يلقون السَّمعَ أي المسموعَ من الملأ الاعلى قبل أنْ رجموا من بعضِ المغيبات إلى أوليائِهم وأكثرُهم كاذبونَ فيما يُوحون به إليهم إذ لا يسمعُونهم على نحو ما تكلَّمت به الملائكةُ لشرارتِهم أو لقصورِ فهمهم أو ضبطهم أو إفهامِهم ولا سبيلَ إلى حملِ إلقاء السَّمعِ على تسمُّعهم وإنصاتِهم إلى الملأ الأعلى قبل الرَّجمِ كما جَوَّزه الجمهورُ لما أن يلقون كما صرَّحوا به إما حالٌ من ضمير تنزل مفيدة لمقارنة التنزل للإلقاءِ أو استئناف مبيِّنٌ للغرض من التَّنزلِ مبنيٌّ على السَّؤالِ عنه ولا ريبَ في أن إلقاء السَّمعِ إلى الملأ الأعلى بمعزلٍ من احتمال أنْ يقارن التَّنزل أو يكون غرضاً منه لتقدُّمهِ عليه قطعاً وإنَّما المحتملُ لهما الإلقاء بالمعنى الأول فالمعنى على تقدير كونِه حالاً تنزل الشَّياطينِ على الأفَّاكين ملقين إليهم ما سمعوه من الملأ الأ على وعلى تقدير كونه فهو وصفة لكلِّ أفَّاكٍ لأنَّه في معنى الجمعِ سواء أُريد بإلقاء السَّمعِ الإصغاءُ إلى الشَّياطينِ أو إلقاء المسموعِ إلى النَّاس ويجوزُ أنْ يكونَ استئنافُ إخبارٍ بحالِهم على كِلا التَّقديرينِ لِما أنَّ كُلاًّ من تلقيهم من الشَّياطينِ وإلقائِهم إلى الناسِ يكون بعد التَّنزيلِ وأنْ يكونَ استئنافاً مبنيَّاً على السُّؤالِ على التَّقديرِ الأوَّلِ فقط كأنَّه قيل ما يفعلونَ عند تنزلِ الشَّياطينِ عليهم فقيل يُلقون إليهم أَسماعَهم ليحفظُوا ما يُوحون به إليهم وقولُه تعالى وأكثرُهم كاذبونَ على التَّقدير الأوَّلِ استئنافٌ فقط وعلى الثَّاني يحتملُ الحاليةَ من ضميرِ يُلقون أي ما سمِعُوه من الشَّياطين إلى النَّاس والحالُ أنهم في أكثرِ أقوالِهم كاذبونَ فتدبَّرْ(6/269)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
{والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} استئنافٌ مسوقٌ لإبطال ما قالُوا في حقِّ القُرآنِ العظيمِ من أنه من قبيل الشِّعرِ وأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء ببيان حال الشعراء المنافية لحاله صلى الله عليه وسلم بعد إبطالِ ما قالُوا أن من قبيلِ ما يلقي الشَّياطينُ على الكهنةِ من الأباطيلِ بما مرَّ من بيانِ أحوالِهم المضادة لأحوالِه صلى الله عليه وسلم والمعنى أنَّ الشُّعراءَ يتَّبعُهم أي يُجاريهم ويسلكُ مسلكَهم ويكونُ من جُملتهم الغاوون الضَّالُّون عن السَّنَنِ الحائرون فيما يأتُون وما يَذَرُون لا يستمرُّون على وَتيرةٍ واحدة الأفعالِ والأقوالِ والأحوالِ لا غيرُهم من أهلِ الرُّشدِ المهتدين إلى(6/269)
سورة الشعراء (225 227) طريقِ الحقِّ الثَّابتينِ عليهِ وقوله تعالى(6/270)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ} استشهادٌ على أنَّ الشُّعراء إنَّما يتبعُهم الغَاوُون وتقريرٌ له والخطابُ لكلِّ من تتأتَّي منه الرُّؤيةُ للقصدِ إلى أنَّ حالَهم من الجَلاءِ والظُّهورِ بحيثُ لا تختصُّ برؤيةِ راءٍ دُونَ راءٍ أي ألم تَر أنَّ الشُّعراءَ في كلِّ وادٍ من أوديةِ القيلِ والقالِ وفي كلِّ شِعبٍ من شِعابِ الوهمِ والخيالِ وفي كلِّ مسَلكٍ من مسالك الغَيِّ والضَّلالِ يهيمونَ على وجوهِهم لا يهتدون إلى سبيلٍ مُعيَّنٍ من السُّبلِ بل يتحيرَّون في فيافي الغَوايةِ والسَّفاهةِ ويتيهُون في تيه المجُون والوقاحِة دينُهم تمزيقُ الأعراضِ المحميَّةِ والقَدحُ في الأنسابِ الطَّاهرةِ السَّنيَّةِ والتسيب بالحرامِ والغَزلُ والإبتهارُ والتَّرددُ بين طرفي الإفراطِ والتفريطِ في المدحِ والهجاءِ(6/270)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} من الأفاعيلِ غيرَ مُبالين بما يستتبعُه من اللوائم فيكف يُتوهَّم أنْ يتبعَهم في مسلكِهم ذلكَ ويلتحقَ بهم وينتظمَ في سلكهم مَن تنزَّهت ساحتُه عن أنْ يحومَ حولها شائبةُ الإتصافِ بشيءٍ من الأمورِ المذكُورةِ واتَّصف بمحاسنِ الصِّفاتِ الجليلةِ وتخلَّق بمكارمِ الأخلاقِ الجميلةِ وحازَ جميعَ الكمالاتِ القدسيَّةِ وفاز بجُملة الملكاتِ الأنسيَّةِ مُستقراً على المنهاجِ القويمِ مستمرَّاً على الصِّراطِ المستقيمِ ناطقاً بكلِّ أمرٍ رشيدٍ دَاعياً إلى صراطِ العزيزِ الحميدِ مؤيَّداً بمعجزاتٍ قاهرةٍ وآياتٍ ظاهرةٍ مشحونةٍ بفنونِ الحكمِ الباهرةِ وصنوفِ المعارفِ الزَّاهرةِ مستقلَّةٍ بنظمٍ رائقٍ أعجز كل منطيق ماهرٍ وبكَّت كلَّ مُفلقٍ ساحرٍ هذا وقد قيل في تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن أن يكونَ من الشعراء أن أباع الشُّعراء الغَاوون وأتباعَ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ليسُوا كذلك ولا ريبَ في أنَّ تعليلَ عدمِ كونه صلى الله عليه وسلم منهم بكون أتباعه صلى الله عليه وسلم غير غاوين مما ليا يليقُ بشأنِه العالِي وقيل الغَاوُون الراوُون وقيل الشَّياطينُ وقيل هم شُعراء قُريشٍ عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب المَخزوميُّ ومسافعُ بنُ عبدِ منافٍ وأبُو عَّزةَ الجُمَحيُّ ومن ثقيفٍ أميَّةُ بنُ أبي الصَّلتِ قالوا نحنُ نقول مثل قول نحمد صلى الله عليه وسلم وقرئ والشُّعراءَ بالنَّصبِ على إضمارِ فعلِ يفسره الظاهر وقرئ يتْبَعُهم على التَّخفيفِ ويتبعْهم بسكون العين تشبها لبعه بعضد(6/270)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
{إلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وانتصروا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} استثناءٌ للشُّعراء المؤمنينَ الصَّالحينَ الذينُ يكثرون ذكرَ الله عزَّ وجلَّ ويكونُ أكثرُ أشعراهم في التَّوحيدِ والثَّناءِ على الله تعالى والحثِّ على طاعتِه والحكمةِ والموعظةِ والزُّهُدِ في الدُّنيا والتَّرغيبِ عن الركونِ إليها والزَّجرِ عن الاغترارِ بزخارفِها والافتتانِ بملاذِّها الفانية ولو وقع منهم في بعضِ الأوقات هجوٌ وقع ذلك منهم بطريقِ الانتصارِ ممَّن هجاهُم وقيل المرادُ بالمستثنَينَ عبدُ اللَّه بنِ رَواحةَ وحسَّانُ بنُ ثابتٍ وكعبُ بنُ مالكٍ وكعبُ بنُ زُهيرِ بنِ أبي(6/270)
سُلْمى والذين كانُوا يُنافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكافحون هُجاةَ قُريشٍ وعن كعبِ بنِ مالكٍ رضي الله تعالى عنْهُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له اهجهم فو الذي نفسِي بيدِه لهُو أشدُّ عليهم من النَّبلِ وكان يقولُ لحسَّانَ قُل ورُوحُ القُدُسِ مَعَك {وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} تهديد شديد وعيد أكيدٌ لما في سيعلمُ من تهويلٍ متعلَّقةِ وفي الذين ظلموا من الإطلاقِ والتعميم وفي أيَّ منقلبٍ ينقلبون من الإبهامِ والتهويلِ وقد قاله أبُو بكرٍ لعمر رضي الله عنها حين عهد غليه وقرئ أي مُنفلتٍ ينفلتونَ من الانفلاتِ بمعنى النجاةِ والمعنى أنَّ الظَّالمين يطمعُون أنْ ينفلتُوا من عذابِ الله تعالى وسيعلمُون أنْ ليس لهم وجهٌ من وجوهِ الانفلات عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سورةَ الشُّعراءِ كان له منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعدد من صدَّقَ بنوحٍ وكذَّبَ به وهودٍ وصالحٍ وشُعيبٍ وإبراهيمَ وبعددِ من كذَّب بعيسى وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم سورة النمل مكية وهي ثلاث أو أربع وتسعون آية بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم(6/271)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
{طس} بالتفخيم وقرئ بالإمالةِ والكلامُ فيهِ كالذي مرَّ في نظائرِه من الفواتحِ الشريفةِ ومحلَّه على تقديرِ كونِه اسماً للسورةِ وهو الأظهر الأشهر الرفع على أنه خبر لمبتدأٍ محذوفٍ أي هذا طس أي مسمَّى بهِ والإشارةُ إليهِ قبلَ ذكرِه قد مرَّ وجهُها في فاتحةِ سورةِ يونسَ وغيرِها ورفعُه بالابتداءِ على أنَّ ما بعده خبره ضعيفٌ لما ذُكر هناك {تِلْكَ} إشارةٌ إلى نفسِ السُّورةِ لأنَّها التي نوَّهتْ بذكرِ اسمِها لا إلى آياتِها لعدمِ ذكرِها صريحاً لأنَّ إضافتَها إليها تأبى إضافتَها إلى القُرآنِ كما سيأتي وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان ببعد منزلِته في الفضلِ والشرفِ ومحله الرفعُ على الابتداء خبره {آيات القرآن} والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما أفادَه التسميةُ من نباهةِ شأنِ المسمَّى والقرآنُ عبارةٌ عن الكلِّ أو عن الجميعِ المنزلِ عند نزولِ السُّورةِ حسبَما ذُكر في فاتحة فاتحةِ الكتابِ أي تلك السورةُ آياتُ القرآنِ المعروفِ بعلوِّ الشأنِ أي بعضٌ منه مترجمٌ مستقلٌّ باسمٍ خاصَ {وكتاب} أي كتابٌ عظيمِ الشأنِ {مُّبِينٌ} مظهرٌ لما في تضاعيفهِ من الحكمِ والأحكامِ وأحوالِ الآخرةِ التي من جُملتِها الثوابُ والعقابُ أو لسبيلِ الرشدِ والغيِّ أو فارقٍ بين الحقِّ والباطلِ والحلالِ والحرامِ أو ظاهرُ الإعجازِ على أنه من أبان بمعنى بانَ ولقد فخَّم شأَنه الجليلَ بما جَمع فيه من وصفِ القرآنيةِ المنبئةِ عن كونِه بديعاً في بابهِ ممتازاً عن غيرِه بالنظمِ المعجزِ كما يُعربُ عنه قوله تعالى قرآنا عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ ووصفُ الكتابيةِ المعربةِ عن اشتمالُه على صفاتِ كمالِ الكتبِ الإلهيةِ فكأنه كلُّها وقدَّم الوصفَ الأولَ ههنا نظراً إلى تقدمِ حالِ القرآنية على(6/271)
سورة النمل (25) حالِ الكتابيةِ وعكسَ في سورةِ الحجرِ نظراً إلى ما ذُكر هناك من الوجهِ وما قيلَ من أنَّ الكتابَ هو اللوحُ المحفوظُ وإبانته أنَّه خطَّ فيهِ ما هو كائنٌ فهو يبينه للناظرينَ فيه لا يساعدُه إضافةُ الآياتِ إليه إذ لا عهدَ باشتمالِه على الآياتِ ولا وصفِه بالهداية والبشارة إذا هُما باعتبارِ إبانتِه فلا بُدَّ من اعتبارِها بالنسبةِ إلى النَّاسِ الذين من جملتهم المؤمنون الا إلى الناظرين فيه وقرئ وكتابُ بالرفعِ على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامَه أي وآياتُ كتابٍ مبينٍ(6/272)
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
{هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} في حيز النصبِ على الحالية من الآياتِ على أنَّهما مصدرانِ أُقيما مُقامَ الفاعلِ للمبالغةِ كأنَّهما نفسُ الهُدَى والبشارةِ والعاملُ معنى الإشارة أى هادية ومبشرة أو الرفع على أنَّهما بدلانِ من الآياتِ أو خبرانِ آخرانِ لتلك أو لمبتدأٍ محذوفٍ ومعنى هدايتها لهم وهمُ مهتدون أنَّها تزيدُهم هُدى قال تعالى فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأمَّا معنى تبشيرِها إيَّاهُم فظاهرٌ لأنَّها تبشِّرهم برحمةٍ من الله ورضوان وجنَّاتٍ لهم فيها نعيمٌ مقيمٌ وقولُه تعالى(6/272)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
{الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة} صفةٌ مادحةٌ لهم وتخصيصُهما بالذكرِ لأنَّهما قرينَتا الإيمانِ وقطر العباداتِ البدنيَّةِ والماليَّةِ مستتبعانِ لسائرِ الأعمالِ الصَّالحةِ وقولُه تعالى {وَهُم بالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ} جملةٌ اعتراضيةٌ كأنَّه قيلَ وهؤلاء الذينَ يُؤمنون ويعملُون الصَّالحاتِ هم الموقنون بالآخرة حقَّ الإيقانِ لا مَن عداهُم لأنَّ تحمُّلَ مشاقِّ العباداتِ لخوفِ العقابِ ورجاءِ الثَّوابِ أو هُو مِن تتمةِ الصِّلةِ والواوُ حالَّيةٌ أو عاطفةٌ له على الصِّلةِ الأُولى وتغييرُ نظمه الدلالة على قوَّةِ يقينهم وثباتِه وأنَّهم أوحديُّون فيه(6/272)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
{إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} بيانٌ لأحوالِ الكَفَرة بعدَ بيانِ أحوالِ المُؤمنينَ أي لا يُؤمنون بها وبما فيها من الثَّوابِ على الأعمالِ الصَّالحةِ والعقابِ على السَّيِّئاتِ حسبما ينطقُ به القرآنُ {زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم} القبيحةَ حيثُ جعلناها مشتهاةً للطَّبعِ محبوبةً للنَّفسِ كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم حُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ أو الأعمالَ الحسنةَ ببيانِ حُسنها في أنفسِها حالاً واستتباعِها لفنونِ المنافعِ مآلاً وإضافتُها إليهم باعتبارِ أمرِهم بها وإيجابِها عليهم {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} يتحيرون ويتردَّدون على التَّجددِ والاستمرارِ فمع الاشتغالِ بها والانهماكِ فيها من غيرِ ملاحظةٍ لما يتبعها من نفع وضرَ أو في الضَّلالِ والإعراض عنها والفاء على الأول لترتيبِ المسبَّبِ على السَّببِ وعلى الثَّاني لترتيبِ ضدِّ المُسبَّبِ على السَّببِ كما في قولك وعظتُه فلم يتَّعظ وفيه إيذانٌ بكمالِ عتوِّهم ومكابرتِهم وتعكيسهم في الأمور(6/272)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين وهو مبتدأ خبرُه الموصولُ بعدَهُ أَيْ أولئكَ الموصُوفون بالكُفر والعمهِ {الذين لَهُمْ سُوء العذاب}(6/272)
أي في الدَّنيا كالقتلِ والأسرِ يومَ بدرٍ {وَهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون} أي أشدُّ النَّاس خُسراناً لفواتِ الثَّوابِ واستحقاقِ العقابِ(6/273)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
{وإنك لتلقى القرآن} كلام مستأنفٌ قد سيق بعد بيان بعض شئون القرآن الكريمِ تمهيداً لما يعقبُه من الأقاصيصِ وتصديرُه بحرفَيْ التَّأكيدِ لإبراز كمالِ العنايةِ بمضمونِه أي لتؤتاه بطريق التَّلقيةِ والتَّلقينِ {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أيْ أيِّ حكيمٍ وأيِّ عليمٍ وفي تفخيمهما تفخيمٌ لشأن القرآن وتنصيصٌ على علوِّ طبقته صلى الله عليه وسلم في معرفتِه والإحاطةِ بما فيه منْ الجلائلِ والدقائقِ فإنَّ من تلقى العلومَ والحكمَ من مثل ذلك الحكيمِ العليمِ يكون عَلَماً في رصانةِ العلمِ والحكمةِ والجمع بينهما مع دخولِ العلم في الحكمةِ لعموم العلمِ ودلالة الحكمة على إتقانِ الفعلِ وللإشعارِ بأنَّ ما في القرآنِ من العلوم منها منا هو حكمةٌ كالعقائدِ والشَّرائعِ ومنها ما ليسَ كذلك كالقصصِ والأخبارِ الغيبَّية وقولُه تعالى(6/273)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
{إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ} منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأُمر بتلاوةِ بعضٍ من القرآن الذي يلقاه صلى الله عليه وسلم من لَدْنه عزَّ وجلَّ تقريراً لما قبله وتحقيقاً له أي أذكُر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسَّلامُ لأهلِه في وادي طوى وقد غشيتُهم ظلمةُ اللَّيلِ وقدَح فأصلَدَ زنده فبدا له من جانب الطور نار {إِنّى آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} أي عن حال الطَّريقِ وقد كانوا ضلوه والسين الدلالة على نوعِ بُعدٍ في المسافةِ وتأكيد الوعد والجمع إنْ صحَّ أنَّه لم يكن معَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إال امرأتُه لما كنى عنها بالأهلِ أو للتَّعظيمِ مبالغةً في التَّسليةِ {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بتنوينهما على أن الثَّاني بدلٌ من الأَوَّلِ أو صفة له لأنَّه بمعنى مقبوسٍ أي بشعلة نارٍ مقبوسةٍ أي مأخوذه من أصلها وقرئ بالإضافةِ وعلى التَّقديرينِ فالمرادُ تعيينُ المقصودِ الذي هو القَبس الجامعُ لمنفعتي الضِّياءِ والاصطلاءِ لأنَّ من النَّار ما ليس بقبسٍ كالجمرِ وكلتا العُدَّتينِ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بطريق الظنِّ كما يفصحُ عن ذلك ما في سورةِ طه من صيغة التَّرجى والتَّرديدُ للإيذانِ بأنَّه إن لم يظفرْ بهما لم يعدم أحدهما بناءً على ظاهرِ الأمرِ وثقةً بسُنَّةِ الله تعالى فإنَّه تعالى لا يكادُ يجمع على عبده حرمانينِ {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} رجاءَ أنْ تستدفئوا بها والصِّلاءُ النَّارُ العظيمةُ(6/273)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
{فَلَمَّا جَاءهَا نُودِىَ} من جانب الطُّورِ {أَن بُورِكَ} معناه أي بُورك على أن مفسرة لما في النِّداءِ من معنى القولِ أو بأن بروك على أنها مصدرية حذف عنها الحار جرياً على القاعدة المستمرَّةِ وقيل مخفَّفةٌ من الثَّقيلة ولا ضير فلي فقدان التعويض بلا أوقد أو السِّينِ أو سوفَ لما أنَّ الدُّعاء يخالفُ غيرَه في كثير من الأحكامِ {مَن فِى النار وَمَنْ حَوْلَهَا} أي من في مكانِ النَّارِ وهي البقعةُ المباركةُ المذكورةُ في قوله سبحانه نُودي من(6/273)
سورة النمل (910) شاطئ الوادي الأيمنِ في البقعة المباركة ومن حولَ مكانها وقرئ تباركتِ الأرضُ ومَن حولَها والظَّاهرُ عمومُه لكلِّ مَن في ذلك الوادِي وحواليه من أرض الشَّامِ الموسومةِ بالبركات لكونها مبعثَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلام وكفاتهم أحياءً وأمواتاً ولا سيَّما تلك البقعةُ التي كلَّم الله تعالى فيها مُوسى وقيل المرادُ موسى والملائكةُ الحاضرونَ وتصديرُ الخطابِ بذلك بشارةٌ بأنَّه قد قضى له أمر عظيمٌ دينيٌّ تنتشر بركاتُه في أقطارِ الشَّامِ وهو تكليمُه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام واستنباؤه له وإظهار المعجزات على يدِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ {وسبحان الله رَبّ العالمين} تعجيبٌ لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من ذلك وإيذان بأن ذلك مر يده ومكونُه ربُّ العالمينَ تنبيهاً على أنَّ الكائنَ من جلائل الأمور وعظائم الشئون ومن أحكامِ تربيته تعالى للعالمين(6/274)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
{يا موسى إِنَّهُ أَنَا الله} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان آثارِ البركةِ المذكورة والضمير إما للشأن وأنا اللَّهُ جملة مفسِّرةٌ له وإمَّا راجعٌ إلى المتكلِّمِ وأنا خبرُه والله بيانٍ له وقولُه تعالى {العزيز الحكيم} صفتانِ لله تعالى ممهدتانِ لما أريد إظهارُه على يدِه من المعجزاتِ أى أما القويُّ القادرُ على ما لا تناله الأوهامُ من الأمورِ العظامِ التي من جُملتها أمرُ العصا واليدُ الفاعل كلَّ ما أفعله بحكمةٍ بالغة وتدبير رصين(6/274)
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
{وَأَلْقِ} عطف على بُورك منتظمٌ معه في سلك تفسير النِّداءِ أي نُودي أنْ بُورك وأن ألقِ {عَصَاكَ} حسبما نطقَ به قولُه تعالى وأنْ ألقِ عصاك بتكريرِ حرفِ التَّفسير كما تقول كتبتُ إليه أنْ حُجَّ وأنِ اعتمرْ وإن شئتَ أن حجَّ واعتمرْ والفاء في قوله تعالى {فلما رآها تهتز} فصيحة تفصيح عن جملة قدد حُذفت ثقةً بظهورها ودلالةً على سرعةِ وقوع مضمونِها كما في قوله تعالى فلما رأينه أكبرنه بعد قوله تعالى اخرج عَلَيْهِنَّ كأنه قيل فألقاها فانقلب حيةً تسعى فأبصرَها فلَّما أبصرها متحركةً بسرعة واضطراب قوله تعالى {كَأَنَّهَا جَانٌّ} أي حيَّةٌ خفيفة سريعة الحركة جملة حالية إما من مفعول رأى مثل تهتز كمَا أُشير إليهِ أو من ضميرِ تهتز على طريقة التداخل وقرئ جأن على لغةِ مَنْ جدَّ في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ {ولى مُدْبِراً} من الخوفِ {وَلَمْ يُعَقّبْ} أي لم يرجعْ على عقبةِ مِن عقّب المقاتلُ إذا كرَّ بعد الفرِّ وإنما اعتراهُ الرُّعب لظنِّه أن ذلك لأمر أريد به كما ينبئ عنه قوله تعالى {يا موسى لاَ تَخَفْ} أي من غيري ثقةً بي أو مطلقاً لقوله تعالى {إِنّى لا يخاف لدى المرسلون} فإنَّه يدلُّ على نفيِ الخوفِ عنهم مُطلقاً لكن لا في جميعِ الأوقاتِ بل حين يُوحى إليهم كوقتِ الخطابِ فإنَّهم حينئذٍ مستغرقون في مطالعة شئون الله عزَّ وجلَّ لا يخطرُ ببالِهم خوفٌ من أحدٍ أصلاً وأما في سائرِ الأحيانِ فهم أخوفُ النَّاسِ منه سبحانَه أو لا يكون لهم عندي سوءُ عاقبة ليخافُوا منه(6/274)
سورة النمل (11 14)(6/275)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
{إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} استثناءٌ منقطع استدرك به ما عسى يختلِجُ في الخلد من نفي الخوفِ عن كلِّهم مع أنَّ منهم مَنْ فرطت منه صغيره ما مما يجوز صدورُه عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنَّهم وإنْ صدرَ عنهم شيءٌ من ذلك فقد فعلوا عقيبه ما يبطلُه ويستحقُّون به من الله تعالى مغفرةً ورحمةً وقد قصد به التَّعريض بما وقعَ من موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من وكزهِ القبطيَّ والاستغفارِ وتسميتُها ظُلماً لقوله صلى الله عليه وسلم رب إني ظلمت نفسي فاغفرْ لي فغفرَ له(6/275)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} لأنَّه كان مدرعةَ صوفٍ لا كم لها وقيل الجيبُ القميصُ لأنَّه يُجاب أي يُقطع {تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء} أي آفة كبر ص ونحوه {في تسع آيات} في جُملتها أو معها على أنَّ التِّسعَ هي الفَلْقُ والطوفانُ والجَرادُ والقُمّلُ والضفادعُ والدَّمُ والطَّمسةُ والجَدبُ في بواديهم والنُّقصان في مزارعِهم ولمن عدَّ العصَا واليدَ من التسعِ أن يعدَّ الأخيرين واحداً ولا يعدُّ الفَلْق منها لأنه لم يُبعث به إلى فرعونَ أو اذهب في تسع آيات على أنه استئنافٌ بالإرسالِ فيتعلَّق به {إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} وعلى الأولين يتعلَّق بنحو مبعوثاً أو مرسلاً {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} تعليل للإرسالِ أي خارجين عن الحدود في الكفرِ والعُدوان(6/275)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
{فلما جاءتهم آياتنا} وظهرتْ على يدِ مُوسى {مُبْصِرَةً} بينة اسم فاعلِ أطلق على المفعول إشعاراً بأنَّها لفرطِ وضوحِها وإنارتِها كأنَّها تُبصر نفسَها لو كانت ممَّا يبُصر أو ذاتُ تبصُّرٍ من حيث أنها تهدي والعمي لا تهتدي فضلاً عن الهدايةِ أو مبصرة كلَّ مَن ينظر إليها ويتأمَّلُ فيها وقرئ مَبْصرة أي مكاناً يكثُر فيه التَّبصرُ {قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} واضحٌ سحريته(6/275)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
{وَجَحَدُواْ بِهَا} أي كذَّبوا بها {واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} الواو للحالِ أي وقد استيقنتها أى علمتها أنفسه علماً يقينياً {ظُلْماً} أي للآياتِ كقوله تعالى بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ ولقد ظلُموا بها أيَّ ظلم حيث حطُّوها عن رتُبتها العاليةِ وسمَّوها سحراً وقيل ظُلماً لأنفسِهم وليس بذاك {وَعُلُوّاً} أي استكباراً عن الإيمان بها كقوله تعالى والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها وانتصابهما إما على العلَّةِ من جحدوا بها أو على الحاليةِ من فاعله أي جحدُوا بها ظالمين لها مستكبرين عنها {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} من الإغراقِ على الوجهِ الهائل الذي هو عبرةٌ للعالمين وإنَّما لم يذكر تنبيهاً على أنَّه عرضة لكل ناظر مشهور فيما بين كل بادٍ وحاضرٍ(6/275)
سورة النمل (15 16)(6/276)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
{ولقد آتينا داود وسليمان عِلْماً} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما سبق من أنه صلى الله عليه وسلم يلقى القرآن من لدن حكيمٍ عليمٍ فإنَّ قصَّتهمَا عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ من جملة القرآنِ الكريمِ لُقّيه صلى الله عليه وسلم من لدنه تعالى كقصَّةِ موسى عليه الصلاة والسلام وتصديرُه بالقسمِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِه أي آتينا كل واحد منهما طائفةً من العلم لائقةً به من علمِ الشرَّائعِ والأحكامِ وغير ذلك مما يختصُّ بكلَ منهما كصنعةِ لبوسٍ ومنطقِ الطَّيرِ أو علماً سنياً عزيزاً {وَقَالاَ} أي قال كلُّ واحد منهما شُكراً لما أوتيه من العلمِ {الحمد لِلَّهِ الذي فضلنا} بما أتاناه من العلمِ {على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} على أنَّ عبارةَ كلَ منهما فضَّلني إلا أنَّه عبَّر عنهما عند الحكايةِ بصيغة المتكلِّم مع الغير إيجازاً فإن حكايةَ الأقوالِ المتعدِّدة سواء كانتْ صادرةً عن المتكلِّم أو عن غيره بعبارةٍ جامعة للكُلِّ مما ليس بعزيزٍ ومن الأوَّلِ قوله تعالى يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا وقد مرَّ في سورةِ قد أفلح المؤمنون وبهذا ظهر حسنُ موقع العطفِ بالواو إذ المتبادر من العطفِ بالفاء ترتبُ حمدِ كلَ منهما على إيتاءِ ما أوتي كلٌّ منهما لا على إيتاءِ ما أوتي نفسه فقط وقيل في العطفِ بالواوِ إشعارٌ بأنَّ ما قالاهُ بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلمِ وشيء من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التَّحميد كأنَّه قيل ولقد آتيناهُما علماً فعملا به وعلمناه وعرفا حقِّ النِّعمةِ فيه وقالا الحمدُ لله الآية فتأمَّل والكثيرُ المفضل عليه من لم يُؤت مثل علمهما وقيل من لم يُؤت علماً ويأباه تبيينُ الكثير بالمؤمنين فإنَّ خلوهم من العلم بِالمرةِ مما لا يمكن وفي تخصيصها الأكثرَ بالذِّكر رمزٌ إلى أنَّ البعضَ مفضَّلون عليهما وفيه أوضحُ دليلٍ على فضل العلمِ وشرفِ أهلهِ حيثُ شكرا على العلمِ وجعلاه أساسَ الفضلِ ولم يعتبرا دونَه ما أُوتيا من الملكِ الذي لم يُؤته غيرهما وتحريضٌ للعلماءِ على أن يحمدُوا الله تعالى على ما آتاهُم من فضلِه ويتواضعوا ويعتقدُوا أنَّهم وإنْ فُضِّلوا على كثيرِ فقد فضل عليهم كثيرو فوق كلَّ ذي علمٍ عليمٌ ونِعمّا قال أميرَ المؤمنينَ عمرَ رضي الله عنه كلُّ النَّاس أفقهُ من عمر(6/276)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
{وورث سليمان داود} أي النُّبوةَ والعلمَ أو الملكَ بأنْ قامَ مقامَهُ في ذلكَ دونَ سائرِ بنيهِ وكانُوا تسعةَ عشَر {وَقَالَ} تشهيراً لنعمةِ الله تعالى وتنويهاً بها ودعاءً للنَّاسِ إلى التصديقِ بذكرِ المُعجزاتِ الباهرةِ التي أُوتيها {يا أيها الناس عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء} المنطقُ في المتعارَفِ كلُّ لفظٍ يُعبَّر بهِ عمَّا في الضميرِ مُفرداً كانَ أو مُركباً وقد يُطلق على كلِّ ما يُصوَّتُ بهِ من المفرد والمؤلَّفِ المفيدِ وغيرِ المفيدِ يقالُ نطقت الحمامةُ وكلُّ صنفٍ من أصنافِ الطيرِ يتفاهُم أصواتُه والذي عُلِّمه سليمانُ عليه السَّلامُ من منطقِ الطيرِ هو ما يُفهم بعضُه من بعضٍ من معانيهِ وأغراضِه ويُحكَى أنَّه مرَّ على بُلبلٍ في شجرةٍ يُحرِّكُ رأسَهُ ويُميلُ ذنبَهُ فقالَ لأصحابِه أتدرونَ ما يقولُ قالوُا الله ونبيه أعلم قال(6/276)
سورة النمل (17) يقولُ إذا أكلتُ نصفُ تمرةٍ فعلى الدُّنيا العَفاءُ وصاحتْ فاختةٌ فأَخبرَ أنَّها تقولُ ليتَ الخلقَ لم يخلقوا وصاح طاوس فقالَ يقول كَمَا تَدينُ تُدانُ وصاحَ هُدهدٌ فقالَ يقول استغفرُوا الله يا مُذنبينَ وصاحَ طَيْطَوى فقال يقول كُلُّ حيَ ميتٌ وكلُّ جديدٍ بالٍ وصاحَ خُطَّافٌ فقالَ يقولُ قَدِّمُوا خيراً تجدوه وصاحَ قَمْريٌّ فأَخبرَ أنَّه يقولُ سُبحانَ ربِّي الأَعْلَى وصاحت رخمةٌ فقال تقول سبحان ربي الأعلى ملءَ سمائِه وأرضِه وقالَ الحِدَأةُ تقولُ كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا الله والقطاةُ تقولُ منْ سكتَ سلَمْ والببغاءُ تقولُ ويلٌ لمنْ الدٌّنيا همُّه والديكُ يقولُ اذكرُوا الله يا غافلينَ والنَّسرُ يقولُ يا ابنَ آدمَ عِشْ مَا شئتَ آخرُكَ الموتُ والعُقابُ تقولُ في البعدِ عن النَّاسِ أُنسٌ والضِّفدِعُ يقولُ سبُحانَ رَبِّي القُدُّوسِ وأرادَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه عُلِّمنا وأُوتينَا بالنُّونِ التي يُقال لها نونُ الواحدِ المُطاع بيانَ حالِه وصفتِه من كونِه ملكاً مطاعاً لكنْ لا تجبُّراً وتكبُّراً بل تمهيداً لما أرادَ منهم من حُسنِ الطاعةِ والانقيادِ له في أوامرِه ونواهيِه حيثُ كان على عزيمةِ المسيرِ وبقولِه من كلِّ شيءٍ كثرةَ ما أُوتيه كما يُقال فلانٌ يقصده كلُّ أحدٍ ويعلمُ كلَّ شيءٍ ويُرادُ بهِ كثرةَ قُصَّادِه وغزارةَ علمهِ ومثلُه قولُه تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وقالَ ابن عباس رضي الله عنهُمَا كلُّ ما يهمُّه من أمرِ الدُّنيا والآخرةِ وقال مقاتلٌ يعني النُّبوةَ والملكَ وتسخيرَ الجنِّ والإنسِ والشياطينِ والريحِ {إِنَّ هَذَا} إشارةٌ إلى ما ذكر من التعليمِ والإيتاء {لَهُوَ الفضل} والإحسانُ من الله تعالَى {المبين} الواضحُ الذي لا يخفى على أحد أو إنَّ هَذا الفضلَ الذي أُوتيهِ لهو الفضلُ المبينُ على أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ قاله على سبيل الشكرِ والمحمدةِ كما قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخرَ أي أقولُ هذا القولَ شُكراً لا فخراً ولعلَّه عليهِ الصَّلاة والسَّلام رتَّب على كلامه ذلك دعوةَ النَّاسِ إلى الغزوِ فإنَّ إخبارَهم بإيتاءِ كُلّ شَىْء من الأشياء التي من جُملتها آلاتُ الحربِ وأسبابُ الغزوِ ممَّا ينبئ عن ذلك فمعنى قوله تعالى(6/277)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
{وَحُشِرَ لسليمان جُنُودُهُ} جُمع له عساكرُه {مِنَ الجن والإنس والطير} بمباشرة مخاطبيِه فإنَّهم كانوا رؤساءَ مملكتِه وعظماءَ دولتهِ من الثَّقلينِ وغيرِهم بتعميم النَّاس للكلِّ تغليباً وتقديمُ الجنِّ على الإنسِ في البيانِ للمسارعةِ إلى الإيذانِ بكمالِ قوَّة مُلكِه وعزَّةِ سُلطانِه من أولِ الأمرِ لما أنَّ الجن طائفة عانية وقبيلةٌ طاغيةٌ ماردةٌ بعيدةٌ من الحشرِ والتسخيرِ {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يُحبس أوائلُهم على أواخِرهم أي يُوقف سُلافُ العسكرِ حتى يلحقَهم التَّوالي فيكونُوا مجتمعينَ لا يتخلف منهم أحدٌ وذلك للكثرة العظيمةِ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ لترتيب الصُّفوفِ كما هو المُعتاد في العساكرِ وفيه إشعارٌ بكمال مسارعتِهم إلى السير وتخصيص حبس أوائلِهم بالذكر دون سوقِ أواخرهم مع أنَّ التلاحقَ يحصلُ بذلكَ أيضاً لما أنَّ أواخرَهم غيرُ قادرينَ على ما يقدرُ عليه أوائلُهم من السيرِ السريعِ وهذا إذَا لم يكُن سيرُهم بتسييرِ الرِّيح في الجوِّ رُوي أنَّ معسكرَه عليه الصَّلاة والسَّلام كان مائةَ فرسخٍ في مائةٍ خمسةٌ وعشرونَ للجنِّ وخمسةٌ وعشرونَ للإنس وخمسةٌ وعشروَن للطيرِ وخمسةٌ وعشرونَ للوحشِ وكان له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ألف بيتٍ من قوارير على الخشب فيها ثلثمائة منكوحةٍ وسبعمائةُ سريةٍ وقد نسجتْ له الجنُّ بساطاً من ذهبٍ وإِبْرِيْسَمَ فرسخاً في فرسخٍ وكان يُوضعُ منبرُه في وسطِه وهو من ذهب(6/277)
سورة النمل (18) فيقعدُ عليه وحوله ستمائة ألفِ كرسيَ من ذهبٍ وفضةٍ فيقعدُ الأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على كَرَاسي الذهبِ والعلماءُ على كَرَاسي الفضَّةِ وحولَهم النَّاسُ وحول النَّاسِ الجنُّ والشياطينُ وتظله الطيرُ بأجنحتِها حتَّى لا تقعَ عليه الشمسُ وترفع ريحُ الصَّبا البساطَ فتسيرُ به مسيرةَ شهرٍ ويُروى أنَّه كان يأمُر الريحَ العاصفَ تحملُه ويأمُر الرُّخاء تسيره فأَوحى الله تعالى إليهِ وهو يسيرُ بين السماءِ والأرضِ إنَّي قد زدتُ في ملككَ لا يتكلم أحدٌ بشيءٍ إلا ألقته الريحُ في سمعِك فيُحكى أنه مرَّ بحرَّاثٍ فقال لقد أُوتيَ آلُ داودَ ملكاً عظيماً فألقته الريحُ في أذنِه فنزلَ ومشى إلى الحرَّاثِ وقال إنَّما مشيتُ إليكَ لئلاَّ تتمنى مالا تقدرُ عليه ثمَّ قال لتسبيحةٌ واحدةٌ يقبلها الله تعالى خيرٌ مما أُوتي آلُ داودَ(6/278)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
{حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِى النمل} حتَّى هي التي يُبتدأ بها الكلامُ ومع ذلك هي غايةٌ لما قبلها كالتي في قولهِ تَعالَى حتى إذا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل الآيةَ وهي ههنا غاية لما ينبئ عنه قولُه تعالى فهُم يُوزعونَ من السير كأنَّه قيلَ فسارُوا حتَّى إذا أتَوا الخ ووادي النَّمل وادٍ بالشامِ كثيرُ النَّمل على ما قالَه مقاتلٌ رضي الله عنه وبالطَّائفِ على ما قالَه كعب رضيَ الله عنه وقيلَ هو وادٍ تسكنُه الجنُّ والنملُ مراكبُهم وتعديةُ الفعلِ إليه بكلمةِ عَلى إمَّا لأنَّ إتيانَهم كان من فوق وإمَّا لأنَّ المرادَ بالإتيانِ عليه قطعُه من قولِهم أتَى على الشيءِ إذا أنفَدَه وبلغَ آخرَهُ ولعلَّهم أرادُوا أنْ ينزلُوا عند مُنتهى الوادي إذْ حينئذٍ يخافُهم ما في الأرضِ لا عند سيرِهم في الهواءِ وقولُه تعالى {قَالَتْ نَمْلَةٌ} جوابُ إذا كأنَّها لما رأتهُم متوجهينَ إلى الوادي فرَّتْ منهم فصاحتْ صيحةً تنبهتْ بها ما بحضرتِها من النملِ لمرادِها فتبعها في الفرارِ فُشبِّه ذلك بمخاطبةِ العُقلاءِ ومناصحتِهم فأُجروا مُجراهم حيث جُعلتْ هي قائلةً وما عداها من النمل مقولا لهم حيث قيل {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} مع أنَّه لا يمتنعُ أنْ يخلُق الله تعالى فيها النُّطقَ وفيما عداها العقلَ والفهم وقرئ نملة يأيها النَّمُل بضمِّ الميمِ وهو الأصلُ كالرجُل وتسكينُ الميمِ تخفيفٌ منه كالسَّبْعِ في السبع وقرئ بضمِّ النونِ والميمِ قيل كانتْ نملةً عرجاءَ تمشي وهي تتكاوسُ فنادتْ بما قالتْ فسمعَ سليمانُ عليه السَّلام كلامَها من ثلاثةِ أميالٍ وقيل كان اسمُها طاخية وقرئ مسكنَكم وقولُه تعالى {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ} نهيٌ في الحقيقة للنَّملِ عن التأخرِ في دخولِ مساكنِهم وإنْ كانَ بحسبِ الظَّاهر نهياً له عليه الصَّلاة والسَّلام ولجنودِه عن الحطْمِ كقولِهم لا أرينَّك هَهُنا فهُو استئنافٌ أو بدلٌ من الأمرِ كقولِ مَنْ قالَ فقلتُ له ارحلْ لا تُقيمنّ عندنا لا جوابَ له فإنَّ النُّون لا تدخلُه في السعة وقرئ لا يحطمنكم بالنون الخفيفة وقرئ لا يَحَطَمنكم بفتحِ الحاءِ وكسرِها وأصلُه لا يحتطمنَّكم وقولُه تعالى {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حالٌ من فاعلِ يحطمنَّكم مفيدةٌ لتقييدِ الحطمِ بحالِ عدمِ شعورِهم بمكانِهم حتَّى لو شعروا بذلك لم يحطَّمُوا وأرادتْ بذلكَ الإيذان بأنها عارفة بشئون سليمانَ وسائرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام من عصمتِهم عن الظُّلم والإيذاءِ وقيل هو استئنافٌ أي فهمَ سليمان ما قالته وللقوم(6/278)
سورة النمل لا يشعرونَ بذلكَ(6/279)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
{فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا} تعجباً من حذرها واهتدائِها إلى تدبير مصالحِها ومصالحِ بني نوعِها وسروراً بشهرة حالِه وحالِ جنودِه في بابِ التَّقوى والشَّفقةِ فيما بين أَصنافِ المخلوقاتِ التي هي أبعدُها من إدراك أمثالِ هذه الأمورِ وابتهاجاً بما خصَّه الله تعالى به من إدراك همسِها وفهمِ مُرادِها رُوي أنَّها أحسَّتْ بصوتِ الجنودِ ولا تعلمُ أنَّهم في الهواءِ فأمرَ سليمانُ عليه السَّلام الريحَ فوقفتْ لئلاَّ يذعَرنَ حتَّى دخلن مساكنهنَّ {وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} أي اجعلني أزعُ شكرَ نعمتكَ عندي واكفَّه وأرتبطُه بحيثُ لا ينفلتُ عنِّي حتَّى لا أنفكُّ عن شكرك أصلا وقرئ بفتحِ ياءِ أَوزعني {التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} أدرج فيه ذكرهما تكثيراً للنعمة فإنَّ الإنعامَ عليهما إنعامٌ عليه مستوجبٌ للشُّكرِ {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه} إتماماً للشُّكرِ واستدامةً للنِّعمةِ {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين} في جملنهم الجنَّةَ التي هي دارُ الصالحينَ(6/279)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
{وَتَفَقَّدَ الطير} أي تعرَّف أحوال الطير فلم يرا الهُدهدَ فيما بينها {فَقَالَ ما لي لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين} كأنَّه قال أولا مالي لا أراه لسائر سترَه أو لسببٍ آخرَ ثم بدا له أانه غائبٌ فأضربَ عنْه فأخذَ يقولُ أهو غائبٌ(6/279)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
{لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} قيلَ كان تعذيبُه للطيرِ بنتفِ ريشه وتشميسه وقيل يجعله مع ضده في قفص وقيل بالتفريق بينه وبين إلفِه {أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ} ليعتبرَ به أبناءُ جنسهِ {أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ} بحجَّةٍ تبينُ عذرَهُ والحَلِفُ في الحقيقةِ على أحدِ الأَولينِ على تقديرِ عدمِ الثَّالث وقرئ ليأتينَّنِي بنونينِ أولاهُما مفتوحةٌ مشددةٌ قيلَ إنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ لما أتمَّ بناء بيتَ المقدسِ تجهَّز للحجِّ بحشرهِ فَوَافى الحرِمَ وأقامَ به ما شاء وكان يقرِّب كلَّ يومٍ طولَ مقامِه خمسةَ آلافِ ناقةٍ وخمسةَ آلافِ بقرةٍ وعشرينَ ألفَ شاةٍ ثم عزمَ على السير إلى اليمنِ فخرج من مكةَ صباحاً يؤمُّ سُهَيلاً فوافى صنعاءَ وقتَ الزَّوالِ وذلكَ مسيرةَ شهرٍ فرأى أرضاً حسناءَ أعجبته خضرتها فنزل ليتغذى ويصلِّي فلم يجد الماءَ وكان الهدهد قناقنه وكان يَرَى الماءَ من تحتِ الأرضِ كما يَرَى الماء في الزجاجة فيجئ الشياطينُ فيسلخونَها كما يُسلخُ الأهابُ ويستخرجون الماءَ فتفقَّده لذلك وقد كانَ حين نزل سليمان عليه السلام حلَّق الهدهُد فرأى هدهداً واقعاً فانحطَّ إليه فوصفَ له ملكَ سليمانَ عليه السَّلام وما سخر له من كلِّ شيءٍ وذكر له صاحبُه ملكَ بلقيسَ وأنَّ تحت يدِها اثني عشرَ ألفَ قائدٍ تحت يد كلِّ قائدٍ مائةُ ألفٍ وذهبَ معه لينظرَ فما رجع إلا بعدَ العصرِ وذلك قوله تعالى(6/279)
سورة النمل (22)(6/280)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي زمانا غير مديد وقرئ بضمِّ الكافِ وذُكر أنَّه وقعتْ نفحةٌ من الشمس على رأسِ سليمانَ عليه السَّلام فنظر فإذا موضعُ الهدهدِ خالٍ فدعا عرِّيفَ الطير وهوالنسر فسألَه عنه فلم يجدْ عنده علمَه ثم قال لسيدِ الطيرِ وهو العُقابُ عليَّ به فارتفعتْ فنظرتْ فإذا هو مقبلٌ فقصدتْهُ فناشدها الله وقال بحقِّ الله الذي قوَّاكِ وأقدركِ عليَّ إلاَّ رحِمتنِي فتركتْهُ وقالتْ ثكلتكَ أمُّك إنَّ نبيَّ الله قد حلفَ ليعذبنَّك قال وما استثنَى قالت بلى قال أوليأتيني بعذرٍ مبينٍ فلمَّا قرُب من سليمان عليه السلام أَرْخى ذنبَه وجناحيِه يجرُّها على الأرضِ تواضعاً له فلما دنا منه أخذ عليه السَّلام برأسه فمدَّه إليه فقال يا نبيَّ الله اذكرُ وقوفكَ بين يدَي الله تعالى فارتعدَ سليمانُ عليه السَّلام وعفا عنه ثم سألَه {فَقَالَ أحطت بما لم تحط بِهِ} أي علماً ومعرفةً وحفظتُه من جميعِ جهاتِه وقرئ أحطتُ بادغامِ الطَّاءِ في التَّاءِ بإطباقٍ وبغيرِ إطباقٍ ولا خفاء في أنَّه لم يُرد بما ادَّعى الإحاطةَ به ما هو من حقائق العلومِ ودقائقِ المعارفِ التي تكونُ معرفتُها والإحاطةُ بها من وظائف أربابِ العلمِ والحكمةِ لتوقفها على علمٍ رصينٍ وفضلٍ مبينٍ حتَّى يكونَ إثباتُها لنفسه بين يدي نبيِّ الله سليمانَ عليه السَّلام تعدِّياً عن طورهِ وتجاوزاً عن دائرة قدرهِ ونفيُها عنه عليه الصَّلاة والسَّلام جنايةً على جنايةٍ فيُحتاجَ إلى الاعتذار عنخ بأنه ذلك كان منهلا بطريق الإلهامِ فكافَحه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك مع ما أُوتي عليهِ الصَّلاة والسَّلام من فضل النُّبوة والحكمةِ والعلومِ الجمَّة والإحاطةِ بالمعلوماتِ الكثيرةِ ابتلاءً له عليه الصلاة والسلام في علمِه وتنبيهاً على أنَّ في أدنى خلقِه تعالى وأضعفِهم من أحاطَ علماً بما لم يُحط به لتتحاقر إليه نفسُه ويتصاغر إليه علمُه ويكون لطفاً له في تركِ الاعجاب الذي هو فتنةُ العلماء بل أرادَ به ما هو من الأمورِ المحسوسةِ التي لا تُعد الإحاطةُ بها فضيلة ولا الغفلةُ عنها نقيصةً لعدم توقف إدراكِها إلا على مجردِ إحساسٍ يستوى فيه العقلاءُ وغيرُهم وقد علم أنَّه عليه الصلاةُ والسلام ولم يشاهدْهُ ولم يسمعْ خبره من غيرِه قطعاً فعبَّر عنه بما ذُكر لترويج كلامِه عنده عليه الصَّلاة والسَّلام وترغيبهِ في الإصغاء إلى اعتذاره واستمالةِ قلبهِ نحو قبولِه فإنَّ النفسَ للإعتذار المنبئ عن أمرٍ بديعٍ أقبلُ وإلى تلقِّي ما لا تعلمُه أميلُ ثم أيَّده بقولِه {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} حيثُ فسَّر إبهامه نوع تفسير وأرادَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه كان بصدد إقامةِ خدمةٍ مهمةٍ له حيثُ عبَّر عمَّا جاء به بالنبأِ الذي هو الخبرُ الخطيرُ والشَّأنُ الكبيرُ ووصفَهُ بما وصفَهُ وإلاَّ فماذا صدر عنه عليه الصلاة والسَّلامُ مع ما حُكي عنه ما حُكي من الحمد والشُّكرِ واستدعاءِ الإيزاعِ حتَّى يليقَ بالحكمة الإلهيةِ تنبيهُه عليه الصَّلاة والسَّلام على تركِه وسبأٌ منصرفٌ على أنَّه اسمٌ لحيَ سُمُّوا باسم أبيهم الأكبرِ وهو سبأُ بنُ يشجبَ بن يعرب بن قحطان قالُوا اسمُه عبدُ شمسٍ لُقِّب به لكونه أوَّلَ من سبى وقرئ بفتحِ الهمزةِ غيرَ مُنصرفٍ على أنَّه اسمٌ للقبيلةِ ثمَّ سُميت مدينةُ مأربَ بسبأٍ وبينها وبينَ صنعاءَ مسيرةُ ثلاثٍ وعلى هذه القراءةِ يجوزُ أنْ يرادَ به القبيلةُ والمدينةُ وأمَّا عَلى القراءةِ الأُولى فالمرادُ هو الحيُّ لا غيرُ وعدمُ وقوفِ سليمانَ عليه السَّلامُ على نبئِهم قبلَ إنباءِ الهُدهدِ ليس بأمرٍ بديعٍ لا بدَّ له من حكمةٍ داعيةٍ إليه البتةَ وإنِ استحال خلوُّ إفعالِه تعالى من الحكمِ والمصالحِ لما أنَّ المسافةَ بين محطِّه عليه الصَّلاة(6/280)
سورة النمل (23 25) والسَّلام وبين مأربَ وإن كانتْ قصيرةً لكن مدةُ ما بين نزولِه عليه الصَّلاة والسَّلام هناك وبين يجئ الهدهدِ بالخبرِ أيضاً قصيرةٌ نعم اختصاصُ الهدهدِ بذلك مع كون الجنِّ أقوى منه مبنيٌّ على حِكَمٍ بالغةٍ يستأثرُ بها علاَّمُ الغُيوبِ وقولُه تعالى(6/281)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
{إِنّى وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} استئنافٌ ببيان ما جاء به من النبأ وتفصيلٌ له إثرَ الإجمالِ وهي بلقيسُ بنتُ شراحيلَ بنِ مالكِ بنِ ريَّانَ وكان أبُوها ملكَ أرضِ اليمنِ كلِّها ورثَ المُلكَ من أربعين أباً ولم يكُن له ولدٌ غيرُها فغلبتْ بعدَه على المُلكِ ودانتْ لها الأمَّة وكانتْ هي وقومُها مجوساً يعبدونَ الشمسَ وإيثارُ وجدتُ على رأيتُ لما أشير إليه من الإيذانِ بكونِه عند غيبته بصددِ خدمتِه عليه الصَّلاة والسَّلامِ بإبراز نفسه في معرضِ من يتفقدُ أحوالَها ويتعرَّفها كأنَّها طِلبتُه وضالَّتُه ليعرضَها على سليمانَ عليه السَّلامُ وضميرُ تملكُهم لسبأٍ على أنَّه اسمٌ لحيَ أو لأهلها المدلولِ عليهم بذكرِ مدينتِهم على أنَّه اسمٌ لها {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء} أيْ منَ الأشياءِ التي يحتاجُ إليها الملوكُ {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} قيل كان ثلاثينَ ذراعاً في ثلاثين عَرضاً وسَمكاً وقيل ثمانينَ في ثمانينَ من ذهب وفضه مكالا بالجواهر وكانت قوامه من ياقوتٍ أحمرَ وأخضرَ ودُرَ وزمردٍ وعليه سبعةُ أبياتٍ على كلِّ بيتٍ بابٌ مغلقٌ واستعظامُ الهدهدِ لعرشِها مع ما كان يشاهدُه من ملكِ سليمانَ عليه السَّلام إمَّا بالنسبة إلى حالِها أو إلى عروشَ أمثالِها من الملوكِ وقد جوز أن يكون لسليمانَ عليه السَّلامَ مثلُه وأيا ما كان فوصفُه بذلكَ بينَ يديهِ عَلَيهِ الصَّلاة والسَّلام لما مرَّ من ترغيبِه عليه الصَّلاة والسَّلام في الإصغاءِ إلى حديثِه وتوجيهِ عزيمتِه عليه الصَّلاة والسَّلام نحو تسخيرِها ولذلك عقبه بما وجب غزوها من كُفرِها وكُفر قومِها حيثُ قال(6/281)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
{وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} أي يعبدونَها متجاوزينَ عبادةَ الله تعالى {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} التي هي عبادةُ الشمسِ ونظائِرها منْ أصنافِ الكفرِ والمَعَاصي {فَصَدَّهُمْ} بسببِ ذلكَ {عَنِ السبيل} أي سبيلِ الحقِّ والصوابِ فإنَّ تزيينَ أعمالِهم لا يتصورُ بدون تقويمِ طرقِ كفرِهم وضلالِهم ومن ضرورته نسبةُ طريقِ الحقِّ إلى العوجِ {فهم} بسبب ذلك {لا يَهْتَدُونَ} إليهِ وقولُه تعالى(6/281)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
{أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} مفعولٌ له إمَّا للصدِّ أو للتزيينِ عَلَى حذفِ اللامِ منهُ أى فصدهم لئلا يسجدوا له تعالى أو زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا أو بدلٌ على حالِه من أعمالَهم وما بينهما اعتراضٌ أيْ زيَّن لهم أنْ لا يسجدوا وقيل هو في موقع المفعولِ ليهتدون بإسقاطِ الخافضِ ولا مزبدة كما في قوله تعالى لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب والمعنى فهم لا يهتدون إلى أنْ يسجدوا له تعالى وقرئ أَلاَ يَا اسجدُوا على التنبيه والنداء محذوفٌ أيْ أَلاَ يا قوم اسجدوا كما(6/281)
سورة النمل (26 28) في قولِه [أَلاَ يا اسلَمي يا دارَ مَي عَلَى البِلَى] ونظائِره وعلى هذا يحتملُ أنُ يكونَ استشافا من جهةِ الله عزَّ وجلَّ أو من سليمانَ عليه السَّلام ويُوقف على لا يهتدونَ ويكون أمراً بالسجود وعلى الوجوهِ المتقدمةِ ذمَّاً على تركه وأياما كان فالسجود واجب وقرئ هَلاّ وهَلاَ بقلبِ الهمزتينِ هاء وقرئ هَلاَّ تسجدون بمعنى ألا تسجدونَ على الخطاب (الذى يخرج الخبء في السموا والأرض) أيْ يظهرُ ما هو مخبوء ومخفى فيهما كائناً ما كان وتخصيصُ هذا الوصفِ بالذكرِ بصددِ بيانِ تفرُّده تعالى باستحقاق السُّجودِ له من بين سائرِ أوصافِه الموجبةِ لذلك لما أنَّه أرسخُ في معرفتِه والإحاطةِ بأحكامه بمشاهدة آثارهِ التي من جُملتها ما أودعَه الله تعالى في نفسه من القدرة على معرفةِ الماءِ تحتَ الأرضِ وأشارَ بعطفِ قولِه {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تعلنون} ) عل يخرجُ إلى أنَّه تعالى يخرج ما في العالم الإنسانيِّ من الخَفَايَا كما يخرج ما في العالم الكبير من الخَبَايَا لِما أنَّ المرادَ يظهرُ ما تُخفونَهُ من الأحوال فيجازيكُم بها وذكرُ ما تُعلنون لتوسيع دائرة العلم أو للتنبيه على تساويهما بالنسبة إلى العلم الإلهي وقرئ ما يُخفون وما يُعلنون على صيغةِ الغَيبةِ بلا التفاتٍ وإخراجُ الخبءِ يعمُّ إشراقَ الكواكبِ وإظهارَها من آفاقها بعد استنارها وراءها وإنزالَ الأمطارِ وإنباتَ النباتِ بل الإنشاءَ الذي هو إخراجُ ما في الشيء بالقوَّةِ إلى الفعلِ والإبداعَ الذي هو إخراجُ ما في الإمكان والعدمِ إلى الوجود وغيرَ ذلك من غيوبِه عزَّ وجلَّ وقرئ الخَبَ بتخفيف الهمزةِ بالحذفِ وقرئ الخبا بتخفيفها بالقلب وقرئ ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون(6/282)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
(الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم) الذي هو أولُ الأجرامِ وأعظمها وقرئ العظيمُ بالرَّفعِ عَلى أنَّه صفةُ الربِّ واعلمْ أن ما حُكي من الهُدهدِ من قولِه الذي يُخرج الخبءَ إلى هُنا ليس داخلاً تحت قولِه أحطتُ بما لم تحط به وإنما هو من لعلوم والمعارفِ التي اقتبسها من سليمانَ عليه السَّلام أوردَهُ بياناً لما هو عليهِ وإظهاراً لتصلُّبهِ في الدِّينِ وكلُّ ذلكَ لتوجيهِ قلبِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ نحو قبولِ كلامِه وصرفِ عَنَانِ عزيمتِه عليه السَّلامُ إلى غزوِها وتسخيرِ ولايتِها(6/282)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)
{قال} استشاف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية كلام الهُدهدِ كأنَّه قيلَ فماذا فعلَ سليمانُ عليه السَّلام عند ذلكَ فقيل قال {سَنَنظُرُ} أي فيما ذكرتَه من النَّظر بمعنى التَّأملِ والسِّينُ للتأكيدِ أي سنتعرفُ بالتجربةِ البتةَ (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين) كان مُقتضى الظَّاهرِ أم كذبتَ وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للإيذانِ بأنَّ كذبَهُ في هذه المادة يستلزمه انتظامَهُ في سلكِ الموسومينَ بالكذبِ الراسخينَ فيه فإنَّ مساقَ هذه الأقاويلِ الملفَّقةِ على ترتيبٍ أنيقِ يستميلُ قلوبَ السامعينَ نحوَ قَبُولِها من غير أن يكون لها مصداقٌ أصلاً لا سيما بين يَدَي نبيَ عظيم الشأنِ لا يكادُ يصدرُ إلا عمَّن له قدم راسخٌ في الكذب والإفكِ وقولُه تعالى(6/282)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
{اذهب بّكِتَابِى هذا فَأَلْقِهْ}(6/282)
سورة النمل (29 31) {إليهم} استئناف مبين لكيفية النَّظر الذي وعدَه عليه الصَّلاة والسَّلام وقد قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ما كتبَ كتابَه في ذلكَ المجلسِ أو بعدَهُ وتخصيصُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاه بالرِّسالةِ دونَ سائرِ ما تحتَ مُلكِه من أمناءِ الجنِّ الأقوياءِ على التصرف والتعرُّفِ لما عاينَ فيه من مخايل العلمِ والحكمةِ وصحَّةِ الفراسةِ ولئلاَّ يبقى له عذرٌ أصلاً {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي تنحَّ إلى مكانٍ قريبٍ تَتَوارى فيه {فانظر} أي تأمَّلَ وتعرَّفْ {مَاذَا يَرْجِعُونَ} أي ماذا يرجعُ بعضُهم إلى بعضٍ من القول وجمعُ الضمائرِ لما أنَّ مضمونَ الكتابِ الكريمِ دعوةُ الكُلِّ إلى الإسلام(6/283)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
{قَالَتْ} أي بعدَ ما ذهبَ الهدهدُ بالكتابِ فألقاهُ إليهم وتنحَّى عنهم حسبما أُمر به وإنَّما طُوي ذكرُه إيذاناً بكمالِ مسارعتِه إلى إقامةِ ما أُمر بهِ من الخدمة وإشعاراً باستغنائه عن التَّصريحِ به لغايةِ ظهورِه روُي أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلام كتب كتابَه وطبعه بالمسكِ وختَمه بخاتمِه ودفعَه إلى الهدهدِ فوجدَها الهدهدُ راقدةً في قصرِها بمأربَ وكانتْ إذا رقدتْ غلَّقتِ الأبوابِ ووضعتِ المفاتيحَ تحتَ رأسِها فدخلَ من كُوَّةٍ وطرحَ الكتابَ على نحوها وهي مستقلية وقيل نقرَها فانتبهتْ فَزِعةً وقيل أتاها والقادةُ والجنودُ حواليَها فرفرفَ ساعةً والنَّاسُ ينظرونَ حتَّى رفعتْ رأسَها فألقى الكتاب على حجرِها وكانت قارئةً كاتبةً عربيةً من نسلٍ تُبَّع الحميريِّ كَما مَرَّ فلما رأتِ الخاتمَ ارتعدتْ وخضعتْ فعندَ ذلكَ قالتْ لأشرافِ قومها {يا أيها الملا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} وصفتْه بالكرمِ لكرمِ مضمونِه أو لكونِه من عندَ ملكٍ كريمٍ أو لكونِه مختوماً أو لغرابةِ شأنِه ووصولِه إليها على منهاجٍ غيرِ معتادٍ(6/283)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)
{إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} استئنافٌ وقعَ جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنَّه قيل ممن هُو وماذا مضمونُه فقالتْ إنَّه منْ سُليمان {وَأَنَّهُ} أي مضمونُه أو المكتوبُ فيه {بسم الله الرحمن الرحيم} وفيه إشارةٌ إلى سببِ وصفها إياه بالكرم وقرئ أنَّه وأنَّه بالفتحِ على حذفِ اللامِ كأنها عللتْ كرمَه بكونِه من سليمانَ وبكونِه مُصدَّراً باسمِ الله تعالى وقيل على أنَّه بدل من كتاب وقرئ أنْ من سُليمان وأنْ بسم الله الرحمن الرحيم على أنْ المفسرةُ(6/283)
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
{أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ} أنْ مفسرةٌ ولا ناهيةٌ أي لا تتكبروا كما يفعلُ جبابرةُ الملوكِ وقيل مصدريةٌ ناصة للفعلِ ولا نافيةٌ محلُّها الرفع على أنها من كتابٌ أو خبرٌ لمبتدأٍ مضمرٍ يليقُ بالمقام أي مضمونُه أنْ لا تعلُوا أو النَّصبُ بإسقاطِ الخافضِ أي بأنْ لا تعلوا علي وقرئ أن لا تغلُوا بالغينِ المعجمةِ أي لا تجاوزُوا حدَّكم {وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} أي مؤمنينَ وقيل منقادينَ والأولُ هو الأليقُ بشأن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم على أنَّ الإيمانَ مستتبعٌ للانقياد حتماً روي أنَّ نسخةَ الكتابِ من عبدِ الله سليمان بنِ داودَ إلى بلقيسَ ملكةِ سبأً السَّلامُ على من اتبعَ الهُدَى أمَّا بعدُ فلا تعلُوا عليَّ وأتوني مسلمينَ وليسَ الأمرُ فيه بالإسلامِ قبل إقامةِ الحجَّة على رسالتِه حتَّى يُتوهم كونه استدعاء للتقليدِ فإنَّ إلقاء الكتابِ إليها على تلك الحالةِ معجزةٌ باهرةٌ دالَّةٌ على رسالةِ مُرسِلها دلالةً بينةً(6/283)
سورة النمل (32 35)(6/284)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
{قَالَتْ} كُررتْ حكايةُ قولِها للإيذانِ بغايةِ اعتنائِها بما في حيزه من قولِها {يا أيها الملا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى} أي أجيبونِي في أمرِي الذي حَزَبني وذكرتُ لكم خُلاصتَه وعبرتْ عن الجوابِ بالفَتوى التي هي الجواب في الحوادث المشكلة غالباً تهويلاً للأمر ورفعاً لمحلهم بالإشعار بأنهم قادرونَ على حلِّ المشكلاتِ المُلمَّةِ وقولُها {مَا كُنتُ قاطعة أَمْراً} أي من الأمورِ المتعلقةِ بالملكِ {حتى تَشْهَدُونِ} أي إلا بمحضرِكم وبموجبِ آرائِكم استعطاف لهم واستمالة لقلوبِهم لئلاَّ يخالفُوها في الرَّأي والتدبير(6/284)
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
{قالوا} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولِها كأنَّه قيل فمَاذا قالُوا في جوابِها فقيلَ قالُوا {نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ} في الأجسادِ والآلاتِ والعُددِ {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي نجدةٍ وشجاعةٍ مفرطةٍ وبلاءٍ في الحربِ {والأمر إِلَيْكِ} أي هو موكولٌ إليكِ {فانظرى مَاذَا تَأْمُرِينَ} ونحنُ مطيعونَ لكِ فمُرينا بأمرِك نمتثلْ به ونتبعْ رأيكِ وأرادوا نحنُ من أبناءِ الحربِ لا من أبناءِ الرأي والمشورةِ وإليكِ الرَّأي والتَّدبيرِ فانظرِي ماذا ترينَ نكنْ في الخدمةِ فلَّما أحسَّتْ منهم الميلَ إلى الحرابِ والعدولَ عن سَنَنِ الصَّوابِ شرعت في تزييف مقلتهم المبنيةِ على الغفلةِ عن شأنِ سليمانَ عليه السَّلامُ وذلك قولُه تعالى(6/284)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
{قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً} من القُرى على منهاجِ المقاتلةِ والحرابِ {أَفْسَدُوهَا} بتخريبِ عماراتِها وإتلافِ ما فيها من الأموالِ {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} بالقتلِ والأسرِ والإجلاءِ وغيرِ ذلك من فُنونِ الإهانةِ والإذلالِ {وكذلك يَفْعَلُونَ} تأكيدٌ لما وصفتْ من حالِهم بطريقِ الاعتراضِ التذييليِّ وتقريرٌ له بأنَّ ذلك عادتُهم المستمرةُ وقيل تصديقٌ لها من جهة الله تعالى على طريقة قوله تعالى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً إثر قوله تعالى لنفد البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى(6/284)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
{وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} تقرير لرأيها بعدما زيفتْ آراءَهم وأتتْ بالجملةِ الاسميةِ الدالةِ على الثبات المصدرةِ بحرفِ التحقيق للإيذانِ بأنَّها مزمعةٌ على رأيها لا يَلويها عنه صارفٌ ولا يَثْنيها عاطفٌ أيْ وإنِّي مرسلةٌ إليهم رُسُلاً بهديةٍ عظيمة {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} حتَّى أعملَ بما يقتضيهِ الحالُ رُوي أنَّها بعثت خمسمائةِ غلامٍ عليهم ثيابُ الجَوَاري وحليُّهن الأساورُ والأطواقُ والقِرَطةُ راكبى خيلٍ مغشَّاةٍ بالديباجِ محلاَّةِ اللُّجمِ والسُّروجِ بالذهبِ المُرَّصعِ بالجواهرِ وخمسمائةِ جاريةٍ على رِماك في زيِّ الغلمانِ وألفَ لبنةٍ من ذهبٍ وفضةٍ وتاجاً مكللاً بالدرِّ والياقوتِ المرتفعِ والمسكِ والعنبرِ وحُقَّاً فيه درةٌ عذراءُ وجزعة معوجة الثقبِ وبعثتْ رجلاً من أشرافِ قومِها المنذرَ بنَ عمروٍ وآخرَ ذار أي وعقلٍ وقالتْ إنْ كانَ نبياً ميَّز بين الغلمانِ والجواري وثقب الدرة نقبا مستوياً وسلك في الخرزةِ خيطاً ثمَّ قالتْ للمنذرِ إنْ نظرَ إليكَ نظرَ غضبانَ فهو ملكٌ فلا يهولنك(6/284)
سورة النمل (36 37) وإن رأيته بشاص لطيفاً فهو نبيٌّ فأقبلَ الهدهدُ فأخبرَ سليمانَ عليه السَّلامُ بذلك فأمرَ الجنَّ فضربُوا لِبنَ الذهبِ والفضَّةِ وفرشُوه في ميدانٍ بين يديِه طولُه سبعةُ فراسخ وجعلُوا حولَ الميدانِ حائطاً شرفاتُه من الذَّهبِ والفِضَّةِ وأمرَ بأحسنِ الدَّوابِّ في البرِّ والبحرِ فربطُوها عن يمينِ الميدانِ ويسارِه على اللبن وأمرَ بأولادِ الجنِّ وهم خلقٌ كثيرٌ فأُقيمُوا على اليمينِ واليسارِ ثم قعدَ على سريرِه والكراسيُّ من جانبيِه واصطفتِ الشياطينُ صفوفاً فراسخَ والإنسُ صفوفاً فراسخَ والوحشُ والسباعُ والطيورُ والهوامُّ كذلك فلما دنا القومُ ونظرُوا بُهتوا ورَأوا الدوابَّ تروثُ على اللبنِ فتقاصرتْ إليهم نفوسُهم ورمَوا بما معهم ولما وقفُوا بين يديِه نظَر إليهم بوجهٍ طَلْقٍ وقال ما وراءكم وقال أينَ الحُقُّ وأخبرَهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ بما فيه فقالَ لهم إنَّ فيه كذا وكذا ثم أمرَ بالأَرَضةِ فأخذتْ شعرةً ونفذتْ في الدُّرة فجعلَ رزقَها في الشَّجرةِ وأخذتْ دودةٌ بيضاءُ الخيطَ بفيها ونفذتْ في الجَزَعةِ فجعلَ رزقَها في الفواكِه ودعا بالماءِ فكانتِ الجاريةُ تأخذُ الماء بيدِها فتجعلُه في الأُخرى ثم تضربُ به وجهَها والغلامُ كما يأخذُه يضربُ به وجهه ثم رد الهدية وذلك قولُه تعالى(6/285)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
{فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ} أي الرَّسولُ {قَالَ} أي مخاطباً للرَّسولِ والمُرْسِلِ تغليباً للحاضرِ على الغائبِ وقيل للرَّسولِ ومن مَعه ويؤيدُه أنَّه قرئ فلمَّا جاءُوا والأولُ أَولى لما فيِه من تشديدِ الإنكارِ والتَّوبيخِ وتعميمهُما لبلقيسَ وقومِها ويؤيدُه الإفرادُ في قولِه تعالى ارجعْ إليهم {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} وهو إنكارٌ لإمدادِهم إيَّاه عليه الصَّلاة والسَّلام بالمالِ مع عُلوِّ شأنِه وسعَةِ سُلطانِه وتوبيخٌ لهم بذلكَ وتنكيرُ مالٍ للتحقيرِ وقولُه تعالى {فَمَا آتاني الله} أيْ ممَّا رأيتُم آثارَه منَ النُّبوةِ والمُلكِ الذي لا غايةَ وراءَه {خير مما آتاكم} أي منَ المالِ الذي مِنْ جُملتِه ما جئتُم به فلا حاجةَ لي إلى هديَّتِكم ولا وقعَ لها عندي تعليل للإنكارِ ولعلَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما قال لهم هذه المقالةَ إلى آخرِها بعدَ مَا جَرى بينَهُ وبينهم ما حكي من قصة الحُقِّ وغيرها كما أشير إليه لا أنه عليه الصلاةُ والسَّلامُ خاطبَهم بها أولَ ما جاءوه كما يُفهم من ظاهرِ قولِه تعالى فلمَّا جاءَ الخ وقرئ أتُمدُّونِّي بالإدغامِ وبنونٍ واحدةٍ وبنونين وحذفِ الياءِ وقولُه تعالى {بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} إضرابٌ عمَّا ذكر من إنكارِ الإمدادِ بالمالِ إلى التَّوبيخِ بفرحِهم بهديتهم التي أهدَوها إليه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فرحَ افتخارٍ وامتنانٍ واعتدادٍ بها كما ينبئ عنه ما ذكر من حديثِ الحقِّ والجَزَعةِ وتغييرِ زيِّ الغِلمانِ والجواري وغيرِ ذلك وفائدةُ الإضرابِ التَّنبيهُ على أنَّ إمدادَهُ عليه الصَّلاة والسَّلام بالمالِ منكرٌ قبيح وعدُّ ذلكَ مع أنَّه لا قدرَ له عنده عليه الصلاة والسلام مما يتنافسُ فيه المتنافسون أقبحُ والتَّوبيخُ به أدخلُ وقيلَ المضافُ إليهِ المُهدى إليهِ والمعنى بل أنتمُ بما يهدى إليكم تفرحونَ حُبَّاً لزيادةِ المالِ لما أنَّكم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياةِ الدُّنيا(6/285)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
{اْرجِعِ} أفردَ الضميرَ هَهُنا بعد جمعِ الضمائر الخمسةِ فيما سبقَ لاختصاصِ الرجوعِ بالرسول عموم الإمداد ونحوه(6/285)
سورة النمل (38 40) للكلِّ أي ارجعْ أَيُّها الرَّسُولُ {إِلَيْهِمُ} أي إلى بلقيس وقومها فليأتينهم أي فوالله لنأتينَّهم {بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي لا طاقةَ لَهمُ بمقاومتِها ولا قدرةَ لهم على مقابلتها وقرئ بهم {وَلَنُخْرِجَنَّهُم} عطفٌ على جوابِ القسمِ {مِنْهَا} من سبأٍ {أَذِلَّةٍ} أي حالَ كونهم أذلة بعدما كانُوا فيه من العزِّ والتمكينِ وفي جمعِ القِلَّةِ تأكيدٌ لذِلَّتِهم وقولُه تعالى {وَهُمْ صاغرون} أي أُسارَى مُهَانون حالٌ أخرى مفيدةٌ لكونِ إخراجِهم بطريقِ الأسرِ لا بطريقِ الإجلاءِ وعدمُ وقوعِ جوابِ القسمِ لأنَّه كانَ معلَّقاً بشرطٍ قد حُذفَ عندَ الحكايةِ ثقةٍ بدلالةِ الحالِ عليهِ كأنَّه قيلَ ارجعْ إليهم فليأتُوا مسلمينَ وإلا فلنأتينَّهم الخ(6/286)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
{قال يا أيها الملا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا} قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما دَنا مجيءُ بلقيسَ إليه عليه الصلاة والسلام يُروى أنَّه لمَّا رجعتْ رسلُها إليها بما حُكي من خبرِ سُليمانَ عليه السَّلام قالتْ قد علمتُ والله ما هذا بملكٍ ولا لبابه من طاقةٌ وبعثتْ إلى سليمانَ عليه السَّلام إنِّي قادمةٌ إليكَ بملوكِ قَوْمي حتى أنظرَ ما أمرُك وما تدعُو إليهِ من دينِك ثمَّ آذنتْ بالرَّحيلِ إلى سليمانَ عليه السلام فشخصتْ إليه في اثني عشر ألف قيل تحتَ كلِّ قَيْلٍ ألوفٌ ويُروى أنَّها أمرتْ فجُعِلَ عرشُها في آخرِ سبعةِ أبياتٍ بعضُها في بعضٍ في آخرِ قصرٍ من قصورٍ سبعةٍ لها وغلَّقتِ الأبوابَ ووكَّلتْ به حَرَساً يحفظونَهُ ولعَلَّه أُوحيَ إلى سليمانَ عليه السلام باستيثاقِها من عرشِها فأرادَ أنْ يُريها بعضَ ما خصَّه الله عزَّ سلطانُه به من إجراءِ التعاجيبِ على يدهِ مع إطلاعِها على عظيم قدرتِه تعالى وصحة نبوتِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ ويختبرَ عقلَها بأنْ يُنكِّرَ عرشَها فينظرَ أتعرفُه أم لا وتقييدُ الإتيانِ به بقولِه تعالى {قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} لمَا أنَّ ذلكَ أبدعُ وأغربُ وأبعدُ من الوقوعِ عادةً وأدل على عظيم قدرة الله تعالى وصحَّةِ نبُّوتِه عليه الصَّلاة والسَّلام وليكونَ اختبارُها وإطلاعُها على بدائعِ المعجزاتِ في أولِ مجيئِها وقيلَ لأنَّها إذَا أتتْ مُسلمةً لم يحلَّ له أخذُ ما لها بغيرِ رِضَاها(6/286)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
{قَالَ عِفْرِيتٌ} أي ماردٌ خبيثٌ {مّن الجن} بيانٌ له إذْ يقالُ للرجلِ الخبيثِ المنكرِ المعفرِ لأقرانِه وكان اسمُه ذكوانَ أو صخرا {أنا آتيك بِهِ} أي بعرشِها {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} أي من مجلِسك للحكومةِ وكان يجلسُ إلى نصفِ النَّهار وآتيكَ إمَّا صيغةُ المضارعِ أو الفاعلِ وهو الأنسبُ لمقامِ ادِّعاءِ الإتيانِ به لا محالةَ وأوفقُ لما عُطفَ عليه من الجملةِ الاسميةِ أي أنا آتٍ به في تلك المُدَّةِ البتةَ {وَإِنّى عَلَيْهِ} أي على الإتيانِ به {لَقَوِىٌّ} لا يثقلُ عليَّ حملُه {أَمِينٌ} لا أختزلُ منه شيئاً ولا أُبدِّلُه(6/286)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
{قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب} فُصلَ عمَّا قبلَه للإيذانِ بما بينَ القائلينِ ومقاليهما(6/286)
وكيفيّتي قدرتِهما على الإتيانِ به من كمال التباينِ أو لإسقاطِ الأولِ عن درجةِ الاعتبارِ قيلَ هو آصِفُ بن بزخيا وزيرُ سليمانَ عليه السَّلام وقيل رجلٌ كان عنده اسمُ الله الأعظمُ الذي إذا سُئل به أجابَ وقيل الخَضِرُ أو جبريلُ أو مَلَكٌ أيَّده الله عزَّ وجلَّ بهِ عليهم السَّلام وقيل هو سُليمانُ نفسُه عليه السَّلام وفيه بُعدٌ لا يَخْفى والمرادُ بالكتابِ الجنسُ المنتظِمُ لجميعِ الكتبِ المنزلِة أو اللوحُ وتنكيرُ عِلْمٌ للتفخيمِ والرمزِ إلى أنَّه علمٌ غيرُ معهودٍ ومِن ابتدائيةٌ {أَنَاْ آتيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} الطَّرفُ تحريكُ الأجفانِ وفتحُها للنَّظرِ إلى شيء وارتداده انضمامها ولكونِه أمراً طبيعياً غيرَ منوطٍ بالقصدِ أُوثر الارتدادُ على الردِّ ولمَّا لم يكُنْ بينَ هذا الوعدِ وإنجازه مدة ما كما في وعدِ العفريتِ استغنى عن التأكيدِ وطُوي عند الحكاية ذكرُ الإتيانِ به للإيذانِ بأنَّه أمرٌ متحققٌ غنيٌّ عنِ الإخبارِ بهِ وجيءَ بالفاءِ الفصيحةِ لا داخلة على جملةٍ معطوفة على دجنلة مقدرةٍ دالةٍ على تحققِه فقط كما في قولِه عز وجل فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق ونظائِره بل داخلة على الشرطيةِ حيثُ قيل {فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه} أيْ رأى العرشَ حاضراً لديهِ كما في قولِه عزَّ وجلَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ للدلالةِ على كمالِ ظهورِ ما ذُكر مِن تحققةِ واستغنائِه عن الإخبارِ به ببيان ظهورِ ما يترتبُ عليه من رؤيةِ سُليمان عليه السَّلامُ إيَّاهُ واستغنائِه أيضاً عن التصريح به إذِ التَّقديرُ فأتاه به فَرآهُ فلمَّا رآه الخ فحذفَ ما حذف لما ذكرو للإيذان بكمالِ سرعةِ الإتيانِ به كأنَّه لم يقعْ بينَ الوعدِ به وبين رؤيتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاه شيءٌ ما أصلاً وفي تقييدِ رؤيتِه باستقرارِه عندَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تأكيدٌ لهذا المَعْنى لإيهامهِ أنَّه لم يتوسط بينَهما ابتداء الإتيانِ أيضاً كأنَّه لم يزلْ موجُوداً عندَهُ معَ ما فيه من الدلالة على دوامِ قرارِه عنده مُنتظماً في سلكِ مُلكه {قال} أي سليمان عليه السَّلامُ تلقياً للنعمةِ بالشُّكرِ جرياً على سَنَن أبناءِ جنسه من أنبياء الله تعالى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وخلَّصِ عبادِه {هذا} أي حضورُ العرشِ بين يديِه في هذهِ المُدَّة القصيرةِ أو التمكنُ من إحضارِه بالواسطةِ أو بالذاتِ كما قيلَ {مِن فَضْلِ رَبّى} أي تفضله عليَّ منْ غيرِ استحقاقٍ لهُ من قِبلَي {ليبلوني أأشكر} بأنْ أراهُ محضَ فضلِه تعالى من غيرِ حولٍ من جهتي ولا قوةٍ وأقومَ بحقِّه {أَمْ أَكْفُرُ} بأنْ أجدَ لنفسي مدخلاً في البينِ أو أقصِّر في إقامةِ مواجبِه كما هو شأنُ سائرِ النعمِ الفائضةِ على العبادِ {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنَّه يرتبطُ به عتيدُها ويستلجب به مزيدُها ويحطُّ بهِ عن ذمَّته عبءَ الواجبِ ويتخلصُ عن وصمةِ الكُفرانِ {وَمَن كَفَرَ} أيْ لم يشكُرْ {فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ} عن شُكرهِ {كَرِيمٌ} بتركِ تعجيلِ العقوبةِ والإنعامِ مع عدمِ الشكرِ أيضاً(6/287)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
{قال} أي سليمان عليه السَّلام كُررتِ الحكايةُ مع كونِ المحكيِّ سابقاً ولاحقاً من كلامِه عليه الصَّلاة والسَّلام تنبيهاً على ما بين السَّابقِ واللاحقِ من المخالفةِ لما أنَّ الأولَ من باب الشكر لله تعالى والثَّاني أمرٌ لخدمِه {نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} أي غيِّروا هيئتَه بوجهٍ من الوجوه {ننظر} بالجزمِ على أنَّه جوابُ الأمر وقرئ بالرَّفعِ على الاستئنافِ {أَتَهْتَدِى} إلى معرفتِه أو إلى الجوابِ اللائقِ بالمقام وقيل إلى الإيمانِ بالله تعالى ورسولِه عند رؤيتِها لتقدمِ عرشها عرشِها من مسافةٍ طويلةٍ في مدةٍ قليلةٍ وقد خلَّفته مغلقةً عليه الأبوابَ موكلةً عليه الحَّراسَ والحجَّابَ(6/287)
سورة النمل (42 43) ويأباهُ تعليقُ النظرِ المتعلقِ بالاهتداءِ بالتنكيرِ فإنَّ ذلكَ ممَّا لا دخلَ فيه للتنكيرِ {أَمْ تَكُونُ} أي بالنسبةِ إلى علمنا {مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} أي إلى ما ذكر من معرفةِ عرشِها أو الجوابِ الصَّوابِ فإنَّ كونَها في نفسِ الأمرِ منهم وإنْ كان أمرا مستمرا لكن كونُها منهم عند سليمان عليه السلام وقومه أمرٌ حادثٌ يظهرُ بالاختبارِ(6/288)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
{فَلَمَّا جَاءتْ} شروعٌ في حكايةِ التَّجربةِ التي قصدَها سليمانُ عليه السَّلام أَي فلمَّا جاءتْ بلقيسُ سليمانَ عليه السلام وقد كان العرشُ بين يديِه {قِيلَ} أي من جهةِ سُليمانَ عليه السَّلامُ بالذاتِ أو بالواسطةِ {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} لم يقُل أهذا عرشُكِ لئلاَّ يكونَ تلقيناً لها فيفوتَ ما هو المقصودُ من الأمرِ بالتَّنكيرِ من إبرازِ العرشِ في مَعْرضِ الإشكالِ والاشتباهِ حتَّى يتبينَ حالها وقد ذكرت عنده عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بسخافةِ العقلِ {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} فأنبأتْ عن كمالِ رجاحةِ عقلِها حيثُ لم تقُلْ هُو هُو مع علمِها بحقيقةِ الحالِ تلويحاً بما اعتراهُ بالتَّنكير من نوعِ مغايرةٍ في الصِّفاتِ مع اتحادِ الذاتِ ومراعاةً لحسنِ الأدبِ في محاورتِه عليه الصَّلاة والسَّلامُ {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} من تتمةِ كلامِها كأنَّها ظنَّت أنه عيه الصَّلاةُ والسَّلامُ أرادَ بذلك اختبارَ عقِلها وإظهارَ معجزةٍ لها فقالتْ أُوتينا العلمَ بكمالِ قدرةِ الله تعالى وصحَّةِ نبوتِك من قبلِ هذه المعجزةِ التي شاهدنَاها بما سمعناهُ من المنذرِ من الآياتِ الدالَّةِ على ذلكَ وكُنَّا مسلمينَ من ذلكَ الوقتِ وفيهِ من الدِّلالةِ على كمالِ رزانةِ رأيها ورصانةِ فكرِها ما لا يخفى وقوله تعالى(6/288)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
{وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} بيانٌ منْ جهتِه تعالَى لِمَا كانَ يمنعُها من إظهارِ ما ادَّعتْهُ من الإسلامِ إلى الآنَ أي صدَّها عن ذلكَ عبادتُها القديمةُ للشمسِ وقولُه تعالى {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين} تعليلٌ لسببيةِ عبادتِها المذكورةِ للصدِّ أيْ أنَّها كانتْ من قومٍ راسخينَ في الكفرِ ولذلكَ لم تكُنْ قادرةً على إظهارِ إسلامِها وهي بينَ ظهرانيهم إلى أنْ دخلتْ تحتَ مُلكةِ سليمان عليه السلام وقرئ أنَّها بالفتحِ على البدليةِ من فاعلِ صدَّ أو على التَّعليلِ بحذفِ اللامِ هذا وأمَّا مَا قيلَ مِنْ أنَّ قولَه تعالى وَأُوتِينَا العلم إلى قولِه تعالى مِن قَوْمٍ كافرين من كلامِ سليمانَ عليه السَّلامُ وملئِه كأنَّهم لما سمعُوا قولهَا كأنَّه هُو تفطنُوا لإسلامِها فقالُوا استحساناً لشأنِها أصابتْ في الجوابِ وعلمت قدرةَ الله تعالى وصحَّةَ النُّبوةِ بما سمعتْ من المنذرِ من الآياتِ المتقدمةِ وبما عاينِتْ من هذهِ الآيةِ الباهرةِ من أمرِ عرشِها ورُزقتِ الإسلامَ فعطفُوا عَلى ذلك قولَهم وأُوتينَا العلمَ الخ أي وأُوتينا نحنُ العلمَ بالله تعالى وبقرته وبصحَّةِ ما جاءَ من عنده قبلَ علمِها ولم نزلْ على دينِ الإسلامِ شُكراً لله تعالَى على فضلِهم عليها وسبقِهم إلى العلمِ بالله تعالَى والإسلام قبلها وصدَّها عن التقدمِ إلى الإسلامِ عبادةُ الشمسِ ونشؤُها بين ظهراني الكفرةِ فمما لا يخف ما فيهِ من البُعدِ والتعسف(6/288)
سورة النمل (44 46)(6/289)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
{قِيلَ لَهَا ادخلى الصرح} الصَّرحُ القصرُ وقيل صحنُ الدَّارِ رُوي أنَّ سليمانَ عليهِ السَّلامُ أمرَ قبلَ قدومِها فبنَى له على طريقها قصر من زجاجٍ أبيضَ وأُجري منْ تحته الماءُ وأُلقَي فيه من دوابَ البحرِ السَّمك وغيرُه ووضعَ سريرُه في صدرِه فجلسَ عليهِ وعكفَ عليه الطيرُ والجنُّ والإنسُ وإنَّما فعلَ ذلك ليزيدها استعظاما لأمه وتحققا لبنوته وثباتاً على الدِّينِ وزعمُوا أنَّ الجنَّ كرهوا أنْ يتزوجَها فتفضيَ إليه بأسرارِهم لأنَّها كانتْ بنتَ جنيةٍ وقيل خافُوا أنْ يولَد له منْهَا ولدٌ يجتمعُ له فطنةُ الجنِّ والإنسِ فيخرجونَ من مُلكِ سلِيمانَ عليه السَّلامُ إلى مُلكٍ هو أشدُّ وأفظعُ فقالُوا إنَّ في عقلِها شيئاً وهي شَعراءُ الساقينِ ورجلُها كحافِر الحمارِ فاختبرَ عقلَها بتنكيرِ العرشِ واتخذَ الصَّرحَ ليتعرَّفَ ساقَها ورجلَها {فَلَمَّا رَأَتْهُ} وهو حاضرٌ بينَ يديها كما يَعربُ عنه الأمرُ بدخولِها وأحاطتْ بتفاصيلِ أحوالِه خبراً {حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} وتشمرتْ لئلاَّ تبتلَّ أذيالُها فإذَا هي أحسنُ النَّاسِ ساقاً وقدماً خلا أنَّها شعْراءُ قيلَ هيَ السببُ في اتخاذِ النورةِ أمرَ بها الشياطينَ فاتخذوهَا واستنكحَها عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأمرَ الجنَّ فبنَوا لها سيلحينَ وغمدانَ وكان يزورُها في الشهرِ مرةً ويقيمُ عندها ثلاثةَ أيامٍ وقيل بل زوَّجها ذا تُبَّعٍ ملكِ هَمْدانَ وسلَّطه علي اليمنِ وأمر زوبعةَ أميرَ جنِّ اليمنِ أنْ يطيعَه فبنى له المصانع وقرئ سأفيها حملا للمفردِ على الجمعِ في سُؤْقٍ وأَسْؤُقٍ {قَالَ} عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين رأَى ما اعتراها من الدَّهشةِ والرُّعبِ {أَنَّهُ} أي ما توهمْتُه ماءً {صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ} أي مملسٌ {مّن قَوارِيرَ} من الزجاجِ {قَالَتْ} حينَ عاينتْ تلكَ المعجزَة أيضاً {رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} بما كنتُ عليهِ إلى الآنَ من عبادةِ الشمس وقيل بظى بسليمانَ حيثُ ظنَّتْ أنَّه يريدُ إغراقَها في اللُّجةِ وهو بعيدٌ {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان} تابعةً له مقتديةً به وما في قولِه تعالى {لِلَّهِ رَبّ العالمين} من الانتفات إلى الاسمِ الجليلِ ووصفُه بربوبيةِ العالمينَ لإظهارِ معرفتِها بألوهيتِه تعالَى وتفرُّده باستحقاقِ العبادة وبوبيته لجميعِ الموجُوداتِ التي منْ جُملتها ما كانتْ تعبدُه قبلَ ذلكَ من الشَّمسِ(6/289)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
{وَلَقَدْ أَرْسَلنَا} عطفٌ على قوله تعالى ولقد آتينا داود وسليمان عِلْماً مسوقٌ لما سيقَ هُو له من تقريرِ أنَّه عليه الصلاةُ والسلام يلقى القرآن من لدن حكيمٍ عليمٍ فإنَّ هذه القصة أيضا من جملة القرآن الكريم الذي لقيَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ وبالله لقد أرسلنَا {إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا} وأنْ في قولِه تعالَى {أَنِ اعبدوا الله} مفسرةٌ لما في الإرسالِ من معنى القولِ أو مصدريةٌ حُذف عنها الباءُ وقرئ بضمِّ النُّونِ إتباعاً لها للباءِ {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يختصمون} ففاجئوا التفرق والاختصامَ فآمنَ فريقٌ وكفر فريق والواو لمجموع الفريقين(6/289)
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
{قال} عليه(6/289)
سورة النمل (47 49) الصَّلاة والسَّلام للفريقِ الكافرِ منهم بعدَ ما شاهدَ منهم ما شاهدَ من نهايةِ العتوِّ والعنادِ حتَّى بلغُوا من المُكابرةِ إلى أنْ قالُوا له عليه الصَّلاة والسَّلام يا صالحُ ائتِنا بما تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين {يا قوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة} أي بالعقوبةِ السيئةِ {قَبْلَ الحسنة} أي التوبةِ فتؤخرونَها إلى حينِ نزولِها حيثُ كانُوا من جهلِهم وغوايتِهم يقولونَ إنْ وقعَ إيعادُه تُبنَا حينئذٍ وإلاَّ فنحنُ على ما كناعليه {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله} هلاَّ تسغفرونه تعالَى قبل نزولِها {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بقبولها إذ لا إمكانَ للقبولِ عندَ النُّزولِ(6/290)
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
{قَالُواْ اطيرنا} أصلُه تطَّيرنَا والتَّطيرُ التشاؤمُ عُبِّر عنه بذلك لما أنَّهم كانُوا إذا خرجُوا مسافرينَ فيمرّون بطائرٍ يزجرونَه فإنْ مرَّ سانحاً تيمَّنوا وإنْ مرَّ بارحاً تشاءمُوا فلما نسبُوا الخيرَ والشرَّ إلى الطائرِ استُعير لما كانَ سبباً لهما من قدرِ الله تعالى وقسمتِه أو من عمل العبدِ أي تشاءمنا {بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} في دينك حيث تتابعت علينا الشدائدُ وقد كانُوا قحطوا أو لم نزل في اختلافٍ وافتراقٍ مُذ اخترعتُم دينَكُم {قَالَ طَائِرُكُمْ} أي سببُكم الذي منْهُ ينالُكم ما ينالُكم من الشرِّ {عَندَ الله} وهو قدرُه أو عملُكم المكتوبُ عندَهُ وقولُه تعالى {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أي تُختبرون بتعاقبِ السرَّاءِ والضرَّاءِ أو تعذبون أو بفتنكم الشيطانُ بوسوستِه إليكم الطيرةَ إضرابٌ من بيانِ طائرِهم الذي هو مبدأُ ما يحيقُ بهم إلى ذكِر ما هو الدَّاعي إليهِ(6/290)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
{وَكَانَ فِى المدينة} وهي الحِجْرُ {تِسْعَةُ رَهْطٍ} أي أشخاصٍ وبهذا الاعتبارِ وقعَ تمييزاً للتسعةِ لا باعتبارِ لفظِه والفرقُ بينه وبينَ النَّفرِ أنَّه من الثلاثةِ أو من السبعةِ إلى العشرةِ والنَّفرُ من الثلاثةِ إلى التسعةِ وأسماؤهم حسبَما نُقل عن وهبٍ الهذيلُ بنُ عبدِ ربَ وغُنم بنُ غنمٍ ورئابُ بنُ مهرجٍ ومصدعُ بنُ مهرجٍ وعميرُ بنُ كردبةَ وعاصمُ بنُ مخرمةَ وسبيطُ بنُ صدقةَ وشمعانُ بنُ صفي وقُدارُ بن سالف وهم الذين سَعَوا في عَقْرِ النَّاقةِ وكانُوا عتاةَ قومِ صالحٍ وكانُوا من أبناءِ أشرافِهم {يُفْسِدُونَ فِى الأرض} لا في المدينةِ فقط إفساداً بحتاً لا يُخالطُه شيءٌ ما من الإصلاحِ كما ينطق به قوله تعالى {وَلاَ يُصْلِحُونَ} أي لا يفعلون شيئا من الإصلاحِ أو لا يصلحون شيئاً من الأشياءِ(6/290)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
{قالوا} اسئناف ببيانِ بعضِ ما فعلُوا من الفسادِ أي قالَ بعضُهم لبعضٍ في أثناءِ المُشاورةِ في أمرِ صالحٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وكانَ ذلَك غِبَّ ما أنذرَهُمْ بالعذب وقولِه تمتعُوا في دارِكم ثلاثةَ أيامٍ الخ {تَقَاسَمُواْ بالله} إمَّا أمرٌ مقولٌ لقالُوا أو ماضٍ وقعَ بدلاً منه أو حالاً من فاعلِه بإضمارِ قدْ وقولُه تعالى {لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} أي لنباغتنَّ صالحاً وأهلَه ليلا ونقتلنهم وقرئ بالتَّاءِ على خطابِ بعضِهم لبعض وقرئ بياءِ الغَيبةِ وضمِّ التَّاءِ على أنَّ تقاسمُوا فعلٌ ماضٍ {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ} أي لولي صالح وقرئ بالتَّاءِ والياءِ كما قبلَه {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي ما حضرنَا هلاكَهم أو وقت هلاكَهم أو مكانَ هلاكِهم فضلاً أنْ نتولَّى إهلاكَهم وقرئ مهلَك بفتحِ اللامِ فيكونَ مصدراً {وِإِنَّا لصادقون} من تمامِ القولِ أو حالٌ أي نقول(6/290)
سورة النمل (50 54) ما نقولُ والحالُ إنَّا لصادقونَ في ذلكَ لأنَّ الشاهدَ للشيءِ غيرُ المباشرِ له عُرفاً أو لأنَّا ما شاهدنا مهلكَهم وحدَه بل مهلِكه ومهلكَهم جميعاً كقولِك ما رأيتُ ثمةَ رجلاً بل رجلين(6/291)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
{وَمَكَرُواْ مَكْراً} بهذهِ المواضعةِ {وَمَكَرْنَا مَكْراً} أي أهلكَناهم إهلاكاً غيرَ معهودٍ {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أو جازيناهم مكرُهم من حيثُ لا يحتسبونَ(6/291)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)
{فانظر كيف كان عاقبة مَكْرِهِمْ} شروعٌ في بيانِ ما ترتَّبَ على ما باشرُوه من المكرِ وكيفَ معلِّقةٌ لفعلِ النظرِ ومحلُ الجملةِ النصبُ بنزعِ الخافضِ أي فتفكر في أنَّه كيف كان عاقبة مكرهم وقولُه تعالى {أَنَّا دمرناهم} إما بدلٌ من عاقبةُ مكرِهم على أنَّه فاعلُ كان وهي تامَّة وكيفَ حالٌ أي فانظُرْ كيفَ حصلَ أي على أيِّ وجهٍ حدثَ تدميرُنا إيَّاهُم وإمَّا خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ والجملةُ مبينة لما في عاقبةُ مكرِهم من الإبهامِ أي هي تدميرُنا إيَّاهم {وَقَوْمَهُمْ} الذين لم يكونُوا معُهم في مباشرةِ التبييتِ {أَجْمَعِينَ} بحيثُ لم يشذ منهم شاذو إما تعليل لما ينبئ عنه الأمرُ بالنَّظرِ في كيفيةِ عاقبةِ مكرِهم من غايةِ الهولِ والفظاعةِ بحذفِ الجارِّ أي لأنَّا دمَّرناهم الخ وقيلَ كانَ ناقصةٌ اسمها عاقبة مكرم وخبرها كيفَ كانَ فالأوجُه حينئذٍ أنْ يكونَ قولُه تعالى أنَّا دمَّرناهم الخ تعليلاً لما ذكر وقرئ إنَّا دمَّرناهم الخ بالكسرِ على الاستئنافِ رُوي أنَّه كانَ لصالحٍ عليه السَّلام مسجدٌ في الحجر في شعبٍ يصلِّي فيهِ فقالُوا زعمَ صالحٌ أنَّه يفرغُ منَّا إلى ثلاثٍ فنحنُ نفرغُ منه ومن أهلهِ قبل الثَّلاثِ فخرجُوا إلى الشِّعبِ وقالُوا إذَا جاءَ يُصَلِّي قتلناهُ ثمَّ رجعنَا إلى أهله فقلناهم فبعثَ الله تعالى صخرةً من الهضبِ حيالَهم فبادرُوا فطبقتِ الصَّخرةُ عليهم فم الشِّعبِ فلم يدرِ قومُهم أينَ هُم ولم يدروا ما فُعل بقومِهم وعذَّب الله تعالى كلاً منهم في مكانِه ونجَّى صالحاً ومَن معه وقيلَ جاءُوا بالليلِ شاهرِي سيوفِهم وقد أرسلَ الله تعالى الملائكةَ ملءَ دارِ صالحِ فدمغُوهم بالحجارةِ يرون الحجارةَ ولا يَرون رامياً(6/291)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ} جملةً مقرِّرة لما قبلها وقوله تعالى {خَاوِيَةٍ} أي خاليةً أو ساقطةً متهدمةً {بِمَا ظَلَمُواْ} أي بسببِ ظلمِهم المذكورِ حالٌ من بيوتُهم والعاملُ معنى الإشارة وقرئ خاويةٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ لمبتدأٍ محذوفٍ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من التَّدميرِ العجيبِ بظلِمهم {لآيَةً} لعبرةً عظيمةً {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ما مِنْ شأنه أن يُعلم شَيْئاً من الأشياءِ أو لقومٍ يتصفونَ بالعلم(6/291)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
{وأنجينا الذين آمنوا} صالحاً ومَن مَعَهُ من المؤمنينَ {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} أي الكفَر والمعاصي اتقاءً مستمراً فلذلك خُصُّوا بالنَّجاةِ(6/291)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
{وَلُوطاً} منصوبٌ بمضمرٍ معطوفٍ على أرسلنا(6/291)
سورة النمل (55 59) في صدرِ قصَّة صالحٍ داخلٌ معه في حيزِ القسمِ أي وأرسلنا لوطاً وقولُه تعالى {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ظرفٌ للإرسالِ على أنَّ المرادَ به أمرٌ ممتدٌ وقعَ فيه الإرسالُ وما جرَى بينَه وبينَ قومِه من الأقوالِ والأحوالِ وقيل انتصابُ لوطاً بإضمارِ اذكُر وإذْ بدلٌ منه وقيل بالعطفِ على الَّذِينَ آمنُوا أي ونجينا لوطاً وهو بعيدٌ {أَتَأْتُونَ الفاحشة} أي الفعلة المتناهية في القُبح والسَّماجةِ وقولُه تعالى {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ تأتُون مفيدةٌ لتأكيدِ الإنكارِ وتشديدِ التَّوبيخِ فإنَّ تعاطيَ القبيحِ من العِالمِ بقُبحه أقبحُ وأشنعُ وتُبصرون من بصرِ القلبِ أي أتفعلونَها والحالُ أنَّكم تعلمونَ علماً يقينياً بكونِها كذلك وقيل يبصرُها بعضُكم من بعضٍ لما كانُوا يُعلنون بَها(6/292)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً} تثنية للغنكار وتكريرٌ للتوبيخِ وبيانٌ لما يأتونَهُ من الفاحشةِ بطريق التصريح وتحلية الجملة بحر في التأكيدِ للإيذانِ بأنَّ مضمونَها مما لا يُصدِّق وقوعَه أحدٌ لكمالِ بُعدِه من العقولِ وإيرادُ المفعولِ بعُنوانِ الرُّجوليةِ لتربيةِ التقبيحِ وتحقيقِ المباينةِ بينها وبين الشهوةِ التي عُلل بها الإتيانُ {مّن دُونِ النساء} متجاوزينَ النساءَ اللاتي هُنَّ محالُّ الشهوةِ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} تفعلونَ فعلَ الجاهلينَ بقبحِه أو تجهلون العاقبةَ أو الجهلُ بمعنى السَّفاهة والمجُون أي بل أنتُم قوم سفهاء ما جنون والتَّاءُ فيه مع كونِه صفةً لقومٍ لكونِهم في حيِّزِ الخطابِ(6/292)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ آل لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} يتنزهونَ عن أفعالِنا أو عن الأقذارِ ويعدّون فعلَنا قذراً وعن أن عباس رضي الله تعالى عنُهمَا أنَّه استهزاءٌ وقد مرَّ في سورةِ الأعرافِ أنَّ هذا الجوابَ هو الذي صدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات مواعظ لوط عليه السلام بالأمرِ والنَّهي لا أنَّه لم يصدُرْ عنهم كلامُ آخرُ غيرُه(6/292)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)
{فأنجيناه وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قدرناها} أي قدرنَا أنَّها {مِنَ الغابرين} أي الباقينَ في العذابِ(6/292)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} غيرَ معهودٍ {فَسَاء مَطَرُ المنذرين} قد مرَّ بيانُ كيفيةِ ما جرى عليهم من العذابِ غيرَ مرَّةٍ(6/292)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
{قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى} إثرَ ما قصَّ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قصصَ الأنبياءِ المذكورينَ عليهم الصَّلاة والسَّلام وأخبارَهم الناطقةَ بكمالِ قُدرته تعالى وعظمِ شأنِه وبما خصَّهم به من الآياتِ القاهرةِ والمعجزاتِ الباهرةِ الدالَّةِ على جلالةِ أقدارِهم وصحَّةِ أخبارِهم وبيَّن على ألسنتهم حقِّيةَ الإسلامِ والتَّوحيدِ وبطلانَ الكفرِ والإشراكِ وأنَّ من اقتَدى بهم فقد اهتدَى ومن أعرضَ عنهم فقد تردَّى في مَهاوي الرَّدى وشرح صدَره عليهِ الصَّلاة والسَّلام بمَا في تضاعيف تلك(6/292)
سورة النمل (60) القصص من فنونِ المعارفِ الرَّبانية ونوَّر قلبَه بأنوارِ الملكاتِ السُّبحانية الفائضةِ من عالمِ القدسِ وقرَّر بذلكَ فحوى ما نطقَ به قولُه عزَّ وجلَّ وَإِنَّكَ لتلقي القرآن من لدن حكيم عَلِيمٍ أمرهَ عليه الصَّلاة والسَّلام بأنْ يحمدَه تعالى على ما أفاضَ عليه من تلك النِّعمِ التي لا مطمعَ وراءَها لطامعٍ ولا مطمحَ من دونِها لطامحٍ ويسلِّم على كافَّةِ الأنبياءِ الذين من جُمْلتهم الذين قصَّت عليه أخبارُهم التي هي من جُملة المعارف التي أوجبت إليه عليه الصلاة والسلام أداء لحق تقمهم واجتهادِهم في الدِّين وقيلَ هو أمرٌ للوطٍ عليه السَّلامُ بأنْ يحمدَه تعالى على إهلاكِ كَفَرة قومِه ويسلِّم على من اصطفَاه بالعصمةِ عن الفواحشِ والنَّجاةِ عن الهلاكِ ولا يخفى بعدُه {الله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} أي أللَّهُ الذي ذكرت شئونه العظيمةُ خيرٌ أمْ مَا يشركونَه به تعالى من الأصنامِ ومرجعُ الترديدِ إلى التَّعريضِ بتبكيتِ الكفرةِ من جهتِه تعالى وتسفيِه آرائِهم الركيكةِ والتهكمِ بهم إذْ من البيِّن أنْ ليسَ فيما أشركُوه به تعالى شائبةُ خيرٍ ما حتَّى يمكن أنْ يوازنَ بينَهُ وبينَ مَنْ لا خيرَ إلا خيرُه ولا إلَه غيره وقرئ تشركونَ بالتَّاءِ الفوقانيَّةِ بطريقِ تلوينِ الخطابِ وتوجيهِه إلى الكفرةِ وهو الأليقُ بما بعدَهُ من سياقِ النَّظمِ الكريمِ المبنيِّ على خطابِهم وجعلُه من جملةِ القولِ المأمورِ به يأباهُ قولُه تعالى فأنبتْنا الخ فإنَّه صريحٌ في أنَّ التبكيتَ من قبله عزَّ وجلَّ بالذاتِ وحملُه على أنَّه حكايةٌ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما أمر به بعبارته كما في قولِه تعالى قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ تعسفٌ ظاهر من غيرِ داعٍ إليهِ وأمْ في قولِه تعالى(6/293)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
{أمْ مَنْ خلقَ السماوات والأرض} منقطعةٌ وما فيها من كلمةِ بَلْ على القراءةِ الأولى للاضرابِ والانتقالِ من التبكيت تعريضاً إلى التَّصريحِ به خطاباً على وجهٍ أظهرَ منه لمزيد التأكيد والتشديدِ وأمَّا على القراءةِ الثَّانية فلتثنية التبكيتِ وتكريرِ الإلزامِ كنظائرِها الآتيةِ والهمزةُ لتقريرِهم أي حملِهم على الإقرارِ بالحقِّ على وجهِ الاضطرارِ فإنَّه لا يتمالك أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ ولا يقدرُ على أنْ لا يعترفَ بخيريةِ مَن خلقَ جميعَ المخلوقاتِ وأفاضَ على كلَ منها ما يليقُ به من منافعِه من أخسِّ تلك المخلوقاتِ وأدناها بل بأن لا خير يرى فيه بوجه ممن الوجوهِ قطعاً ومَن مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ مع أمِ المُعادِلةِ للهمزةِ تعويلاً على ما سبقَ في الاستفهامِ الأولِ خلا أنَّ تُشركون ههنا بتاءِ الخطابِ على القراءتينِ معاً وهكذا في المواضعِ الأربعةِ الآتية والمعنى بلْ أمَّن خلقَ قُطري العالمِ الجسمانيِّ ومبدأي منافع ما بينهما {وَأَنزَلَ لَكُمْ} التفاتٌ إلى خطابِ الكَفَرةِ على القِراءةِ الأُولَى لتشديدِ التبكيتِ والإلزامِ أي أَنزل لأجلكم ومنعتكم {مِنَ السماء مَاء} أي نوعاً منه هو المطرُ {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} أي بساتينَ محدقةً ومحاطةً بالحوائطِ {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي ذاتَ حُسنٍ ورَوْنقٍ يبتهجُ به النُّظَّارُ {مَّا كَانَ لَكُمْ} أي ما صح وما أمكنَ لكُم {أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} فضلاً عن ثمرها وسائرِ صفاتِها البديعةِ خيرٌ أم ما تشركون وقرئ أَمَنْ بالتَّخفيفِ على أنَّه بدلٌ من الله وتقديمُ صِلَتى الإنزالِ على مفعولِه لما مر مرارا من التَّشويقِ إلى المؤخَّرِ والالتفاتُ إلى التكلم في(6/293)
سورة النمل (61) قوله تعالى فَأَنبَتْنَا لتأكيدِ اختصاصِ الفعلِ بذاتِه تعالى والإيذانِ بأنَّ إنباتَ تلك الحدائقِ المختلفةِ الأصنافِ والأوصافِ والألوانِ والطُّعومِ والرَّوائحِ والأشكالِ مع ما لها من الحُسنِ البارعِ والبهاءِ الرَّائعِ بماءٍ واحدٍ ممَّا لا يكادُ يُقدر عليه إلا هو وحده حسبما ينبئ عنه تقييدُها بقولِه تعالى مَّا كَانَ لَكُمْ الخ سواء كانت صفةً لها أو حالاً وتوحيدُ وصفها الأولِ أعني ذاتَ بهجةٍ لما أنَّ المَعنى جماعةُ حدائقَ ذاتُ بهجةٍ على نهجِ قولِهم النِّساءُ ذهبتْ وكذا الحالُ في ضميرِ شجرها {أإله مَّعَ الله} أي أإلهٌ آخرُ كائنٌ مع الله الذي ذُكرَ بعضُ أفعالِه التي لا يكادُ يقدرُ عليها غيرُه حتَّى يتوهَّم جعلَه شريكاً له تعالَى في العبادةِ وهذا تبكيتٌ لهم بنفي الألوهيةِ عمَّا يُشركونه به تعالى في ضمنِ النَّفي الكليِّ على الطريقةِ البُرهانيةِ بعد تبكيتِهم بنفي الخيريةِ عنْهُ بما ذكرَ من التَّرديدِ فإنَّ أحداً ممَّن له تمييزٌ في الجُملةِ كما لا يقدرُ على إنكارِ انتفاءِ الخيريةِ عنه بالمرةِ لا يُكاد يَقدِر على إنكارِ انتفاءِ الألوهيةِ عنه رأساً لا سيَّما بعد ملاحظةِ انتفاءِ أحكامِها عمَّا سواهُ تعالى وهكذا الحالُ في المواقعِ الأربعةِ الآتيةِ وقيل المرادُ نفَي أنْ يكونَ معه تعالى إلهٌ آخرُ فيما ذكر من الخلقِ وما عطفَ عليه لكن لا على أنَّ التبكيتَ بنفس ذلك النفي فقط كيفَ لا وهم لا يُنكرونَه حسبما ينطِق به قولُه تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ من خَلَقَ السمواتِ والأرضِ لَيَقُولُنَّ الله بل بإشراكِهم به تعالَى في العبادةِ ما يعترفون بعدمِ مشاركتِه له تعالى فيما ذكرَ من لوازمِ الألوهيَّةِ كأنَّه قيلَ أإلهٌ آخرُ مع الله في خواصِّ الأُلوهيةِ حتى يجعل شريكا له تعالى في العبادةِ وقيل المعنى أغيرُه يُقرن به ويجعلُ له شريكاً في البعادة مع تفرد تعالى بالخلقِ والتَّكوينِ فالإنكارُ للتوبيخِ والتبكيتِ مع تحقيقِ المنكرِ دون النفي كما في الوجهينِ السابقينِ والأولُ هو الأظهرُ الموافقُ لقولِه تعالَى وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله والأوفى بحقِّ المقامِ لإفادتِه نفي وجودِ إلهٍ آخرَ معه تعالى رأساً لا نفيَ معيَّته في الخلقِ وفروعِه فقط وقرئ آإلهٌ بتوسيطِ مدةٍ بينَ الهمزتينِ وبإخراجِ الثَّانيةِ بينَ بين وقرئ أإلها بإضمار فعلٍ يناسبُ المقامَ مثل أندعون أو أتشركونَ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} إضرابٌ وانتقالٌ من تبكيتِهم بطريقِ الخطابِ إلى بيانِ سوءٍ حالِهم وحكايتِه لغيرِهم أي بل هُم قومٌ عادتُهم العُدولُ عن طريقِ الحقِّ بالكليةِ والانحراف عن الساتقامة في كلِّ أمرٍ من الأمورِ فلذلك يفعلونَ ما يفعلونَ من العُدول عن الحقِّ الواضحِ الذي هو التَّوحيدُ والعُكوفُ على الباطلِ البيِّن الذي هو الإشراكُ وقيل يعدلونَ به تعالَى غيرَهُ وهو بعيدٌ خالٍ عن الإفادةِ(6/294)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
{أَم مَّنْ جَعَلَ الأرض قَرَاراً} قيلَ هو بدلٌ من أمْ مَنْ خلقَ السمواتِ الخ وكذا ما بعدَه من الجُملِ الثَّلاثِ وحكم الكلِّ واحدٌ والأظهرُ أنَّ كلَّ واحدةٍ منها إضرابٌ وانتقالٌ من التبكيتِ بما قبلها إلى التبكيتِ بوجهٍ آخرَ أدخلُ في الإلزامِ بجهةٍ من الجهاتِ أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب بإيذاء بعضها من الماء ودحوها وتسويتِها حسبما تدورُ عليه منافعهُم {وَجَعَلَ خِلاَلَهَا} أوساطَها {أَنْهَاراً} جاريةً ينتفعونَ بها(6/294)
سورة النمل (62 63) {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ} أي جبالاً ثوابتَ تمنعها أنْ تميدَ بأهلها ويتكونُ فيها المعادنُ وينبعُ في حضيضِها الينابيعُ ويتعلقُ بها من المصالح مالا يُحصى {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين} أي العذب والمالحِ أو خليجيْ فارسَ والرومِ {حَاجِزاً} برزخاً مانعاً من الممازجةِ وقد مرَّ في سورةِ الفرقانِ والجعلُ في المواقعِ الثلاثةِ الأخيرةِ إبداعيٌّ وتأخيرُ مفعولِه عن الظرفِ لما مرَّ مرارا من التشويق {أإله مَّعَ الله} في الوجودِ أو في إبداعِ هذه البدائعِ على ما مرَّ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي شيئاً من الأشياءِ ولذلك لا يفهمونَ بطلانَ ما هم عليه من الشركِ مع كمالِ ظهورِه(6/295)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
{أَم مَّنْ يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} وهو الذي أحوجتْه شدةٌ من الشَّدائدِ وألجأته إلى اللجَأِ والضَّراعةِ إلى الله عزَّ وجلَّ اسم مفعولٍ من الاضطرارِ الذي هو افتعالٌ من الضِّرورةِ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هو المجهودُ وعن السدى رحمه الله تعالى مَن لا حولَ له ولا قوةَ وقيل المذنبُ إذا استغفرَ واللامُ للجِنسِ لا للاستغراقِ حتَّى يلزمَ إجابة كلِّ مضطرٍ {وَيَكْشِفُ السوء} وهُو الذي يعترِي الإنسانَ مما يسوؤُه {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي خلفاءَ فيها بأنْ ورَّثكم سُكناها والتَّصرفَ فيها ممَّن قبلكم من الأممِ وقيل المرادُ بالخلافةِ الملك والتسلط {أإله مَّعَ الله} الذي يُفيض على كافةِ الأنامِ هذه النعمَ الجسامَ {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أي تذكرا قليال أو زماناً قليلاً تتذكرونَ وما مزيدةٌ لتأكيدِ معنى القلَّةِ التي أريدَ بها العدمُ أو ما يجري مجراه في الحقارةِ وعدمِ الجدوى وفي تذييل الكلامِ بنفي التذكرِ عنهم إيذانٌ بأنَّ مضمونَهُ مركوزٌ في ذهنِ كلِّ ذكيَ وغبيَ وأنَّه من الوضوحِ بيحث لا يتوقفُ إلا على التوجه إليه وتذكره وقرئ تتذكرونَ على الأصلِ وتذّكرون ويذكرون بالتاءِ والياءِ مع الإدغامِ(6/295)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
{أَم مَّنْ يَهْدِيكُمْ فِى ظلمات البر والبحر} أي في ظلماتِ الليالي فيهما على أنَّ الإضافةَ للملابسةِ أو في مشتَبِهات الطرقِ يقالُ طريقةٌ ظلماءُ وعمياءُ للتي لا منارَ بها {وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} وهي المطرُ ولئن صحَّ أن السببَ الأكثريَّ في تكونِ الريحِ معاودةُ الأدخنةِ الصاعدةِ من الطبقةِ الباردةِ لانكسارِ حرِّها وتمويجِها للهواءِ فلا ريبَ في أنَّ الأسبابَ الفاعليةَ والقابليةَ لذلك كلِّه من خلقِ الله عزَّ وجلَّ والفاعلُ للسببِ فاعلٌ للمسبب قطعا {أإله مَّعَ الله} نفيٌ لأنْ يكونَ معه إلهٌ آخرُ وقولُه تعالى {تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} تقريرٌ وتحقيقٌ له وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ للإشعارِ بعلةِ الحُكمِ أي تعالَى وتنزه بذاتِه المنفردةِ بالألُوهيةِ المستتبعةِ لجميعِ صفات الكمال ونعوت الجمال والجلالِ المقتضيةِ لكونِ كلِّ المخلوقاتِ مقهُوراً تحتَ قُدرتِه عمَّا يُشركون أيْ عنْ وجودِ ما يُشركونَه به تعالَى لا مُطلقاً فإنَّ وجودَه مما لا مردَّ له بل عن(6/295)
سورة النمل (64 66) وجودِه بعُنوانِ كونِه إلهاً وشريكاً له تعالَى أو عن إشراكِهِم(6/296)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
{أَم مَّنْ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي بلْ أمن يبدأُ الخلقَ ثمَّ يعيده بعد الموت بالبعث {وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض} أي بأسبابٍ سماويةٍ وأرضيةٍ قد رتبَّها على ترتيبٍ بديعٍ تقتضيهِ الحكمةُ التي عليها بُني أمرُ التكوينِ خيرٌ أمْ ما تشركونَه به في العبادةِ من جمادٍ لا يتوهم قدرتُه على شيءٍ ما أصلاً {أإله} آخرُ موجودٌ {مَعَ الله} حتى يجعل شريكا له في العبادةِ وقولُه تعالَى {قُلْ هَاتُواْ برهانكم} أمرٌ له عليه الصلاة والسلام بتبكيتِهم إثرَ تبكيتٍ أي هاتُوا بُرهاناً عقلياً أو نقلياً يدلُّ على أنَّ معه تعالى إلهاً لا على أنَّ غيرَه تعالى يقدُر على شيءٍ ممَّا ذُكر من أفعالِه تعالى كما قيلَ فإنَّهم لا يدعونَهُ صريحاً ولا يلتزمونَ كونَه من لوازمِ الألوهيةِ وإن كان منها في الحقيقةِ فمطالبتُهم بالبرهانِ عليه لا على صريحِ دعواهم مما لا وجهَ لَهُ وفي إضافةِ البرُهان إلى ضميرهم تهكمٌ بهم لما فيَها من إيهامٍ أنَّ لهم برهاناً وأنَّى لهُم ذلكَ {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في تلك الدَّعوى(6/296)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
{قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} بعدما حقق تفرده تعالى بالأُلوهيةِ ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة التامة والرحمة الشاملة العامة عقبه بذكر ما هو من لوازمه وهو اختصاصِه بعلمِ الغيبِ تكميلاً لما قبله وتمهيداً لما بعدَه من أمرِ البعثِ والاستثناءُ منقطعٌ ورفعُ المستثنى على اللُّغةِ التميمية للدِّلالةِ على استحالةِ علمِ الغيبِ من أهلِ السَّمواتِ والأرضِ بتعليقِه بكونِه سُبحانه وتعالَى منُهم كأنَّه قيلَ إنْ كانَ الله تعالَى ممن فيهما ففيهم مَن يعلمُ الغيبَ أو متصلٌ على أنَّ المرادَ بِمَنْ فِى السَّمواتِ والأَرضِ مَن تعلقَ علمُه بهما واطَّلع عليهما اطِّلاعَ الحاضرِ فيهما فإنَّ ذلكَ معنى مجازيٌّ عامٌّ له تعالَى ولأوُلي العلمِ من خلقِه ومَن موصولةٌ أو موصوفةٌ {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي مَتَى يُنشرون من القبورِ معَ كونِه ممَّا لا بُدَّ لهم منْهُ ومن أهم الأُمورِ عندهم وأيَّان مركبةٌ من أي وآن وقرئ بكسرِ الهمزةِ والضَّميرُ للكفرةِ وإنْ كانَ عدمُ الشُّعورِ بما ذُكر عامَّاً لئلاَّ يلزمَ التفكيكُ بينَه وبينَ ما سيأتي من الضَّمائِر الخاصَّةِ بهم قطعاً وقيلَ الكل لمن وإساد خواصِّ الكفرةِ إلى الجميعِ من قبيلِ قولِهم بنُو فُلانٍ فعلُوا كَذَا والفاعلُ بعض منهم(6/296)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
{بل ادَّارك علمُهم في الآخرةِ} لمَّا نفَى عنهم علمَ الغيبِ وأكَّد ذلكَ بنفِي شعورِهم بوقت ما هو مصيرُهم لا محالةَ بُولغَ في تأكيدِه وتقريرِه بأنْ أضربَ عنْهُ وبيَّن أنَّهم في جهلٍ أفحشَ من جهلهِم بوقت بعثِهم حيثُ لا يعلمونَ أحوالَ الآخرةِ مُطلقاً معَ تعاضدِ أسبابِ معرفِتها على أنَّ معنى ادَّارك علمُهم في الآخرةِ تداركَ وتتابعَ علمُهم في شأنِ الآخرةِ التي ما ذُكر من البعثِ حالٌ مِن أحوالِها حتَّى انقطعَ ولم يبقَ لهم علمٌ بسيء ممَّا سيكونُ فيها قطعاً لكنْ لا على مَعْنى أنه(6/296)
سورة النمل (67) كانَ لهم علمٌ بذلكَ على الحقيقةِ ثمَّ انتفَى شيئاً فشيئاً بلْ على طريقةِ المجازِ بتنزيلِ أسبابِ العلمِ ومباديِه من الدَّلائلِ العقليةِ والسَّمعيةِ منزلةَ نفسِه وإجراءِ تساقطِها عن درجةِ اعتبارِهم كلَّما لاحظُوها مُجرى تتابعِها إلى الانقطاعِ ثمَّ أضربَ وانتقلَ عن بيانِ عدمِ علمِهم بها إلى بيانِ ما هُو أَسوأُ منه وهو حيرتُهم في ذلكَ حيثُ قيلَ {بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا} أي في شكَ مُريبٍ من نفسِ الآخرةِ وتحققها كَمن تحيَّر في أمرٍ لا يجدُ عليه دليلاً فضلاً عن الأمورِ التي ستقعُ فيها ثمَّ أضربَ عن ذلكَ إلى بيانِ أنَّ ما هُم فيه أشدُّ وأفظعُ من الشكِّ حيث قيل {بل هم مّنْهَا عَمُونَ} بحيثُ لا يكادونَ يُدركون دلائلَها لاختلالِ بصائرهم بالكلية وقرئ بل أدّرك علمُهم بمعنى انتهى وفَنِيَ وقد فسَّره الحسن البصري اضمحل علمهم وقيل كلنا الصيغتين على معناها الظاهرِ أي تكاملَ واستحكَم أو تمَّ أسبابُ علمِهم بأن القيامة كائنةٌ لا محالةَ من الآيات القاطعةِ والحُججِ السَّاطعةِ وتمكَّنُوا من المعرفِة فضلَ تمكنٍ وهم جاهلُون في ذلكَ وقولُه تعالَى بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا إضرابٌ وانتقالٌ من وصفهم بمطلقِ الجهلِ إلى وصفِهم بالشكِّ وقولُه تعالَى بَلْ هُمْ مهاعمون إضرابٌ من وصفِهم بالشكِّ إلى وصفِهم بَما هُو أشدُّ منْهُ وأفظعُ من العَمَى وأنتَ خبيرٌ بأنَّ تنزيلَ أسبابِ العلمِ منزلةَ العلمِ سَننٌ مسلوكٌ لكنْ دلالةُ النَّظمِ الكريمِ على جهلِهم حينئذٍ ليستْ بواضحةٍ وقيلَ المرادُ بوصفِهم باستحكامِ العلمِ وتكاملِه التَّهكمُ بهم فيكونَ وصفاً لهُم بالجهل مُبالَغةً والإضرابانِ على ما ذُكر وأصلُ ادَّاركَ تَدَارك وبه قرأَ أُبَيٌّ فأُبدلتِ التَّاءُ دالاً وسُكِّنتْ فتعذَّرَ الابتداءُ فاجتُلِبتْ همزةُ الوصلِ فصار ادارك وقرئ بلِ ادَّرك وأصلُه افتعلَ وبلْ أَأَدَّرك بهمزتينِ وبلْ آأدْرَك بألفٍ بينَهما وبلْ أدرك بالتَّخفيفِ والنَّقلِ وبَلَ ادَّرك بفتحِ اللامِ وتشديدِ الدَّالِ وأصلُه بلْ أدّركَ على الاستفهامِ وبَلَى ادّركَ وبَلَى أَأَدْرك وأمْ تَدَارك وأمِ ادَّرك فهذهِ ثِنْتا عشرةَ قراءةً فما فيهِ استفهامٌ صريحٌ أو مضمَّنٌ من ذلكَ فهُو إنكارٌ ونفيٌ وما فيهِ بَلَى فإثباتٌ لشعورِهم وتفسيرٌ له بالإدراكِ على وجهِ التَّهكمِ الذي هو أبلغُ وجوهِ النَّفي والإنْكارِ وما بعدَهُ إضرابٌ عن التَّفسيرِ مبالغةً في النَّفي ودلالةً على أنَّ شعورَهم بها أنَّهم شاكُّون فيها بلْ إنَّهم منها عمون أورد إنكار لشعورِهم(6/297)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} بيانٌ لجهلِهم بالآخرةِ وعَمَهِهم منها بحكايةِ إنكارِهم للبعثِ ووضعُ الموصول موضع ضميرهم لذمِّهم بما في حيزِ صلته والإشعارِ بعلَّة حكمِهم الباطلِ في قولهم {أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لَمُخْرَجُونَ} أي أنخرجُ من القبورِ إذا كنَّا تُراباً كما ينبئ عنه مخرجونَ ولا مَساغَ لأنْ يكونَ هو العاملَ في إذَا لاجتماعِ موانعَ لو تفرَّدَ واحدٌ منها لكَفَى في المنعِ وتقييدُ الإخراجِ بوقتِ كونِهم تُراباً ليس لتخصيصِ الإنكارِ بالإخراجِ حينئذٍ فقط فإنَّهم منكرِون للإحياءِ بعدَ الموتِ مُطلقاً وإنْ كانَ البدنُ على حالِه بل لتقويةِ الإنكارِ بتوجيههِ إلى الإخراجِ في حالةٍ منافيةٍ له وقولُه تعالَى وآباؤُنا عطفٌ على اسمِ كانَ وقامَ الفصلُ مع الخبرِ مقامَ الفصلِ بالتأكيدِ وتكريرُ الهمزةِ في أثنا للمبالغةِ والتَّشديدِ في الإنكارِ وتحليةُ الجُملةِ بأنَّ واللامِ لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التاكيد كما يوهمه ظاهرِ النظمِ فإنَّ تقديمَ الهمزةِ لاقتضائِها الصدارةَ كما في قولِه تعالى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ونظائرِه عَلَى رَأي الجُمهورِ فإن المعنى عندهم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التعقيبِ كما هو المشهور(6/297)
سورة النمل (68 73) وقرئ إذَا كنَّا بهمزةٍ واحدةٍ مكسورة وقرئ إنَّا لمخرجُون على الخبرِ(6/298)
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
{لَقَدْ وُعِدْنَا هذا} أي الإخراج {نحن وآباؤنا مِن قَبْلُ} أي من قبلِ وعدِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وتقديمُ الموعودِ على نحنُ لأنَّه المقصودُ بالذكرِ وحيثُ أُخّرَ قُصد به المبعوثَ والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ الإنكارِ وتصديرُها بالقسمِ لمزيدِ التأكيدِ وقولُه تعالى {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين} تقريرُ إثرَ تقريرٍ(6/298)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
{قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين} بسببِ تكذيبِهم للرُّسلِ عليهمْ الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما دَعَوهم إِلَيْهِ منَ الإيمانِ بالله عزَّ وجلَّ وحَدهُ وباليومِ الآخرِ الذي تُنكرونَهُ فإنَّ في مشاهدةِ عاقبتِهم ما فيهِ كفايةٌ لأُولي الأبصارِ وفي التعبيرِ عن المُكذبينَ بالمجرمينَ لُطفٌ بالمؤمنينَ في تَرْكِ الجرائم(6/298)
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} لإصرارِهم على الكُفْرِ والتَّكذيبِ {وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ} في حَرَجِ صدرٍ {مّمَّا يَمْكُرُونَ} من مكرِهم فإنَّ الله تعالى يعصمك من لاناس وقرئ بكسرِ الضَّادِ وهُو أيضاً مصدر ويجوزأن يكونَ المفتوحُ مخفَّفاً من ضيق وقد قرئ كذلكَ أي لا تكُن في أمرٍ ضيِّقٍ(6/298)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} أي العذابُ العاجلُ الموعودُ {إِن كُنتُمْ صادقين} في إخبارِكم بإتيانِه والجمعُ باعتبارِ شركة المؤنين في الإخبارِ بذلَك(6/298)
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
{قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} أي تبعكُم ولحقكُم والَّلامُ مزيدةٌ للتأكيدِ كالباءِ في قولهِ تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة أو الفعلُ مضمَّنٌ معنى فعلٍ يُعدَّى باللَّامِ وقرئ بفتحِ الدَّالِ وهي لغةٌ فيه {بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ} وهو عذابُ يومِ بدرٍ وعسَى ولعلَّ وسوف في مواعيد الملوك بمنزلة الجزم بها وإنما يطلقونها إظهار اللوقار وإسعارا بأنَّ الرَّمزَ من أمثالِهم كالتَّصريحِ ممَّن عداهُم وعلى ذلك مَجرى وعدِ الله تعالى ووعيدهِ وإيثارُ مَا عليهِ النَّظمُ الكريمُ عَلى أنْ يُقالَ عَسى أنْ يردفَكم الخ لكونِه أدلَّ على تحققِ الوعدِ(6/298)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} أي لذُو إفضالٍ وإنعامٍ على كافَّة النَّاسِ ومن جُملةِ إنعاماتِه تأخيرُ عقوبةِ هؤلاءِ على ما يرتكبونَهُ من المَعَاصي التي من جُملتِها استعجالُ العذابِ {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} لا يعرفون حقَّ النعمةِ فيه فلا يشكرونَهُ بل يستعجلونَ بجهلِهم وقوعَهُ كدأب هؤلاء(6/298)
سورة النمل (74 80)(6/299)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي ما تخفيه وقرئ بفتحِ التَّاءِ من كننتُ الشيءَ إذا سترتُه {وَمَا يُعْلِنُونَ} من الأفعالِ والأقوالِ التي من جملتها ما حُكي عنهم من استعجالِ العذابِ وفيه إيذانٌ بأنَّ لهم قبائحَ غيرَ ما يُظهرونَهُ وأنَّه تعالَى يُجازيهم على الكلِّ وتقديمُ السرِّ على العَلَن قد مرَّ سرُّه في سُورةِ البقرةِ عند قوله تعالى أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(6/299)
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السماء والأرض} أي من خافيةٍ فيهما وهُما من الصِّفاتِ الغالبةِ والتَّاءُ للمبالغة كَما في الرِّوايةِ أو اسمانِ لما يغيبُ ويَخْفى والتَّاءُ للنقلِ إلى الاسميَّةِ {إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ} أيْ بيِّنٍ أو مُبينٍ لما فيهِ لَمنْ يُطالعه وهو اللَّوحُ المحفوظُ وقيلَ هُو القضاءُ العدلُ بطريقِ الاستعارة(6/299)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
{إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} منْ جُملتِه ما اختلفُوا في شأنِ المسيحِ وتخزبوا فيهِ أحزاباً وركبُوا متنَ العُتوِّ والغُلوِّ في الإفراطِ والتَّفريطِ والتَّشبيهِ والتَّنزيهِ ووقعَ بينُهم التَّناكُدُ في أشياءَ حتَّى بلغَ المُشاقَّة إلى حيثُ لعنَ بعضُهم بعضاً وقد نزلَ القرآنُ الكريمُ ببيانِ كُنْهِ الأمرِ لو كانُوا في حيِّز الإنصافِ(6/299)
وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ} على الإطلاقِ فيدخلُ فيهم مَن آمنَ مِن بني إسرائيلَ دُخولاً أَوَّلِياً(6/299)
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ} أي بينَ بني إسرائيلَ {بِحُكْمِهِ} بما يحكمُ بهِ وهو الحقُّ أو بحكمتِه ويؤيده أنه قرئ بحُكمه {وَهُوَ العزيز} فلا يردُّ حكمُه وقضاؤُه {العليم} بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جُملتها ما يقضى بهِ والفاءُ في قوله تعالى(6/299)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)
{فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} لترتيبِ الأمرِ على ما ذكر من شئونه عزَّ وجلَّ فإنَّها موجبةٌ للتوكلِ عليهِ وداعيةٌ إلى الأمرِ بهِ أي فتوكَّل عَلى الله الذي هَذا شأنُه فإنَّه موجبٌ على كلِّ أحدٍ أنْ يتوكلَ عليهِ ويفوض جميعَ أمورِه إليهِ وقولُه تعالى {إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} تعليلٌ صريحٌ للتَّوكلِ عليه تعالَى بكونه عليه الصلاة والسلام على الحقِّ البيِّنِ أو الفاصلِ بينَهُ وبينَ الباطلِ أو بين المحق والمبطل فإنَّ كونَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كذلكَ ممَّا يُوجبُ الوثوقَ بحفظِه تعالى ونُصرتِه وتأييدِه لا محالةَ وقولُه تعالَى(6/299)
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
{إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى}(6/299)
الخ تعليلٌ آخرُ للتَّوكلِ الذي هو عبارة عن التبتُل إلى الله تعالَى وتفويضِ الأمرِ إليهِ والإعراضِ عن التشبث بما سواه وقد عُلِّل أولاً بما يُوجبه من جهتِه تعالى أعني قضاءَهُ بالحقِّ وعزَّتِه وعلمهِ تعالى وثانياً بما يُوجبه من جهتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على أحدِ الوجهينِ أعنِي كونَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على الحقِّ ومن جهتِه تعالى على الوجهِ الآخرِ أعني إعانتَه تعالى وتأييده للمحق ثم عُلِّل ثالثاً بما يُوجبه لكنْ لا بالذَّاتِ بل بواسطةِ إيجابِه للإعراضِ عن التشبث بما سواه تعالى فإنَّ كونَهم كالمَوتى والصُمِّ والعُمْي موجبٌ لقطعِ الطمعِ عن مشايعتِهم ومعاضدتِهم رأساً وداعٍ إلى تخصيصِ الاعتضادِ به تعالى وهو المعنى بالتَّوكل عليه تعالى وإنَّما شُبِّهوا بالموتى لعدمِ تأثرِهم بما يُتلى عليهم من القوارعِ وإطلاقُ الإِسماعِ عن المفعولِ لبيانِ عدمِ سماعهم لشيءٍ من المسموعاتِ ولعل المراد تشببه قلوبِهم بالمَوتى فيما ذُكر من عدمِ الشُّعور فإنَّ القلبَ مَشعرٌ من المشاعرِ أشُير إلى بطلانِه بالمرةِ ثم بُيِّن بطلانُ مشعري الأذنِ والعينِ كما في قولِه تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ يبصرون بها وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا وإلا فبعد تشبيهِ أنفسِهم بالمَوتى لا يظهر لتشبيهِهم بالصُّمِّ والعمى مزيد مزية {وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء} أي الدَّعوةَ إلى أمرٍ من الأمُور وتقييدُ النفيِّ بقولِه تعالى {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} لتكميلِ التشبيهِ وتأكيدِ النفيِّ فإنَّهم مع صَمَمِهم عن الدُّعاء إلى الحقِّ معُرضونَ عن الدَّاعي مولُّون على أدبارِهم ولا ريبَ في أنَّ الأصمَّ لا يسمعُ الدُّعاءَ مع كونِ الدَّاعِي بمقابلةِ صُماخه قريباً منه فكيفَ إذا كانَ خلفَهُ بعيدا منه وقرئ ولا يسمع الصم الدعاء(6/300)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
{وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم} هدايةً موصِّلةً إلى المطلوبِ كما في قولِه تعالى إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ فإنَّ الاهتداءَ منوطٌ بالبصرِ وعن متعلِّقِةٍ بالهدايةِ باعتبارِ تضمنِه معنى الصَّرفِ وقيل بالعمى يقال عمى عن كذا وفيهِ بعدٌ وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للمُبالغةِ في نفي الهداية وقرئ وما أنت تَهدي العُميَ {إِن تُسْمِعُ} أي ما تُسمع سماعاً يُجدي السامعَ نفعاً {إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بآياتنا} أي مِن شأنِهم الإيمانُ بها وإيرادُ الإسماعِ في النفيِّ والإثباتِ دونَ الهدايةِ مع قُربها بأنْ يقالَ إنْ تُهدي إلا مَن يُؤمن الخ لِما أنَّ طريقَ الهدايةِ هو إسماعُ الآياتِ التنزيليَّةِ {فَهُم مُّسْلِمُونَ} تعليلٌ لإيمانِهم بَها كأنَّه قيلَ فإنَّهم مُنقادونَ للحقَّ وقيلَ مُخلصون لله تعالى من قولِه تعالى بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ(6/300)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
{وَإِذْا وَقَعَ القول عَلَيْهِم} بيانٌ لما أُشير إليه بقولِه تعالى بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ من بقيةِ ما يستعجلونَهُ من السَّاعةِ ومباديها والمُرادُ بالقولِ ما نطقَ من الآيات الكريمة بمجئ السَّاعةِ وما فيها مِنْ فُنونِ الأَهوالِ التي كانُوا يستعجلُونها وبوقوعِه قيامُها وحصولُها عبَّر عن ذلكَ به للإيذان بشدَّةِ وقعِها وتأثيرِها وإسنادُه إلى القولِ لِما أنَّ المرادُ بيانُ وقوعِها منْ حيثُ إنَّها مصداقٌ للقولِ النَّاطقِ بمجيئها وقد أُريدَ بالوقوعِ دُنوُّه واقترابُه كما في قوله تعالى أتى أَمْرُ الله أي إذا دَنَا وقوعُ مدلولِ القولِ(6/300)
المذكورِ الذي لا يكادُون يسمعونَهُ ومصداقُه {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الأرض} وهي الجسَّاسةُ وفي التَّعبيرِ عنها باسمِ الجنسِ وتأكيدُ إبهامِه بالتَّنوينِ التفخيميِّ من الدِّلالةِ على غَرَابةِ شأنِها وخروجِ أوصافِها عن طور البيانُ ما لا يخفى وقد وردَ في الحديثِ أنَّ طولها ستُّون ذراعاً لا يدركها طالبٌ ولا يفوتها هارب وروي أن لها أربع قوائم ولها زغب وريشٌ وجناحانِ وعن ابن جُريجٍ في وصفِها رأسُ صور وعين خنزير وأذن قيل وقرنُ أيلُ وعنقُ نعامةٍ وصدرُ أسدٍ ولونُ نمرٍ وخاصرةُ هرةٍ وذَنَبُ كبشِ وخُفُّ بعيرٍ وما بين المفصلينِ اثنا عشرَ ذراعاً بذراعِ آدمَ عليهِ السَّلامُ وقال وهبٌ وجهُها وجه الرَّجلِ وباقي خَلقِها خَلْقُ الطَّيرِ ورُوي عن عليَ رضيَ الله عنه أنَّه قال ليس بدابةٍ لها ذنبٌ ولكنْ لها لحيةٌ كأنه يشير إلى أنه رجلٌ والمشهورُ أنَّها دابَّةٌ وروي لا تخرجُ إلا رأسُها ورأسُها يبلغُ عنانَ السَّماءِ أو يبلغُ السَّحابَ وعن أبي هريرةَ رضيَ الله تعالى عنه فيها كلُّ لونٍ ما بينَ قَرنيها فرسخٌ للرَّاكبِ وعن الحسنِ رضيَ الله عنه لا يتمُّ خروجُها إلا بعدَ ثلاثةِ أيَّام وعنْ علي رضي الله عنه أنَّها تخرجُ ثلاثَة أيَّامٍ والنَّاسُ ينظرونَ فلا يخرجُ كلَّ يومٍ إلا ثلثُها وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه سُئل من أين تخرجُ الدَّابةُ فقال من أعظمِ المساجدِ حرمةً على الله تعالى يعني المسجدَ الحرامَ ورُوي أنَّها تخرجُ ثلاثَ خرجاتٍ تخرجُ بأقصى اليمن ثم تتكمن ثم تخرجُ بالباديةِ ثم تتكمن دهراً طويلاً فبينا النَّاسُ في أعظمِ المساجدِ حرمةً على الله تعالى وأكرمِها فما يهولُهم إلا خروجُها من بينِ الركنِ حذاءً دار بني مخزومِ عن يمين الخارجِ من المسجد فقومٌ يهربون وقومٌ يقفون نظارةً وقيل تخرجُ من الصفاو روى نبينا عيسى عليه السَّلامُ يطوفُ بالبيتِ ومعه المُسلمون إذْ تضطربُ الأرضُ تحتهم تحرُّكَ القنديلِ وينشقُّ الصَّفا مَّما يلِي المَسْعى فتخرجُ الدَّابةُ من الصَّفا ومعها عصا مُوسى وخاتمُ سليمانَ عليهما السَّلام فتضربُ المؤمنَ في مسجدِه بالعصَا فتنكتُ نُكتةً بيضاء فتفشو حتى يضء لها وجهُه وتكتبُ بين عينيهِ مؤمنٌ وتنكتُ الكافرَ بالخاتمِ في أنفهِ فتفشُو النكتةُ حتَّى يسودَّ لها وجهُه وتكتبُ بين عينيهِ كافرٌ ثم تقولُ لهم أنتَ يا فلانُ من أهل الجنَّة وأنتَ يا فلانُ من أهل الجنَّة وانتلا يا فلان من أهل النَّارِ ورُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قرع الصفا بعصاء وهو مُحرمٌ وقال إنَّ الدَّابةَ لتسمعُ قرعَ عصايَ هذه ورَوَى أبُو هريرةَ عن النبي صلى اله عليه وسلم أنَّه قال بئسَ الشّعبُ شِعبُ أجيادٍ مرتينِ أو ثلاثاً قيلَ ولم ذاكَ يا رسولَ الله قالَ تخرجُ منه الدَّابةُ فتصرخُ ثلاثَ صرخاتٍ يسمعُها مَن بين الخافقينِ فتتكلمُ بالعربيةِ بلسانٍ ذلقٍ وذلك قولُه تعالى {تُكَلّمُهُمْ أَنَّ الناس كانوا بآياتنا لاَ يُوقِنُونَ} أي تُكلمهم بأنَّهم كانُوا لا يُوقنون بأياتِ الله تعالى النَّاطقةِ بمجئ السَّاعة ومباديها أو بجميع آياته التي من جملتها تلك الآياتُ وقيل بآياته التي من جُملتها خروجُها بينَ يدي السَّاعةِ والأولُ هو الحقُّ كما سُتحيط به علما وقرئ بأنَّ النَّاس الآيةَ وإضافةُ الآياتِ إلى نُونِ العظمةِ لأنَّها حكايةٌ منه تعالى لمعنى قولِها لا لعينِ عبارتِها وقيل لأنَّها حكايةٌ منها لقولِ الله عزَّ وجَلَّ وقيل لاختصاصِها به تعالى وأثرتِها عنده كما يقولُ بعضُ خواصِّ الملكِ خيلُنا وبلادُنا وإنَّما الخيلُ والبلادُ لمولاهُ وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ أي بآياتِ ربِّنا ووصفُهم بعدمِ الإيقانِ بها معَ أنَّهم كانُوا جاحدينَ بها للإيذانِ بأنَّه كانَ من حقِّهم أنْ يُوقنوا بها ويقطعُوا بصحتها وقد اتصفوا بنقيضه وقرئ إنَّ النَّاس بالكسرِ على إضمارِ القولِ أو إجراءِ الكلامِ مَجراهُ والكلامُ في الإضافةِ كالذي سبقَ وقيل هو استئنافٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى لتعليلِ إخراجِها أو تكليمِها ويردُّه الجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل(6/301)
سورة النمل (83 95) فإنَّه صريحٌ في كونِه حكايةً لعدمِ إيقانِهم السابقِ في الدُّنيا والمرادُ بالنَّاسِ إمَّا الكَفَرةُ على الإطلاقِ أو مُشركو مكَّةَ وقد رُوي عن وهْبٍ أنَّها تخبرُ كل مَن تراهُ أنَّ أهلَ مكَّةَ كانُوا بمحمدٍ والقرآنِ لا يوُقنون وقرئ تُكلِّمهم مِن الكَلْمِ الذي هو الجُرْحُ والمُرادُ به ما نُقلِ من الوسمِ بالعَصَا والخاتمِ وقد جُوِّزَ كونُ القراءةِ المشهورةِ أيضاً منه لمعنى التَّكثيرِ ولا يخفى بعدُه(6/302)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً} بيانٌ إجماليٌّ لحال المُكذِّبينَ عند قيامِ السَّاعةِ بعد بيانِ بعضِ مَبَاديها ويومَ منصوبٌ بمضمرٍ خوطبَ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم والمرادُ بهذا الحشرِ هو الحشرُ للعذابِ بعدَ الحشرِ الكُليِّ الشَّاملِ لكافَّةِ الخَلْق وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيانُ سرِّه مراراً أي واذكرُ لهم وقتَ حشرنا أي جمعِنا مِن كُلّ أمَّةٍ من أممِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام أو من أهلِ كلِّ قَرن من القُرون جماعةً كثيرةً فمن تبعيضيةٌ لأنَّ كلَّ أمةٍ منقسمةٌ إلى مصدَّقٍ ومكذِّبٍ وقولُه تعالى {مّمَّن يكذب بآياتنا} بيانُ للفوجِ أي فوجاً مكذبين بها {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يحبس أولهم على أخرِهم حتىَّ يتلاحقُوا ويجتمعُوا في موقف التوبيخ والمنافشة وفيه من الدلالة على كثرةِ عددِهم وتباعُدِ أطرافِهم ما لاَ يخفي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أبوُ جهلٍ والوليدِ بن المُغيرة وشَيُبةُ بنُ ربيعةَ يُساقون بين يَدَي أهلِ مكَّةَ وهكذا يُحشر قادةُ سائرِ الأُمم بينَ أيديهم إلى النَّارِ(6/302)
حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
{حتى إذا جاؤوا} إلى موقفِ السُّؤالِ والجَوَاب والمُناقشةِ والحسابِ {قَالَ} أي الله عزَّ وجلَّ موبَّخاً لهم على التَّكذيبِ والالتفاتِ لتربية المهابة {أكذبتم بآياتي} النَّاطقةِ بلقاءِ يومِكم هذا وقولُه تعالى {وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً} جملةٌ حاليَّةٌ مفيدةٌ لزيادةِ شَنَاعة التَّكذيبِ وغايةِ قُبْحهِ ومؤكدةٌ للإنكارِ والتَّوبيخِ أي أكذَّبتُم بها بادئ الرَّأي غيرَ ناظرينَ فيها نظراً يُؤدِّي إلى العلمِ بكُنهِها وأنَّها حقيقةٌ بالتَّصديقِ حَتماً وهذا نصٌ في أنَّ المرادَ بالآياتِ فيما سلف في الموضعينِ هي الآياتُ القُرآنيةُ لأنَّها هيَ المُنطويةُ على دَلائلِ الصِّحةِ وشواهدِ الصِّدقِ التي لم يُحيطوا بها علماً مع وجُوبِ أنْ يتأمَّلوا ويتدبَّروا فيها لا نفسُ السَّاعة وما فيها وقيلَ هو معطوفٌ على كذَّبتم أي أجمعتُم بين التكذيب وعدم التَّدبرِ بها {أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي أمْ أيُّ شيءٍ كنتم تعملون بها أو أمْ أيُّ شيءٍ كنتُم تعملون غيرَ ذلكَ بمعنى أنَّه لم يكُن لهم عملٌ غيرُ ذلكَ كأنَّهم لم يُخلقوا إلا للكفر والمَعَاصي مع أنَّهم ما خُلقوا إلا للإيمانِ والطَّاعةِ يخاطبون بذلك تبكيا ثم يُكبُّون في النَّار وذلك قولُه تعالى(6/302)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)
{وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم} أي حلَّ بهم العذابُ الذي هو مدلولُ القولِ النَّاطقِ بحلولِه ونزولِه {بِمَا ظَلَمُواْ} بسببِ ظُلمِهم الذي هو تكذيبُهم بآياتِ الله {فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ} لانقطاعِهم عن الجوابِ بالكُلِّية وابتلائِهم بشغلٍ شاغلٍ من العذابِ الأليمِ(6/302)
سورة النمل (86 87)(6/303)
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
{أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ} الرؤيةٌ قلبية لا بصريةٌ لأنَّ نفسَ الليلِ والنَّهارِ وإنْ كانَا من المُبصرات لكن جعلُهما كما ذُكر من قبيلِ المعقولاتِ أي ألم يعلموا أنَّا جعلنا الليل بما فيهِ من الإظلامِ ليستريحُوا فيه بالنَّومِ والقرارِ {والنهار مُبْصِراً} أي ليبُصروا بما فيهِ من الإضاءةِ طرقَ التقلبِ في أمورِ المعاش فبُولغَ فيه حيثُ جُعل الإبصارُ الذي هو حالُ النَّاسِ حالاً له ووصفاً من أوصافِه التي جُعل عليها بحيثُ لا ينفكُّ عنها ولم يسلك في الليلِ هذا المسلكَ لما أنَّ تأثيرَ ظلامِ الليَّلِ في السُّكونِ ليس بمثابةِ تأثيرِ ضَوْء النَّهارِ في الأبصارِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في جعلِهما كما وُصفا وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإشعارِ ببُعدِ درجتِه في الفضلِ {لأَيَاتٍ} أي عظيمةً كثيرةً {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} دالةٌ على صحَّةِ البعثِ وصدقِ الآياتِ النَّاطقةِ به دلالةً واضحةً كيف لا وإنَّ مَن تأمَّلَ في تعاقُبِ اليل والنهارِ واختلافِهما على وجوه بديعةٍ مبنيةٍ على حِكَمٍ رائقة تحار في فهمها العقول ولا يُحيطُ بها إلا الله عزَّ وجلَّ وشاهدَ في الآفاقِ تبدلَ ظُلمةِ الليلِ المحاكيةِ للموتِ بضياءِ النهار المضاهي للحية وعاينَ في نفسِه تبدلَ النَّومِ الذي هُو أخوُ الموتِ بالانتباه الذي هو مثلُ الحَيَاةِ قَضَى بأنَّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنَّ الله يبعثُ مَنْ في القبورِ قضاءً متقناً وجزمَ بأنَّه تعالى قد جعلَ هذا أُنموذجاً له ودليلاً يستدلُّ به على تحققِه وأنَّ الآياتِ الناطقةَ به وبكونِ حالِ اللَّيل والنهار بُرهاناً عليهِ وسائرَ الآياتِ كلِّها حقٌّ نازلٌ من عندِ الله تعالى(6/303)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور} إمَّا معطوفٌ على يومَ نحشرُ منصوبٌ بناصبِه أو بمضمرٍ معطوفٍ عليه والصُّور هُو القَرْنُ الذي ينفخُ فيه إسرافيلُ عليه السَّلامُ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه إن رسولَ الله صلى اله عليه وسلم قالَ لمَّا فرغَ الله تعالى مِن خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ خلقَ الصُّور فأعطاهُ إسرافيلَ فهُو واضُعه على فيهِ شاخصٌ بصرُه إلى العرشِ متى يُؤمر قال قلتُ يا رسولَ الله ما الصُّور قال القَرنُ قال قلتُ كيف هُو قال عظيمٌ والذي نفسي بيدِه إنَّ عظَم دارةٍ فيه كعرضِ السماءِ والأرضِ فيُؤمر بالنَّفخِ فيه فينفُخ نفخةً لا يبقَى عندها في الحياةِ أحدٌ غيرُ مَن شاءَ الله تعالى وذلكَ قولُه تعالى وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فى السموات ومن فى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله ثم يُؤمر بأُخرى فينفُخ نفخةً لا يبقَى معها ميتٌ إلا بُعث وقامَ وذلكَ قولُه تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ والذي يستدعيِه سِباقُ النظمِ الكريمِ وسياقُه أنَّ المرادَ بالنَّفخ هَهُنا هي النفخة الثانية وبالفزعِ في قولِه تعالى {فَفَزِعَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض} ما يعتري الكلَّ عند البعثِ والنِّشورِ بمشاهدةِ الأمورِ الهائلةِ الخارقةِ للعاداتِ في الأنفس والآفاق من الرُّعبِ والتَّهيبِ الضروريين الجبلين وإيراد صيغة الماضي مع كونِ المعطوفِ عليه أعني ينفخُ مضارعاً للدِّلالةِ على تحققِ وقوعِه إثرَ النَّفخِ ولعلَّ تأخيرَ بيانِ الأحوالِ الواقعةِ عند ابتداءِ النَّفخةِ عن بيانِ ما يقعُ بعدها من حشرِ المكذبينَ من كلِّ أُمَّة لتثنيةِ التَّهويل بتكريرِ التَّذكيرِ إيذاناً بأنَّ كلَّ واحدٍ منهما(6/303)
سورة النمل (88) طَّامةٌ كُبرى وداهيةٌ دهياء حقيقة بالتَّذكيرِ على حيالِها ولو رُوعي الترتيبُ الوقوعيُّ لربما توهم أن الكل داهيةٌ واحدةٌ قد أُمر بذكرِها كما مرَّ في قصَّةِ البقرةِ {إِلاَّ مَن شَاء الله} أي أنْ لا يفزعَ قيلَ هُم جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ وعزرائيلُ عليهم السَّلام وقيلَ الحُورُ والخزنة وحَمَلةُ العَرْشِ {وَكُلٌّ} أي كلَّ واحدٍ من المبعوثينَ عند النَّفخةِ {أَتَوْهُ} حضُروا الموقف بين يدي ربَّ العِزَّة جلَّ جلالُه للسؤالِ والجواب والمناقشة والحساب وقرئ أَتَاهُ باعتبارِ لفظِ الكلِّ كَما أنَّ القراءةَ الأُولى باعتبار معناه وقرئ آتُوه أي حاضِرُوه {داخرين} أي صاغرين وقرئ دَخِرينَ وقولُه تعالى(6/304)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
{وَتَرَى الجبال} عطفٌ على يُنفخ داخلٌ في حكمِ التَّذكيرِ وقولُه عزَّ وجلَّ {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} أي ثابتةً في أماكنِها إمَّا بدلٌ منه أو حالٌ من ضميرِ تَرَى أو من مفعولِه وقولُه تعالى {وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} حالٌ من ضميرِ الجبالِ في تحسبُها أو في جامدةً أي تَرَاها رأيَ العينِ ساكنةً والحالُ أنَّها تمرُّ مرَّ السَّحابِ التي تسيرها الرِّياح سيراً حثيثاً وذلكَ أنَّ الأجرامَ العظامَ إذا تحركتْ نحوَ سمتٍ لا تكادُ تتبينُ حركتُها وعليهِ قولُ مَنْ قالَ ... بأر عن مثلِ الطَّوْدِ تحسَب أنَّهم ... وقوفٌ لحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ ...
وقد أُدمج في هذا التشبيه حالِ الجبالِ بحالِ السَّحابِ في تخلخل الأجزاءِ وانتفاشِها كما في قوله تعالى وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش وهذا أيضاً ممَّا يقعُ بعد النَّفخةِ الثَّانيةِ عندَ حشرِ الخلقِ يُبدِّلُ الله عزَّ وجلَّ الأرضَ غيرَ الأرضَ ويغيرُ هيآتِها ويُسيِّر الجبالَ عن مقارِّهَا عَلى ما ذُكر من الهيئةِ الهائلةِ ليُشاهدَها أهلُ المحشرِ وهيَ وإنِ اندكتْ وتصدعتْ عند النَّفخةِ الأولى لكنْ تسييرُها وتسويِةُ الأرضِ إنَّما يكونانِ بعد النَّفخةِ الثانيةِ كما نطقَ به قوله تعالى ويسألونك عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صفصا لا ترى فيها عوجا وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى وقولُه تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسمواتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحدِ الْقَهَّارِ فإنَّ اتّباعَ الدَّاعِي الذي هُو إسرافيلُ عليه السَّلام وبروزُ الخلقِ لله تعالى لا يكونُ إلا بعدَ النَّفخةِ الثَّانيةِ وقد قالُوا في تفسيرِ قولِه تعالى وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وحشرناهم إنَّ صيغةَ الماضِي في المعطوفِ مع كونِ المعطوفِ عليه مُستقبلاً للدِّلالةِ على تقدمِ الحشر على التسيير والرؤوية كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك هذا وقد قيلَ إنَّ المرادَ هي النَّفخةُ الأُولى والفزعُ هو الذي يستتبعُ الموتَ لغايةِ شدَّةِ الهولِ كما في قولِه تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السموات ومن فى الأرض الآية فيختص أثرها بما كانَ حياً عندَ وقوعِها دُونَ مَن ماتَ قبلَ ذلك من الأُمم وجُوِّز أنَّ يرادَ بالإتيانِ داخرينَ رجوعُهم إلى أمرِه تعالى وانقيادُهم له ولا ريبَ في أنَّ ذلك ممَّا ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عن أمثاله وأبعدُ مِن هذا ما قبل إنَّ المرادَ بهذه النَّفخةِ نفخةُ الفزعِ التي تكونُ قبل نفخةِ الصَّعقِ وهي التي أريدتْ بقولِه تعالى ما ينظر هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَةً واحدة مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ فيسيِّرُ الله تعالى عندها الجبالَ فتمرُّ مرَّ السَّحابِ فتكون سراباً وتُرجُّ الأرضُ بأهلِها رجَّاً فتكون كالسَّفينةِ الموثقة في البحرِ أو كالقنديلِ المعلَّق ترججه الأرواحُ(6/304)
سورة النمل (89 90) فإنَّه ممَّا لا ارتباطَ له بالمقامِ قطعاً والحقُّ الذي لا محيدَ عنه ما قدمناه ومَّما هُو نصٌّ في البابِ ما سيأتِي من قولِه تعالى وَهُمْ مّن فزع يومئذ آمنون {صنع الله} مصدرٌ مؤكّدٌ لمضمون ما قبله أي صنعَ الله ذلك صُنعاً على أنَّه عبارةَ عمَّا ذُكر من النَّفخِ في الصُّورِ وما ترتَّب عليهِ جميعاً قُصد به التنبيهُ على عظَمِ شأنِ تلك الأفاعيلِ وتهويلِ أمرِها والإيذانُ بأنَّها ليستْ بطريقِ إخلالِ نظامِ العالمِ وإفسادِ أحوالِ الكائناتِ بالكُلِّية من غيرِ أنْ يدعوَ إليها داعيةٌ أو يكونَ لها عاقبةٌ بل هي من قبيلِ بدائعِ صنعِ الله تعالى المبنية على أساسِ الحكمةِ المستتبعةِ للغاياتِ الجميلةِ التي لأجلِها رُتبت مقدماتُ الخلق ومبادئ الإبداعِ على الوجهِ المتينِ والهج الرَّصينِ كما يُعرب عنه قولُه تعالى {الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء} أي أحكَم خلقَهُ وسوَّاهُ على ما تقتضيِه الحكمةُ وقولُه تعالى {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} تعليلٌ لكون ما ذُكر صُنعاً مُحكماً له تعالى ببيانِ أنَّ عِلمَهُ تعالى بظواهرِ أفعالِ المُكلفينَ وبواطنِها مَّما يدعُو إلى إظهارِها وبيانِ كيفيَّاتِها على ما هي عليه من الحسن والسُّوء وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرِهم وجعلُ السَّمواتِ والأرضِ والجبالِ على وُفقِ ما نطقَ به التَّنزيلُ ليتحققُوا بمشاهدةِ ذلك أن وعد حقٌّ لا ريب فيه وقرئ خبيرٌ بما يفعلونَ وقولُه تعالى(6/305)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
{مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا} بيانٌ لما أُشير إليه بإحاطةِ علمِه تعالى بأفعالِهم من ترتيبِ أجزيتِها عليها أي مَن جاءَ منكُم أو من أولئكَ الذين أتَوه تعالى بالحسنة فله من الجزاءِ ما هو خيرٌ منها إمَّا باعتبارِ أنَّه أضعافُها وإمَّا باعتبارِ دوامِه وانقضائِها وقيلَ فلُه خيرٌ حاصلٌ من جهتِها وهو الجنَّةُ وعن ابن عباس رضي الله عنهما الحسنةُ كلمةُ الشَّهادةِ {وَهُمْ} أي الذينَ جاءوا بالحسناتِ {مّن فَزَعٍ} أي عظيمٍ هائل لاَ يقادَر قدرُه وهُوَ الفزعُ الحاصِلُ من مشاهدة العذابِ بعد تمامِ المُحاسبةِ وظهورِ الحَسَنات والسيئاتِ وهُو الَّذي في قولِه تعالى لاَ حزنهم الفزع الأكبر وعنِ الحَسَنِ رحَمهُ الله تعالى حينَ يُؤمر بالعبدِ إلى النَّارِ وقالَ ابنُ جريجٍ حينَ يذُبح الموتُ ويُنادِي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت {يومئذ} أي يوم إذ ينفخ في الصور {آمنون} لا يعتريهم ذلكَ الفزعُ الهائلُ ولا يلحقهم ضررُه أصلاً وأما الفزعُ الذي يعتري كلَّ مَن فى السموات ومن فى الأرض غيرَ مَنِ استثناه الله تعالى فإنَّما هو التَّهيبُ والرُّعبُ الحاصلُ في ابتداءِ النَّفخةِ من معاينةِ فنونِ الدَّواهي والأهوالِ ولا يكادُ يخلُو منه أحدٌ بحكم الجبلَّةِ وإنْ كان آمِناً من لُحوق الضَّررِ والأمنُ يُستعمل بالجارِّ وبدونِه كما في قولِه تعالى أَفَأَمِنُواْ مكر الله وقرئ من فزع يومئذ بالإضافة مع كسر الميم وفتحِها أيضاً والمرادُ هو الفزعُ المذكورُ في القراءةِ الأُولى لا جميعُ الأفزاعِ الحاصلةِ يومئذٍ ومدارُ الإضافةِ كونُه أعظمَ الأفزاعِ وأكبرُها كأنَّ ما عداهْ ليس بفزعٍ بالنسبةِ إليهِ(6/305)
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
{وَمَن جَاء بالسيئة} قيل هو الشركُ {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النار} أي كُبُّوا فيها على وجوهِهم منكوسين أو كُبَّت فيها أنفسُهم على طريقةِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} على الالتفاتِ للتَّشديدِ أو على إضمارِ القولِ أي مقولاً لهم ذلك(6/305)
سورة النمل (91 92)(6/306)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)
{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة الذى حرمها} أمر صلى الله عليه وسلم أنْ يقولَ لهم ذلك بعد ما بيَّن لهم أحوالَ المبدأِ والمعادِ وشرحَ أحوالَ القيامةِ تنبيهاً لهم على أنَّه قد أتمَّ أمرَ الدَّعوةِ بما لا مزيدَ عليهِ ولم يبقَ له صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شأنٌ سوى الاشتغالِ بعبادةِ الله عزَّ وجلَّ والاستغراقِ في مُراقبتهِ غيرَ مُبالٍ بهم ضلُّوا أمْ رشدُوا صلحُوا أو فسدُوا ليحملَهم ذلك على أنْ يهتمُّوا بأمورِ أنفسِهم ولا يتوهَّمُوا من شدَّةِ اعتنائه صلى الله عليه وسلم بأمر دعوتهم أنه صلى الله عليه وسلم يُظهر لهم ما يُلجئهم إلى الإيمانِ لا محالةَ ويشتغلوا بتداركِ أحوالِهم ويتوجَّهُوا نحوَ التَّدبرِ فيما شاهدُوه من الآياتِ الباهرةِ والبلدةُ هي مكَّةُ المعظمةُ وتخصيصُها بالإضافةِ لتفخيمِ شأنِها وإجلال مكانها والتعرف لتحريمهِ تعالى إيَّاها تشريفٌ لها بعد تشريفٍ وتعظيمٌ إثرَ تعظيمٍ مع ما فيه من الإشعارِ بعلَّةِ الأمرِ وموجبِ الامتثالِ به كما في قوله تعالى فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وآمنهم مّنْ خوْفٍ ومن الرَّمزِ إلى غايةِ شَنَاعةِ ما فعلُوا فيها ألا يَرَى أنَّهم مع كونِها محرَّمةً من أنْ تنتهكَ حرمتُها باختلاءِ خلاها وعضْدِ شجرِها وتنفيرِ صيدِها وإرادةِ الإلحادِ فيها بوجهٍ من الوجوهِ قد استمرُّوا فيها على تعاطِي أفجرِ أفرادِ الفُجور وأشنعِ آحادِ الإلحادِ حيثُ تركُوا عبادةَ ربَّها ونصبُوا فيها الأوثانَ وعكفُوا على عبادتِها قاتلَهم الله أنَّى يُؤفكون وقرئ حَرَمَها بالتَّخفيفِ وقولُه تعالى {وَلَهُ كُلُّ شَىء} أي خلقاً وملكاً وتصرُّفاً من غير أن يشاركه شيء في شيء من ذلك تحقيقٌ للحقِّ وتنبيهٌ على أنَّ إفرادَ مكَّةَ بالإضافةِ لما ذُكر من التَّفخيمِ والتَّشريفِ مع عُمومِ الرُّبوبيةِ لجميعِ الموجُوداتِ {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} أي أثبت على ما كنتُ عليهِ من كونِي من جُملةِ الثَّابتين على ملَّة الإسلامِ والتَّوحيدِ أي الذين أسلمُوا وجوهَهم لله خالصةً من قوله تعالى وَمَن أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ(6/306)
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
{وأن أتلو القرآن} أي أواظبَ على تلاوتِه لتنكشفَ لي حقائقُه الرائعةُ المخزونةُ في تضاعيفهِ شيئاً فشيئاً أو على تلاوتِه على النَّاسِ بطريقِ تكريرِ الدَّعوةِ وتثنيةِ الإرشادِ فيكونَ ذلك تنبيهاً على كفايتهِ في الهدايةِ والإرشادِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى إظهارِ مُعجزةٍ أُخرى فمعنى قولِه تعالى {فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ} حينئذٍ فَمَنُ اهتدى بالإيمانِ به والعملِ بما فيهِ من الشَّرائعِ والأحكامِ وعلى الأولِ فمنِ اهتدَى باتَّباعِه إيَّاي فيما ذُكر من العبادةِ والإسلامِ وتلاوةِ القُرآن فإنَّما منافعُ اهتدائهِ عائدةٌ إليهِ لا إليَّ {وَمَن ضَلَّ} بالكفرِ به والإعراضِ عن العملِ بما فيه أو بمُخالِفتي فيما ذُكر {فَقُلْ} في حقَّه {إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين} وقد خرجتُ عن عُهدة الإنذارِ فليسَ عليَّ من وبالِ ضلالِه شيءٌ وإنَّما هو عليه فقط(6/306)
سورة النمل (93)(6/307)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
{وَقُلِ الحمد لِلَّهِ} أي علَى ما أفاضَ عليَّ من نعمائِه التي أجلُّها نعمةُ النُّبوةِ المستتبعةِ لفنونِ النِّعمِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ ووفَّقنِي لتحمل أعبائِها وتبليغِ أحكامِها إلى كافَّة الوَرَى بالآياتِ البينةِ والبراهينِ النيرةِ وقولُه تعالى {سيريكم آياته} من جُملةِ الكلامِ المأمورِ به أي سيُريكم البتةَ في الدُّنيا آياتِه الباهرةَ التي نطقَ بها القرآنُ كخروجِ الدابةِ وسائرِ الأشراطِ وقد عُدَّ منها وقعةُ بدرٍ ويأباهُ قولُه تعالى {فَتَعْرِفُونَهَا} أي فتعرفونَ أنَّها آياتُ الله تعالى حينَ لا تنفعُكم المعرفةُ لأنَّهم لا يتعرفون بكونِ وقعةِ بدرٍ كذلك وقيل سيُريكم في الآخرةِ وقولُه تعالَى {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} كلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى بطريقِ التَّذييلِ مقررٌ لما قبلَه متضمنٌ للوعدِ والوعيدِ كما ينبئ عنه إضافةُ الربِّ إلى ضمير النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتخصيصُ الخطابِ أولاً به صلى الله عليه وسلم وتعميمُه ثانياً للكَفَرةِ تغليباً أيْ وَمَا رَبُّكَ بغافلٍ عَمَّا تعملُ أنتَ من الحسناتِ وما تعملونَ أنتُم أيُّها الكفرةُ من السيئاتِ فيُجازي كُلاًّ منكم بعملِه لا محالة وقرئ عمَّا يعملُون على الغَيبةِ فهُو وعيدٌ محضٌ والمعنى وما ربُّك بغافلٍ عن أعمالِهم فسيعذبُهم البتةَ فلا يحسبُوا أنَّ تأخيرَ عذابِهم لغفلتِه تعالى عن أعمالِهم الموجبةِ له والله تعالى أعلم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سورةَ طس كان له منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعدد من صدق بسليمان وهو وصالحٍ وإبراهيمَ وشُعيبٍ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ومن كذَّب بهم ويخرجُ من قبرِه وهو ينادي لا له إلا الله
تم بحمد الله الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله سورة القصص قوله (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) التلاوة فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ وحينئذ فلا حاجة لبيان نكتة التعبير بالربوبية المضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام بقوله (وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ الخ)(6/307)
سورة القصص 1 5
مكية وقيل إلا قوله الذين آتيناهم الكتاب إلى قوله الجاهلين وهي ثمان وثمانون آية
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}(7/2)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{طسم تلك آيات الكتاب المبين} قد مرَّ ما يتعلقُ به من الكلام بالإجمال والتَّفصيلِ في أشباهه(7/2)
نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
{نتلواُ عَلَيْكَ} أي نقرأُ بواسطة جبريلَ عليهِ السَّلامُ ويجوزُ أنْ تكونَ التِّلاوةُ مجازاً من التَّنزيلِ {مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ} مفعولُ نتلو أي نتلوا عليه بعضَ نبئِهما {بالحق} متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من فاعل نتلُو أوْ منْ مفعولِه أو صفةٌ لمصدرِه أي بعضَ نبئِهما مُلتبسينَ أو متلبِّساً بالحقِّ أو تلاوةً ملتبسةً بالحقِّ {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} متعلقٌ بنتلو وتخصيصُهم بذلكَ مع عُموم الدَّعوةِ والبيانِ للكلِّ لأنَّهم المنتفعونَ بِه(7/2)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض} استثناف جارٍ مجرى التَّفسيرِ للمُجمل الموعودِ وتصديرُه بحرف التَّأكيدِ للاعتناء بتحقيقِ مضمُونِ ما بعدَهُ أي أنَّه تجبَّر وطغا في أرضِ مصرَ وجاوزَ الحدودَ المعهودةَ في الظُّلم والعُدوانِ {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} أي فِرقاً يشيِّعونه في كلِّ ما يُريده من الشرِّ والفسادِ أو يشيِّعُ بعضُهم بعضاً في طاعته أو أصنافاً في استخدامه يستعملُ كلَّ صنفٍ في عملٍ ويُسخِّرُه فيهِ من بناءٍ وحرثٍ وحفرٍ وغيرِ ذلكَ من الأعمالِ الشَّاقةِ ومَن لم يستعملْه ضربَ عليه الجزيةَ أو فرقاً مختلفةً قد أغرى بينهم العداوةَ والبغضاءَ لئلاَّ تتفقَ كلمتُهم {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ} وهم بنُو إسرائيلَ والجملةُ إما حالٌ من فاعلِ جعلَ أو صفةٌ لشيعاً أو استئنافٌ وقولُه تعالَى {يذبح أبناءهم ويستحيي نِسَاءهُمْ} بدلٌ منها وكان ذلكَ لِما أنَّ كاهناً قال له يُولد في بني إسرائيلَ مولودٌ يذهبُ ملكُك على يدِه وما ذاك إلا لغايةِ حُمقِه إذْ لو صدقَ فما فائدةُ القتلِ وإن كذبَ فما وجهُه {إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين} أي الرَّاسخينَ في الإفسادِ ولذلكَ اجترأَ على مثل تلك العظيمةِ(7/2)
القصص 6 7 من قتلِ المعصومينَ من أولادِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام(7/3)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ} أي نتفضلُ {عَلَى الذين استضعفوا فِى الارض} على الوجهِ المذكورِ بإنجائِهم من بأسِه وصيغةُ المضارعِ في نُريد حكايةُ حالٍ ماضيةٍ وهو معطوفٌ على إنَّ فرعونَ علا الخ لتناسبُهما في الوقوع في في حيِّزِ التَّفسيرِ للنبأ أو حالٌ من يستضعفُ بتقدير المبتدأ أي يستضعفُهم فرعونُ ونحنُ نريدُ أنْ نمنَّ عليهم وليس من ضرورةِ مقارنةِ الإرادةِ للاستضعاف مقارنةُ المرادِ له لما أنَّ تعلُّقَ الإرادةِ للمنِّ تعلق استقبال على أنَّ مِنَّةَ الله تعالى عليهم بالخلاص لمَّا كانتْ في شرفِ الوقوعِ جازَ إجراؤُها مُجرى الواقعِ المقارنِ له ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ لإبانةِ قدرِ النِّعمةِ في المنَّة بذكر حالتِهم السَّابقةِ المُباينةِ لها {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} يُقتدى بهم في أمور الدِّينِ بعد أنْ كانُوا أتباعاً مسخَّرين لآخرين {وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} لجميع ما كان منتظماً في سلك مُلك فرعونَ وقومِه وراثةً معهودةً فيما بينهم كما ينبئ عنه تعريفُ الوارثينَ وتأخيرُ ذكرِ وراثتِهم له عن ذكرِ جعلِهم أئمةً مع تقدمِها عليه زماناً لانحطاطِ رُتبتها عن الإمامةِ ولئلاَّ ينفصلَ عنه ما بعده مع كونِه من روادفِه أعني قولَه تعالى(7/3)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
{وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى الارض} الخ أي نُسلطهم على مصرَ والشامِ يتصرفون فيهما كيفما يشاءون وأصلُ التمكينِ أنْ تجعلَ للشيءِ مكاناً يتمكَّنُ فيه {وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ} أي من أولئكَ المُستضعَفين {مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} ويجتهدونَ في دفعه من ذهاب مُلكِهم وهُلْكِهم على يدِ مولودٍ منه وقرئ يرى بالياءِ ورفعِ ما بعده على الفاعليةِ(7/3)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
{وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى} بإلهامٍ أو رُؤيا {أَنْ أَرْضِعِيهِ} ما أمكنك إخفاؤُه {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} بأنْ يحسَّ به الجيرانُ عند بكائِه وينمُّوا عليه {فَأَلْقِيهِ فِي اليم} في البحرِ وهو النِّيلُ {وَلاَ تَخَافِى} عليهِ ضيعةً بالغرقِ ولا شدَّةً {وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} عن قريبٍ بحيثُ تأمنينَ عليهِ {وجاعلوه مِنَ المرسلين} والجملةُ تعليلٌ للنَّهي عن الخوف والحزنِ وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ وتصديرُها بحرفِ التَّحقيقِ للاعتناء بتحقيق مضمونِها أي إنَّا فاعلونَ لردِّه وجعلِه من المُرسلينَ لا محالةَ رُوي أنَّ بعضَ القَوَابلِ المُوكلاتِ من قبلِ فرعونَ بحَبالَى بني إسرائيلَ كانتْ مصافيةً لأمِّ موسى عليه السَّلامُ فقالتْ لها لينفعني حبُّكِ اليومَ فعالجتها فلما وقع على الأرضِ هالها نورٌ بين عينيهِ وارتعشَ كلُّ مفصلٍ منها ودخل حبُّه في قلبِها ثم قالتْ ما جئتكِ إلا لأقبلَ مولودكِ وأُخبر فرعونَ ولكنِّي وجدتُ لابنكِ في قلبي محبَّةً ما وجدتُ مثلَها لأحدٍ فاحفظيهِ فلمَّا خرجتْ جاء عيونُ فرعونَ فلفَّته في خرقةٍ فألقتْهُ في تنُّورٍ مسجورٍ لم تعلمْ ما تصنعُ لما طاشَ من عقلِها فطلبُوا فلم يلْقَوا شيئاً فخرجُوا وهي لا تدري مكانَه فسمعتْ بكاءه من التنُّور فانطلقتْ إليه وقد جعل الله تعالى النار عليه بردا وسلاما فلما ألحَّ فرعونُ في طلب الولدانِ أَوْحى الله تعالى إليها ما أَوْحى وقد رُوي أنَّها أرضعتْهُ ثلاثةَ أشهرٍ في تابوتٍ من بَرْديَ مطليَ بالقارِ من داخلِه والفاءُ في قوله تعالى(7/3)
القصص(7/4)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
8 - 9 {فالتقطه آل فِرْعَوْنَ} فصيحةٌ مفصحةٌ عن عطفِه على جملةٍ مترتبةٌ على ما قبلها من الأمرِ بالإلقاءِ قد حُذفت تعويلا على دلالة الحال وإيذاناً بكمال سرعةِ الامتثالِ أي فألقتْهُ في اليمِّ بعد ما جعلتْهُ في التابوت حسبما أمرت فالتقطه آلُ فرعونَ أي أخذوه اعتناءٍ به وصيانةٍ له عن الضَّياعِ قال ابنُ عباس رضي الله عنهما وغيره كانَ لفرعونَ يومئذٍ بنتٌ لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ غيرُها وكانتْ من أكرمِ النَّاسِ إليه وكان بها بَرَصٌ شديدٌ عجزتِ الأطِّباءُ عن علاجِه فقالُوا لا تبرأُ إلا من قبل البحرِ يُؤخذ منه شِبهُ الإنسِ يومَ كذا وساعةَ كذا من شهرِ كذا حين تُشرق الشَّمسُ فيؤخذُ من ريقِه فيلطخ به برصُها فتبرأْ فلمَّا كان ذلك اليومُ غدا فرعونُ في مجلسٍ له على شفيرِ النِّيلِ ومعه امرأتُه آسيةُ بنتُ مزاحمِ بنِ عُبيدِ بنِ الرَّيَّانِ بنِ الوليدِ الذي كان فرعونَ مصرَ في زمنِ يوسفَ الصِّدِّيقِ عليه السَّلامُ وقيل كانتْ من بني إسرائيلَ من سبطِ مُوسى عليه الصلاة والسلام وقيل كانتْ عمَّته حكاه السُّهيليُّ وأقبلتْ بنتُ فرعونَ في جَواريها حتَّى جلستْ على شاطئ النِّيلِ فإذا بتابوتٍ في النِّيلِ تضربُه الأمواجُ فتعلَّق بشجرةٍ فقالَ فرعونُ ائتونِي به فابتدرُوا بالسُّفنِ فأحضرُوه بين يديهِ فعالجُوا فتحَهُ فلم يقدرُوا عليهِ وقصدُوا كسرَه فأعياهم فنظرتْ آسيةٌ فرأتْ نُوراً في جوفِ التَّابوتِ لم يرَهُ غيرُها فعالجتْهُ ففتحتْهُ فإذا هيَ بصبيَ صغيرٍ في مهدِه وإذا نورٌ بين عينيهِ وهو يمصُّ إبهامَه لبناً فألقى الله تعالى محبَّتَه في قلوبِ القومِ وعمدتْ ابنةُ فرعونَ إلى ريقِه فلطَّختْ به برصَها فبرأتْ من ساعتها وقيل لما نظرتْ إلى وجهِه برأتْ فقالتِ الغُواة من قومِ فرعونَ إنَّا نظنُّ أنَّ هذا هو الذي نحذرُ منه رُميَ في البحرِ فَرَقاً منك فامتله فهمَّ فرعونُ بقتلِه فاستوهبتْهُ آسيةُ فتركَه كما سيأتِي واللام في قوله تعالى {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} لامُ العاقبةِ أُبرز مدخولُها في معرضِ العلَّةِ لالتقاطِهم تشبيها له في الترتب عليه بالغرضِ الحاملِ عليه وقرئ حُزْناً وهما لغتانِ كالسَّقَمِ والسُّقْمِ جُعل عليه الصَّلاة والسَّلام نفسَ الحزنِ إيذاناً بقوَّةِ سببيتِه لحزنِهم {إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين} أي في كلِّ ما يأتون وما يذرون فلا غروَ في أنْ قتلو الاجله ألوفاثم أخذُوه يربُّونَه ليكبرَ ويفعلَ بهم ما كانُوا يحذرون رُوي أنَّه ذُبح في طلبِه عليه الصَّلاة والسَّلام تسعون ألفَ وليدٍ أو كانُوا مذنبينَ فعاقبهم الله تعالى بأنْ ربَّى عدوَّهم على أيديهم فالجُملة اعتراضيةٌ لتأكيد خطئهم أو لبيان المُوجب لما ابتلوا به وقرئ خَاطين على أنَّه تخفيفُ خاطئينَ أو على أنَّه بمعنى مُتعدِّين الصَّوابَ إلى الخطأ(7/4)
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
{وقالت امرأة فِرْعَوْنَ} أي لفرعونَ حينَ أخرجتْهُ من التَّابوتِ {قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ} أي هو قرَّةُ عينٍ لنا لِما أنَّهما لمّا رأياهُ أحبَّاهُ أو لما ذُكر من بُرءِ ابنتِه من البَرَصِ بريقِه وفي الحديثِ أنه قال لك لالى ولو قال كما هُو لكِ لهداهُ الله تعالى كما هداها {لاَ تَقْتُلُوهُ} خاطبتْهُ بلفظِ الجمعِ تعظيماً ليساعدَها فيما تريدُه {عسى أَن يَنفَعَنَا}(7/4)
فإنَّ فيه مخايلَ اليُمنِ ودلائلَ النَّجابةِ وذلك لِمَا رأتْ فيهِ من العلاماتِ المذكورةِ {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي نتبنَّاهُ فإنَّه خليقٌ بذلكَ {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حالٌ من آلِ فرعونَ والتَّقديرُ فالتقطَه آلُ فرعونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً وقالت امرأته كيتَ وكيتَ وهُم لا يشعرون بأنَّهم على خطأ عظيمٍ فيما صنعُوا من الالتقاط ورجاءِ النَّفعِ منه والتَّبني له وقولُه تعالى أَن فِرْعَوْنَ الآيةَ اعتراضٌ وقعَ بين المعطوفينِ لتأكيدِ خطئِهم وقيل حالٌ من أحدِ ضميريّ نتخذُه على أنَّ الضَّميرَ للنَّاسِ أيْ وهُم لا يعلمونَ أنَّه لغيرِنا وقد تبنيناهُ(7/5)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً} صفراً من العقلِ لِمَا دهمَها من الخوفِ والحيرةِ حين سمعتْ بوقوعِه في يدِ فرعونَ لقولِه تعالى وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء أي خلاءُ لا عقولَ فيها ويعضده أنه قرئ فَرغاً من قولِهم دماؤهم بينهم فرغٌ أي هَدرٌ وقيل فارغاً من الهمِّ والحُزن لغايةِ وثوقِها بوعدِ الله تعالى أو لسماعِها أنَّ فرعونَ عطفَ عليه وتبناه وقرئ مُؤْسى بالهمزِ إجراءً للضَّمة في جارة الواوِ مجرى ضمَّتِها فهمزت كما في وجوهٍ {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ} أي إنَّها كادتْ لتظهرُ بموسى أي بأمرِه وقصَّتِه من فرطِ الحيرةِ والدَّهشةِ أو الفرحِ بتبنيهِ {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} بالصَّبرِ والثَّباتِ {لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين} أي المُصدِّقين بوعدِ الله تعالى أو من الواثقينَ بحفظِه لا بتبنِّي فرعونَ وتعطفِه وهو علَّةُ الرَّبطِ وجوابُ لَولا محذوفٌ لدلالةِ ما قبله عليهِ(7/5)
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
{وَقَالَتْ لاخْتِهِ} مريمَ والتَّعبيرُ عنها بأخوَّتِه عليه الصَّلاة والسَّلام دونَ أنْ يقال لبنتِها للتَّصريحِ بمدار المحبَّةِ الموجبةِ للامتثالِ بالأمرِ {قُصّيهِ} أي اتبعِي أثرَه وتتبَّعي خبرَه {فَبَصُرَتْ بِهِ} أي أبصرتْهُ {عَن جُنُبٍ} عن بعد وقرئ بسكونِ النُّونِ وعن جانبٍ والكلُّ بمعنى {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنَّها تقُصُّه وتتعرفُ حاله أو انها أختُه(7/5)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} أي منعناه أنْ يرتضعَ من المرضعاتِ والمَرَاضعُ جمعُ مرضعٍ وهي المرأةُ التي تُرضع أو مُرضع وهو الرَّضاعُ أو موضعُه أعني الثَّديَ {مِن قَبْلُ} أي من قبلِ قصِّها أثرَه {فَقَالَتْ} عند رؤيتِها لعدمِ قَبُولِه الثَّديَ واعتناءَ فرعونَ بأمرِه وطلبَهم من يقبلُ ثديَها {هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} أي لأجلِكم {وَهُمْ لَهُ ناصحون} لا يُقصِّرون في إرضاعِه وتربيتِه رُوي أنَّ هامان لمَّا سمعَه منها قال إنَّها لتعرفُه وأهلَه فخذُوها حتَّى تخبرَ بحالِه فقالتْ إنَّما أردتُ وهم للملكِ ناصحُون فأمرَها فرعونُ بأنْ تأتيَ بمَن يكفلُه فأتتْ بأمِّه ومُوسى على يدِ فرعونَ يبكِي وهو يُعلله فدفعَه إليها فلمَّا وجدَ ريحَها استأنسَ والتقمَ ثديها فقالَ مَن أنتِ منه فقد أبَى كلَّ ثديٍ إلا ثديكِ فقالتْ إنِّي امرأةٌ طيبةُ الريح طيبة اللبنِ لا أُوتى بصبيَ إلا قبلني(7/5)
القصص 13 16 فقرر في يدِها وأجرى عليها فرجعت به إلى بيتِها من يومِها وذلكَ قولُه تعالى(7/6)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
{فرددناه إلى أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} بوصولِ ولدِها إليها {وَلاَ تَحْزَنْ} بفراقِه {وَلِتَعْلَمَ إِنَّ وَعْدَ الله} أي جميعَ ما وعدَهُ من ردِّه وجعلِه من المرسلين {حق} لاخلف فيه بمشاهدةِ بعضِه وقياسِ بعضِه عليه {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنَّ الأمرَ كذلكَ فيرتابونَ فيهِ أو أنَّ الغرضَ الأصليَّ من الردِّ علمُها بذلك وما سواه تبعٌ وفيه تعريضٌ بما فَرَط منها حين سمعتْ بوقوعِه في يدِ فرعونَ(7/6)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي المبلغَ الذي لا يزيدُ عليه نشؤُه وذلك من ثلاثين الى أربعين فإنَّ العقلَ يكملُ حينئذٍ ورُوي أنَّه لم يُبعثْ نبيٌّ إلا على رأسِ الأربعينَ {واستوى} أي اعتدلَ قدُّه أو عقلُه {اتَيْنَاهُ حُكْمًا} أي نبوَّةً {وَعِلْماً} بالدِّينِ أو علمَ الحُكماءِ والعُلماءِ وسمتَهم قبل استنبائِه فلا يقولُ ولا يفعلُ ما يُستجهلُ فيهِ وهو أوفقُ لنظْمِ القصَّةِ لأنَّه تعالى استنبأهُ بعد الهجرةِ في المُراجعةِ {وكذلك} ومثلَ ذلكَ الذي فعلنَا بمُوسى وأمِّه {نَجْزِى المحسنين} على إحسانِهم(7/6)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
{وَدَخَلَ المدينة} أي مصرَ من قصرِ فرعونَ وقيل منفُ أو حابينُ أو عينُ شمسٍ من نواحِيها {على حِينِ غفلةٍ مّنْ أَهْلِهَا} في وقتٍ لا يُعتادُ دخولُها أو لا يتوقعونَه فيه قيل كان وقتَ القيلولةِ وقيل بينَ العشاءينِ {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ} أي ممَّن شايعُه على دينِه وهم بنو إسرائيلَ {وهذا مِنْ عَدُوّهِ} أي من مخالفيه دنياوهم القِبطُ والإشارةُ على الحكايةِ {فاستغاثه الذى مِن شِيعَتِهِ} أي سألَه أنْ يغيثَه بالإعانة كما ينبىءُ عنه تعديته بعلى وقرئ استعانَه {عَلَى الذى مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ موسى} أي ضرب القبطيَّ بجُمعِ كفِّه وقرى فلكزَه أي فضربَ به صدرَهُ {فقضى عَلَيْهِ} فقتلَه وأصلُه أنهى حياتَه من قوله تعالى وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر {قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} لأنَّه لم يكُن مأموراً بقتلِ الكفَّار أو لأنَّه كان مأموناً فيما بينهم فلم يكُن له اغتيالُهم ولا يقدَح ذلك في عصمتِه لكونِه خطأً وإنما عدَّه من عملِ الشَّيطانِ وسمَّاه ظُلماً واستغفرَ منه جرياً على سُنَنِ المقرَّبينَ في استعظامِ ما فرطَ منهم ولو كانَ من مُحقِّراتِ الصَّغائرِ {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} ظاهرُ العداوةِ والإضلالِ(7/6)
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
{قَالَ} توسيطُه بين كلاميهِ صلى الله عليه وسلم لإبانةِ ما بينهما من المخالفةِ من حيثُ إنَّه مناجاة(7/6)
القصص 17 20 ودعاءٌ بخلافِ الأولِ {رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} أي بقتلِه {فاغفر لِى} ذَنبي {فَغَفَرَ لَهُ} ذلك {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} أي المبالغُ في مغفرةِ ذنوبِ عبادِه ورحمتِهم(7/7)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
{قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ} إمَّا قسمٌ محذوفُ الجوابِ أي أقسمُ بإنعامِك عليَّ بالمغفرةِ لأتوبنَّ {فَلَنْ أَكُونَ} بعدَ هذا أبداً {ظهيرا للمجرمين} وما استعطافٌ أي بحقِّ إنعامِكَ عليَّ اعصمنِي فلنْ أكونَ معيناً لمن تؤدي معاونتُه إلى الحرم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه عليه الصلاةُ والسلام لم يستثن فابتُليَ به مرَّةً أُخرى وهذا يؤيدُ الأولَ وقيل معناهُ بما أنعمتَ عليَّ من القوَّةِ أعينُ أولياءكَ فلن استعملَها في مُظاهرةِ أعدائِكَ(7/7)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
{فَأَصْبَحَ فِى المدينة خَائِفاً يترقب} يترصد الاستقادة أو الأجنادَ {فَإِذَا الذى استنصره بالامس يَسْتَصْرِخُهُ} أي يستغيثُه برفعِ الصَّوتِ من الصُّراخ {قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ} أي بيِّنُ الغوايةِ تسببتَ لقتلِ رجلٍ وتُقاتلُ آخرَ(7/7)
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ} مُوسى {أَن يَبْطِشَ بالذى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} أي لموسى وللإسرائيليِّ إذ لم يكن على دينِهما ولأنَّ القِبطَ كانُوا أعداءً لبني إسرائيلَ على الإطلاقِ وقُرىء يبطُش بضمِّ الطَّاءِ {قَالَ} أي الإسرائيلي ظانا أنه صلى الله عليه وسلم يبطشُ به حسبما يُوهمه تسميته إياه غوبا {يا موسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالامس} قالُوا لما سمعَ القبطيُّ قولَ الإسرائيليُّ علمَ أنَّ موسى هو الذي قتلَ ذلك الفرعونيَّ فانطلق إلى فرعونَ فأخبرَهُ بذلك وأمرَ فرعونُ بقتلِ مُوسى عليه السَّلامُ وقيل قاله القبطيُّ {إِن تُرِيدُ} أي ما تريدُ {إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الارض} وهو الذي يفعلُ كلَّ ما يريدُه من الضربِ والقتلِ ولا ينظرُ في العواقبِ وقيل المتعظِّمُ الذي لا يتواضعُ لأمرِ الله تعالى {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} بينَ النَّاسِ بالقولِ والفعلِ(7/7)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
{وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة} أي كائنٌ من آخراها أو جاءَ من آخِرها {يسعى} أي يسرعُ صفةٌ لرجلٌ أو حالٌ منه على أنَّ الجارَّ والمجرورَ صفةٌ له لا متعلَّق بجاء فإن تخصصه يلحقه بالمعارفِ قيل هو مؤمنُ آلِ فرعونَ واسمُه حِزْقيلُ وقيل شَمعُون وقيل شَمعانُ {قَالَ يَا موسى} {إنِ الملا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} أي يتشاورُون بسببكَ فإنَّ كلا من المتشاورين بأمر الآخرينَ ويأتمرُ {فاخرج} أي من المدينةِ {إِنّى لَكَ من الناصحين} اللام للبيان(7/7)
القصص 21 24 لما أنَّ معمولَ الصِّلةِ لا يتقدمُها(7/8)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
{فَخَرَجَ مِنْهَا} أي من المدينةِ {خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} لحوقَ الطَّالبينَ {قَالَ رَبّ نَجّنِى مِنَ القوم الظالمين} خلِّصنِي منهم واحفظنِي من لُحوقِهم(7/8)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ} أي نحوَ مدينَ وهي قريةُ شُعيبٍ عليه السَّلامُ سميت باسمِ مدينَ بنِ إبراهيمَ ولم تكُن تحتَ سلطانِ فرعونَ وكان بينها وبين مصرَ مسيرةُ ثمانيةِ أيَّامٍ {قَالَ عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل} توكلاً على الله تعالى وثقةً بحُسنِ توفيقِه وكان لا يعرفُ الطرقَ فعنَّ له ثلاثُ طرائقَ فأخذَ في الوسطى وجاء الطلابُ فشرعُوا في الأُخريين وقيل خرجَ حافياً لا يعيشُ إلا بورقِ الشَّجرِ فما وصلَ حتَّى سقطَ خفُّ قدميه وقيل جاء مَلَكٌ على فرسٍ وبيدِه عنزَةٌ فانطلقَ به إلى مدينَ(7/8)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} أي وصلَ إليهِ وهو بئر كانوا يسقون منه {وَجَدَ عَلَيْهِ} أي فوقَ شفيرِها {أُمَّةً} جماعةً كثيفةً {مّنَ الناس يَسْقُونَ} أي مواشيَهم {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} أي في موضعٍ أسفلَ منهم {امرأتين تَذُودَانِ} أي تمنعانِ ما معهما من الأغنامِ عن التقدمِ إلى البئرِ كيلا تختلطَ بأغنامِهم مع عدمِ الفائدة في التَّقدمِ {قَالَ} عليه السَّلام لهما حينَ رآهُما على ماهما عليه من التأخر والذود {مَا خَطْبُكُمَا} ما شأنُكما فيما أنتُما عليه من التَّأخرِ والذَّودِ ولم لا تباشرانِ السقيَ كدأبِ هؤلاءِ {قَالَتَا لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعاء} أي عادتُنا أن لا نسقيَ حتَّى يصرف الرعاة مواشيهم بعدريها عن الماءِ عجزاً عن مساجلتِهم وحذراً عن مخالطةِ الرجالِ لا أنا لا نسقي اليومَ إلى تلك الغايةِ وحذفُ مفعولِ السَّقيِ والذَّودِ والإصدارِ لمَا أنَّ الغرضَ هو بيانُ تلك الأفعالِ أنفسِها إذْ هي التي دعتْ مُوسى عليه السَّلامُ إلى ما صنعَ في حقِّهما من المعروفِ فإنه عليه الصلاة والسلام إنَّما رحمَهما لكونِهما على الذيادِ للعجزِ والعفَّةِ وكونِهم على السقيِ غيرَ مُبالين بهما وما رحمهما لكن مذودِهما غنماً ومسقيهم إبلاً مثلاً وقُرىء لا نُسقي من الإسقاءِ ويَصدُر من الصُّدورِ والرُّعاء بضمِّ الرَّاءِ وهو اسم جمع كالرخاء وأما الرِّعاءِ فجمعٌ قياسيٌّ كصِيامٍ وقِيامٍ وقولُه تعالى {وأبونا شيخ كبير} إبراء منهم للعُذرِ إليه عليه السَّلامُ في تولِّيهما للسَّقيِ بأنفسِهما كأنَّهما قالتَا إنَّا امرأتانِ ضعيفتانِ مستورتانِ لا نقدرُ على مُساجلةِ الرِّجالِ ومزاحمتِهم وما لنا رجلٌ يقومُ بذلكَ وأبُونا شيخٌ كبيرُ السنِّ قد أضعفَه الكبرُ فلا بدَّ لنا من تأخيرِ السَّقيِ إلى أنْ يقضي النَّاسُ أوطارَهم من الماءِ(7/8)
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
{فسقى لَهُمَا} رحمةً عليهما والكلامُ في حذفِ مفعولِه كما مرَّ آنِفاً رُوي أنَّ الرُّعاةَ كانُوا يضعونَ على رأسِ البئرِ حَجَراً لا يُقلُّه إلا سبعةُ رجالٍ وقيل عشرةُ وقيل أربعون وقيل مائة فأفله وحدَهُ مع ما كان به من الوصبِ والجراحةِ والجوع ولعله(7/8)
القصص 25 عليه الصَّلاة والسَّلام زاحمَهم في السَّقيِ لهما فوضعُوا الحجرَ على البئرِ لتعجيزِه عليه الصلاة والسلام عن ذلكَ فإنَّ الظاهرَ أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلام غبَّ ما شاهد حالهما شارع الى السقى لهما وقدروى أنَّه دفعهم عن الماءِ إلى أنْ سقى لهُما وقيل كانت هناك بئرٌ أُخرى عليها الصَّخرةُ المذكورةُ ورُوي أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ سألَهم دَلْواً من ماءٍ فأعطَوه دلوهُم وقالُوا استقِ بها وكان لا ينزعُها إلا أربعون فاستقَى بها وصبَّها في الحوضِ ودعا بالبركةِ ورَوى غنمَهما وأصدرَهما {ثُمَّ تولى إِلَى الظل} الذي كانَ هُناك {فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ} أيْ أيَّ شيءٍ أنزلتَهُ إليَّ {مّنْ خَيْرٍ} جلَّ أو قلَّ وحملَه الأكثرونَ على الطعامِ بمعونةِ المقامِ {فَقِيرٌ} أي محتاج ولنضمنه معنى السؤال والطلب جئ بلامِ الدعامةِ لتقويةِ العملِ وقيل المَعنى لما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ عظيمٍ هو خيرُ الدارينِ صرتُ فقيراً في الدُّنيا لأنَّه كانَ في سَعَةٍ من العيشِ عندَ فرعونَ قالَه عليه الصَّلاة والسَّلام إظهاراً للبجح والشُّكرِ على ذلك(7/9)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
{فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا} قيل هي كُبراهما واسُمها صفُوراءُ أو صفراءُ وقيل صُغراهما واسمُها صُفيراءُ أي جاءتْهُ عقيبَ ما رجعتا الى أبيها رُوي أنَّهما لما رجعتَا إلى أبيهما قبلَ النَّاسِ وأغنامُهما حُفلٌ بطانٌ قال لُهما ما أعجلَكُما قالتَا وجدنَا رجلاً صالحاً رحمنَا فسقَىَ لنا فقالَ لإحداهُما اذهبي فادعيِه لي وقولُه تعالى {تَمْشِى} حالٌ من فاعل جاءتْ وقوله تعالى {عَلَى استحياء} متعلقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من ضميرِ تمشي أي جاءتْه تمشِي كائنةً على استحياءٍ فمعَناهُ انها كانت على استحياء حالتي المثى والمجيءِ معاً لا عندَ المجيءِ فقط وتنكيرُ استحياءٍ للتفخيمِ قيل جاءتْه متخفرةً أي شديدةَ الحياءِ وقيل قد استترتْ بكُمِّ دِرعِها {قالت} استئاف مبني على سؤال نشأ من حكايةِ مجيئِها إيَّاه عليه الصلاة والسلام كأنه قيلَ فماذا قالتْ له عليه الصَّلاة والسَّلام فقيلَ قالتْ {إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} أي جزاءَ سقيكَ لنا أسندتِ الدَّعوةَ إلى أبيها وعللنها بالجزاءِ لئلاَّ يُوهمَ كلامُها ريبةً وفيهِ من الدِّلالةِ على كمالِ العقلِ والحياءِ والعفَّةِ ما لا يخَفْى رُويَ أنه عليه الصلاةُ والسَّلام أجابَها فانطلَقا وهي أمامه فألزقتِ الرِّيحُ ثوبَها بجسدها فوصفتْهُ فقال لها أمشِي خلفي وانعَتي لي الطريقَ ففعلتْ حتَّى أتيا دارَ شُعيب عليهما السَّلامُ {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} أي ما جَرى عليهِ من الخبرِ المقصُوصِ فإنَّه مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ كالعللِ {قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} الذي يلوحُ من ظاهرِ النظمِ الكريمِ أنَّ موسى عليه السَّلام إنَّما أجابَ المستدعيةَ من غيرِ تلعثُمٍ ليتبرَّكَ برؤيةِ شعيبٍ عليه السَّلام ويستظهرَ برأيهِ لا ليأخذ بمعروفِه أجراً حسبَما صرَّحتْ به ألا يُرى إلى ما رُوي أنَّ شُعيباً لما قدَّمَ إليه طعاماً قال إنَّا أهلُ بيتٍ لا نبيع ديننا بطِلاعِ الأرضِ ذهباً ولا نأخذُ على المعروفِ ثمناً ولم يتناولْ حتَّى قال شُعيبٌ عليه السَّلام هذهِ عادتُنا مع كلِّ مَن ينزلُ بنا فتناولَ بعد ذلكَ على سبيلِ التقبلِ لمعروفٍ مُبتدأٍ كيف لا وقد قصَّ عليه قصصَهُ وعرَّفَهُ أنَّه من بيتِ النُّبوةِ(7/9)
القصص 26 28 من أولادِ يعقوبَ عليه السَّلامِ ومثله حَقيقٌ بأنْ يُضيَّفَ ويكرَّمَ لا سيَّما في دارِ نبيَ من أنبياءِ الله تعالى عليهم الصَّلاة والسَّلام وقيلَ ليس بمستنكرٍ منه عليه الصَّلاة والسَّلام أن يقبلَ الأجرَ لاضطرارِ الفقرِ والفاقةِ وقد رُوي عن عطاءِ بن السَّائبِ أنَّه عليهِ السلامُ رفعَ صوتَهُ بدعائِه ليُسمَعها ولذلك قيلَ له ليجزَيك الخ ولعلَّه عليه السَّلام إنَّما فعلَه ليكونَ ذريعة الى استدعائه لا الى استيفاء الأجرِ(7/10)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} وهي التي استدعتْهُ إلى أبيها وهي التي زوَّجها مِن موسى عليهما السلام {يا أبت استأجره} أيْ لرعي الغنمِ والقيامِ بأمرِها {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوى الامين} تعليلٌ جارٍ مجرى الدِّليلِ على أنَّه حقيقٌ بالاستئجارِ وللمبالغةِ في ذلكَ جُعل خيرَ اسماً لأنَّ وذُكر الفعلُ على صيغةِ الماضي للدَلالة على أنَّه أمينٌ مجرَّبٌ رُوي أن شعيبا عليهِ السَّلامُ قالَ لهَا وما أعلمكِ بقوَّتِه وأمانتِه فذكرتْ ما شاهدتْ منه عليه السَّلام من إقلالِ الحجر ونزعِ الدَّلِو وأنَّه صوَّبَ رأسه حتَّى بلَّغتْهُ رسالتَه وأمَرها بالمشي خلفَهُ(7/10)
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِى} أي تكون أجير الى أو تثيبني من أجرتُ كذا إذا أثبتُه إيَّاه فقولُه تعالى {ثَمَانِىَ حِجَجٍ} على الأولِ ظرفٌ وعلى الثَّاني مفعولٌ به على تقديرِ مضافٍ أي رِعيةَ ثماني حججٍ ونُقل عن المبرِّدِ أنَّه يُقال أجرتُ داري ومملوكي غيرَ ممدودٍ وآجرتُ ممدوداً والأولُ أكثرُ فَعلَى هذا يكون المفعولُ الثَّاني محذوفاً والمعنى على أنْ تأجرنِي نفسَك وقولُه تعالى ثماني حججٍ ظرفٌ كالوجِه الأولِ {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً} في الخدمةِ والعملِ {فَمِنْ عِندِكَ} أي فهوُ مِن عندك بطريقِ التَّفضلِ لا من عندِي بطريقِ الإلزامِ عليك وهذا من شُعيبٍ عرضٌ لرأيه على مُوسى عليهما السلامَ واستدعاءٌ منه للعقدِ لا إنشاءٌ وتحقيقٌ له بالفعل {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بالزامِ إتمامِ العشرِ أو المُناقشةِ في مُراعاةِ الأوقاتِ واستيفاءِ الأعمالِ واشتقاقُ المشقةِ من الشقِّ فإنَّ ما يصعبُ عليك يشقُّ عليك اعتقادُك في إطاقته ويوزعُ رأُيك في مزاولتِه {سَتَجِدُنِى إن شاء الله من الصالحين} في حُسنِ المعاملةِ ولينِ الجانبِ والوفاءِ بالعهدِ ومراده عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالاستثناءِ التبرُّكُ بهِ وتفويضُ أمرِه إلى توفيقِه تعالى لا تعليقُ صلاحِه بمشيئتِه تعالى(7/10)
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
{قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ} مبتدأُ وخبرٌ أي ذلكَ الذي قلتَهُ وعاهدتِني فيه وشارطتِني عليه قائمٌ وثابتٌ بينَنا جميعاً لا يخرجُ عنه واحدٌ منَّا لا أناعما شرطتُ علي ولا أنتَ عمَّا شرطتَ على نفسِك وقولُه تعالى {أَيَّمَا الاجلين} أي أكثرَهما أو أقصرَهما {قضيت} أي وفتيكه بأداءِ الخدمةِ فيه {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ} تصريحٌ بالمرادِ وتقريرٌ لأمرِ الخيرةِ أي لا عُدوانَ عليَّ بطلبِ الزيادةِ على ما قضيتُه من الأجلينِ وتعميمُ انتفاءِ العُدوانِ لكلا الأجلين بصددِ المُشارطةِ مع عدمِ تحققِ العُدوانِ في أكثرِهما رأساً للقصدِ إلى التَّسويةِ بينهما في الانتفاء(7/10)
القصص 29 أي كما لا أطالبُ بالزيادةِ على العشرِ لا أطالبُ بالزيادةِ على الثمانِ أو أيَّما الأجلينِ قضيتُ فلا إثمَ عليَّ يعني كما لاَ إثمَ عليَّ في قضاءِ الأكثرِ لا إثمَ عليَّ في قضاءِ الأقصرِ فقطْ وقُرىء أيَّ الأجلينِ ما قضيتُ فمَا مزيدةٌ لتأكيدِ القضاءِ كما أنَّها في القراءةِ الأُولى مزيدةٌ لتأكيدِ إبهامِ أيَ وشياعِها وقُرىء أيْما بسكونِ الياءِ كقولِ مَن قال تنظَّرتُ نصراً والسماكينِ أيْهما عليَّ من الغيثِ استهلتْ مواطرُه والله على مَا نَقُولُ من الشُّروطِ الجاريةِ بيننا {وكيل} شاهد وحفظ فلا سبيلَ لأحدٍ منَّا إلى الخروجِ عنه أصلاً وليس ما حُكي عنهما عليهما الصَّلاة والسَّلام تمامَ ما جرى بينهما من الكلامِ في إنشاءِ عقدِ النِّكاحِ وعقدِ الإجارةِ وإيقاعِهما بل هُو بيانٌ لما عز ما عليه واتفقا على ايفاعه حسبما يتوقفُ عليه مساقُ القصَّةِ إجمالاً من غيرِ تعرضٍ لبيانِ مواجبِ العقدينِ في تلك الشريعةِ تفصيلاً رُوي أنَّهما لمَّا أتمَّا العقدَ قال شعيبٌ لموسى عليهما السَّلام ادخُلْ ذلكَ البيتَ فخُذ عصاً من تلكَ العصيِّ وكانت عنده عِصِيُّ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام فأخذَ عصا هبطَ بها آدمُ عليه الصَّلاة والسَّلام من الجنَّةِ ولم يزلِ الأنبياءُ يتوارثونَها حتَّى وقعتْ إلى شُعيبٍ عليه السَّلام فمسَّها وكان مكفوفاً فضنَّ بها فقال خُذ غيرَها فما وقعَ في يده إلا هي سبعَ مرَّاتٍ فعلم أنَّ له شأناً وقيل أخذَها جبريلُ عليه السَّلام بعد موتِ آدمَ عليه السَّلام فكانتْ معه حتَّى لقَي بها مُوسى عليه السَّلام ليلاً وقيل أودعها شعيباً ملَكٌ في صورةِ رجلٍ فأمرَ بنتَه أنْ تأتيَه بعصا فأتتْهُ بها فردَّها سبعَ مرَّاتٍ فلم يقعْ في يدها غيرُها فدفعَها إليه ثم ندِمَ لأنَّها وديعةٌ فتبعَه فاختصَما فيها ورضيا ان يحكم بينها أولُ طالعٍ فأتاهُما المَلكُ فقالَ ألقياها فمَن رفعَها فهَي له فعالَجها الشَّيخُ فلم يُطِقْها ورفعَها مُوسى عليه السَّلام وعن الحسنِ رضيَ الله تعالى عنه ما كانتْ إلا عصاً من الشَّجرِ اعترضها اعتراضاً وعن الكلبي رحمة الله الشَّجرةُ التي منها نُوديَ شجرةُ العَوسجِ ومنها كانت عصاهُ ولمَّا أصبحَ قال له شُعِيبٌ صلواتُ الله وسلامُه عليهما إذا بلغتَ مفرقَ الطَّريقِ فلا تأخذْ على يمينكَ فإنَّ الكلأَ وإنْ كانَ بها أكثرَ إلاَّ أنَّ فيها تِنِّيناً أخشاهُ عليكَ وعلى الغنم فأخذتِ الغنمُ ذاتَ اليمينِ فلم يقدرْ على كفِّها ومشَى على أثرِها فإذا عشبٌ وريف لم يرَ مثلَه فنامَ فإذا بالتنِّينِ قد أقبل فحاربتْهُ العَصا حتَّى قتلتْهُ وعادتْ إلى جنبِ مُوسى عليه السَّلامُ داميةً فلما أبصرَها داميةً والتنِّينَ مقتولاً ارتاحَ لذلك ولما رجعَ إلى شُعيبٍ عليهما السَّلامُ مسَّ الغنمَ فوجدَها ملأى البُطونِ غزيرةَ اللبنِ فأخبرَه مُوسى عليه السَّلام بالشَّأنِ ففرحَ وعلَم أنَّ لموسى والعصا شأناً وقال له إنِّي وهبتُ لك من نتاجِ غنمي هذا العامِ كلَّ أدرعَ ودعاء فأُوحي إليه في المنام أن اضربْ بعصاك مُستقى الغنمِ ففعلَ ثم سقَى فما أخطأتْ واحدةٌ إلا وضعت أَدرعَ ودرعاءَ فوفَّى له بشرطِه والفاءُ في قولِه تعالى(7/11)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
{فلما قضى موسى الأجل} فصيحةٌ أي فعقدا العقدينِ وباشر موسى ما لتزمه فلما أتمَّ الأجلَ {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} نحوَ مصرَ بإذنٍ من شُعيبٍ عليهما السَّلامُ رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قضى ابعدالا جلين ومكثَ عنَدُه بعد ذلك عشر سنين ثمَّ عزمَ على العودِ إلى مصرَ فاستأذنَه في(7/11)
القصص 30 32 ذلكَ فأذنَ له فخرجَ بأهلِه {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور} أي أبصرَ من الجهةِ التي تلي الطُّورَ {نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم مّنْهَا بِخَبَرٍ} أي بخبرِ الطريق وقد كانوا ضلوه {أَوْ جَذْوَةٍ} أي عُودٍ غليظٍ سواء كانتْ في رأسه نارا ولا قال قائلُهم باتتْ حواطبُ لَيْلَى يلتمسنَ لها جزلَ الجذى غير حوار ولا دعِرِ وقال وألقى على قبْسٍ من النَّار جذوة شديداً عليها حرُّها والتهابُها ولذلك بيَّن بقولِه تعالى {من النار} وقرئ بكسرِ الجيمِ وبضمِّها وكلَّها لغاتٌ {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي تستدفئونَ(7/12)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
{فلما أتاها} أي النار التي آنسَها {نُودِىَ مِن شاطئ الوادى الأيمن} أي أتاهُ النداءُ من الشاطئ الأيمنِ بالنسبةِ إلى مُوسى عليهِ السَّلامُ {فِى البقعة المباركة} متصل بالشاطئ أو صلةٌ لنُوديَ {مِنَ الشجرة} بدلُ اشتمالٍ من شاطئ لأنَّها كانتْ نابتةً على الشاطئ {أن يا موسى إِنّى أَنَاْ الله رب العالمين} وهذ وإنْ خالفَ لفظاً لما في طه والنَّملِ لكنَّه موافقٌ له في المَعنى المرادِ(7/12)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} عطفٌ على أنْ يا مُوسى وكلاهما مفسرٌ لنودَي والفاءُ في قوله تعالى {فلما رآها تهتز} فصيحة مفصحةٌ عن جُمَلٍ قد حُذفت تعويلا على دلالة الحالِ عليها وإشعاراً بغايةِ سرعةِ تحققِ مدلولاتِها أي فألقاها نصارت ثُعباناً فاهتزتْ فلمَّا رَآها تهتزُّ {كَأَنَّهَا جَانٌّ} أي في سُرعةِ الحركةِ مع غاية عظم جئتها {ولى مُدْبِراً} أي مُنهزماً من الخوفِ {وَلَمْ يُعَقّبْ} أيْ لم يرجعْ {يَا موسى} أي قيلَ يا مُوسى {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الامنين} من المخاوفِ فإنَّه لا يخافُ لديَّ المُرسلون(7/12)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
{اسلك يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} أي أَدخلْها فيهِ {تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء} أي عيبٍ {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أي يديك المبسوطتينِ لتتَّقي بهما الحيَّةَ كالخائفِ الفزعِ بإدخالِ اليمنى تحتَ العضد الأيسرِ واليسرى تحتَ الأيمنِ أو بإدخالِهما في الجيبِ فيكون تكريراً لغرضٍ آخرَ هو أنْ يكونَ ذلك في وجهِ العدوِّ إظهارَ جراءةٍ ومبدأ لظهورٍ معجزةٍ ويجوزُ أنْ يرادَ بالضمِّ التَّجلدُ والثباتُ عند انقلابِ العَصَا ثعباناً استعارةٌ من حال الطائر فإنه إذَا خافَ نشَر جناحيِه وإذا أمنَ واطمأنَّ ضمَّهما إليهِ {مِنَ الرهب} أي من أجلِ الرَّهبِ أي إذا عراكَ الخوفُ فافعلْ ذلك تجلُّداً وضبطاً لنفسكَ وقُرىء بضمِّ الراءِ وسكونِ الهاء وبضمهما والكل لغات {فَذَانِكَ} إشارةٌ إلى العَصَا واليدِ وقُرىء بتشديدِ النُّونِ فالمخفف مثنى ذاك والمشد مثنَّى ذلكَ {برهانان} حجَّتانِ نيِّرتانِ وبُرهان فُعلان لقولِهم أبرَه الرَّجلُ إذا جاءَ بالبُرهانِ من قولِهم برهَ الرَّجلُ إذا ابيضَّ ويُقال(7/12)
القصص 33 37 للمرأةِ البيضاءِ برهاءُ وبَرَهْرَهةٌ ونظيرُه تسميةِ الحجَّةِ سُلطاناً من السَّليطِ وهو الزَّيتُ لإنارتِها وقيل هو فُعلال لقولِهم برهنَ ومِنْ في قولِه تعالَى {مِن رَبّكَ} متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لبرهانانِ أي كائنانِ منْهُ تعالى {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} واصلانِ ومنتهيانِ إليهم {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} خارجينَ عن حُدود الظُّلمِ والعُدوان فكانُوا أحِقَّاءَ بأنْ نُرسلَك إليهم بهاتينِ المُعجزتينِ الباهرتينِ(7/13)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)
{قَالَ رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يقتلون} بمقابلتها(7/13)
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
{وأخي هارون هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ رِدْءاً} أي مُعيناً وهو في الأصلِ اسمُ ما يُعان به كالدفء وقرئ ردأ بالتخفيف {يصدقني} بتخليص الحقِّ وتقريرِ الحجَّةِ بتوضيحِها وتزييفِ الشُّبهةِ {إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ} ولسانِي لا يُطاوعني عند المُحاجةِ وقيل المرادُ تصديقُ القومِ لتقريرِه وتوضيحِه لكنَّه أسندَ إليه إسناد الفعلِ إلى السببِ وقرئ يصدقْني بالجزمِ على أنَّه جوابُ الأمرِ(7/13)
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أي سنقويكَ به فإنَّ قوَّةَ الشَّخصِ بشدة اليدِ على مُزاولةِ الأمورِ ولذلكَ يعبّرُ عنه باليدِ وشدَّتِها بشدَّة العضدِ {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا} أي تسلطاً وغلبةً وقيل حجَّةً وليس بذاكَ {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} باستيلاءٍ أو محاجة {بآياتنا} متعلقٌ بمحذوفٍ قد صُرِّح به في مواضعَ أُخَر أي اذهَبا بآياتِنا أو بنجعل أي نسلطكما بآياتِنا أو بمعنى لا يصَلون أي تمتنعونَ منهم بها وقيل هو قسمٌ وجوابُه لا يصلونَ وقيلَ هو بيانٌ للغالبونَ في قولِه تعالى {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون} بمعنى أنَّه صلة لما يبينه أوصلة له على أنَّ اللامَ للتعريفِ لا بمعنى الذي(7/13)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
{فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات} أي واضحات الدلالة على صحَّةِ رسالةِ مُوسى عليه السَّلام منه تعالى والمرادُ بها العَصَا واليدُ إذ هُما اللتانِ أظهرَهُما مُوسى عليه السَّلام إذْ ذاكَ والتَّعبيرُ عنْهمَا بصيغةِ الجمعِ قد مرَّ سرُّه في سورةِ طه {قَالُواْ مَا هَذا إِلاَّ سحرٌ مُّفْتَرًى} أي سحرٌ مختلقٌ لم يُفعل قبلَ هذا مثلُه أو سحرٌ تعمله ثم تفتريهِ على الله تعالى أو سحرٌ موصوفٌ بالافتراءِ كسائرِ أصنافِ السِّحِر {وَمَا سَمِعْنَا بهذا} أي السِّحرِ أو ادعاءِ النُّبوةِ {في آبائنا الأولين} أي واقعاً في أيَّامِهم(7/13)
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
{وَقَالَ موسى رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بالهدى مِنْ عِندِهِ}(7/13)
يريد به نفسه وقرئ قال بغير واولانه جوابٌ عن مقالِهم ووجهُ العطفِ أنَّ المرادَ حكايةُ القولينِ ليوازنَ السَّامعُ بينهما فيميِّز صحيحَهما من الفاسدِ {وَمَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار} أي العاقبةُ المحمودُة في الدَّارِ وهي الدُّنيا وعاقبتُها الأصليةُ هي الجَّنة لأنَّها خُلقتْ مجازاً إلى الآخرةِ ومزرعة لها والمقصودُ بالذاتِ منها الثَّوابُ وأمَّا العقابُ فمن نتائجِ أعمالِ العصاه وسيئات الغواة وقرئ يكونُ بالياءِ التحتانيَّةِ {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي لا يفوزونَ بمطلوبٍ ولا ينجون عن محذُورٍ(7/14)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
{وقال فرعون يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} قاله اللعينُ بعدَ ما جمعَ السَّحرةَ وتصدَّى للمُعارضةِ فكانَ من أمِرهم ما كانَ {فَأَوْقِدْ لي يا هامان عَلَى الطين} أي أصنعْ آجرَّاً {فاجعل لّى} منه {صَرْحاً} أي قصراً رفيعاً {لَّعَلّى أَطَّلِعُ إلى إله موسى} كأنَّه توهَّم أنَّه لو كان لكان جسماً في السَّماءِ يمكن الرُّقيُّ إليه ثم قال {وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} أو أرادَ أنْ يبنيَ له رَصَداً يترصَّدُ منه أوضاعَ الكواكبِ فيرى هل فيها ما يدلُّ على بعثةِ رسولٍ وتبدلِ دولتِه وقيل المراد بنفى العلم نفى المعلومِ كما في قولِه تعالى {قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السماوات وَلاَ فِى الارض} فإنَّ معناهُ بما ليس فيهنَّ وهذا من خواصِّ العلومِ الفعليةِ فإنَّها لازمةٌ لتحققِ معلوماتِها فيلزم من انتفائِها انتفاءُ معلوماتِها ولا كذلكَ العلومُ الانفعاليةُ قيل أولُ من اتَّخذَ الآجرَّ فرعونُ ولذلك أُمرِ باتخاذِه على وجهٍ يتضمَّنُ تعليمَ الصَّنعةِ مع ما فيه من تعظيم ولذلك نادى هامانَ باسمهِ بيافي وسطِ الكلامِ(7/14)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
{واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الارض} أرضِ مصرَ {بِغَيْرِ الحق} بغيرِ استحقاقٍ {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} بالبعث للجزاء وقرئ بفتحِ الياءِ وكسرِ الجيمِ من رجعَ رجُوعاً والأولُ من رجع رجعاً وهو الأنسبُ بالمقامِ(7/14)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
{فأخذناه وَجُنُودَهُ} عقيبَ ما بلغُوا من الكفرِ والعتُوِّ أقصى الغاياتِ {فنبذناهم فِى اليم} قدمر تفصيلُه وفيه من تفخيمِ شأنِ الأخذِ وتهويلِه واستحقارِ المأخوذينَ المنبوُذينَ ما لا يخفى كأنَّه تعالى أخذَهم مع كثرتِهم في كفَ وطرحَهم في البحرِ ونظيُره قولُه تعالى وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسموات مطويات بِيَمِينِهِ {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين} وبيَّنها للنَّاسِ ليعتبرُوا بها(7/14)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
{وجعلناهم} أي صيَّرناهم في عهدِهم {أَئِمَّةً يَدْعُونَ} النَّاسَ {إِلَى النار} إلى ما يُؤدِّي إليها من الكفرِ والمَعَاصي أي قدوةً يَقتِدي بهم أَهلُ الضَّلالِ لمَّا صرفُوا اختيارَهم إلى تحصيلِ تلك الحالة وقيل(7/14)
القصص 42 44 سمَّيناهم أئمةً دعاةً إلى النَّار كما في قولِه تعالى وجعلوا الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا فالأنسبُ حينئذٍ أن يكونَ الجعلُ بعدهم فيما بين الأممِ وتكونَ الدَّعوة الى نفس البار وقيل معنى الجعلِ منعُ الألطافِ الصَّارفةِ عن ذلك {وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوهِ(7/15)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
{وأتبعناهم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} طرداً وإبعاداً من الرَّحمةِ ولعناً من اللاعنينَ حيثُ لا يزالُ يلعنُهم الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام والمؤمنون خَلَفاً عن سَلَفٍ {وَيَوْمَ القيامة هُمْ مّنَ المقبوحين} من المطرُودينِ المُبعدينَ وقيل من الموسُومين بعلامةٍ منكرةٍ كزرقةِ العُيون وسوادِ الوجهِ قالَه ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما يُقال قبَّحه الله وقبَحه إذا جعلَه قبيحاً وقال أبوُ عُبيدةَ من المقبُوحين من المُهلكينَ ويومَ القيامةِ إمَّا متعلقٌ بالمقبوحينَ على أنَّ اللامَ للتعريفِ لا بمعنى الذي أو بمحذوفٍ يُفسره ذلك كأنَّه قيل وقبحوا يوم القيامة نجو لعملِكم من القالينَ(7/15)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
{ولقد آتينا موسى الكتاب} أي التوراة {مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الاولى} هم أقوامُ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ عليهم السَّلام والتَّعرض لبيانِ كون إبتائها بعدإهلاكهم للإشعارِ بمساس الحاجةِ الدَّاعيةِ إليه تمهيداً لما يعقبُه من بيانِ الحاجةِ الدَّاعية إلى إنزالِ القُرآن الكريمِ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فإنَّ إهلاكَ القُرون الأُولى من مواجبات اندراسِ معالمِ الشَّرائعِ وانطماسِ آثارِها وأحكامِها المؤديينِ إلى اختلالِ نظامِ العالمِ وفسادِ أحوالِ الأُمم المستدعيينَ للتشريعِ الجديد بتقرير الأُصولِ الباقيةِ على مرِّ الدُّهورِ وترتيب الفروعِ المتبدلة بتبدلِ العُصور وتذكير أحوالِ الأُممِ الخاليةِ الموجبةِ للاعتبارِ كأنَّه قيلَ ولقد آتينَا مُوسى التوراةَ على حين حاجةٍ إلى إيتائِها {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أي أنواراً لقلوبِهم تبصر بها الحقائقَ وتميزُ بين الحقِّ والباطلِ حيثُ كانتْ عُمياً عن الفهم والادراك بالكُلِّية فإنَّ البصيرةَ نورُ القلبِ الذي به يستبصرُ كما أنَّ البصرَ نورٌ العينِ الذي به تبصرُ {وهدى} أي هدايةً إلى الشَّرائعِ والاحكامِ التي هي سُبلُ الله تعالى {وَرَحْمَةً} حيثُ ينالُ من عملَ به رحمةَ الله تعالى وانتصابُ الكلِّ على الحاليَّةِ من الكتابِ على أنَّه نفسُ البصائرِ والهُدى والرَّحمة أو على حذفِ المضافِ أي ذَا بصائرَ الخ وقيل على العلَّة أي آتيناهُ الكتابَ للبصائرِ والهُدى والرَّحمةِ {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ليكونُوا على حالٍ يُرجى منه التَّذكرُ وقد مرَّ تحقيقُ القولِ في ذلك عند قولِه تعالى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} من سورةِ البقرةِ وقوله تعالى(7/15)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى} شروعٌ في بيانِ أنَّ إنزالَ القرآنِ الكريمِ أيضاً واقعٌ في زمانِ شدَّة مساسِ الحاجةِ إليه واقتضاءِ الحكمةِ له البتةَ وقد صدرَ بتحقيقِ كونِه وحياً صادقاً من عندِ الله عزَّ وجلَّ ببيانِ أنَّ الوقوفَ على ما فُصِّل من الأحوال لا يتسنَّى(7/15)
القصص 45 46 إلا بالمشاهدةِ أو التعلُّمِ ممَّن شاهدَها وحيثُ انتفى كلاهُما تبينَ أنَّه بوحيٍ من علاَّمِ الغُيُوبِ لا محالةَ على طريقةِ قولِه تعالى {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} الآيةَ أيْ وما كنتَ بجانبِ الجبلِ الغربِّي أو المكانِ الغربيِّ الذي وقعَ فيه الميقاتُ على حذفِ الموصوفِ وإقامةِ الصِّفةِ مُقامَهُ أو الجانبِ الغربِّي على إضافةِ الموصُوفِ إلى الصِّفةِ كمسجدِ الجامعِ {إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الامر} أي عهدنَا إليهِ وأحكمَنا أمرَ نبوَّتِه بالوحي وإيتاء التَّوراةِ {وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} أي من جُملة الشاهدينَ للوحي وهم السبعونَ المختارون للميقاتِ حتَّى تشاهدَ ما جرى من أمرِ موسى في ميقانه وكتبةِ التَّوراةِ له في الألواحِ فتخبَره للنَّاسِ(7/16)
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
{وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً} أي ولكنَّا خلقنا بين زمانِك وزمانِ مُوسى قُروناً كثيرةً {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر} وتمادَى الأمدُ فتغيرتِ الشَّرائعُ والأحكامُ وعَميتْ عليهم الأنباءُ لا سيما على آخرهم فافتضى الحالُ التَّشريعَ الجديدَ فأوحينَا إليكَ فحذفَ المستدرَكَ اكتفاءً بذكِر ما يُوجبه ويدلُّ عليهِ وقولُه تعالى {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} نفيٌ لاحتمالِ كونِ معرفتِه عليه الصَّلاة والسَّلام للقصَّةِ بالسَّماعِ ممَّن شاهدَها أي وما كنتَ مُقيماً في أهلِ مدينَ من شُعيبٍ والمؤمنينَ به وقولُه تعالى {تَتْلُو عَلَيْهِمْ} أي تقرأُ على أهلِ مدينَ بطريق التعلم منهم {آياتنا} الناطقةَ بالقصَّةِ إمَّا حالٌ من المُستكنِّ في ثاوياً أو خبرٌ ثانٍ لكنتَ {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} إيَّاك ومُوحين إليكَ تلك الآياتِ ونظائرَها(7/16)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} أي وقتَ ندائنا موسى إِنّى أَنَا الله رَبُّ العالمين واستنبائنا إيَّاه وإرسالِنا له الى فرعونَ {ولكنْ رحمةٌ مّن رَّبِكَ} أي ولكنْ أرسلناكَ بالقُرآنِ النَّاطقِ بما ذُكر وبغيرِه لرحمةٍ عظيمةٍ كائنةٍ منَّا لك وللنَّاسِ وقيل علمناكَ وقيل عرَّفناك ذلك وليسَ بذاكَ كما ستعرفُهُ والالتفاتُ إلى اسمِ الربِّ للإشعارِ بعلَّةِ الرَّحمةِ وتشريفِه صلى الله عليه وسلم بالإضافةِ وقد اكتُفي عن ذكرِ المستدركِ هُهنا بذكر ما يُوجبه من جهتِه تعالى كما اكتفى عنْهُ في الأولِ بذكرِ ما يُوجبه من جهةِ النَّاسِ وصرَّح به فيما بينُهما تنصيصا على ما هو المقصودُ وإشعاراً بأنَّه المرادُ فيهما أيضا ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وقولُه تعالى {لِتُنذِرَ قَوْماً} متعلقٌ بالفعلِ المعلَّلِ بالرَّحمةِ فُهو ما ذكرنا من إرساله صلى الله عليه وسلم بالقُرآنِ حتماً لما أنَّه المعللُ بالإنذارِ لا تعليمُ ما ذكر وقرئ رحمةٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوف وقوله تعالى {مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ} صفةٌ لقوماً أي لم يأتهم نذيرٌ لوقوعِهم في فترةٍ بينك وبينَ عيسى وهي خمسمائةٌ وخمسونَ سنةً أو بينك وبين اسمعيل بناء على أن دعوة موسى عيسى عليهما السَّلامُ كانتْ مختصَّةً ببني اسرائيلَ {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أيْ يتعظونَ بإنذارِك وتغييرُ الترتيب الوقوعي بين(7/16)
القصص 47 49 قضاء الأمر والنواء في أهلِ مدينَ والنِّداءِ للتنبيهِ على أنَّ كلاً من ذلك برهانٌ مستقلُّ على أن حكايته صلى الله عليه وسلم للقصَّةِ بطريقِ الوحِى الإلهيِّ ولو ذُكر أولاً نفيُ ثوائه صلى الله عليه وسلم من أهلِ مدينَ ثمَّ نفيَ حضوره صلى الله عليه وسلم عندَ النِّداءِ ثم نُفي حضورُه عند قضاءِ الأمرِ كما هو الموافقُ للترتيبِ الوقوعي لربما توهم أن الكلَّ دليلٌ واحدٌ على ما ذُكِرَ كما مَرَّ في سورة البقرةِ(7/17)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ} أي عقوبةٌ {بِمَا قَدَّمَتْ أيديهم} أي ما اقترفُوا من الكفرِ والمعَاصي {فَيَقُولُواْ} عطفٌ على تُصيبَهم داخلٌ في حيِّزِ لولا الامتناعيَّةِ على أنَّ مدارَ انتفاءِ ما يُجاب به هو امتناعُه لا امتناعُ المعطُوفِ عليه وإنما ذكرَه في حيزها للإبذان بأنه السبب الملجئ لهم إلى قولِهم {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رسولا} أي هلاَّ أرسلتَ إلينا رسولاً مؤيداً مِن عندك بالآيات {فنتبع آياتك} الظَّاهرةَ على يدِه وهو جوابُ لولا الثَّانيةِ {وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} بهَا وجوابُ لولا الأُولى محذوفٌ ثقةٍ بدلالةِ الحالِ عليهِ والمَعْنى لولا قولُهم هذا عندَ إصابة عقوبة جاياتهم التي قدَّمُوها ما أرسلناكَ لكن لمَّا كانَ قولُهم ذلكَ محقَّقاً لا محيدَ عنه أرسلناك قطعا لماذيرهم بالكُلِّيةِ(7/17)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
{فَلَمَّا جَاءهُمُ} أي أهلَ مكَّةَ {الحق مِنْ عِندِنَا} وهو القرآنُ المنزلُ عليهِ صلى الله عليه وسلم {قَالُواْ} تعنُّتاً واقتراحاً {لَوْلا أوتي} يعنونه صلى الله عليه وسلم {مِثْلَ مَا أُوتِىَ موسى} من الكتابِ المنزَّلِ جملةً وأمَّا اليدُ والعَصَا فلا تعلُّق لهما بالمقامِ كسائرِ معجزاتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقوله تعالى {أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِىَ موسى مِن قَبْلُ} ردٌّ عليهم وإظهارٌ لكونِ ما قالُوه تعنُّتاً محضاً لا طلباً لما يُرشدهم إلى الحقِّ أي ألم يكفُروا من قبلِ هذا القولِ بما أوتى موسى من الكتاب كما كفرُوا بهذا الحقِّ وقولُه تعالى {قَالُواْ} استئنافٌ مَسُوقٌ لتقريرِ كُفرِهم المستفادِ من الإنكارِ السَّابقِ وبيانِ كيفيَّتِه وقولُه تعالى {سِحْرَانِ} خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي هُما يعنونَ ما أُوتي محمدٌ وما أُوتي مُوسى عليهما السَّلام سحرانِ {تَظَاهَرَا} أي تعاوَنا بتصديقِ كلُّ واحدٍ منهُما الآخَرَ وذلك أنَّهم بَعثوا رهطاً منهم إلى رؤساءِ اليَّهودِ في عيدلهم فسألوهم عن شأنه صلى الله عليه وسلم فقالُوا إنَّا نجدُه في التَّوارةِ بنعتِه وصفتِه فلمَّا رجعَ الرَّهطُ وأخبرُوهم بما قالتِ اليَّهودُ قالُوا ذلكَ وقولُه تعالى {وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلّ} أي بكلِّ واحدٍ من الكتابينِ {كافرون} تصريحٌ بكفرِهم بهما وتأكيدٌ لكفرِهم المفهومِ من تسميتهما سحراً وذلك لغايةِ عُتوهم وتمادِيهم في الكفر والطغيان وقرئ ساحران تظاهران يعنون مُوسى ومحمَّداً صلَّى الله عليه وسلم هذا هُو الذي تستدعيهِ جَزالةُ النَّظمِ الجليلِ فتأملْ ودعْ عنكَ ما قيلَ وقيلَ ألا ترى إلى قولِه تعالى(7/17)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)
{قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى منهما} مما أوتياه(7/17)
القصص 50 54 من التَّوراةِ والقُرآنِ وسمَّيتُموهما سحرينِ فإنَّه نصٌّ فيما ذُكر وقوله تعالى {أَتَّبِعْهُ} جوابٌ للأمرِ أي إنْ تأتُوا به أتَّبعْهُ ومثلُ هذا الشَّرطِ ممَّا يأتِي به من يدلُّ بوضوحِ حُجَّتِه وسُنوحِ محجَّتِه لأنَّ الإتيانَ بما هو أهدى من الكتابينِ أمرٌ بيِّنُ الاستحالةِ فيوسع دائرةَ الكلامِ للتَّبكيتِ والإفحامِ {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في أنَّهما سحرانِ مختلقانِ وفي إيراد كلمةِ إنْ مع امتناعِ صدقِهم نوعُ تهكُّمٍ بهم(7/18)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ} أي فإنْ لم يفعلُوا ما كلَّفتهم من الإتيانِ بكتابٍ أهدى منهما كقولِه تعالى فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وإنَّما عُبِّر عنه بالاستجابةِ إيذانا بأنه صلى الله عليه وسلم على كمالِ أمنٍ من أمره كأن أمره صلى الله عليه وسلم لهم بالإتيانِ بما ذُكر دعاءٌ لهم إلى أمرٍ يريدُ وقوعَه والاستجابةُ تتعدَّى إلى الدُّعاءِ بنفسِه وإلى الدَّاعِي باللامِ فيحذف الدُّعاء عندَ ذلكَ غالباً ولا يكادُ يقال استجابَ الله له دعاءَه {فاعلم أَنَّمَا يتبعون أهواءهم} الزائفة من غير أن يكون لهم متمسَّكٌ ما أصلاً إذْ لَوْ كانَ لهُم ذلكَ لأَتَوا بهِ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن اتبع هواه} استفهامٌ إنكاريٌّ للنَّفيِ أيْ لا أضلَّ ممَّن اتَّبع هواهُ {بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله} أي هو أضلُّ من كلِّ ضالَ وإنْ كانَ ظاهرُ السَّبكِ لنفيِ الأصلِ لا لنفيِ المُساوي كما مرَّ في نظائرِه مراراً وتقييدُ اتِّباعِ الهَوَى بعدمِ الهُدى من الله تعالى لزيادةِ التَّقريعِ والإشباعِ في التَّشنيعِ والتَّضليلِ وإلا فمقارنتُه لهدايتِه تعالى بينةُ الاستحالةِ {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} الذين ظلمُوا أنفسَهم بالانهماكِ في اتباعِ الهَوَى والإعراضِ عن الآياتِ الهاديةِ إلى الحقِّ المُبينِ(7/18)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول} وقرئ بالتَّخفيف أي أنزلنا القرآنَ عليهم متواصلاً بعضَه إثرَ بعضٍ حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحةُ أو متتابعاً وعداً ووعيداً قصصاً وعبراً ومواعظَ ونصائحَ {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيؤمنون بما فيه(7/18)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
{الذين آتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ} أي منْ قبلِ إيتاءِ القُرآنِ {هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} وهم مُؤمنو أهلِ الكتابِ وقيلَ أربعون من أهلِ الإنجيلِ اثنانِ وثلاثون جاءوا مع جعفر من الحبشة وثمانة ي من الشامِ(7/18)
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
{وَإِذَا يتلى} أي القرآنُ عَلَيْهِمْ {قالوا آمنا بِهِ أَنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا} أي الحقُّ الذي كما نعرف حقيته وهو استئناف لييان ما أوجب إيمانَهم وقولُه تعالَى {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ} أي منْ قبلِ نزولِه {مُسْلِمِينَ} بيانٌ لكونِ إيمانِهم به أمراً متقادمَ العهدِ لما شاهدوا ذكرَه في الكتب المنقدمة وأنَّهم على دينِ الإسلام قبل نزولِ القرآنِ(7/18)
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
{أولئك} الموصوفون بما ذكر من النعوت(7/18)
القصص 55 57 {يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} مرةً على إيمانِهم بكتابِهم ومرةً على إيمانِهم بالقرآنِ {بِمَا صَبَرُواْ} بصبرِهم وثباتِهم على الإيمانينِ أو على الإيمان بالقرآنِ قبل النزول وبعده أو على أذى من هاجرهم أهلِ دينِهم ومن المشركين {ويدرؤون بالحسنة السيئة} أي يدفعونَ بالطاعة المعصية لقوله صلى الله عليه وسلم وأتبعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} في سبيلِ الخيرِ(7/19)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
{وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو} من اللاغينَ {أَعْرَضُواْ عَنْهُ} عن اللَّغو تكرماً كقولِه تعالى وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً {وَقَالُواْ} لهم {لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ} بطريقِ المُتاركةِ والتَّوديعِ {لاَ نَبْتَغِى الجاهلين} لا نطلبُ صحبتَهم ولا نريدُ مخالطتَهم(7/19)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِى} هدايةً موصِّلةً إلى البُغيةِ لا محالةَ {مَنْ أَحْبَبْتَ} من النَّاسِ ولا تقدرُ على أنْ تدخلَه في الإسلامِ وإنْ بذلت فيه غايةَ المجهودِ وجاوزتَ في السعيِ كلَّ حدَ معهودٍ {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَآء} أنْ يهديَه فيدخلَه في الإسلامِ {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} بالمستعدِّينَ لذلك والجمهورُ على أنَّها نزلتْ في أبي طالبٍ فإنَّه لما احتُضر جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالَ له يا عمِّ قُل لا إله إلا الله كلمةً أحاجُّ بها لك عندَ الله قال له يا ابنَ أخِي قد علمتُ إنَّك لصادقٌ ولكنِّي أكرَه أنْ يقال جزع عند الموتِ ولولا أنْ يكونَ عليك وعلى بني أبيكَ غضاضةٌ بعدي لقُلتها ولأقررتُ بها عينَك عندَ الفراقِ لما أَرَى من شدَّة وَجْدِك ونصيحتِك ولكنِّي سوفَ أموتُ على ملَّةِ الأشياخِ عبدِ المطَّلبِ وهاشمٍ وعبدِ منافٍ(7/19)
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
{وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} نزلت في الحرث بن عثمان ابن نوفلَ بنِ عبدِ منافٍ حيث أتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقال نحنُ نعلم أنَّك على الحقِّ ولكنَّا نخافُ إنِ اتَّبعناك وخالفنَا العربَ وإنما نحنُ أكلةُ رأسٍ أنْ يتخطَّفونا من أرضِنا فرُد عليهم بقولِه تعالى {أو لم نمكن لهم حرما آمناً} أي ألم نعصمْهم ولم نجعلْ مكانَهم حرماً ذا أمنٍ لحرمةِ البيتِ الحرامِ الذي تتناحرُ العرب حوله وهو آمنون {يجبى إليه} وقرئ تجبى أي تجمع وتحمل إليه {ثمراتُ كُلّ شَىْء} من كلِّ أوبٍ والجملةُ صفةٌ أخرى لحَرماً دافعةٌ لمَا عَسَى يُتوهَّم من تضررِهم بانقطاعِ الميرةِ {رّزْقاً مّن لَّدُنَّا} فإذا كان حالهم ما ذكروهم عبدةُ أصنامٍ فكيف يخافونَ التخطفَ إذا ضمُّوا إلى حُرمةِ البيتِ حُرمةَ التَّوحيدِ {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي جهلة لا ينفطنون له ولا يتفكَّرون ليعلمُوا ذلك وقيل هو متعلِّق بقولِه تعالى مّن لَّدُنَّا أي قليل منهم بتدبرون فيعلمونَ أنَّ ذلك رزقٌ من عند الله تعالى إذ لو علمُوا لما خافُوا غيرَه وانتصابُ رزقاً على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لمعنى يجبى أو حالٌ من ثمراتُ على أنَّه بمعنى مرزوقٍ لتخصصها بالإضافةِ ثم بَيّن أن الأمر بالعكس(7/19)
القصص 58 60 وأنَّهم أحقَّاءُ بأنْ يخافوا بأسَ الله تعالى بقوله(7/20)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي وكثيرٌ من أهلِ قريةٍ كانت حالُهم كحالِ هؤلاءِ في الأمنِ وخفضِ العيشِ والدَّعةِ حتَّى أشِرُوا فدمَّرنا عليهم وخرَّبنا ديارَهم {فَتِلْكَ مساكنهم} خاويةٌ بما ظلمُوا {لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ} من بعدِ تدميرِهم {إِلاَّ قَلِيلاً} أي إلا زماناً قليلاً إذْ لا يسكنُها إلا المارَّةُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أولم يبقَ من يسكنُها إلا قليلاً من شؤمِ معاصيِهم {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} منهم إذ لم يخلفهم أحدٌ يتصرَّفُ تصرَّفَهم في ديارِهم وسائرِ ذاتِ أيديهم وانتصابُ معيشتَها بنزعِ الخافضِ أو يجعلها ظرفاً بنفسِها كقولِك زيدٌ ظنِّي مقيمٌ أو بإضمارِ زمانٍ مضافٍ إليه أو يجعله مفعولاً لبطرتْ بتضمينِ معنى كفرتْ(7/20)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى} بيانٌ للعنايةِ الربَّانيةِ إثرَ بيانِ إهلاكِ القُرى المذكورةِ أي وما صحَّ وما استقامَ بل استحال في سنَّته المبنيةِ على الحكمِ البالغةِ أو ما كان في حكمِه الماضِي وقضائِه السَّابق أنْ يُهلكَ القرى قبلَ الإنذارِ بل كانتْ عادتُه أنْ لا يهلكَها {حتى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا} أي في أصلِها وقُصبتِها التي هي أعمالُها وتوابعُها لكون أهلِها أفطنَ وأنبلَ {رسولا يتلو عليهم آياتنا} الناطقةَ بالحقِّ ويدعُوهم إليه بالتَّرغيبِ والتَّرهيبِ وذلك لإلزام الحجَّة وقطع المعذرةِ بأنْ يقولوا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فنتبعَ آياتِك والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لتربيةِ المهابة وإدخال الروعة وقوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى} عطفٌ على ما كانَ ربُّك وقولُه تعالى {إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون} استثناءٌ مفرغ من أعم الأحوال أي وما كنَّا مهلكينَ لأهلِ القُرى بعد ما بعثنا في أمِّها رسولاً يدعُوهم إلى الحقِّ ويُرشدهم إليه في حالٍ من الأحوالِ إلا حال كونهم ظالمينَ بتكذيبِ رسولِنا والكفرِ بآياتِنا فالبعثُ غايةٌ لعدمِ صحَّة الإهلاكِ بموجبِ السنَّة الإلهية لا لعدمِ وقوعِه حتَّى يلزمَ تحققُ الإهلاكِ عقيبَ البعثِ وقد مرَّ تحقيقُه في سورةِ بني إسرائيلَ(7/20)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
{وَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْء} من أمور الدُّنيا {فمتاع الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} أي فهو شئ شأنه أنْ يتمتَّعَ ويتزينَ به أياماً قلائل {وَمَا عِندَ الله} وهو الثَّوابُ {خَيْرٌ} في نفسِه من ذلك لأنَّه لذَّةٌ خالصةٌ عن شوائبِ الألم وبهجةٌ كاملة عارية عن سِمةِ الهمِّ {وأبقى} لأنَّه أبديّ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ألا تتفكرونَ فلا تعقِلون هذا الأمرَ الواضحَ فتستبدلون الذي هُوَ أدنى بالذي هو خيرٌ وقرئ بالياء على الالنفات المبنيِّ على اقتضاء سوء صنيعهم الإعراضَ عن مخاطبتِهم(7/20)
القصص(7/21)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
61 - 63 {أَفَمَن وعدناه وَعْداً حَسَناً} أي وَعداً بالجنَّة فإنَّ حسنَ الوعدِ بحسن الموعودِ {فَهُوَ لاَقِيهِ} أي مدركُه لا محالةَ لاستحالةِ الخُلفِ في وعدِه تعالى ولذلك جئ بالجملة الاسميةِ المفيدة لتحققِه البتةَ وعُطفت بالفاء المنبئةِ عن معنى السببيةِ {كَمَن متعناه متاع الحياة الدنيا} الذي هو مشوبٌ بالآلامِ منغصٌ بالأكدارِ مستتبع للتَّحسرِ على الانقطاع ومعنى الغاء الأُولى ترتيبُ إنكارِ التَّشابهِ بين أهلِ الدُّنيا وأهلِ الآخرةِ على ما قبلها من ظهورِ التَّفاوتِ بين متاعِ الحياة الدُّنيا وبين ما عندَ الله تعالى أي أبعدَ هذا التَّفاوت الظاهرِ يسوَّى بين الفريقينِ وقولُه تعالى {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين} عطفٌ على متَّعناه داخلٌ معه في حيزِ الصلة مؤكد لإنكار التشابه ومقرر له كأنَّه قيل كمن متعناه متاعَ الحياة الدنيا ثم نحضرُه أو أحضرنَاه يومَ القيامةِ النَّارَ أو العذابَ وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدلالةِ على التحققِ حتماً وفي جعله من جلمة المحضرينَ من التَّهويلِ ما لا يخفى وثم للنراخى في الزمان أو في الرتبة وقرئ ثم هْو بسكونِ الهاءِ تشبيهاً للمنفصلِ بالمتَّصلِ(7/21)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} منصوبٌ بالعطفِ على يومَ القيامةِ لاختلافهما عُنواناً وإنِ اتَّحدا ذاتاً أو بإضمارِ اذكُر {فَيَقُولُ} تفسيرٌ للنِّداءِ {أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي الذينَ كنتُم تزعمونَهم شركائي فحُذف المفعولانِ معاً ثقةً بدلالةِ الكلامِ عليهما(7/21)
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
{قال} استئناف مبني على حكاية السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا صدرَ عنهُم حينئذٍ فقيل قالَ {الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} وهم شركاؤهم مِن الشَّياطينِ أو رؤساؤهم الذين اتَّخذوهم أرباباً من دونِ الله تعالَى بأنْ أطاعوهم في كلِّ ما أمروهم به ونهَوا عنه ومعنى حقَّ عليهم القول أنه ثبتَ مُقتضاه وتحقَّق مؤدَّاه وهو قوله تعالى لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ وغيره من آياتِ الوعيد وتخصيصُهم بهذا الحكم مع شمولِه للأتباع أيضاً لأصالتِهم في الكفرِ واستحقاقِ العذابِ حسبما يُشعر به قوله تعالى لاملان جهنم منك وممن تَبِعَكَ مِنْهُمْ ومسارعتُهم إلى الجوابِ مع كون السؤال للعَبَدة إما لتفطُّنهم أنَّ السؤال عنهم لاستحضارِهم وتوبيخهم بالإضلال وجزمهم بأنَّ العَبَدةَ سيقولون هؤلاءِ أضلُّونا وإمَّا لأنَّ العبَدَة قد قالوه اعتذار أو هؤلاء إنَّما قالوا ما قالوا ردّاً لقولِهم إلا أنَّه لم يُحكَ قولُ العَبَدة إيجازاً لظهوره {رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا} أي هم الذين أغويناهُم فحذف الرَّاجع إلى الموصولِ ومرادُهم بالإشارة بيانُ أنَّهم يقولون ما يقولون بمحضرٍ منهم وأنَّهم غيرُ قادرينَ على إنكارِه وردِّه وقوله تعالى {أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا} هو الجوابُ حقيقةً وما قبله تمهيدٌ له أي(7/21)
القصص 64 68 ما أكرهناهم على الغيِّ وإنما أغويناهم بطريقِ الوسوسةِ والتَّسويل لا بالقسر والإلجاء فغَووا باختيارِهم غيّاً مثل غيِّنا باختيارِنا ويجوز أن يكون الذين صفةً لاسم الإشارة وأغويناهم الخبرَ {تَبَرَّأْنَا إليك} منهم وممَّا اختارُوه من الكفرِ والمعاصي هوى منهم وهو تقريرٌ لما قبله ولذلك لم يعطف عليهِ وكذا قولُه تعالى {مَّا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} أي ما كانُوا يعبدوننا وإنَّما كانوا يعبدون أهواءَهم وقيل ما مصدريةٌ متَّصلة بقوله تعالى تَبَرَّأْنَا أي تبرأنا من عبادتِهم إيَّانا(7/22)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)
{وَقِيلَ ادعوا شُرَكَاءكُمْ} إما تهكما بهم أو إتبكيتا لهم {فَدَعَوْهُمْ} لفرطِ الحيرةِ {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} ضرورةَ عدمِ قُدرتهم على الاستجابةِ والنُّصرة {وَرَأَوُاْ العذاب} قد غشيهم {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} لوجهٍ من وجوهِ الحيلِ يدفعون به العذابَ أو إلى الحقِّ لما لقُوا ما لقُوا وقيل لو للتَّمنِّي أي تمنَّوا لو أنَّهم كانُوا مهتدين(7/22)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)
{وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين} عطفٌ على ما قبله سُئلوا أولاً عن إشراكِهم وثانياً عن جوابِهم للرُّسلِ الذين نَهَوهم عن ذلك(7/22)
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانباء يَوْمَئِذٍ} أي صارتْ كالعَمَى عنهم لا تهتدي إليهم وأصله فعَمُوا عن الأنباءِ وقد عكس للمبالغةِ والتنبيهِ على أنَّ ما يحضر الذهن يفيضُ عليه ويصل إليه من خارجٍ فإذا أخطأ لم يكُن له حيلةٌ إلى استحضارِه وتعديةُ الفعلِ بعلى لتضمنه معنى الخفاءِ والاشتباهِ والمرادُ بالأنباءِ إمَّا ما طلب منهم ممَّا أجابُوا به الرُّسلَ أو جميعُ الأنباءِ وهي داخلةٌ فيه دخولاً أولياً وإذا كانتِ الرسلُ عليهم الصَّلاة والسَّلام يفوِّضون العلمَ في ذلك المقامِ الهائلِ إلى علاَّم الغُيوب مع نزاهتِهم عن غاية المسئول فما ظنُّك بأولئكَ الضُّلاَّل من الأممِ {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ} لا يسألُ بعضُهم بعضا عن الجواب الفرط الدَّهشة أو العلمِ بأنَّ الكلَّ سواءٌ في الجهل(7/22)
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
{فَأَمَّا مَن تَابَ} من الشركِ {وَامَنَ وَعَمِلَ صالحا} أي جمعَ بين الإيمانِ والعملِ الصَّالح {فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين} أي الفائزينَ بالمطلوبِ عنده تعالى النَّاجينَ عن المهروبِ وعسى للتَّحقيقِ على عادةِ الكرامِ أو للترجِّي من قبلِ التَّائبِ بمعنى فليتوقعِ الإفلاحَ(7/22)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء} أنْ يخلقَه {وَيَخْتَارُ} ما يشاءُ اختيارَه من غيرِ إيجابٍ عليه ولا منعٍ له أصلاً {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} أي التَّخيُّرُ كالطِّيرةِ بمعنى التَّطيرِ والمرادُ نفيُ الاختيارِ المؤثرِ عنهم وذلك مما لاريب فيه وقيل المرادُ أنَّه ليس لأحدٍ من خلقِه أنْ يختارَ عليه ولذلك خَلا عن العاطفِ ويؤيدُه ما رُوي أنَّه نزل في قولِ الوليدِ بنِ المُغيرةِ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتينِ عظيم والمعنى(7/22)
القصص 69 73 لا يبعثُ الله تعالى الرُّسلَ باختيارِ المرسَلِ إليهم وقيل معناه ويختار الذي كان لهم فيه الخيرُ والصَّلاحُ {سبحان الله} أي تنَزَّهَ بذاتِه تنزُّهاً خاصّاً به من أنْ ينازعَه أحدٌ أو يزاحم اختيارَه اختيارٌ {وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن إشراكِهم أو عن مشاركةِ ما يشركونَه به(7/23)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صدورهم} كعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقدهم عليه {وَمَا يُعْلِنُونَ} كالطَّعنِ فيه(7/23)
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
{وَهُوَ الله} أي المستحقُّ للعبادة {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} لا أحدَ يستحقُّها إلا هو {لَهُ الحمد فِى الاولى والاخرة} لأنَّه المولى للنِّعم كلِّها عاجلِها وآجلِها على الخلق كافةً يحمَده المؤمنون في الآخرةِ كما حمِدُوه في الدُّنيا بقولهم الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن الحمد لله الذى صدقنا وعدَه ابتهاجاً بفضلِه والتذاذاً بحمدِه {وَلَهُ الحكم} أي القضاءُ النَّافذُ في كلِّ شيءٍ من غيرِ مشاركةٍ فيه لغيرِه {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالبعثِ لا إلى غيرِه(7/23)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)
{قُلْ} تقريراً لما ذُكر {أرأيتم} أي أخبرونِي {إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً} دائماً من السَّرد وهو المتابعةُ والاطِّرادِ والميمُ مزيدةٌ كما في دلاء مص من الدِّلاص يقال درع دلاصٌ أي ملساءُ لينةٌ {إلى يَوْمِ القيامة} بإسكانِ الشَّمس تحت الأرضِ أو تحريكها حول الأُفقِ الغائر {مَّنْ إله غَيْرُ الله} صفةٌ لإله {يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء} صفة أخرى له عليها يدورُ أمرُ التبكيتِ والإلزامِ كما في قوله تعالى قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض وقوله تعالى فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ ونظائرِهما خلا أنَّه قُصدَ بيانُ انتفاءِ الموصوفِ انتفاء الصِّفة ولم يُقَل هل إله الخ لإيرادِ التَّبكيت والالزام على زعمهم وقرئ بضئاءٍ بهمزتينِ {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} هذا الكلامَ الحقَّ سماعَ تدبُّرٍ واستبصارٍ حتَّى تُذعنوا له وتعملوا بموجبِه(7/23)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)
{قل أرأيتم إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة} بإسكانِها في وسطِ السَّماء أو بتحريكِها على مدارٍ فوقَ الأُفق {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} استراحةً من متاعبِ الأشغالِ ولعلَّ تجريدَ الضَّياءِ عن ذكرِ منافعِه لكونِه مقصوداً بذاتِه ظاهرَ الاستتباعِ لِما نيطَ به من المنافعِ {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} هذه المنفعةَ الظَّاهرةَ التي لا تَخْفى على مَن له بصرٌ(7/23)
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
{وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أي في الليلِ {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ}(7/23)
في النَّهارِ بأنواعِ المكاسبِ {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولكيْ تشكرُوا نعمتَه تعالى فعلَ ما فعلَ أو لكي تعرفُوا نعمتَه تعالى وتشكروه عليها(7/24)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} منصوبٌ باذكُر {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} تقريعٌ إثرَ تقريعٍ للإشعارِ بأنَّه لا شئ اجلب لغضب الله عزوجل من الإشراكِ كما لا شئ أدخلُ في مرضاتِه من توحيدِه سبحانَه وقولُه تعالى(7/24)
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
{وَنَزَعْنَا} عطفٌ على يُناديهم وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التَّحققِ أو حالٌ من فاعلِه بإضمارِ قد والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ كمال الاعتنا بشأنِ النَّزعِ وتهويلِه أي أخرجنَا {مِن كُلّ أمَّةٍ} منَ الأممِ {شَهِيداً} نبياً يشهَدُ عليهم بما كانُوا عليه كقولِه تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ {فَقُلْنَا} لكلِّ أمةٍ من تلك الأممِ {هَاتُواْ برهانكم} على صحَّة ما كنتُم تدينون به {فَعَلِمُواْ} يومئذٍ {أَنَّ الحق لِلَّهِ} في الإلهية لا يشاركه فيها أحدٌ {وَضَلَّ عَنْهُم} أي غابَ عنهم غيبةَ الضَّائعِ {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} في الدُّنيا من الباطلِ(7/24)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
{إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى} كان ابنَ عمِّه يصهر بن قاهث ابن لاوى بنِ يعقوبَ عليه السَّلام وموسى عليه السَّلام ابن عمران بن قاهث وقيل كان موسى عليه السلام ابنَ أخيهِ وكان يسمَّى المنوَّر لحسنِ صورتِه وقيل كان أقرأَ بني إسرائيل للتوارة ولكنَّه نافق كما نافقَ السَّامريُّ وقال إذا كانت النُّبوة لموسى والمذبحُ والقربانُ لهرون فما لي ورُوي أنَّه لما جاوز بهم مُوسى عليه السَّلام البحرَ وصارتِ الرسالة والحبورة والقربان لهرون وجد قارونُ في نفسِه وحسدَهُما فقال لموسى الأمرُ لكما ولست على شئ إلى متى أصبرُ قال موسى عليه السَّلام هذا صُنعُ الله تعالى قال لا أُصدِّقك حتَّى تأتيَ بآيةٍ فأمر رؤساءَ بني إسرائيل أن يجئ كلُّ واحدٍ بعصاةٍ فحزمها وألقاها في القبَّة التي كان الوحيُ ينزلُ إليه فيها فكانوا يحرسون عصيَّهم بالليل فأصبحُوا فإذا بعصا هرون تهتزُّ ولها ورقٌ أخضرُ فقال قارون ما هو بأعجبَ ممَّا تصنعُ من السِّحرِ وذلك قولُه تعالى {فبغى عَلَيْهِمْ} فطلبَ الفضلَ عليهم وأنْ يكونُوا تحتَ أمرِه أو ظلمَهم قيل وذلكَ حينَ ملَّكه فرعونُ على بني إسرائيلَ وقيل حسدَهم وذلك ما ذُكر منه في حقِّ موسى وهرون عليهما السَّلامُ {وآتيناه من الكنوز} أي الأموالِ المُدَّخرةِ {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} أي مفاتحَ صناديقِه وهو جمعُ مِفتح بالكسر وهو ما يفتح به وقيل خزائنه وقياسُ واحدِها المَفتح بالفتحِ {لتنوء بالعصبة أولى القوة} خبر إن والجملةُ صلةُ ما وهُو ثاني مفعُولَيْ آتَى وناءَ به الحملُ إذا أثقلَه حتَّى أمالَه والعُصبة والعُصابةُ الجماعةُ الكثيرةُ وقُرىء لينوءُ بالياءِ على إعطاءِ المضافِ حكمَ المضافِ إليهِ كما مرَّ في قولِه تعالى إن رحمةَ الله(7/24)
القصص 77 78 قريب من المحسنين {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} منصوبٌ بتنوءُ وقيل ببغى ورُدَّ بأنَّ البغيَ ليس مقيَّداً بذلك الوقت وقيل بآنيناه ورُدَّ بأنَّ الإيتاءَ أيضاً غيرُ مقيَّدٍ به وقيل بمضمرٍ فقيل هو اذكُر وقيل هو أظهرَ الفرحَ ويجوزُ أنْ يكونَ منصُوباً بما بعدَهُ من قولِه تعالى قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ وتكون الجملةُ مقررةً لبغيه {لاَ تَفْرَحْ} أي لا تبطرْ والفرحُ في الدُّنيا مذمومٌ مُطلقاً لأنَّه نتيجةُ حبِّها والرِّضا بها والذهولِ عن ذهابِها فإنَّ العلمَ بأن ما فيها من اللذةِ مفارقةٌ لا محالةَ يوجبُ التَّرحَ حتماً ولذلكَ قالَ تعالى وَلاَ تَفْرَحُواْ بما آتاكم وعلل النهي ههنا بكونِه مانعاً من محبَّتِه عزَّ وعلاَ فقيلَ {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} أي بزخارفِ الدُّنيا(7/25)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
{وابتغ} وقُرىء واتَّبع {فِيمَا آتاك الله} من الغِنى {الدار الاخرة} أي ثوابَ الله تعالى فيها يصرفه إلى ما يكونُ وسيلةً إليه {وَلاَ تَنسَ} أي لا تتركْ تركَ المنسيِّ {نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا} وهو أنْ تحصلَ بها آخرتك وتأخذَ منها ما يكفيك {وَأَحْسَنُ} أي إلى عبادِ الله تعالى {كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} فيما أنعمَ به عليك وقيل أحسنْ بالشكرِ والطَّاعةِ كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ بالإنعامِ {وَلاَ تَبْغِ الفساد فِى الارض} نهيٌ عما كان عليه من الظُّلمِ والبغيِ {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين} لسوء أفعالِهم(7/25)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
{قَالَ} مُجيباً لناصحيهِ {إِنَّمَا أوتيته على علم عندى} كأنَّه يريدُ به الردَّ على قولِهم كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ لإنبائِه عن أنَّه تعالى أنعم عليه بتلكَ الأموالِ والذخائرِ من غير سببٍ واستحقاقٍ مِن قِبَلِه أي فُضلت به على النَّاسِ واستوجبتَ به التفوقَ عليهم بالمالِ والجاهِ وعلى علمٍ في موقعِ الحالِ وهو علمُ التَّوراةِ وكانَ أعلمَهم بها وقيل علمُ الكيمياءِ وقيل علم النجارة والدَّهقنةِ وسائرِ المكاسبِ وقيل علم فتح الكنوزِ والدَّفائنِ وعندي صفةٌ له أو متعلقٌ بأوتيتُه كقولِك جازَ هذا عندي أو في ظنِّي ورأيي {أو لم يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} توبيخٌ له من جهةِ الله تعالى على اغترارِه بقوَّتِه وكثرةِ مالِه مع علمِه بذلك قراءةً في التَّوراةِ وتلقياً مِن موسى عليه السَّلام وسماعاً من حُفَّاظِ التَّواريخِ وتعجبٌ منه فالمعنى ألمْ يقرأِ التَّوراةَ ولم يعلمْ ما فعلَ الله تعالى بأضرابِه من أهلِ القُرونِ السَّابقةِ حتَّى لا يغترَّ بما اغترُّوا به اورد لا دعائه العلمَ وتعظمه به بنفيِ هذا العلمِ منه فالمعنى أعَلِم ما ادَّعاه ولم يعلم هذا حتى بقي به نفسَه مصارعَ الهالكينَ {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} سؤالُ استعلامٍ بل يُعذَّبون بها بغتةً كأنَّ قارونَ لما هُدِّد بذكرِ إهلاكِ من قبله ممَّن كان أقوى منه وأغنى أكَّد ذلك بأنْ بيَّن أنَّ ذلك لم يكن مما يخصُّ أولئك المُهلَكين بل الله تعالى مطلعٌ على ذنوبِ كافَّة المجرمين يعاقبهم عليها لا محالةَ(7/25)
القصص(7/26)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
79 - 81 {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ} عطفٌ على قال وما بينهما اعتراضٌ وقولُه تعالى {فِى زِينَتِهِ} إمَّا متعلقٌ بخرجَ أو بمحذوفٍ هو حالٌ من فاعلِه أي فخرجَ عليهم كائناً في زينتِه قيل خرجَ على بغلةٍ شهباء عليه الأرُجوانُ وعليها سرجٌ من ذهبٍ ومعه أربعةُ آلافٍ على زيِّه وقيلَ عليهم وعلى خيولِهم الدِّيباجُ الاحمر وعن يمينه ثلثمائة غلام وعن يساره ثلثمائة جاريةٍ بيضٍ عليهنَّ الحليُّ والدِّيباجُ وقيل في تسعينَ الفا عليهم المُعصفراتُ وهو أولُ يومٍ رُئيَ فيه المُعصفرُ {قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا} من المؤمنين جرياً على سَنَنِ الجبلَّةِ البشريةِ من الرغبةِ في السَّعةِ واليسارِ {يا ليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قارون} وعن قَتَادةَ أنَّهم تمنَّوه ليتقربُوا بهِ إلى الله تعالَى وينفقُوه في سُبُلِ الخيرِ وقيل كان المتمنَّون قوماً كفَّاراً {إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ} تعليلٌ لتمنيَّهم وتأكيدٌ له(7/26)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
{وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم} أي بأحوالِ الدُّنيا والآخرةِ كَما ينبغي وإنَّما لم يُوصفوا بإرادةِ ثوابِ الآخرةِ تنبيهاً على أنَّ العلَمِ بأحوال النَّشأتينِ يقتضِي الإعراضَ عنِ الأُولى والإقبالَ على الثَّانيةِ حتماً وأنَّ تمنِّي المتمنين ليس إلا لعدمِ علمِهم بهما كما ينبغِي {وَيْلَكُمْ} دعاءٌ بالهلاكِ شاعَ استعماله في الزجر عمالا لا يُرتضَى {ثَوَابُ الله} في الآخرةِ {خَيْرٌ} ممَّا تتمنونه {لمن آمن وَعَمِلَ صالحا} فلا يليقُ بكم أنْ تتمنَّوه غيرَ مكتفين بثوابِه تعالى {وَلاَ يُلَقَّاهَا} أي هذه الكلمةَ التي تكلَّم بها العلماءُ أو الثَّوابَ فإنَّه بمعنى المثْوبةِ أو الجنَّةِ أو الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ فإنَّهما في معنى السِّيرةِ والطَّريقةِ {إِلاَّ الصابرون} أي على الطَّاعاتِ وعن الشَّهواتِ(7/26)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الارض} رُوي أنَّه كان يُؤذي مُوسى عليه السَّلام كلَّ وقتٍ وهو يداريهِ لقرابتِه حتَّى نزلتِ الزَّكاةُ فصالحَه عن كلِّ ألفٍ على واحد فحسبه فاستكثره فعَمدَ إلى أنْ يفضحَ موسى عليه السلام بين بني إسرائيلَ فجعل لبغيَ من بَغَايا بني إسرائيلَ ألفَ دينارٍ وقيل طَشتاً من ذهبٍ مملوءةٍ ذهباً فلما كان يومُ عيدٍ قام مُوسى عليه السَّلام حطيبا فقال من سرق قطعناهُ ومن زنَى غيرَ محصنٍ جلدناهُ ومن زنَى محصناً رجمناهُ فقال قارونُ ولو كنتَ قال ولو كنتُ قال إنَّ بني إسرائيلَ يزعمُون أنَّك فجرت بفلانةٍ فأحضرت فناشدها عليه السَّلام أنُ تصدقَ فقالت جعل لي قارونُ جُعْلاً على أنْ أرميك بنفسي فخرَّ مُوسى ساجداً لربِّه يبكي ويقول يا ربُّ إنْ كنتُ رسولَك فاغضبْ لي فأُوحي إليه أنْ مرِ الأرضَ بما شئت فإنَّها مطيعةٌ لك فقال يا بني إسرائيلَ إنَّ الله بعثني إلى قارونَ كما بعثني إلى فرعونَ فمن كان معه فليلزم مكانَه ومن كان معي فليعتزلْ(7/26)
القصص 82 84 عنه فاعتزلُوا جميعاً غيرَ رجلينِ ثم قال يا أرضُ خُذيهم فأخذتهُم إلى الرُّكبِ ثم قال خُذيهم فأخذتُهم إلى الأوساطِ ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأعناقِ وهم يُناشدونَهُ عليه الصَّلاة والسَّلام بالله تعالى وبالرَّحِم وهو لا يلتفتُ إليهم لشدَّةِ غيظِه ثم قال خُذيهم فانطبقتْ عليهم فأصبحتْ بنُو إسرائيلَ يتناجَون بينهم إنَّما دعا عليه موسى عليه الصلاة والسلام ليستبدَّ بدارِه وكنوزِه فدعا الله تعالى حتى خُسفَ بدارِه وأموالِه {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ} جماعةٍ مشفقةٍ {يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله} بدفع العذابَ عنه {وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين} أي الممتنعين منه بوجهٍ من الوجوهِ يقال نصره من عدِّوه فانتصَر أي منعه فامتنع(7/27)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
{وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ} منزلتَه {بالأمس} منذ زمانٍ قريبٍ {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} أي يفعلُ كلَّ واحدٍ من البسطِ والقدرِ بمحضِ مشيئتهِ لا لكرامةٍ تُوجب البسطَ ولا لهوانٍ يقتضِي القبضَ وويكأن عند البصريينَ مركبٌ من وى للتعجيب وكأنَّ للتشبيهِ والمعنى ما أشبَه الأمرَ أنَّ الله يبسط الخ وعند الكوفيينَ من وَيْكَ بمعنى ويلك وأنَّ وتقديرُه وَيكَ أعلَم أنَّ الله وإنَّما يستعملُ عند التنبهِ على الخطأِ والتندُّم والمعنى أنَّهم قد تنبهوا على خطئهم في تمنِّيهم وتندَّموا على ذلك {لَوْلا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا} بعدم إعطائِه إيانَّا ما تمنيناهُ وإعطائنا مثلَ ما أعطاه إيَّاه وقُرىء لولا مَنَّ الله علينا {لَخَسَفَ بِنَا} كما خسفَ بهِ وقُرىء لخُسِف بنا على البناء للمفعولِ وبنا هُو القائمُ مقامَ الفاعلِ وقُرىء لا تْخسفَ بنا كقولِك أنقطعَ بهِ وقرُىء لتُخْسف بنا {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} لنعمةِ الله تعالى أو المكذَّبون برسلِه وبما وعدُوا من ثوابِ الآخرةِ(7/27)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
{تِلْكَ الدار الاخرة} إشارةُ تعظيمٍ وتفخيمٍ كأنَّه قيل تلك التي سمعتَ خبَرها وبلغَك وصفُها {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الارض} أي غلبةً وتسلطاً {وَلاَ فَسَاداً} أي ظُلماً وعدُواناً على العبادِ كدأبِ فرعونَ وقارونَ وفي تعليق الموعد بترك إرادتهما لا بتركِ أنفسهما مزيدُ تحذير منهما وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أنَّ الرَّجلَ ليعجبه أنْ يكونَ شِراكُ نعلِه أجودَ من شراكَ نعلِ صاحبِه فيدخلُ تحتَها {والعاقبة} الحميدة {لّلْمُتَّقِينَ} أي الذين يتَّقون مالا يرضاه الله تعالى من الأفعالِ والأقوالِ(7/27)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
{مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ} بمقابلتِها {خَيْرٌ مّنْهَا} ذاتاً ووصفاً وقدراً {وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عملوا السيئات} وُضع فيه الموصولُ والظَّاهرُ موضعَ الضَّميرِ لتهجينِ حالِهم بتكريرِ إسنادِ السَّيئةِ إليهم {إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي إلا مثل ما كانُوا يعملون فحُذفَ المثلُ وأُقيم مقامَه ما كانُوا يعملون مبالغةً في المماثلة(7/27)
القصص(7/28)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
85 - 88 {إِنَّ الذى فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} أوجبَ عليك تلاوتَه وتبليغَه والعملَ به {لَرَادُّكَ إلى معاد} أي معاد معادٍ تمتدُّ إليه أعناقُ الهممِ وترنُو إليه أحداقُ الأممِ وهو المقامُ المحمودُ الذي وعدك أنْ يبعثك فيه وقيل هو مكَّةُ المعظَّمةُ على أنَّه تعالى قد وعدَه وهو بمكَّةَ في أذيَّةِ وشدَّة من أهلها أنَّه يُهاجرُ به منها ثم يعيدُه إليها بعزَ ظاهرٍ وسلطانٍ قاهرٍ وقيل نزلتْ عليه حينَ بلغ الجُحْفةَ في مهاجرهِ وقد اشتقاق إلى مولده ومولدِ آبائِه وحرمِ إبراهيمَ عليه السَّلام فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ فقال له أتشتاقُ إلى مكَّةَ قال نعمَ فأَوحاها إليهِ {قُل رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بالهدى} وما يستحقُّه من الثَّوابِ والنَّصرِ ومَن منتصبٌ بفعلٍ يدلُّ عليهِ أعلمُ أي يعلُم وقيل بأعلُم على أنَّه بمعنى عالمٍ {وَمَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ} وما استحقَّه من العذابِ والإذلالِ يعني بذلك نفسَه والمشركينَ وهو تقريرٌ للوعيدِ السَّابقِ وكذا قولُه تعالى(7/28)
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
{وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب} أي سيردُّك إلى معادِك كما القي اليك الكتابَ وما كنتَ ترجُوه {إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} ولكن الفاه إليك رحمةً منه ويجوزُ أنْ يكون استثناءً محمُولاً على المعنى كأنه قيل وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمةً أي لأجلِ التَّرحُّمِ {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين} بمداراتهم والتحملِ عنهم والإجابةِ إلى طلبتِهم(7/28)
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
{وَلاَ يَصُدُّنَّكَ} أي الكافرون {عن آيات الله} أي عن قراءتِها والعملِ بها {بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} وفُرضت عليكَ وقُرىء يُصِدُّنك من أَصَدَ المنقولِ من صَدَّ اللازمِ {وادع} النَّاسَ {إلى رَبّكَ} إلى عبادتِه وتوحيدِه {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} بمساعدتِهم في الأمورِ(7/28)
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
{وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخر} هذا وما قبلَهُ للتَّهييجِ والألهابِ وقطعِ أطماعِ المُشركينَ عن مساعدتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم وإظهارِ أنَّ المنهيَّ عنه في القُبحِ والشرِّية بحيثُ يُنهى عنْهُ من لا يمكن صدروه عنه أصلاً {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وحدَهُ {كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} إلا ذاتَه فإنَّ ما عداهُ كائناً ما كان ممكنٌ في حدِّ ذاتِه عرضةٌ للهلاكِ والعدمِ {لَهُ الحكم} أي القضاء النافذ في الخلقِ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} عندَ البعثِ للجزاءِ بالحقِّ والعدل عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ طسم القصصَ كان له من الأجر بعددِ مَن صدَّق مُوسى وكذَّب ولم يبقَ مَلَكٌ في السَّمواتِ والأرضِ إلا شهدَ له يومَ القيامةِ أنَّه كانَ صادقاً(7/28)
سورة العنكبوت 1 3
مكية وهي تسع وستون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}(7/29)
الم (1)
{الم} الكلامُ فيه كالذي مرَّ مراراً في نظائرِه من الفواتحِ الكريمةِ خلا أنَّ ما بعده لا يحتملُ أنُ يتعلَّق به تعلُّقاً إعرابياً(7/29)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
{أَحَسِبَ الناس} الحسبانُ ونظائره لا يتعلَّق بمعاني المُفرداتِ بل بمضامينِ الجملِ المفيدةِ لثبوت شيء لشيء او انتفاء شيءٍ بحيثُ يتحصّلُ منها مفعولاه إمَّا بالفعلِ كما في عامَّة المواقع وإما بنوع تصرُّفٍ فيها كما في الجُملِ المصدَّرةِ بأن والواقعة صلةً للموصولِ الاسميِّ أو الحرفيِّ فإنَّ كلاًّ منها صالحةٌ لأنْ يُسبكَ منها مفعولاه لأنَّ قولَه تعالى {أحِسب الناسُ أَن يُتْرَكُواْ أن يقولوا آمنا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون} في قوَّةِ أنْ يقالَ أحسبُوا أنفسَهم متروكين بلا فتنةٍ بمجرَّدِ أنْ يقولوا آمنَّا أوان يقالَ أحسبوا تركَهم غيرَ مفتونينَ بقولِهم آمنَّا حاصلاً متحقِّقاً والمَعْنى إنكارُ الحُسبانِ المذكور واستبعادُه وتحقيقُ أنَّه تعالى يمتحنُهم بمشاقِّ التَّكاليفِ كالمهاجرةِ والمجاهدة ورفضِ ما تشتهيةِ النَّفسُ ووظائفِ الطَّاعاتِ وفنونِ المصائبِ في الأنفسِ والأموالِ ليتميَّز المخلصُ من المنافقِ والرَّاسخُ في الدِّينِ من المتزلزلِ فيه ويجازيَهم بحسبِ مراتبِ أعمالِهم فإنَّ مجرَّدَ الإيمانِ وإنْ كانَ عن خُلوصٍ لا يقتضِي غيرَ الخلاصِ من الخُلودِ في النَّارِ رُوي أنَّها نزلتْ في ناسٍ من الصَّحابةِ رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعينَ جزعُوا من أذيَّةِ المشركينَ وقيل في عمَّارٍ قد عُذِّب في الله وقيل في مهجعٍ مَولى عمرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنهما رماهُ عامرُ بنُ الحضرميِّ بسهم يومَ بدرٍ فقتلَه فجزع عليه ابواه وامرأتُه وهو أولُ منِ استُشهد يومئذٍ من المسلمينَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيِّدُ الشُّهداءِ مهجعٌ وهو أولُ من يُدعى إلى بابِ الجنَّةِ من هذه الأمَّةِ(7/29)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} متَّصلٌ بقوله تعالى أحسِب أو بقولِه تعالى لا يُفتنون والمعنى أنَّ ذلك سنَّة قديمةٌ مبنية على الحكمِ البالغةِ جاريةٌ فيما بين الأممِ كلَّها فلا ينبغي أنْ يُتوقَّع خلافُها والمعنى أنّ الأممَ الماضيةَ قد أصابَهم من ضروبِ الفتنِ والمحنِ ما هو أشدُّ ممَّا أصاب هؤلاءِ فصبروا كما يُعرِبُ عنه قولُه تعالى وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا الآياتِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قد كان منَ قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار(7/29)
العنكبوت 4 6 على رأسه فيفرق فرقتينِ ما يصرفُه ذلك عن دينِه ويمشَّط بأمشاطِ الحديدِ ما دون عظمِه من لحمٍ وعصبٍ ما يصرفه ذلك عن دينه {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُوا} أي في قولِهم آمنا {وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} في ذلك والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما يُفصح عنه ما قبلَها من وقوع الامتحانِ واللامُ جوابُ القَسَمِ والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لإدخال الروعةِ وتربيةِ المهابةِ وتكريرُ الجواب لزيادة التَّأكيدِ والتقرير أي فو الله ليتعلقن علمُه بالامتحان تعلُّقاً حالياً يتميزُ به الذين صدقُوا في الإيمان الذي أظهروه والذين هم كاذبونَ فيه مستمرَون على الكذب ويترتبُ عليه أجزيتُهم من الثَّواب والعقابِ ولذلك قيل المعنى ليميزن أو ليجازين وقُرىء وليُعلمنَّ من الإعلامِ أي وليعرِّفنَّهم النَّاسَ أو ليسمنّهم بسِمة يُعرفون بها يومَ القيامة كبياضِ الوجوه وسوادِها(7/30)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
{أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا} أي يفوتُونا فلا نقدرَ على مجازاتهم بمساوى أعمالهم وهو ساد مفعولى حسب لا شتماله على مُسندٍ ومُسندٍ إليهِ وأمْ منقطعةٌ وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقالِ عن التَّوبيخ بإنكارِ حسبانهم متروكين غير مفتُونين إلى التَّوبيخ بإنكارِ ما هو أبطلُ من الحسبان الاول وهو حسبانُهم أنْ لا يجازُوا بسيئاتهم وهم وإنْ لم يحسبوا أنَّهم يفوتونَهُ تعالى ولم يحدِّثوا نفوسَهم بذلك لكنهم حيثُ أصرُّوا على المعاصي ولم يتفكَّروا في العاقبةِ نزلوا منزلة من يطمع في ذلك كما في قوله تعالى يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} أي بئسَ الذي يحكمونَهُ حكمُهم ذلك أو بئس حكما يحكمونه حكمُهم ذلك(7/30)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله} أي يتوقَّعُ مُلاقاةَ جزائه ثوابا أو عِقاباً أو مُلاقاةُ حُكمِه يومَ القيامةِ وقيل يرجُو لقاء الله عزَّ وجلَّ في الجنَّة وقيل يرجُو ثوابَه وقيل يخافُ عقابَه وقيل لقاؤه تعالى عبارةٌ عن الوصول إلى العاقبةِ من تلقِّي مَلَكِ الموتِ والبعثِ والحسابِ والجزاءِ على تمثيلِ تلك الحالِ بحالِ عبدٍ قدِم على سيِّده بعد عهدٍ طويلٍ وقد عَلِم مولاهُ بجميعِ ما كان يأتِي ويذرُ فإمَّا أنْ يلقاه ببشرٍ وكرامةٍ لمَا رضي من أفعالِه أو بضدِّه لما سخَطَه {فَإِنَّ أَجَلَ الله} الأجل عبارةٌ عن غايةِ زمان ممتد عينت لأمرٍ من الأمورِ وقد يُطلق على كلِّ ذلكَ الزَّمانَ والأولُ هو الأشهرُ في الاستعمالِ أي فإنَّ الوقتَ الذي عيَّنه تعالى لذلكَ {لأَتٍ} لا محالة من غير صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيه لأنَّ أجزاءَ الزَّمانِ على التقضِّي والتَّصرُّم دائماً فلا بدَّ من إتيان ذلك الجزاءِ أيضاً البتةَ وإتيانُ وقتِه موجبٌ لإتيانِ اللِّقاءِ حتماً والجوابُ محذوفٌ أي فليخترْ من الأعمالِ ما يؤدي إلى حُسنِ الثَّوابِ وليحذرْ ما يسوقُه إلى سوءِ العذابِ كما في قوله تعالى {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} وفيه من الوعدِ والوعيدِ ما لا يَخْفى وقيل فليبادرْ الى ما يحقق أملَه ويصدِّق رجاءَهُ أو ما يُوجبُ القُربةَ والزُّلفى {وَهُوَ السميع} لأقوالِ العبادِ {العليم} بأحوالِهم من الأعمالِ الظَّاهرةِ والعقائدِ(7/30)
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
{وَمَن جَاهَدَ} في طاعةِ الله عزَّ وجلَّ {فَإِنَّمَا يجاهد لِنَفْسِهِ} لعود منفعتِها(7/30)
العنكبوت 7 9 إليها {إِنَّ الله لَغَنِىٌّ عَنِ العالمين} فلا حاجةٍ له إلى طاعتِهم وإنَّما أمرهم بها تعريضاً لهم للثَّوابِ بموجب رحمتِه(7/31)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ} الكفرَ بالإيمانِ والمعاصيَ بما يتبعُها من الطَّاعاتِ {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي أحسنَ جزاءِ أعمالهم لا جزاء أحسر أعمالِهم فقط(7/31)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
{وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} أي بإيتاء والديهِ وإيلائهما فعلاً ذَا حُسنٍ أو ما هو في حدِّ ذاته حسنٌ لفرطِ حُسنِه كقولِه تعالى وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ووصَّى يجري مجرى أمرَ معنى وتصرُّفاً غيرَ أنَّه يُستعمل فيما كان في المأمورِ به نفعٌ عائدٌ إلى المأمورِ أو غيرِه وقيل هُو بمعنى قال فالمعنى وقلنا أحسِنْ بوالديك حُسنا وقيل انتصابُ حُسنا بمضمرٍ على تقدير قولٍ مفسِّرٍ للتَّوصيةِ أي وقُلنا أوْلِهما أو افعلْ بهما حُسنا وهو أوفق لما بعدَه وعليه يحسنُ الوقفُ على بوالديه وقرئ حسناً وإحساناً {وَإِن جاهداك لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي بالهيته عبَّر عن نفيها بنفيِ العلمِ بها للإيذان بأنَّ ما لا يعلم صحته لا يجوزُ اتِّباعُه وإنْ لم يُعلم بطلانُه فكيف بما عُلم بطلانُه {فَلاَ تُطِعْهُمَا} في ذلك فإنَّه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ ولا بُدَّ من إضمارِ القولِ إن لم يُضمر فيما قبل وفي تعليقِ النَّهي عن طاعتهما بمجاهدتهما في التكاليف إشعارٌ بأنَّ موجبَ النَّهي فيما دونها من التَّكليفِ ثابت بطريقِ الأولويَّةِ {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي مرجعُ مَن آمن منكُم ومَن أشركَ ومن برَّ بوالديِه ومن عقَّ {فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تعملون} بأن أجازي كلا منكم بعملِه إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرا فشر والآيةُ نزلتْ في سعدَ بنَ أبي وقاصٍ رضي الله تعالى عنه عند إسلامِه حيثُ حلفت أمُّه حمنهُ بنتُ أبي سفيانَ ابن أُميَّة أن لا تنتقلَ من الضحِّ إلى الظلِّ ولا تَطعمُ ولا تشربُ حتَّى يرتدَّ فلبثتْ ثلاثةَ أيامٍ كذلك وكذا التي في سُورة لقمانَ وسورةِ الأحقافِ وقيل نزلتْ في عياشَ بنَ أبي ربيعةَ المخزُومي وذلك أنه هاجر مع عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه حتَّى نزلا المدينةَ فخرجَ أبو جهل والحرث أخواه لأمِّه أسماء فنزلا بعيَّاش وقالا له إن من دين محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم صلةَ الأرحامِ وبرَّ الوالدينِ وقد تركتَ أمَّك لا تطعمُ ولا تشربُ ولا تأوي بيتاً حتَّى تراك فاخرجْ معنا وفتلا منه في الذِّروة والغاربِ واستشار عمر رضي الله عنه فقال هُما يخدعانِك ولك على أنْ أقسمَ مالي بيني وبينك فما زالا به حتَّى أطاعهما وعصى عمر رضي الله عنه فقال عمرُ رضي الله عنه أما إذا عصيتني فخذنا فتى فليس في الدُّنيا بعيرٌ يلحقها فإنْ رابك منهما ريبٌ فارجع فلمَّا انتهَوا إلى البيداءِ قال أبوُ جهل إن ناقتي قد كلَّت فاحملني معك فنزل ليوطئ لنفسِه وله فأخذاه فشدَّاه وثاقاً وجلده كلُّ واحدٍ مائةَ جلدةٍ وذهبا به إلى أمِّه فقالت لا تزالُ في عذاب حتَّى ترجعَ عن دينِ محمَّدٍ(7/31)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصالحين}(7/31)
أي في زُمرةِ الرَّاسخينَ في الصَّلاحَ والكمالُ في الصَّلاحِ مِنتهى درجاتِ المؤمنينَ وغايةُ مأمولِ أنبياءِ الله المُرسلين قال الله تعالى حكايةً عن سليمانَ عليه السَّلام وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين وقال في حقِّ إبراهيمَ عليه السَّلام وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين أو في مدخلِ الصَّالحين وهو الجنَّة(7/32)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
{وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمنا بالله فَإِذَا أُوذِىَ فِى الله} أي في شأنِه تعالى بأنْ عذَّبهم الكفرةُ على الإيمان {جَعَلَ فِتْنَةَ الناس} أي ما يصيبُه من أذيتَّهم {كَعَذَابِ الله} في الشدَّة والهولِ فيرتدَّ عن الدِّين مع أنَّه لا قدرَ لها عند نفحة من عذابه تعالى أصلاً {وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ} أي فتحٌ وغنيمةٌ {لَّيَقُولَنَّ} بضمِّ اللامِ نظراً إلى مَعْنى مَنْ كما أنَّ الإفرادَ فيما سبقَ بالنَّظرِ إلى لفظها وقرئ بالفتحِ {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي مشايعينَ لكم في الدين فأشر كونا في المغنمِ وهم ناسٌ من ضَعَفةِ المُسلمين كانُوا إذا مسَّهم أذى من الكفَّارِ وافقُوهم وكانُوا يكتمونَهُ من المسلمينَ فرُدّ عليهِم ذلكَ بقولِه تعالى {أو ليس الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ العالمين} أي بأعلم منهم بما في صدورهم من الإخلاصِ والنِّفاقِ حتَّى يفعلوا ما يفعلون من الارتدادِ والاخفاءِ عن المسلمين وإدِّعاءِ كونِهم منهم لنيلِ الغنيمةِ وهذا هو الأوفقُ لما سبقَ ولما لَحِقَ من قوله تعالى(7/32)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
{وليعلمن الله الذين آمنوا} أي بالإخلاصِ {وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين} سواء كان كفرُهم بإذية الكفرة أولا أي ليجزينَّهم بما لهم من الإيمان والنِّفاقِ(7/32)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا} بيانٌ لحملهم للمؤمنين على الكفر بالاستمالة بعد بيان حملِهم لهم عليه بالأذيَّةِ والوعيد وصفهم بالكفرِ هَهُنا دونَ ما سبق لما أنَّ مساقَ الكلامِ لبيان جناياتهم وفيما سبق لبيانِ جنايةِ من أضلُّوه واللامُ للتَّبليغِ أي قالُوا مخاطبينَ لهم {اتبعوا سَبِيلَنَا} أي اسلكُوا طريقتنا التي نسلكُها في الدِّينِ عبَّر عن ذلكَ بالاتباعِ الذي هو المشيُ خلفَ ماشٍ آخرَ تنزيلاً للمسلك منزلةَ السَّالكِ فيه أو اتبعونا في طريقتنا {وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} أي إنْ كان ذلك خطيئةً يُؤاخذ عليها بالبعثِ كما تقُولونَ وإنَّما أَمروا أنفسَهم بالحمل عاطفين له على أمرِهم بالأتَّباعِ للمبالغة في تعليق الحملِ بالاتِّباع والوعدِ بتخفيفِ الأوزار عنهم إن كان ثمَةَ وزرٌ فرُد عليهم بقولِه تعالى {وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَىْء} وقُرىء من خطيآتِهم أي وما هم بحاملين شيئاً مِن خطاياهم التي التزمُوا أنْ يحملُوا كلَّها على أن مِن الأُولي للتبيين والثانية مزيدةٌ للاستغراق والجملةُ اعتراضٌ أو حالٌ {إِنَّهُمْ لكاذبون} حيث أخبروا في ضمنِ وعدِهم بالحمل بأنَّهم قادرون على انجاز ما وعدوا فإنَّ الكذبَ كما يتطَّرقُ إلى الكلامِ باعتبار(7/32)
العنكبوت 13 16 منطوقِه يتطرَّقُ إليه باعتبارِ ما يلزمُ مدلوله كما مر في قوله تعالى أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صادقين(7/33)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} بيانٌ لما يستتبعه قولُهم ذلك في الآخرةِ من المضرة لأنفسِهم بعد بيانِ عدم منفعتِه لمخاطبيهم أصلاً والتَّعبيرُ عن الخطايا بالاثقال للابذان بغاية ثقلِها وكونِها فادحةً واللامُ جوابُ قَسَمٍ مضمرٍ أيْ وبالله ليحملنَّ أثقالَ أنفسِهم كاملةً {وَأَثْقَالاً} أُخرَ {مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} لمَّا تسببُوا بالاضلالِ والحملُ على الكفرِ والمَعاصي من غيرِ أنْ ينتقص من أثقالِ من أضلُّوه شيء ما اصلا {وليسألن يوم القيامة} سؤالَ تقريعٍ وتبكيتٍ {عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي يختلقونَه في الدُّنيا من الأكاذيبِ والأباطيلِ التي من جملتها كذبُهم هذا(7/33)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} شروعٌ في بيان افتتانِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأذية أممهم إثرَ بيانِ افتتانِ المؤمنين بأذيةِ الكفَّارِ تأكيداً للإنكارِ على الذين يحسبُون أنْ يُتركوا بمجرَّدِ الإيمان بلا ابتلاءٍ وحثًّا لهم على الصَّبرِ فإنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث ابتُلوا بما أصابَهم من جهةِ أُممهم من فنونِ المكارِه وصبرُوا عليها فَلأن يصبرَ هؤلاءِ أولى وأحرى قالُوا كان عمرُ نوحٍ عليه السَّلام ألفاً وخمسين عاماً بعث على رأس أربعين سنةٍ ودعا قومَه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفانِ ستين سنة وعن وهبٍ أنَّه عاشَ ألفاً وأربعمائة سنة ولعلَّ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للدِّلالةِ على كمال العددِ فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرُب منه ولَما في ذكرِ الألفِ من تخييلِ طولِ المدَّةِ فإنَّ المقصودَ من القصة تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مُكابدةِ ما يناله من الكفرةِ وإظهارُ ركاكةِ رأي الذين يحسبونَ أنَّهم يُتركون بلا ابتلاءٍ واختلافُ المميزِ لما في التَّكريرِ من نوع بشاعةٍ {فأخذهم الطوفان} أي عقب تمامِ المَّدةِ المذكورةِ والطُّوفان يطلق على كل ما يطوفُ بالشيء على كثرةٍ وشدَّةٍ من السَّيلِ والرَّيحِ والظَّلامِ وقد غلب على طُوفانِ الماءِ {وَهُمْ ظالمون} أي والحالُ أنَّهم مستمرُّون على الظُّلمِ لم يتأثَّروا بما سمعُوا من نوحٍ عليه السَّلام من الآياتِ ولم يرعَوُوا عمَّا هُم عليهِ من الكفر والمعاصي هذه المدَّة المتماديةِ(7/33)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
{فأنجيناه} أي نوحاً عليهِ السَّلام {وأصحاب السفينة} أي ومَن ركب فيها معه من أولادِه وأتباعِه وكانُوا ثمانين وقيل ثمانيةً وسبعين وقيل عشرةً وقيل ثمانيةً نصفُهم ذكورٌ ونصفُهم إناثٌ {وجعلناها} أيِ السَّفينةَ أو الحادثةَ والقصَّةَ {آيَةً للعالمين} يتَّعظِون بها(7/33)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)
{وإبراهيم} نُصب بالعطفِ على نوحا وقيل(7/33)
العنكبوت 17 19 بإضمارِ أذكُر وقُرىء بالرَّفع على تقديرِ ومن المرسلينَ إبراهيمُ {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} على الأولِ ظرفٌ للإرسالِ أي أرسلناه حينَ تكامل عقلُه وقدر على النَّظرِ والاستدلال وترقى من رُتبة الكمال إلى درجة التَّكميلِ حيث تصدَّى لإرشادِ الخلقِ إلى طريق الحقِّ وعلى الثَّاني بدلُ اشتمالٍ من إبراهيمَ {اعبدوا الله} أي وحدَه {واتقوه} أن تُشركُوا به شيئاً {ذلكم} أي ما ذُكر من العبادةِ والتَّقوى {خَيْرٌ لَّكُمْ} أي ممَّا أنتُم عليه ومعنى التفضيلِ مع أنَّه لا خيريةَ فيه قطعاً باعتبارِ زعمِهم الباطلِ {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي الخيرَ والشرَّ وتُميزون أحدَهما من الآخرِ أو إنْ كنتُم تعلمونَ شيئاً من الأشياءِ بوجهٍ من الوجوهِ فإنَّ ذلك كافٍ في الحكمِ بخيريةِ ما ذكره من العبادةِ والتَّقوى(7/34)
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أوثانا} بيانٌ لبطلانِ دينِهم وشرِّيته في نفسِه بعد بيانِ شرِّيته بالنَّسبةِ إلى الدِّينِ الحقِّ أي إنَّما تعبدونَ من دُونه تعالى أوثاناً هي في نفسِها تماثيلُ مصنوعةٌ لكم ليس فيها وصفٌ غير ذلك {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} أي وتكذبون كذباً حيثُ تسمُّونها آلهةً وتدَّعون أنَّها شفعاؤكم عندَ الله تعالَى أو تعملونَها وتنحتونَها للإفكِ وقُرىء تخلقُون بالتَّشديدِ للتكثيرِ في الخلقِ بمعنى الكذبِ والافتراءِ وتخلقُون بحذفِ إحدى التَّاءينِ من تخلَّق بمعنى تكذَّبَ وتخرَّص وقُرىء أَفِكاً على أنَّه مصدرٌ كالكذِب واللَّعِب أو نعتٌ بمعنى خلقاً ذا إفكٍ {إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} بيانٌ لشرِّيةِ ما يعبدونَه من حيثُ إنَّه لا يكادُ يجُديهم نفعاً {لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} أي لا يقدِرون على أن يرزقوكَم شيئاً من الرِّزقِ {فابتغوا عِندَ الله الرزق} كلَّه فإنَّه هو الرزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المتينِ {واعبدوه} وحدَهُ {واشكروا لَهُ} على نعمائِه متوسِّلين إلى مطالبِكم بعبادتِه مقيدين بالشُّكرِ للعتيدِ ومستجلبين للمزيد {وإليه ترجعون} أي بالموتِ ثمَّ بالبعثِ لا إلى غيرِه فافعلُوا ما أمرتُكم به وقرىء تَرجعون من رَجَع رُجوعاً(7/34)
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
{وَإِن تُكَذّبُواْ} أي تكذِّبُوني فيما أخبرتُكم به من أنَّكم إليه تُرجعون بالبعثِ {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ} تعليلٌ للجوابِ أي فلا تضرونني بتكذيبكم فإنَّ من قبلكم من الأممِ قد كذَّبوا مَنْ قبلي من الرُّسلِ وهم شيثُ وإدريُس ونوحٌ عليهم السَّلام فلم يضرَّهم تكذيبهم شيئاً وإنمَّا ضرَّ أنفسَهم حيثُ تسبَّب لما حلَّ بهمْ منَ العذابِ فكذا تكذيُبكم {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} أي التَّبليغُ الذي لا يبقى معه شكٌّ وما عليه أنْ يُصدِّقَه قومُه البتةَ وقد خرجتُ عن عُهدةِ التَّبليغِ بما لا مزيدَ عليهِ فلا يضرُّني تكذيُبكم بعد ذلك أصلاً(7/34)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يبدئ الله الخلق} كلامٌ مُستأنفٌ مسوقٌ من جهتِه تعالَى للإنكارِ على تكذيبهم بالبعث معَ وضوحِ دليلِه وسنوحِ سبيلِه والهمزةُ لإنكارِ عدمِ رؤيتهم الموجبِ لتقريرها والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ أي الم ينظروا(7/34)
العنكبوت 20 22 ولم يعلموا علماً جارياً مجرى الرؤيةِ في الجلاءِ والظُّهور كيفيةَ خلقِ الله تعالى الخلقَ ابتداءً من مادَّةٍ ومن غير مادَّةٍ أي قد علموا ذلك وقُرىء بصيغةِ الخطابِ لتشديدِ الإنكارِ وتأكيدِه وقُرىء يبدأُ وقوله تعالى {ثُمَّ يُعِيدُهُ} عطفٌ على أو لم يرو الا على يُبدىء لعدمِ وقوعِ الرُّؤية عليه فهو إخبارٌ بأنَّه تعالى يعيد الخلقَ قياساً على الإبداءِ وقد جُوِّز العطفُ على يُبدىء بتأويل الإعادةِ بإنشائِه تعالى كل سنة مثلَ ما أنشأه في السَّنةِ السَّابقةِ من النبات والثمار وغيرِهما فإنَّ ذلك ممَّا يُستدلُّ به على صِحَّة البعثِ ووقوعه من غير رَيبٍ {إِنَّ ذلك} أي ما ذكر من الإعادة {عَلَى الله يَسِيرٌ} إذ لا يفتقر الى شئ أصلاً(7/35)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
{قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض} أمرٌ لإبراهيمَ عليه السَّلام أنْ يقولَ لهم ذلك أي سِيروا فيها {فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق} أي كيف خلقهم ابتداءعلى أطوارٍ مختلفةٍ وطبائعَ متغايرةٍ وأخلاقٍ شتَّى فإنَّ ترتيبَ النَّظر على السَّيرِ في الأرضِ مؤذنٌ بتتبعِ أحوالِ أصنافِ الخلق القاطنينَ في أقطارها {ثم الله ينشئ النشأة الاخرة} بعدَ النَّشأةِ الأُولى التي شاهدتُموها والتَّعبيرُ عن الإعادةِ التي هي محلُّ النزاعِ بالنَّشأةِ الآخرةِ المشعرةِ بكون البدِء نشأةً أولى للتَّنبيهِ على أنَّهما شأنٌ واحدٌ من شؤونِ الله تعالى حقيقةً وإسماً من حيث إن كلامنهما اختراعٌ وإخراجٌ من العدمِ إلى الوجودِ ولا فرقَ بينَهما إلا بالأوليةِ والآخريةِ وقرئ النَّشاءَة بالمدِّ وهما لُغتانِ كالرَّأفةِ والرَّآفةِ ومحلُّها النصبُ على أنَّها مصدرٌ مؤكِّدٌ لينشئ بحذف الزَّوائد والأصلُ الإنشاءةِ أو بحذف العاملِ أي ينشئ فينشأون النَّشأةَ الآخرةَ كما في قوله تعالى {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} والجملةُ معطوفةٌ على جُملةِ سيروا في الارض داخلةٌ معها في حيِّز القول وإظهارُ الاسمِ الجليلِ وإيقاعُه مبتدأً مع إضمارِه في بدأ لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ ببيانِ تحقُّق الإعادةِ بالإشارة إلى عِلَّة الحُكم وتكريرِ الإسنادِ وقولُه تعالى {إِنَّ الله على كل شىء قدير} تعطيل لِمَا قبلَهُ بطريقِ التَّحقيق فإنَّ من علِم قدرتَهُ تعالى على جميعِ الأشياءِ التي من جُملتِها الإعادةُ لا يتصوَّر أنْ يترددَ في قدرتِه عليها ولا في وقوعِها بعد ما أخبر به(7/35)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)
{يُعَذّبُ} أي بعد النَّشأةِ الآخرةِ {مَن يَشَآء} أنْ يعذَبهُ وهم المنكرون لها حَتماً {وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء} أنْ يرحمَه وهم المصدِّقُون بها والجملةُ تكملة لما قبلها وتقديمُ التَّعذيبِ لما أنَّ التَّرهيبَ أنسبُ بالمقام من الترَّغيبِ {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} عند ذلك لا إلى غيرهِ فيفعلُ بكم ما يشاء من التعذيب والرَّحمةِ(7/35)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
{وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} له تعالى عن إجراءِ حُكمه وقَضائه عليكم {فِي الارض وَلاَ فِى السماء} أي بالتَّواري في الأرضِ أو الهبوطِ في مَهَاويها ولا بالتَّحصُّنِ في السَّماءِ التي هي أفسحُ منها لو استطعتُم الرُّقيَّ فيها كما في قوله تعالى {أن استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السماوات والأرض فانفذوا} او(7/35)
العنكبوت 23 25 القلاعِ الذَّاهبةِ فيها وقيل في السَّماء صفةٌ لمحذوفٍ معطوفٍ على أنتُم أي ولامن في السَّماءِ {وَمَا لَكُم من دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} يحرسكم ممَّا يُصيبكم من بلاءٍ يظهرُ من الأرضِ أو ينزلُ من السَّماءِ ويدفعُه عنكم(7/36)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
{والذين كفروا بآيات الله} أي بدلائلِه التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ الدَّالَّةِ على ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه فيدخلُ فيها النَّشأةُ الأُولى الدَّالَّة على تحقُّق البعثِ والآياتُ النَّاطقةُ به دُخولاً أولياً وتخصيصُها بدلائلَ وحدانيتِه تعالى لا يناسبُ المقامَ {وَلِقَائِهِ} الذي تنطقُ به تلك الآياتُ {أولئك} الموصوفون بما ذكر مِن الكفر بآياتِه تعالى ولقائِه {يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى} أي ييأسون منها يومَ القيامةِ وصيغةُ الماضِي للدِّلالة على تحقُّقِه أو يئسوا منها في الدُّنيا لإنكارِهم البعثَ والجزاءَ {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وفي تكرير اسمِ الإشارة وتكريرِ الإسناد وتنكيرِ العذابِ ووصفهِ بالأليمِ من الدلالةِ عَلى كمالِ فظاعةِ حالِهم ما لا يَخْفى أي أولئك الموصُوفون بالكفر بآياتِ الله تعالى ولقائِه وباليأس من رحمتِه الممتازون بذلك عن سائر الكَفَرة لهم بسبب تلك الأوصافِ القبيحةِ عذابٌ لا يقادَر قدرُه في الشِّدَّةِ والإيلامِ(7/36)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} بالنَّصبِ على أنَّه خبرُ كان واسمُها قولُه تعالى {إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أو حرقوه} وقرئ بالرَّفعِ على العكسِ وقد مرَّ ما فيهِ في نظائِره وليس المرادُ أنَّه لم يصدُرْ عنُهم بصددِ الجوابِ عن حُججِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ إلا هذه المقالةُ الشَّنيعةُ كما هو المتبادَرُ من ظاهر النَّظْمِ الكريمِ بل إنَّ ذلك هو الذي استقرَّ عليه جوابُهم بعد اللَّتيا والِّتي في المرَّةِ الأخيرةِ وإلا فقد صدرَ عنُهم من الخُرافاتِ والأباطيلِ ما لا يُحصى {فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار} الفاءُ فصيحةٌ أي فألقَوه في النَّار فأنجاهُ الله تعالى منها بأنْ جعلَها عليه الصَّلاة والسَّلام بَرداً وسلاماً حسبما بُيِّن في مواضعَ أُخَرَ وقد مرَّ في سورةِ الأنبياءِ بيانُ كيفَّيةِ إلقائِه عليه الصَّلاة والسَّلام فيها وإنجائِه تعالى إيَّاه تفصيلاً قيل لم ينتفعْ يومئذٍ بالنَّارِ في موضعٍ أصلاً {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في إنجائِه منها {لآيَاتٍ} بينةً عجيبةً هي حفظُه تعالى إيَّاه من حرِّها وإخمادِها في زمانٍ يسيرٍ وإنشاءُ رَوْضٍ في مكانِها {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وأما مَن عداهُم فهم عن اجتلائِها غافلون ومن الفوزِ بمغانمِ آثارِها محرومون(7/36)
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
{وَقَالَ} أيْ إبراهيُم عليهِ السَّلامُ مُخاطباً لهم {إِنَّمَا اتخذتم مّن دُونِ الله أوثانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الحياة الدُّنْيَا} أي لتتوادُّوا بينكم وتتواصلُوا لاجتماعِكم على عبادتِها وائتلافِكم وثَاني مفعولَيْ اتخذتم مخذوف أي أوثاناً آلهةً ويجوزُ أن يكونَ مودَّةَ هو المفعولَ بتقديرِ المُضافِ أو بتأويلها بالمودودة أو يجعلها نفسَ المودَّةِ مُبالغةً أي اتخذتم أو ثانا سبب المودة(7/36)
العنكبوت 26 28 بينكم أو مودودةً أو نفس المودة وقرئ مودةً منونةً منصوبةً ناصبةَ الظَّرفِ وقُرئت بالرَّفعِ والإضافةِ على أنَّها خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي هي مودودةٌ أو نفسُ المودةِ أو سببُ مودةِ بينكم والجملةُ صفة او ثانا أو خبرُ إنَّ عَلى أنَّ مَا مصدريةٌ أو موصولةٌ قد حذف عائدها وهو المفعولُ الأولُ وقُرئت مرفوعةً منوَّنةً ومضافةً بفتحِ بينكم كما قرئ لقد تقطَّع بينكم على أحد الوجهين وقرئ إنمَّا مودةُ بينكم والمعنى أنَّ اتخاذكم إيَّاها مودةَ بينكم ليس إلاَّ في الحياة وقد أجريتم أحكامه حيث فعلتُم بي ما فعلتُم لأجلِ مودَّتِكم لها انتصارا منى كما ينبئ عنه قولُه تعالى وانصُروا آلهتكم {ثُمَّ يَوْمَ القيامة} تنْقلَبُ الأمورُ ويتبدَّلُ التوادُّ تباغُضاً والتَّلاطف تلاعُناً حيث {يكفر بعضكم} وهم العَبَدةُ {بِبَعْضِ} وهم الأوثانُ {ويلعن بعضكم بعضا} أي يلعنُ كلُّ فريقٍ منكم ومن الأوثانِ حيثُ يُنطقها الله تعالَى الفريقَ الآخرَ {وَمَأْوَاكُمُ النار} أي هي منزلكم الذي تأوون إليه ولا ترجعونَ منه أبداً {وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين} يُخلِّصونكُم منها كما خلَّصني ربِّي من النَّارِ التي ألقيتُموني فيها وجمعَ النَّاصرَ لوقوعِه في مقابلة الجمع أي مَا لأحدٍ منكُم من ناصر اصلا(7/37)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
{فآمن لَهُ لُوطٌ} أي صدَّقه في جميع مقالاتِه لا في نُبُّوتِه وما دعا إليه من التَّوحيدِ فقط فإنَّه كان منزَّهاً عن الكُفر وما قيل إنَّه آمنَ له حين رَأى النَّارَ لم تحرقْهُ ينبغي أن يُحمَلَ على ما ذكرنا أو على أنْ يُرادَ بالإيمانِ الرُّتبةَ العاليةَ منها وهي التي لا يرتقِي اليها الا هم الأفرادِ الكُمَّل ولوطُ هو ابنُ أخيهِ عليهما السَّلامُ {وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ} أي من قومِي {إلى رَبّى} إلى حيثُ أمرني ربِّي {إِنَّهُ هُوَ العزيز} الغالبُ على أمرِه فيمنعني من أعدائِي {الحكيم} الذي لا يفعل فعلا إلا وفيه حكمةٌ ومصلحةٌ فلا يأمرني الا بما فيه صلاحي رُوي أنَّه هاجر من كُوثَى سوادِ الكُوفةِ مع لوطَ وسارَّة ابنة عمِّه إلى حرَّانَ ثمَّ منها إلى الشأمِ فنزلَ فلسطينَ ونزل لوطُ سَدُومَ(7/37)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} ولداً ونافلةً حين أيسَ من عجوز عافر {وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النبوة} فكثُر منهم الأنبياءُ {والكتاب} أي جنسَ الكتابِ المتناولِ للكتبِ الأربعةِ {وآتيناه أجره} بمقابلة هجرتِه إلينا {فِى الدنيا} بإعطاءِ الولد والذُّرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وانتماءِ أهل المللِ إليه والثناء والصَّلاة عليه إلى آخرِ الدَّهر {وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين} أي الكاملينَ في الصَّلاح(7/37)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)
{وَلُوطاً} منصوبٌ إمَّا بالعطفِ على نوحاً أو على إبراهيمَ والكلامُ في قوله تعالى {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} كالذي مر في قصة إبراهيمَ عليه السَّلام {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة} أي الفعلةَ المُتناهيةَ في القُبح وقُرىء أَئِنَّكم {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين} استئنافٌ مقررٌ لكمالِ قُبحها فإنَّ إجماعَ جميع أفرادِ العالمينَ على التَّحاشي عنها ليس إلا لكونِها مما تشمئزُّ منه الطِّباع وتنفرُ منه النفوس(7/37)
العنكبوات(7/38)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
29 - 32 {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل} وتتعرَّضُون للسَّابلةِ أي الفاحشة حيثُ رُوي أنَّهم كانُوا كثيراً ما يفعلونَها بالغُرباء وقيل تقطعون سبيلَ النِّساءِ بالإعراضِ عن الحَرثِ وإتيانِ ما ليس بحرثٍ وقيل تقطعونَ السَّبيلَ بالقتلِ وأخذِ المالِ {وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ} أي تفعلون في مجلسِكم الجامعِ لأصحابكم {المنكر} كالجماعِ والضُّراطِ وحلِّ الإزارِ وغيرِها مما لا خير فيه من الأفاعيل المنكرةِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو الحَذفُ بالحَصَى والرَّميُّ بالبنادق والفرقعةُ ومضغُ العلكِ والسِّواكِ بينَ النَّاس وحلُ الإزارِ والسِّبابُ والفُحشُ في المِزاحِ وقيل السُّخريةُ بمن مرَّ بهم وقيل المجاهرةُ في ناديهم بذلكَ العملِ {فَمَا كان جواب قومه إلا أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي فما كان جواباً من جهتِهم شيءٌ من الأشياءِ إِلاَّ هذه الكلمة الشَّنيعةُ أي لم يصدُرْ عنهم في هذه المرَّةِ من مرات مواعظ لوط عليه السلام وقد كان أوعدهم فيها بالعذابِ وأمَّا ما في سُورة الأعرافِ من قولِه تعالَى {وَمَا كَانَ جواب قومه إلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ} الآيةَ وما في سورة النَّمل من قولِه تعالى فَمَا كَانَ جَوَابَ قومه إلا أن قالوا اخرجوا آل لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ الآيةَ فهو الذي صَدر عنهم بعده هذه المرةُ وهي المرة الأخيرة من مرات المُقاولاتِ الجاريةِ بينهم وبينه عليه الصلاةُ والسلامُ وقد مر تحقيقه في سورة الأعرافِ(7/38)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
{قَالَ رَبّ انصرنى} أي بإنزالِ العذابِ الموعودِ {عَلَى القوم المفسدين} بابتداعِ الفاحشةِ وسنِّها فيمن بعدَهُم والإصرارِ عليها واستعجالِ العذابِ بطريقِ الاستهزاءِ وإنما وصفَهم بذلك مبالغةً في استنزالِ العذابِ عليهم(7/38)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)
{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى} أي بالبشارةِ بالولدِ والنافلة {قَالُواْ} أي لإبراهيمَ عليه السلام في تضاعيف الكلامِ حسبما فُصِّل في سورة هود وسورة الحجرِ {إِنَّا مُهلكو أهلِ هذه القرية} أي قريةِ سَدُومَ والإضافةُ لفظيةٌ لأنَّ المَعنى على الاستقبالِ {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظالمين} تعليلٌ للإهلاكِ بإصرارِهم على الظُّلم وتمادِيهم في فُنون الفسادِ وأنواعِ المَعَاصي(7/38)
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
{قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً} فكيف تُهلكونها {قَالُواْ نَحْنُ أعلمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} أرادُوا أنَّهم غيرُ غافلينَ عن مكانِ لوطٍ عليه السَّلام فيها بل عمَّن لم يتعرض له إبراهيمُ عليه السَّلامُ من أتباعِه المؤمنينَ وأنَّهم معتنُون بشأنهم أتَّم اعتناءٍ حسبما يُنبيء عنه تصديرُ الوعد بالتَّنجيةِ بالقسمِ أيْ والله لننجينَّه وأهلَه {إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} أي الباقين في العذاب أو القرية(7/38)
العنكبوت(7/39)
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
33 - 37 {وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا} المذكورون بعد مفارقتِهم لإبراهيمَ عليه السَّلامُ {لُوطاً سِىء بِهِمْ} اعتراه المساءة بسبهم مخافةَ أنْ يتعرَّض لهم قومُه بسوءٍ وكلمةُ أنْ صلةٌ لتأكيدِ ما بين الفعلينِ من الاتِّصالِ {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي ضاقَ بشأنِهم وتدبير أمِرهم ذرعُه أي طاقتُه كقولِهم ضاقتْ يدُه وبإزائِه رَحُبَ ذَرْعُه بكذا اذا كان مطيقا به قادراً عليه وذلك أنَّ طويلَ الذِّراعِ ينالُ ما لا يناله قصير الذِّراع {وَقَالُواْ} ريثما شاهدوا فيه مخايلَ التَّضجرِ من جهتهم وعاينوا أنه عجزَ عن مُدافعةِ قومِه بعد اللَّتيا والتِّي حتى آلتْ به الحالُ إلى أنْ قالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شديدٍ {لاَ تَخَفْ} أي من قومِك علينا {وَلاَ تَحْزَنْ} أي على شئ وقيل بإهلاكِنا إيَّاهم {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} ممَّا يُصيبهم من العذابِ {إِلاَّ امرأتك كانت من الغابرين} وقرئ لننجينَّك ومنجُّوك من الإنجاءِ وأيا ما كان فمحل الكافِ الجرُّ على المختارِ ونصب أهلكَ بإضمار فعلٍ أو بالعطفِ على محلِّها باعتبارِ الأصلِ(7/39)
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)
{إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مّنَ السماء} استئساف مسُوقٌ لبيانِ ما أشير إليه بوعدِ التَّنجيةِ من نزول العذابِ عليهم والرِّجزُ العذابُ الذي يُقلقُ المعذَّبَ أي يُزعجُه من قولِهم ارتجزَ إذا ارتجسَ واضطربَ وقرئ مُنزِّلون بالتَّشديدِ {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} بسببِ فسقِهم المستمرِّ(7/39)
وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
{وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا} أي من القريةِ {آيَةً بَيّنَةً} هي قصتها العجيبة وآثار ديارها الخربةِ وقيل الحجارةُ الممطورة فإنَّها كانتْ باقيةً بعدها وقيل الماءُ الأسودُ على وجهِ الأرضِ {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولَهم في الاستبصارِ والاعتبارِ وهو متعلقٌ إما بتركنا أو بينة(7/39)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)
{وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً} متعلق بمضمرٍ معطوفٍ على أرسلنا قي قصة نوح عليه السلام أي وأرسلنا إلى مدينَ شعيبا {فقال يا قوم اعبدوا الله} وحدَه {وارجوا اليوم الاخر} أي توقَّعوه وما سيقعُ فيه من فُنون الأهوالِ وافعلُوا اليوم من الأعمالِ ما تأمنون غائلتَهُ وقيل وارجُوا ثوابَه بطريقِ إقامةِ المسبَّبِ مقامَ السَّببِ وقيل الرَّجاءُ بمعنى الخوفِ {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ}(7/39)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي الزَّلزلةُ الشَّديدةُ وفي سورة هود وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ أي صيحةُ جبريلَ عليهِ السَّلام فإنَّها المُوجِبة للرَّجفة بسبب تمويجِها للهواءِ وما يُجاورها من(7/39)
العنكبوت 38 41 الأرض {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} أي بلدِهم أو منازِلهم والإفرادُ لأمنِ اللَّبسِ {جاثمين} باركينَ على الرُّكبِ ميِّتينَ(7/40)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
{وَعَاداً وَثَمُودَ} منصوبانِ بإضمارِ فعل ينبئ عنه ما قبلَه أي أهلكنا وقرئ ثموداً بتأويلِ الحيِّ {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مساكنهم} أي وقد ظهرَ لكم إهلا كنا إيَّاهم من جهةِ مساكنِهم بالنَّظر إليها عند اجتيازِكم بها ذهاباً إلى الشَّامِ وإياباً منه {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} من فُنون الكفرِ والمَعاصي {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} السَّويِّ الموصِّلِ إلى الحق {وكانوا مستبصرين} متمكنين من النَّظرِ والاستدلالِ ولكِنَّهم لم يفعلُوا ذلك أو متبينين أن العذاب لا حق بهم بإخبارِ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم ولكنَّهم لجُّوا حتَّى لقُوا ما لقُوا(7/40)
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)
{وقارون وَفِرْعَوْنَ وهامان} معطوفٌ على عاداً قيل تقديمُ قارونَ لشرفِ نسبِه {وَلَقَدْ جَاءهُمْ موسى بالبينات فاستكبروا فِى الارض وَمَا كَانُواْ سابقين} مفلتينَ فائتينَ من قولِهم سبقَ طالبَه إذا فانه ولم يُدركه ولقد أدركَهم أمر الله عزوجل أيَّ إدراكٍ فتداركُوا نحوَ الدَّمارِ والهَلاَكِ(7/40)
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
{فكلا} تفسير لما ينيئ عنه عدمُ سبِقهم بطريقِ الإبهامِ أي فكلُّ واحدٍ من المذكورينَ {أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} أي عاقبناهُ بجنايتِه لا بعضِه دُون بعضٍ كما يُشعر به تقديمُ المفعولِ {فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حاصبا} تفصيل للأخذِ أي ريحاً عاصفاً فيها حصباءُ وقيل مَلَكاً رماهم بهاؤهم قومُ لوطٍ {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة} كمدينَ وثمود {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الارض} كقارون {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} كقومِ نوحٍ وفرعونَ وقومِه {وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} بما فعل بهم فإنَّ ذلك محالٌ من جهتِه تعالى {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالاستمرارِ على مُباشرةِ ما يُوجبُ ذلك من أنواعِ الكفرِ والمَعاصي(7/40)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء} أي فيما اتخذوه متعمدا ومتَّكلاً {كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً} فيما نسجتْهُ في الوهنِ والخورِ بل ذلك أوهنُ من هذا لأنَّ له حقيقةً وانتفاعاً في الجُملة أو مَثَلُهم بالإضافةِ إلى المُوحَّدِ كمثله بالإضافة إلى رجلٍ بنى بيتاً من حجرٍ وجِصَ والعنكبوتُ يقعُ على الواحدُ والجمعُ والمذكرُ والمؤنَّثِ والغالبُ في الاستعمال التأنيث وتاؤه(7/40)
العنكبوت 42 45 كتاءِ طاغوت ويُجمع على عناكبَ وعنكبوتاتٍ وأمَّا العِكَابُ والعُكُبُ والأَعْكُبُ فأسماءُ الجموعِ {وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت} حيثُ لا يُرى شئ يدانيِه في الوَهَنِ والوَهَى {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي شيئاً من الأشياءِ لجزمُوا ان هذا مثلهم او ان دينهم أو هي من ذلكَ ويجوزُ أنْ يجعلَ بيتُ العنكبوتِ عبارةً عن دينِهم تحقيقاً للتَّمثيلِ فالمعنى وإنَّ أوهنَ ما يُعتمد به في الدِّين دينُهم(7/41)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
{أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شىء} على إضمار الفول أي قُل للكَفَرةِ إنَّ الله الخ وما استفهامَّيةٌ منصوبةٌ بيدعونَ معلقةٌ ليعلم ومِن للتَّبيينِ أو نافيةٌ ومن مزيدة وشئ مفعولُ يدعون أو مصدريةٌ وشئ عبارةٌ عن المصدرِ أو موصولةٌ مفعولٌ ليعلمُ ومفعولُ يدعون عائده المحذوف وقرئ تَدعُون بالتَّاءِ والكلامُ على الأولين تجهيلٌ لهم وتأكيدٌ للمثل وعلى الاخيرين وعيدلهم {وَهُوَ العزيز الحكيم} تعليلٌ على المعنيينِ فإنَّ إشراكَ ما لا يُعدُّ شيئاً بمن هَذا شأنُه من فرطِ الغباوةِ وإنَّ الجمادَ بالنسبة إلى القادرِ القاهرِ على كل شئ البالغِ في العلم وإتقانِ الفعلِ الغايةَ القاصيةَ كالمعدومِ البحت وأنَّ منَ هذه صفاتُه قادرٌ على مجازاتِهم(7/41)
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
{وَتِلْكَ الامثال} أي هذا المثلُ وأمثاله {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} تقريباً لما بعُد من أفهامِهم {وَمَا يَعْقِلُهَا} على ما هي عليه من الحُسنِ واستتباع الفوائدِ {إِلاَّ العالمون} الرَّاسخون في العلمِ المتدبِّرون في الأشياءِ على ما ينبغي وعنه صلى الله عليه وسلم أنَّه تَلاَ هذه فقال العالمُ من عقلَ عنِ الله تعالى وعمِل بطاعتِه واجتنبَ سَخَطَه(7/41)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
{خلق الله السماوات والارض بالحق} أي مُحقَّاً مُراعياً للحكمِ والمَصَالح على أنه حال من فاعل خلقَ أو ملتبسةً بالحقِّ الذي لا محيد عنه مستتبعةً للمنافعِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ على أنه حال من مفعولِه فإنَّها مع اشتمالِها على جميعِ ما يتعلَّقُ به معايشهم شواهد دالة على شئونه تعالى المتعلقةِ بذاتِه وصفاتِه كما يفصحُ عنه قولُه تعالى {إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} دالَّة لهم على ما ذكر من شئونه سبحانه وتخصيصُ المؤمنينَ بالذكر مع عمومِ الهدايةِ والإرشادِ في خلقهِما للكلِّ لأنَّهم المُنتفعون بذلكَ(7/41)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
{اتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} تقرُّباً إلى الله تعالى بقراءتِه وتذكُّراً لما في تضاعيفهِ من المعاني وتذكيرا للنا س وحملاً لهم على العملِ بما فيهِ من الأحكامِ ومحاسنِ الآدابِ ومكارمِ الأخلاقِ {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ} أي داوِمْ على إقامتِها وحيثُ كانتِ الصَّلاةُ منتظمةً للصَّلواتِ المكتوبةِ المؤدَّاةِ بالجماعةِ وكان أمرُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بإقامتِها متضمناً لأمرِ الأمَّة بها علِّل بقوله تعالى {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنكَر}(7/41)
كأنّه قيل وصلِّ بهم إن الصلاة تنهاهم عن الفحشاء والمنكر ومعنى نهيها عنهُما أنَّها سببٌ للانتهاءِ عنُهما لأنَّها مناجاةٌ لله تعالى فلا بدَّ أنْ تكونَ مع إقبالٍ تامَ على طاعتِه وإعراضِ كليَ عن معاصيِه قال ابنُ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما في الصَّلاةِ مُنتهى ومُزدجرٌ عن مَعَاصي الله تعالى فمَن لم تأمْره صلاتُه بالمعروفِ ولم تنهَه عن المنكرِ لم يزددْ بصلاتِه من الله تعالى إلا بُعداً وقال الحسنُ وقَتادةُ من لم تنهَه صلاتُه عن الفحشاءِ والمنكر فصلاتُه وبالٌ عليه ورَوَى أنسٌ رضيَ الله عنه إنَّ فتى من الأنصارِ كانَ يصلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ لا يدع شيئاً من الفواحِش إلا ركبَهُ فوصف له صلى الله عليه وسلم حاله فقال إنَّ صلاتَه ستنهاهُ فلم يلبثْ أن تابَ وحسُنَ حالُه {وَلَذِكْرُ الله أكبر} أي للصلاة أكبرُ من سائرِ الطَّاعاتِ وإنَّما عبرَّ عنها بهِ كما في قوله تعالى فاسعوا إلى ذِكْرِ الله للإيذانِ بأنَّ ما فيها من ذكرِ الله تعالى هو العمدةُ في كونِها مفضَّلةً على الحسناتِ ناهيةً عن السيئاتِ وقيل ولذكرُ الله تعالى عندَ الفحشاءِ والمُنكر وذكرُ نهيهِ عنهُما ووعيدِه عليهما أكبرُ في الزَّجرِ عنهما وقيل ولذكرُ الله إيَّاكم برحمتِه أكبرُ من ذكِركم إيَّاه بطاعتِه {والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} منه ومن سائرِ الطَّاعات فيجازيكم بها أحسن المجازاة(7/42)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
{وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب} من اليَّهودِ والنَّصارَى {إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} أي بالخَصلة التي هي أحسنُ كمقابلةِ الخشونةِ باللِّينِ والغضبِ بالكظمِ والمشاغبةِ بالنُّصحِ والسَّورةِ بالأَناة على وجهٍ لا يدلُّ على الضَّعفِ ولا يُؤدِّي إلى إعطاءِ الدَّنيةِ وقيل منسوخٌ بآيةِ السَّيفِ {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} بالإفراطِ في الاعتداءِ والعنادِ أو بإثباتِ الولدِ وقولِهم يدُ الله مغلولةٌ ونحوِ ذلك فإنَّه يجبُ حينئذٍ المُدَافعةُ بما يليقُ بحالِهم {وَقُولُواْ آمنا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا} من القُرآنِ {وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} أي وبالذي أُنزل إليكُم من التَّوراةِ والإنجيلِ وقد مرَّ تحقيقُ كيفيَّةِ الإيمانِ بهما في خاتمةِ سورةِ البقرةِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا تُصدِّقوا أهلَ الكتابِ ولا تكذِّبُوهم وقولُوا آمنَّا بالله وبكتبه وبرسله فإن قالوا باطلالم تصدِّقوهم وإنْ قالُوا حقّاً لم تكذِّبُوهم {وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ} لا شريكٍ له في الأُلوهيَّةِ {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} مُطيعونَ خاصَّة وفيه تعريضٌ بحالِ الفريقينِ حيثُ اتَّخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أَرْبَاباً من دُونِ الله(7/42)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
{وكذلك} تجريدٌ للخطابِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ الفعل الذي بعده وما فيه من معنى البعد للإيذان ببُعد منزلةِ المشار إليه في الفضلِ أي مثلَ ذلك الإنزالِ البديع الموافقِ لإنزالِ سائرِ الكتبِ {أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} أي القُرآنَ الذي من جُملتِه هذهِ الآيةُ الناطقةِ بما ذُكر من المُجادلةِ بالحُسْنَى {فالذين آتيناهم الكتاب} من الطَّائفتينِ {يُؤْمِنُونَ به} أريدبهم عبدُ اللَّه بنُ سَلاَم وأضرابِه من أهلِ الكتابين خاصَّة كأنَّ من عداهُم لم يُؤتَوا الكتابَ حيثُ لم يعملوا بما فيهِ أو مَنْ تقدم عهدَ رسول الله(7/42)
العنكبوت 48 51 صلى الله عليه وسلم منهم حيثُ كانُوا مصدِّقين بنزولِه حسبما شاهدُوا في كتابيهما وتخصيصُهم بإيتاءِ الكتابِ للإيذانِ بأنَّ مَن بعدهم من مُعاصري رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قد نُزع عنهم الكتابُ بالنَّسخِ فلم يُؤتَوه والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإنَّ إيمانَهم به مترتِّبٌ على إنزالِه على الوجهِ المذكُورِ {وَمِنْ هَؤُلاء} أي ومِن العربِ أو أهلِ مكَّةَ على الأولِ أو ممَّن في عصره صلى الله عليه وسلم على الثَّانِي {مَن يُؤْمِنُ بِهِ} أي بالقُرآنِ {وَمَا يجحد بآياتنا} عبَّر عن الكتابِ بالآياتِ للتنبيهِ على ظهورِ دلالتِها على معانيها وعلى كونِها من عند الله تعالى وأضيفتْ إلى نونِ العظمةِ لمزيدِ تفخيمِها وغايةِ تشنيعِ مَنْ يجحدُ بها {إِلاَّ الكافرون} المتوغِّلون في الكُفر المصمِّمون عليهِ فإنَّ ذلكَ يصدُّهم عن التَّأملِ فيما يُؤدِّيهم إلى معرفةِ حقّيتها وقيل هم كعبُ بنُ الأشرفِ وأصحابِه(7/43)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ} أي ما كنتَ قبل إنزالِنا إليك الكتابَ تقدرُ على أنْ تتلوَ شيئاً من كتابٍ {وَلاَ تَخُطُّهُ} أي ولا تقدرُ على أنْ تخطَّه {بِيَمِينِكَ} حسبَما هُو المعتادُ أو ما كانت عادَتُك أنْ تتلوَه ولا أنْ تخطَّه {إِذاً لارتاب المبطلون} أي لو كنتَ ممَّن يقدرُ على التِّلاوةِ والخطِّ أو ممَّن يعتادُهما لارتابُوا وقالُوا لعلَّه التقطَه من كتبِ الأوائلِ وحيثُ لم تكن كذلكَ لم يبقَ في شأنِك منشأُ ريبٍ أصلاً وتسميتُهم مُبطلينَ في ارتيابِهم على التَّقديرِ المفروضِ لكونِهم مُبطلينَ في اتِّباعِهم للاحتمالِ المذكورِ مع ظهورِ نزاهتِه صلى الله عليه وسلم عن ذلكَ(7/43)
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
{بَلْ هُوَ} أي القرآنُ {آيَاتٌ بَيّنَاتٌ} واضحاتٌ ثابتةٌ راسِخةٌ {فِى صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم} من غيرِ أنْ يُلتقطَ من كتابٍ يحفظونَهُ بحيثُ لا يقدِرُ أحدٌ على تحريفِه {وَمَا يجحد بآياتنا} مع كونِها كما ذُكر {إِلاَّ الظالمون} المُتجاوزونَ للحدودِ في الشرِّ والمكابرةِ والفسادِ(7/43)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
{وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيات مّن رَّبّهِ} مثلُ ناقةِ صالحٍ وعَصَا مُوسى ومائدةُ عيسى عليهم السلام وقرئ آيةٌ {قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِندَ الله} يُنزِّلها حسبَما يشاءُ من غيرِ دخلٍ لأحدٍ في ذلكَ قطعاً {وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} ليسَ من شأنِي إلا الإنذارُ بما أُوتيتُ من الايات(7/43)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
{أو لم يَكْفِهِمْ} كلامٌ مستأنفٌ واردٌ من جهتِه تعالى ردّاً على اقتراحِهم وبياناً لبُطلانِه والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ أي أقصُر ولم يكفِهم آيةٌ مغنيةٌ عن سائرِ الآياتِ {أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} الناطقَ بالحقِّ المصدِّق لما بين يديهِ من الكتبِ السَّماويَّةِ وأنتَ بمعزلٍ عن مدارستِها وممارستِها {يتلى عَلَيْهِمْ} في كلِّ زمانٍ ومكانٍ فلا يزالُ معهم آيةٌ ثابتةٌ لا تزولُ ولا تضمحلُّ كما تزولُ كلُّ آيةٍ بعدَ كونِها وتكونُ في مكانٍ دُونَ مكانٍ أو يُتلى على اليَّهودِ بتحقيقِ ما في أيديهم من نعتِك ونعتِ دينِكَ {إِنَّ فِى ذلك} الكتاب العظيم(7/43)
العنكبوت 52 54 الشَّأنِ الباقِي على مرِّ الدُّهورِ {لَرَحْمَةً} أي نعمةً عظيمةً {وذكرى} أي تذكرةً {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي لقوم همُّهم الإيمانُ لا التعنُّتُ كأولئك المُقترحينَ وقيلَ إنَّ ناساً من المؤمنينَ أَتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتف فيها بعضُ ما يقولُه اليَّهودُ فقال كَفَى بها ضلالةَ قومٍ أنْ يرغبُوا عمَّا جاءَ به نبيُّهم إلى ما جاءَ به غيرُ نبيِّهم فنزلتْ(7/44)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
{قُلْ كفى بالله بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} بمَا صدرَ عنِّي وعنكُم {يَعْلَمُ مَا في السماوات والارض} أي من الأُمورِ التي من جُمْلتِها شأنِي وشأنُكم فهو تقريرٌ لما قبلَه من كفايتِه تعالى شهيدا {والذين آمنوا بالباطل} وهو ما يُعبد من دونِ الله تعالى {وَكَفَرُواْ بالله} مع تعاضُد موجباتِ الإيمانِ به {أولئك هُمُ الخاسرون} المغبُونون في صفقتِهم حيثُ اشترَوُا الكفرَ بالإيمانِ بأنْ ضيَّعوا الفطرةَ الأصليَّةَ والأدلَّةَ السمعيَّةَ الموجبةَ للإيمانِ والآيةُ من قبيلِ المُجادلةِ بالتي هي أحسنُ حيثُ لم يُصرِّحْ بنسبةِ الإيمانِ بالباطلِ والكفرِ بالله والخسرانِ إليهم بل ذُكر على منهاجِ الإبهامِ كما في قولِه تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مبين(7/44)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} على طريقةِ الاستهزاءِ بقولِهم متى هذا الوعد وقولهم امطر عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ ونحوِ ذلكَ {وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى} قد ضربَهُ الله تعالى لعذابِهم وبيَّنه في اللَّوحِ {لَّجَاءهُمُ العذاب} المعيَّنُ لهم حسبما استعجلوا به قيل المرادُ بالأجلِ يومُ القيامةِ لما رُوي أنَّه تعالى وعدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنْ لا يُعذِّبَ قومَه بعذابِ الاستئصال وأنْ يؤخِّر عذابَهم إلى يومِ القيامةِ وقيلَ يوم بدر وقيل وقتُ فنائِهم بآجالِهم وفيه بُعدٌ ظاهرٌ لِمَا أنَّهم ما كانُوا يُوعدون بفنائِهم الطبيعيِّ ولا كانُوا يستعجلونَ به {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ} جملةٌ مستأنفةٌ مبينةٍ لما أُشير إليه في الجُملةِ السَّابقةِ من مجئ العذابِ عند محلِّ الأجلِ أي وبالله ليأتينَّهم العذابُ الذي عُيِّن لهم عند حُلولِ الأجلِ {بَغْتَةً} أي فجأةً {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي بإتيانِه ولعلَّ المرادَ بإتيانِه كذلك أنَّه لا يأتيهم بطريقِ التَّعجيلِ عند استعجالِهم والاجابة الى مسئولهم فإنَّ ذلك إتيانٌ برأيهم وشعورِهم لا أنَّه يأتيهم وهم غارُّون آمِنُون لا يخطرونَه بالبالِ كدأبِ بعضِ العُقوباتِ النازلةِ على بعضِ الأممِ بياتاً وهم نائمونَ أو ضُحى وهم يلعبُون لما أنَّ إتيانَ عذابِ الآخرةِ وعذابِ يومِ بدرٍ ليس من هذا القبيلِ(7/44)
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)
{يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} استئنافٌ مسوقٌ لغايةِ تجهيلِهم ورَكَاكةِ رأيِهم وفيه دلالة على أن ما استعجلوه عذابُ الآخرةِ أي يستعجلونك بالعذابِ والحال أنَّ محلَّ العذابِ الذي لاعذاب فوقَه محيطٌ بهم كأنَّه قيل يستعجلونك بالعذابِ وإنَّ العذاب لمحيط بهم أي سيحيط بهم وإنما(7/44)
العنكبوت 55 58 جئ بالجملةِ الاسميةِ دلالةً على تحقُّقِ الإحاطةِ واستمرارِها أو تنزيلاً لحالِ السَّببِ منزلةَ حالِ المسبَّبِ فإنَّ الكفرَ والمعاصيَ الموجبةَ لدخولِ جهنَّم محيطةٌ بهم وقيل إنَّ الكفرَ والمعاصيَ هي النَّار في الحقيقةِ لكنَّها ظهرتْ في هذهِ النَّشأةِ بهذه الصُّورةِ وقد مرَّ تفصيلُه في سورةِ الأعرافِ عند قوله تعالى {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} ولامُ الكافرينَ إمَّا للعهدِ ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ المضمرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكمِ أو للجنس وهم داخلون فيه دُخولاً أولياً(7/45)
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
{يَوْمَ يغشاهم العذاب} ظرفٌ لمضمرٍ قد طُوي ذكرُه إيذاناً بغايةِ كثرتِه وفظاعتِه كأنَّه قيلَ يومَ يغشاهُم العذابِ الذي أشير إليه بإحاطةِ جهنَّم بهم يكونُ من الأحوالُ والأهوالُ ما لا يفي به المقالُ وقيل ظرفٌ للإحاطةِ {مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي من جميعِ جهاتِهم {وَيَقُولُ} أي الله عزَّ وجلَّ ويعضدُه القِراءةُ بنونِ العظمةِ أو بعضُ ملائكتِه بأمرِه {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي جزاءَ ما كنتُم تعملونَهُ في الدُّنيا على الاستمرارِ من السيئاتِ التي من جُملتها الاستعجالُ بالعذابِ(7/45)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
{يَا عِبَادِى الذين آمَنُواْ} خطابُ تشريفٍ لبعضِ المؤمنينَ الذين لا يتمكَّنُون من إقامةِ أمورِ الدينِ كما ينبغِي لممانعةٍ من جهةِ الكَفَرةِ وإرشادٌ لهم إلى الطَّريقِ الأسلمِ {إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فاعبدون} أي إذا لم يتسهَّل لكُم العبادةُ في بلدٍ ولم يتيسَّر لكُم إظهارُ دينِكم فهاجِرُوا إلى حيثُ يتسنَّى لكم ذلك وعنه صلى الله عليه وسلم من فربدينه من أرضٍ إلى أرضٍ ولو كان شبراً استوجبَ الجنَّة وكان رفيقَ إبراهيمَ ومحمَّدٍ عليهما السَّلامُ والفاءُ جوابُ شرطٍ محذوفٍ إذِ المعنى إنَّ أرضي واسعةٌ إنْ لم تُخلصوا العبادةَ لي في أرضٍ فأخلِصُوها في غيرِها ثم حُذفَ الشَّرطُ وعُوِّض عنه تقديمُ المفعولِ مع إفادةِ تقديمِه معنى الاختصاصِ والإخلاصِ(7/45)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} جملةٌ مستأنفة جئ بها حثاً على المُسارعة في الامتثالِ بالأمرِ أي كُلُّ نَفْسٍ منَ النفوسِ واجدةٌ مرارةَ الموتِ وكربَه فراجعةٌ إلى حُكمِنا وجَزَائِنا بحسبِ أعمالِها فمَنْ كانت عاقبته هذه فليس له بدٌّ من التزود والاستعداد لها وقرئ يرجعون(7/45)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)
{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُبَوّئَنَّهُمْ} لننزلنَّهم {مّنَ الجنة غُرَفَاً} أي عَلاليَ وهو مفعولٌ ثانٍ للتبوئة وقرئ لثوينهم من الثُّواء بمعنى الإقامةِ فانتصابُ غُرفاً حينئذٍ إمَّا بإجرائِه مُجرى لنُنزلنَّهم أو بنزع الخافض او بتشببه الظرف الموقت بالمبهم كا في قولِه تعالى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} صفة لغرفاً {خالدين فِيهَا} أي في الغُرَفِ أو في الجنَّة {نِعْمَ أَجْرُ العاملين} أي الأعمالُ الصَّالحةُ والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ ثقةً بدلالةِ ما قبلَهُ عليه وقرئ فمنعم(7/45)
العنكبوب(7/46)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
59 - 63 {الذين صَبَرُواْ} إمَّا صفةٌ للعاملينَ أو نُصب على المدحِ أي صَبَرُواْ على أذيَّةِ المشركينَ وشدائدِ المهاجرةِ وغيرِ ذلكَ من المحنِ والمشاقِّ {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي ولم يتوكَّلوا فيما يأتُون ويذرونَ إلا عَلى الله تعالى(7/46)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
{وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} رُوي أنَّ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لمَّا أمرَ المُؤمنينَ الذين كانُوا بمكَّةَ بالمهاجرةِ إلى المدينةِ قالُوا كيفَ نقدُم بلدةً ليس لنا فيها معيشةٌ فنزلتْ أي وكم من دابةٍ لا تطيقُ حمل رزقها لضعفها أولا تدخره وإنَّما تُصبح ولا معيشةَ عندها {الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} ثمَّ إنَّها مع ضعفِها وتوكُّلِها وإيَّاكم مع قوَّتِكم واجتهادِكم سواء في أنَّه لا يرزقُها وإيَّاكم إلا الله تعالى لأنَّ رزقَ الكلِّ بأسبابٍ هو المسبِّبُ لها وحدَهُ فلا تخافُوا الفقرَ بالمُهاجرةِ {وَهُوَ السميع} المبالغُ في السَّمعِ فيسمعُ قولَكم هذا {العليم} المبالغُ في العلمِ فيعلمُ ضمائرَكم(7/46)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} أي أهلَ مكة {من خلق السماوات والارض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله} إذ لا سبيلَ لهم إلى إنكارِه ولا الى النردد فيه {فأنى يُؤْفَكُونَ} إنكارٌ واستبعادٌ من جهتِه تعالى لتركِهم العملَ بموجبِه أي فكيفَ يُصرفون عن الإقرارِ بتفرُّدِه تعالى في الإلهية مع إقرارِهم بتفرُّدِه تعالى فيما ذكر من الخلق والتَّسخيرِ(7/46)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
{الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} أنْ يبسطَه له {مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أي يقدرُ لمن يشاءُ أنْ يقدرَ له منهم كائناً مَن كانَ على أنَّ الضَّميرَ مبهمٌ حسبَ إبهامِ مرجعِه أو يقدرُ لمن ببسطه له على التَّعاقبِ {أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} فيعلم مَن يليقُ ببسطِ الرِّزقِ فيبسطُه له ومن يليقُ بقدره فيقدرُه له أو فيعلم أنَّ كلاًّ من البسطِ والقدرِ في أيِّ وقتٍ يوافق الحكمة والمصلحة فيفعل كلا منها في وقتِه(7/46)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السماء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الارض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله} معترفينَ بأنه الموجد للمكنات بأسرِها أصولِها وفروعِها ثمَّ إنَّهم يُشركون به بعضَ مخلوقاتِه الذي لا يكادُ يُتوهَّمُ منه القدرةُ على شئ ما أصلاً {قُلِ الحمد لِلَّهِ} على أنْ جعلَ الحقَّ بحيث لا يجترئ المبطلون على حجوده وأنَّه أظهرَ حجَّتَك عليهم وقيل على أنْ عصَمَك من أمثال هذهِ الضَّلالاتِ ولا يخفى بعدُه {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي شيئاً من الأشياءِ فلذلك لا يعلمون بمُقتضى قولِهم هذا فيُشركون به سبحانَه أخسَّ مخلوقاتِه وقيل لا يعقلونَ ما تُريد بتحميدِك عند مقالِهم ذلك(7/46)
العنكبوت 64 68(7/47)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
{وَمَا هذه الحياة الدنيا} إشارة تحقير وازدراء الدنيا وكيفَ لا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانتِ الدُّنيا تزنُ عندَ الله جناحَ بعوضةٍ ما سَقَى الكافرَ منها شَرْبةَ ماءٍ {إِلاَّ لَهْوٌ ولعب} أي إلاكما يُلهى ويلعبُ به الصبيانُ يجتمعون عليهِ ويبتهجون به ساعةً ثم يتفرَّقُون عنه {وَإِنَّ الدار الاخرة لَهِىَ الحيوان} أي لهيَ دارُ الحياة الحقيقية لا متناع طريانِ الموتِ والفناءِ عليها أوهي في ذاتِها حياةٌ للمبالغةِ والحيوان مصدر حي سُمِّيَ بهِ ذُو الحياة وأصلُه حَيَيانُ فقُلبتْ الياءُ الثَّانيةُ واواً لما في بناءِ فَعَلان من مَعْنى الحَرَكةِ والاضطرابِ اللازم للحَيَوان ولذلك اختِير على الحياةِ في هذا المقامِ المُقتضي للمبالغةِ {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي لما آثرُوا عليها الدُّنيا التي أصلُها عدمُ الحياةِ ثمَّ ما يحدثُ فيها من الحَيَاةِ عارضةٌ سريعةُ الزَّوالِ وشيكةُ الاضمحلالِ(7/47)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
{فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك} متَّصلٌ بما دلَّ عليه شرحُ حالِهم والرُّكوب هو الاستعلاء على الشئ المتحرِّكِ وهُو متعدَ بنفسِه كما في قوله تعالى والخيل والبغال والحمير لنركبوها واستماله ههنا وفي أمثالِه بكلمة في للإيذانِ بأنَّ المركوبَ في نفسِه من قبيلِ الأمكنةِ وحركتُه قسريةٌ غيرُ إراديةٍ كما مر في سورة هُودٍ والمعنى أنَّهم على ما وُصفوا من الإشراكِ فإذا ركبُوا في البحرِ ولقواشدة {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي كائنينَ على صورةِ المُخلصين لدينِهم من المؤمنينَ حيثُ لا يدعُون غيرَ الله تعالى لعلمِهم بأنَّه لا يكشفُ الشَّدائدَ عنهم إلا هُو {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هم يشركون} أي فاجئوا المعاودةَ إلى الشِّركِ(7/47)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
{ليكفروا بما آتيناهم وَلِيَتَمَتَّعُواْ} أي يفاجئونَ الإشراكَ ليكونُوا كافرينَ بما آتيناهُم من نعمةِ الإنجاءِ التي حقُّها أنْ يشكرُوها {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي عاقبةَ ذلكَ وغائلتَه حينَ يَرَون العذابَ(7/47)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} أي ألم ينظرُوا ولم يشاهدُوا {إِنَّا جَعَلْنَا} أي بلدَهم {حَرَماً آمنا} مصُوناً من النَّهبِ والتَّعدِّي سالماً أهلُه من كلِّ سوءٍ {وَيُتَخَطَّفُ الناسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} أي والحالُ أنَّهم يُختلسون من حولِهم قتلاً وسبياً إذ كانتِ العربُ حولَه في تغاورٍ وتناهُبٍ {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} أي أبعد ظهورِ الحقِّ الذي لا ريبَ فيه بالباطلِ خاصَّة يُؤمنون دُون الحقِّ {وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ} وهي المستوجبةُ للشُّكرِ حيثُ يُشركون به غيرَهُ وتقديمُ الصِّلةِ في الموضعينِ لإظهارِ كمالِ شناعةِ ما فعلُوا(7/47)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} بأن(7/47)
العنكبوت 69 زعمَ أنَّ له شريكاً أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالم وإن كان سبكُ النَّظمِ دالاًّ على نفيِ الأظلمِ من غيرِ تعرضٍ لنفْي المساوي وقد مرَّ مراراً 2 {أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَاءهُ} أي بالرَّسولِ أو بالقُرآنِ وفي لمَّا تسفيهٌ لهم بأنْ لم يتوقفُوا ولم يتأمَّلوا حينَ جاءَهم بل سارعُوا إلى التَّكذيبِ آثر ذي أثيرٍ {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين} تقريرٌ لثُوائِهم فيها كقولِ من قالَ ألستُم خيرَ من رَكبَ المَطَايا أي أَلاَ يستوجبونَ الثَّواء فيها وقد فعلُوا ما فعلُوا من الافتراءِ على الله تعالى والتَّكذيبِ بالحقِّ الصَّريحِ أو إنكارٌ واستبعادٌ لاجترائِهم على ما ذُكر من الافتراءِ والتَّكذيبِ مع علمِهم بحالِ الكَفَرةِ أي ألم يعلمُوا أَنَّ فى جهنم مثوى للكافرين حتى اجترءوا هذه الجراءة(7/48)
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
{والذين جاهدوا فِينَا} أي في شاننا ولوجهنا خالصاً أطلقَ المُجاهدةَ ليعمَّ جهادَ الأعادِي الظاهرةِ والباطنةِ {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} سُبُلَ السَّيرِ إلينا والوصولِ إلى جنابِنا أو لنزيدنَّهم هدايةً إلى سبل الخير وتوفيقها لسلُوكها كقولِه تعالى والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وفي الحديثِ من عمِل بما علِم ورَّثه الله علمَ ما لم يعلَمْ {وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} معيةَ النصر والمعونة عنه صلى الله عليه وسلم مَن قرأَ سورةَ العنكبوتِ كان له منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ المؤمنينَ والمُنافقينَ(7/48)
سورة الروم 1 4
مكية إلا قوله فسبحان الله الآية وهى ستون آية بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم(7/49)
الم (1)
{الم} الكلامُ فيه كالذي مرفى أمثالِه من الفواتحِ الكريمةِ(7/49)
غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
{غُلِبَتِ الروم} {فِى أَدْنَى الارض} أي أدنى أرضِ العربِ منهم إذ هيَ الأرضُ المعهودةُ عندهم وهي أطراف الشَّامِ أو في أدنى أرضِهم من العربِ على أنَّ اللامَ عوضٌ عن المضافِ إليهِ قال مجاهدٌ هي أرضُ الجزيرةِ وهي أدْنى أرضِ الرُّومِ إلى فارسَ وعن ابن عباس رضي الله عنهما الأردنُّ وفلسطينُ وقُرىء أدانِي الأرضِ {وَهُمْ} أي الرُّوم {مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ} أي من بعد مغلوبيَّتهم وقُرىء بسكونِ اللامِ وهي لغةٌ كالجَلَب والجَلْب {سَيَغْلِبُونَ} أي سيَغلِبون فارسَ(7/49)
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
{فِى بِضْعِ سِنِينَ} رُوي أنَّ فارسَ غَزَوا الرُّومَ فوافَوهم بأَذْرِعَاتٍ وبُصرَى وقيل بالجزيرةِ كما مرَّ فغلبوا عليهم وبلغ الخبرُ مكَّة ففرح المشركون وشمِتُوا بالمسلمينَ وقالوا انتم والنصارى واهل كتابٍ ونحن وفارسُ أميُّون وقد ظهر إخوانُنا على إخوانِكم فلنظهرنَّ عليكم فقال أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه لا يقْرِرِ الله أعينَكم فو الله ليظهرنَّ الرومُ على فارسَ بعد بضعِ سنين فقال له أُبيُّ بنُ خَلَف اللَّعينُ كذبتَ اجعل بيننا اجلا انا حبك عليه فناحبَه على عشرِ قلائصَ من كلَ منهُما وجعلا الأجلَ ثلاثَ سنينَ فأخبربه أبُو بكرٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ البِضْعُ ما بين الثَّلاثِ إلى التِّسعِ فزيدُوه في الخطرِ ومادِّه في الأجلِ فجعلاها مائةَ قلوصٍ إلى تسعِ سنينَ ومات أبيُّ من جرحِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وظهرتِ الرُّوم على فارسَ عند رأسِ سبعِ سنينَ وذلك يومَ الحديبيةِ وقيل كانَ النَّصرُ للفريقينِ يومَ بدرٍ فأخذَ أبُو بكر الخَطَر من ذريَّةِ أبيَ فجاء به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ تصدَّق به وكانَ ذلك قبلَ تحريمِ القِمارِ وهذه الآياتُ من البيِّناتِ الباهرةِ الشَّاهدةِ بصحَّةِ النُّبوةِ وكونِ القرآنِ مِنْ عندِ الله عزَّ وجلَّ حيثُ أخبرتْ عن الغيبِ الذي لا يعلمُه إلا العليمُ الخبيرُ وقُرىء غَلَبت على البناءِ للفاعلِ وسيُغلبون على البناءِ للمفعولِ والمعنى أنَّ الروم(7/49)
الرُّوم 5 7 غلبتْ على ريفِ الشامِ وسيغلبُهم المسلمونَ وقد غَزَاهُم المسلمون في السَّنةِ التَّاسعةِ من نزولِها ففتحُوا بعضَ بلادِهم فإضافةُ الغَلَب حينئذٍ إلى الفاعلِ {لِلَّهِ الامر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} أي في أولِ الوقتينِ وفي آخرِهما حين غُلبوا وحين يغلِبون كأنَّه قيل من قبلِ كونِهم غالبينَ وهو وقتُ كونِهم مغلوبينَ ومن بعدِ كونِهم مغلوبينَ وهو وقتُ كونِهم غالبينَ والمعنى أنَّ كلاًّ من كونِهم مغلوبينَ أولاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمرِ الله تعالى وقضائِه وَتِلْكَ الايام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس وقُرىء منْ قُبلُ ومن بعدِ بالجرِّ من غيرِ تقديرِ مُضافٍ إليهِ واقتطاعِه كأنَّه قيل قبلاً وبَعْداً بمعنى أولاً وآخِراً {وَيَوْمَئِذٍ} أي يومَ إذْ يغلبُ الرُّومُ على فارسَ ويحلُّ ما وعدَه الله تعالى من غلبتِهم {يَفْرَحُ المؤمنون}(7/50)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
{بِنَصْرِ الله} وتغليبِه من له كتابٌ على من لا كتابَ له وغيظِ من شمِت بهم من كفَّار مكَّةَ وكونِ ذلك من دلائلِ غلبةِ المؤمنينَ على الكفَّار وقيل نصرُ الله إظهارُ صدقِ المؤمنينَ فيما أخبرُوا به المشركينَ من غَلَبة الرُّومِ على فارسَ وقيل نصرُه تعالى أنَّه ولَّى بعضَ الظَّالمين بعضاً وفرَّق بين كلمتِهم حتَّى تناقصُوا وتفانوا وفلَّ كل منهم شوكةَ الآخرِ وفي ذلك قوَّةٌ وعن أبي سعيدٍ الخدريُّ رضيَ الله عنه أنَّه وافقَ ذلك يومَ بدرٍ وفيهِ من نصرِ الله العزيزِ للمؤمنينَ وفرحِهم بذلك مالا يَخْفى والأولُ هو الأنسبُ لقولِه تعالى {يَنصُرُ مَن يشاء} أي من يشاء أن ينصره من عبادِه على عدوِّه ويُغلِّبه عليهِ فإنَّه استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ قولِه تعالى الله الامر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ {وَهُوَ العزيز} المبالغُ في العزَّةِ والغَلَبةِ فلا يُعجزه مَن يشاءُ أنْ ينصرَ عليهِ كائناً مَن كان {الرحيم} المبالِغُ في الرَّحمةِ فينصرُ من يشاءُ أنْ ينصرَه أيَّ فريقٍ كان والمرادُ بالرَّحمةِ هي الدُّنيوية أمَّا على القراءةِ المشهُورة فظاهرٌ لما أنَّ كِلا الفريقينِ لا يستحقُّ الرَّحمةَ الأُخرويَّةَ وأمَّا على القراءةِ الأخيرةِ فلأنَّ المُسلمينَ وإنْ كانُوا مستحقِّين لها لكن المراد ههنا نصرُهم الذي هُو من آثارِ الرَّحمةِ الدُّنيويةِ وتقديمُ وصفِ العزَّةِ لتقدمِه في الاعتبارِ(7/50)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{وَعَدَ الله} مصدرٌ مؤكدٌ لنفسِه لأنَّ ما قبله في مَعنى الوعدِ كأنَّه قيل وعد الله وعدا {لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ} أيَّ وعدٍ كانَ ممَّا يتعلَّقُ بالدُّنيا والآخرةِ لاستحالةِ الكذبِ عليهِ سبحانَه وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتعليلِ الحُكْمِ وتفخيمِه والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لمعنى المصدرِ وقد جُوِّز أنْ تكونَ حالاً منه فيكونَ كالمصدرِ الموصوفِ كأنَّه قيل وعدا الله غيرَ مُخلفٍ {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أيْ ما سبق من شئونه تعالى(7/50)
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا} وهو ما يُشاهدونَهُ من زخارِفها وملاذِّها وسائرِ أحوالِها الموافقةِ لشهواتِهم الملائمةِ لاهوائهم المستدعية لانهما كهم فيها وعكوفِهم عليها لا تمتعهم بزخارِفها وتنعمهم بملاذِّها كما قيلَ فإنَّهما ليسا ممَّا علمُوه منها بل من أفعالِهم المترتبةِ على علومِهم وتنكيرُ ظاهراً للتَّحقيرِ والتخسيس(7/50)
الروم 8 دون الواحدة كما تُوهِّم أي يعلمون ظاهراً حقيراً خسيساً من الدُّنيا {وَهُمْ عَنِ الاخرة} التي هي الغاية القصوى والمطلبُ الأسنَى {هُمْ غافلون} لا يُخطرونَها بالبالِ ولا يُدركون من الدُّنيا ما يؤدي إلى معرفتِها من أحوالِها ولا يتفكَّرون فيها كما سيأتي والجملةُ معطُوفةٌ على يعلمونَ وإيرادُها إسمية للدلالةِ على استمرارِ غفلتِهم ودوامِها وهُم الثَّانية تكريرٌ للأولى أو مبتدأٌ وغافلون خبرُه والجملةُ خبرٌ للأولى وهو عَلَى الوجهينِ منادٍ على تمكُّنِ غفلتِهم عن الآخرةِ المحققِّةِ لمقتضَى الجملةِ المتقدمةِ تقريراً لجهالتِهم وتشبيهاً لهم بالبهائمِ المقصورِ إدراكاتُها من الدُّنيا على ظواهِرها الخسيسةِ دونَ أحوالِها التي هي مَبَادي العلمِ بأمورِ الآخرةِ وإشعاراً بأنَّ العلمَ المذكورَ وعدمَ العلمِ رأساً سيان(7/51)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
{أو لم يَتَفَكَّرُواْ} إنكارٌ واستقباحٌ لِقصَرِ نظرِهم على ما ذُكر من ظاهرِ الحياةِ الدُّنيا مع الغفلةِ عن الآخرةِ والواو للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقام وقوله تعالى {فِى أَنفُسِهِمْ} ظرفٌ للتفكُّرِ وذكرُه مع ظهورِ استحالةِ كونِه في غيرِها لتحقيق أمرهِ وتصويرِ حالِ المتفكِّرينِ وقولُه تعالى {مَّا خَلَقَ الله السماوات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا} الخ متعلقٌ إمَّا بالعلمِ الذي يؤدِّي إليه التَّفكُّر ويدلُّ عليهِ أو بالقولِ الذي يترتب عليهِ كما في قولِهِ تعالى {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السماوات والارض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} أي أعلمُوا ظاهرَ الحياةِ الدُّنيا فقط أو أقصَروا النَّظرَ عليه ولم يُحدِثُوا التفكُّرَ في قلوبِهم فيعلمُوا أنَّه تعالى ما خلقَهما وَمَا بَيْنَهُمَا من المخلُوقاتِ التي هُم من جُملتها ملتبسةً بشيءٍ من الأشياءِ {إِلا} ملتبسةً {بالحق} او يقولُوا هذا القولَ مُعترفين بمضمونِه إثرَ ما علمُوه والمرادُ بالحقِّ هو الثَّابتُ الذي يحِق أن يثبت لا محالة لابتنائه على الحكمةِ البالغةِ والغرضِ الصَّحيحِ الذي هو استشهادُ المكلَّفين بذواتِها وصفاتِها وأحوالِها المتغيرةِ على وجودِ صانعِها عزَّ وجلَّ ووحدتِه وعلمِه وقدرتِه وحكمتِه واختصاصِه بالمعبُوديَّةِ وصحَّةِ أخبارِه التي مِن جُملتِها إحياؤهم بعد الفناءِ بالحياةِ الأبديَّةِ ومجازاتِهم بحسبِ أعمالِهم غِبّ ما تبيَّن المحسنُ من المسيء وامتازتْ درجاتُ أفرادِ كلَ من الفريقينِ حسبَ امتيازِ طبقاتِ علومِهم واعتقاداتِهم المترتبةِ على أنظارِهم فيما نُصبَ في المصنُوعاتِ من الآياتِ والدَّلائلِ والامارات والمخايل كما نطق به قوله تعالَى وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعملِ الجوارحِ ولذلكَ فسَّرَهُ صلى الله عليه وسلم بقولِه أيُكم أحسنُ عقلاً وأورَعُ عن محارمِ الله وأسرعُ في طاعةِ الله وقد مرَّ تحقيقُه في أوائلِ سورةِ هُودٍ عليه السَّلام وقولُه تعالى {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} عطفٌ على الحقِّ أي وبأجلٍ معينٍ قدرَه الله تعالى لبقائِها لا بدَّ لها مِن أنْ تنتهيَ إليه لا محالةَ وهو وقتُ قيامِ السَّاعةِ هذا وقد جوِّز أنْ يكونَ قولُه تعالى في أنفسِهم صلةً للتفكُّرِ على معنى او لم يتفكرُوا في أنفسِهم التي هي أقربُ المخلوقاتِ إليهم وهم اعلم بشئونها وأخبرُ بأحوالِها منهم بأحوالِ ما عداها فيتدبَّروا ما أودَعها الله تعالى ظاهراً وباطناً من غرائبِ الحكمِ الدَّالَّةِ على التَّدبيرِ دونَ الاهمال(7/51)
الروم 9 10 وانه لابد لها من انتهاءٍ إلى وقتٍ يُجازيها فيه الحكيم الذي دبَّر أمرَها على الإحسانِ إحساناً وعلى الإساءةِ مثلَها حتَّى يعلموا عند ذلك أنَّ سائرَ الخلائقِ كذلك أمرُها جارٍ على الحكمةِ والتَّدبيرِ وأنَّه لا بدَّ لها من الانتهاءِ إلى ذلك الوقتِ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ أمرَ معادِ الإنسانِ ومُجازاتِه بما عملَ من الإساءةِ والإحسانِ هو المقصودُ بالذَّاتِ والمحتاجُ إلى الإثباتِ فجعلُه ذريعةً إلى إثباتِ معادِ ما عَداهُ مع كونِه بمعزلٍ من الجزاء تعكيس للامر فتدبر قوله تعالى {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبّهِمْ لكافرون} تذييلٌ مقررٌ لمَا قبلَهُ ببيانِ أن أكثرَهم غيرُ مقتصرين على ما ذُكر من الغفلةِ عن أحوالِ الآخرةِ والإعراضِ عن التَّفكُّرِ فيما يُرشدهم إلى معرفتِها من خلقِ السمواتِ والأرضِ وما بينهما من المصنُوعاتِ بل هم مُنكرون جاحدون بلقاءِ حسابِه تعالى وجزائِه بالبعثِ(7/52)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
{أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ} توبيخٌ لهم بعدم اتِّعاظِهم بمشاهدةِ أحوالِ أمثالِهم الدالة على عاقبتهم ومآ لهم والهمزةُ لتقريرِ المنفيِّ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ أي أقعدُوا في أماكنِهم ولم يسيرُوا {فِى الارض} وقولُه تعالى {فَيَنظُرُواْ} عطفٌ على يسيروا داخلٌ في حكمِ التَّقريرِ والتَّوبيخِ والمعنى أنَّهم قد سارُوا في أقطارِ الأرضِ وشاهدُوا {كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِم} من الأممِ المهلكةِ كعادٍ وثمودَ وقوله تعالى {كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} الخ بيانُ لمبدأِ احوالهم ومآ لها يعني انهم كانُوا أقدرَ منهم على التَّمتع بالحياةِ الدُّنيا حيثُ كانوا أشد منهم قوة {وَأَثَارُواْ الارض} أي قلبُوها للزراعةِ والحرثِ وقيل لاستنباطِ المياه واستخراجِ المعادنِ وغيرِ ذلك {وَعَمَرُوهَا} أي عمَّرَها أولئك بفنونِ العماراتِ من الزِّراعةِ والغرسِ والبناءِ وغيرها ممَّا يُعدُّ عمارةً لها {أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي عمارةً أكثرَ كمَّا وكيفاً وزماناً من عمارةِ هؤلاءِ إيَّاها كيف لا وهُم أهلُ وادٍ غيرِ ذي زرع لاتبسط لهم في غيرهِ وفيه تهكُّم بهم حيثُ كانوا مغترِّين بالدُّنيا مفتخرينَ بمتاعِها مع ضعفِ حالِهم وضيقِ عطنِهم إذْ مدارُ أمرِها على التبسطِ في البلادِ والتسلطِ على العبادِ والتقلبِ في أكنافِ الأرضِ بأصنافِ التصرفات وهم ضعفة ملجئون إلى وادٍ لا نفعَ فيه يخافُون أنْ يتخطَّفَهم النَّاسُ {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} بالمعجزات أو الآياتِ الواضحاتِ {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} أي فكذَّبوهم فأهلَكهم فما كانَ الله ليهلَكهم من غير جُرمٍ يستدعيِه من قِبلهم والتعبيرُ عن ذلك بالظَّلمِ مع أنَّ إهلاكَه تعالى إيَّاهم بلا جُرمٍ ليس من الظالم في شيء على ما تقرر من قاعدةِ أهلِ السنةِ لإظهارِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلك بإبرازهِ في معرضِ ما يستحيل صدروه عنه تعالى وقد مرَّ في سورةِ الأنفالِ وسورةِ آلِ عمرانَ {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بأن اجترءوا على اقترافِ ما يُوجبه من المعاصِي العظيمةِ(7/52)
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أساؤوا} أي عملوا السيئات(7/52)
الروم 11 15 وُضع الموصولُ موضعَ ضميرِهم للتَّسجيلِ عليهم بالإساءةِ والإشعارِ بعلَّةِ الحكمِ {السَّوأى} أي العقوبةِ التي هي أسوأُ العقوبات وأفظعها التي هي العقوبةُ بالنارِ فإنَّها تأنيثُ الأسوأِ كالحُسنى تأنيثُ الأحسنِ أو مصدرٌ كالبُشرى وُصفَ به العقوبةُ مبالغةً كأنَّها نفس السوأى وهي مرفوعةٌ على أنَّها اسمُ كانَ وخبرُها عاقبةَ وقُرىء عَلى العكسِ وهو أدخلُ في الجَزَالةِ وقولُه تعالى {أَنْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} علة لماء أُشير إليه من تعذيبِهم الدُّنيويِّ والأُخرويِّ أي لأنْ كذَّبُوا أو بأنْ كذَّبُوا بآياتِ الله المنزَّلةِ على رسله عليهم الصلاة والسلام ومعجزاتِه الظَّاهرةِ على أيديهم وقولُه تعالى {وَكَانُواْ بِهَا يستهزؤون} عطفٌ على كذَّبوا داخلٌ معه في حُكمِ العِلِّيةِ وإيرادُ الاستهزاءِ بصيغةِ المضارعِ للدِّلالةِ على استمرارِه وتجدُّدِه هذا هو اللائقُ بجزَالةِ النَّظمِ الجليلِ وقَدْ قيلَ وقيل(7/53)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
{الله يَبْدَأُ الخلق} أي يُنشئهم {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد الموتِ بالبعثِ {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إلى موقفِ الحسابِ والجزاءِ والالتفاتُ للمُبالغةِ في التَّرهيبِ وقُرىء بالياءِ(7/53)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} التي هي وقتُ إعادة الخلق ورجعهم إليه {يُبْلِسُ المجرمون} أي يسكُتون مُتحيِّرينَ لا ينبِسُون يقال ناظرتُه فأبلسَ إذا سكتَ وأيسَ من أنْ يحتجَّ وقُرىء بفتحِ اللامِ من أبلسَه إذا أفحمَه وأسكتَه(7/53)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)
{وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء} يجيرونَهم من عذابِ الله تعالى كما كانُوا يزعمونَه وصيغةُ الجمعِ لوقوعِها في مقابلةِ الجمعِ أي لم يكُن لواحدٍ منهم شفيعٌ أصلاً {وَكَانُواْ بشركائهم كافرين} أي بإلهيتهم وشركتهم لله سبحانه حيثُ وقفُوا على كُنهِ أمرِهم وصيغةُ الماضِي للدِّلالةِ على تحقُّقِه وقيلَ كَانُواْ في الدُّنيا كافرين بسببِهم وليسَ بذاكَ إذْ ليسَ في الإخبارِ به فائدةٌ يعتدُّ بها(7/53)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} أُعيدَ لتهويلِه وتفظيعِ ما يقعُ فيه وقولُه تعالى {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} تهويلٌ له إثرَ تهويلٍ وفيه رمزٌ إلى أنَّ التَّفرقَ يقعُ في بعضٍ منه وضميرُ يتفرَّقُون لجميعِ الخلقِ المدلولِ عليهم بما تقدَّمَ من بدئِهم وإعادتِهم ورجعِهم لا المجرمون خاصَّة وليسَ المرادُ بتفرُّقِهم افتراقَ كلِّ فردٍ منهم عن الآخرِ بل تفرُّقَهم إلى فريقَيْ المؤمنينَ والكافرينَ كما في قوله تعالى فريق فى الجنة وفريق فِى السعير وذلك بعد تمامِ الحسابِ وقولُه تعالى(7/53)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
{فأما الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} تفصيلٌ وبيانٌ لأحوالِ ذينكَ الفريقينِ والرَّوضةُ كلُّ أرضٍ ذاتِ نباتٍ وماءٍ ورَوْنقٍ ونَضارةٍ وتنكيرُها للتَّفخيم والمرادُ بها الجَّنةُ والحُبورُ السُّرورُ يقال حبرَهُ إذا سرَّهُ سُروراً تهلَّل له وجهُه وقيل الحبرة كل نعمة حسنة والتحبير التحسين واختفلت فيه الأقاويلُ لاحتمالِه وجوهَ جميع المسارفعن ابنِ عبَّاسٍ ومُجاهدٍ يُكرمون وعن قتادة(7/53)
الروم 16 18 يُنعَّمون وعن ابن كيسانَ يُحلَّون وعن بكر بن عياش التيجان على رءوسهم وعن وكيعٍ السَّماعُ في الجَّنةِ وعنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم أنَّه ذكَر الجنَّةَ وما فيها من النعيمِ وفي آخرِ القومِ أعرابيُّ فقالَ يا رسولَ الله هَلْ في الجَّنةِ من سماعٍ قال صلى الله عليه وسلم يا أعرابيُّ إنَّ في الجنة لنهرا حافتاه لابكار من كلِّ بيضاءَ خُوصانيةِ يتغنَّين بأصواتٍ لم يسمعِ الخلائقُ بمثلِها قَطّ فذلكَ أفضلُ نعيمِ الجنَّةِ قال الرَّاوي فسألتُ أبا الدرداءِ رضي الله عنه بمَ يتغنَّين قال بالتَّسبيحِ ورُوي إنَّ في الجنَّةِ لأشجاراً عليها أجراسٌ من فضَّةٍ فإذا أرادَ أهلُ الجَّنةِ السَّماعَ بعثَ الله تعالى ريحاً من تحتِ العرشِ فتقعُ في تلكَ الأشجارِ فتحركُ تلك الأجراسَ بأصواتٍ لو سمعها أهلُ الدُّنيا لماتُوا طرباً(7/54)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
{وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} التي من جُمْلتِها هذهِ الآياتُ الناطقةُ بما فُصِّل {وَلِقَاء الاخرة} صرَّح بذلك مع اندارجه في تكذيبِ الآياتِ للاعتناءِ بأمرِه وقولُه تعالى {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب بآياتِه تعالى وبلقاءِ الآخرةِ للإيذانِ بكمالِ تميُّزِهم بذلكَ عن غيرِهم وانتظامِهم في سلكِ المُشاهداتِ وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بالمشارِ إليهِ للإشعارِ ببُعدِ منزلتِهم في الشرِّ أي أولئكَ الموصوفونَ بما فُصِّل من القبائحِ {فِى العذاب مُحْضَرُونَ} على الدّوام لا يغيبونَ عنه أبداً(7/54)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
{فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} {وَلَهُ الحمد في السماوات والارض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} إثرَ ما بُيِّن حالُ فربقي المؤمنينَ العاملينَ للصالحاتِ والكافرينَ المكذِّبينَ بالآياتِ وما لهُما من الثَّوابِ والعذابِ أُمروا بما يُنجِّي من الثَّاني ويُفضِي إلى الأول من تنزيهِ الله عزَّ وجلَّ عن كل مالا يليقُ بشأنِه سبحانَهُ ومن حمدِه تعالى على نعمِه العظامِ وتقديمُ الأولِ على الثَّاني لما أنَّ التخليةَ متقدِّمةٌ على التَّحليةِ والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلَها أي إذا علمتُم ذلك فسبِّحوا الله تعالى أي نزِّهُوه عمَّا ذكر سبحانَهُ أي تسبيحَه اللائق في هذه الأوقاتِ واحمدُوه فإنَّ الإخبارَ بثبوتِ الحمدِ له تعالى ووجوبِه على المميِّزينَ من أهلِ السَّمواتِ والأرضِ في معنى الأمرِ به على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وتوسيطُه بينَ أوقاتِ التَّسبيحِ للاعتناءِ بشأنِه والإشعارِ بأنَّ حقَّهما أنْ يُجمعَ بينَهما كما ينبيءُ عنه قولُه تعالى وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وقولُه تعالى فَسَبّحْ بحمد ربك وقوله صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ حُطَّت خطاياهُ وإنْ كانتْ مثلَ زبد البحر وقوله صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ لم يأتِ أحدٌ يومَ القِيامةِ بأفضلَ ممَّا جاءَ بهِ إلا أحدٌ قالَ مثلَ ما قال اوزاد عليه وقوله صلى الله عليه وسلم كلمتانِ خفيفتانِ على اللَّسانِ ثقيلتانِ في الميزانِ سبحانَ الله وبحمدِه سبحانَ الله العظيمِ وغيرُ ذلكَ ممَّا لا يُحصى من الآياتِ والأحاديثِ وتخصيصُهما بتلكَ الأوقاتِ للدلالة على أن ما يحدثُ فيها من آياتِ قدرته واحكام(7/54)
الروم 19 21 رحمتِه ونعمتِه شواهدُ ناطقةٌ بتنزهِه تعالى واستحقاقِه الحمدَ وموجبةٌ لتسبيحِه وتحميدِه حتماً وقولُه تعالى وعشيَّاً عطفٌ على حينَ تُمسون وتقديمُه على حينَ تُظهرون لمُراعاةِ الفواصلِ وتغييرُ الأسلوبِ لِمَا أنَّه لا يجيءُ منه الفعلُ بمعنى الدُّخولِ في العشى كالمساء والصباحِ والظَّهيرة ولعلَّ السرَّ في ذلك أنَّه ليس من الأوقاتِ التي تختلفُ فيها أحوالُ النَّاس وتتغيرُ تغيراً ظاهراً مصحِّحاً لوصفِهم بالخروجِ عمَّا قبلها والدُّخولِ فيها كالأوقاتِ المذكورةِ فإنَّ كلاًّ منها وقتٌ تتغير فيه الأحوالُ تغيراً ظاهراً أمَّا في المساء والصَّباح فظاهرٌ وأمَّا في الظَّهيرة فلأنَّها وقتٌ يعتاد فيه التَّجرُّدُ عن الثيابِ للقيلولةِ كما مر في سورة النُّور وقيل المرادُ بالتَّسبيح والحمد الصَّلاة لاشتمالِها عليهما وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية جامعةٌ للصلوات الخمس تُمسون صلاتا المغربِ والعشاءِ وتُصبحون صلاةُ الفجرِ وعشياً صلاةُ العصرِ وتُظهرون صلاةُ الظُّهرِ ولذلك ذهبَ الحسنُ إلى أنَّها مدنيةٌ إذ كان يقول إن الواجبَ بمكَّةَ ركعتانِ في أي وقتٍ اتفقتا وإنما فرضت الخمسُ بالمدينة والجمهورُ على أنها فُرضت بمكَّةَ وهو الحقُّ لحديث المعراج وفي آخره هنَّ خمسُ صلواتٍ كل يوم وليلة عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم مَنْ سرَّه أنْ يُكالَ له بالقفيزِ الأَوفى فليقُل فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وحينَ تُصبحون الآيةَ وعنه صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وحينَ تُصبحون إلى قولِه تعالى وكذلك تُخرجونَ أدرك ما فاتَه في يومِه ومن قالَها حينَ يُمسي أدرك ما فاته في ليلتِه وقُرىء حينا تُمسون وحينا تُصبحون أي تُمسون فيه وتُصبحون فيه(7/55)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
{يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} كالإنسان من النطفة والطير من البيضة {وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} النُّطفةَ والبيضةَ من الحيوانِ ويُحْيِى الارض بالنبات بعد موتها يبسها وكذلك ومثلَ ذلك الإخراجُ تُخْرَجُونَ من قبورِكم وقُرىء تَخرُجون بفتح التَّاءِ وضمِّ الرَّاءِ وهذا نوعُ تفصيلٍ لقوله تعالى الله يَبْدَأُ الخلقَ ثُمَّ يُعيده(7/55)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
{ومن آياته} الباهرةِ الدَّالَّةِ على أنَّكم تُبعثون دلالةً أوضحَ ممَّا سبق فإنَّ دلالةَ بدءِ خلقِهم على إعادتِهم أظهرُ من دلالةِ إخراجِ الحيِّ من الميتِ وإخراجِ الميتِ من الحيِّ ومن دلالة إحياءِ الأرضِ بعد موتِها عليها {أَنْ خَلَقَكُمْ} أي في ضمن خلق آدمَ عليه السَّلامُ لما مرَّ مرارا من أنَّ خلقَه صلى الله عليه وسلم منطوٍ على خلق ذرياتِه انطواءً إجمالياً {مّن تُرَابٍ} لم يشَمَّ رائحةَ الحياة قطّ ولا مناسبة بينه وبين ما أنتُم عليه في ذاتِكم وصفاتِكم {ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} أي فاجأتُم بعد ذلك وقت كونِكم بشراً تنتشرون في الأرضِ وهذا مجمل ما فُصِّل في قولِه تعالى يا يها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ الآية(7/55)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
{ومن آياته} الدَّالَّةِ على ما ذُكر من البعث وما بعده من الجزاءِ {أَنْ خَلَقَ لكم} أي(7/55)
الروم 22 لأجلِكم {مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا} فإنَّ خلق أصلِ أزواجكم حواءَ من ضِلْعِ آدمَ عليه السَّلام متضمن لخلقهنَّ من أنفسكم على ما عرفته من التَّحقيقِ أو من جنسكم لا من جنسٍ آخرَ وهو الأوفقُ لقولِه تعالى {لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا} أي لتألفُوها وتميلُوا إليها وتطمئنُّوا بها فإنَّ المُجانسةَ من دَوَاعي التَّضامِّ والتَعارفِ كما أنَّ المخالفةَ من أسبابِ التفرُّقِ والتَّنافرِ {وَجَعَلَ بَيْنَكُم} أي بين الأزواجِ اما على تغليب الرِّجالِ على النِّساءِ في الخطاب أو على حذفِ ظرفٍ معطوفٍ على الظَّرفِ المذكُورِ أي جعل بينكم وبينهنَّ كما مر في قوله تعالى لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رُّسُلِهِ وقيل أو بين أفرادِ الجنسِ أي بينَ الرِّجالِ والنِّساءِ ويأباهُ قولُه تعالى {مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} فإنَّ المرادَ بهما ما كان منهما بعصمةِ الزَّواج قطعاً أي جعلَ بينكم بالزَّواج الذي شرعَه لكم توادَّاً وتراحُماً من غير أنْ يكونَ بينكم سابقةُ معرفةٍ ولا رابطةٌ مصحِّحةٌ للتَّعاطفِ من قرابةٍ أو رحمٍ قيل المودَّةُ والرَّحمةُ من قِبَل الله تعالى والفَرْك من الشَّيطانِ وَعَنِ الحَسَنِ رَحِمَهُ الله المَودَّةُ كِنايةٌ عنِ الجِمَاعِ وَالرَّحمةُ عَنِ الولدِ كما قال تعالى ورحمةً منا {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من خلقِهم من تُرابٍ وخلقِ أزواجِهم من أنفسِهم وإلقاءِ المودَّةِ والرَّحمةِ بينهم وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بالمشارِ إليهِ للإشعارِ ببُعد منزلتِه {لاَيَاتٍ} عظيمةٌ لا يُكتَنه كُنهُها كثيرةً لا يُقَادر قدرُها {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في تضاعيفِ تلك الافاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة والجُملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله مع التنبيهُ على أنَّ ما ذُكر ليس بآيةٍ فذَّةٍ كما ينبىء عنه قوله تعالى ومن آياتِه بل هي مشتملةٌ على آياتٍ شتَّى(7/56)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
(ومن آياته) الدَّالَّةِ على ما ذُكر من أمر البعثِ وما يتلُوه من الجزاءِ {خُلِقَ السماوات والارض} إما من حيثُ إنَّ القادرَ على خلقِهما بما فيهما من المخلوقات بلا مادَّة مستعدةِ لها أظهرُ قدرة على إعادِة ما كان حيَّاً قبل ذلك وإمَّا منْ حيثُ إن خلقهما ومافيهما ليس إلا لمعاشِ البشرِ ومعادِه كما يُفصح عنه قولُه تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً وقولُه تعالَى وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ} أي لغاتِكم بأنْ علَّم كلَّ صنفٍ لغتَهُ وألهمه وضعَها وأقدرَه عليها او اجناس نطقكم وأشكالِه فإنَّك لا تكادُ تسمعُ منطقينِ متساويينِ في الكيفيَّةِ من كلِّ وجهٍ {وألوانكم} ببياضِ الجلدِ وسوادِه وتوسطِه فيما بينهما أو تخطيطات الاعضاء وهيآتها وألوانِها وحُلاها بحيثُ وقعَ بها التمايز بين الاشخاص حتَّى إنَّ التَّوأمينِ مع توافقِ موادِّهما وأسبابِهما والأمورِ المتلاقيةِ لهما في التَّخليقِ يختلفانِ في شيءٍ من ذلك لا محالَة وإنْ كانا في غايةِ التَّشابِه وإنَّما نُظِمَ هذا في سلك الآيات الآفافية من خلقِ السمواتِ والأرضِ مع كونِه من الآياتِ الانفسية الحقيقة بالانتظامِ في سلكِ ما سبق من خلقِ أنفسِهم وأزواجِهم للإيذانِ باستقلالِه والاحترازِ عن توهُّمِ كونِه من تتمَّاتِ خلقِهم {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذكر من خلقِ السمواتِ والأرضِ واختلافِ الألسنةِ والألوانِ {لاَيَاتٍ} عظيمة في أنفسها كثيرة في عددِها {للعالمين} أي المتَّصفين بالعلمِ كما في قولِه تعالى وَمَا يَعْقِلُهَا(7/56)
الروم 23 25 إِلاَّ العالمون وقُرىء بفتحِ اللامِ وفيه دلالةٌ على كمالِ وضوحِ الآياتِ وعدمِ خفائِها على أحدٍ من الخلق كافة(7/57)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
{ومن آياته منامكم بالليل والنهار} لاستراحةِ القوى النَّفسانيةِ وتقوِّي القُوى الطَّبيعيةِ {وابتغاؤكم مّن فَضْلِهِ} فيهما فإنَّ كُلاًّ من المنامِ وابتغاءِ الفضلِ يقعُ في المَلَوينِ وإنْ كان الأغلبُ وقوعَ الأول في الأولِ والثَّاني في الثَّانِي أو منامُكم بالليلِ وابتغاؤُكم بالنَّهارِ كما هو المعتادُ والموافقُ لسائرِ الآيات الواردة في ذلك خَلاَ أنَّه فصَل بين القرينينِ الأولينِ بالقرينينِ الآخيرينِ لأنَّهما زمان والزَّمانُ مع ما وقعَ فيه كشيءٍ واحدٍ مع اعادة اللفِّ على الاتحادِ {إِنَّ فى ذلك لآيات لقوم يَسْمَعُونَ} أي شأنُهم أنْ يسمعُوا الكلامَ سماعَ تفهمٍ واستبصارٍ حيثُ يتأمَّلون في تضاعيفِ هذا البيانِ ويستدلُّون بذلك على شئونه تعالى(7/57)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
{ومن آياته يُرِيكُمُ البرق} الفعلُ إمَّا مقدَّرٌ بأنْ كما في قول من قال ألا ابهذا الزَّاجِري أحضُرَ الوَغَى أي أنْ أحضُرَ أو منزَّلٌ منزلة المصدروبه فُسِّر المثلُ المشهُورُ تسمعُ بالمُعَيديِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ أو هو على حالِه صفةٌ لمحذوفٍ أي آيةٌ يريكم بها البرق كقولِ مَن قال ... وَمَا الدهر الا نارتان فمنها أموتُ وأُخرى أَبتغِي العيشَ أَكْدَحُ ... أي فمنهما تارةً أموتُ فيها وأُخرى أبتغِي فيها أو ومن آياتِه شيءٌ أو سحابٌ يُرِيكُمُ البرقَ خَوْفًا من الصَّاعقةِ أو للمسافرِ {وَطَمَعًا} في الغيثِ أو للمقيمِ ونصبُهما على العِلَّةِ لفعلٍ يستلزمُه المذكورُ فإنَّ إراءتهم البرقَ مستلزمةٌ لرؤيتِهم إيَّاه أو للمذكورِ نفسِه على تقديرِ مضافٍ نحو إراءةِ خوفٍ وطمعٍ أو على تأويلِ الخوفِ والطمعِ بالإخافةِ والإطماعِ كقولك فعلنه رغماً للشَّيطانِ أو على الحالِ نحو كلَّمتُه شِفاهاً {وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مَاءً} وقُرىء بالتَّخفيفِ {فَيُحْيِى بِهِ الارض} بالنبات {بعد موتها} يُبسها {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإنَّها من الظُّهورِ بحيث يكفي في إدراكِها مجرَّدُ العقل عند استعمالِه في استنباطِ أسبابِها وكيفيَّةِ تكوُّنِها(7/57)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
{ومن آياته أَن تَقُومَ السماء والارض بِأَمْرِهِ} أي بإرادتِه تعالى لقيامهِما والتَّعبيرُ عنها بالأمر للدِّلالةِ على كمال القدرة والغني عن المبادى والأسبابِ وليس المرادُ بإقامتهما إنشاءهما لأنَّه قد بُيِّن حاله بقولِه تعالى وَمِنْ آياته خَلْقُ السموات والارض ولا إقامتهما بغير مقيم محسوسٍ كما قيل فإن ذلك من تتماتِ إنشائِهما وإنْ لم يصرَّحْ به تعويلاً على ما ذُكر في غير موضعٍ من قوله تعالى خَلَقَ السموات بِغَيْرِ عمد ترونها الآية(7/57)
الروم 26 27 بل قيامَهما واستمرارَهما على ما هُما عليه إلى أجلهما الذي نطقَ به قوله تعالى فيما قبل ما خلق السموات والأرض وما بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وحيث كانتْ هذه الآيةُ متأخرةً عن سائرِ الآياتِ المعدودةِ متَّصلةً بالبعثِ في الوجودِ أُخرت عنهنَّ وجُعلت متَّصلةً به في الذِّكرِ أيضاً فقيلَ {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الارض إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} فإنه كلامٌ مسوق للاخبار بوقوعِ البعثِ ووجودِه بعد انقضاء أجل قيامِهما مترتِّب على تعداد آياتِه الدَّالَّةِ عليه غير منتظمٍ في سلكها كما قيا كأنَّه قيل ومن آياتِه قيامُ السَّمواتِ والأرضِ على هيآتهما بأمرِه تعالى إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامِهما ثمَّ إذا دعاكم أي بعد انقضاءِ الأجلِ من الأرض وأنتُم في قبورِكم دعوة واحدة بأنْ قال أيُّها الموتى اخرجُوا فاجأتم الخروجَ منها وذلك قولُه تعالى يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى ومن الأرضِ متعلق بدعاكُم إذ يكفي في ذلك كون المدعوِّ فيها يقال دعوته من أسفلِ الوادِي فطلع إليَّ لا بتخرجون لأنَّ ما بعد إذا لا يعملُ فيما قبلَها(7/58)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
{وَلَهُ} خاصة {مَن فِى السماوات والارض} من الملائكةِ والثَّقلين خَلقاً ومُلكاً وتصرُّفاً ليس لغيره شركة في ذلك بوجهٍ من الوجوه {كُلٌّ لَّهُ قانتون} أي منقادُون لفعله لا يمتنعون عليه في شأن من شئونه تعالى(7/58)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{وَهُوَ الذى يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد موتِهم وتكريره لزياة التَّقريرِ والتَّمهيدِ لما بعده من قولِه تعالى {وَهُوَ أهون عليه} أي بإضافة إلى قُدَرِكم والقياس على أصولِكم وإلا فُهما عليه سواءٌ وقيل أهونُ بمعنى هَيِّنٌ وتذكير الضمير مع رجوعِه إلى الإعادة لما أنَّها مؤَّولةٌ بأنْ يُعيد وقيل هو راجعٌ إلى الخلقِ وليس بذاك وأما ما قيل من أن الإنشاء بطريقِ التَّفضل الذي يتخيَّر فيه الفاعلُ بين الفعل والتَّرك والإعادةُ من قبيلِ الواجبِ الذي لا بدَّ من فعله حتماً فكان أقربَ إلى الحصولِ من الإنشاءِ المترددِ بين الحصولِ وعدمِه فبمعزلٍ من التَّحصيل إذ ليس المرادُ بأهونيةِ الفعل أقربيَّتَه إلى الوجود باعتبار كثرةِ الأمورِ الدَّاعية للفاعل إلى إيجادِه وقوَّة اقتضائها لتعلق قدرته به بل أسهلية تأتَّيه وصدوره عنه بعد تعلق قدرته بوجوده وكونِه واجباً بالغيرِ ولا تفاوتَ في ذلك بين أنْ يكون ذلك التعليق بطريق الإيجابِ أو بطريقِ الاختيارِ {وَلَهُ المثل الاعلى} أي الوصفُ الأعلى العجيبُ الشأنِ من القدرة العامَّةِ والحكمة التَّامةِ وسائر صفاتِ الكمال التي ليس لغيرِه ما يُدانيها فضلاً عمَّا يساويها ومن فسره بقول لا إله إلا الله اراد به الوصف بالواحدانية {في السماوات والارض} متعلق بمضمونِ الجملة المتقدِّمةِ على معنى أنَّه تعالى قد وُصف به وعُرف فيهما على ألسنةِ الخلائقِ وألسنةِ الدَّلائلِ وقيل متعلق بالا على وقيلَ بمحذوفٍ هُوَ حالٌ منه أو من المثل أو من ضميرِه في الأعلى {وَهُوَ العزيز} القادر الذي لا يعجزُ عن بدء ممكن واعادته(7/58)
الروم 28 29 {الحكيم} الذي يجري الأفعالَ على سَنَنِ الحكمة والمصلحةِ(7/59)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
{ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً} يتبيَّن به بطلانُ الشِّركِ {مّنْ أَنفُسِكُمْ} أي مُنتزعاً من أحوالِها التي هي أقربُ الأمورِ إليكم وأعرفُها عندكم وأظهرُها دلالةً على ما ذُكر من بطلان الشِّرك لكونها بطريقِ الأولوية وقولُه تعالى {هَلْ لَّكُمْ} الخ تصوير للمثلِ أي هَلْ لَّكُمْ {مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم} من العبيدِ والإماءِ {مّن شركاء في ما رزقناكم} من الأموالِ وما يجري مجراها مَّما تتصرَّفون فيها فمِن الأُولى ابتدائيةٌ والثَّانيةُ تبعيضيةٌ والثَّالثةُ مزيدةٌ لتأكيدِ النفيُ المستفادِ من الاستفهامِ فقوله تعالى {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} تحقيقٌ لمعنى الشركة وبيان لكونهم وشركائهم متساوين في التَّصرف فيما ذُكر من غير مزيَّةِ لهم عليها على أنَّ هناك محذوفاً معطوفاً على أنتُم لا أنَّه عامٌّ للفريقين بطريق التَّغليب أي هل ترضَون لأنفسكم والحالُ أنَّ عبيدَكم أمثالُكم في البشريةِ وأحكامِها أنْ يشاركوكم فيما رزقناكم وهو معار لكم فأنتم وهم فيه سواءٌ يتصرَّفون فيه كتصرُّفكم من غير فرقٍ بينكم وبينهم {تَخَافُونَهُمْ} خبرٌ آخرُ لأنتم أو حالٌ من ضميرِ الفاعل في سواءٌ أي تهابون أنْ تستبدُّوا بالتَّصرُّف فيه بدون رأيهم {كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي خيفةً كائنةً مثلَ خيفتِكم من الاحرار المساهمين لكم فيما ذُكر والمعنى نفيُ مضمونِ ما فُصِّل من الجملةِ الاستفهامَّيةِ أي لا ترضَون بأنْ يشاركَكم فيما هو معارٌ لكم مماليكُكم وهم أمثالُكم في البشريةِ غيرُ مخلوقين لكُم بل لله تعالى فكيف تُشركون به سبحانه في المعبوديةِ التي هي من خصائصِه الذاتيةِ مخلوقَه بل مصنوعَ مخلوقِه حيثُ تصنعونَه بأيديكم ثم تعبدونَه {كذلك} أي مثلَ ذلك التَّفصيلِ الواضح {نُفَصّلُ الآيات} أي نبيِّنها ونوضِّحها لا تفصيلاً أدنى منه فإنَّ التَّمثيل تصويرٌ للمعاني المعقولة بصورةِ المحسوسِ وإبرازٌ لأوابدِ المُدركاتِ على هيئة المأنوسِ فيكون في غايةِ الإيضاحِ والبيان {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي يستعملون عقولَهم في تدبُّرِ الأمور وتخصيصُهم بالذِّكرِ مع عموم تفصيلِ الآياتِ للكلِّ لأنَّهم المنتفعون بها(7/59)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
{بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ} إعراضٌ عن مخاطبتهم ومحاولةُ إرشادِهم إلى الحقِّ بضربِ المثلِ وتفصيلِ الآياتِ واستعمالِ المقدِّماتِ الحقَّةِ المعقولةِ وبيانٌ لاستحالةِ تبعيتهم للحقِّ كأنَّه قيل لم يعقلوا شيئاً من الآيات المفصلة بل اتَّبعوا {أَهْوَاءهُمْ} الزائغةَ ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتَّسجيلِ عليهم بأنَّهم في ذلك الاتباعِ ظالمون واضعون للشيءِ في غيرِ موضعِه أو ظالمون لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالدِ {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي جاهلين ببطلانِ ما أتَوَا مكبِّين عليه لا يَلويهم عنه صارفٌ حسبما يصرِّف العالم إذا اتبع الباطل علمه ببطلانه {فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ الله} أي خلقَ فيه الضلالَ بصرفِ اختيارِه إلى كسبِه أي لا يقدرُ على هدايتِه أحدٌ {وَمَا لَهُمْ} أي لمن أضلَّه الله تعالى والجمعُ باعتبارِ المعنى {مّن ناصرين} يُخلِّصونهم من الضَّلالِ ويحفظونهم من تبعانه وآفاتِه على معنى ليس لواحدٍ منهم ناصرٌ واحدٌ على ما هو قاعدةُ مقابلة الجمع بالجمع(7/59)
الروم(7/60)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
30 - 32 {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ} تمثيلٌ لإقباله على الدِّين واستقامتهِ وثباتِه عليه واهتمامِه بترتيبِ أسبابِه فإنَّ من اهتمَّ بشيءٍ محسوسٍ بالبصر عقدَ عليه طرفَه وسدَّد إليه نظره وقوم له وجهة مُقبلاً به عليه أي فقوم وجهك له وعدله غيرَ ملتفتٍ يميناً وشمالاً وقولُه تعالى {حَنِيفاً} حالٌ من المأمورِ أو من الدِّين {فِطْرَةَ الله} الفطرةُ الخلِقةُ وانتصابُها على الإغراءِ أي الزمورا أو عليكم فطرةَ الله فإن الخطاب للكل كما يفصحُ عنه قولُه تعالى منيبين والإفراد في أقِم لما أنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم امام الامة فأمره صلى الله عليه وسلم مستتبع لأمرِهم والمرادُ بلزومِها الجريانُ على موجبِها وعدمُ الإخلالِ به باتباعِ الهَوَى وتسويلِ الشَّياطينِ وقيل على المصدرِ أي فطرَ الله فطرةً وقولُه تعالى {التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} صفةٌ لفطرةَ الله مؤكدةٌ لوجوبِ الامتثالِ بالأمرِ فإنَّ خلقَ الله النَّاسَ على فطرتِه التي هي عبارةٌ عن قبولِهم للحقَّ وتمكُّنُهم من إدراكِه أو عن ملَّة الإسلامِ من موجباتِ لزومِها والتمسُّك بها قطعاً فإنَّهم لو خُلُّوا وما خُلقوا عليه أدَّى بهم إليها وما اختاروا عليها ديناً آخر ومن غَوى منهم فبإغواءِ شياطين الإنسِ والجنِّ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم حكايةٌ عن ربَّ العِزَّةِ كلَّ عبادِي خلقتُ حنفاءَ فاجتالتْهُم الشياطينُ عن ديِنهم وأمرُوهم أنْ يُشركوا بي غيري وقوله صلى الله عليه وسلم كلُّ مولودٍ يُولد على الفطرةِ حتَّى يكونَ أَبَواه هُما اللذانِ يهوِّدانه ويُنصِّرانِه وقولُه تعالى {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} تعليلٌ للأمرِ بلزومِ فطرتِه تعالَى أو لوجوبِ الامتثالِ به أي لا صَّحةَ ولا استقامةَ لتبديلةِ بالإخلالِ بموجبِه وعدمِ ترتيبِ مقتضاهُ عليه باتِّباعِ الهَوَى وقبولِ وسوسةِ الشَّيطانِ وقيل لا يقدِرُ أحدٌ على ان يغير فلا بد حينئذٍ من حملِ التَّبديلِ على تبديلِ نفسِ الفطرةِ بإزالتِها رأساً ووضعِ فطرةٍ أُخرى مكانَها غيرِ مصححةٍ لقبولِ الحقِّ والتمكنِ من إدراكِه ضرورةَ أنَّ التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعاً فالتعليل حينئذ من جهة أنَّ سلامة الفطرةِ متحققةٌ في كلِّ أحدٍ فلا بدَّ من لزومِها بترتيبِ مُقتضاها عليها وعدمُ الإخلالِ به بما ذُكر من اتِّباعِ الهوى وخطواتِ الشَّيطانِ ذلك إشارةٌ إلى الدِّين المأمورِ بإقامةِ الوجهِ له أو إلى لزومِ فطرةِ الله المستفادِ من الاغراءِ أو إلى الفطرةِ إنْ فسِّرت بالملَّة والتَّذكيرُ بتأويلِ المذكورِ أو باعتبارِ الخبرِ {الدين القيم} المُستوِي الذي لا عِوَجَ فيه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلكَ فيصدُّون عنه صُدوداً(7/60)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
{منيبين إِلَيْهِ} حالٌ من الضَّميرِ في النَّاصبِ المقدَّرِ لفطره الله أو في أقِم لعمومِه للأمَّةِ حسبما أُشير إليهِ وما بينَهما اعتراضٌ أي راجعين إليه من أنابَ إذَا رجعَ مرَّةً بعدَ أُخرى وقولُه تعالى {واتقوه} أي من مخالفةِ أمرهِ عطفٌ على المقدَّرِ المذكورِ وكذا قولُه تعالى {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين} المبدِّلين لفطرةِ الله تعالى تبديلاً(7/60)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
{مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} بدلٌ من المشركينَ بإعادةِ الجارِّ وتفريقُهم لدينهم اختلافُهم فيما يعبدونه على(7/60)
الروم 33 37 اختلافِ أهوائِهم وفائدةُ الإبدالِ التَّحذيرُ عن الانتماءِ إلى حزبٍ من أحزابِ المشركينَ ببيان أنَّ الكلَّ على الضَّلالِ المبينِ وقُرىء فارقُوا أي تركُوا دينَهم الذي أُمروا به {وَكَانُواْ شِيَعاً} أي فِرقاً تشايعُ كلٌّ منها إمامَها الذي أضلَّها {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ} من الدينِ المعوجِ المؤسَّس على الرَّأيِ الزَّائغِ والزَّعمِ الباطلِ {فَرِحُونَ} مسرورون ظنَّاً منهم أنَّه حقٌّ وأَنَّى له ذلك فالجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله من تفريقِ دينِهم وكونِهم شيعاً وقد جُوِّز أنْ يكونَ فرحون صفةً لكلُّ على أنَّ الخبرَ هو الظرفُ المقدَّمُ أعني من الذين فرَّقُوا ولا يخفى بعدُه(7/61)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
{وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ} أي شدَّةٌ {دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعينَ إليه من دعاءِ غيرِه {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً} خلاصاً من تلك الشدَّة {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ} الذي كانُوا دَعَوه منيبين إليه {يُشْرِكُونَ} أي فاجأ فريقٌ منهم الإشراكَ وتخصيصُ هذا الفعلِ ببعضِهم لما أنَّ بعضَهم ليسُوا كذلك كما في قوله تعالى فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ أي مقيمٌ على الطَّريقِ القصدِ أو متوسط في الكفر لانزجاره في الجُملة(7/61)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
{ليكفروا بما آتيناهم} اللامُ فيه للعاقبةِ وقيل للأمرِ التَّهديديِّ كقولِه تعالى {فَتَمَتَّعُواْ} غيرَ أنَّه التفتَ فيه للمبالغةِ وقرىء وليتمتَّعوا {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبةَ تمتُّعِكم وقُرىء بالياءِ على أنَّ تمتَّعوا ماضٍ والالتفاتُ إلى الغيبة في قوله تعالى(7/61)
أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
{أم أنزلنا عليهم} للإبذان بالإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتِهم لغيرِهم بطريقِ المُباثّةِ {سلطانا} أي حجَّةً واضحةً وقيل ذا سلطانٍ أي مَلَكاً معه برهانٌ {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} تكلُّمَ دلالةٍ كما في قولِه تعالى هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق أو تكلُّمَ نطقٍ {بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} بإشراكهم به تعالى أو بالأمر الذي بسببه يُشركون(7/61)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
{وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} أي نعمة من صَّحةٍ وسَعَةٍ {فَرِحُواْ بِهَا} بَطَراً وأشَراً لا حَمْداً وشُكْراً {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} شدَّةٌ {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بشؤمِ معاصِيهم {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فاجئوا القُنوطَ من رحمتهِ تعالى وقرىء بكسر النون(7/61)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} أي ألم ينظرُوا ولم يشاهدُوا {أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} فما لهم لم يشكرُوا ولم يحتسبُوا في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ كالمؤمنينَ {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فيستدلُّون(7/61)
الروم 38 41 بها على كمالِ القدرةِ والحكمة(7/62)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
{فآت ذَا القربى حَقَّهُ} من الصلةِ والصدقةِ وسائرِ المَبَرَّاتِ {والمسكين وابن السبيل} ما يستحقَّانِه والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لمن بُسط له كما تُؤذن به الفاءُ {ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله} ذاتَه أو جهتَه ويقصدون بمعروفهم إيَّاه تعالى خالصاً أو جهةَ التقربِ إليه لا جهةً أُخرى {وأولئك هُمُ المفلحون} حيث حصَّلْوا بما بُسط لهم النَّعيمَ المُقيمَ(7/62)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
{وما آتيتم مّن رِباً} زيادةٌ خاليةٌ عن العوضِ عند المعاملةِ وقُرىء أتيتُم بالقصرِ أي غشيتمُوه أو رهقتمُوه من إعطاء ربا {ليربو فِى أَمْوَالِ الناس} ليزيدَ ويزكو في أموالِهم {فَلاَ يربو عند الله} أي لايبارك فيه وقُرىء لتربُوا أي لتزيدُوا أو لتصيرُوا ذوي ربا {وما آتيتم مّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله} أي تبتغُون به وجهَه تعالى خالِصاً {فَأُوْلَئِكَ هم المضعفون} أي ذووا الأضعافِ من الثَّوابِ ونظيرُ المُضْعف المُقْوى والموسر لذي القوة واليسارِ أو الذين ضعّفوا ثوابَهم وأموالَهم بالبركةِ وقُرىء بفتحِ العينِ وفي تغييرِ النَّظمِ الكريمِ والالتفاتِ من الجزالة مالايخفي(7/62)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
{الله الذى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء} أثبت له تعالى لوازمَ الأُلوهيَّةِ وخواصَّها ونفاها رأساً عَّما اتخذوه شركاء له تعالى من الأصنامِ وغيرِها مؤكِّداً بالإنكارِ على ما دلَّ عليه البرهانُ والعيانُ ووقع عليه الوفاقُ ثم استنتج منه تنزهه عن الشُّركاءِ بقولِه تعالى {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقد جُوِّز أن يكونَ الموصولُ صفةً والخبرُ هل من شركائِكم والرابطُ قولُه تعالى مِن ذلِكم لأنه بمعنى من أفعاله ومن الأولى والثانية تفيدانِ شيوعَ الحُكمِ في جنسِ الشُّركاءِ والأفعالِ والثَّالثة مزيدةٌ لتعميمِ المنفيِّ وكل منها مستقلة بالتأكيدِ وقُرىء تُشرِكون بصيغةِ الخطابِ(7/62)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
{ظهر الفساد فى البر والبحر} كالجدبِ والمَوَتانِ وكثرةِ الحَرَقِ والغَرَقِ وإخفاقِ الغاصةِ ومحقِ البركاتِ وكثرةِ المضارِّ أو الضَّلالةِ والظُّلمِ وقيل المرادُ بالبحرِ قُرى السَّواحلِ وقُرى البحورِ {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس} بشؤمِ مَعَاصيهم أو بكسبِهم إيَّاها وقيل ظهر الفساد فى البر بقتلِ قابيلَ أخاهُ هابيلَ وفي البحرِ بأنَّ جَلَندى(7/62)
الروم 42 46 كانَ يأخذُ كلَّ سفينةٍ غَصْباً {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذى عَمِلُواْ} أي بعضَ جزائِه فإن اتمامه في الآخرةِ واللامُ للعلَّةِ أو للعاقبةِ وقُرىء لنُذيقهم بالنَّونِ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عمَّا كانُوا عليه(7/63)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
{قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ} ليشاهدُوا آثارَهم {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} استئنافٌ للدَّلالة على أنَّ ما أصابَهم لفشوِّ الشركِ فيما بينَهم أو كان الشركُ في أكثرِهم وما دونه من المَعاصي في قليلٍ منهم(7/63)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم} أي البليغِ الاستقامة {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ} لا يقدِرُ أحدٌ على ارده {من الله} متعلق بيأني أو بمردِّ لأنه مصدرٌ والمعنى لا يردُّه الله تعالى لتعلُّقِ إرادتِه القديمةِ بمجيئِه {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أصله يتصدَّعون أي يتفرَّقُون فريقٌ فى الجنة وفريق فى السَّعيرِ(7/63)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
{مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي وبال كفر وهو النَّارُ المؤبَّدة {وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أي يسوون منزلاً في الجنَّة وتقديمُ الظَّرفِ في الموضعينِ للدِّلالة على الاختصاصِ(7/63)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
{ليجزي الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات من فضله} متعلق بيصدَّعُون وقيل بيمهدون أي يتفرَّقون بتفريقِ الله تعالى فريقينِ ليُجزي كلاً منهما بحسبِ أعمالِهم وحيث كان جزاءُ المؤمنين هو المقصودَ بالذَّاتِ أُبرز ذلك في معرضِ الغايةِ وعبر عنه بالفضلِ لما أَنَّ الإثابةَ بطريق التفضل لا الوجوبِ وأُشير إلى جزاءِ الفريقِ الآخرِ بقولِه تعالى {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين} فإنَّ عدمَ محبتهِ تعالى كنايةٌ عن بُغضهِ الموجبِ لغضبهِ المستتبعِ للعقوبةِ لا محالة(7/63)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
{ومن آياته أَن يُرْسِلَ الرياح} أي الشَّمالَ والصَّبَا والجَنوبَ فإنَّها رياحُ الرَّحمةِ وأما الدَّبُورُ فريحُ العذابِ ومنه قولُه صلى الله عليه وسلم اللهمَّ اجعلْهَا رياحاً ولا تجعلْها ريحاً وقُرىء الريحَ على إرادةِ الجنسِ {مبشرات} بالمطرِ {وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ} وهي المنافعُ التَّابعةُ لها وقيل الخصبُ التَّابعُ لنزولِ المطرِ المسبَّبِ عنها أو الرَّوح الذي هو مع هبُوبِها واللامُ متعلقةٌ بيرسل والجملةُ معطوفةٌ على مبشِّراتٍ على المعنى كأنه قيل ليبشركم بها وليذقكم أو بمحذوفٍ يُفهم من ذكرِ الإرسالِ تقديرُه وليذيقكم وليكون كذا وكذا يُرسلها لا لأمرٍ آخرَ لا تعلق له بمنافعِكم {وَلِتَجْرِىَ الفلك} بسوقِها {بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} بتجارةِ البحرِ {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولتشكروا نعمةَ الله فيما ذُكر من(7/63)
الروم 47 50 الغاياتِ الجليلةِ(7/64)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} كما أرسلناك إلى قومك {فجاؤوهم بالبينات} أي جاء كلُّ رسولٍ قومَه بما يخصُّه من البيِّنات كما جئتَ قومَك ببيِّناتك والفاءُ في قولِه تعالى {فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ} فصيحةٌ أي فكذَّبُوهم فانتقمنَا منهم وإنَّما وضع ضميرِهم الموصولُ للتنبيه على مكانِ المحذوفِ والإشعارِ بكونِه علَّةً للانتقامِ وفي قوله تعالى {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} مزيدُ تشريفٍ وتكرمةٍ للمؤمنينَ حيثُ جُعلوا مستحقِّين على الله تعالَى أنْ ينصرَهم وإشعارٌ بأنَّ الانتقامَ من الكفرةِ لأجلهِ وقد يُوقف على حقَّاً على أنَّه متعلق بالانتقامِ ولعلَّ توسيط الآيةِ الكريمةِ بطريقِ الاعتراضِ بين ما سبَقَ وما لَحِق من أحوالِ الرِّياحِ وأحكامِها لإنذارِ الكَفَرةِ وتحذيرِهم عن الإخلالِ بمواجبِ الشُّكرِ المطلوبِ بقولِه تعالى لعلَّكم تشكرُون بمقابلةِ النعمِ المعدودةِ المنوطةِ بإرسالِها كيلا يحلَّ بهم مثلُ ماحل بأولئك الأممِ من الانتقامِ(7/64)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
{الله الذى يُرْسِلُ الرياح} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما أُجمل فيما سبقَ من أحوالِ الرِّياحِ {فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ} متصلاً تارةً {فِى السماء} في جوِّها {كَيْفَ يَشَاء} سائراً وواقفاً مُطبقاً وغيرَ مطبقٍ من جانبٍ دون جانبٍ إلى غيرِ ذلك {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} تارةً أُخرى أي قِطعاً وقُرىء بسكونِ السِّينِ على أنَّه مخففٌ جمعُ كِسْفة أو مصدرٌ وصفَ به {فَتَرَى الودق} المطرَ {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} في التارتين {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي بلادَهم وأراضيَهم {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} فاجئوا الاستبشارَ بمجيء الخِصْبِ(7/64)
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
{وَإِن كَانُواْ} إنْ مخففةٌ منْ أنَّ وضمير الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ أي وإنَّ الشَّأنَ كانَوا {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي المطرُ {مِن قبله} تكرير للتأكد والإيذانِ بطولِ عهدِهم بالمطرِ واستحكامِ يأسِهم منه وقيل الضَّميرُ للمطرِ أو السَّحابِ أو الإرسالِ وقيل للكسف على القراءةِ بالسكون وليس بواضحٍ وأقربُ من ذلك أنْ يكونَ الضَّميرُ للاستبشارِ ومن متعلقة بينزل لتفيد سرعةَ تقَلبِ قلوبِهم من اليأسِ إلى الاستبشار بالإشارةِ إلى غايةِ تقاربِ زمانيهما ببيان اتصال اليأس بالئزيل المتصل بالاستبشار بشهادة إذا الفجائية {لَمُبْلِسِينَ} خبرُ كانُوا واللامُ فارقةٌ أي آيسين(7/64)
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
{فانظر إلى آثار رَحْمَةِ الله} المترتبةِ على تنزيلِ المطرِ من النباتِ والأشجارِ وأنواعِ الثمارِ والفاءُ للدِلالة على سرعةِ ترتبها عليه وقرىء أثر(7/64)
الروم 51 53 بالتوَّحيدِ وقولُه تعالى {كَيْفَ يحيي} أي الله تعالى {الارض بَعْدَ مَوْتِهَا} في حيِّزِ النِّصبِ بنزعِ الخافضِ وكيفَ معلِّقٌ لانظرْ أي فانظُرْ إلى إحيائِه البديعِ للأرضِ بعد موتِها وقيلَ على الحاليَّةِ بالتَّأويلِ وأيَّاً ما كان فالمرادُ بالأمرِ بالنَّظرِ التنبيهُ عَلَى عظمِ قُدرتِه تعالى وسعةِ رحمته ما فيه من التَّمهيدِ لما يعقبُه مِنْ أمرِ البعث وقرىء تحي بالتَّأنيثِ على الإسنادِ إلى ضميرِ الرَّحمةِ {إِنَّ ذَلِكَ} العظيمُ الشأنِ الذي ذُكر بعض شئونه {لَمُحْيِى الموتى} لقادرٌ على إحيائِهم فإنَّه إحداثٌ لمثلِ ما كانَ في موادِّ أبدانِهم من القُوى الحَيَوانيَّةِ كما أنَّ إحياءَ الأرضِ إحداثٌ لمثلِ ما كانَ فيها منَ القُوى النباتيَّةِ أو لمحييهم البتةَ وقولُه تعالى {وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله أي مبالغٌ في القُدرةِ على جميع الأشياء التي من جملتها إحياؤُهم لما أنَّ نسبةَ قُدرتِه إلى الكُلِّ سواءٌ(7/65)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ} أي الأثرَ المدلُولَ عليه بالآثار او النبات المعبر عنه بالآثارِ فإنَّه اسمُ جنسٍ يعمُّ القليلَ والكثيرَ {مُصْفَرّاً} بعد خُضرتِه وقد جُوِّز أنْ يكونَ الضَّميرُ للسَّحابِ لأنَّه إذا كان مُصفرَّاً لم يُمطر ولا يخفى بعدُه واللامُ في لئن موطِّئةٌ للقسمِ دخلتْ على حرفِ الشَّرطِ والفاءُ في فَرأَوه فصيحة واللامُ في قولِه تعالى {لَّظَلُّواْ} لامُ جواب القسم ساد مسدَّ الجوابينِ أي وبالله لئنْ أرسلنا ريحاً حارةً أو باردةً فضربتْ زرْعَهُم بالصَّفارِ فرأَوَه مُصفرَّاً ليظلنَّ {مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} من غيرِ تلعثُمٍ وفيه منْ ذمِّهم بعد تثبيتِهم وسرعةِ تزلزلِهم بين طَرَفيْ الإفراطِ والتفريطِ مالا يخفى حيثُ كان الواجبُ عليهم أن يتوكلوا على الله تعالى في كل حال ويلجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبسَ عنهم القطرُ ولا ييأسوا من رَوْح الله تعالى ويبادرُوا إلى الشُّكرِ بالطَّاعةِ إذا أصابَهم برحمتِه ولا يفرِّطوا في الاستبشارِ وأنْ يصبرُوا على بلائِه إذا اعترى زرعَهم آفةٌ ولا يكفرُوا بنعمائِه فعكسُوا الأمرَ وأبَوا ما يُجديهم وأَتَوا بما يُرديهم(7/65)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
{فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} لما انهم مثلهم لانسداد مشاعرِهم عن الحقِّ {وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} تقييدُ الحكم بما ذُكر لبيانِ كمالِ سوءِ حالِ الكفرةِ والتنبيه على أنَّهم جامعُون لخصلتي السُّوءِ نبوِّ أسماعِهم عن الحقَّ وإعراضِهم عن الإصغاءِ إليهِ ولو كانَ فيهم إحداهُما لكفاهُم ذلك فكيفَ وقد جمعُوهما فإنَّ الأصمَّ المقبلَ إلى المتكلِّمِ ربَّما يفطَنُ من أوضاعِه وحركاتِه لشىءٍ من كلامِه وإنْ لم يسمعْهُ أصلاً وأمَّا إذا كانَ مُعرضاً عنه فلا يكادُ يفهمُ منه شيئاً وقُرىء بالياءِ المفتوحةِ ورفعِ الصُّمِّ(7/65)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
{وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم} سمُّوا عُمياً إما لفقدِهم المقصودِ الحقيقيِّ من الإبصارِ أو لعَمَى قلوبِهم وقُرىء تهدِي العميَ {إِن تُسْمِعُ} أي ما تُسمِعُ {إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} فإنَّ إيمانَهم يدعُوهم إلى التَّدبرِ فيها وتلقِّيها بالقَبُولِ إو إلاَّ من يُشارفُ الإيمانَ بها ويُقبل عليها إقبالاً لائقاً {فَهُم مُّسْلِمُونَ} مُنقادُون لما تأمرُهم به من الحق(7/65)
الروم(7/66)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
54 - 57 {الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ} مبتدأٌ وخبرٌ أي ابتدأكُم ضعفاءَ وجعلَ الضَّعفَ أساسَ أمرِكم كقولِه تعالى وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً أي خلقكُم من أصلٍ ضعيفٍ هو النُّطفة {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} وذلك عند بلوغِكم الحُلُمَ أو تعلقِ الرُّوح بأبدانِكم {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} إذا أخذَ منكم السنُّ وقُرىء بضمِّ الضَّادِ في الكلِّ وهو أَقوى لقولِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قرأتها على رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فأقرأنِي من ضُعفٍ وهُما لغُتانِ كالفَقْرِ والفُقْرِ والتَّنكيرُ معَ التَّكريرِ لأنَّ المتقدِّمَ غيرُ المتأخرِ {يَخْلُقُ مَا يشاء} من الأشياء التي من جُمْلتها ما ذكِرَ منَ الضَّعفِ والقُوَّةِ والشَّيبةِ {وَهُوَ العليم القدير} المبالغُ في العلمِ والقدرةِ فإنَّ التَّرديدَ فيما ذُكر من الأطوارِ المختلفةِ من أوضحِ دلائلِ العلمِ والقدرةِ(7/66)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} أي القيامةُ سُمِّيتْ بها لأنَّها تقوم في آخرِ ساعةٍ من ساعاتِ الدُّنيا أو لأنَّها تقعُ بغتة وصارتْ عَلَماً لها كالنَّجمِ للثُّريَّا والكوكَبِ للزُّهْرةِ {يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ} أي في القبُورِ أو في الدُّنيا والأولُ هُو الأظهرُ لأنَّ لبثَهم مُغيَّا بيومِ البعثِ كما سيأتي وليسَ لبثُهم في الدُّنيا كذلكَ وقيلَ فيما بين فناءِ الدُّنيا والبعثِ وانقطاع عذابِهم وفي الحديثِ ما بينَ فناءِ الدُّنيا وَالبَعثِ أربعونَ وهُو محتملٌ للسَّاعاتِ والأيَّامِ والأعوامِ وقيلَ لا يعلم أهي أربعونَ سنة أو أربعونَ ألفِ سنة {غَيْرَ سَاعَةٍ} استقلُّوا مدَّة لبثهم نسياناً أو كذباً أو تخميناً {كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ} مثلَ ذلكَ الصَّرفِ كانوا يُصرفون في الدُّنيا عن الحقِّ والصِّدقِ(7/66)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
{وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان} في الدُّنيا من الملائكةِ والإنسِ {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله} في علمهِ أو قضائهِ أو ما كتبَه وعيَّنه أو في اللوح أو القرآن وهو قوله تعالى وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ {إلى يَوْمِ البعث} ردُّوا بذلك ما قالُوه وأيَّدوه باليمين كأنَّهم من فرطِ حَيرتِهم لم يدرُوا أنَّ ذلك هو البعثُ الموعودُ الذي كانُوا ينكرونَه وكانُوا يسمعون أنَّه يكونُ بعد فناءِ الخلقِ كافَّة ويقدرون لذلك زماناً مديداً وإنْ لم يعتقدُوا تحقُّقه فردَّ العالِمونَ مقالتَهم ونبَّهوهم على أنَّهم لبثُوا إلى غايةٍ بعيدةٍ كانُوا يسمعونَها وينكرونَها وبكَّتوهم بالإخبارِ بوقوعِها حيثُ قالُوا {فهذا يَوْمُ البعث} الذي كنتُم تُوعدون في الدُّنيا {ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أنَّه حقٌّ فتستعجلون به استهزاءً والفاءُ جوابُ شرطٍ محذوفٍ كما في قول من قالَ ... قالُوا خراسانُ أقْصَى ما يرادبنا ... ثمَّ القُفولُ فقد جِئنا خُراساناً ...(7/66)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ} أي عذرُهم وقُرىء تنفعُ بالتاء محافظةً على ظاهرِ اللفظِ وإنْ توسط(7/66)
الروم 58 60 بينهما فاصلٌ {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} لا يُدعون إلى ما يقتضِي إعتابَهم أي إزالةَ عَتْبِهم من التَّوبة والطَّاعةِ كما دُعوا إليه في الدُّنيا من قولِهم استعتبني فلانٌ فاعتبتُه أي استرضانِي فأرضيته(7/67)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرآن مِن كُلّ مَثَلٍ} أي وبالله لقد بينَّا لهم كل حال ووصفنالهم كلَّ صفةٍ كأنَّها في غرابتها مَثَلٌ وقصصنا عليهم كلَّ قصَّةٍ عجيبةِ الشَّأنِ كصفةِ المبعوثينَ يومَ القيامةِ وقصتهم وما يقولُونَ وما يُقال لهم ويفعلُ بهم من ردِّ اعتذارِهم {وَلَئِن جئتهم بآية} من آياتِ القُرآنِ النَّاطقةِ بأمثالِ ذلك {لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ} لفرطِ عتوِّهم وعنادِهم وقساوةِ قلوبِهم مخاطبينَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} أي مزوِّرون(7/67)
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)
{كذلك} مثلَ ذلك الطَّبعِ الفظيعِ {يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَّ يَعْلَمُونَ} لا يطلبونَ العلمَ ولا يتحرَّون الحقَّ بل يُصرُّون على خرافاتٍ اعتقدوها وتُرَّهاتٍ ابتدعُوها فإن الجهلَ المركَّبَ يمنعُ إدراكُ الحقِّ ويوجبُ تكذيبَ المُحقِّ(7/67)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
{فاصبر} على ما نشاهد منهم من الأقوالِ الباطلةِ والافعال السيئة {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} وقد وعدك بالنُّصرةِ وإظهارِ الدِّينِ وإعلاءِ كلمةِ الحقِّ ولا بُدَّ من إنجازِه والوفاءِ به لا محالةَ {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ} لا يحملنَّك على الخفَّةِ والقلقِ {الذين لاَ يُوقِنُونَ} بما تتلُو عليهم من الآياتِ البيِّنةِ بتكذيبِهم إيَّاها وإيذائِهم لك بأباطِيلِهم التي مِنْ جُملتها قولُهم إنْ أنتُم إلا مُبطلون فإنَّهم شاكُّون ضالُّون ولا يُستبعد منهم أمثالُ ذلك وقُرىء بالنُّون المخففةِ وقُرىء ولا يستحقنَّك من الاستحقاقِ أي لا يفتُننَّك فيملكوك وبكونوا أحقَّ بك من المؤمنينَ وأياً ما كان فظاهرُ النظمِ الكريمِ وإنْ كانِ نهياً للكَفَرةِ عن استخفافِه صلى الله عليه وسلم واستحقاقه لكنه في الحقيقة نهيٌ له صلى الله عليه وسلم عن التَّاثرِ من استخفافِهم والافتتان بفتنتِهم على طريقِ الكنايةِ كما في قوله تعالى ولا يجر منكم شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَن لا تَعْدِلُواْ عن رسولِ الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الرُّوم كان له منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ مَلَكٍ يُسبِّحُ الله تعالى بينَ السَّماءِ والأرضِ وأدركَ ما ضيَّع في يومِه وليلتهِ(7/67)
سورة لقمان 1 6
مكية وقيل إلا الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة فإن وجوبهما بالمدينة وهو ضعيف لأنه ينافى شرعيتهما بمكة وقيل إلا ثلاثاً من قوله وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وهى اربع وثلاثون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}(7/68)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)
{الم تلك آيات الكتاب} سلفَ بيانُه في نظائرِه {الحكيم} أي ذي الحكمةِ لاشتماله عليها أو هو وصفٌ له بنعته تعالى أو أصلُه الحكيمُ منزله او قائلُه فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مقامه فانقلب مرفُوعاً فاستكنَّ في الصِّفةِ المُشبَّهةِ وقيل الحكيمُ فعيلٌ بمعنى مُفْعَلٍ كما قالُوا أعقدتُ اللَّبنَ فهو عَقِيدٌ أي مُعْقَدٌ وهو قليلٌ وقيلَ بمعنى فاعلٍ(7/68)
هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)
{هُدًى وَرَحْمَةً} بالنَّصبِ على الحاليَّةِ من الآياتٍ والعاملُ فيهما معنى الإشارةِ وقُرئا بالرفع على أنهما خبران آخرانِ لاسمِ الإشارة أو لمبتدأ محذوف {لّلْمُحْسِنِينَ} أي العاملين للحسنات فإن أريد بها مشاهيرُها المعهودةُ في الدِّينِ فقولُه تعالى(7/68)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
{الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وهم بالأخرة هم يوقنون} بيانٌ لما عملوها من الحسناتِ على طريقةِ قولِه الأَلْمعيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظن كأن قدر رَأَى وقَدْ سَمِعا وإنْ أُريد بها جميعُ الحسناتِ فهو تخصيصٌ لهذه الثلاثِ بالذكر من بين سائر شُعبِها لإظهارِ فضلِها وإنافتِها على غيرِها وتخصيصُ الوجهِ الأولِ بصورةِ كونِ الموصولِ صفةً للمحسنين والوجهِ الآخيرِ بصورةِ كونِه مبتدأً مما لا وجهَ لَهُ(7/68)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
{أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} الفائزون بكلِّ مطلوبٍ والنَّاجُون من كلِّ مهروبٍ لحيازتِهم قُطريْ العلمِ والعملِ وقد مرَّ ما فيه من المقالِ في مطلع سورةِ البقرة بما لا مزيدة عليهِ(7/68)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
{وَمِنَ الناس} محلُّه الرفعُ على الابتداءِ باعتبارِ مضمونِه(7/68)
لقمان 7 8 أو بتقديرِ الموصوفِ ومِنْ في قولِه تعالَى {من يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث} موصولةٌ أو موصوفةٌ محلُها الرَّفعُ على الخبرَّيةِ والمعنى وبعضُ النَّاسِ أو وبعضٌ مِن النَّاسِ الذي يشترِي أو فريقٌ يشتِري على أنَّ مناطَ الإفادةِ والمقصودَ بالأصالةِ هو اتِّصافُهم بما في حِّيزِ الصِّلةِ أو الصِّفةِ لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورينَ كما مرَّ في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله وباليوم الأخر الآياتِ ولهوُ الحديثِ ما يُلهى عمَّا يُعنى من المهمَّاتِ كالأحاديثِ التي لا أصلَ لها والأساطير التي لا اعتدادَ بها والمضاحكِ وسائرِ مالا خيرَ فيه من فضُولِ الكلامِ والإضافةُ بمعنى من التبيينة إنْ أُريد بالحديثِ المنكرُ وبمعنى التبعيضيةِ إن أُريد به الأعمُّ مِن ذلكَ وقيلَ نزلتِ الآيةُ في النضر بن الحرث اشترى كتبَ الأعاجمِ وكان يُحدِّثُ بها قُريشاً ويقولُ ان كان محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم يُحدِّثكم بحديثِ عادٍ وثمودٍ فأَنا أُحدِّثكم بحديثِ رُسْتُمَ واسفِنْدِيارَ والأكاسرةِ وقيلَ كان يشترِي القيانَ ويحملهنَّ على مُعاشرةِ مَن أرادَ الإسلامَ ومنعِه عنْهُ {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} أي دينِه الحقِّ الموصِّلِ إليهِ تعالى أو عن قراءةِ كتابِه الهادِي إليه تعالى وقُرىء ليَضلَّ بفتح الياء أي ليثبُتَ ويستمرَّ على ضلالِه أو ليزدادَ فيه {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بحالِ ما يشتريِه أو بالتِّجارةِ حيثُ استبدلَ الشرَّ البَحتَ بالخيرِ المحضِ {وَيَتَّخِذَهَا} بالنَّصبِ عطفاً على يُضلَّ والضَّميرُ للسَّبيلِ فإنَّه ممَّا يُذكِّرُ ويُؤنَّثُ وهو دينُ الإسلامِ أو القُرآنِ أي ويتخذَها {هُزُواً} مَهزُواً بهِ وقُرىء ويتخذُها بالرَّفعِ عطفاً على يشترِي وقولُه تعالى {أولئك} إشارةٌ إلى من والجمعُ باعتبارِ مَعناهَا كما أن الإفراد في الفعلينِ باعتبارِ لفظِها وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بذكرِ المُشارِ إليهِ للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الشَّرارةِ أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من الاشتراءِ للإضلالِ {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} لما اتَّصفُوا به من إهانتِهم الحقِّ بإيثارِ الباطلِ عليهِ وترغيبِ النَّاس فيه(7/69)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ} أي على المشتري افراد الضَّميرُ فيه وفيما بعدَه كالضَّمائرِ الثلاثةِ الأولِ باعتبارِ لفظةِ مَن بعدَ ما جُمع فيما بينهما باعتبارِ معناها {آياتنا} التي هي آياتُ الكتابِ الحكيمِ وهدى ورحمةٌ للمحسنين {وَلَّى} أعرض عنها غيرَ معتدبها {مُسْتَكْبِراً} مبالغاً في التَّكَبُّر {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} حالٌ من ضمير ولَّى أو من ضميرٍ مستكبراً والأصلُ كأنَّه فحذف ضميرُ الشَّأنِ وخُفِّفتْ المُثقَّلةُ أي مشبهاً حاله حالَ مَن لم يسمعها وهو سامعٌ وفيه رمزٌ إلى أنَّ مَن سمعها لا يُتصوَّرُ منه التَّوليةُ والاستكبارُ لِما فيها منَ الأمورِ الموجبةِ للإقبالِ عليها والخضوعِ لها على طريقة قول من قال كأنَّك لم تَجْزَعْ على ابنِ طَرِيْفِ {كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً} حال من ضميرِ لم يسمعْها أي مشبها حاله حال من في اذنيه ثقَلٌ مانع من السَّماعِ ويجوز أنْ يكونا استئنافين وقُرىء في أُذْنيهِ بسكونِ الذَّالِ {فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فأعلمه بأنَّ العذابَ المفرط في الإيلام لاحقٌ به لا محالة وذكرُ البشارةِ للتَّهكمِ(7/69)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)
{إن الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} بيانٌ لحالِ المُؤمنين بآياتِه تعالى إثرَ بيانِ حالِ الكافرينَ بها أي الذين آمنُوا بآياتِه تعالى وعملُوا بموجبِها {لَهُمْ} بمقابلة ما ذكر من ايمانهم واعمالهم {جنات النعيم} أي(7/69)
لقمان 9 11 نعيمُ جنَّاتٍ فعكسَ للمُبالغةِ والجملة خبرُ أنَّ والأحسن أنْ يجعلَ لَهمُ هو الخبرَ لأنَّ وجنَّاتُ النَّعيمِ مرتفعاً بِه على الفاعليَّةِ وقولُه تعالَى(7/70)
خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
{خالدين فِيهَا} حالٌ من الضَّميرِ في لهم أو مِن جنَّاتِ النَّعيمِ لاشتماله على ضميريهِما والعاملُ ما تعلَّق به اللامُ {وَعْدَ الله حَقّا} مصدرانِ مؤكِّدانِ الاول لنفسه والثَّاني لغيرهِ لأنَّ قولَه تعالَى لهم جنَّاتُ النَّعيمِ في معنى وعَدَهم الله جنات النعيم فأكد معنى الوعد بالوعد واما حقا فدال على معنى الثبات اكد به معنى الوعد ومؤكدهما جميعا لهم جنَّاتِ النَّعيمِ {وَهُوَ العزيز} الذي لا يغلبه شيء ليمنعه من إنجازِ وعدِه أو تحقيقِ وعيدِه {الحكيم} الذي لا يفعل إلا ما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحةُ(7/70)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
{خلق السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ} الخ استئنافٌ مسوقٌ للاستشهادِ بما فُصِّل فيه على عزَّتِه تعالى التي هي كمالُ القدرةِ وحكمتِه التي هي كمالُ العلمِ وتمهيدُ قاعدةِ التوحيد وتقريرُه وإبطالُ أمرِ الإشراكِ وتبكيتُ أهلِه والعَمَدُ جمعُ عمادٍ كأَهبٍ جمعُ إهابٍ وهو ما يُعمَد به أي يُسند يُقال عمَدتُ الحائطَ إذا دعَّمتُه أي بغيرِ دعائم على أنَّ الجمعَ لتعددِ السَّمواتِ وقولُه تعالى {تَرَوْنَهَا} استئنافٌ جِيءَ بهِ للاستشهادِ على ما ذُكر من خلقِه تعالى لها غير معهودة بمُشاهدتِهم لها كذلك أو صفةٌ لعَمَدٍ أي خلقَها بغيرِ عمدٍ مرئيَّةٍ على أنَّ التَّقييدَ للرَّمزِ إلى أنَّه تعالى عمَّدها بعَمدٍ لا تَرَونها هي عَمَدُ القُدرةِ {وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ} بيانٌ لصُنعه البديعِ في قرارِ الأرض إثرَ بيانِ صُنعه الحكيمِ في قرار السموات أي ألقى فيها جبالاً ثوابتَ وقد مرَّ ما فيه من الكلام في سُورة الرَّعدِ {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} كراهةَ أنْ تميلَ بكم فإنَّ بساطةَ أجزائِها تقتضِي تبدُّلَ أحيازِها وأوضاعِها لامتناعِ اختصاصِ كلَ منها لذاتِه أو لشيءٍ من لوازمِه بحيِّزٍ معيَّنٍ ووضعٍ مخصوصٍ {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ} من كلِّ نوعٍ من أنواعِها {وَأَنزَلْنَا من السماء ماء} هو المطرُ {فَأَنبَتْنَا فِيهَا} بسببٍ ذلك الماءِ {مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} من كلِّ صنفٍ كثيرِ المنافعِ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في الفعلينِ لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِها(7/70)
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
{هذا} أي ما ذكر من السَّمواتِ والأرضِ وما تعلَّق بهما من الأمورِ المعدودةِ {خَلَقَ الله} أي مخلوقُه {فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ} ممَّا اتخذ تموهم شركاءً له سبحانه في العبادةِ حتَّى استحقُّوا به المعبوديَّةَ وماذا نُصب بخَلْقُ أو مَا مرتفعٌ بالابتداءِ وخبرُه ذَا بصلتِه وأرُوني متعلقٌ به وقولُه تعالى {بَلِ الظالمون فِى ضلال مُّبِينٍ} إضرابٌ عن تبكيتِهم بما ذُكر إلى التَّسجيلِ عليهم بالضَّلالِ البيِّنِ المُستدعي للإعراضِ عن مخاطبتِهم بالمقدِّماتِ المعقولةِ الحقَّةِ لاستحالة أنْ يفهمُوا منها شيئاً فيهتدوا به إلى العلمِ ببطلانِ ما هُم عليه أو يتأثَّروا من الإلزامِ والتَّبكيتِ فينزجُروا عنه ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرِهم للدِّلالةِ على انهم بإشراكهم(7/70)
لقمان 12 14 واضعون للشيء في غير موضعِه ومتعدُّون عن الحدودِ وظالمون لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالِدِ(7/71)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
{ولقد آتينا لُقْمَانَ الحكمة} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ بطلانِ الشِّركِ وهو لقمان بن باعوارء من اولاد آزر ابن أختِ أيُّوبَ عليه السَّلامُ أو خالتِه وعاشَ حتَّى أدركَ داودَ عليه السَّلامُ وأخذ عنْهُ العلمَ وكان يُفتي قبل مبعثِه وقيل كان قاضياً في بني إسرائيلَ والجمهورُ على أنَّه كانَ حكيماً ولم يكُنْ نبيِّاً والحكمةٌ في عُرفِ العُلماءِ استكمالُ النَّفسِ الإنسانيَّةِ باقتباس العلوم النظرية واكتسابِ المَلَكة التَّامةِ على الأفعالِ الفاضلةِ على قدرِ طاقتِها ومن حكمتِه أنَّه صحبَ داودَ عليه السَّلام شُهوراً وكان يسرد الدِّرعَ فلم يسألْه عنها فلمَّا أتمَّها لبسها وقال نعمَ لبوسُ الحربِ أنتِ فقال الصَّمتُ حكمةٌ وقليلٌ فاعلُه فقال له داودُ عليه السَّلامُ بحقَ ما سُمِّيت حكيما وان داود عليه السلام قال له يوماً كيفَ أصبحتَ فقال أصبحتُ في يَدَيْ غيرِي فتفكَّر داودُ فيه فصعِق صعقةً وأنَّه أمرَه مولاهُ بأنْ يذبحَ شاةً ويأتي بأطيبِ مُضغتينِ منها فأتى باللِّسانِ والقلبِ ثمَّ بعد أيَّامٍ أمره بأنْ يأتيَ بأخبثِ مُضغتينِ منها فأتى بِهما أيضاً فسأله عن ذلك فقالَ هما أطيب شئ إذا طَابَا وأخبثُ شيءٍ إذا خُبثا ومعنى {أَنِ اشكر للهِ} أي اشكُر له تعالى على أنَّ أنْ مفسِّرةٌ فإنَّ إيتاءَ الحكمةِ في معنى القَولِ وقوله تعالى {وَمَن يَشْكُرْ} الخ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله موجبٌ للامتثالِ بالأمر أي ومَن يشكُرْ له تعالى {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنَّ منفعتَهُ التي هي ارتباطُ العتيدِ واستجلابُ المزيدِ مقصورةٌ عليها {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ} عن كلِّ شيءٍ فلا يحتاجُ إلى الشُّكرِ ليتضررَ بكفرِ مَن كفَرَ {حَمِيدٌ} حقيقٌ بالحمد وإنْ لم يحمَدْه أحدٌ أو محمودٌ بالفعل ينطقُ بحمدِه جميعُ المخلوقاتِ بلسانِ الحالِ وعدمُ التَّعرضِ لكونِه تعالى مشكُوراً لما أنَّ الحمدَ متضمنٌ للشكرِ بل هو رأسُه كما قال صلى الله عليه وسلم الحمدُ رأسُ الشُّكرِ لم يشكرِ الله عبدٌ لم يحمدْهُ فإثباتُه له تعالى إثباتٌ للشكرِ له قطعاً(7/71)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ} أنعمَ وقيل أشكمَ وقيل ماثان {وهو يعظه يا بني} تصغير إشفاق وقرئ يا بنيْ بإسكانِ الياءِ وبكسرِها {لاَ تُشْرِكْ بالله} قيل كانَ ابنُه كافراً فلم يزلْ به حتَّى أسلم ومن وقفَ على لا تُشركْ جعلَ بالله قسماً {إِنَّ الشرْكَ لظُلم عَظِيمٌ} تعليلٌ للنَّهي أو للانتهاءِ عن الشِّركِ(7/71)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
{وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه} الخ كلامُ مستأنفٌ اعترض بهِ على نهجِ الاستطرادِ في أثناءِ وصيَّةِ لقمانَ تأكيداً لما فيها من النَّهيِ عن الشِّركِ وقولُه تعالى {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} إلى قولِه في عامينِ اعتراضٌ بين المفسَّر والمفسِّر وقولُه تعالى {وَهْناً} حالٌ من أمِّه أي ذاتَ وهنٍ أو مصدرٌ مؤكد لفعل هو الحالُ أي تهِنُ وَهْناً(7/71)
لقمان 15 17 وقولُه تعالى {على وَهْنٍ} صفة للمصدرِ أي كائناً على وَهنٍ أي تضعُف ضعفاً فوقَ ضعفٍ فإنَّها لا تزالُ يتضاعفُ ضعفُها وقرئ وَهَنا على وَهَن بالتَّحريك يقالُ وَهِن يَهِنُ وَهَنا ووَهَن يَوْهِنُ وَهْناً {وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ} أي فطامُه في تمامِ عامينِ وهي مدَّةُ الرَّضاعِ عند الشَّافعيِّ وعند أبي حنيفةَ رحمهما الله تعالى هي ثلاثُون شهراً وقد بُيِّن وجهُه في موضعه وقرئ وفَصْلُه {أَنِ اشكر لِى ولوالديك} تفسيرٌ لوصَّينا وما بينهما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للوصيِّةِ في حقِّها خاصَّة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لمن قالَ له مَن أبرُّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ قالَ بعدَ ذلكَ ثمَّ أباكَ {إِلَىَّ المصير} تعليلٌ لوجوبِ الامنثال أي إليَّ الرُّجوع لا إلى غيرِي فأجازيك على ما صَدَر عنْك من الشُّكرِ والكُفرِ(7/72)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
{وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ} أي بشركتِه له تعالى في استحقاقِ العبادةِ {عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} في ذلك {وصاحبهما فِى الدنيا مَعْرُوفاً} أي صحاباً معروفاً يرتضيِه الشَّرعُ وتقتضيه المروءةُ {واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ} بالتَّوحيدِ والإخلاصِ في الطَّاعةِ {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي مرجعُك ومرجعُهما ومرجعُ من أناب إليَّ {فَأُنَبِئُكُم} عند رجوعِكم {بِمَا كنتم تعملون} بأن أجازي كُلاًّ منكم بما صدَر عنْهُ منَ الخيرِ والشرِّ وقولُه تعالى(7/72)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
{يَا بَنِى} الخ شروعٌ في حكايةِ بقيةِ وصايا لقمانَ إثرَ تقريرِ ما في مطلعِها من النَّهيِ عن الشِّركِ وتأكيدهِ بالاعتراضِ {إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ} أي إنَّ الخصلةَ من الإساءةِ أو الإحسانِ إنْ تكُ مثلاً في الصِّغرِ كحَّبةِ الخردل وقرئ برفعِ مثقال على أنَّ الضَّميرَ للقصَّةِ وكانَ تامَّةٌ والتَّانيثُ لإضافةِ المثقالِ إلى الحبَّةِ كما في قولِ مَن قالَ كَما شرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّمِ أو لأنَّ المرادَ بهِ الحسنةُ أو السيِّئةُ {فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السماوات أَوْ فِى الارض} أي فتكُن مع كونِها في أقصى غاياتِ الصِّغرِ والقَماءةِ في أخفى مكانٍ وأحرزه كجوفِ الصَّخرةِ أو حيثُ كانتْ في العالمِ العُلويِّ أو السُّفليِّ {يَأْتِ بِهَا الله} أي يُحضرها ويُحاسبُ عليها {إِنَّ الله لَطِيفٌ} يصلُ علمُه إلى كلِّ خفى {خَبِيرٌ} بكُنهِه وبَعْدَ ما أمرَهُ بالتَّوحيدِ الذي هُو أولُ ما يجبُ على الإنسانِ في ضمنِ النَّهي عن الشِّركِ ونبَّهه على كمالِ علمِ الله تعالى وقدرتِه أمرَه بالصَّلاة التي هي أكملُ العباداتِ تكميلاً له من حيثُ العملُ بعد تكميلِه من حيثُ الاعتقادُ فقال مستميلاً له(7/72)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
{يَا بَنِىَّ أَقِمِ الصلاة} تكميلاً لنفسِك {وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر} تكميلاً لغيرِك {واصبر على مَا أَصَابَكَ} من الشَّدائدِ والمحنِ لا سيَّما فيما أُمرت به {إِنَّ ذلك} إشارةٌ إلى(7/72)
لقمان 18 20 كلِّ ما ذُكر وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مرَّ مراراً من الإشعارِ ببُعدِ منزلتِه في الفضل {مِنْ عَزْمِ الامور} أي ممَّا عزمَهُ الله تعالى وقطَعه على عبادِه من الأمورِ لمزيدِ مزيَّتِها مصدرٌ أُطلق على المفعولِ وقد جُوِّز أنْ يكونَ بمعنى الفاعلِ من قوله تعالى فَإِذَا عَزَمَ الامر أي جدَّ والجملةُ تعليلٌ لوجوبِ الامتثالِ بما سبقَ من الأمرِ والنَّهي وإيذانٌ بأنَّ ما بعدها ليس بمثابتِه(7/73)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
{وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي لا تُمِله ولا تُولِّهم صفحة وجهِك كما هو ديدنُ المتكبرينَ من الصَّعرِ وهو الصَّيَدُ وهو داءٌ يصيبُ البعيرَ فيلوى منه عنقَهُ وقُرىء ولا تُصاعرْ وقُرىء ولا تصعر من الاغعال والكل بمعنى مثل وعلاه وعالاه {وَلاَ تَمْشِ فِى الارض مَرَحًا} أي فَرَحاً مصدرٌ وقعَ موقِعَ الحالِ أو مصدرٌ مؤكد لفعل هو الحالُ أي تمرحُ مَرَحاً أو لأجلِ المرحِ والبَطَرِ {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} تعليلٌ للنَّهي أو موجبِه وتأخيرُ الفخورِ مع كونِه بمقابلةِ المصعِّرِ خدَّه عن المختالِ وهو بمقابلةِ الماشِي مَرَحا لرعاية الفواصل(7/73)
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
{واقصد فِى مَشْيِكَ} بعد الاجتنابِ عن المَرَح فيه أي توسَّطْ بين الدبيبِ والاسراع وعنه صلى الله عليه وسلم سرعةُ المشيِ تُذهُب بهاءَ المُؤمنِ وقولُ عائشةَ في عمرَ رضيَ الله عنهما كانَ إذا مشَى أسرعَ فالمرادُ به ما فوقَ دبيب المنماوت وقُرىء بقطعِ الهمزةِ من أقصَدَ الرَّامِي إذا سدَّدَ سهمَه نحوَ الرَّميةِ {واغضض مِن صَوْتِكَ} وانقُص منه واقصُر {إِنَّ أَنكَرَ الاصوات} أي أوحشَها {لَصَوْتُ الحمير} تعليلٌ للأمرِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه مبنيٌّ على تشبيهِ الرَّافعينَ أصواتَهم بالحميرِ وتمثيل اصواتهم بالهاق وإفراطٌ في التَّحذيرِ عن رفعِ الصَّوتِ والتَّنفيرِ عنه وإفرادُ الصَّوتِ مع إضافتِه إلى الجمعِ لما أنَّ المرادَ ليس بيانَ حالِ صوتِ كلَّ واحدٍ من آحادِ هذا الجنسِ حتى يُجمعَ بل بيانَ حالِ صوتِ هذا الجنسِ من بينِ أصواتِ سائرِ الأجناسِ وقولُه تعالَى(7/73)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
{أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سخر لكم ما فى السماوات وَمَا فِي الارض} رجوعٌ الى سنن ما سلفَ قبل قصَّةِ لقمانَ من خطابِ المشركينَ وتوبيخٌ لهم على إصرارُهم على ما هم عليه مع مشاهدتِهم لدلائلِ التَّوحيدِ والمرادُ بالتَّسخير إمَّا جعلُ المسخَّرِ بحيثُ ينفعُ المسخَّرَ له أعمُّ من أنْ يكونَ مُنقاداً له يتصرَّفُ فيه كيفَ يشاءُ ويستعملُه حسبما يريدُ كعامَّة ما في الأرضِ من الأشياءِ المسخَّرة للإنسانِ المستعملةِ له من الجمادِ والحيوانِ أو لا يكون كذلك بل يكونُ سبباً لحصولِ مرادِه من غير أن يكون له دخلٌ في استعمالِه كجميعِ ما في السَّمواتِ من الأشياءِ التي نِيطتْ بها مصالحُ العبادِ معاشاً ومعادا وما جعلُه منقاداً للأمرِ مذللاً على أنَّ معنى لكُم(7/73)
لقمان 21 24 لأجلِكم فإنَّ جميعَ ما في السمواتِ والأرض من الكائنات مسخر لله تعالى مستتبعةٌ لمنافعِ الخلقِ وما يستعملُه الإنسانُ حسبما يشاءُ وإن كان مسخَّراً له بحسبِ الظَّاهرِ فهو في الحقيقةِ مسخَّرٌ لله تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً} محسوسةً ومعقولةً معروفةً لكم وغيرَ معروفةٍ وقد مرَّ شرحُ النِّعمةِ وتفصيلُها في الفاتحةِ وقرىء اصيغ بالصَّادِ وهو جارٍ في كلِّ سينٍ قارنت الغينَ أو الخاءَ أو القافَ كما تقولُ في سَلَخ صَلَخ وفي سَقَر صَقَر وفي سَالِغ صالغ وقُرىء نعمةً {وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله} في توحيدِه وصفاتِه {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مستفادة من دليلٍ {وَلاَ هُدًى} من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم {وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ} أنزلَه الله سبحانُه بل بمجرَّدِ التَّقليدِ(7/74)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي لمن يجادلُ والجمعُ باعتبار المعنى {اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نتبعُ ما وجدْنا عليه آباءنا} يُريدون به عبادةَ الأصنامِ {أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ} أي آباءَهم لا أنفسَهم كما قيل فإنَّ مدارَ إنكارِ الاتباعِ واستبعادِه كونُ المتبوعينَ تابعينَ للشَّيطانِ لا كونُ أنفسِهم كذلك أي أيتبعونَهم ولو كان الشَّيطانُ يدعُوهم فيما هم عليه من الشِّرك {إلى عَذَابِ السعير} فهُم متوجهون إليه حسبَ دعوتِه والجملةُ في حيز النصبِ على الحالية وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى أَوْ لَّوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ من سورة البقرة بما لا مزيدَ عليهِ(7/74)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله} بأنْ فوَّض إليه مجامعَ أمورِه وأقبلَ عليه بكلّيته وحيثُ عُدِّي باللامِ قصد معنى الاختصاصِ وقُرىء بالتَّشديدِ {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي في أعمالِه آتٍ بها جامعةً بين الحُسنِ الذاتِيِّ والوصفيِّ وقد مرَّ في آخرِ سورةِ النَّحلِ {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} أي تعلَّق بأوثقِ ما يتعلَّق به من الأسبابِ وهو تمثيلٌ لحالِ المتوكلِ المشتغلِ بالطَّاعةِ بحالِ من أراد أنْ يترقَّى إلى شاهقِ جبلٍ فتمسَّك بأوثقِ عُرى الحبلِ المُتدلِّي منه {وإلى الله} لا إلى أحدٍ غيرِه {عاقبة الامور} فيجازيه أحسنَ الجزاء(7/74)
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)
{وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} فإنَّه لا يضُّرك في الدنيا ولا في الآخرةِ وقُرىء فلا يُحزِنْك من أحزن المنقولِ من حزِن بكسرِ الزَّاي وليس بمستفيضٍ {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} لا إلى غيرِنا {فَنُنَبّئُهُم بِمَا عملوا} في الدُّنيا من الكفرِ والمَعَاصي بالعذابِ والعقابِ والجمعُ في الضَّمائرِ الثَّلاثةِ باعتبارِ معنى مَنْ كما أنَّ الإفرادَ في الأولِ باعتبارِ لفظِها {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليلٌ للتنبئةِ المعبَّرِ بها عن التَّعذيبِ(7/74)
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
{نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً} تمتيعاً أو زماناً قليلاً فإنَّ ما يزول وإنْ كانَ بعد امد(7/74)
لقمان 25 29 طويلٍ بالنسبةِ إلى ما يدومُ قليلٌ {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ} يثقُل عليهم ثقلَ الأجرامِ الغلاظِ أو يضمُّ إلى الإحراقِ الضَّغطَ والتضييق(7/75)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والارض لَيَقُولُنَّ الله} لغايةِ وضوحِ الأمرِ بحيث اضطروا إلى الاعترافِ به {قُلِ الحمد لِلَّهِ} على أنْ جعلَ دلائلَ التَّوحيدِ بحيثُ لا يكادُ ينكرها المكابرون أيضاً {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} شيئاً من الأشياءِ فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافِهم وقيل لاَ يَعْلَمُونَ أنَّ ذلك يلزمُهم(7/75)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
{لله ما في السماوات والارض} فلا يستحقُّ العبادةَ فيهما غيرُه {إِنَّ الله هُوَ الغنى} عن العالمينَ {الحميد} المستحقُّ للحمدِ وإنْ لم يحمَدْه أحدٌ أو المحمود بالفعلِ يحمدُه كلُّ مخلوقٍ بلسانِ الحال(7/75)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
{ولو أنما فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أقلام} أي لوان الأشجارَ أقلامٌ وتوحيدُ الشَّجرةِ لما أنَّ المراد تفصيلُ الآحادِ {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ} أي من بعدِ نفاده {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أي والحالُ أنَّ البحرَ المحيطَ بسعته يمده الا بحر السبعةُ مدَّاً لا ينقطعُ أبداً وكتبتْ بتلك الأقلامِ وبذلك المدادِ كلماتُ الله {مَا نَفِدَتْ كلمات الله} ونفدِتْ تلك الأقلامُ والمدادُ كما في قوله تعالى لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تنفذ كلمات رَبّى وقُرىء يُمدُّه من الإمدادِ بالياء والتاءِ وإسنادُ المدِّ إلى الأبحرِ السَّبعةِ دونَ البحرِ المحيطِ مع كونِه أعظمَ منها وأطمَّ لأنَّها هي المجاورةُ للجبالِ ومنابعِ المياه الجاريةِ وإليها تنصبُّ الأنهارُ العظامُ أولاً ومنها ينصبُّ إلى البحرِ المحيطِ ثانياً وإيثارُ جمعِ القلَّةِ في الكلماتِ للإيذانِ بأنَّ ما ذُكر لا يَفي بالقليلِ منها فكيفَ بالكثيرِ {أَنَّ الله عَزِيزٌ} لا يُعجزه شيءٌ {حَكِيمٌ} لا يخرجُ عن علمِه وحكمتِه أمرٌ فلا تنفد كلماتُه المؤسسةُ عليهما(7/75)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} أي إلا كخلقِها وبعِثها في سهولة التأتي إذ لا يشغَلُه شأنٌ عن شأنٍ لأن مناطَ وجودِ الكلِّ تعلقُ إرادتِه الواجبةِ مع قدرتِه الذاتيَّةِ حسبما يُفصح عنه قولُه تعالى انما امرنا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {أَنَّ الله سَمِيعٌ} يسمعُ كلَّ مسموعٍ {بَصِيرٌ} يبصرُ كلَّ مبصَرٍ لا يشغلُه علمُ بعضِها عن علمِ بعضٍ فكذلك الخلقُ والبعثُ(7/75)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
{أَلَمْ تَرَ} قيل الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل عامٌّ لكلِّ أحدٍ ممن يصلُح للخطابِ وهو الا وفق لما سبقَ وما لحقَ أي ألم تعلم علما(7/75)
لقمان 30 قويَّاً جارياً مجرى الرؤيةِ {أن الله يولج الليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى الليل} أي يُدخل كلَّ واحدٍ منهما في الآخرِ ويضيفه إليه فيتفاوتُ بذلك حالُه زيادةً ونقصاناً {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} عطفٌ على يُولج والاختلافُ بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجددٌ في كلِّ حينٍ وأما تسخير النيرين فأمر لا تعددَ فيه ولا تجددَ وإنَّما التعدُّدُ والتجدّد في آثارِه وقد أُشير إلى ذلك حيثُ قيل {كُلٌّ يَجْرِى} أي بحسبِ حركته الخاصة وحركته القسرية على المداراتِ اليوميةِ المتخالفةِ المتعددةِ حسب تعددِ الأيَّامِ جريا مستمراً {إلى أَجَلٍ مسمى} قدره الله تعالى لجريهما وهو يوم القيامةِ كما رُوي عن الحسنِ رحمة الله فإنَّه لا ينقطعُ جريُهما إلا حينئذٍ والجملةُ على تقدير عمومِ الخطاب اعتراضٌ بين المعطوفينِ لبيانِ الواقعِ بطريق الاستطرادِ وعلى تقديرِ اختصاصِه به صلى الله عليه وسلم يجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الشَّمسِ والقمرِ فإنَّ جريانَهما إلى يومِ القيامةِ من جُملةِ ما في حيز رؤيته صلى الله عليه وسلم هذا وقد جُعل جريانُهما عبارةً عن حركتِهما الخاصَّة بهما في فلكِهما والأجلُ المسمَّى عن منتهى دورتِهما وجُعل مَّدةُ الجريانِ للشمسِ سنة وللقمرِ شهراً فالجملةُ حينئذٍ بيان لحكمِ تسخيرِهما وتنبيهٌ على كيفيَّةِ إيلاجٍ أحد الملوين في الآخر وكونِ ذلك بحسبِ اختلافٍ جَرَيانِ الشَّمسِ على مَدَاراتِها اليوميَّةِ فكُلما كان جريانُها متوجهاً إلى سمتِ الرَّأسِ تزدادُ القوسُ التي هي فوق الأرضِ كبراً فيزدادُ النَّهارُ طُولاً بإنضمامِ بعضِ أجزاءِ الليلِ إليهِ إلى أنْ يبلغَ المدارَ الذي هو أقربُ المداراتِ إلى سمت الرأس وذلك عند بلوغها الى رأسِ السَّرطانِ ثم ترجعُ متوجهةً إلى التباعدِ عن سمت الراس فلا تزال القِسيُّ التي هي فوقَ الأرضِ تزدادُ صغراً فيزدادُ النَّهارُ قِصراً بانضمامِ بعضِ أجزائِه إلى اللَّيلِ إلى أنْ يبلغَ المدارَ الذي هو أبعدُ المداراتِ اليوميةِ عن سمتِ الرأسِ وذلك عندَ بلوغِها برجَ الجَدي وقولُه تعالى {وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عطفٌ على أنَّ الله يُولج الخ داخلٌ معه في حيِّز الرؤيةِ على تقديري خصوصِ الخطابِ وعمومه فإنَّ مَن شاهدَ مثلَ ذلك الصُّنعِ الرَّائقِ والتَّدبيرِ الفائقَ لا يكادُ يغفلُ عن كونِ صانعِه عزَّ وجلَّ محيطاً بجلائلِ أعمالِه ودقائقِها(7/76)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
{ذلك} إشارة إلى ما تُلي من الآياتِ الكريمةِ وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِها في الفضل وهو مبتدأ خبرُهُ قولُه تعالى {بِأَنَّ الله هُوَ الحق} أي بسببِ بيانِ أنَّه تعالى هو الحقُّ إلهيَّته فقط ولأجلِه لكونِها ناطقةً بحقيةِ التَّوحيدِ {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل} أي ولا جل بيانِ بطلانِ آلهيّةِ ما يدعونَه من دونِه تعالى لكونها شاهدةً بذلك شهادةً بينةً لا ريبَ فيها وقُرىء بالتَّاءِ والتصريحُ بذلك مع أنَّ الدِّلالةَ على اختصاصِ حقَّيةِ الإلهيةِ به تعالى مستتبعةٌ للدِّلالةِ على بُطلانِ إلهيّةٍ ما عداهُ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ التَّوحيدِ وللإيذانِ بأنَّ الدِّلالةَ على بُطلانِ ما ذُكر ليستْ بطريقِ الاستتباعِ فقط بلْ بطريقِ الاستقلالِ أيضاً {وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير} أي وبيانُ أنَّه تعالى هو المترفعُ عن كلِّ شيءٍ المتسلطُ عليه فإنَّ ما في تضاعيفِ الآياتِ الكريمةِ مبيِّنٌ لاختصاصِ العلوِّ والكبرياءِ به تعالى أيّ بيانٍ هذا وقيل ذلك أي ما ذكر من سَعةِ العلمِ وشمولِ القُدرةِ وعجائب الصنع واختصاصِ البارِي تعالى بِه بسببِ أنَّه الثَّابتُ في ذاتِه الواجبُ من جميَعِ جهاتِه أَو الثابتُ إلهيّتُه وانت(7/76)
لقمان 31 33 خبيرٌ بأنَّ حقَّيته تعالى وعلوَّه وكبرياءَهُ وإنْ كانتْ صالحةً لمناطيةِ ما ذُكر من الأحكامِ المعدودةِ لكنّ بطلانَ إلهية الأصنامِ لا دخلَ له في المناطيَّةِ قطعاً فلا مساغَ لنظمِه في سلكِ الأسبابِ بل هو تعكيسٌ للأمرِ ضرورةَ أنَّ الأحكامَ المذكورةَ هي المقتضيةُ لبطلانِها لا أنَّ بطلانَها يقتضيها(7/77)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تجري في البحر بنعمة الله} بإحسانِه في تهيئةِ أسبابِه وهو استشهادٌ آخرُ على باهرِ قُدرتِه وغايةِ حكمتِه وشمولِ إنعامِه والباءُ إمَّا متعلقةٌ بتجرِي أو بمقدَّرٍ هُو حالٌ من فاعلِه أي ملتبسةٌ بنعمتِه تعالى وقُرىء الفُلُك بضمِّ اللامِ وبنعماتِ الله وعينُ فَعَلات يجوزُ فيه الكسرُ والفتحُ والسكونُ {لِيُرِيَكُمْ مّنْ آياته} أي بعضَ دلائلِ وحدتِه وعلمهِ وقدُرتِه وقولُه تعالى {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} تعليلٌ لمَا قبلَهُ أيْ إنَّ فيما ذُكر لآياتٍ عظيمةً في ذاتِها كثيرةً في عددِها لكلِّ مَن يُبالغ في الصَّبرِ على المشاقِّ فيتعبُ نفسَه في التفكرِ في الأنفسِ والآفاقِ ويبالغُ في الشُّكرِ على نعمائِه وهما صِفتا المُؤمنِ فكأنَّه قيلَ لكلَّ مؤمنٍ(7/77)
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
{وَإِذَا غَشِيَهُمْ} أي علاهُم وأحاطَ بهم {مَّوْجٌ كالظلل} كما يظل من جبلٍ أو سحابٍ أو غيرِهما وقُرىء كالظِّلالِ جمْعِ ظُّلةٍ كقُلَّةٍ وقِلالٍ {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} لزوالِ ما ينازعُ الفطرةَ من الهَوَى والتَّقليدِ بما دهاهم من الدَّواهي والشَّدائدِ {فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} أي مقيمٌ على القصدِ السويِّ الذي هو التَّوحيدُ أو متوسطٌ في الكفر لانزجاره في الجملة {وما يجحد بآياتنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ} غدَّارٍ فإنه نقض للعهدِ الفطريَّ أو رفضٌ لما كان في البحرِ والخترُ أشدُّ الغدرِ وأقبحُه {كَفُورٍ} مبالغٌ في كفرانُ نعمِ الله تعالى(7/77)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
{يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} أي لا يقضي عنه وقُرىء لا يُجزى من أجزأَ إذا أغنَى والعائدُ إلى الموصوفِ محذوفٌ أي لا يجزى فيهِ {وَلاَ مَوْلُودٌ} عطفٌ على والدٌ أو هُو مبتدأٌ خبرُه {هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} وتغييرُ النَّظمِ للدِّلالةِ على أنَّ المولودَ أولى بأن لا يجزي وقطع مِنَ توقَّع من المؤمنينَ أنْ ينفع أباهُ الكافرَ في الأخرة {إِنَّ وَعْدَ الله} بالثَّوابِ والعقابِ {حَقّ} لا يمكن إخلافُه أصلاً {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} أي الشَّيطانُ المبالغُ في الغرورِ بأنْ يحملَكم على المعاصي(7/77)
لقمان 34 بتزيينها لكمُ ويرجِّيكُم التوبةَ والمغفرةَ(7/78)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
{إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} علمُ وقتِ قيامِها لما روى ان الحرث بنَ عمروٍ أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال مَتَى السَّاعةُ وإنيِّ قد ألقيتُ حَبَّاتي في الأرضِ فمتى السماءُ تُمطر وحَمْلُ امرأتِي ذكرٌ أَمْ أُنثى وما أعملُ غداً وأينَ أموتُ فنزلتْ وعنه صلى الله عليه وسلم مفاتحُ الغيبِ خمسٌ وتلا هذه الآية {وَيُنَزّلُ الغيث} في إبَّانهِ الذي قدَّره وإلى محلِّهِ الذي عيَّنه في علمِه وقُرىء يُنْزِل من الإنزالِ {وَيَعْلَمُ مَا فِى الارحام} من ذَكَرٍ أَوْ أنثى تامَ أو ناقصٍ {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ} من النُّفوسِ {مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} من خيرٍ أو شرَ وربما تعزمُ على شيءٍ منهما فتفعلُ خلافَه {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ} كما لا تدرِي في أيِّ وقتٍ تموتُ رُوي أنَّ ملكَ الموتِ مرَّ على سُليمانَ عليهما السَّلامُ فجعلَ ينظرُ إلى رجلٍ من جلسائِه يُديمُ النَّظرَ إليهِ فقال الرَّجُل مَن هذا قالَ مَلَكُ الموتِ فقال كأنه يُريدني فمرِ الرَّيحَ أن تحملَني وتلقيني ببلادِ الهندِ ففعلَ ثم قال المَلَكُ لسليمانَ عليهما السَّلامُ كان دوامُ نظري إليه تعجُّباً منه حيثُ كنت أُمرتُ بأنْ أقبضَ روحَهُ بالهندِ وهو عندَك ونسبةُ العلمِ إلى الله تعالى والدراية إلى العبدِ للإيذانِ بأنَّه إنْ أعملَ حِيلَه وبذلَ في التَّعرفِ وسعَه لم يعرفْ ما هُو لاحقٌ به من كسبهِ وعاقبتِه فكيف بغيرِه مما لم ينُصبْ له دليلٌ عليه وقُرىء بأيَّةِ أرضٍ وشبَّه سيبويهِ تأنيثَها بتأنيثِ كلَ في كلتهنَّ {إِنَّ الله عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلمِ فلا يعزُب عنْ علمِه شيءٌ من الأشياء التي من جُملتِها ما ذُكر {خَبِيرٌ} يعلم واطنها كما يعلمُ ظواهرَها عنْ رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم منَ قرأَ سورةَ لقمانَ كان له لقمانُ رفيقاً يومَ القيامةِ وأُعطَي من الحسناتِ عشراً بعددِ من عملَ بالمعروفِ ونهى عن المُنكر(7/78)
سورة السجدة 1 3
مكية وهى ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}(7/79)
الم (1)
{الم} إمَّا اسمٌ للسورةِ فمحلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف أي هذا مسمى ب الم والإشارةُ إليها قبل جَرَيانِ ذكرِها قد عرفتَ سرَّها وإمَّا مسرودٌ على نمطِ التعديدِ فلا محلَّ له من الإعرابِ وقولُه تعالى(7/79)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
{تَنزِيلُ الكتاب} على الأولِ خبرٌ بعدَ خبرٍ على أنَّه مصدرٌ أُطلق على المفعولِ مبالغة وعلى الثَّاني خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي المؤلَّفُ من جنسِ ما ذُكر تنزيلُ الكتابِ وقيلَ خبرا الم أي المُسمَّى به تنزيلُ الكتابِ وقد مرَّ مراراً أنَّ ما يُجعل عُنواناً للموضوعِ حقُه أنْ يكونَ قبلَ ذلكَ معلومَ الانتسابِ إليه وإذْ لا عهدَ بالتَّسميةِ قبلُ فحقُها الإخبارُ بها وقوله تعالَى {لاَ رَيْبَ فِيهِ} خبرٌ ثالثٌ على الوجهِ الأولِ وثانٍ على الأخيرينِ وقيل خبرٌ لتنزيلُ الكتابِ فقولُه تعالى {من رب العالمين} متعلقٌ بمضمرٍ هُو حالٌ من الضمير المجرور أي كائناً منه تعالى لا بتنزيلُ لأنَّ المصدرَ لا يعملُ فيما بعد الخبرِ والأوجهُ حينئذٍ أنَّه الخبرُ ولا ريبَ فيهِ حالٌ من الكتابِ أو اعتراضٌ والضَّميرُ في فيهِ راجعٌ إلى مضمونِ الجملةِ كأنَّه قيل لا ريبَ فِى ذَلِكَ أي في كونِه منزَّلاً من ربِّ العالمين ويُؤيده قولُه تعالى(7/79)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} فإنَّ قولَهم هذا إنكارٌ منهم لكونه من ربَّ العالمين فلا بد أن يكون موردُه حكماً مقصودَ الإفادةِ لا قيداً للحكم بنفيِ الرَّيب عنه وقد رُدَّ عليهم ذلك وأُبطل حيث جِيء بأم المنقطعةِ إنكاراً له وتعجيباً منه لغاية ظهورٍ بُطلانِه واستحالةِ كونِه مفترى ثم أُضرب عنه إلي بيانِ حقِّيةِ ما أنكروه حيثُ قيل {بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ} بإضافة اسم الربِّ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم بعد إضافته فيما سبق إلى العالمين تشريفاً له صلى الله عليه وسلم ثم أيَّد ذلك ببيان غايته حيثُ قيل {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} فإنَّ بيان غايةِ الشيءِ وحكمته لا سيَّما عند كونها غاية حميدةً مستتبعة لمنافعَ جليلةٍ في وقت شدَّةِ الحاجة إليها ممَّا يُقرر وجودَ الشيءِ ويؤكِّده لا محالة ولقد كانت قريشٌ أضلَّ النَّاسِ وأحوجَهم إلى الهدايةِ بإرسال الرَّسول وتنزيل الكتاب حيثُ لم يبعث اليهم(7/79)
السجدة 4 6 من رسول قبله صلى الله عليه وسلم أيْ ما أتَاهُم مِن نذير من قبل إنذارِك أو من قبل زمانِك والتَّرجِّي معتبرٌ من جهته صلى الله عليه وسلم أي لتنذرهم راجياً لاهتدائهم أو لرجاء اهتدائهم واعلم أنَّ ما ذُكر من التَّأييدِ إنَّما يتسنَّى على ما ذُكر من كون تنزيلُ الكتابِ مبتدأً وأما على سائرِ الوجوهِ فلا تأييدَ أصلاً لأنَّ قولَه تعالى مِن رَّبّ العالمين خبرٌ رابعٌ على الوجهِ الأولِ وخبرٌ ثالثٌ على الوجهين الأخيرينِ واياما كان فكونُه من ربِّ العالمين حكمٌ مقصودُ الإفادةِ لاقيد لحكمٍ آخرَ فتدبَّر(7/80)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
{الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} مرِّ بيانُه فيما سلفَ {مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ} أي ما لكُم إذا جاوزتُم رضاه تعالى أحدٌ ينصُركم ويشفعُ لكم ويجيركم من بأسهِ أي ما لكُم سواه وليٌّ ولا شفيعٌ بل هو الذي يتولَّى مصالحَكم وينصُركم في مواطنِ النَّصرِ على أنَّ الشَّفيعَ عبارةٌ عن النَّاصرِ مجازاً فإذا خذلكم لم يبقَ لكُم وليٌّ ولا نصير {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} أي ألا تسمعُون هذه المواعظَ فلا تتذكرون بها أو أتسمعونها فلا تتذكرون بها فالإنكارُ على الأول متوجه إلى عدمِ السَّماعِ وعدم التَّذكر معاً وعلى الثاني على عدمِ التذكر مع تحقُّق ما يُوجبه من السَّماعِ(7/80)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
{يدبِّرُ الأمرَ مِنَ السماء إِلَى الارض} قيل يدبِّرُ أمر الدُّنيا بأسبابٍ سماويةٍ من الملائكةِ وغيرها نازلةٍ آثارُها وأحكامُها إلى الأرضِ {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أي يثبت في علمِه موجوداً بالفعل {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} أي في بُرهةٍ من الزَّمان متطاولةٍ والمرادُ بيانُ طول امتدادِ ما بين تدبيرِ الحوادث وحدوثِها من الزَّمان وقيل يدبر أمرَ الحوادثِ اليوميَّةِ بإثباتها في اللَّوحِ المحفوظِ فينزِلَ بها الملائكةُ ثم تعرجُ إليه في زمانٍ هو كألف سنة مما تعدون فإنَّ ما بين السَّماء والأرض مسيرةُ خمسمائةِ عامٍ وقيل يقضي قضاءَ ألفِ سنةٍ فينزل به المَلَكُ ثم يعرج بعد الألفِ لألفٍ أُخرَ وقيل يدبر أمرَ الدُّنيا جميعاً إلى قيامِ السَّاعةِ ثم يعرج إليه الأمرُ كلُّه عند قيامها وقيل يدبِّرُ المأمور به من الطَّاعاتِ منزلاً من السماء إلى الارض بالوحي ثم لا يعرجُ إليه خالصاً إلا في مدة متطاولة المخلصين والأعمال الخلَّص وأنت خبيرٌ بأنَّ قلَّةَ الأعمال الخالصةِ لا تقتضي بطءَ عروجِها إلى السَّماءِ بل قِلَّتَه وقُرىء يعدُّون بالياء(7/80)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
{ذلك} إشارةٌ إلى الله عزَّ وجلَّ باعتبارِ اتصافِه بما ذُكر من خلقِ السَّمواتِ والأرضِ والاستواءِ على العرشِ وانحصارِ الولايةِ والنُّصرةِ فيه وتدبيرِ أمرِ الكائناتِ على ما ذكر من الوجهِ البديعِ وهو مبتدأٌ خبرُه ما بعده أي ذلك العظيمُ الشَّأنِ {عالم الغيب والشهادة} فيدبِّر أمرَهما حسبما تقتضيه الحكمةُ {العزيز} الغالب على امره(7/80)
السجدة 7 9 {الرحيم} على عبادِه وهُما خبرانِ آخرانِ وفيه إيماءٌ إلى أنَّه تعالى متفضِّلٌ في جميعِ ما ذُكر فاعلٌ بالإحسانِ(7/81)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
{الذى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ} خبرٌ آخرُ أو نُصب على المدحِ أي حسّن كلَّ مخلوقٍ خلقَه إذ ما من مخلوق خلقَه إلا وهو مرتبٌ على ما تقتضيه الحكمة واوجبته المصلحة فجميع المخلوقاتِ حسنةٌ وإن تفاوتت إلى حسنٍ وأحسنَ كما قال تعالَى لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وقيل علم كيفَ يخلقُه من قوله قيمةُ المرءِ ما يُحسِن أي يُحسن معرفَته أي يعرفِه معرفةً حسنةً بتحقيقٍ وإيقانٍ وقُرىء خلْقَه على أنَّهُ بدلُ اشتمالٍ من كلِّ شيءٍ والضَّميرُ للمبدَل منه أي حسّن خلقَ كلِّ شيءٍ وقيل بدلَ الكلِّ على أن الضَّميرَ للَّهِ تعالى والخلقُ بمعنى المخلوقِ أي حسّن كلَّ مخلوقاتِه وقيل هو مفعولٌ ثانٍ لأحسنَ على تضمينه معنى أعطَى أي أعطَى كلَّ شيءٍ خلقَه اللائقَ به بطريقِ الإحسانِ والتَّفضل وقيل هو مفعولُه الأولُ وكلّ شيءٍ مفعولُه الثاني والخلقُ بمعنى المخلوقِ وضميرُه لله سبحانَه على تضمينِ الإحسانِ معنى الإلهام والتَّعريفِ والمَعنى ألهم خلقَه كلَّ شيءٍ ممَّا يحتاجون إليهِ وقال أبو البقاءِ عرَّفَ مخلوقاتِه كلَّ شيءٍ يحتاجُون إليهِ فيؤول إلى مَعنى قوله تعالى {الذى أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان من بينِ جميعِ المخلوقاتِ {مِن طِينٍ} على وجهٍ بديعٍ تحارُ العقولُ في فهمِه حيثُ برَأ آدمَ عليه السَّلامُ على فطرةٍ عجيبة منطويةٍ على فطرةِ سائرِ أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبِعاً لخروج كلَّ فردٍ منها من القوةِ إلى الفعلِ بحسبِ استعداداتها المتفاوتةِ قُرباً وبُعداً كما ينبىء عنه قوله تعالى(7/81)
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} إلخ أي ذُريَّتَه سُميتْ بذلك لأنَّها تنسلُ وتنفصلُ منه {مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ} هو المنيُّ المُمتهنُ(7/81)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
{ثُمَّ سَوَّاهُ} أي عدَّله بتكميلِ أعضائِه في الرَّحمِ وتصويرِها على ما ينبغِي {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} أضافَه إليه تعالى تَشريفاً له وإيذاناً بأنَّه خلقٌ عجيبٌ وصنعٌ بديعٌ وأنَّ له شأناً له مناسبةٌ إلى حضرةِ الرُّبوبيةِ وأنَّ أقصى ما تنتهي إليه العقولُ البشريةُ من معرفتِه هذا القدرُ الذي يُعبر عنه تارةً بالإضافةِ إليه تعالى وأُخرى بالنسبةِ إلى أمرهِ تعالى كما في قولِه تعالى قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة} الجعلُ إبداعيٌّ واللامُ متعلقة به والتقديمُ على المفعولِ الصَّريحِ لما مرَّ مراتٍ من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طولٍ يُخِلُّ تقديمُه بجزاله النظمِ الكريمِ أي خلق لمنفعتِكم تلك المشاعرَ لتعرفُوا أنها مع كونِها في أنفسِها نعماً جليلةً لا يُقادر قدرُها وسائلُ إلى التَّمتعِ بسائرِ النِّعمِ الدِّينية والدُّنيويةِ الفائضةِ عليكم وتشكروها بأنْ تصرفُوا كلاًّ منها إلى ما خُلق هو له فتُدركوا بسمعِكم الآياتِ التنزيليةَ الناطقةَ بالتَّوحيدِ والبعثِ وبأبصارِكم الآياتِ التكوينيةَ الشاهدةَ بهما وتستدلوا بأفئدتكم على حقيقتهما وقولُه تعالى {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} بيانٌ لكفرِهم بتلك النِّعمِ بطريقِ الاعتراضِ التَّذييليِّ على أنَّ القِلَّةَ بمَعْنَى(7/81)
السجدة 10 12 النَّفيِ كما يُنبىء عنه ما بعده أيُ شكراً قليلاً أو زمانا قليلا تشكرون وفي حكايةِ أحوالِ الإنسانِ من مبدأِ فطرتِه إلى نفخِ الرُّوح فيه بطريقِ الغَيبةِ وحكايةِ أحوالِه بعد ذلك بطريقِ الخطابِ المنبىءِ عن استعدادِه للفهمِ وصلاحيتِه له من الجَزَالةِ مالا غايةَ وراءَهُ(7/82)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
{وَقَالُواْ} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أباطيلِهم بطريقِ الالتفاتِ إيذاناً بأنَّ مَا ذُكر من عدمِ شكرِهم بتلك النِّعمِ موجبٌ للإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتِهم لغيرهم بطريق المباثة {أئذا ضَلَلْنَا فِى الارض} أي صِرنا ترُاباً مخلوطاً بترابِها بحيثُ لا نتميَّز منه أو غبنا فيها بالدَّفنِ وقُرىء ضلِلنا بكسرِ اللامِ من بابِ عَلِمَ وصلِلنا بالصاد المهملة من صلَّ اللحمُ إذا أنتنَ وقيل من الصِّلةِ وهي الأرضُ أي صرنا من جنسِ الصِّلَّةِ قيل القائل ابي بن خَلَفٍ ولرضاهم بقولِه أُسند القولُ إلى الكلِّ والعاملُ فِي إذَا ما يدلُّ عليه قوله تعالى {أئنا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو نبعثُ أو يُجدد خلقَنا والهمزةُ لتذكيرِ الإنكارِ السَّابقِ وتأكيدِه وقُرىء إنَّا على الخبرِ وأيّاً ما كان فالمَعنى على تأكيدِ الإنكارِ لا إنكارٍ التَّأكيد كما هو المتبادَرُ من تقدمِ الهمزةِ على إنَّ فإنها مؤخَّرةٌ عنها في الاعتبارِ وإنَّما تقديمُها عليها لاقتضائِها الصَّدارةَ {بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كافرون} إضرابٌ وانتقالٌ منِ بيانِ كفرِهم بالبعثِ إلى بيانِ ما هُو أبلغُ وأشنعُ منه وهو كفرُهم بالوصولِ إلى العاقبةِ وما يلقَونه فيها من الأحوالِ والأهوالِ جميعاً(7/82)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
{قُلْ} بياناً للحقِّ وردَّا على زعمِهم الباطلِ {يتوفاكم مَّلَكُ الموت} لا كما تزعمون أنَّ الموتَ من الأحوالِ الطَّبيعيةِ العارضةِ للحيوانِ بموجبِ الجبلَّةِ أي يقبضُ أرواحكم بحيث لايدع فيكم شيئاً أو لا يتركُ منكم أحداً على أشد مايكون من الوجوهِ وأفظعِها من ضربِ وجوهِكم وأدبارِكم {الذى وكل بكم} أي بقبض أرواحِكم وإحصاءِ آجالِكم {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ} بالبعث للحسابِ والجزاءِ(7/82)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
{وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون} وهم القائلون أئذا ضللنا في الارض الآيةِ أو جنس المجرمينَ وهم من جملتهم {ناكسو رؤوسهم عِندَ رَبّهِمْ} من الحياءِ والخزيِ عند ظهورِ قبائحهم التي اقترفُوها في الدُّنيا {رَبَّنَا} أي يقولون رَبَّنَا {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أي صرنا ممَّن يُبصرُ ويسمعُ وحصل لنا الاستعدادُ لإدراك الآياتِ المُبصَرةِ والآياتِ المسمُوعةِ وكنَّا من قبلُ عُميا وصُمَّا لا ندركُ شيئاً {فارجعنا} إلى الدُّنيا {نَعْمَلْ} عملاً {صالحا} حسبما تقتضيهِ تلك الآياتُ وقولُه تعالى {إِنَّا مُوقِنُونَ} إدِّعاءٌ منهم لصحَّةِ الأفئدةِ والاقتدارِ على فهم معانِي الآياتِ والعملِ بموجبِها كما أنَّ ما قبله ادِّعاءٌ لصحَّةِ مشعري البصرِ والسَّمعِ كأنَّهم قالُوا وأيقنا وكنَّا من قبل لا نعقل شيئا أصلاً وإنما عدلُوا إلى الجملة الإسميةِ المؤكدةِ إظهاراً لثباتِهم على الإيقانِ وكمالِ رغبتهم فيه وكلُّ ذلك للجدِّ في الاستدعاءِ طمعاً في الإجابةِ إلى ما سألوه(7/82)
السجدة 13 من الرَّجعةِ وأنَّى لهم ذلك ويجوز أنْ يقدَّر لكلَ من الفعلينِ مفعولٌ مناسبٌ له مَّما يُبصرونه ويسمعونَه فإنَّهم حينئذٍ يشاهدون الكفرَ والمعاصيَ على صورٍ منكرةٍ هائلةٍ ويخبرهم الملائكةُ بأنَّ مصيرَهم إلى النَّار لا محالَة فالمعنى أبصرْنا قبحَ أعمالِنا وكنَّا نَراها في الدُّنيا حَسنةً وسمعنا أنَّ مردَّنا إلى النَّارِ وهو الأنسبُ لما بعدَهُ من الوعدِ بالعملِ الصَّالحِ هذا وقد قيل المعنى وسمعنَا منك تصديقَ رُسلِك وأنت خبيرٌ بأنَّ تصديقَه تعالى لهم حينئذٍ يكون بإظهارِ مدلولِ ما أُخبروا به من الوعد والوعيد لا بالإخبارِ بأنَّهم صادقون حتَّى يسمعوه وقيل وسمعنا قولَ الرُّسلِ أي سمعناه سمعَ طاعةٍ وإذعانٍ ولا يقدر لترى مفعولٌ إذ المعنى لو تكون منك رؤيةٌ في ذلك الوقتِ أو يقدر ما ينبىءُ عنه صلة إذ والمضيُّ فيها وفي لو باعتبارِ أنَّ الثَّابتَ في علمِ الله تعالى بمنزلةِ الواقعِ وجوابُ لو محذوفٌ أي لرأيتَ أمراً فظيعاً لا يُقادر قدرُه والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يصلُح له كائناً من كانَ إذِ المرادُ بيانُ كمالِ سوءِ حالِهم وبلوغِها من الفظاعةِ إلى حيثُ لا يختصُّ استغرابُها واستفظاعُها براءٍ دونَ راءٍ ممَّن اعتادَ مشاهدةَ الأمورِ البديعةِ والدَّواهيِ الفظيعةِ بل كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ يتعجبُ من هولِها وفظاعتِها هذا ومَنْ علّل عمومِ الخطابِ بالقصدِ إلى بيانِ أنَّ حالَهم قد بلغتْ من الظُّهورِ إلى حيث يمتنع خفاؤها البتةَ فلا تختصُّ رؤيةُ راءٍ دون راءٍ بل كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرُّؤيةُ فله مدخلٌ في هذا الخطابِ فقد نأى عن تحقيقِ الحقِّ لأنَّ المقصودَ بيانُ كمالِ فظاعةِ حالِهم كما يفصحُ عنه الجوابُ المحذوفُ لا بيانُ كمالِ ظهورِها فإنَّه مسوقٌ مساقَ المسلَّمات فتدبَّر(7/83)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
{وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} مقدر بقولٍ معطوفٍ على ما قُدِّر قبل قولِه تعالى رَبَّنَا أَبْصَرْنَا الخ أي ونقولُ لو شئنا أي لو تعلقتْ مشيئتُنا تعلقاً فعلياً بأنْ نُعطي كُلُّ نَفْسٍ منَ النفوسِ البرة والفاجرة ما تهتدي به إلى الإيمانِ والعملِ الصالحِ لأعطيناها إيَّاه في الدُّنيا التي هي دارُ الكسبِ وما أخَّرناه إلى دارِ الجزاءِ {ولكن حَقَّ القول مِنْى} أي سبقت كلمتي حيثُ قلتُ لإبليسَ عند قوله لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن اتبعك منهم أجمعين وهو المعنيُّ بقوله تعالى {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} كما يلوحُ به تقديمُ الجِنَّة على النَّاسِ فبموجبِ ذلكَ القولِ لم نشأْ إعطاءَ الهُدى على العمومِ بل منعناه من أتباعِ إبليسَ الذين أنتُم من جُملتِهم حيثُ صَرفتُم اختيارَكم إلى الغيِّ بإغوائِه ومشيئتُنا لأفعال العباد منوطةٌ باختيارِهم إيَّاها فلمَّا لم تختارُوا الهُدى واخترتُم الضَّلالةَ لم نشأْ إعطاءَه لكم وإنَّما أعطيناه الذين اختارُوه من النُّفوسِ البرَّةِ وهم المعنيّون بما سيأتي من قولِه تعالى إِنَّمَا يؤمن بآياتنا الآيةَ فيكونُ مناطُ عدمِ مشيئة إعطاءَ الهُدى في الحقيقةِ سوءَ اختيارِهم لا تحققَ القولِ وإنَّما قيدنا المشيئةَ بما مر من التعليق الفعليِّ بأفعالِ العبادِ عند حدوثِها لأنَّ المشيئةَ الأزليةَ من حيثُ تعلُّقها بما سيكونُ من أفعالِهم إجمالاً متقدِّمةٌ على تحققِ كلمةِ العذابِ فلا يكونُ عدمُها منوطاً بتحققِها وإنَّما مناطُه علمُه تعالى أزلاً بصرفِ(7/83)
السجدة 14 16 اختيارِهم فيما سيأتي إلى الغيِّ وإيثارِهم له على الهدى فلو أُريدت هي من تلك الحيثيةِ لاستدرك بعدمِها ونيطَ ذلك بما ذُكر من المناطِ على منهاجِ قولِه تعالى وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ فمن توهَّم أنَّ المَعنى ولو شئنا لأعطينا كلَّ نفسٍ ما عندنا من اللُّطفِ الذي لو كان منهم اختيارُه لاهتدَوا ولكن لم نُعطهم لمّا علمنا منهم اختيارَ الكفر وإيثارَه فقد اشتبه عليه الشئون والفاء في قوله تعالى(7/84)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
{فذوقوا} لترتيب الأمر بالذوق على ما يُعرب عنهُ ما قبلَهُ من نفيِ الرَّجعِ إلى الدُّنيا أو على الوعيدِ المحكيِّ والباء في قوله تعالى {بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} للإيذانِ بأنَّ تعذيبَهم ليس لمجردِ سبقِ الوعيدِ به فقط بل هو وسبقُ الوعيدِ أيضاً بسببٍ موجبٍ له من قِبَلهم كأنَّه قيل لا رجعَ لكم الى الدنيا أو حتى وعيدي فذوقُوا بسببِ نسيانِكم لقاءَ هذا اليومِ الهائلِ وتركِكم التفكُّرَ فيهِ والاستعدادَ له بالكُلِّيةِ {إِنَّا نسيناكم} أي تركناكُم في العذابِ تركَ المنسيِّ بالمرَّةِ وقولُه تعالى {وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تكريرٌ للتَّأكيدِ والتَّشديدِ وتعيينُ المفعولِ المطويِّ للذوقِ والإشعارِ بأنَّ سببَه ليس مجرَّد ما ذُكر من النِّسيانِ بل له أسبابٌ أخرُ من فنونِ الكفرِ والمَعاصي التي كانُوا مستمرِّين عليها في الدُّنيا وعدمُ نظمَ الكلِّ في سلكٍ واحدٍ للتنبيهِ على استقلالِ كلَ منها في استيجابِ العذابِ وفي إبهامِ المذوقِ أولاً وبيانِه ثانياً بتكريرِ الأمرِ وتوسيطِ الاستئناف المنبئ عن كمالِ السُّخطِ بينهما من الدلالة على غاية التَّشديدِ في الانتقامِ منهم ما لا يخفى وقوله تعالى(7/84)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
{إنما يؤمن بآياتنا} استئنافٌ مسوقٌ لتقريرِ عدمِ استحقاقِهم لإيتاءِ الهُدى والإشعارِ بعدمِ إيمانِهم لو أُوتوه بتعيينِ مَن يستحقُّه بطريقِ القصرِ كأنَّه قيل إنَّكم لا تُؤمنون بآياتِنا ولا تعملون بموجبِها عملاً صالحاً ولو رَجَعناكم إلى الدُّنيا كما تدَّعون حسبما ينطِق به قولُه تعالى وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وإنَّما يُؤمن بها {الذين إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا} أي وُعِظوا {خَرُّواْ سُجَّداً} آثِرَ ذي أثيرٍ من غيرِ تردُّدٍ ولا تلعثمٍ فضلاً عن التَّسويفِ إلى معاينةِ ما نطقتْ به من الوعدِ والوعيدِ أي سقطُوا على وجوهِهم {وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} أي ونزَّهُوه عند ذلك عن كلِّ ما لا يليقُ به من الأمور التي من جُملتها العجزُ عن البعثِ ملتبسين بحمدِه تعالى على نعمائِه التي أجلُّها الهدايةُ بإيتاءِ الآياتِ والتَّوفيقِ للاهتداءِ بها والتعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ بطريقِ الالتفاتِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم للإشعارِ بعلَّةِ التَّسبيحِ والتَّحميدِ وبأنَّهم يفعلونهما بملاحظةِ ربوبيتِه تعالى لهم {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أي والحالُ أنَّهم خاضعون له تعالى لا يستكبرون عمَّا فعلُوا من الخُرور والتَّسبيحِ والتَّحميدِ(7/84)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
{تتجافى جُنُوبُهُمْ} أي تنبُو وتتنحى {عَنِ المضاجع} أي الفُرشِ ومواضعِ المنامِ والجملةُ مستأنفةٌ لبيانِ بقيةِ محاسنِهم وهم المُتهجِّدونَ بالليلِ قال أنسٌ رضي الله عنه نزلتْ فينا معاشرَ الأنصارِ كنَّا نصلِّي المغربَ فلا نرجعُ إلى رحالِنا حتى نصلي(7/84)
السجدة 17 19 العشاء مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وعن انس ايضا رضيَ الله عنه أنَّه قال نزلتْ في أناسٍ من اصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كانوا يصلُّون من صلاةِ المغربِ إلى صلاةِ العشاءِ وهي صلاةُ الأوَّابينَ وهو قولُ أبي حازمٍ ومحمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال عطاءهم الذين لا ينامُون حتَّى يصلو العشاءَ الآخرةَ والفجرَ في جماعةٍ والمشهورُ أنَّ المرادَ منه صلاةُ اللَّيلِ وهو قولُ الحسنِ ومجاهدٍ ومالكٍ والاوزاعي وجماعة لقوله صلى الله عليه وسلم أفضلُ الصِّيامِ بعد شهرِ رمضانَ شهرُ الله المحرَّمُ وأفضلُ الصَّلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ اللَّيلِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في تفسيرِها قيامُ العبدِ من الليل وعنه صلى الله عليه وسلم إذا جمعَ الله الأوَّلينَ والآخرينَ جاء منادٍ ينادي بصوتٍ يُسمع الخلائقَ كلَّهم سيعلم أهلُ الجمعِ اليَّومَ من أولى بالكرمِ ثم يرجعُ فيُنادي ليقُم الذين كانتْ تتجَافى جنوبُهم عن المضاجعِ فيقومونَ وهُم قليلٌ ثم يرجعُ فيُنادي ليقُم الذين كانُوا يحمدون الله في السرَّاءِ والضَّراءِ فيقومون وهُم قليلٌ فيسرَّحُون جميعاً إلى الجنَّةِ ثم يُحاسَب سائرُ النَّاسِ وقولُه تعالى {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} حالٌ من ضميرِ جنوبُهم أي داعينَ له تعالى على الاستمرارِ {خَوْفًا} من سخطِه وعذابِه وعدمِ قبولِ عبادتِه {وَطَمَعًا} في رحمتِه {وَمِمَّا رزقناهم} من المالِ {يُنفِقُونَ} في وجوهِ البرِّ والحسناتِ(7/85)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ} من النفوس لاملك مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ فضلاً عمَّن عداهم {مَّا أُخْفِىَ لَهُم} أي لأولئكَ الذين عُدِّدت نعوتُهم الجليلةُ {مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} مما تقرُّ به أعينُهم وعنْهُ صلى الله عليه وسلم يقولُ الله عزَّ وجلَّ أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلبِ بشرٍ بَلْهَ ما أطلعتم عليه اقرءوا إنْ شئتُم فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة اعين وقرئ ما أُخفي لهم وما نُخفي لهم وما أَخفيتُ لَهُم على صيغةِ المتكلِّمِ وما أخفى لهم على البناءِ للفاعلِ وهو الله سبحانه وقرئ قُرَّاتِ أعينٍ لاختلافِ أنواعِها والعِلمُ بمعنى المعرفةِ وما موصولةٌ أو استفهاميةٌ عُلِّق عنها الفعلُ {جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جُزوا جزاء أو أُخفي لهم للجزاءِ بما كانُوا يعملونَه في الدُّنيا من الأعمالِ الصَّالحةِ قيل هؤلاءِ القومُ أخفَوا أعمالَهم فأخفَى الله تعالى ثوابَهم(7/85)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} أي أبعدَ ظهورِ ما بينهُما من التَّباينِ البيِّنِ يُتوهَّمُ كونُ المؤمنِ الذي حُكيت أوصافُه الفاضلةُ كالفاسقِ الذي ذُكرت أحوالُه {لاَّ يَسْتَوُونَ} التَّصريح به مع إفادةِ الإنكارِ لنفيِ المشابهةِ بالمرَّة على أبلغِ وجهٍ وآكدِه لبناء التَّفصيل الآتِي عليه والجمعُ باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما سبق باعتبارِ لفظِها وقولُه تعالَى(7/85)
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)
{أما الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جنات المأوى} تفصيلٌ لمراتبِ الفريقينِ في الآخرةِ بعد ذكرِ أحوالِهما في الدُّنيا وأضيفتْ الجنَّةُ إلى المَأْوى لأنَّها المأوى الحقيقيُّ وإنَّما الدُّنيا منزلٌ مرتحلٌ عنه لا محالةَ وقيل المَأْوى جنَّةٌ من الجنَّاتِ وأياً ما كانَ فلا يبعُد أنْ يكونَ فيه رمزٌ إلى ما ذُكر من تجافِيهم عن مضاجعِهم(7/85)
السجدة 20 23 التي هي مأواهم في الدُّنيا {نُزُلاً} أي ثواباً وهو في الأصلِ ما يعد النازل من الطَّعامِ والشَّرابِ وانتصابُه على الحاليَّةِ {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدُّنيا من الأعمالِ الصالحةِ أو بأعمالِهم(7/86)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
{وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ} أي خرجُوا عن الطَّاعةِ {فَمَأْوَاهُمُ} أي ملجؤهم ومنزلُهم {النار} مكانَ جنَّاتِ المأوى للمؤمنينَ {كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فيها} اسئناف لبيانِ كيفيةِ كونِ النَّارِ مأواهم يُروى أنَّه يضربُهم لهَبُ النَّارِ فيرتفعونَ إلى طبقاتِها حتَّى إذا قربُوا من بابِها وأرادُوا أنْ يخرجُوا منها يضربُهم اللَّهبُ فيهوون إلى قعرِها وهكذا يُفعل بهم أبداً وكلمةُ فِي للدِّلالةِ على أنَّهم مستقرُّون فيها وإنَّما الإعادةُ من بعضِ طبقاتِها إلى بعضٍ {وَقِيلَ لَهُمْ} تشديداً عليهم وزيادةً في غيظِهم {ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ} أي بعذابِ النَّارِ {تُكَذّبُونَ} على الاستمرارِ في الدُّنيا(7/86)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الادنى} أي عذابِ الدُّنيا وهو ما مُحِنُوا به من السَّنةِ سبعَ سنينَ والقتلِ والأسرِ {دُونَ العذاب الأكبر} الذي هُو عذابُ الآخرةِ {لَعَلَّهُمْ} لعلَّ الذين يُشاهدونه وهُم في الحياةِ {يَرْجِعُونَ} يتوبُون عن الكفرِ رُوي أن الوليدَ بنَ عُقبةَ فاخرَ عليًّا رضيَ الله عنه يومَ بدرٍ فنزلتْ هذه الآياتُ(7/86)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بآيات رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} بيانٌ إجماليٌّ لحالِ مَنْ قابلَ آياتِ الله تعالى بالإعراضِ بعد بيانِ حالِ مَن قابلها بالسُّجودِ والتَّسبيحِ والتَّحميدِ وكلمةُ ثمَّ لاستبعادِ الإعراضِ عنها عقلاً مع غاية وضوحها وإرشادها إلى سعادةِ الدَّارينِ كما في بيتِ الحماسةِ وَلاَ يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إِلاَّ ابْنُ حُرَّة يَرَى غَمَراتِ المَوْتِ ثُمَّ يزُورُها أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالم وإنْ كانَ سبكُ التركيبِ على نفيِ الأظلمِ من غيرِ تعرضٍ لنفْي المساوي وقد مرَّ مراراً {إِنَّا مِنَ المجرمين} أي من كلُّ منِ اتَّصف بالإجرامِ وإنْ هانتْ جريمتُه {مُنتَقِمُونَ} فكيفَ ممَّن هُو أظلمَ منْ كلِّ ظالم وأشر جُرماً من كلِّ مجرم(7/86)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
{ولقد آتينا موسى الكتاب} أي التوراة عبَّر عنها باسمِ الجنسِ لتحقيقِ المجانسةِ بينها وبينَ الفرقان والتنبيه أنَّ إيتاءَه لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم كإبنائها لمُوسى عليهِ السَّلامُ {فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ} من لقاءِ الكتابِ الذي هو الفُرقان كقوله وإنك لتلقَّى القرآنَ والمعنى إنَّا آتينا مُوسى مثلَ ما آتيناك من الكتابِ ولقَّيناه من الوحيِ مثلَ ما لقَّيناك من الوحيِ فلا تكُن في شكَ من أنَّك لقيتَ مثلَه ونظيرَه وقيل من لقاءِ مُوسى الكتاب أو من لقائك موسى وعنه صلى الله عليه وسلم رأيتُ ليلة أُسري بي مُوسى رجلاً آدَمَ طُوالاً وجعدا كأنه من رجال شنوأة {وجعلناه} أي(7/86)
السجدة 24 27 الكتابَ الذي آتيناهُ مُوسى {هدى لبني إسرائيل} قيل لم يُتعبدْ بما في التوراة ولد إسمعيل(7/87)
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ} بقيتهم بما في تضاعيفِ الكتابِ من الحُكم والأحكامِ إلى طريقِ الحقِّ أو يهدونَهم إلى ما فيهِ من دينِ الله وشرائعِه {بِأَمْرِنَا} إيَّاهم بذلك أو بتوفيقِنا له {لَمَّا صَبَرُواْ} هي لما التي فيها مَعنى الجزاءِ نحو أحسنتُ إليك لمَّا جئتنِي والضَّميرُ للأئمةِ تقديرُه لمَّا صبرُوا جعلناهُم أئمةً أو هي ظرفٌ بمعنى الحينِ أي جعلناهُم أئمةً حين صبرُوا والمرادُ صبرُهم على مشاقِّ الطاعات ومقاسات الشَّدائدِ في نُصرةِ الدِّينِ أو صبرُهم عن الدُّنيا وقرئ لِمَا صبرُوا أي لصبرِهم {وكانوا بآياتنا} التي في تضاعيفِ الكتابِ {يُوقِنُونَ} لإمعانِهم فيها النَّظرَ والمعنى كذلك لنجعلنَّ الكتابَ الذي آتيناكَه هُدى لأمَّتِك ولنجعلنَّ منهم أئمَّةً يهدون مثلَ تلك الهدايةِ(7/87)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ} أي يقضِي {بَيْنَهُمْ} قيل بينَ الأنبياءِ وأممِهم وقيل بين المؤمنينَ والمشركينَ {يَوْمُ القيامة} فيميِّزُ بين المُحقِّ والمباطل {فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمورِ الدِّينِ(7/87)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} الهمزةُ فلإنكار والواوُ للعطفِ على منويَ يقتضيه المقام وفعل الهداية إما من قبيل فلانٌ يعطي في أنَّ المرادَ إيقاعُ نفسِ الفعلِ بلا ملاحظةِ المفعولِ وإمَّا بمعنى التبيينِ والمفعولُ محذوفٌ والفاعلُ ما دلَّ عليهِ قوله تعالى {كَمْ أَهْلَكْنَا} أي أغفلُوا ولم يفعلِ الهدايةَ لهم أو ولم يبيَّن لهم مآلُ أمرِهم كثرة إهلاكنا {مَنْ قبلهم مّنَ القرون} مثلُ عادٍ وثمود وقوم لوط وقرئ نهدِ لهم بنونِ العظمةِ وقد جوز أن يكون الفاعلُ على القراءةِ الأولى أيضاً ضميرُه تعالى فيكون قوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنَا الخ استئنافاً مبيِّناً لكيفيَّةِ هدايتِه تعالى {يَمْشُونَ فِى مساكنهم} أي يمرُّون في متاجرِهم على ديارِهم وبلادِهم ويشاهدُون آثارَ هلاكِهم والجملةُ حالٌ من ضمير لهم وقرئ يمشُون للتَّكثيرِ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذكر من كثرةِ إهلاكِنا للأممِ الخاليةِ العاتيةِ أو في مساكنِهم {لآيَاتٍ} عظيمةً في أنفسِها كثيرةً في عددِها {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} هذه الآياتِ سماعَ تدبرٍ واتِّعاظٍ(7/87)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الماء إِلَى الارض الجرز} أي التي جَرزَ نباتُها أي قُطع وأُزيل بالمرَّةِ وقيل هو اسمُ موضعٍ باليمنِ {فَنُخْرِجُ بِهِ} من تلك الأرضِ {زَرْعاً تَأْكُلُ} أي من ذلك الزَّرعِ {أنعامهم} كالتِّبنِ والقصيلِ والورقِ وبعضِ الحبوبِ المخصوصةِ بها وقرئ يأكلُ بالياءِ {وَأَنفُسِهِمْ} كالحبوبِ التي يقتاتُها الإنسانُ والثمارِ {أفلا يبصرون}(7/87)
السجدة 28 30 أي ألا ينظرون فلا يُبصرون ذلك ليستدلُّوا به عَلى كمالِ قدرتِه تعالى وفضله(7/88)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)
{وَيَقُولُونَ} كان المسلمونَ يقولون الله سيفتحُ لنا على المشركين أو يفصلُ بيننا وبينهم وكان أهلُ مكَّةَ إذا سمعُوه يقولون بطريقِ الاستعجالِ تكذيباً واستهزاءً {متى هذا الفتح} أي النَّصرُ أو الفصلُ بالحكومةِ {إِن كُنتُمْ صادقين} في أنَّ الله تعالى ينصرُكم أو يفصلُ بيننا وبينكم(7/88)
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
{قُلْ} تبكيتاً لهم وتحقيقاً للحقِّ {يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كَفَرُواْ إيمانهم وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يومُ الفتح يومُ القيامةِ وهو يومُ الفصلِ بين المؤمنين وأعدائِهم ويومُ نصرِهم عليهم وقيل هو يومُ بدرٍ وعن مجاهدٍ والحسنِ يومُ فتحِ مكَّةَ والعدولُ عن تطبيقِ الجوابِ على ظاهرِ سؤالِهم للتَّنبيهِ على أنَّه ليسَ ممَّا ينبغِي أنْ يُسألَ عنه لكونِه أمراً بيِّناً غنياً عن الإخبارِ به وكذا إيمانُهم واستنظارُهم يومئذٍ وإنَّما المحتاجُ إلى البيانِ عدمُ نفعِ ذلك الإيمانِ وعدمُ الإنظارِ كأنَّه قيل لا تستعجلُوا فكأنِّي بكم قد آمنتُم فلم ينفعْكم واستنظرتُم فلم تُنظروا وهذا على الوجهِ الأولِ ظاهرٌ وأمَّا على الأخيرينِ فالموصولُ عبارةٌ عن المقتولينَ يؤمئذ لا عن كافَّة الكَفَرةِ كما في الوجه الأول كيف لا وقد نفعَ الإيمانُ الطُّلقاءَ يومَ الفتحِ وناساً أمنُوا يومَ بدرٍ(7/88)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تُبالِ بتكذيبِهم {وانتظر} النُّصرةَ عليهم وهلاكَهم {إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} قيل أيِ الغلبةَ عليكم كقولِه تعالى فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ والأظهرُ أنْ يقالَ إنَّهم منتظرون هلاكَهم كما في قوله تعالى {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام} الآيةَ ويقرُب منه ما قيلَ {وانتظرْ} عذابَنا {إنهم منتظرون} فإنَّ استعجالَهم المذكورَ وعكوفَهم على ما هم عليه منَ الكُفر والمَعاصي فِي حُكم انتظارِهم العذابَ المترتِّبَ عليه لا محالة وقرئ على صيغةِ المفعولِ على مَعْنى أنَّهم أحقَّاءُ بأنْ يُنتظرَ هلاكُهم أو فإنَّ الملائكةَ ينتظرونَهُ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ ألم تنزيلُ وتباركَ الذي بيدِه الملكُ أُعطيَ منَ الأجرِ كأنَّما أحيا ليلة القدر وعنه صلى الله عليه وسلم مَن قرأَ ألم تنزيلُ في بيتِه لم يدخُلْه الشَّيطانُ ثلاثةَ أيَّامٍ(7/88)
سورة الاحزاب 1 2
{بسم الله الرحمن الرحيم}(7/89)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
{يا أيها النبى اتق الله} في ندائه صلى الله عليه وسلم بعنوانِ النُّبوةِ تنويهٌ بشأنِه وتنبيهٌ على سموِّ مكانِه والمرادُ بالتَّقوى المأمورِ به الثباتُ عليهِ والازديادُ منه فإنَّ له باباً واسعاً وعرضاً عريضاً لا يُنال مداهُ {وَلاَ تُطِعِ الكافرين} أي المجاهرينَ بالكُفر {والمنافقين} المُضمرين له أي فيما يعودُ بوهنٍ في الدِّينِ وإعطاء دنيَّةٍ فيما بين المسلمينَ رُوي أنَّ أبا سفيانَ بنَ حربٍ وعكرمةَ بنَ أبي جهلٍ وأبا الأعورِ السُّلَمي قدِمُوا عليهِ صلى الله عليه وسلم في الموادعةِ التي كانتْ بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم وقامَ معهم عبدُ اللَّهِ بن أبيَ ومعتب بن قُشير والجدُّ بنُ قيسٍ فقالُوا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أرفضْ ذكرَ آلهتِنا وقل إنَّها تشفعُ وتنفعُ وندعك وربَّك فشقَّ ذلك على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والمؤمنين وهموا بقلتهم فنزلتْ أي اتقِ الله في نقضِ العهدِ ونبذِ الموادعةِ ولا تساعدِ الكافرينَ من أهلِ مكةَ والمنافقينَ من أهلِ المدينةِ فيما طلبُوا إليكَ {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} حَكِيماً مبالِغاً في العلمِ والحكمةِ فيعلمُ جميعَ الأشياءِ من المصالحِ والمفاسدِ فلا يأمرُك إلا بما فيه مصلحةٌ ولا ينهاك إلا عمَّا فيه مفسدةٌ ولا يَحكُم إلا بما تقتضيهِ الحكمةُ البالغةُ فالجملةُ تعليلٌ للأمرِ والنَّهي مؤكدٌ لوجوبِ الامتثالِ بهما(7/89)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
{واتبع} أي في كلِّ ما تأتِي وتذر من أمورِ الدِّينِ {مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبّكَ} منَ الآياتِ التي منْ جملتها هذه الآيةُ الآمرةُ بتقوى الله الناهيةُ عن مساعدةِ الكَفَرةِ والمنافقينَ والتَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمرِ {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} قيل الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والجمعُ للتَّعظيمِ وقيل له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنينَ وقيلَ للغائبينَ بطريقِ الالتفاتِ ولا يخفى بعدُه نعم يجوز أن يكون للكلِّ على ضربٍ من التَّغليبِ وأيا ما كانَ فالجملةُ تعليلٌ للأمرِ وتأكيدٌ لموجبه أمَّا على الوجهينِ الأولين فبطريق الترغيب والترهيب كأنه قبل إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تعملونَه من الامتثالِ وتركه فيرتب على كلَ منهما جزاءَه ثواباً وعقاباً وأمَّا على الوجهِ الأخيرِ فبطريقِ الترغيب فقط كأنَّه قيل إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يعملُه كلا الفريقينِ فيرشدك إلى ما فيه صلاحٌ حالِك وانتظامُ أمرِك ويُطلعك على ما يعملونَه من المكايدِ والمفاسدِ ويأمُرك بما ينبغِي لك أنْ تعملَه في دفعِها وردِّها فلا بُدَّ من اتباعِ الوحيِ والعمل بمقتضاه حتما(7/89)
الاحزاب 3 5(7/90)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أي فوض جميع أمورك إليه {وكفى بالله وَكِيلاً} حافظاً موكُولاً إليه كلُّ الأمورِ(7/90)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
{مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ} شروعٌ في إلقاءِ الوحيِ الذي أمر صلى الله عليه وسلم باتباعه وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى تمهيداً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {وما جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتكم وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} وتنبيهاً على أنَّ كون المُظاهَرِ منها اما وكون الدعى ابناً أي بمنزلة الأمِّ والابنِ في الآثارِ والأحكامِ المعهودة فيما بينهم في الاستحالةِ بمنزلة اجتماعِ قلبينِ في جوفٍ واحدٍ وقيل هو ردٌّ لما كانتِ العربُ تزعمُ من أنَّ اللَّبيبَ الأريبَ له قلبانِ ولذلك لأبي معمرٍ أو لجميلِ بن سيد الفهريِّ ذُو القلبينِ أي ما جمعَ الله تعالى قلبينِ في رجلٍ وذِكرُ الجوفِ لزيادةِ التَّقريرِ كما في قولِه تعالى ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور ولا زوجيَّةَ ولا أمومةَ في امرأةٍ ولا دعوةَ وبنوَّةَ في شخصٍ لكن لا بمعنى نفيِ الجمع بين حقيقة الزوجية والأمومة ونفى بين حقيقة الدعوة والنبوة كما في القلبِ ولا بمعنى نفيِ الجمعِ بين أحكامِ الزوجيةِ وأحكامِ الأُمومةِ ونفيِ الجمعِ بين أحكامِ الدعوة وأحكام النبوة على الإطلاقِ بل بمعنى نفيِ الجمعِ بين حقيقةِ الزوجية وأحكام الأمومة ونفي الجمعِ بين حقيقةِ الدَّعوةِ واحكام النبوة لإبطالِ ما كانُوا عليهِ من إجراءِ أحكامِ الأُمومةِ على المظاهرِ منها وإجراءِ احكام النبوة على الدَّعيِّ ومعنى الظِّهارِ أنْ يقولَ لزوجتِه أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي مأخوذٌ من الظَّهر باعتبارِ اللَّفظ كالتَّلبيةِ من لبيكَ وتعديته بمن لتضمنِه معنى التجنبِ لأنَّه كان طلاقاً في الجاهليةِ وهو في الإسلامِ يقتضِي الطَّلاقَ أو الحُرمةَ إلى أداءِ الكفَّارةِ كما عُدِّي آلَى بها وهو بمعنى حلفَ وذُكر الظِّهارُ للكنايةِ عن البطنِ الذي هو عمودُه فإنَّ ذِكرَه قريبٌ من ذكرِ الفرجِ أو التغليظ في التَّحريمِ فإنَّهم كانُوا يُحرِّمون إتيانَ الزَّوجةِ وظهرُها الى السماء وقرئ اللاء وقرئ تظاهرونَ بحذفِ إحدى التَّاءينِ من تتَظَاهرون وتَظّاهرون بإدغامِ التَّاءِ الثَّانيةِ في الظَّاءِ وتُظْهرون من أظهرَ بمعنى تظَهَّر وتَظْهَرون من ظَهَر بمعنى ظاهَر كعقدَ بمعنى عاقَد وتَظْهُرون من ظَهر ظُهوراً وأدعياءُ جمع دَعيَ وهو الذي يُدعى ولداً على الشُّذوذِ لاختصاصِ أَفعِلاء بفعيلٍ بمعنى فاعلٍ كتقيَ وأتقياء كأنَّه شُبِّه به في اللَّفظِ فجُمع جمعَه كقُتلاء وأُسراء {ذلكم} إشارةٌ إلى ما يُفهم ممَّا ذكر من الظهار والدعاء أو إلى الأخيرِ الذي هو المقصودُ من مساقِ الكلامِ أي دعاءُكم بقولِكم هذا ابني {قَوْلُكُم بأفواهكم} فقط من غيرِ أن يكونَ له مصداقٌ وحقيقةٌ في الأعيانِ فإذن هُو بمعزلٍ من استتباعِ أحكامِ البنوَّةِ كما زعمتُم {والله يَقُولُ الحق} المطابقَ للواقعِ {وَهُوَ يَهْدِى السبيل} أي سبيلِ الحقِّ لا غيرَ فدعُوا أقوالَكم وخُذوا بقوله عزَّ وجلَّ(7/90)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
{ادعوهم لآبَائِهِمْ} أي أنسبُوهم(7/90)
الأحزاب 76 إليهم وخُصُّوهم بهم وقولُه تعالى {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} تعليلٌ له والضَّميرُ لمصدرِ ادعُوا كما في قولِه تعالى اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى وأقسطُ أفعلُ قُصد به الزيادةَ مطلقاً من القسطِ بمعنى العدلِ أي الدُّعاء لآبائِهم بالغٌ في العدلِ والصِّدقِ في حُكمِ الله تعالى وقضائِه {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُم} فتنسبُوهم إليهم {فَإِخوَانُكُمْ} فهم إخوانُكم {فِى الدين ومواليكم} وأولياؤكم فيه أي فادعُوهم بالاخوة الدينية والمولوبة {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي إثمٌ {فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أي فيما فعلتمُوه من ذلك مخطئينَ بالسَّهوِ أو النِّسيانِ أو سبقِ اللِّسانِ {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي ولكن الجناحُ فيما تعمَّدت قلوبُكم بعد النَّهي أو ما تعمَّدت قلوبُكم فيه الجناحَ {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} لعفوهِ عن المخطئ وحكمُ التبنِّي بقولِه هو ابني إذا كان عبداً للفائل العتقِ على كلِّ حالٍ ولا يثبُت نسبُه منه إلاَّ إذا كان مجهولَ النَّسبِ وكان بحيثُ يُولد مثلُه لمثلِ المتبنِّي ولم يُقرَّ قبله بنسبِه من غيرهِ(7/91)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
{النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي في كلِّ أمرٍ من أمورِ الدِّينِ والدُّنيا كما يشهدُ به الإطلاق فيجب عليه ان يكون صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليهم من أنفسِهم وحكمُه أنفذَ عليهم من حكمِها وحقُّه آثرَ لديهم من حقوقِها وشفقتُهم عليه أقدمَ من شفقتِهم عليها روى انه صلى الله عليه وسلم أراد غزوةَ تبوكَ فأمرَ الناس بالخروج فقال ناس نستأذنُ آباءَنا وأُمَّهاتِنا فنزلتْ وقرئ وهو أبٌ لهم أي في الدِّينِ فإنَّ كلَّ نبيَ أبٌ لأمَتهِ من حيثُ إنَّه أصلٌ فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون إخوةً {وأزواجه أمهاتهم} أي منزلات منزلَة الأمَّهاتِ في التَّحريمِ واستحقاقِ التَّعظيمِ وأما فيما عَدا ذلك فهنَّ كالأجنبياتِ ولذلك قالتْ عائشةَ رضيَ الله عنها لسنا أُمَّهاتِ النِّساءِ {وَأُوْلُو الأرحام} أي ذو القراباتِ {بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} في التَّوارث وهو نسخٌ لما كان في صدرِ الإسلام من التوارث بالهجرةِ والمُوالاة في الدِّينِ {فِى كتاب الله} في اللَّوح أو فيما أنزلَه وهو هذه الآيةُ أو آيةُ المواريثِ أو فيما فرضَ الله تعالى {مِنَ المؤمنين والمهاجرين} بيانٌ لأولي الأرحامِ أو صلةٌ لأُولي أي أولُو الأرحامِ بحقِّ القرابةِ أَولى بالميراثِ من المؤمنينَ بحقِّ الدِّينِ ومن المهاجرينَ بحقِّ الهجرةِ {إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً} استثناء من أعمِّ ما تُقدَّرُ الأولويَّةُ فيهِ من النَّفعِ والمرادُ بفعلِ المعروفِ التَّوصيةُ أو منقطع {كَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا} أي كانَ مَا ذُكر من الآيتينِ ثابتاً في اللَّوحِ أو القُرآنِ وقيل في التوارة(7/91)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ} أي اذكُر وقتَ أخذنا من النبيينَ كافَّةَ عهودِهم بتبليغِ الرِّسالةِ والدُّعاءِ إلى الدِّينِ الحقِّ {وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وإبراهيمُ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} وتخصيصُهم بالذكر مع(7/91)
الاحزاب 8 9 اندارجهم في النبيين اندارجا بيناً للإيذانِ بمزيدِ مزيَّتِهم وفضلِهم وكونِهم من مشاهيرِ أربابِ الشَّرائعِ وأساطينِ أولي العزم من الرسال وتقديم نبينا عليهم عليهم الصَّلاة والسَّلام لإبانةِ خطرهِ الجليلِ {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً} أي عهداً عظيمَ الشَّأنِ أو مُؤكَّداً باليمينِ وهذا هو الميثاقُ الأولُ بعينِه وأخذُه هو أخذُه والعطفُ مبنيٌّ على تنزيلِ التغايُرِ العنوانيِّ منزلَة التغايرِ الذَّاتيِّ تفخيماً لشأنِه كما في قوله تعالى وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ اثر قولِه تعالى فلمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وقولُه تعالى(7/92)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
{لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ} متعلق بمضمر مستأنفٌ مسوقٌ لبيان ما هو داع إلى ما ذكر من أخذِ الميثاقِ وغاية له لا بأخذنا فإنَّ المقصودَ تذكيرُ نفسِ الميثاقِ ثمَّ بيانُ الغرضِ منه بياناً قصديَّاً كما ينبىءُ عنه تغييرُ الأسلوبِ بالالتفات إلى الغَيبةِ أي فعل الله ذلك ليسألَ يومَ القيامةِ الأنبياءَ ووضعَ الصَّادقينَ موضعَ ضميرِهم للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّهم صادقون فيما سُئلوا عنه وإنَّما السُّؤالُ لحكمةٍ تقتضِيه أي ليسألَ الانبياء الذين صدقوا عهدهم عمَّا قالُوه لقومِهم أو عن تصديقِهم إيَّاهم تبكيتاً لهم كما في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ أو المصدِّقين لهم عن تصديقِهم فإنَّ مصدِّقَ الصَّادقِ صادقٌ وتصديقَه صدقٌ وأما ما قيل من أن المعنى ليسأل المؤمنينَ الذين صدقُوا عهدَهم حين أشهدَهم على أنفسِهم عن صدقِهم عهدَهم فيأباهُ مقامُ تذكيرِ ميثاقِ النبيينَ وقولُه تعالى {وَأَعَدَّ للكافرين عَذَاباً أَلِيماً} عطف ما ذُكر من المضمرِ لا على أخذَنا كما قيلَ والتَّوجيه بأنَّ بعثةَ الرُّسلِ وأخذَ الميثاقِ منهم لإثابةِ المؤمنينَ أو بأنَّ المعنى أنَّ الله تعالى أكَّد على الأنبياءِ الدَّعوةَ إلى دينِه لأجلِ إثابةِ المؤمنين تعسف ظاهر أنَّه مفضٍ إلى كونِ بيانِ إعدادِ العذابِ الأليمِ للكافرينَ غيرُ مقصودٍ بالذَّاتِ نعم يجوزُ عطفُه على ما دل عليه قوله تعالى ليسألَ الصَّادقينَ كأنَّه قيل فأثابَ المؤمنينَ وأعدَّ للكافرين الآية(7/92)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} إنْ جُعل النِّعمةَ مصدرَاً فالجارُّ متعلِّقٌ بها وإلا فهوُ متعلِّق بمحذوفٍ هو حالٌ منها أي كائنةً عليكُم {إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} ظرفٌ لنفسِ النِّعمةِ أو لثبوتِها لهم وقيل منصوبٌ باذكروا على أنَّه بدلُ اشتمالٍ من نعمةَ الله والمرادُ بالجنودِ الأحزابُ وهُم قريشٌ وغَطَفانُ ويهودُ قريظةَ والنَّضيرِ وكانُوا زُهاءَ اثني عشرَ ألفاً فلمَّا سمعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالِهم ضربَ الخندقَ على المدينةِ بإشارةِ سلمانَ الفارسيِّ ثمَّ خرجَ في ثلاثةِ آلافٍ من المُسلمينَ فضربَ معسكَرهُ والخندقُ بينَهُ وبينَ القومِ وأمرَ بالذَّرارىِ والنِّساءِ فَرفعوا في الآطامِ واشتدَّ الخوفُ وظنَّ المؤمنونَ كلَّ ظنَ ونجمَ النِّفاقُ في المنافقينَ حتَّى قال معتِّبُ بنُ قُشيرٍ كان محمدٌ يَعِدنا كنوزَ كسرى وقيصرَ ولا نقدرُ أنْ نذهبَ إلى الغائطِ ومضَى على الفريقينِ قريبٌ من شهرٍ لا حربَ بينهم إلا أنَّ فوارسَ من قريشٍ منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله وضرارُ بنُ الخطَّابِ ومرداسُ أخُو بني محاربٍ قد ركبوا(7/92)
الأحزاب 10 خيولَهم وتيَّممُوا من الخندقِ مكاناً مضيقاً فضربُوا خيولَهم فاقتحمُوا فجالتْ بهم في السَّبخة بين الخندقِ وسلعٍ فخرج عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه في نفرٍ من المسلمين حتَّى أخذَ عليهم الثَّغرة التي اقتحمُوا منها فأقبلتِ الفرسانُ نحوَهم وكان عمروٌ معلماً ليُرى مكانُه فقال له عليٌّ رضيَ الله عنه يا عمر واني أدعُوك إلى الله ورسولِه والإسلامِ قال لا حاجةَ لي اليه فإنيِّ أدعُوك إلى النِّزالِ قال يا ابنَ أخي والله لا أحبُّ أنْ أقتلَك قال عليٌّ لكنِّي والله أحبُّ أنْ أقتلَك فحمي عمروٌ عند ذلكَ وكان غيُوراً مشهُوراً بالشَّجاعةِ واقتحمَ عن فرسِه فعقَره أو ضربَ وجهَه ثم أقبلَ عَلَى عليَ فتناولاَ وتجاولاَ فضربه علي رضي الله عنه ضربةً ذهبتْ فيها نفسُه فلما قتلَه انهزمتْ خيلُه حتى اقتحمتْ من الخندقِ هاربةً وقتل مع عمروٍ رجلين منبه بن عثمان ابن عبدِ الدَّار ونوفلُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ المُغيرةِ المخزومِّي قتلَه أيضاً عليٌّ رضي الله عنه وقيل لم يكُن بينهم إلا التَّرامي بالنَّبلِ والحجارةِ حتَّى أنزل الله تعالى النَّصرَ وذلكَ قولُه تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} عطفٌ على جاءتْكُم مسوقٌ لبيانِ النِّعمةِ إجمالاً وسيأتي بقيَّتُها في آخرِ القصَّة {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكةُ عليهم السَّلامُ وكانُوا ألفاً بعثَ الله عليهم صَباً باردةً في ليلةٍ شاتيةٍ فأخصرتْهمُ وسفتِ التُّرابَ في وجوهِهم وأمرَ الملائكةَ فقلعت الأوتادَ وقطَّعتِ الأطنابَ وأطفأتِ النِّيرانَ وأكفأتِ القُدورَ وماجتِ الخيلُ بعضُها في بعضٍ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب وكبَّرتِ الملائكةُ في جوانبِ عسكرِهم فقال طليحةُ بنُ خوُيلدِ الأسديُّ أما محمدٌ فقد بدأكم بالسِّحرِ فالنَّجاءَ النَّجاءَ فانهزمُوا من غيرِ قتالٍ {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} من حفرِ الخندقِ وترتيب مبادي الحربِ وقيل من التجائِكم إليه ورجائِكم من فضلِه وقُرىء بالياءِ أي بما يعملُه الكفَّارُ أي من التَّحرزِ والمحاربةِ أو من الكفرِ والمعاصِي {بَصِيراً} ولذلكَ فعلَ ما فعلَ من نصرِكم عليهم والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله(7/93)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
{إذ جاؤوكم} بدلٌ من إذْ جاءتْكُم {مّن فَوْقِكُمْ} من أعلى الوادِي من جهةِ المشرقِ وهم بنُو غطَفَان ومَن تابعهم من اهل نجد قائدُهم عيينةُ بن حِصْنٍ وعامرُ بنُ الطُّفيلِ في هوازنَ وضامتهم اليهودُ من قريظةَ والنضِير {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} أي من أسفلِ الوادِي من قبلِ المغربِ وهم قُريشٌ ومن شايعهم من الأحابيشِ وبني كِنانةَ وأهل تِهامةَ وقائدُهم أبوُ سفيانَ وكانُوا عشرةَ آلافٍ {وَإِذْ زَاغَتِ الابصار} عطفٌ على ما قبلَه داخلٌ معه في حُكمِ التَّذكيرِ أي حين مالتْ عن سَننِها وانحرفتْ عن مُستوى نظرِها حيرةً وشُخوصاً وقيل عدلتْ عن كلِّ شيءٍ فلم تلتفتْ إلاَّ إلى عدوِّها لشدَّةِ الرَّوعِ {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} لأنَّ الرئةَ تنتفخ من شدَّةِ الفزعِ فيرتفعُ القلبُ بارتفاعِها إلى رأسِ الحنجرةِ وهي مُنتهى الحُلقومِ وقيل هو مثلٌ في اضطرابِ القلوب ووجيبِها وإنْ لم تبلغْ الحناجرَ حقيقة والخطابُ في قولِه تعالَى {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} لمن يُظهر الإيمانَ على الإطلاقِ أي تظنُّون بالله تعالى أنواعَ الظُّنونِ المختلفةِ حيثُ ظنَّ المُخلصون الثُّبتُ القلوبِ أنَّ الله تعالى يُنجز وعدَهُ في إعلاءٍ دينِه كما يُعرب عنه ما سيُحكى عنهم من قولِهم هذا مَا وَعَدَنَا(7/93)
الأحزاب 11 13 الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ الآيةَ أو يمتحنهم فخافُوا الزَّللَ وضعفَ الاحتمالِ والضِّعافُ القلوبِ والمنافقون ما حُكي عنهم ممَّا لا خيرَ فيهِ والجملُة معطوفةٌ على زاغتِ وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورةِ والدِّلالة على الاستمرار وقرىء الظُّنونَ بغيرِ ألفٍ وهو القياسُ وزيادتُها لمراعاةِ الفواصلِ كما تُزاد في القوافِي(7/94)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
{هُنَالِكَ} ظرفُ زمانٍ أو ظرفُ مكانٍ لما بعدَه أي في ذلك الزِّمانِ الهائلِ أو المكانِ الدَّحضِ {ابتلى المؤمنون} أي عُوملوا معاملةَ مَن يُختبر فظهرَ المخلص من المنافق والراسخ من المتزلزلِ {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} من الهَولِ والفزعِ وقُرىء بفتحِ الزَّاي(7/94)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)
{وَإِذْ يَقُولُ المنافقون} عطفٌ على إذْ زاغتِ وصيغةُ المضارعِ لما مرَّ من الدِلالة على استمرارِ القولِ واستحضارِ صورتِه {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي ضعفُ اعتقادٍ {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} من إعلاءِ الدِّينِ والظَّفرِ {إِلاَّ غُرُوراً} أي وعدَ غرورٍ وقيل قولاً باطلاً والقائلُ مُعتبُ بنُ قُشيرٍ وأضرابُه راضون به قال يَعِدنا محمدٌ بفتحِ كنوزِ كِسرى وقيصرَ وأحدُنا لا يقدرُ أنْ يتبرزَ فَرَقاً ما هذا إلا وعدُ غرورٍ(7/94)
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
{وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} هم أوسُ بنُ قَيظى وأتباعُه وقيل عبدُ اللَّه بن أبي واشياعه {يا أهل يَثْرِبَ} هو اسمُ المدينةِ المُطهَّرةِ وقيل اسمُ بقعةٍ وقعتِ المدينةُ في ناحيةٍ منها وقد نهى النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنْ تُسمَّى بها كراهةً لها وقال هي طَيبةُ أو طَابةُ كأنَّهم ذكروها بذلك الاسمِ مخالفةً له صلى الله عليه وسلم ونداؤُهم إيَّاهم بعنوانِ أهليَّتِهم لها ترشيحٌ لما بعدَه من الأمرِ بالرُّجوعِ إليها {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} لا موضعَ إقامةٍ لكُم أو لا إقامةَ لكُم ههنا يُريدون المعسكرَ وقُرىء بفتحِ الميمِ أي لا قيامَ اولا موضعَ قيامٍ لكم {فارجعوا} أي إلى منازلِكم بالمدينةِ مرادُهم الأمرُ بالفرارِ لكنَّهم عبَّروا عنه بالرُّجوعِ ترويجاً لمقالِهم وإيذاناً بأنَّه ليس من قبيلِ الفرارِ المذمومِ وقيل المعنى لاقيام لكم في دين محمد صلى الله عليه وسلم فارجعُوا إلى ما كنتُم عليه من الشِّركِ أو فارجعوا عما يعتموه عليه وأسلمُوه إلى أعدائِه اولا مقامَ لكُم في يثربَ فارجعُوا كفَّاراً ليتسنَّى لكُم المقامُ بها والأولُ هو الأنسبُ لما بعدَه فإنَّ قولَه تعالى {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبى} معطوفٌ على قالتْ وصيغةُ المضارعِ لما مرَّ من استحضارِ الصُّورةِ وهم بنُو حارثةَ وبنُو سلمة استأذنوه صلى الله عليه وسلم في الرُّجوعِ ممتثلينَ بأمرِهم وقولُه تعالى {يَقُولُونَ} بدلٌ مِن يستأذنُ أو حالٌ من فاعلِه أو استئنافٌ مبنيُّ على السُّؤالِ عن كيفيَّةِ الاستئذانِ {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي غيرُ حصينةٍ معرِّضةٌ للعدوِّ والسُّرَّاقِ فأذنْ لنا حتَّى نُحصنها ثم نرجع إلى العسكرِ والعورةُ في الأصلِ الخللُ أُطلقت على المُختلِّ مبالغةً وقد جُوِّز أنْ تكونَ تخفيفَ عورة من عورة الدَّارُ إذا اختلَّتْ وقد قرئ بها والأولُ هو الأنسبُ بمقامِ الاعتذارِ كما يُفصح عنه تصديرُ مقالِهم بحرفِ التَّحقيقِ {وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ} والحالُ أنَّها ليستْ كذلكَ(7/94)
الاحزاب 14 17
{إِن يُرِيدُونَ} ما يُريدون بالاستئذانِ {إِلاَّ فِرَاراً} من القتالِ(7/95)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} أُسند لدخول إلى بيوتِهم وأُوقع عليهم لما أنَّ المرادَ فرضُ وهم فيها الا فرضُ دخولِها مطلقاً كما هو المفهومُ لو لم يذكر الجارُّ والمجرورُ ولا فرضُ الدُّخولِ عليهم مطلقاً كما هو المفهومُ لو أُسند إلى الجارُّ والمجرورُ {مّنْ أَقْطَارِهَا} أي من جميعِ جوانبِها لا من بعضها دُون بعضٍ فالمعنى لو كانتْ بيوتُهم مختَّلةً بالكُلِّيةِ ودخلَها كلُّ مَن أرادَ من أهلِ الدَّعارةِ والفسادِ {ثُمَّ سُئِلُواْ} من جهةِ طائفةٍ أُخرى عند تلكَ النازلةِ والرَّجفةِ الهائلةِ {الفتنة} أي الردَّةَ والرَّجعةَ إلى الكفرِ مكانَ ما سُئلوا الآنَ من الإيمانِ والطَّاعةِ {لأَتَوْهَا} لأعطَوها غيرَ مُبالين بما دَهَاهم من الدَّاهيةِ الدَّهياءِ والغارةِ الشَّعواءِ وقُرىء لأتَوَها بالقصرِ أي لفعلوها وجاءوها {وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا} بالفتنةِ أي ما ألبثُوها وما أخرُّوها {إِلاَّ يَسِيراً} ريثما يسعُ السُّؤالُ والجوابُ من الزَّمانِ فضلاً عن التعلل باختلال البيوتِ مع سلامتِها كما فعلُوا الآنَ وقيل ما لبثُوا بالمدينةِ بعد الارتدادِ إلا يسيراً والأولُ هو اللائقُ بالمقامِ هذا وأما تخصيصُ فرضِ الدُّخولِ بتلك العساكرِ المتحزبةِ فمع منافاتِه للعمومِ المستفادِ من تجريدِ الدُّخولِ عن الفاعلِ ففيه ضربٌ من فسادِ الوضعِ لما عرفتَ من أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيانِ أنَّهم إذا دُعوا إلى الحقِّ تعللُوا بشيءٍ يسيرٍ وإنْ دُعوا إلى الباطلِ سارعُوا إليه آثِرَ ذي أثيرٍ من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم ففرضُ الدُّخولِ عليهم من جهةِ العساكرِ المذكورةِ وإسنادِ سؤالِ الفتنةِ والدَّعوةِ إلى الكفرِ إلى طائفةٍ اخرى مَعَ أنَّ العساكرَ هم المعرُوفون بعداوةٍ الدِّينِ المُباشرون لقتالِ المؤمنين المُصرُّون على الإعراضِ عن الحقِّ المُجدُّون في الدُّعاءِ إلى الكُفر والضَّلالِ بمعزلٍ من التَّقريبَ(7/95)
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
{وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الادبار} فإنَّ بني حارثةَ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ أُحدٍ حينَ فشلُوا أنْ لا يعودُوا لمثلِه وقيل هم قُومٌ غابُوا عن وقعةِ بدرٍ ورَأَوا ما أَعطى الله أهَل بدرٍ من الكرامةِ والفضيلةِ فقالُوا لئن أشهدَنا الله قتالاً لنقاتلنَّ {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْؤُولاً} مطلوباً مقتضى حتَّى يوفَّى به وقيل مسئولا عن الوفاءِ به ومجازي عليهِ(7/95)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل} فإنَّه لا بدَّ لكلِّ شخصٍ من حتف انف او قتل سيفٍ في وقتٍ معيَّنٍ سبقَ به القضاءُ وجرى عليه القلم {وإذا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي وإنْ نفعكم الفرارُ مثلاً فمُتعتم بالتَّأخيرِ لم يكُن ذلك التَّمتيعُ إلاَّ تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً(7/95)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
{قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}(7/95)
أي أو يصيبكم بسوءٍ إنْ أرادَ بكُم رحمةً فاختُصر الكلامُ أو حُمل الثَّاني على الأولِ لما في العصمةِ من مَعنى المنعِ {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً} ينفعُهم {وَلاَ نَصِيراً} يدفعُ عنهم الضَّررَ(7/96)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)
{قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ} أي المُثبطين للنَّاسِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهُم المنافقونَ {والقائلين لإخوانهم} من منافِقي المدينةِ {هَلُمَّ إِلَيْنَا} وهو صوتٌ سُمي به فعل متعد نحوا احضرْ أو قرِّب ويستوي فيه الواحدُ والجماعةُ على لغةِ أهلِ الحجازِ وأمَّا بنُو تميمٍ فيقولون هُلمَّ يا رجلُ وهلمُّوا يا رجالُ أي قرِّبوا أنفسَكم إلينا وهذا يدلُّ على أنَّهم عند هذا القولِ خارجون من المعسكرِ متوجِّهون نحوَ المدينةِ {وَلاَ يَأْتُونَ البأس} أي الحرابَ والقتالَ {إِلاَّ قَلِيلاً} أي إتياناً أو زماناً أو بأساً قليلاً فإنَّهم يعتذرون ويُثبطون ما أمكنَ لهم ويخرجون مع المؤمنين يوهمونهم انهم معهم ولا تراهُم يبارزون ويُقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطروا إليه كقولِه تعالى مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً وقيل إنَّه من تتمةِ كلامِهم معناه ولا يأتي أصحابُ محمدٍ حربَ الأحزابِ ولا يُقاومونهم إلا قليلاً(7/96)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاءُ عليكم بالمعاونةِ أو النَّفقةِ في سبيلِ الله أو الظَّفرِ والغنيمةِ جمع شحيحٍ ونصبُه على الحالية من فاعل يأنون او من المعوقينَ أو على الذمِّ {فَإِذَا جَاء الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} في أحداقِهم {كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} صفةٌ لمصدرِ ينظرون أو حالٌ من فاعلِه أو لمصدرِ تدورُ أو حالٌ من أعينُهم أي ينظرون نظراً كائناً كنظرِ المغشيِّ عليه من معالجةِ سكراتِ الموت حذرا وخورا ولو اذا بك أو ينظرون كائنين كالذي الخ أو تدورُ أعينُهم دوراناً كائناً كدورانِ عينِه أو تدورُ أعينُهم كائنةً كعينهِ {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف} وحِيزت الغنائمُ {سَلَقُوكُم} ضربُوكم {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} وقالُوا وفروا قسمَتنا فإنَّا قد شاهدناكم وقاتلنا معكُم وبمكاننا غلبتُم عدوَّكم وبنا نُصرتم عليه والسَّلْق البسطُ بقهرٍ باليدِ أو باللِّسانِ وقُرىء صَلَقوُكم {أَشِحَّةً عَلَى الخير} نُصب على الحاليَّةِ أو الذمِّ ويُؤيده القراءةُ بالرَّفعِ {أولئك} الموصوفون بما ذكر من صفاتِ السُّوء {لَمْ يُؤْمِنُواْ} بالإخلاصِ {فَأَحْبَطَ الله أعمالهم} أي أظهرَ بطلانَها إذ لم يثبُت لهم أعمالٌ فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقَهم فلم يبقَ مستتبعا لمنفعة دنيويةٍ أصلاً {وَكَانَ ذلك} الإحباطُ {عَلَى الله يَسِيراً} هيناً وتخصيصُ يُسره بالذكرِ مع أنَّ كلَّ شيءٍ عليه تعالى يسيرٌ لبيانِ أنَّ أعمالَهم حقيقةٌ بأنْ يظهر حبُوطها لكمالِ تعاضدِ الدَّواعِي وعدمِ الصَّوارفِ بالكُلِّيةِ(7/96)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
{يَحْسَبُونَ الاحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ} أي هؤلاء(7/96)
الأحزاب 21 22 لجبنِهم يظنُّون أنَّ الأحزابَ لم ينهزمُوا ففرُّوا إلى داخلِ المدينةِ {وَإِن يَأْتِ الاحزاب} كرَّةً ثانيةً {يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الاعراب} تمنَّوا أنَّهم خارجون إلى البدوِ حاصلون بين الاعراب وقرئ بُدَّى جمع بادٍ كغازٍ وغزى {يسألون} كلَّ قادمٍ من جانبِ المدينة وقرئ يُساءلون أي يتساءلُون ومعناه يقولُ بعضُهم لبعضٍ ماذا سمعتَ ماذا بلغكَ أو يتساءلُون الأعرابَ كما يقال رأيتُ الهلالَ وتراءيناهُ فإنَّ صيغةَ التَّفاعلِ قد تُجرَّدُ عن معنى كونِ ما أُسندت إليه فاعلاً من وجهٍ ومفعولاً من وجهٍ ويكتفي بتعدُّدِ الفاعلِ كما في المثال المذكورة ونظائرِه {عَنْ أَنبَائِكُمْ} عمَّا جَرَى عليكم {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ} هذه الكرَّة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال {مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً} رياءً وخوفاً من التَّعييرِ(7/97)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} خصلة حسنة حقها يُؤتسى بها كالثَّباتِ في الحربِ ومقاساةِ الشَّدائدِ أو هو في نفسه قدوة يحق النأسي به كقولك في البيضة عشرون منّاً حديداً أي هي في نفسِها هذا القدر من الحديد وقرئ بكسرِ الهمزةِ وهي لُغةٌ فيها {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} أي ثوابَ الله أو لقاءَهُ أو أيَّامَ الله واليَّومَ الآخرَ خُصوصاً وقيل هو مثلُ قولِك أرجُو زيداً وفضَله فإنَّ اليومَ الآخرَ من أيامِ الله تعالى ولمن كان صلة لحسنة أو صفة لها وقيل بدلٌ من لكُم والأكثرونَ على أنَّ ضميرَ المخاطبِ لا يُبدلُّ منه {وَذَكَرَ الله} أي وقَرن بالرَّجاءِ ذكَر الله {كَثِيراً} أي ذِكراً كَثيراً أو زماناً كَثيراً فإنَّ المُثابرةَ على ذكرِه تعالى تُؤدِّي إلى مُلازمةِ الطَّاعةِ وبها يتحقَّقُ الائتساء برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم(7/97)
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
{وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب} بيانٌ لما صدَر عن خُلَّصِ المؤمنينَ عند اشتباهِ الشئون واختلافِ الظُّنونِ بعد حكايةِ ما صدرَ عن غيرِهم أي لمَّا شاهدُوهم حسبما وصفُوا لهم {قَالُواْ هذا} مُشيرين إلى ما شاهدُوه من حيثُ هو من غيرِ أنْ يخطرَ ببالِهم لفظٌ يدلُّ عليهِ فضلاً عنْ تذكيرِه وتأنيثِه فإنَّهما من أحكامِ اللَّفظِ كما مر في قوله تعالَى فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةًً قَالَ هذا رَبّى وجعله إشارةً إلى الخطبِ أو البلاءِ من نتائجِ النَّظرِ الجليلِ فتدبَّر نَعم يجوزُ التذكير باعتبار الخبر بالذي هُو {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} فإنَّ ذلكَ العُنوان أولُ ما يخطُر ببالِهم عند المُشاهدةِ ومرادُهم بذلك ما وعدُوه بقولِه تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء إلى قوله تعالى إلا أن نَصْرَ الله قَرِيبٌ وقولِه وقوله صلى الله عليه وسلم سيشتدُّ الأمرُ باجتماعِ الأحزابِ عليكم والعاقبةُ لكم عليهم وقوله صلى الله عليه وسلم إنَّ الأحزابَ سائرونَ إليكُم بعدَ تسعِ ليالٍ أو عشر وقرئ بكسرِ الرَّاءِ وفتح الهمزةِ {وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} أي ظهَر صدقُ خبرِ الله تعالى ورسولِه أو صَدَقا في النُّصرة والثَّوابِ كما صَدَقا في البلاءِ وإظهارِ الاسمِ للتَّعظيم {وَمَا زَادَهُمْ} أي ما رَأَوه {إِلاَّ إِيمَانًا} بالله تعالى وبمواعيدهِ(7/97)
الاحزاب 23
{وَتَسْلِيماً} لأوامرِه ومقاديرِه(7/98)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
{مِنَ المؤمنين} أي المؤمنينَ بالإخلاصِ مُطلقاً لا الذينَ حُكيتْ محاسنُهم خاصَّة {رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ} من الثَّباتِ مع الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم والمقاتلةِ لأعداءِ الدِّينِ وهُم رجال منَ الصحابةِ رضيَ الله عنهم نذرُوا أنَّهم إذا لقُوا حرباً مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثبتُوا وقاتلُوا حتَّى يستشهدوا وهُم عثمانُ بنُ عفَّان وطلحةُ بنُ عُبيدِ اللَّهِ وسعيدُ بنُ زيدِ بنِ عمروِ بن نفيلٍ وحمزةُ ومصعب ابن عمير وأنس بن النضر وغيرُهم رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين ومعنى صَدَقُوا أَتَوا بالصِّدقِ من صَدَقني إذا قال لك الصِّدقَ ومحل ما عاهدُوا النَّصبُ إمَّا بطرحِ الخافضِ عنه وإيصالِ الفعلِ إليه كَما في قولِهم صَدَقني سنّ بكرِه أي في سنِّهِ وإما يجعل المُعاهد عليهِ مصدُوقاً على المجازِ كأنَّهم خاطبُوه خطابَ من قال لكرمائِه نحرتني الأعداءُ إنْ لَم تنحرِي وقالوا له سنفي بك وحيث وفوا به فقد صدقُوه ولو كانُوا نكثُوه لكذبُوه ولكان مكذُوباً {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} تفصيلٌ لحال الصادقين وتقسيم الى قسمين والحب النَّذرُ وهو أنْ يلتزمَ الإنسانُ شيئاً من أعمالِه ويُوجبه على نفسِه وقضاؤُه الفراغُ منه والوفاءُ به ومحلُّ الجارِّ والمجرورِ الرَّفعُ على الابتداءِ على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في قولِه تعالى {وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله} الآيةَ أي فبعضُهم أو فبعضٌ منهُم مَن خرجَ عن العُهدةِ كحمزةَ ومصعب بن عمير وأنس بنِ النَّضرِ عمِّ أنسِ ابن مالكٍ وغيرِهم رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين فإنَّهم قد قضَوا نذورَهم سواء كانَ النَّذرُ على حقيقتِه بأنْ يكونَ ما نذرُوه أفعالَهم الاختياريةَ التي هي المقاتلةُ المغيَّاةُ بما ليسَ منها ولا يدخلُ تحتَ النَّذرِ وهو الموتُ شَهيداً أو كان مُستعاراً لالتزامِه على ما سيأتي {وَمِنْهُمُ} أي وبعضهم أو وبعضٌ منهم {مَّن يَنتَظِرُ} أي قضاء نحبه لكونه موقتا كعثمانَ وطلحةَ وغيرِهما ممَّن استُشهد بعد ذلك رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين فإنَّهم مستمرُّون على نذورِهم قد قضَوا بعضَها وهو الثَّباتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والقتالُ إلى حينِ نزولِ الآيةِ الكريمةِ ومنتظرونَ لقضاءِ بعضِها الباقِي وهو القتالُ إلى الموتِ شهيداً هذا ويجوزُ أنْ يكونَ النَّحبُ مُستعاراً لالتزامِ الموتِ شهيداً إما بتنزيل أسبابِه التي هي أفعالٌ اختيارية للناذر منزلة الالتزام نفسه وإما بتتزيل نفسِه منزلةَ أسبابِه وإيرادِ الالتزامِ عليه وهو الأنسبُ بمقام المدح وأياما كان في وصفهم بالانتظار المنبئ عن الرَّغبةِ في المنتظرِ شهادةٌ حقَّةٌ بكمالِ اشتياقِهم إلى الشَّهادةِ وأمَّا ما قيلَ من أنَّ النَّحبَ استُعير للموتِ لأنَّه كنذرٍ لازمٍ في رقبةِ كلِّ حيوانٍ فمسخٌ للاستعارةِ وذهابٌ برونقِها وإخراجٌ للنَّظمِ الكريمِ عن مُقتضى المقامِ بالكلِّيةِ {وَمَا بَدَّلُواْ} عطفٌ على صدَقُوا وفاعلُه فاعلُه أي وما بدَّلُوا عهدَهم وما غيَّروه {تَبْدِيلاً} أي تبديلاً ما لا أصلاً ولا وصفاً بل ثبتُوا عليهِ راغبينَ فيه مُراعين لحقوقِه على أحسنِ ما يكون أمَّا الذينَ قضَوا فظاهرٌ وأما الباقُون فيشهدُ به انتظارُهم أصدقَ شهادةٍ وتعميمُ عدمِ التَّبديلِ للفريقِ الأول مع ظُهورِ حالِهم للإيذانِ بمساواةِ الفريقِ الثَّاني لهُم في الحكم(7/98)
الاحزاب 24 25 ويجوزُ أنْ يكونَ ضميرُ بدَّلُوا للمنتظرينَ خاصَّة بناءً على أنَّ المحتاجَ إلى البيانِ حالُهم وقد رُوي أن طلحة رضى الله عنه ثبتَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحدٍ حتَّى أُصيبتْ يده فقال صلى الله عليه وسلم أوجبَ طلحةُ الجنَّة وفي رواية أوجبَ طلحةُ وعنه صلى الله عليه وسلم في رواية جابرٌ رضيَ الله عْنهُ من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرضِ فلينظُر إلى طلحةُ بنُ عُبيدِ اللَّهِ وفي رواية عائشةَ رضيَ الله عنها من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرضِ وقد قضَى نحبَه فلينظُر إلى طلحةَ وهذا يشيرُ إلى أنَّه من الأولينَ حُكماً(7/99)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
{لّيَجْزِىَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ} متعلق بمضمر مستأنف مسوق بطريقِ الفذلكةِ لبيانِ ما هُو داعٍ إلى وقوعِ ما حُكي من الأحوالِ والأقوالِ على التَّفصيلِ وغاية له كما مرَّ في قوله تعالى ليسأل الصادقين عَن صِدْقِهِمْ كأنَّه قيلَ وقعَ جميعُ ما وقعَ ليجزيَ الله الصَّادقين بما صدرَ عنهُم منَ الصِّدقِ والوفاءِ قولاً وفعلاً {وَيُعَذّبَ المنافقين} بما صدرَ عنهُم منَ الأعمالِ والأقوالِ المحكيَّةِ {إِن شَاء} تعذيبَهم {أَوْ يتوبَ عَلَيْهِمْ} إنْ تابُوا وقيل متعلقٌ بما قبلَه من نفيِ التَّبديلِ المنطوقِ وإثباته المعرضَ به كأنَّ المُنافقين قصدُوا بالتَّبديلِ عاقبةَ السُّوءِ كما قصدَ المُخلصون بالثباتِ والوفاءِ العاقبةَ الحُسنى وقيلَ تعليلٌ لصدقُوا وقيل لما يُفهم من قولِه تعالَى وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً وقيل لما يُستفاد من قولِه تعالَى وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الاحزاب كأنَّه قيل ابتلاهُم الله تعالى برؤية ذلك الخطيب ليجزيَ الآيةَ فتأمَّل وبالله التَّوفيق {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} أي لمن تابَ وهُو اعتراضٌ فيه بعثٌ إلى التَّوبةِ وقولُه تعالى(7/99)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
{وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ} رجوعٌ إلى حكايةِ بقيةِ القصَّةِ وتفصيلُ تتمةِ النِّعمةِ المشارِ إليها إجمالاً بقولِه تعالى فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا معطوفٌ إمَّا على المضمرِ المقدرُ قبل قولِه تعالى لّيَجْزِىَ الله كأنَّه قيل إثرَ حكايةِ الأمورِ المذكورةِ وقعَ ما وقعَ من الحوادثِ وردَّ الله الخ وإمَّا على أرسلنَا وقد وسِّط بينهما بيانُ كونِ ما نزَل بهم واقعةً طامَّة تحيَّرتْ بها العقولُ والأفهامُ وداهيةً تامَّةً تحاكت منها الرُّكبُ وزلَّتِ الأقدامُ وتفصيلُ ما صدَر عن فريقَيْ أهلِ الإيمانِ وأهلِ الكفرِ والنفاقِ من الأحوالِ والأقوالِ لإظهار عظم النعمة إبانه خطرِها الجليلِ ببيانِ وصولِها إليهم عند غايةِ احتياجِهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ورددنا بذلك الذين كفرُوا والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة وقولُه تعالى {بِغَيْظِهِمْ} حالٌ من الموصولِ أي مُلتبسين بهِ وكذا قولُه تعالى {لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} بتداخلٍ أو تعاقبٍ أي غيرَ ظافرينَ بخير أو الثَّانية بيانٌ للأُولى أو استئنافٌ {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} بما ذُكر من إرسالِ الرِّيحِ والجُنودِ {وَكَانَ الله قَوِيّاً} على إحداثِ كلِّ ما يريد {عزيزا}(7/99)
الاحزاب 26 28 غالبا على كل شئ(7/100)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
{وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم} أي عاونُوا الأحزابَ المردودةَ {مّنْ أَهْلِ الكتاب} وهُم بنُو قريظةَ {مِن صَيَاصِيهِمْ} من حصونهم جميع صِيصِيَة وهي ما يُتحصَّن به ولذلكَ يقالُ لقرنِ الثَّورِ والظَّبيِ وشوكةِ الدِّيكِ {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب} الخوفَ الشَّديدَ بحيثُ أسلمُوا أنفسَهم للقتلِ وأهليهم وأولادَهم للأسرِ حسبَما ينطِق به قولُه تعالى {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} من غيرِ أن يكون من جهتِهم حَراكٌ فضلاً عن المُخالفةِ والاستعصاءِ رُوي أنَّ جبريلَ عليهِ السلام أتى رسول صلى الله عليه وسلم صبيحةَ اللَّيلةِ التي انهزمَ فيها الأحزابُ ورجعَ المُسلمون إلى المدينةِ ووضعُوا السِّلاحَ فقال أتنزعْ لأمَتك والملائكةُ ما وضعُوا السِّلاحَ إنَّ الله يأمرُك أن تسيرَ إلى بني قُريظةَ وأنا عامدٌ إليهم فأذَّن في النَّاسِ أنْ لا يصلُّوا العصرَ إلا ببني قُريظةَ فحاصرُوهم إحدى وعشرينَ أو خَمساً وعشرين ليلةً حتَّى جهدَهم الحصارُ فقال لهم تنزلُون على حُكمي فأبَوا فقالَ عَلى حُكم سُعد بن معاذٍ فرضُوا به فحكم سعد بقتل وسبيِ ذرارِيهم ونسائِهم فكبَّر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقالَ لقد حكمتَ بحُكم الله من فوقِ سبعةِ أرقعةٍ فقُتلَ منهم ستمائةُ مقاتلٍ وقيل من ثمانمائةُ إلى تسعمائةُ وأُسر سبعمائةٌ وقُرىء تأسُرونَ بضمِّ السِّينِ كما قُرىء الرُّعبُ بضمِّ العينِ ولعلَّ تأخيرَ المفعولِ في الجُملةِ الثَّانيةِ مع أنَّ مساقَ الكلامِ لتفصيلِه وتقسيمِه كما في قولِه تعالى فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وقوله تعالى فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لمراعاةِ الفواصلِ(7/100)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم} أي حصونهم {وأموالهم} ونقودهم وأثاثَهم ومواشيهم رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جعلَ عقارَهم للمهاجرينَ دونَ الأنصارِ فقالتِ الأنصارُ في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم إنَّكم في منازلِكم فقال عمرُ رضي الله عنه أَمَا تُخمس كما خمَّستَ يوم بدر فقال صلى الله عليه وسلم لا إنَّما جُعلتْ هذه لي طعمةً دونَ النَّاسِ قالُوا رضينَا بما صنعَ الله ورسولُه {وَأَرْضاً لَّمْ تطؤوها} أي أورثَكم في علمِه وتقديرِه أرضاً لم تقبضُوها بعدَ كفارسَ والرُّومِ وقيل كلُّ أرضٍ تُفتح إلى يومِ القيامةِ وقيلَ خيبرُ {وَكَانَ الله على كُلّ شَىْءٍ قَدِيراً} فقد شاهدتُم بعض مقدوراته من إيراثِ الأراضِي التي تسلَّمتموها فقيسُوا عليها ما عَدَاها(7/100)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)
{يا أيها النبى قُل لازواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا} أي السَّعةَ والتَّنعمَ فيها {وزينتها} وزخافها {فَتَعَالَيْنَ} أي أقبلنَ بإرادتِكن واختيارِكن لإحدى الخصلتينِ كما يُقال أقبل يُخاصمني وذهبَ يُكلِّمني وقامَ يُهددني {أُمَتّعْكُنَّ} بالجزمِ جواباً للأمرِ وكذا {وأسرحكن} أي أعطكن المتعة وأطلقكن {سَرَاحاً جَمِيلاً} طلاقاً من غير ضرار وقرئ بالرَّفعِ على الاستئنافِ رُوي أنهن سألنه صلى الله عليه وسلم ثيابَ الزِّينةِ وزيادةَ النَّفقةِ فنزلت فبدأ بعائشة(7/100)
الاحزاب 29 30 فخيَّرها فاختارتْ الله ورسولَه والدَّارَ الآخرةَ ثمَّ اختارتِ الباقياتُ اختيارَها فشكرَ لهنَّ الله ذلكَ فنزلَ لاَّ يحل لك النساء من بَعْدُ واختُلف في أنَّ هذا التخييرَ هل كان تفويض الطَّلاقِ إليهنَّ حتَّى يقعَ الطَّلاقُ بنفسِ الاختيارِ أولا فذهبَ الحسنُ وقَتَادةُ وأكثرُ أهلِ العلمِ إلى أنَّه لم يكُن تفويضَ الطَّلاقِ وإنَّما كانَ تخييراً لهنَّ بينَ الإرادتينِ على أنهنَّ إنْ أردنَ الدُّنيا فارقهنَّ صلى الله عليه وسلم كما ينبئ عنه قولُه تعالى فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ وذهبَ آخرون إلى أنَّه كانَ تفويضاً للطَّلاقِ إليهنَّ حتَّى لو أنهنَّ اخترنَ أنفسهنَّ كان ذلك طلاقاً وكذا اختُلف في حكمِ التَّخييرِ فقال ابنُ عمرَ وابنِ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهم إذَا خيَّر رجلٌ امرأتَه فاختارتْ زوجَها لا يقع شئ أصلاً ولو اختارتْ نفسَها وقعتْ طلقةً بائنةً عندنا ورجعيَّةً عند الشَّافعيِّ وهو قولُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ وابنِ أبي لَيْلَى وسفيانَ ورُوي عن زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّها إنِ اختارتْ زوجَها يقعُ طلقةً واحدةً وإنِ اختارتْ نفسَها يقعُ ثلاثَ طَلَقاتٍ وهو قولُ الحسنِ وروايةٌ عن مالكٍ ورُوي عن عليَ رضي الله عنه أنها إن اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارتْ نفسَها فواحدةٌ بائنةٌ ورُوي عنه أيضاً أنها إنِ اختارتْ زوجَها لا يقع شئ أصلاً وعليه إجماعُ فقهاءِ الأمصارِ وقد رُوي عَنْ عائشةَ رضيَ الله عنها خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترنَاهُ ولم يعدَّه طلاقاً وتقديمُ التَّمتيعِ على التَّسريحِ من بابِ الكرمِ وفيه قطعٌ لمعاذيرهنَّ من أولِ الأمرِ والمتعةُ في المطلقةِ التي لم يُدخل بها ولم يُفرض لها صَداقٌ عند العقدِ واجبةٌ عندَنا وفيما عداهنَّ مستحبَّةٌ وهي دِرعٌ وخمارٌ وملحفةٌ بحسبِ السَّعةِ والإقتارِ إلا أنْ يكونَ نصفُ مهرِها أقلَّ من ذلكَ فحينئذٍ يجبُ لها الأقلُّ منهُما ولا يُنقص عن خمسةِ دراهمٍ(7/101)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ} أي تردنَ رسولَه وذكر الله عز وجل للإيذان بجلالة محله صلى الله عليه وسلم عندَه تعالى {والدار الاخرة} أي نعيمَها الذي لا قدرَ عندَه للدُّنيا وما فيها جميعاً {فَإِنَّ الله أَعَدَّ للمحسنات مِنكُنَّ} بمقابلةِ إحسانِهن {أَجْراً عَظِيماً} لا يقادر قدره ولا يبلغ غايتُه ومِن للتَّبيينِ لأنَّ كلَّهن محسناتٌ وتجريدُ الشَّرطيةِ الأُولى عن الوعيدِ للمبالغةِ في تحقيقِ معنى التَّخييرِ والاحترازِ عن شائبةِ الإكراهِ وهو السرُّ فيما ذُكر من تقديمِ التَّمتيعِ على التَّسريحِ وفي وصفِ السَّراح بالجميل(7/101)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{يا نساء النبى} تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ له إليهنَّ لإظهارِ الاعتناءِ بنُصحهنَّ ونداؤهن ههنا وفيما بعده بالاضافة اليه صلى الله عليه وسلم لأنَّها التي يدورُ عليها ما يردُ عليهنَّ من الأحكامِ {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة} بكبيرةٍ {مُّبَيّنَةٍ} ظاهرةِ القُبحِ من بيَّن بمعنى تَبيَّن وقرئ بفتحِ الياءِ والمرادُ بها كلُّ ما اقترفنَ من الكبائرِ وقيل هي عصيانُهنَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهنَّ وطلبهنَّ منه ما يشقُّ عليه أو ما يضيق به ذرعُه ويغتمُّ لأجله وقرئ تأتِ بالفوقانيَّةِ {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} أي يعذبنَّ ضعفي عذابِ غيرهنَّ أي مثليهِ لأنَّ الذنبَ منهنَّ أقبحُ فإنَّ زيادةَ قُبحه تابعةٌ لزيادةِ فضلِ المذنبِ والنعمة عليه(7/101)
الاحزاب 31 33 ولذلك جُعل حدُّ الحرِّ ضعفَ حدِّ الرَّقيقِ وعُوتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما لا يُعاتب به الامم وقرئ يُضعَّف على البناءِ للمفعولِ ويُضاعف ونُضعِّف بنونِ العظمةِ على البناءِ للفاعلِ ونَصبِ العذابِ {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} لا يمنعُه عن التَّضعيفِ كونُهنَّ نساءَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بل يدعُوه إليهِ لمراعاةِ حقِّهِ(7/102)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
{ومن يقنت منكن} وقرئ بالتَّاءِ أي ومن يدُم على الطَّاعةِ {للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالحا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} مرةً على الطَّاعةِ والتَّقوى وأُخرى على طلبهن رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة وقرئ يَعملْ بالياءِ حملاً على لفظِ مَنْ ويُؤتها على أنَّ فيهِ ضميرَ اسمِ الله تعالى {وَأَعْتَدْنَا لَهَا} في الجنَّةِ زيادةً على أجرِها المضاعفِ {رِزْقاً كَرِيماً} مرضيا(7/102)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
{يا نساء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء} أصلُ أحدٍ وَحَد بمعنى الواحدِ ثم وُضع في النَّفيِ مستوياً فيه المذكرُ والمؤنثُ والواحدُ والكثيرُ والمعنى لستنَّ كجماعةٍ واحدةٍ من جماعاتِ النِّساءِ في الفضلِ والشَّرفِ {إِنِ اتقيتن} مخالفةَ حكمِ الله تعالى ورضا رسولِه أو إنِ اتصفتنَّ بالتَّقوى كما هُو اللائقُ بحالِكنَّ {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول} عند مخاطبةِ النَّاسِ أي لا تُجبْن بقولِكن خاضعاً ليِّناً على سَننِ قولِ المريبات والمُومساتِ {فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي فجور وريبة وقرئ بالجزمِ عطفاً على محلِّ فعل النَّهي على أنَّه نهيٌ لمريضِ القلبِ عن الطمعِ عقيب نهيهنَّ عن الإطماعِ بالقولِ الخاضعِ كأنَّه قيل فلا تخضعْنَ بالقولِ فلا يطمعَ مريضُ القلبِ {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} بعيداً عن الريبة والاطماع بحد وخشُونةٍ من غيرِ تخنيثٍ أو قولاً حسناً مع كونِه خَشِناً(7/102)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
{وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} أمرٌ من قريقر من بابِ علَم وأصله اقرَرْنَ فحُذفتْ الرَّاءُ الأولى وألقيتْ فتحتُها عَلى ما قبلَها كَما في قولِك ظلْن أو من قارَّ يقار إذا اجتمع وقرئ بكسرِ القافِ من وَقِر يَقِر وَقَاراً إذا ثبتَ واستقرَّ وأصلُه أوقرنَ ففعل به ما فُعل بعِدن من وَعد أو من قريقر حذفت إحدى راءي اقررن ونُقلت كسرتُها إلى القافِ كما تقول ظلن {وَلاَ تَبَرَّجْنَ} أي لا تتبخترْن في مشيكنَّ {تَبَرُّجَ الجاهلية الاولى} أي تبرجاً مثلَ تبرجِ النساءِ في الجاهليةِ القديمةِ وهي ما بينَ أدمَ ونوحٍ وقيلَ ما بين إدريس ونوحٍ عليهما السَّلامُ وقيل الزَّمانُ الذي وُلد فيه إبراهيمُ عليه السَّلامُ كانت المرأة تلبس درعها من اللُّؤلؤِ فتمشِي وسطَ الطَّريقِ تعرض نفسَها على الرِّجالِ وقيل زمنُ داودُ وسليمانُ عليهما السَّلامُ والجاهليَّةُ الأُخرَى ما بينَ عيسَى ومحمَّدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل الجاهلية الاولى جاهلية(7/102)
الاحزاب 34 35 الكفرُ والجاهليَّةُ الأُخرى الفسوقُ في الاسلام ويؤيد قوله صلى الله عليه وسلم لأبي الدَّرداءِ إنَّ فيكَ جاهلية قال جاهليةَ كفرٍ أو جاهليةَ إسلامٍ قال بل جاهليةُ كفرٍ {وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} أُمرن بهما لإنافتِهما على غيرهما وكونهما اصلى الطَّاعاتِ البدنيةِ والماليةِ {وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ} أي في كل ما تأتن وما تذرن لا سيما فيما أمرتن به ونهيتن عنه {إنما يريد الله ليذهب عَنكُمُ الرجس} أي الذَّنبَ المدنس لعرضِكم وهو تعليلٌ لأمرهنَّ ونهيهنَّ على الاستئنافِ ولذلك عمم الحكم بتعمميم الخطابِ لغيرهنَّ وصرَّحَ بالمقصودِ حيثُ قيل بطريقِ النِّداءِ أو المدحِ {أَهْلَ البيت} مُراداً بهم من حَواهم بيتُ النُّبوة {وَيُطَهّرَكُمْ} من أوضارِ الأوزارِ والمَعاصي {تَطْهِيراً} بليغاً واستعارةُ الرِّجسِ للمعصيةِ والتَّرشيحُ بالتَّطهيرِ لمزيدِ التَّنفيرِ عنها وهذهِ كما ترى آيةٌ بينةٌ وحجَّةٌ نيرةٌ على كونِ نساءِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من أهلِ بيتِه قاضيةً ببُطلان رأيِ الشِّيعةِ في تخصيصهم أهل البيتِ بفاطمةَ وعليَ وابنيهما رضوانُ الله عليهم وأمَّا ما تمسكوا به من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجَ ذاتَ غُدوةٍ وعليه مرط مرجل من شَعَرٍ أسودَ وجلسَ فأتتْ فاطمةُ فأدخلَها فيهِ ثم جاءَ عليٌّ فأدخلَه فيه ثم جاء الحسنُ والحسينُ فأدخلَهما فيهِ ثمَّ قال إنَّما يُريد الله ليُذهبَ عنكم الرِّجسَ أهلَ البيتِ فإنَّما يدلُّ على كونِهم من أهلِ البيتِ لاعلى أنَّ من عداهم ليسُوا كذلك ولو فُرضت دلالتُه على ذلك لما اعتدَّ بها لكونِها في مُقابلةِ النَّصِّ(7/103)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
{واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ} أي اذكُرن للنَّاس بطريقِ العظةِ والتَّذكيرِ ما يُتلى في بيوتكنَّ {مِنْ آيات الله والحكمة} من الكتابِ الجامعِ بين كونِه آياتِ الله البينةِ الدَّالَّةِ على صدقِ النُّبوةِ بنظمِه المُعجزِ وكونِه حكمةً منطويةً على فُنونِ العلومِ والشَّرائعِ وهو تذكيرٌ بما أنعم عليهنَّ حيثُ جعلهنَّ أهلَ بيتِ النُّبوةِ ومهبِطِ الوحيِ وما شاهدْن من بُرَحاءِ الوحيِ ممَّا يُوجب قوةَ الإيمانِ والحرصَ على الطَّاعةِ حثًّا على الانتهاءِ والائتمارِ فيما كُلّفنه والتعرضُ للتِّلاوةِ في البيوت دون النزول فيها مع أنَّه الأنسبُ لكونِها مهبطَ الوحيِ لعمومِها لجميعِ الآياتِ ووقوعِها في كلِّ البيوتِ وتكرُّرِها الموجبِ لتمكنهنَّ من الذِّكرِ والتَّذكيرِ بخلافِ النزولِ وعدمُ تعيينِ التَّالي لتعمَّ تلاوةَ جبريلَ وتلاوةَ النبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وتلاوتهنَّ وتلاوةَ غيرهنَّ تعليماً وتعلُّماً {إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} يعلمُ ويدبِّرُ ما يصلحُ في الدِّينِ ولذلك فعلَ ما فعلَ من الأمرِ والنَّهيِ أو يعلمُ مَن يصلُح للنُّبوةِ ومن يستأهلُ أنْ يكونَ من أهلِ بيتِه(7/103)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
{إِنَّ المسلمين والمسلمات} أي الدَّاخلينَ في السِّلمِ المُنقادينَ لحكمِ الله تعالى من الذُّكورِ والإناثِ {والمؤمنين والمؤمنات} المصدِّقينَ بما يجبُ أنْ يصدق(7/103)
الاحزاب 36 37 بهِ من الفريقينِ {والقانتين والقانتات} المداومين على الطاعة القائمينَ بها {والصادقين والصادقات} في القولِ والعملِ {والصابرين والصابرات} على الطَّاعاتِ وعَنِ المَعَاصي {والخاشعين والخاشعات} المتواضعينَ لله بقلوبِهم وجوارحِهم {والمتصدقين والمتصدقات} بما وجبَ في مالِهم {والصائمين والصائمات} الصَّومَ المفروضَ {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات} عن الحرام {والذاكرين الله كثيرا والذاكرات} بقلوبِهم وألسنتِهم {أَعَدَّ الله لَهُمْ} بسببِ ما عمِلوا من الحسناتِ المذكورةِ {مغفرة} اقترفُوا من الصَّغائرِ لأنهنَّ مكفراتٌ بما عملُوا من الأعمالِ الصَّالحةِ {وَأَجْراً عَظِيماً} على ما صدرَ عنهُم من الطاعات والايات وعدلهن ولأمثالِهنَّ على الطَّاعةِ والتَّدرعِ بهذهِ الخصالِ الحميدةِ رُوي أن أزواج النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ورضي عنهنَّ قلنَ يا رسولَ الله ذَكَر الله الرِّجالَ في القرآنِ بخيرٍ فما فينا خيرٌ نذكرُ به إنَّا نخافُ أنْ لا تقبل منَّا طاعةٌ فنزلتْ وقيلَ السَّائلةُ أمُّ سلمةَ ورُوي أنَّه لمَّا نزلَ في نساء النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ما نزلَ قالَ نساءُ المؤمنينَ فما نزلَ فينا شئ فنزلتْ وعطفُ الإناثِ على الذُّكورِ لاختلافِ الجنسينِ وهو ضروريٌّ وأمَّا عطفُ الزَّوجينِ على الزَّوجينِ فلتغايرِ الوصفينِ فلا يكونُ ضرورياً ولذلكَ تُرك في قولِه تعالى مسلمات مؤمنات وفائدتُه الدِّلالةُ على أنَّ مدارَ إعدادِ ما أُعدَّ لهُم جمعُهم بين هذهِ النُّعوتِ الجميلةِ(7/104)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ} أي ما صحَّ وما استقامَ لرجلٍ ولا امرأةٍ من المؤمنينَ والمؤمناتِ {إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً} أيْ إذا قضَى رسولُ الله وذكرُ الله تعالى لتعظيم امره صلى الله عليه وسلم أو للإشعارِ بأنَّ قضاءَهُ صلى الله عليه وسلم قضاءُ الله عزَّ وجلَّ لأنَّه نزلَ في زينبَ بنتِ جحشٍ بنتِ عمَّتِه أميمةَ بنتِ عبدِ المُطَّلبِ خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيدِ بنِ حارثةَ فأبتْ هيَ وأخُوها عبدُ اللَّه وقيلَ في أمِّ كُلثوم بنتِ عقبةَ بنِ أبي معيطٍ وهبتْ نفسَها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فزوَّجها من زيدٍ فسخطتْ هي وأخُوها وقالا إنَّما أردنا الله ورسول الله فزوَّجنا عبدَه {أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} أنْ يختارُوا من أمرِهم ما شاءوا بل يجبُ عليهم أنْ يجعلُوا رايهم تبعا لرأيه صلى الله عليه وسلم واختيارهم تلو الاختيار وجمعُ الضَّميرينِ لعمومِ مؤمنٍ ومؤمنةٍ لوقوعِهما في سياقِ النَّفيِ وقيل الضَّميرُ الثَّانِي الرسول صلى الله عليه وسلم والجمع للتعظيم وقرئ تكونَ بالتَّاءِ {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} في أمرٍ من الأمورِ ويعملْ فيهِ برأيِه {فَقَدْ ضَلَّ} طريقَ الحق {ضلال مُّبِينٍ} أي بيِّن الانحرافِ عن سَنَنِ الصَّوابِ(7/104)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
{وَإِذْ تَقُولُ} أي واذكُر وقتَ قولِك {لِلَّذِى أَنعَمَ الله عليه} بتوفيقه(7/104)
الاحزاب 38 للإسلامِ وتوفيقِك لحسنِ تربيتِه ومراعاتِه {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالعملِ بما وفَّقك الله له من فنونِ الإحسانِ التي من جُملتها تحريرُه وهو زيد بنُ حارثةَ وإيرادُه بالعنوانِ المذكورِ لبيانِ منافاةِ حالِه لما صدرَ عنه صلى الله عليه وسلم من إظهارِ خلافِ ما في ضميرِه إذ هُو إنَّما يقعُ عند الاستحياءِ أو الاحتشامِ وكلاهما ممَّا لا يُتصور في حقِّ زيدٍ {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} أي زينبَ وذلك أنَّه صلى الله عليه وسلم أبصرَها بعد ما أنكحَها إيَّاه فوقعتْ في نفسِه حالةٌ جبلِّيةٌ لا يكادُ يسلمُ منها البشرُ فقالَ سبحانَ الله مقلبِ القلوبِ وسمعتْ زينبُ بالتَّسبيحةِ فذكرتْها لزيدٍ ففطِن لذلكَ ووقعَ في نفسِه كراهةُ صُحبتِها فاتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقال أريدُ أنْ أفارقَ صاحبتي فقال مالك أرابك منها شئ قال لا والله ما رأيتُ منها إلا خيراً ولكنَّها لشرفِها تتعظمُ عليَّ فقال له أمسكْ عليكَ زوجَك {واتق الله} في أمرِها فلا تُطلقها إضراراً وتعللاً بتكبّرها {وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} وهو نكاحُها إنْ طلَّقها أو إرادةُ طلاقِها {وَتَخْشَى الناس} تعييرَهم إيَّاك به {والله أَحَقُّ أَن تخشاه} إنْ كانَ فيه ما يُخشى والواوُ للحالِ وليستْ المعاتبةُ على الإخفاءِ وحدَه بل على الإخفاءِ مخافةَ قالةِ النَّاسِ وإظهارِ ما ينافى إضمار فإنَّ الأَولى في أمثالِ ذلك أنْ يصمتَ أو يُفوِّضَ الأمرَ إلى ربِّه {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً} بحيثُ لم يبقَ له فيها حاجةٌ وطلَّقها وانقضتِ عدَّتُها وقيل قضاءُ الوَطَرِ كنايةٌ عن الطَّلاقِ مثلُ لا حاجةَ لي فيك {زوجناكها} وقرئ زوَّجتكها والمرادُ الأمرُ بتزويجِها منه صلى الله عليه وسلم وقيل جعَلَها زوجتَه بلا واسطةِ عقدٍ ويُؤيده أنَّها كانتْ تقولُ لسائرِ نساءِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إنَّ الله تعالى تولَّى نكاحي وأنتنَّ زوجكنَّ أولياؤكنَّ وقيل كان زيدٌ السَّفيرَ في خطبتِها وذلك ابتلاءٌ عظيمٌ وشاهدُ عدلٍ بقوَّةِ إيمانه {لكي لا يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ} ضيقٌ ومشقَّةٌ {فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} أي في حقِّ تزوجهن {إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} فإنَّ لهم فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حسنة وفيه دلالة على أن حكمه صلى الله عليه وسلم وحكمَ الأمَّة سواءٌ إلا ما خصَّه الدَّليلُ {وَكَانَ أَمْرُ الله} أي ما يرتد تكوينَه من الأمورِ أو مأموره الخاص بكُنْ {مَفْعُولاً} مكوناً لا محالةَ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبلَه(7/105)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
{مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ} أي ما صحَّ وما استقامَ في الحكمةِ أن يكونَ له ضيقٌ {فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ} أي قسمَ له وقدَّر من قولِهم فرَضَ له في الدِّيوانِ كذا ومنه فروضُ العساكرِ لأعطياتِهم {سُنَّةَ الله} اسمٌ موضوعٌ موضع المصدر كقولهم ترابا وجنَدْلاَ مؤكدٌ لما قبلَه من نفيِ الحرجِ أي سنَّ الله ذلك سُنَّةً {فِى الذين خَلَوْاْ} مضَوا {مِن قَبْلُ} من الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام حيث وسَّع عليهم في بابِ النِّكاحِ وغيره ولقد كانتْ لداودَ عليه السَّلامُ مائة امرأة وثلثمائة سرّية ولسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة وسبعمائة وقولُه تعالَى {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} أي قضاءً مقضيَّا وحُكما مبتوتاً اعتراضٌ وُسِّط بين الموصولينِ الجاريينِ مجرى الواحدِ للمسارعةِ إلى تقريرِ نفيِ الحَرجِ وتحقيقه(7/105)
الاحزاب 39 42(7/106)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)
{الذين يُبَلّغُونَ رسالاتِ الله} صفةٌ للذين خَلَوا أو مدحٌ لهم بالنَّصبِ أو بالرفع وقرئ رسالةَ الله {وَيَخْشَوْنَهُ} في كلِّ ما يأتُون ويذرُون لا سيِّما في أمرِ تبليغِ الرِّسالةِ حيثُ لا يخرمُون منها حرَفاً ولا تأخذُهم في ذلكَ لومةُ لائمٍ {وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله} في وصفِهم بقصرِهم الخشيةَ على الله تعالى تعريض بما صدَرَ عنه صلى الله عليه وسلم من الاحترازِ عن لائمةِ الخلقِ بعد التَّصريحِ في قولِه تعالى وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه {وكفى بالله حَسِيباً} كافياً للمخاوفِ فينبغي أنْ لا يُخشى غيرُه أو محاسباً على الصَّغيرةِ والكبيرةِ فيجبُ أنْ يكونَ حقُّ الخشيةِ منْهُ تعالى(7/106)
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} أي على الحقيقة حتى يثبتُ بينَهُ وبينَهُ ما يثبت بين الولد وولدِه من حُرمةِ المُصاهرة وغيرِها ولا ينتقضُ عمومُه بكونه صلى الله عليه وسلم ابا الطاهر والقاسمِ وإبراهيمَ لأنهم لم يبلغوا الحُلُمَ ولو بلغُوا لكانوا رجالا له صلى الله عليه وسلم لا لَهمُ {ولكن رَّسُولَ الله} أي كانَ رسولاً لله وكلُّ رسولٍ أبُو أمَّتهِ لكنْ لا حقيقةً بل بمعنى أنَّه شفيقٌ ناصحٌ لهم وسببٌ لحياتِهم الابدية وما زيدٌ إلا واحدٌ من رجالِكم الذين لا ولادة بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم فحكمه حكمُهم وليس للتبنِّي والادِّعاءِ حكمٌ سوى التَّقريبِ والاختصاصِ {وَخَاتَمَ النبيين} أي كان آخرهم الذي خُتموا به وقُرىء بكسر التَّاءِ أي كان خاتمِهم ويؤيده قراءةُ ابنِ مسعود ولكنْ نبياً ختَم النبيِّينَ وأيّاً ما كانَ فلو كانَ له ابنٌ بالغٌ لكان نبيّاً ولم يكنُ هو صلى الله عليه وسلم خاتمَ النبيِّينَ كما يُروى أنَّه قالَ في إبراهيمَ حينَ تُوفِّي لو عاشَ لكانَ نبيّاً ولا يقدحُ فيه نزولُ عيسىَ بعدَهُ عليهما السَّلامُ لانَّ معنى كونِه خاتمَ النبيِّينَ أنَّه لا ينبأ احد بعده وعيسى ممَّن نُبِّىء قبلَه وحينَ ينزلُ إنَّما ينزلُ عملا على شريعةِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلم مُصلِّياً إلى قبلتِه كأنَّه بعضُ أمَّتهِ {وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيماً} ومن جُملتهِ هذهِ الأحكامُ والحِكمُ التي بيَّنها لكُم وكنتمُ منها في شكَ مريبٍ(7/106)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اذكروا الله} بما هُو أهلُه من التَّهليلِ والتحميد والتَّمجيدِ والتقديس {ذِكْراً كَثِيراً} يعمُّ الأوقاتِ والأحوالَ(7/106)
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
{وَسَبّحُوهُ} ونزِّهوه عمَّا لا يليقُ به {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي أوَّلَ النَّهارِ وآخرَه على أنَّ تخصيصَهُما بالذِّكرِ ليسَ لقصرِ التَّسبيحِ عليهما دُونَ سائرِ الأوقاتِ بل لإبانةِ فضلِهما على سائرِ الأوقاتِ لكونِهما مشهُودينِ كأفرادِ التَّسبيحِ من بينِ الأذكارِ مع اندراجهِ فيها لكونِه العُمدةَ فيها وقيل كِلا الفعلينِ متوجهٌ إليهما كقولِك صُمْ وصَلِّ يومَ الجمعةِ وقيلَ المرادُ بالتَّسبيحِ الصَّلاةُ(7/106)
الاحزاب 43 45(7/107)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
{هُوَ الذى يُصَلّى عَلَيْكُمْ} الخ استئنافٌ جارٍ مجرى التعليل لما قبله من الأمرينِ فإنَّ صلاتَهُ تعالى عليهم مع عدمِ استحقاقِهم لها وغناهُ عن العالمينَ ممَّا يُوجبُ عليهم المُداومةَ علَى ما يستوجبُه تعالى عليهم من ذكرِه تعالى وتسبيحِه وقوله تعالى {وملائكته} عطفٌ على المستكنِّ في يصلِّي لمكانِ الفصلِ المغنيِّ عن التَّأكيدِ بالمنفصلِ لكنْ لا على أنْ يُرادَ بالصَّلاةِ الرَّحمةُ أوَّلاً والاستغفارُ ثانياً فإنَّ استعمالَ اللَّفظِ الواحدِ في معنيينِ مُتغايرينِ ممَّا لا مساغَ له بل عَلى أنْ يُرادَ بهما معنى مجازيٌّ عامٌّ يكون كلا المعنيينِ فرداً حقيقياً له وهو الاعتناءُ بما فيهِ خيرُهم وصلاحُ أمرِهم فإنَّ كُلاًّ منَ الرَّحمةِ والاستغفارِ فردٌ حقيقيٌّ له أو التَّرحُّمُ والانعطافُ المعنويُّ المأخوذُ من الصَّلاةِ المُشتملةِ على الانعطافِ الصُّوري الذي هو الرُّكوعُ والسُّجودُ ولا ريبَ في أنَّ استغفارَ الملائكةِ ودعاءَهم للمؤمنينَ تَرحُّمٌ عليهم وأمَّا أنَّ ذلك سببٌ للرَّحمةِ لكونِهم مُجابي الدَّعوةِ كما قيلَ فاعتبارُه ينزعُ إلى الجمعِ بينَ المعنيينِ المُتغايرينِ فتدبَّرْ {لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور} متعلق بيصلِّي أي يعتني بأمورِكم هو وملائكتُه ليخرجَكم بذلك من ظلماتِ المعصيةِ إلى نُور الطَّاعةِ وقولُه تعالى {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله أي كانَ بكافَّة المُؤمنينَ الذين انتم من زمرتم رحيماً ولذلك يَفعل بكم ما يفعلُ من الاعتناءِ بإصلاحِكم بالذَّاتِ وبالواسطةِ ويهديكم إلى الإيمانِ والطَّاعةِ أو كانَ بكُم رحيماً على أنَّ المُؤمنين مُظهرٌ وُضعَ موضع المضمر مدحا لهم وإشعاراً بعلَّة الرَّحمةِ وقولُه تعالى(7/107)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} بيانٌ للأحكامِ الآجلةِ لرحمةِ الله تعالى بهم بعدَ بيانِ آثارها العاجلةِ التي هي الاعتناءُ بأمرِهم وهدايتُهم إلى الطَّاعةِ أي ما يُحيَّون به على أنَّه مصدرٌ أُضيفَ إلى مفعولِه يومَ لقائِه عند الموتِ أو عندَ البعثِ منَ القُبورِ أو عندَ دخولٍ الجنَّةِ تسليم عليهم منَ الله عزَّ وجَلَّ تعظيماٍ لهُم أو منَ الملائكةِ بشارةً لهم بالجنَّةِ أو تكرمة لهُم كما في قولِه تعالى والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُمُ أو إخبارٌ بالسَّلامةِ عن كلِّ مكروهٍ وآفةٍ وقولُه تعالى {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} بيانٌ لأثارِ رحمتِه الفائضةِ عليهم بعدَ دُخولِ الجنَّةِ عقيبَ بيانِ آثارِ رحمتِه الواصلةِ إليهم قبلَ ذلكَ ولعلَّ إيثارَ الجملةِ الفعليةِ على الإسمية المناسبة لما قبلها بأن يقال مثلاً وأجرهم أجر كريم أو ولهم أجر كريم للمبالغة في التَّرغيبِ والتَّشويقِ إلى الموعُودِ ببيانِ أنَّ الأجرَ الذي هُو المقصِدُ الأقصى مِنْ بينِ سائرِ آثارِ الرَّحمةِ موجود بالفعل مهيأ لهم مع ما فيه من مراعاة الفواصل(7/107)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)
{يا أيها النبى إِنَّا أرسلناك شَاهِداً} على مَن بُعثتَ إليهم تُراقبُ أحوالهم وتُشاهدُ أعمالَهم وتتحمَّلُ منهم الشَّهادةَ بما صدرَ عنهُم منَ التَّصديقِ والتَّكذيبِ وسائرِ ما هُم عليهِ من الهدى والضَّلالِ وتُؤدِّيها يومَ القيامةِ أداءً مقبولا(7/107)
الاحزاب 46 49 فيما لهُم وما عليهم وهو حالٌ مقَّدرةٌ {وَمُبَشّراً وَنَذِيراً} تُبشر المؤُمنينَ بالجنَّةِ وتُنذرُ الكافرينَ بالنَّارِ(7/108)
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
{وَدَاعِياً إِلَى الله} أي إلى الإقرارِ به وبوحدانيَّتِه وبسائرِ ما يجبُ الإيمانُ بهِ من صفاتِه وأفعالِه {بِإِذْنِهِ} أي بتيسيرِه أُطلق عليه مجازاً لمَا أنَّه من أسبابِه وقُيِّدَ به الدَّعوةُ إيذاناً بأنَّها أمرٌ صعبُ المنالِ وخَطبٌ في غايةِ الإعضالِ لا يتأتَّى إلا بإمدادٍ من جنابِ قُدسِه كيفَ لا وهُو صرفٌ للوجوهِ عن القُبل المعبودةِ وإدخالِ الأعناق في قِلادة غيرِ معهودةٍ {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} يُستضاءُ به في ظلمات الجهل والغواية ويُهتدى بأنوارِه إلى مناهجِ الرُّشدِ والهدايةِ(7/108)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)
{وَبَشّرِ المؤمنين} عطفٌ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ ويستدعيهِ النظامُ كأنَّه قيل فراقبْ أحوالَ النَّاسِ وبشِّرِ المؤمنين منهُم {بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً} أي على مُؤمني سائرِ الأممِ في الرُّتبةِ والشَّرفِ أو زيادةً على أجورِ أعمالِهم بطريقِ التَّفضلِ والإحسانِ(7/108)
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
{وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} نهيٌ عن مداراتِهم في أمرِ الدَّعوةِ واستعمالِ لينِ الجانبِ في التبليغِ والمسامحةِ في الإنذارِ كُني عن ذلكَ بالنَّهيِ عن طاعتِهم مبالغة في الزجر والتنفيرِ عن المنهيِّ عنه بنظمه في سلكِها وتصويرِه بصورتِها ومن حمل النهي على التَّهييجِ والإلهابِ فقَدْ أبعدَ عنِ التَّحقيقِ بمراحلَ {وَدَعْ أذاهم} أي لاتبال بأذيَّتِهم لك بسببِ تصلبكَ في الدَّعوةِ والإنذارِ {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في كلِّ ما تأتِي وما تذرُ من الشئون التي من جملتها هذا الشَّأنُ فإنَّه تعالى يكفيكهُم {وكفى بالله وَكِيلاً} موكُولاً إليهِ الأمورُ في كلِّ الأحوالِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضعِ الإضمارِ لتعليلِ الحكمِ وتأكيدِ استقلالِ الاعتراضِ التذييل ولما وصف صلى الله عليه وسلم بنعوتٍ خمسةٍ قُوبل كلٌّ منها بخطابٍ يُناسبه خلاَ أنَّه لم يُذكر مقابلَ الشَّاهدِ صَريحاً وهُو الأمرُ بالمراقبةِ ثقةً بظهورِ دلالةِ مقابلِ المبشَّر عليهِ وهو الأمرُ بالتَّبشيرِ حسبما ذُكر آنِفاً وقُوبلَ النَّذيرُ بالنَّهيِ عن مُداراةِ الكُفَّارِ والمُنافقين والمُسامحةِ في إنذارِهم كما تحققَتُه وقُوبل الدَّاعِي إلى الله بإذنه بالامر بالتوكل عليهِ منْ حيثُ إنَّه عبارةٌ عن الاستمدادِ منه تعالى والاستعانةِ به وقُوبل السِّراجُ المنيرُ بالاكتفاءِ به تعالى فإنَّ من أيَّده الله تعالىَ بالقُوَّة القُدسيةِ ورشَّحه للنُّبوةِ وجعلَه بُرهاناً نيِّراً يهدي الخلقَ من ظلماتِ الغَيِّ إلى نورِ الرِّشادِ حقيقٌ بأنْ يَكتفي بهِ عن كلِّ ما سواهُ(7/108)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} أي تجامعوهنَّ وقُرىء تُماسُّوهن بضمِّ التَّاءِ {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} بأيامٍ يتربصنَّ فيها بأنفسهنَّ {تَعْتَدُّونَهَا} تستوفونَ عددَها من عددتُ الدَّراهمَ فاعتدَّها وحقيقتُه عدُّها لنفسِه وكذلك كِلتُه فاكتَالَهُ والإسنادُ إلى الرَّجالِ للدَّلالةِ على أنَّ العِدَّةَ حق(7/108)
الاحزاب 50 الأزواجِ كما أشعرَ به قولُه تعالى فما لَكُم وقُرىء تَعْتَدُونها على إبدالِ إحدى الدَّالينِ بالتَّاءِ أو على أنَّه من الاعتداءِ بمعنى تعتدُون فيها والخلوةُ الصَّحيحةُ في حكمِ المسِّ وتخصيصُ المؤمناتِ مع عمومِ الحكم للكتابيات للتنبيه على أنَّ المؤمنَ من شأنِه أنْ يتخَّيرَ لنطفتةِ ولا ينكحُ إلاَّ مؤمنةً وفائدةُ ثمَّ إزاحةُ ما عسى يُتوهَّم أنَّ تراخِيَ الطَّلاقِ ريثما تمكنُ الإصابةُ يؤثر في العِدَّةِ كما يُؤثر في النَّسبِ {فَمَتّعُوهُنَّ} أي إنْ لم يكُن مفروضاً لها في العقدِ فإن الواجبَ للمفروضِ لها نصفُ المفروض دُونَ المُتعةِ فإنها مستحبَّةٌ عندنَا في روايةٍ وفي أُخرى غيرُ مستحبَّةٍ {وَسَرّحُوهُنَّ} أخرجُوهنَّ من منازلِكم إذْ ليسَ لكُم عليهنَّ عَّدةٌ {سَرَاحاً جَمِيلاً} من غيرِ ضرارٍ ولا منعِ حقَ ولا مساغَ لتفسيرِه بالطَّلاقِ السُّنيِّ لأنَّه إنَّما يتسنَّى في المدخُولِ بهنَّ(7/109)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
{يا أيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتي آتيت أُجُورَهُنّ} أي مهورهِنَّ فإنَّها أجورُ الأبضاعِ وإيتاؤها إمَّا إعطاؤُها معجَّلةً أو تسميتُها في العقدِ وأيّاً ما كانَ فتقييدُ الإحلالِ له صلى الله عليه وسلم به ليسَ لتوقفِ الحلِّ عليه ضرورةَ أنَّه يصحُّ العقدُ بلا تسميةٍ ويجبُ مهرُ المثلِ أو المتعةُ على تقديرَيْ الدُّخولِ وعدمِه بل لإيثارِ الأفضلِ والأولى له صلى الله عليه وسلم كتقييدِ إحلالِ المملوكةِ بكونِها مسْبيةً في قولِه تعالى {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ} فإنَّ المُشتراةَ لا يتحققُ بدءُ أمرِها وما جَرى عليها وكتقييد القرائبِ بكونهنَّ مهاجراتٍ معه في قولِه تعالى {وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ} ويحتملُ تقييدَ الحلِّ بذلكَ في حقه صلى الله عليه وسلم خاصَّة ويعضدُه قولُ أمِّ هانئ بنتِ أبي طالبٍ خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرتُ إليه فعذرَني ثم أنزلَ الله هذه الآيةَ فلم أحِلَّ له لأنِّي لم أُهاجر معه كنتُ من الطُّلقاءِ {وامرأة مُّؤْمِنَةً} بالنَّصبِ عطفاً على مفعولِ أحللنَا إذْ ليسَ معناهُ إنشاءَ الإحلالِ النَّاجزِ بل إعلامَ مطلقِ الاحلالِ المنتظمِ لما سبق ولحق وقرئ بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي أحللناهَا لكَ أيضاً {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ} أي مَّلكتْه بُضعَها بأيِّ عبارةٍ كانتْ بلا مهٍر إنْ اتفقَ ذلك كما ينبئ عنه تنكيرُها لكنْ لا مطلقاً بل عندَ إرادتِه صلى الله عليه وسلم استنكاحَها كما نطقَ به قوله عز وجل {أن أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا} أي أنْ يتملَّكَ بُضعَها كذلكَ أي بلا مهرٍ فإنَّ ذلكَ جارٍ منه صلى الله عليه وسلم مَجرى القبولِ وحيثُ لم يكنُ هذا نصَّاً في كونِ تمليِكها بلفظِ الهبةِ لَم يصلُحْ أنّ يكونَ مَنَاطاً للخلافِ في انعقادِ النكاح بلفظ الهبة إيجابا أو سلباً واختُلف في اتفاقِ هذا العقدِ فعنِ ابن عباس رضي الله عنهما لم يكن عنده صلى الله عليه وسلم أحدٌ منهنَّ بالهبةِ وقيل الموهوبات أربعٌ ميمونةُ بنتُ الحرث وزينب بنتُ خُزيمةَ الأنصاريَّة وأمُّ شريكِ بنتُ جابر وخولة بنت حكيم وإيراده صلى الله عليه وسلم في الموضعين(7/109)
الاحزاب 51 بعُنوان النُّبوةِ بطريقِ الالتفاتِ للتكرمةِ والإيذانِ بأنَّها المناطُ لثبوتِ الحُكمِ فيختصُّ به صلى الله عليه وسلم حسب اختصاصها به كما ينطق به قوله تعالى {خَالِصَةً لَّكَ} أي خلصَ لك إحلالُها خالصةً أي خُلوصاً فإنَّ الفاعلةَ في المصادرِ غيرُ عزيزٍ كالعافيةِ والكاذبةِ أو خلصَ لك إحلالُ ما أحللنَا لكَ من المذكُوراتِ على القُيودِ المذكورةِ خالصةً ومَعنى قولِه تعالى {مِن دُونِ المؤمنين} على الأولِ أنَّ الإحلالَ المذكورَ في المادَّةِ المعهُودةِ غير متحقق في حقهم وإنَّما المتحقِّقُ هناك الإحلالُ بمهر المثل وعلى الثاني أنَّ إحلالَ الجميعِ على القُيودِ المذكورةِ غير متحقِّقٍ في حقِّهم بل المتحقِّقُ فيه إحلالُ البعضِ المعدودِ على الوجه المعهود وقرئ خالصةٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي ذلكَ خلوصٌ لك وخصوصٌ أو هيَ أيْ تلك المرأةُ أو الهبةُ خالصةٌ لك لا تتجاوزُ المؤمنينَ حيث لا تحل لهم بغيرِ مهرٍ ولا تصحُّ الهبةُ بل يجبُ مهر المثلِ وقولُه تعالى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} أي على المؤمنين {فِى أزواجهم} أي في حقِّهنَّ اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَه من خلوصِ الإحلالِ المذكور لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم تجاوزِه للمؤمنينَ ببيانِ أنَّه قد فُرض عليهم منْ شرائطِ العقدِ وحقوقِه ما لم يُفرضْ عليه صلى الله عليه وسلم تكرمةً له وتوسعةً عليهِ أي قد علمنَا ما ينبغِي أنْ يُفرض عليهم في حقِّ أزواجِهم {وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم} وعلى أيِّ حدَ وأيِّ صفةٍ يحقُّ أن يُفرضَ عليهم ففرضنا ما فرضنا على ذلك الوجه وخصصناك ببعضِ الخصائصِ {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أي ضيقٌ واللامُ متعلقةٌ بخالصةٍ باعتبار ما فيها من معَنى ثبوتِ الإحلالِ وحصوله له صلى الله عليه وسلم لا باعتبارِ اختصاصه به صلى الله عليه وسلم لأنَّ مدارَ انتفاءِ الحرجِ هو الأوَّلُ لا الثَّانِي الذي هو عبارة عن عدمُ ثبوتِه لغيرِه {وَكَانَ الله غَفُوراً} لما يعسرُ التَّحرزُ عنه {رَّحِيماً} ولذلكَ وسَّع الأمرَ في مواقعِ الحَرَجِ(7/110)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
{تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ} أيْ تُؤخِّرها وتتركُ مضاجعتَها {وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء} وتضمُّ إليكَ مَن تشاءُ منهنَّ وتُضاجعها أو تطلِّق مَن تشاءُ منهنّ وتُمسك من تشاء وقرئ ترجئ بالهمزةِ والمعنى واحدٌ {وَمَنِ ابتغيت} أي طلبتَ {مِمَّنْ عزلت} طلقت بالرجعية {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} في شئ مَّما ذُكر وهذه قسمةٌ جامعةٌ لما هو الغرضُ لأنَّه إمَّا أنْ يطلِّقَ أو يمسكَ فإذا أمسكَ ضاجعَ أو تركَ وقسمَ أو لم يقسم وإذا طلِّق فإمَّا أنْ يخلِّيَ المعزولةَ أو يبتغيَها ورُوي أنَّه أَرْجى منهنَّ سَوْدةَ وجُويريةَ وصفيَّةَ وميمُونةَ وأمَّ حبيبةٍ فكانَ يقسمُ لهنَّ ما شاءَ كما شاءَ وكانتْ ممَّا آوى إليهِ عائشةُ وحفصةُ وأمُّ سلمةٍ وزينبُ وأرجَى خمْساً وآوى أربعاً ورُوي أنَّه كان يُسوِّي بينهنَّ مع ما أُطلق له وخُيِّر إلا سودَة فإنَّها وهبتْ ليلتَها لعائشة رضى الله عنهن وقالتْ لا تُطلِّقْني حَتَّى أُحشرَ في زُمرةِ نسائكِ {ذلك} أي ما ذكر من تفويضِ الأمرِ إلى مشيئتِك {أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بما آتيتهن كُلُّهُنَّ} أي أقربُ إلى قُرَّةِ عُيونهنَّ ورضاهنَّ جميعاً لأنَّه حكمٌ كلُّهنَّ فيهِ سواءٌ ثمَّ إنْ سَوَّيتَ بينهنَّ وجدنَ ذلكَ تفضُّلاً منكَ وإنْ رجَّحت بعضهنَّ علمن(7/110)
الاحزاب 52 أنَّه بحكمِ الله فتطمئنَّ به نفوسهن وقرئ تُقِرَّ بضمِّ التَّاءِ ونصب أعينهنَّ وتُقَرُّ على البناءِ للمفعول وكلهنَّ تأكيدٌ لنونِ يرضينَ وقرى بالنَّصبِ على أنَّه تأكيدٌ لهنَّ {والله يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُمْ} من الضَّمائرِ والخواطرِ فاجتهدُوا في إحسانِها {وَكَانَ الله عَلِيماً} مُبالغاً في العلمِ فيعلمُ كلَّ ما تُبدونَهُ وتُخفونَهُ {حَلِيماً} لا يُعاجلُ بالعقوبةِ فلا تغترُّوا بتأخيرِها فإنَّه إمهالٌ لا إهمالٌ(7/111)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
{لا يحل لك النساء} بالياءِ لأنَّ تأنيثَ الجمعِ غيرُ حقيقيَ ولوجودِ الفصلِ وقرئ بالتاء {مِن بَعْدُ} أي من بعدِ التِّسعِ وهو في حقِّه كالأربعِ في حقِّنا وقالَ ابنُ عبَّاسٍ وقَتَادةُ من بعدِ هؤلاء التَّسعِ اللاتِي خيرتهنَّ فاخترنَك وقيلَ من بعد اختيارِهنَّ الله ورسولَه ورضاهنَّ بما تؤتيهنَّ من الوصلِ والهُجرانِ {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ} أي تتبدلَ بحذفِ إحدى التَّاءينِ {بِهِنَّ} أي بهؤلاءِ التِّسعِ {مِنْ أَزْوَاجٍ} بأنْ تُطلقَ واحدةً منهنَّ وتنكحَ مكانَها أُخرى ومنْ مزيدةٌ لتأكيدِ الاستغراقِ أرادَ الله تعالى لهنَّ كرامةً وجزاءً على ما اخترنَ ورضينَ فقصرَ رسولَه عليهنَّ وهنَّ التِّسعُ اللاتي توفى صلى الله عليه وسلم عنهنَّ وهُنَّ عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحفصةُ بنتُ عمرَ وأمُّ حبيبةٍ بنتُ ابي سفيان وسَوْدةُ بنتُ زَمْعَه وأمُّ سلمةَ بنتُ أبي أُميَّة وصفية بنت حيي الخيبرية وميمونة بنت الحرث الهلالية وزينب بنت جحش الاسدية وجويرية بنت الحرث المصطلِقيةُ وقالَ عكرمةُ المعنى لا يحل لك النساء من بعدِ الاجناسِ الأربعةِ اللاتِي أحللناهنَّ لكَ بالصِّفةِ التي تقدَّم ذكرُها من الأعرابياتِ والغرائبِ أو من الكتابياتِ أو من الإماءِ بالنِّكاحِ ويأباهُ قولُه تعالى وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ فإنَّ معنَى إحلالِ الأجناسِ المذكورةِ إحلالُ نكاحهنَّ فلا بدَّ أنْ يكونَ معنى التبدلِ بهنَّ إحلالَ نكاحِ غيرِهنَّ بدلَ إحلالِ نكاحهنَّ وذلكَ إنَّما يُتصوَّرُ بالنَّسخِ الذي ليسَ من الوظائفِ البشريَّةِ {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} أي حسنُ الأزواجِ المستبدلةِ وهو حالٌ من فاعلِ تبدلَ لا من مفعولِه وهو من أزواج لنوغله في التنكيرِ قيل تقديرُه مفروضاً إعجابُك بهنَّ وقد مرَّ تحقيقُه في قوله تعالى وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خيرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وقيل هي أسماءُ بنتُ عُميسٍ الخَثعميَّةُ امرأةُ جعفرَ بنِ أبي طالبٍ أي هي ممن أعجبه صلى الله عليه وسلم حسنُهنَّ واختُلف في أنَّ الآيةَ محكمةٌ أو منسوخةٌ قيل بقولِه تعالى تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء وقيل بقولِه تعالى إنَّا أحللنَا لكَ وترتيبُ النُّزولِ ليس على ترتيبِ المُصحفِ وقيل بالسنة وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها مامات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى أحلَّ له النِّساءُ وقال أنسٌ رضيَ الله عنه مات صلى الله عليه وسلم على التَّحريم {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} استثناءٌ من النِّساءِ لأنَّه يتناولُ الأزواجَ والإماء وقيل منقطعٌ {وَكَانَ الله على كُلّ شىء رَّقِيباً} حافظاً مُهيمناً فاحذرُوا مجاوزةَ حدودِه وتخطِّي حلالِه الى حرامه(7/111)
الاحزاب 53(7/112)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى} شروعٌ في بيان ما يجبُ مراعاتُه على النَّاسِ من حُقوقِ نساءِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إثرَ بيانِ ما يجبُ مراعاته عليه صلى الله عليه وسلم منَ الحقوقِ المُتعلقةِ بهنَّ وقوله الى {إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوالِ أي لا تدخلُوها في حالٍ من الأحوالِ إلا حال كونكم مأوذنا لكم وقيل منْ أعمِّ الأوقاتِ أيْ لا تدخلُوها في وقتٍ من الأوقاتِ إلا وقتَ أنْ يُؤذنَ لكُم وردَّ عليهِ بأنَّ النحاة نصوا على أنَّ الوقوعَ موقعَ الظَّرفِ مختصٌّ بالمصدرِ الصَّريحِ دُونَ المؤولِ لا يُقال آتيكَ أنْ يصيحَ الدِّيكُ وإنَّما يقالُ آتيكَ صياحَ الدِّيكِ وقولُه تعالى {إلى طَعَامٍ} متعلَّقٌ بيؤذنُ بتضمينِ معنى الدُّعاءِ للإشعارِ بأنَّه لا ينبغِي أنْ يدخلُوا على الطَّعامِ بغيرِ دعوةٍ وإنْ تحققَ الإذنُ كما يُشعر به قوله تعالى {غَيْرَ ناظرين إناه} أي غيرَ منتظرينَ وقتَهُ أو إدراكَه وهو حالٌ من فاعلِ لا تدخلوُا على أنَّ الاستثناءَ واقعٌ على الوقتِ والحالِ معاً عندَ مَنْ يُجوزه أو من المجرور في لكم وقرئ بالجرِّ صفةً لطعامٍ فيكون جارياً على غيرِ مَن هُو له بلا إبرازِ الضِّميرِ ولا مساغٍ له عند البصريين وقرئ بالإمالةِ لأنَّه مصدرٌ أنَى الطعامَ أي أدركَ {وَلَكِنْ إذا دعيتم فادخلوا} استداراك من النَّهيِ عن الدُّخولِ بغيرِ إذنٍ وفيهِ دلالةٌ بيِّنةٌ على أنَّ المرادَ بالإذنِ إلى الطَّعامِ هو الدَّعوةُ إليهِ {فَإِذَا طَعِمْتُم فانتشروا} فتفرقُوا ولا تلبثُوا لانه خطاب لقوم كان يتحينون طعام النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فيدخُلون ويقعدُون منتظرين لإدراكِه مخصوصةً بهم وبأمثالِهم وإلاَّ لما جازلا حد ان يدخل بيوته صلى الله عليه وسلم بإذنٍ لغيرِ الطَّعامِ ولا اللبث بعد الطعام لأمرمهم {وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أي لحديثِ بعضِكم بَعضاً أو لحديثِ أهلِ البيتِ بالتَّسمعِ له عطفٌ على ناظرينَ أو مقدَّرٌ بفعلٍ أي ولا تدخلوا أو لا تمكثُوا مستأنسين الخ {إِنَّ ذَلِكُمْ} أي الاستئناسُ الذي كنتُم تفعلونَهُ من قبل {كَانَ يُؤْذِى النبى} لتضييقِ المنزَّلِ عليهِ وعلى أهلِه وإيجابِه للاشتغالِ بما لا يعينه وصدِّه عن الاشتغالِ بما يعنيه {فيستحيي مّنكُمْ} أي من إخراجِكم لقولِه تعالى {والله لاَ يستحيي مِنَ الحق} فإنَّه يستدعِي أنْ يكونَ المستحى منه أمراً حقَّاً متعلِّقاً بهم لا انفسهم وما ذاك إلا إخراجهم فينبغي أنْ لا يُترك حياءً ولذلك لم يتركْه تعالى وأمرَكم بالخروجِ والتَّعبيرُ عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة كله وقرئ لا يستحِي بحذفِ الياءِ الأُولى وإلقاءِ حركتِها إلى ما قبلَها {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} الضمير لسناء النبيِّ المدلولِ عليهنَّ بذكرِ بيوته صلى الله عليه وسلم {متاعا} أي شيئاً يُتمتّع بهِ من الماعونِ وغيرِه {فاسألوهن} أي المتاعَ {مِن وَرَاء حجاب} أي ستر ورُوي أن عمر رضي اله عنه قالَ يا رسولَ الله يدخلُ عليكَ البرُّ والفاجرُ فلو أمرتَ أمَّهاتِ المؤمنينَ بالحجابِ فنزلتْ وقيلَ إنَّه صلى الله عليه وسلم كان يَطعمُ ومعه بعضُ أصحابِه فأصابتْ يدُ رجلٍ منهم يد(7/112)
الاحزاب 54 56 عائشةَ رضيَ الله عنها فكرِه النبيُّ ذلكَ فنزلتْ {ذلكم} أي ما ذُكر من عدمِ الدُّخولِ بغير إذن وعدم الاستئاس للحديثِ عند الدُّخولِ وسؤالِ المتاع من وراء حجاب {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أي أكثرُ تطهيراً من الخواطرِ الشَّيطانيَّةِ {وَمَا كَانَ لَكُمْ} أي وما صحَّ وما استقامَ لكُم {أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} أي أنْ تفعلُوا في حياتِه فعلاً يكرهه ويتأذَّى به {وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بعده أبدا} أي من بعدَ وفاتِه أو فراقِه {إِنَّ ذَلِكُمْ} إشارةٌ إلى ما ذُكر منْ إيذائِه صلى الله عليه وسلم ونكاحِ أزواجهِ من بعده وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشرِّ والفسادِ {كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} أي أمراً عظيماً وخطباً هائلاً لا يُقادر قدرُه وفيهِ من تعظيمِه تعالى لشأنِ رسوله صلى الله عليه وسلم وإيجابِ حُرمتِه حيَّاً وميِّتاً مالا يخفى ولذلكَ بالغَ تعالى في الوعيدِ حيثُ قال(7/113)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
{إِن تُبْدُواْ شَيْئاً} ممَّا لا خيرَ فيه كنكاحهنَّ على ألسنتِكم {أَوْ تُخْفُوهْ} في صدورِكم {فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً} فيجازيكم بما صدرَ عنكُم من المعاصِي الباديةِ والخافيةِ لا محالَة وفي هذا التعميمِ مع البُرهانِ على المقصودِ مزيدُ تهويلٍ وتشديدٍ ومبالغةٍ في الوعيدِ(7/113)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى آبائهن وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء أخواتهن} استئنافٌ لبيانِ مَن لا يجبُ الاحتجابُ عنهم رُوي أنَّه لمَّا نزات آيةُ الحجابِ قالَ الآباءُ والأبناءُ والأقاربُ يا رسولَ الله أوَ نكلمهن أيضاً من وراءِ الحجابِ فنزلتْ وإنَّما لم يُذكر العمُّ والخالُ لأنَّهما بمنزلةِ الوالدينِ ولذلك سُمِّي العمُّ أباً في قولِه تعالى وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل واسحق أو لأنَّه اكتُفي عن ذكرِهما بذكرِ أبناءِ الإخوةِ وأبناءِ الأخواتِ فإنَّ مناطَ عدمِ لزومِ الاحتجابِ بينهنَّ وبينَ الفريقينِ عينُ ما بينهنَّ وبينَ العمِّ والخالِ من العمومةِ والخؤولةِ لما أنهنَّ عمَّاتٌ لأبناءِ الإخوةِ وخالاتٌ لأبناءِ الأخوات وقيل لأنَّه كره تركَ الاحتجابِ منُهما مخافةَ أنْ يصِفاهنَّ لا بنائهما {وَلاَ نِسَائِهِنَّ} أي نساءِ المُؤمناتِ {وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} من العبيدِ والإماءِ وقيلَ من الإماءِ خاصَّة وقد مرَّ في سورةِ النُّورِ {واتقين الله} في كل ما تأتن وما تذرن لاسيما فيما أمرتن به ونهيتن عنْهُ {إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء شَهِيداً} لا تَخفى عليهِ خافيةٌ ولا تتفاوتُ في علمهِ الأحوالُ(7/113)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
{إِنَّ الله وملائكته} وقُرىء وملائكتُه بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِ ان اسمها عند الكوفيينَ وحملاً على حذفِ الخبرِ ثقةً بدلالةِ ما بعدَه عليهِ على رَأي البصريينَ {يُصَلُّونَ عَلَى النبى} قيل الصَّلاةُ من الله الرَّحمةُ ومن الملائكةِ الاستغفارُ وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما أرادَ أنَّ الله يرحمُه والملائكةَ يدعُون له وعنْهُ أيضاً يصلُّون يبرِّكُون وقالَ أبوُ العاليةِ صلاةُ الله(7/113)
الاحزاب 57 58 تعالى عليهِ ثناؤُه عليهِ عندَ الملائكةِ وصلاتُهم دعاؤُهم له فينبغي أنْ يُرادَ بها في يصلُّون معنى يجازي عامٌّ يكونُ كلُّ واحدٍ من المَعَاني المذكورةِ فَرْداً حقيقا له أي يعتنون بما فيهِ خيرُه وصلاحُ أمرهِ ويهتمُّون بإظهارِ شرفِه وتعظيمِ شأنِه وذلكَ منَ الله سبحانَهُ بالرَّحمةِ ومن الملائكةِ بالدُّعاءِ والاستغفارِ {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} اعتنُوا أنتُم أيضاً بذلكَ فإنَّكُم أولى بهِ {وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} قائلينَ اللهمُّ صلِّ على محمدٍ وسلِّم أو نحوَ ذلكَ وقيلَ المرادُ بالتسليمِ انقيادُ أمرهِ والآيةُ دليلٌ على وجوبِ الصَّلاةِ والسَّلامِ عليهِ مُطلقاً من غيرِ تعرضٍ لوجوبِ التَّكرارِ وعدمِه وقيل يجبُ ذلكَ كلَّما جَرى ذكرُه لقولِه صلى الله عليه وسلم رغمَ أنفُ رجلٍ ذُكرتُ عنده فلم يصل علي وقوله صلى الله عليه وسلم مَن ذُكرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ فدخلَ النَّارَ فأبعدَهُ الله ويُروى أنَّه صلى الله عليه وسلم قالَ وكَّل الله تعالى بي ملكينِ فلا أُذكر عندَ مسلمٍ فيصلِّي عليَّ إلاَّ قالَ ذانِك الملكانِ غفرَ الله لكَ وقالَ الله تعالى وملائكتُه جواباً لذينكَ الملكينِ آمينَ ولا أُذكر عندَ مسلمٍ فلا يصلِّي عليَّ إلاَّ قال دانك ملكان لا غفرَ الله لكَ وقالَ الله تعالى وملائكتُه جواباً لذينكَ الملكينِ آمينَ ومنهم من قال بجب في كلِّ مجلسٍ مرَّةً وان تكرر ذكره صلى الله عليه وسلم كما قِيل في آيةٍ السَّجدةِ وتشميتِ العاطسِ وكذلك في كلِّ دعاءٍ في أوَّلهِ وآخرِه ومنهُم مَن قال بالوجوبِ في العُمر مرَّةً وكذا قالَ في إظهارِ الشَّهادتينِ والذي يقتضيهِ الاحتياط ويستدعيه معرفة علو شأنه صلى الله عليه وسلم أنْ يُصلَّى عليهِ كلَّما جَرَى ذكُره الرَّفيعُ وأمَّا الصَّلاةُ عليهِ في الصَّلاةُ بأن يُقالَ اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ فليستْ بشرطٍ في جوازِ الصَّلاةِ عندَنا وعن إبراهيمَ النَّخعيَّ رحمَهُ الله أنَّ الصَّحابةَ كانُوا يكتفُون عن ذلكَ بما في التَّشهدِ وهو السَّلامُ عليكَ أيُّها النبيُّ وأمَّا الشَّافعيُّ رحَمهُ الله فقد جعلَها شرطاً وأمَّا الصَّلاةُ على غيرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فتجوزُ تبعاً وتُكره استقلالاً لأنَّه في العُرفِ شعارُ ذكرِ الرُّسلِ ولذلكَ كُره أنْ يُقالَ محمدٌ عزَّ وجلَّ مع كونِه عزيزاً جليلاً(7/114)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
{إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} أُريد بالإيذاء إمَّا فعلُ ما يكرهانِه من الكُفرِ والمعَاصي مجازاً لاستحالةِ حقيقةِ التَّأذِي في حقِّه تعالى وقيلَ في إيذائِه تعالى هو قول اليَّهودِ والنَّصارَى والمُشركين يدُ الله مغلولةٌ وثالثُ ثَلاثَة والمسيحُ ابنُ الله والملائكةُ بناتُ الله والأصنامُ شُركاؤه تعالَى الله عن ذلكَ عُلواً كبيراً وقيلَ قولُ الذينَ يُلحدون في آياتِه وفي ايذاء الرسول صلى الله عليه وسلم هو قولُهم شاعرٌ ساحرٌ كاهنٌ مجنونٌ وقيل هو كسرُ رَباعيتَه وشجُّ وجهَه الكريمَ يومَ أُحد وقيلَ طعنُهم في نكاحِ صفيَّةَ والحقُّ هو العمومُ فيهما واما ايذاؤه صلى الله عليه وسلم خاصَّة بطريقِ الحقيقةِ وذكرُ الله عزَّ وجلَّ لتعظيمِه والإيذانِ بجلالةِ مقدارهِ عندَه تعالى وايذاؤه صلى الله عليه وسلم إيذاءٌ له سبحانَه {لَّعَنَهُمُ الله} طردَهم وأبعدَهُم من رحمتِه {فِى الدنيا والاخرة} بحيثُ لا يكادُون ينالُون فيهما شَيئاً منها {وَأَعَدَّ لَهُمْ} معَ ذلكَ {عَذَاباً مُّهِيناً} يصيبهم في الآخرةِ خاصَّة(7/114)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
{والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات} يفعلونَ بهم ما يتأذون به من قولٍ أو فعل وتقييده(7/114)
الاحزاب 59 61 بقول تعالى {بِغَيْرِ مَا اكتسبوا} أي بغيرِ جنايةٍ يستحقُّون بها الأذيةَ بعد إطلاقِه فيما قبلَه للإيذانِ بأنَّ أذى الله ورسولِه لا يكونُ إلا غيرَ حقَ وأما أَذَى هؤلاءِ فَمنُه ومنه {فَقَدِ احتملوا بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} أي ظَاهراً بيّناً قيل إنَّها نزلتْ في مُنافقينَ كانُوا يؤُذون عليا رضي الله عنه ويسمعونه مالا خيرَ فيه وقيلَ في أهلِ الإفكِ وقال الضحَّاكُ والكلبيُّ في زُناةٍ يتَّبعونَ النِّساءَ إذَا برزنَ بالليَّلِ لقضاء حوائجهن كانوا لا يتعرَّضُون إلاَّ للإماءِ ولكنْ رُبَّما كانَ يقعُ منهما التَّعرُّضُ للحرائرِ أيضاً جَهْلاً أو تجاهُلاً لاتحادِ الكلِّ في الزيِّ واللِّباسِ والظاهرُ عمومُه لكلِّ ما ذُكر ولمَا سيأتِي من أراجيفِ المرجفين(7/115)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
{يا أيها النبي} بعدما بيَّن سوءَ حالِ المُؤذين زَجْراً لهم عن الإيذاءِ امر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بأن يأمر بعض المتأذنين منهُم بما يدفعُ إيذاءَهم في الجُملةِ من السترِ والتميزِ عن مواقعِ الإيذاءِ فقيلَ {قُل لأزواجك وبناتك وَنِسَاء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} الجلباب ثوبٌ أوسعُ من الخمارِ ودُونَ الرداء تلوبه المراة على راسها وتقي منه ما لرسله على صدرِها وقيل هي الملْحفةُ وكل ما يُتسترُ به أي يغطينَّ بها وجوههنَّ وأبدانهنَّ إذَا برزن لداعيةٍ من الدَّواعِي ومِنْ للتبغيض لما مرَّ منْ أنَّ المعهودَ التَّلفعُ ببعضِها وإرخاءُ بعضِها وعن السُّدِّيِّ تُغطيِّ إحدَى عينيها وجبهتَها والشقَّ الآخرَ إلا العينَ {ذلك} أي ما ذكر من التَّغطِّي {أدنى} أقربُ {أَن يُعْرَفْنَ} ويُميزنَّ عن الإماءِ والقيناتِ اللاتِي هنَّ مواقعُ تعرُّضِهم وإيذائِهم {فَلاَ يُؤْذَيْنَ} من جهة اهل الريبة بالتعرضِ لهنَّ {وَكَانَ الله غَفُوراً} لما سلفَ منهنَّ منَ التَّفريطِ {رَّحِيماً} بعبادِه حيثُ يُراعي من مصالحهم أمثالَ هاتيكَ الجُزئياتِ(7/115)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
{لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون} عمَّا هُم عليهِ من النِّفاقِ وأحكامِه الموجبةِ للإيذاءِ {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} عمَّا هُم عليهِ من النزلزل وما يستتبعُه ممَّا لا خيرَ فيهِ {والمرجفون فِى المدينة} من الفريقينِ عمَّا هُم عليهِ من نشرِ أخبارِ السُّوءِ عن سَرَايا المُسلمينَ وغيرِ ذلكَ من الا راجيف الملَّفقةِ المُستتبعةِ للأذَّيةِ وأصلُ الإرجافِ التَّحريكُ من الرَّجفةِ التي هي الزَّلزلةُ وُصفت به الأخبارُ الكاذبةُ لكونِها متزلزلةً غيرَ ثابتةٍ {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} لنأمرنَّك بقتالِهم وإجلائِهم أو بما يضطرهم إلى الجلاءِ ولنحرضنَّك على ذلكَ {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ} عطفٌ على جوابِ القسمِ وثمَّ الدلالة على ان الجلاء ومفارقة جوار الرسول صلى الله عليه وسلم أعظمُ ما يُصيبهم {فِيهَا} أي في المدينةِ {إِلاَّ قَلِيلاً} زَمَاناً أو جواراً قليلاً ريثما يتبينُ حالُهم من الانتهاءِ وعدمِه(7/115)
مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)
{مَّلْعُونِينَ} نُصب على الشَّتمِ أو الحالِ على أنَّ الاستثناءَ واردٌ عليهِ أيضاً على رَأْي مَن يجوِّزه كما مر في قوله تعالى غير ناظرين إناه ولا سبيلَ إلى انتصابِه عن قولِه تعالى {أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً}(7/115)
الاحزاب 62 67 لأنَّ ما بعد كلمةِ الشرط لا يعمل فيها قبلَها(7/116)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
{سُنَّةَ الله فِى الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أي سنَّ الله ذلكَ في الأممِ الماضيةِ سُنَّةً وهي ان يقتل الذين نافقُوا الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وسعَوا في توهينِ أمرِهم بالإرجافِ ونحوهِ أَينما ثُقفوا {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تبديلا} اصلا لا بتنائها على أساسِ الحكمةِ التي عليَها يدورُ فلكُ التَّشريع(7/116)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
{يسألك الناس عَنِ الساعة} أي عن وقتِ قيامِها كانَ المشركون يسألونه صلى الله عليه وسلم عن ذلكَ استعجالاً بطريقِ الاستهزاءِ واليهودُ امتحاناً لما أنَّ الله تعالى عَمَّى وقتَها في التَّوراةِ وسائرِ الكتبِ {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} لا يُطلعُ عليهِ ملكاً مقرَّباً ولا نبَّياً مُرسلاً وقولُه تعالى {وَمَا يُدْرِيكَ} خطابٌ مستقلٌّ له صلى الله عليه وسلم غيرُ داخلٍ تحت الأمر مسوقٌ لبيانِ أنَّها معَ كونِها غيرَ معلومةٍ للخلقِ مرجوَّة المجيءِ عن قريبٍ أيْ أيُّ شيءٍ يُعلمك بوقتِ قيامِها أي لا يُعلمك به شيءٌ أَصْلاً {لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} أي شَيْئاً قَريباً أو تكونُ السَّاعةُ في وقتٍ قريبٍ وانتصابُه على الظَّرفيَّةِ ويجوزُ أنْ يكونَ التَّذكيرُ باعتبارِ أنَّ السَّاعةَ في مَعنْى اليَّوم أو الوقتِ وفيهِ تهديدٌ للمُستعجلينَ وتبكيتٌ للمتعنتينَ والإظهارُ في حيِّزِ الاضمار للتهويل وزيادةِ التَّقريرِ وتأكيدِ استقلالِ الجُملة كما أُشير إليهِ(7/116)
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64)
{إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين} على الإطلاقِ أي طردَهُم وأبعدَهُم من رحمتِه العاجلةِ والآجلةِ {وَأَعَدَّ لَهُمْ} مع ذلكَ {سَعِيراً} ناراً شديدةَ الاتقادِ يقاسُونها في الآخرةِ(7/116)
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)
{خالدين فِيهَا أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً} يحفظُهم {وَلاَ نصيرا} بخلصهم منها(7/116)
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)
{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النار} ظرفٌ لعدمِ الوجدانِ وقيل لخالدينَ وقيل لنصيراً وقيل مفعول لا ذكر أي يومَ تُصرَّفُ وجوهُهم فيها من جهةٍ إلى جهةٍ كلحمٍ يُشوى في النَّارِ أو يُطبخُ في القِدرِ فيدورُ به الغليانُ من جهةٍ إلى جهةٍ أو من حالٍ إلى حالٍ أو يُطرحُون فيها مقلوبينَ منكوسين وقُرىء تقلَّب بحذف إحدى التاءين من تنقلب ونُقلِّب بإسنادِ الفعلِ إلى نونِ العظمةِ ونصْبِ وجوهِهم وتقلب بإساده إلى السَّعيرِ وتخصيصُ الوجوهِ بالذكرِ لِما أنَّها أكرمُ الأعضاءِ ففيهِ مزيدُ تفظيعٍ للأمرِ وتهويلٌ للخطبِ ويجوزُ أنْ تكونَ عبارةً عن كلِّ الجسدِ فقولُه تعالى {يَقُولُونَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية حالِهم الفظيعةِ كأنَّه قيل فماذا يصنعُون عندَ ذلكَ فقيلَ يقولُون مُتحسِّرين على ما فاتهم {يا ليتنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا} فلا نُبتلى بهذا العذابِ أو حالٌ من ضميرِ وجوهُهم أو من نفسها أو هو العاملُ في يوم(7/116)
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)
{وقالوا}(7/116)
الاحزاب 68 71 عطفٌ على يقولُون والعدولُ إلى صيغةِ المَاضي للإشعارِ بأنَّ قولَهم هذا ليس مستمرَّاً كقولِهم السَّابقِ بل هو ضربُ اعتذارِ أرادُوا به ضرباً من التَّشفي بمضاعفةِ عذابِ الذين ألقَوهم في تلك الورطةِ وإنَّ علمُوا عدَم قبولِه في حقِّ خلاصِهم منها {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا} يعنُون قادتَهم الذين لقَّنوهم الكفرَ وقُرىء ساداتِنا للدِّلالةِ على الكثرة والتَّعبيرُ عنهم بعُنوانِ السِّيادة والكبر لتقوية الاعتذار وإلاَّ فهم في مقام التحقير والإهانة {فَأَضَلُّونَا السبيلا} بما زيَّنوا لنا من الاباطيل والألفُ للإطلاق كما في واطعنا الرسولا(7/117)
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
{ربنا آتهم ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب} أي مِثْلَي العذاب الذي آتيتناهُ لأنَّهم ضلُّوا وأضلُّوا {والعنهم لَعْناً كَبِيراً} أي شديداً عظيماً وقُرىء كثيراً وتصديرُ الدُّعاءِ بالنِّداءِ مكرَّراً للمبالغةِ في الجؤارِ واستدعاءِ الإجابةِ(7/117)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لا تكونوا كالذين آذوا موسى} قيل نزلتْ في شأنِ زيدٍ وزينبَ وما سُمع فيه من قالة النَّاسِ {فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قالوا} أي فأظهر براته صلى الله عليه وسلم ممَّا قالُوا في حقِّه أي من مضمونِه ومؤدَاه الذي هُو الأمرُ المعيبُ وذلكَ أنَّ قارونَ أغرَى مومسةً على قذفِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بنفسِها بأنْ دفعَ إليها مالاً عظيماً فأظهرَ الله تعالى نزاهتَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عن ذلكَ بأنْ أقرتِ المومسةُ بالمُصانعةِ الجاريةِ بينها وبينَ قارونَ وفُعلَ بقارونَ ما فُعلَ كما فُصِّل في سُورةِ القصصِ وقيل أتَّهمه ناس بقتل هرون عند خروجِه معه إلى الطُّورِ فماتَ هُناك فحملتْهُ الملائكةُ ومرُّوا به حتَّى رأَوه غيرَ مقتولٍ وقيل أحياهُ الله تعالى فأخبرَهم ببراءتِه وقيل قذفُوه بعيبٍ في بدنِه من برصٍ أو أُدْرةٍ لفرطِ تسترِه حياءِّ فأطلعهم الله تعالى على براءتِه بأنْ فرَّ الحجرُ بثوبِه حينَ وضعَه عليه عند اغتسالِه والقصَّةُ مشهورةٌ {وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً} ذَا قُربةٍ ووجاهةٍ وقُرىء وكانَ عبدُ اللَّهِ وجيها(7/117)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اتقوا الله} أي في كل ما تأتون وما تذرُون لا سيَّما في ارتكابِ ما يكرُهه فضلاً عما يؤذي رسوله صلى الله عليه وسلم {وَقُولُواْ} في كلِّ شأنٍ من الشئون {قَوْلاً سَدِيداً} قاصِداً إلى الحقِّ من سَدَّ يَسِدُّ سَداداً يقال سَدَّدَ السَّهمَ نحوَ الرَّميةِ إذا لم يعدلْ به عن سمتِها والمرادُ نهيُهم عمَّا خاضُوا فيه من حديثِ زينبَ الجائرِ عن العدلِ والقصدِ(7/117)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
{يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم} يُوفقكم للأعمالِ الصَّالحةِ أو يُصلحها بالقَبُولِ والإثابةِ عليها {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ويجعلُها مكفرةً باستقامتِكم في القولِ والعملِ {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} في الاوامر والنهي التي من جُمْلتِها هذهِ التكليفاتُ {فَقَدْ فَازَ} في الدَّارينِ {فَوْزاً عَظِيماً} لا يُقادرُ قدره ولا يبلغ غايته(7/117)
الاحزاب 72 73(7/118)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
{إِنَّا عَرَضْنَا الامانة عَلَى السماوات والارض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} لمَّا بيَّن عِظَم شأنِ طاعةِ الله ورسولِه ببيانِ مآلِ الخارجين عنْها من العذابِ الأليمِ ومنال المُراعين لها من الفوزِ العظيمِ عقَّب ذلكَ ببيانِ عظمِ شأنِ ما يُوجبها من التَّكاليفِ الشَّرعيةِ وصعوبة أمرِها بطريقِ التَّمثيلِ مع الإيذانِ بأنَّ ما صدرَ عنهُم من الطَّاعةِ وتركِها صدرَ عنُهم بعد القَبُولِ والالتزامِ وعبر عنها بالأمانةِ تنبيهاً على أنَّها حقوقٌ مرعيةٌ أودعَها الله تعالى المكلَّفين وائتمنَهم عليها وأوجبَ عليهم تلقِّيَها بحسنِ الطَّاعةِ والانقيادِ وأمرَهُم بمراعاتِها والمحافظةِ عليها وأدائِها من غير إخلالٍ بشيء من حقوقِها وعبرَّ عن اعتبارِها بالنسبةِ إلى استعدادِ ما ذُكر من السَّمواتِ وغيرها بالعرض عليها لإظهارِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِها والرَّغبةِ في قبولهنَّ لها وعن عدمِ استعدادهنَّ لقبولِها بالإباءِ والإشفاقِ منها لتهويلِ أمرِها وتربيةِ فخامتِها وعن قبولِها بالحملِ لتحقيقِ معنى الصُّعوبة المُعتبرةِ فيها بجعلِها من قبيلٍ الأجسامِ الثَّقيلةِ التي يستعمل فيها القُوى الجسمانَّيةٌ التي أشدُّها وأعظمُها ما فيهنَّ من القُوَّةِ والشدَّةِ والمَعنى أنَّ تلك الأمانةَ في عظمِ الشَّأنِ بحيثُ لو كُلِّفت هاتيكَ الأجرامُ العظامُ التي هي مَثَلٌ في القُوَّةِ والشِّدَّةِ مراعاتَها وكانتْ ذاتَ شُعورٍ وادراك لا بين قبولَها وأشفقنَ منها ولكنْ صرفُ الكلامِ عن سَنَنِه بتصويرِ المفروضِ بصورةِ المحققِ رَوْماً لزيادةِ تحقيقِ المعنى المقصودِ بالتَّمثيلِ وتوضيحِه {وَحَمَلَهَا الإنسان} أي عند عرضِها عليه إمَّا باعتبارِها بالإضافةِ إلى استعدادِه أو بتكليفةِ إيَّاها يومَ الميثاقِ أي تكلّفها والتزمَها مع ما فيهِ من ضعفِ البنيةِ ورخاوةِ القُوَّةِ وهُو إمَّا عبارةٌ عن قبولِه لها بموجبِ استعدادِه الفطريِّ أو عن اعترافِه بقولِه بَلَى وقولُه تعالَى {إِنَّهُ كان ظَلُوماً جَهُولاً} اعتراضٌ وسط بين الحملِ وغايتِه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بعدمِ وفائِه بما عهدَهُ وتحملّه أي إنَّه كانَ مفرِطاً في الظُّلمِ مبالِغاً في الجهلِ أي بحسبِ غالبِ أفرادِه الذينَ لم يعملُوا بموجبِ فطرتِهم السَّليمةِ أو اعترافهم السَّابقِ دُونَ مَنْ عداهُم منْ الذينَ لم يبدلُوا فطرةَ الله تبديلاً وإلى الفريقِ الأولِ أُشير بقوله تعالى(7/118)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
{لّيُعَذّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} أي حملَها الإنسانُ ليعذبَ الله بعضَ أفرادِه الذينَ لم يُراعوها ولم يقابلُوها بالطَّاعةِ على أنَّ اللاَم للعاقبةِ فإنَّ التَّعذيبَ وإنْ لم يكُن غرضَاً له من الحملِ لكن لما ترتَّبَ عليهِ بالنسبةِ إلى بعضِ أفرادِه ترتُّبَ الأغراضِ على الأفعالِ المُعلَّلةِ بها أبرز في معرضِ الغرضِ أي كان عاقبةُ حملِ الإنسانِ لها أنْ يعذبَ الله تعالى هؤلاءِ من أفرادِه لخيانتِهم الأمانةَ وخروجِهم عن الطَّاعةِ بالكُلِّية وإلى الفريقِ الثَّاني أُشير بقولِه تعالى {وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات} أي كان عاقبةُ حملِه أنْ يتوبَ الله تعالى على هؤلاءِ من أفراده أي يقبلُ توبتَهم لعدمِ خلعِهم رِبقةَ الطَّاعةِ عن رقابِهم بالمرَّةِ وتلافيهم لما(7/118)
فَرَطَ منهم من فَرَطاتٍ قلَّما يخلُو عنها الإنسانُ بحكمِ جبلّتهِ وتداركهم لها بالتَّوبةِ والإنابةِ والالتفاتُ إلى الاسمِ الجليلِ أوَّلاً لتهويلِ الخطبِ وتربيةِ المهابةِ والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ ثانياً لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِ المُؤمنينَ توفيةً لكُلَ مِنْ مَقَامَي الوعيدِ والوعدِ حقَّه والله تعالى أعلمُ وجعلُ الامانة التي شأنِها أنْ تكونَ من جهتِه تعالى عبارةً عن الطَّاعةِ التي هي من أفعالِ المكلَّفين التابعةِ للتَّكليفِ بمعزلٍ من التَّقريبِ وحملُ الكلامِ على تقريرِ الوعدِ الكريمِ الذي يُنبىء عنْهُ قولُه تعالى وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً يجعلُ تعظيمَ شأنِ الطَّاعةِ ذريعةً إلى ذلكَ بأنَّ مَن قامَ بحقوقِ مثلِ هذا الأمرِ العظيمِ الشَّأنِ وراعَاها فهو جديرٌ بأنْ يفوزَ بخيرِ الدَّارينِ يأباه وصفه بالظَّلمِ والجهلِ أولاً وتعليلُ الحملِ بتعذيبِ فريقٍ والتَّوبةِ على فريقٍ ثانياً وقيل المرادُ بالأمانةِ مطلقُ الانقيادِ الشَّاملِ للطبيعي والاختياريِّ وبعرضِها استدعاؤُها الذي يعمُّ طلبَ الفعلِ من المختارِ وإرادةَ صدورِه من غيرِه وبحملِها الخيانةُ فيها والامتناعُ عن ادائِها فيكونُ الإباءُ امتناعاً عن الخيانةِ وإتياناً بالمرادِ فالمَعنى أنَّ هذهِ الأجرامَ مع عِظَمِها وقُوَّتِها أبينَ الخيانةَ لأمانتِها واتين بما امرهن به كقولِه تعالى أتينا طائعين وخانَها الإنسانُ حيثُ لم يأتِ بما أمرنَاهُ به إنَّه كان ظلُوماً جهُولاً وقيل إنَّه تعالى لمَّا خلقَ هذه الأجرامَ خلقَ فيها فهماً وقال لها إني فرضتُ فريضةً وخلقتُ جنَّةً لمن أطاعنِي فيها وناراً لمنْ عَصَاني فقلنَ نحنُ مسخرَّاتٌ لِما خلقتنا لا نحتملُ فريضةً ولا نبغي ثواباً ولا عقاباً ولمَّا خلقُ آدمُ عليهِ السَّلامُ عُرض عليه مثلُ ذلك فحملَه وكانَ ظلُوماً لنفسِه بتحمُّلهِ ما يشقُّ عليها جَهُولاً بوخامةِ عافيته وقيلَ المرادُ بالأمانةِ العقلُ أو التَّكليفُ وبعرضِها عليهنَّ اعتبارُها بالإضافةِ إلى استعدادهنَّ وبإبائهنَّ الإباءُ الطبيعيُّ الذي هو عدمُ اللياقةِ والاستعدادِ لها وبحمل الإنسانِ قابليَّتُه واستعدادُه لها وكونِه ظلوماً جَهولاً لما غلبَ عليه من القُوَّةِ الغضبيا والشهويَّةِ هذا قريبٌ من التَّحقيقِ فتأمَّل والله الموفقُ وقُرىء ويتوبُ الله على الاستئنافِ {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} مُبالغاً في المغفرةِ والرحمةِ حيثُ تابَ عليهم وغفرَ لهمُ فرَطاتِهم وأثابَ بالفوزِ على طاعاتِهم قالَ صلى الله عليه وسلم مَن قرأَ سورةَ الأحزابِ وعلَّمها أهلَه وما ملكتْ يمينُه أُعطَي الأمانَ من عذابِ القبرِ والله أعلمُ(7/119)
سورة سبإ 1 2
سورة سبأ مكية وقيل إلا ويرى الذينَ أُوتُوا الْعِلْم الآية وهى أربع وخمسون آية
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}(7/120)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
{الحمد للَّهِ الذى لَهُ ما في السماوات وَمَا فِي الأرض} أي له تعالى خلقا وملكا وتصرُّفاً بالإيجادِ والإعدامِ والإحياءِ والامانة جميعُ ما وُجد فيهما داخلاً في حقيقتِهما أو خارجاً عنهما مُتمكِّناً فيهما فكأنَّه قيل له جميعُ المخلوقاتِ كما مرَّ في آيةِ الكُرسيِّ ووصفُه تعالى بذلك لتقرير ما أفاده تعليقُ الحمدِ المعرَّفِ بلام الحقيقة بالاسم الجليلِ من اختصاصِ جميعِ أفراده به تعالى على ما بُيِّنَ في فاتحة الكتاب ببيان تفرُّدِه تعالى واستقلاله بما يُوجب ذلك وكونِ كلِّ ما سواه من الموجودات التي من جملتها الإنسان تحت ملكوتِه تعالى ليس لها في حدِّ ذاتها استحقاق الوجود فضلاً عمَّا عداه من صفاتها بل كلُّ ذلك نعمٌ فائضة عليها من جهته عزَّ وجلَّ فما هذا شأنُه فهوَ بمعزلٍ منَ استحقاقِ الحمد الذي مداره الجميل الصَّادرُ عن القادر بالاختيار فظهر اختصاصِ جميعِ أفراده به تعالى وقولُه تعالى {وَلَهُ الحمد فِى الاخرة} بيانٌ لاختصاص الحمد الأخرون به تعالى إثرَ بيانِ اختصاص الدُّنيويِّ به على أنَّ الجارَّ متعلقٌ إمَّا بنفس الحمد أو بَما تعلَّق به الخبرُ من الاستقرارِ وإطلاقُه عن ذكرِ ما يُشعر بالمحمودِ عليه ليس للاكتفاءِ بذكر كونه في الآخرةِ عن التعيين كما اكتفي فيما سبق بذكر كون المحمود عليه في الدُّنيا عن ذكر كونِ الحمد أيضاً فيها بل ليعمَّ النِّعمَ الأُخرويَّةَ كما في قوله تعالى الحمد لله الذى صدقنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة وقوله تعالى الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ الآيةَ وما يكون ذريعةً إلى نيلِها من النِّعمِ الدُّنيويَّةِ كما في قوله تعالى الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا أي لِما جزاؤُه هذا من الإيمان والعملِ الصالحِ والفرق بين الحمدينِ مع كون نعمتَيْ الدُّنيا والآخرةِ بطريق التَّفضلِ أنَّ الأوَّلَ على نهج العبادة والثَّانِي على وجه التَّلذذِ والاغتباطِ وقد ورد في الخبرِ أنَّهم يُلهمون التَّسبيحَ كما يُلهمون النَّفسَ {وَهُوَ الحكيم} الذي أحكم أمور الدين والدنيا ودبَّرها حسبما تقتضيه الحكمةُ {الخبير} ببواطن الأشياءِ ومكنوناتِها وقوله تعالى(7/120)
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
{يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الارض}(7/120)
الخ تفصيلٌ لبعض ما يحيط به علمُه من الأمور التي نِيطتْ بها مصالحهم الدُّنيويةُ والدِّينيةُ أي يعلم ما يدخل فيها من الغيثِ والكُنوزِ والدَّفائنِ والأموات ونحوها {وَمَا يَخْرُجُ منها} كالحيوان والنبات وما العيون ونحوها {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء} كالملائكةِ والكتبِ والمقادير ونحوها وقرئ وما نزل بالتَّشديدِ ونونِ العظمةِ {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} كالملائكةِ وأعمالِ العبادِ والأبخرةِ والأَدْخنةِ {وَهُوَ الرحيم} للحامدينَ على ما ذُكر من نِعَمِه {الغفور} للمفرطين في ذلك وكرمِه(7/121)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة} أرادوا بضمير المُتكلِّمِ جنسَ البشر قاطبةً لا أنفسَهم أو معاصريهم فقط كما أرادُوا بنفيِ إتيانها نفيَ وجودِها بالكُلِّيةِ لاعدم حضورِها مع تحقُّقها في نفس الأمر وإنما عبَّروا عنه بذلك لأنَّهم كانوا يُوعدون بإتيانها ولأنَّ وجود الأمور الزَّمانيةِ المُستقبلةِ لا سيَّما أجزاءُ الزَّمانِ لا يكون إلا بالإتيانِ والحضورِ وقيل هو استبطاءٌ لإتيانها الموعودِ بطريق الهُزءِ والسُّخريةِ كقولهم متى هذا الوعدُ {قُلْ بلى} ردٌّ لكلامِهم وإثباتٌ لِما نفَوه على معنى ليسَ الأمرُ إلاَّ إتيانَها وقولُه تعالى {وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} تأكيدٌ له على أتم الوجوه وأكملها وقرئ ليأتينَّكم على تأويل السَّاعةِ باليَّومِ أو الوقتِ وقوله تعالى {عالم الغيب} الخ إمداد للتَّأكيدِ وتسديدٌ له إثرَ تسديدٍ وكسر لسَورةِ نكيرِهم واستبعادهم فإنَّ تعقيب القسم بحلائل نُعوت المُقسَمِ بهِ على الإطلاق يُؤذنُ بفخامة شأنِ المُقْسَمِ عليه وقوَّةِ ثباته وصحته لما أن لك في حكمِ الاستشهادِ على الأمرِ ولا ريب في أن المستشهدَ به كلَّما كان أجل وأعلا كانت الشهادة أكدو أقوى والمستشهدُ عليه أحقَّ بالثُّبوتِ وأولى لا سيَّما إذا خص بالذكر من البعوت ماله تعلُّقٌ خاصٌّ بالمُقسَمِ عليه كما نحنُ فيهِ فإنَّ وصفَه بعلم الغيب الذي أشهرُ أفرادِه وأدخلُها في الخفاء هو المقسمُ عليهِ تنبيه لهم على علَّةِ الحكم وكونه ممَّا لا يحومُ حوله شائبةُ ريبٍ ما وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أنْ لا يقى المعاندين عذرٌ ما أصلاً فإنَّهم كانوا يعرفون أمانتَه ونزاهتَه عن وصمةِ الكذب فضلاً عن اليمين الفاجرةِ وإنَّما لم يصدقوه مكابرة وقرئ علاَّمُ الغيبِ وعالمُ الغيبِ وعالمُ الغُيوبِ بالرَّفعِ على المدحِ {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} أي لا يعد وقرئ بكسرِ الزَّايِ {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} مقدارُ أصغرِ نملةٍ {فِي السماوات وَلاَ فِى الارض} أي كائة فيهما {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك} أي من مثقالِ ذرَّةٍ {وَلا أَكْبَرَ} أي منه ورفعُهما على الابتداءِ والخبرُ قولُه تعالى {إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ} هو اللَّوحُ المحفوظُ والجملةُ مؤكِّدةٌ لنفى العزوب وقرئ ولا أصغرَ ولا أكبرَ بفتحِ الرَّاءِ على نفيِ الجنسِ ولا يجوزُ أن يُعطفَ المرفوعُ على مثقالُ ولا المفتوحُ على ذَرَّةٍ بانه فتح في حيز الجر لا متاع الصَّرفِ لما أنَّ الاستثناءَ يمنعه إلا أنْ يُجعل الضميرُ في عنه للغيب ويُجعلَ المثبتُ في اللَّوحِ خارجاً عنه لبروزه للمطالعينَ له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب شئ إلا مسطوراً في اللَّوحِ(7/121)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{ليجزي الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات} علَّةٌ لقوله تعالى لتأنينكم وبيان لما(7/121)
سبإ 5 7 يقتصى إتيانها {أولئك} إشارةٌ إلى الموصولِ من حيثُ اتصافُه بما في حيز الصلةِ وما فيهِ منْ مَعْنى البُعدِ للإيذانِ ببعدِ منزلتهم في الفضل والشرف أي أولئك الموصوفون بالصِّفاتِ الجليلةِ {لَهُمْ} بسبب ذلك {مَغْفِرَةٌ} لما فَرَط منهم من بعض فَرَطاتٍ قلَّما يخلُو عنها البشرُ {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا تعبَ فيه ولا منَّ عليه(7/122)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
{والذين سعوا في آياتنا} بالقدحِ فيها وصدِّ النَّاسِ عن التَّصديقِ بها {معاجزين} أي مسابقين كي يفوتونَا وقرئ مُعجزين أي مُثبِّطينَ عن الإيمانِ مَن أراده {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ} الكلامُ فيه كالذي مرَّ آنِفاً ومِنْ في قولِه تعالَى {من رّجْزٍ} للبيانِ قال قَتَادةُ رضى الله عنه الرِّجزُ سوءُ العذابِ وقولُه تعالى {أَلِيمٌ} بالرَّفعِ صفةُ عذابٌ أي أولئك السَّاعُون لهم عذابٌ من جنس سوء العذاب شديدُ الإيلامِ وقرئ أليمٍ بالجرِّ صفة لرجزٍ(7/122)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
{ويرى الذين أوتوا العلم} أي يعلم أولُو العلمِ من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومن يشايعهم من عُلماءِ الأمَّةِ أو مَنْ آمنَ مِنْ علماء أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّه بنِ سَلاَم وكعبٍ وأضرابِهما رضى الله عنهم {الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} أي القرآنَ {هُوَ الحق} بالنصب على أنه مفعولٌ ثانٍ ليَرى والمفعولُ الأولُ هو الموصولُ الثَّانِي وهو ضمير الفصل وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر والجملةُ هو المفعولُ الثَّاني ليَرى وقولُه تعالى وَيَرَى الخ مستأنفٌ مسوقٌ للاستشهادِ بأولي العلم على الجَهَلةِ السَّاعينَ في الآياتِ وقيل منصوبٌ عطفاً على يجزيَ أي وليعلمَ أولو العلم عند مجئ السَّاعةِ مُعاينةً أنَّه الحقُّ حسبما علمُوه الآنَ بُرهاناً ويحتجُّوا به على المكذِّبين وقد جُوِّز أن يراد بأولي العلم مَن لم يؤمنْ من الأحبار أي ليعلمُوا يومئذٍ أنَّه هو الحقُّ فيزدادوا حسرةً وغمًّا {وَيَهْدِى} عطف على الحقَّ عطف الفعل على الاسم لأنَّه في تأويله كما في قوله تعالى صافات ويقبض أي وقابضاتٍ كأنَّه قيل ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك الحقَّ وهادياً {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} الذي هو التوحيدُ والتدرُّع بلباس التَّقوى وقيل مستأنف وقيل حالٌ من الذي أُنزل على إضمارِ مبتدأ أي وهو يهدي كما في قوله من قال نجوت وأرهنهم مالكاً(7/122)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} هم كفَّارُ قُريشٍ قالوا مخاطباً بعضهم {هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ} يعنون به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم وإنَّما قصدُوا بالتَّنكيرِ الطَّنزَ والسُّخريةَ قاتلهم الله تعالى {يُنَبّئُكُمْ} أي يُحدِّثكم بعجبٍ عجاب وقرئ ينبئكم من الإنباءِ {إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي إذا متُم ومُزِّقتْ أجسادُكم كلَّ تمزيقٍ وفُرِّقت كلَّ تفريقٍ بحيث صرتُم تُراباً ورُفاتاً {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي مستقرُّون فيه عدل إليه عن الجملة الفعليةِ الدَّالَّةِ على الحدوث مثل تبعثون أو(7/122)
سبإ 8 9 تخلقون خلقاً جديداً للإشباعِ في الاستبعاد والتعجب وكذلك تقديم الظَّرفِ والعامل فيه ما دلَّ عليه المذكورُ لا نفسه لما أنَّ ما بعد إنَّ لا يعملُ فيما قبلَها ويد فعيلٌ بمعنى فاعلٍ من جَدَّ فهو جديدٌ وقلَّ فهو قليلٌ وقيل بمعنى مفعولٍ من جدَّ النَّسَّاجُ الثوبَ إذا قطعه ثمَّ شاع(7/123)
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
{أفترى عَلَى الله كَذِباً} فيما قاله {أَم بِهِ جِنَّةٌ} أي جنونٌ يوهمه ذلك ويُلقيه على لسانِه والاستدلالُ بهذا التَّرديدِ على أنَّ بين الصِّدقِ والكذب واسطةً هو ما لا يكون من الإخبار عن بصيرةٍ بين الفساد لظهور كون الافتراء أخصَّ من الكذبِ {بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة فِى العذاب والضلال البعيد} جوابٌ من جهة الله تعالى عن ترديدِهم الوارد على طريقةِ الاستفهامِ بالإضرابِ عن شقَّيهِ وإبطالها وإثباتِ قسمٍ ثالثٍ كاشفٍ عن حقيقةِ الحال ناعٍ عليهم سوءَ حالهم وابتلاءهم بما قالُوا في حقِّه صلى الله عليه وسلم كأنه قيل ليس الأمرُ كما زعمُوا بل هم في كمال اختلال العقل وغاية الضَّلالِ عن الفهم والإدراك الذي هو الجنون حقيقةً وفيما يؤدِّي إليه ذلك من العذابِ ولذلك يقولونَ ما يقولونَ وتقديمُ العذاب على ما يُوجبه ويستتبعه للمسارعةِ إلى بيانِ ما يسوؤُهم ويفتُّ في أعضادِهم والإشعارِ بغاية سُرعة ترتُّبِه عليه كأنَّه يُسابقه فيسبقه ووصفُ الضَّلالِ بالبُعد الذي هو وصف الضَّالِ للمبالغة ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرهم للتنبيهِ بما في حيزِ الصلة على أن علة ما ارتكبوه واجترءوا عليه من الشَّناعةِ الفظيعةِ كفرُهم بالآخرة وَمَا فِيْهَا منْ فنونِ العقاب ولولاه لما فعلُوا ذلك خوفاً من غائلتِه وقوله تعالى(7/123)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
{أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والارض} استئنافٌ مسوق لتهويل ما اجترُءوا عليه من تكذيبِ آياتِ الله تعالى واستعظامِ ما قالُوا في حقه صلى الله عليه وسلم وأنَّه من العظائمِ الموجبة لنزول أشدِّ العقاب وحلول أفظع العذاب من غير ريثٍ وتأخير والفاءُ للعطفِ على مقدر يقتضيه المقام وقوله تعالى {إِن نَّشَأْ} الخ بيان لما ينبئ عنه ذكرُ إحاطتِهما بهم من المحذورِ المتوقَّعِ من جهتهما وفيه تنبيهٌ على أنَّه لم يبقَ من أسباب وقوعِه إلا تعلُّقُ المشيئة به أي افعلُوا ما فعلُوا من المنكر الهائلِ المستتبع للعُقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاطَ بهم من جميع جوانبِهم بحيثُ لا مفرَّ لهم عنه ولا محيصَ إنْ نَشَأْ جرياً على موجب جناياتِهم {نَخْسِفْ بِهِمُ الارض} كما خسفناها بقارونَ {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً} أي قِطعاً {مّنَ السماء} كما أسقطناها على أصحابِ الأَيْكةِ لاستيجابهم ذلك بما ارتكبُوه من الجرائم وقيل هو تذكيرٌ بما يُعاينونَهُ ممَّا يدلُّ على كمال قُدرتِه وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتِهم البعث حتى جعلوه افتراء وهزءا وتهديد عليها والمعنى أعمُوا فلمْ ينظرُوا إِلَى ما أحاطَ بجوانبهم من السَّماءِ والأرضِ ولم يتفكَّروا أهمْ أشدُّ خلقاً أم هي وإنْ نَشَأْ نخسف بهم الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً لتكذيبِهم بالآياتِ بعد ظهورِ البينات فتأمل وكن الحق المبين وقرئ يخسف(7/123)
سبإ 10 11 ويَسقط بالياء لقوله تعالى افترى عَلَى الله وكِسْفاً بسكون السِّينِ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذكر من السَّماء والأرضِ من حيث إحاطتُهما بالنَّاظرِ من جميع الجوانب أو فيما تُلي منَ الوحيِ النَّاطقِ بما ذُكر {لآيَةً} واضحةً {لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} شأنُه الإنابةُ إلى ربِّه فإنه إذا تأمَّلَ فيهما أو في الوحيِ المذكورِ ينزجرُ عن تعاطى القبائح وبنيب إليه تعالى وفيه حثٌّ بليغٌ على التَّوبةِ والإنابة وقد أكدَّ ذلك بقولِه تعالى(7/124)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
{ولقد آتينا داود مِنَّا فَضْلاً} أي آتيناه لحسن إنابتِه وصحَّةِ توبته فضلاً على سائرِ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسَّلامُ أي نوعاً من الفضل وهو ما ذُكر بعد فإنَّه معجزة خاصة به صلى الله عليه وسلم أو على سائر النَّاسِ فيندرج فيه النُّبوةُ والكتاب والمُلك والصَّوتُ الحسن فتنكيره للتَّفخيمِ ومنَّا لتأكيدِ فخامتِه الذَّاتيةِ بفخامته الإضافيَّةِ كما في قوله تعالى وَآتَيْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا وتقديمُه على المفعولِ الصَّريحِ للاهتمام بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا اخر تقى النَّفسُ مترقبةً له فإذا وردها يتمكَّن عندها فضلُ تمكّنٍ {يا جبال أَوّبِى مَعَهُ} من التَّأويبِ أي رجِّعي معه التَّسبيحَ أو النَّوحةَ على الذَّنبِ وذلك إمَّا بأنْ يخلقَ الله تعالى فيها صوتاً مثلَ صوتِه كما خلق الكلام في الشَّجرةِ أو بأنْ يتمثَّلَ له ذلك وقُرىء أُوبي من الأَوْبِ أي ارْجِعي معه في التَّسبيحِ كلما رجعَ فيه وكان كلَّما سبَّح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُسمع من الجبال ما يُسمع من المسبِّحِ معجزةً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل كان ينوحُ على ذنبه بترجيعٍ وتحزينٍ وكانتِ الجبالُ تُسْعِدُه على نَوحِه بأصدائها والطَّيرُ بأصواتِها وهو بدل من آتينا بإضمار قلنا أو من فضلاً بإضمار قولنا والطير بالنَّصبِ عطفاً على فضلاً بمعنى وسخَّرنا له الطَّيرَ لأنَّ إيتاءَها إيَّاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تسخيرها له فلا حاجة إلى إضمارِه كما نُقل عن الكِسائيِّ ولا إلى تقدير مضافٍ أي تسبيح الطَّيرِ كما نُقل عنه في رواية وقيل عطفاً على محلِّ الجبالِ وفيه من التكلف لفظا ومعنى مالا يخفى وقُرىء بالرَّفعِ عطفا على لفظها تشبيهاً للحركة البنائيَّةِ العارضة بالحركةِ الإعرابيَّةِ وقد جُوِّزَ انتصابُه على أنَّه مفعولٌ معه والأول هو الوجهُ وفي تنزيل الجبال والطَّيرِ منزلةَ العُقلاءِ المُطيعين لأمره تعالى المُذعنينَ لحكمه المشعر بأنَّه ما من حيوانٍ وجمادٍ وصامتٍ وناطقٍ إلا وهو منقادٌ لمشيئته غير ممتنعٍ على إرادته من الفخامة المُعربةِ عن غاية عظمةِ شأنِه تعالى وكمال كبرياءِ سلطانِه مالا يخفى على أولي الألباب {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} أي جعلناه ليِّناً في نفسه كالشَّمعِ يُصرِّفه في يده كيف يشاءُ من غير إحماءٍ بنارٍ ولا ضربٍ بمطرقةٍ أو جعلناه بالنِّسبةِ إلى قوَّتِه التي آتيناها إيَّاهُ ليِّناً كالشَّمعِ بالنسبة إلى سائرِ القُوى البشريَّةِ(7/124)
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
(أَنِ اعمل) أمرناه أنِ اعمل على أنَّ أنْ مصدريةٌ حُذف عنها الباءُ وفي حملها على المفسِّرةِ تكلُّفٌ لا يخفى سابغات واسعاتٍ وقُرىء صابغاتٍ وهي الدُّروعُ الواسعة الضَّافيةُ وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلُ من اتَّخذها وكانت قبلُ صفائحَ قالوا كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين ملكَ على بني إسرائيلَ يخرجُ متنكر فيسألُ النَّاسَ ما تقولون في داودَ فيُثنون عليه فقيَّضَ الله تعالى له ملكا في(7/124)
سبإ 12 13 صورةِ آدميَ فسأله على عادتِه فقال نِعْمَ الرَّجلُ لولا خَصلةٌ فيه فريع داودُ فسألَه عنها فقالَ لولا أنَّه يُطعم عيالَه من بيتِ المالِ فعند ذلك سألَ ربَّه أنْ يُسبِّب له ما يستغني به عن بيتِ المال فعلَّمه تعالى صنعةَ الدُّروعِ وقيل كان يبيع الدروع بأربعةِ آلافٍ فينفقُ منها على نفسِه وعيالِه ويتصدَّقُ على الفقراء {وَقَدّرْ فِى السرد} السَّردُ نسجُ الدُّروعِ أي اقتصد في نسجِها بحيث تتناسب حِلَقُها وقيل قدِّرْ في مساميرِها فلا تعملها رقاقا ولا غِلاظاً ورُدَّ بأنَّ دروعَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم تكُن مسمَّرة كما ينبئ عنه إلانةُ الحديدِ وقيل معنى قَدِّرْ في السَّردِ لا تصرفْ جميعَ أوقاتِك إليه بل مقدارَ ما يحصلُ به القوتُ وأمَّا الباقي فاصرِفْه إلى العبادة وهو الأنسبُ بقولِه تعالى {واعملوا صالحا} عمَّم الخطابَ حسب عموم التَّكليفِ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولأهلِه {إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تعليل للأمر أو لوجوب الامتثالِ به(7/125)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
{ولسليمان الريح} أي وسخرنا له الريح وقرئ برفع الرِّيحِ أي ولسليمان الريح مسخرة وقرئ الرِّياحَ {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي جريها بالغَداةِ مسيرةُ شهرٍ وجريها بالعَشيِّ كذلك والجملةُ إمَّا مستأنفةٌ أو حالٌ من الرِّيحِ وقرئ غُدوتُها ورَوحتُها وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله كان يغدُو أي من دمشقَ فيقيلُ باصطَّخَر ثمَّ بروح فيكون رَوَاحه بكابُلَ وقيل كان يتغدى بالرَّيِّ ويتعشَّى بسمرقندَ ويُحكى أنَّ بعضَهم رأى مكتوباً في منزلٍ بناحيةِ دِجْلَة كتبه بعضُ أصحابِ سليمانَ عليه السَّلامُ نحنُ نزلنَاهُ وما بنيناهُ ومبنيًّا وجدناهُ غدونَا من اصطَّخَر فقلناهُ ونحن رائحون منه فبايتونَ بالشَّامِ إنْ شاءَ الله تعالى {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} أي النُّحاسَ المُذابَ أسالَه من معدنِه كما آلانَ الحديدَ لدَّاودَ عليهما السَّلامُ فنبع منه نبوعَ الماء من الينبوعِ ولذلك سُمِّي عيناً وكان ذلك باليمنِ وقيل كان يسيلُ في الشَّهرِ ثلاثةَ أيَّامٍ وقوله تعالى {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} إمَّا جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ أو مَن يعملُ عطفٌ على الرِّيحَ ومن الجنِّ حالٌ متقدِّمةٌ {بِإِذْنِ رَبّهِ} بأمرِه تعالى كما ينبئ عنه قولُهُ تعالَى {وَمِنَ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي ومَن يعدلْ منهم عمَّا أمرناهُ به من طاعة سليمان وقرئ يزغ على البناء المفعول من أزاغَه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} أي عذابِ النَّارِ في الآخرةِ رُوي عن السدى رحمه الله كان معه مَلكٌ بيده سَوطٌ من نارٍ كلُّ منِ استعصى عليه ضربَه من حيثُ لا يراه الجنيُّ(7/125)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء} تفصيلٌ لما ذُكر من عملِهم وقوله تعالى {مِن محاريب} الخ بيانٌ لمَا يشاءُ أي من قصورٍ حصينةٍ ومساكنَ شريفةٍ سُمِّيتْ بذلك لأنَّها يُذبُّ عنها ويُحاربُ عليها وقيل هي المساجدُ {وتماثيل} وصور الملائكةِ والأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على ما اعتادُوه فإنَّها كانتْ تعمل حينئذٍ في المساجدِ ليراها النَّاسُ ويعبدوا مثلَ عباداتِهم وحرمةُ التَّصاويرِ شرعٌ جديدٌ ورُوي أنَّهم عملوا أسدينِ في أسفل كرسِّيهِ ونِسرين فوقه فإذا أراد أن يصعدَ بسط الأسدان ذراعيهما(7/125)
سبإ 14 وإذا قعد أظله النَّسرانِ بأجنحتِهما {وَجِفَانٍ} جمع جفنة وهي الصفحة {كالجواب} كالحياضِ الكبارِ جمع جابيةٍ من الجباية لاجتماعِ الماء فيها وهي من الصفات الغالبة كالدابة وقرئ بإثبات الياءِ قيل كان يقعدُ على الجفنةِ ألفُ رجل {وقدور راسيات} ثابتاتٍ على الأَثَافي لا تنزل عنها لعظمِها {اعملوا آل داود شكرا} حكايةً لما قيلَ لهم وشُكراً نصبٌ على أنَّه مفعولٌ له أو مصدرٌ لاعملُوا لأنَّ العمل للمنعمِ شكرٌ له أو لفعله المحذوفِ أي اشكرُوا شكراً أو حالٌ أي شاكرين أو مفعولٌ به أي اعملُوا شُكراً {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} أي المتوفِّرُ على أداءِ الشُّكرِ بقلبه ولسانِه وجوارحِه أكثر أوقاتِه ومع ذلك لا يوفِّي حقَّه لأنَّ التَّوفيقَ للشكرِ نعمةٍ تستدعِي شكراً آخرَ لا إلى نهايةٍ ولذلك قيل الشَّكورُ من يرى عجزَه عن الشُّكرِ ورُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام جزَّأَ ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ على أهله فلم تكنُ تأتِي ساعةٌ من السَّاعاتِ إلا وإنسانٌ من آلِ داودَ قائمٌ يُصلِّي(7/126)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت} أي على سليمانَ عليه السَّلامُ {مَا دَلَّهُمْ} أي الجنَّ أو آلَه {على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاْرْضِ} أي الأَرَضةُ أضيفتْ إلى فعلها وقرئ بفتحِ الرَّاءِ وهو تأثُّرُ الخشبةِ من فعلِها يقالُ أَرَضتَ الأَرَضةُ الخشبةَ أرضاً فأرضتْ أرضْاً مثل أكلتِ القوارح أسنانَه أَكْلاً فأكلتْ أَكلاَ {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} أي عصاهُ من نسأتُ البعيرَ إذا طردَته لأنَّها يُطرد بها ما يطرد وقرئ مِنُساتَه بألفٍ ساكنةٍ بدلاً من الهمزة وبهمزةِ ساكنةٍ وبإخراجها بينَ بينَ عند الوقف ومنساءته عل مفعالةٍ كميضاءَةٍ في ميضأَةٍ ومن ساته أي من طرفِ عصاهُ من سأةِ القوسِ وفيه لغتانِ كما في قِحَةٍ بالكسرِ والفتحِ وقُرىء أكلتْ مِنْساتَهُ {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن} من تبيَّنت الشيءَ إذا علمته بعد التباسه عليك أي علمت الجنّ علماً بيِّنا بعد التباسِ الأمر عليهم {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِى العذاب المهين} أي أنَّهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلمُوا موتَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينما وقع فلم يلبثُوا بعده حولاً في تسخيرِه إلى أن خرَّ أو من تبيَّن الشيءُ إذا ظهرَ وتجلَّي أي ظهرتِ الجنُّ وأنْ مع ما في حيِّزِها بدلُ اشتمالٍ من الجنُّ أي ظهر أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيبَ الخ وقُرىء تبيَّنت الجنُّ على البناءِ للمفعولِ على أنْ المتبيَّن في الحقيقة هو أن مع ما في حيِّزِها لأنه بدلٌ وقُرىء تبيَّنت الإنسُ والضَّميرُ في كانُوا للجنِّ في قوله تعالى ومن الجن مَن يَعْمَلُ وفي قراءةُ ابن مسعود رضي الله عنه تبينتِ الأنسُ أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيب رُوي أنَّ داودَ عليه السَّلامُ أسَّس بنيان بيت المقدس في موضعِ فُسطاطِ مُوسى فتوفِّي قبل تمامه فوصَّى به إلى سليمانَ عليهما السَّلامُ فاستعمل فيه الجنَّ والشَّياطينَ فباشروه حتىَّ إذا حانَ أجلُه وعلم به سألَ ربَّه أنْ يُعمِّي عليهم موتَه حتَّى يفرغُوا منه ولتبطلَ دعواهم علمَ الغيبِ فدعاهم فبنَوا عليه صَرحاً من قواريرَ ليس له بابٌ فقام يُصلِّي متكئاً على عصاهُ فقُبض روحُه وهو متكىءٌ عليها فبقي كذلك وهم فيما أُمروا به من الأعمالِ حتَّى أكلتِ الأَرَضةُ عصاهُ فخرَّ ميِّتاً وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه(7/126)
سبإ 15 16 اينما صلى صلى الله عليه وسلم فلم يكن ينظر إليه الشيطان في صلاتِه إلاَّ احترقَ فمرَّ به يوماً شيطانٌ فنظر فإذا سليمانُ عليه السَّلامُ قد خرَّ ميتاً ففتحُوا عنه فإذا عصاهُ قد اكلها الأرَضةُ فأرادوا أن يعرفُوا وقتَ موتِه فوضعُوا الأَرضةَ على العصا فأكلتْ منها في يومٍ وليلةٍ مقداراً فحسبُوا على ذلك فوجدُوه قد مات منذُ سنةٍ وكان عمرُه ثلاثاً وخمسين سنة ملك وهو ابن ثلاثَ عشرةَ سنة وبقي في ملكه أربعينَ سنةً وابتدأ بناءَ بيتِ المقدسِ لأربعٍ مضين من مُلكِه(7/127)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} بيان لإخبار بعض الكافرين بنعم الله تعالى إثرَ بيانِ أحوال الشَّاكرينَ لها أي لأولاد سبأِ بن يشجبَ بن يعرب بن قحطان وقُرىء بمنع الصَّرفِ على أنه اسمُ القبيلةِ وقُرىء بقلب الهمزةِ ألفاً ولعله إخراجٌ لها بينَ بينَ {فِى مَسْكَنِهِمْ} وقُرىء بكسرِ الكافِ كالمسجِدِ وقُرىء بلفظ الجمعِ أي مواضع سُكناهم وهي باليمنِ يقال لها مَأْرِبُ بينها وبين صنعاءَ مسيرة ثلاث ليال آية دالَّة بملاحظه أحوالِها السَّابقةِ واللاَّحقةِ على وجود الصَّانعِ المُختار القادر على كلِّ ما يشاء من الأمور البديعة المُجازي للمحسنِ والمسيءِ معاضدةً للبرهان السَّابقِ كما في قصتي داودُ وسليمانُ عليهما السَّلامُ {جَنَّتَانِ} بدل من آيةً أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي هي جنتان وفيه معنى المدح ويُؤيِّدُه قراءةُ النَّصبِ على المدح والمرادُ بهما جماعتانِ من البساتين {عَن يَمِينٍ وشمال} جماعة يمينِ بلدِهم وجماعةٌ عن شمالِه كلِّ واحدةٍ من تَيْنكَ الجماعتينِ في تقاربِهما وتضامِّهما كأنَّهما جنَّةٌ واحدةٌ أو بستاناً كلُّ رجلٍ منهم عن يمين مسكنِه وعن شمالِه {كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ واشكروا لَهُ} حكايةً لما قيلَ لهم على لسان نبيِّهم تكميلاً للنِّعمةِ وتذكيراً لحقوقِها أو لما نطقَ به لسانُ الحالِ أو بيان لكونهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك {بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} استئنافٌ مبيِّن لما يوجب الشُّكرَ المأمور به أي بلدتُكم بلدةٌ طيبةٌ وربكم الذي رزقكم مافيها من الطَّيباتِ وطلب منكم الشُّكرَ ربٌّ غفورٌ لفرطات مَن يشكره وقُرىء الكلُّ بالنَّصبِ على المدح قيل كان أطيبَ البلاد هواء واحصبها وكانتِ المرأةُ تخرج وعلى رأسها المِكْتلُ فتعمل بيديها وتسير فيما بين الأشجار فيمتلىءُ المِكْتَلُ مما يتساقطُ فيه من الثِّمارِ ولم يكن فيه من مؤذياتِ الهُوامِّ شيء(7/127)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
{فَأَعْرِضُواْ} عن الشُّكر بعد إبانة الآيات الدَّاعيةِ لهم إليه قيل أرسل الله إليهم ثلاثةَ عشرَ نبَّياً فدَعوهم إلى الله تعالى وذكَّروهم بنعمه وأنذروهم عقابه فكذَّبوهم {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم} أي سيلَ الأمر العرم أي الصَّعبِ من عَرِمَ الرَّجلُ فهو عارمٌ وعَرِمٌ إذا شرس خلقُه وصعب أو المطر الشَّديدُ وقيل العرم جمعُ عُرمةٍ وهي الحجارة المركومة وقيل هو السكر الذي يحبس الماء وقيل هو اسمُ للبناء الذي يُجعلُ سدَّاً وقيل هو البناء الرَّصينُ الذي بنته الملكةُ بلقيسُ بين الجبلينِ بالصَّخرِ والقارِ وحقنت به ماء العيون والأمطار وتركت فيه خُرُوقاً على ما يحتاجونَ إليه في(7/127)
سبإ 17 18 سقيهم وقيل العرمُ الجُرَذُ الذي نَقَبَ عليهم ذلك السدَّ وهو الفأرُ الأعمى الذي يقال له الخُلْدُ سلَّطه الله تعالى على سدِّهم فنقَبه فغرَّق بلادَهم وقيل العَرِمُ اسم الوادي وقرئ العَرْم بسكون الرَّاءِ قالوا كان ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى والنَّبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ {وبدلناهم بجنتيهم} أي أذهبنا جنَّتيهم وآتيناهم بدلهما {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ} أي ثمرٍ بشعٍ فإنَّ الخَمْطَ كل نبت أخذ طعماً من مرارة حتَّى لا يمكن أكلُه وقيل هو الحامضُ والمرُّ من كل شئ وقيل هو ثمرةُ شجرةٍ يقال لها فَسْوةُ الضبع على صورة الخَشْخَاشِ لا يُنتفع بها وقيل هو الاراك وكل شجرٍ ذي شوكٍ والتَّقديرُ أكل أكل خمط فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه وقرئ أكل خمط بالاضافة وبتخفيف أكل {وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} معطوفان على أُكلٍ لا على خَمْطٍ فإن الأَثْلَ هو الطَّرفاءُ وقيل شجرٌ يُشبهه أعظم منه ولا ثمر له وقرئ وأَثْلاً وشيئاً عطفاً على جنَّتين قيل وصف السِّدْرُ بالقلَّةِ لما أنَّ جناهُ وهو النَّبقُ مَّما يطيبُ أكلُه ولذلك يغرس في البساتينِ والصَّحيح أنَّ السِّدْرِ صنفانِ صنفٌ يُؤكلُ من ثمره ويُنتفع بورقه لغسلِ اليد وصنف له ثمرة عَفْصةٌ لا تُؤكل أصلاً ولا يُنتفع بورقهِ وهو الضَّالُ والمرادُ ههنا هو الثَّاني حتماً وقال قَتادةُ كان شجرُهم خيرَ الشَّجرِ فصيَّرُه الله تعالى من شرِّ الشَّجرِ بأعمالِهم وتسميةُ البدلِ جنَّتين للمشاكلةِ والتَّهكُّمِ(7/128)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
{ذلك} إشارة إلى مصدر قوله تعالى {جزيناهم} أو إلى ما ذُكرَ من التَّبديلِ وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد رُتبتهِ في الفظاعة ومحلُّه على الأوَّلِ النصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكدِّ للفعل المذكور وعلى الثَّاني النَّصبُ على أنه مفعولٌ ثانٍ له أي ذلك الجزاءَ الفظيع جزيناهم لاجزاء آخرَ أو ذلك التَّبديلَ جزيناهم لا غيرَه {بِمَا كَفَرُواْ} بسبب كفرانهم النِّعمة حيثُ نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدَّها أو بسبب كفرهم بالرُّسلِ {وَهَلْ نُجَازِى إِلاَّ الكفور} أي وما نجزى هذا الجزاءَ إلا المُبالغَ في الكُفرانِ أو الكفر وقرئ يُجازِي على البناءِ للفاعلِ وهو الله عزَّ وجلَّ وهل يُجازَى على البناءِ للمفعولِ ورفعِ الكفورَ وهل يجزى على البناء للمفعول أيضاً وهذا بيانُ ما أُوتوا من النَّعم الحاضرة في مساكنهم وما فعَلُوا بها من الكُفرانِ وما فُعل بهم من الجزاء وقوله تعالى(7/128)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا} حكاية لما أُوتوا من النَّعمِ البادية في مسايرهم ومتاجرهم وما فعلوا بها من الكفران وما حاق بهم بسبب ذلك تكملةً لقصتهم وبياناً لعاقبتهم وإنما لم يذكر الكلَّ معاً لما في التَّثنيةِ والتكريرِ من زيادة تنبيه وتذكير وهو عطف على كل لسبأٍ لا على ما بعده من الجمل النِّاطقةِ بأفعالهم أو بأجزيتها أي وجعلنا مع ما آتيناهم في مساكنهم من فُنون النِّعمِ بينهم أي بين بلادهم وبين القُرى الشَّاميةِ التى باركنا فيها للعالمين {قُرًى ظاهرة} متواصلة يُرى بعضُها من بعضٍ لتقاربها فهي ظاهرة لأعينُ أهلها أو راكبة متنَ الطريق ظاهرة للسَّابلةِ غير بعيدة عن مسالكهم حتَّى تخفى عليهم {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} أي جعلناها في نسبة بعضها(7/128)
سبإ 19 إلى بعضٍ على مقدار معيَّنٍ يليقُ بحال أبناء السَّبيلِ قيل كان الغادي من قرية يقيلُ في أخرى والرَّائحُ منها يبيت في أُخرى إلى أنْ يبلغً الشَّامَ كلُّ ذلك كان تكميلاً لما أُوتوا من أنواع النَّعماءِ وتوفيراً لها في الحضر والسَّفرِ {سِيرُواْ فِيهَا} على إرادةِ القولِ أيْ وقُلنا لهم سيروا في تلك القُرى {لَيَالِىَ وَأَيَّاماً} أي متى شئتُم من الليالي والأيَّامِ {آمنين} من كلِّ ما تكرهونه لا يختلف الأمنُ فيها باختلاف الأوقاتِ أو سيروا فيها آمنينَ وإن تطاولتْ مُدَّةُ سفرِكم وامتدتْ لياليَ واياما كثية أو سيروا فيها لياليَ أعمارِكم وأيَّامَها لا تلقَون فيها إلا الأمنَ لكن لا على الحقيقة بل على تنزيل تمكينهم من السَّيرِ المذكور وتسوية مباديه وأسبابه على الوجه المذكور منزلة أمرهم بذلك(7/129)
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
{فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أسفارنا} وقرئ يا ربَّنا بطروا النِّعمةَ وسئِمُوا أطيبَ العيشِ وملُّوا العافية فطلبوا الكدَّ والتَّعبَ كما طلب بنو إسرائيلَ الثوم والبصل مكان المنِّ والسَّلوى وقالوا لو كان جنى جناننا أبعدَ لكان أجدرَ أن نشتهيَه وسألوا أنْ يجعل الله تعالى بينهم وبين الشأمِ مفاوزَ وقفاراً ليركبُوا فيها الرَّواحل ويتزوَّدوا الأزواد ويتطاولُوا فيها على الفقراء فعجَّل الله تعالى لهم الإجابةَ بتخريب تلك القُرى المتوسطة وجعلها بَلْقَعاً لا يُسمع فيها داعٍ ولا مجيب وقرئ بعد وربنا بعِّدْ بين أسفارنا وبعُدَ بينُ أسفارنا على النداء وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به كما يقال سير فرسخان وبُوعد بين أسفارنا وقرئ ربنا باعد بين أسفارنا وبين سفرِنا وبعَّد برفع ربنا على الابتداء والمعنى على خلاف الأول وهو استبعادُ مسايرهم مع قِصرها أو دنوِّها وسهولة سلوكها لفرطِ تنعُّمهم وغاية ترفههم وعدم اعتدادهم بنعم الله تعالى كأنَّهم يتشاجَون على الله تعالى ويتحازنون عليه {وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} حيث عرَّضُوها للسَّخطِ والعذاب حين بطروا النِّعمةَ أو غمطُوها {فجعلناهم أحاديث} أي جعلناهم بحيث يتحدثُ النَّاسُ بهم متعجِّبين من أحوالَهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلِهم {ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي فرَّقناهم كلَّ تفريقٍ على أنَّ المُمزَّقَ مصدرٌ أو كلَّ مطرحِ ومكانِ تفريقٍ على أنه اسم مكان وفي عبارة التَّمزيقِ الخاص بتفريق المتَّصل وخرفه من تهويل الأمرِ والدِّلالةِ على شدَّةِ التَّأثيرِ والإيلامِ ما لا يخفى أي مزَّقناهم تمزيقاً لا غاية وراءه بحيث يُضرب به الأمثال في كلِّ فُرقة ليس بعدها وصالٌ حتى لحق غسَّانُ بالشَّأمِ وأنمارٌ بيثربَ وجُذامُ بتهامةَ والأزدُ بُعمانَ وأصلُ قصَّتهم على ما رواه الكلبيُّ عن أبي صالحٍ أنَّ عمروَ بن عامرِ من أولاد سبأ وبينهما اثنى عشر أباً وهو الذي يُقال له مُزَيْقِيا بنُ ماءِ السَّماءِ أَخبرتْهُ طريفةُ الكاهنةُ بخراب سدِّ مأربَ وتفريق سيل العرم الجنَّتين وعن أبي زيد الأنصاريِّ أن عمرا راى جرزا يفر السَّدَّ فعلم أنَّه لا بقاءَ له بعدُ وقيل إنَّه كان كاهناً وقد عَلمه بكهانتِه فباع أملاكَه وسار بقومه وهم ألوفٌ من بلدٍ إلى بلدٍ حتى انتهى إلى مكَّة المعظَّمة وأهلها جُرهمٌ وكانوا قهروا النَّاسَ وحازوا ولايةَ البيت على بني إسمعيل عليه السَّلامُ وغيرهم فأرسل إليهم ثعلبةَ بن عمرو ابن عامر يسألُهم المقام معهم إلى أنْ يرجع إليه رُوَّادُه الذين أرسلهم إلى أصقاع البلاد يطلبون له موضعا(7/129)
سبإ 20 21 يسَعه ومَن معه من قومه فأبَوا فاقتتلُوا ثلاثةَ أيَّامٍ فانهزمت جُرهمٌ ولم يفلت منهم إلا الشَّريدُ وأقام ثعلبةُ بمكَّةَ وما حولها في قومِه وعساكرِه حولاً فأصابْتُهم الحُمَّى فاضطرُوا إلى الخروج وقد رجع إليه رُوَّادُه فافترقوا فرقتينُ فرقةٌ توجَّهت نحو عُمانَ وهم الأُزد وكندة وحِمْيرُ ومَن يتلوهم وسار ثعلبةُ نحو الشَّامِ فنزل الأوسُ والخزرجُ ابنا حارثةَ بنِ ثعلبةَ بالمدينةِ وهم الأنصارُ ومضت غسَّانُ فنزلوا بالشَّأمِ وانخزعتْ خزاعة بمكَّةَ فأقام بها ربيعةُ بن حارثةَ بن عمرو بن عامر وهو لحيُّ فولِي أمرَ مكَّةَ وحجابةَ البيتِ ثم جاءهم اولاد إسمعيل عليه السَّلامُ فسألوهم السُّكنى معهم وحولهم فأذِنُوا لهم في ذلك ورُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ فروةَ بن مُسيكٍ الغطيفى سأل النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم عن سبأ فقال صلى الله عليه وسلم هو رجلٌ كان له عشرةُ أولاد ستَّةٌ منهم سكنُوا اليمنَ وهم مَذْحِجُ وكِنْدةُ والأَزدُ والأشعريُّون وحِمْيَرُ وأَنمارٌ منهم بَجِيلةُ وخَثْعَمُ وأربعةٌ منهم سكنُوا الشّأَمَ وهم لَخْمٌ وجُذَامٌ وعَامِلةُ وغَسَّانُ لما هلكتْ أموالُهم وخربتْ بلادُهم تفرَّقُوا أَيْدِي سَباً شَذَرَ مَذَرَ فنزلتْ طوائفُ منهم بالحجاز فمنهم خزاعة نزلوا بظاهر مكَّةَ ونزلتِ الأوسُ والخزرجُ بيثربَ فكانوا أوَّلَ مَن سكنها ثم نزل عندهم ثلاثُ قبائلَ من اليهود بنو فينقاع وبنُو قُريظَة والنَّضيرِ فحالفوا الأوسَ والخزرجَ وأقاموا عندهم ونزلتْ طوائفُ أُخر منهم بالشأمِ وهم الذين تنصَّروا فيما بعد وهم غسَّانُ وعَاملةُ ولَخْمٌ وجُذَامٌ وتَنْوخُ وتَغْلِبُ وغيرُهم وسَبَأٌ تجمعُ هذه القبائلَ كلَّها والجمهورُ على أنَّ جميعَ العرب قسمانِ قحطانيّةُ وعدنانيَّةُ والقحطانيَّةُ شعبان سبأ وحضر موت والعدنانَّيةُ شعبانِ رَبيعةُ ومُضَرُ وأما قُضَاعةُ فمختلفٌ فيها بعضهم ينسبونَها إلى قَحْطانَ وبعضُهم إلى عدنانَ والله تعالى أعلم {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيمَا ذكرَ من قصَّتهم {لآيَاتٍ} عظيمةً {لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي شأنه الصَّبرُ عن الشَّهواتِ ودواعي الهَوَى وعلى مشاقِّ الطَّاعاتِ والشُّكرُ على النِّعمِ وتخصيصُ هؤلاء بذلك لأنهم المُنتفعون بها(7/130)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي حقَّق عليهم ظنَّه أو وجده صادقاً وقرئ بالتَّخفيف أي صدَق في ظنِّه أو صدَقَ بظنَ ظنُّه ويجوز تعدية الفعل إليه بنفسه لأنَّه نوعٌ من القولِ وقرئ بنصب إبليسَ ورفعِ الظَّنِّ مع التَّشديدِ بمعنى وجدَه ظنُّه صادقاً ومع التَّخفيف بمعنى قال له الصِّدقُ حين خيل له إغراءهم وبرفعهما والتخفيف على الإبدال وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشَّهواتِ أو ببني آدمَ حين شاهدَ آدمَ عليه السَّلامُ قد أصغى إلى وسوسته قال إنَّ ذُريَّتَه أضعفُ منه عزماً وقيل ظنَّ ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكةَ أنَّه يجعلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ويسفك الدِّماءَ وقال لأضلنَّهم ولأغوينَّهم {فاتبعوه} أي أهلُ سبأٍ أو النَّاسُ {إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين} إلا فريقاً هم المؤمنون لم يتَّبعوه على أنَّ مِن بيانيةٌ وتقليلُهم بالإضافة إلى الكُفَّارِ أو إلا فريقاً من فِرقِ المؤمنين لم يتَّبعوه وهم المُخلَصون(7/130)
وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان} أي تسلّطٍ(7/130)
سبإ 22 23 واستيلاء بالوسوسة والاستواء وقولُه تعالى {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالاخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ} استثناء مفرغ من أعلم العللِ ومَن موصولةٌ أي وما كان تسلُّطُه عليهم إلا ليتعلَّقَ علمُنا بمَنْ يُؤمن بالآخرةِ متميِّزاً ممَّن هو في شكَ منها تعلُّقاً حالياً يترتَّب عليه الجزاءُ أو إلا ليتمَّيزَ المؤمنُ من الشَّاكِّ أو إلا ليؤمن قُدِّر إيمانُه ويشكُّ من قُدِّر ضلالُه والمراد من حصول العلم حصول متعلَّقه مبالغةً {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ حَفِيظٌ} أي محافظ عليه فإنَّ فَعيلاً ومُفاعِلاً صيغتانِ متآخيتانِ(7/131)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
{قُلْ} أي للمشركين إظهاراً لبُطلان ما هُم عليه وتَبكيتاً لهم {ادعوا الذين زعمتم} أي زعمتموهم آلهةً وهما مفعولا زعمَ ثم حُذف الأوَّلُ تخفيفاً لطول الموصول بصلتِه والثَّاني لقيام صفتِه أعني قوله تعالى {مِن دُونِ الله} مقامه ولا سبيل إلى جعله مفعولاً ثانياً لأنَّه لا يلتئمُ مع الضَّميرِ كلاماً وكذا لا يملكُون لأنَّهم لا يزعمونه والمعنى ادعوهم فيما يهمُّكم من جلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ لعلَّهم يستجيبون لكُم إنْ صح دعواكم ثم أجاب عنهم إشعاراً بتعيُّن الجوابِ وأنَّه لا يقبلُ المكابرةَ فقال {لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ} من خير وشرَ ونفع وضرَ {فِي السماوات وَلاَ فِى الارض} أي في أمرٍ ما من الأمور وذكرُهما للتَّعميمِ عُرفاً أو لأنَّ آلهتَهم بعضُها سماويةٌ كالملائكةِ والكواكبِ وبعضُها أرضية كالأصنامِ أو لأنَّ الاسباب القريبة للخير سماويةٌ وأرضيةٌ والجملة استئنافٌ لبيانِ حالِهم {وَمَا لَهُمْ} أي لآلهتِهم {فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أي شَركةٍ لا خلقاً ولا مُلكاً ولا تصرُّفاً {وَمَا لَهُ} أيْ لله تعالى {مِنْهُمْ} من آلهتِهم {مّن ظَهِيرٍ} يُعينه في تدبير أمرِهما(7/131)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
{وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ} أي لا توُجد رأساً كما في قوله ولاَ ترَى الضبَّ بها ينجحِرُ لقوله تعالى {مَّن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وإنَّما علَّق النَّفيَ بنفعها لا بوقوعِها تصريحاً بنفي ما هو غرضُهم من وقوعها وقوله تعالى {إِلاَّ لِمَنْ أذِنَ لَهُ} استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لاتقع الشَّفاعةُ في حالٍ من الأحوالِ إلا كائنة لمن أذنَ له في الشَّفاعةِ من النبيِّين والملائكةِ ونحوِهم من المستأهلين لمقام الشَّفاعةِ فتبيَّن حرمانُ الكَفرَة منها بالكُلِّية أما من جهةِ أصنامِهم فلظهور انتفاء الإذن لها ضرورةَ استحالةِ الإذنِ في الشفاعة لجمادٍ لا يعقلُ ولا ينطق وأمَّا من جهةِ مَن يعبدونَهُ من الملائكةِ فلأنَّ إذنَهم مقصورٌ على الشَّفاعةِ للمستحقِّين لها لقولِه تعالى {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أذِن لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} ومن البيِّن أنَّ الشَّفاعةَ للكفرةِ بمعزل من الصَّوابِ أولا تنفع الشفاعة من الشفعاء المستأهلين لها في حالٍ من الأحوالِ إلا كائنة لمن إذِن له أي لأجلهِ وفي شأنِه من المستحقِّين للشَّفَّاعة وأمَّا مَن عداهُم من غيرِ المستحقِّين لها فلا تنفعُهم أصلاً وإنْ فُرض وقوعُها وصدورُها عن الشُّفعاءِ إذ لم يؤذَن لهم في شفاعتهم بل في شفاعة غيرِهم فعلى هذا يثبتُ حرمانُهم من شفاعة هؤلاء بعبارة النَّصِّ ومن شفاعة الأصنام بدلالته إذ حيث(7/131)
سبإ 24 حُرموها من جهةِ القادرين على شفاعة بعض المحتاجين إليها فلأن حرموها من جهة العَجَزةِ عنها أولى وقرئ أُذِنَ له مبنيّاً للمفعولِ {حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أي قلوب الشُّفعاءِ والمشفوعِ لهم من المؤمنين وأمَّا الكَفَرةُ فهم من موقف الاستشفاع بمعزلٍ وعن التَّفزيعِ عن قلوبهم بألفِ منزلٍ والتفزيع إزالةُ الفزعِ ثمَّ ترك ذكر الفزع وأسند الفعلُ إلى الجارِّ والمجرورِ وحتى غاية لما ينبئ عنه ما قبلها من الإشعار بوقوع الإذنِ لمن أذن له فإنَّه مسبوق بالاستئذان المستدعِي للتَّرقبِ والانتظارِ للجواب كأنَّه سُئل كيف يُؤذن لهم فقيل يتربَّصون في موقف الاستئذانِ والاستدعاءِ ويتوقَّفون على وَجَلٍ وفَزَعٍ مليّاً حتَّى إذا أُزيلَ الفزعُ عن قلوبهم بعد اللتا والتي وظهرت لهم تباشيرا الإجابةِ قَالُواْ أي المشفوعُ لهم اذهم المحتاجون إلى الإذنِ والمهتمُّون بأمره مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ أي في شأنِ الإذنِ قَالُواْ أي الشُّفعاءُ لأنَّهم المُباشرون للاستئذان بالذَّاتِ المتوسِّطُون بينهم وبينه عزَّ وجلَّ بالشَّفاعةِ الحق أي قال ربُّنا القول الحقَّ وهو الإذن في الشفاعةِ للمستحقَّين لها وقُرىء الحقُّ مرفوعاً أي ما قاله الحقُّ {وَهُوَ العلى الكبير} من تمام كلام الشُّفعاء قالوه اعترافاً بغاية عظمة جناب العزَّةِ عزَّ وجلَّ وقصور شأنِ كلِّ مَن سواه أي هو المنفرد بالعلوِّ والكبرياءِ ليس لأحدٍ من أشراف الخلائقِ أنْ يتكلَّم إلا بإذنه وقُرىء فُزع مخفَّفاً بمعنى فزع وقرىء فَزِع على البناءِ للفاعلِ وهو الله وحدَه وقرىء فزع بالراء المهملة والغين المعجمة أي نفي الوجلٍ عنها وأفنى من فرغَ الزَّادُ إذا لم يبقَ منه شيءٌ وهو من الإسنادِ المجازيِّ لأنَّ الفراغَ وهو الخلوُّ حال ظرفه عند نفادِه فأُسند إليه على عكسِ قولِهم جَرَى النَّهر وعن الحسن تخفيفُ الرَّاءِ وأصله فَرغ الرجل عنها أي انتفى عنها وفنى ثم حذف الفاعل وأُسند إلى الجارِّ والمجرور وبه يُعرف حال التَّفريغِ وقُرىء ارتفعَ عن قلوبِهم بمعنى انكشفَ عنها {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماوات والأرض} امر صلى الله عليه وسلم بتبكيتِ المشركين بحملهم على الإقرارِ بأنَّ آلهتَهم لا يملكونَ مثقالَ ذَرَّةِ فيهما وأنَّ الرَّازقَ هو الله تعالى فإنَّهم لا ينكرونه كما ينطق به قوله تعالى(7/132)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض أَم مَّنْ يَمْلِكُ السمع والابصار وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى وَمَن يُدَبّرُ الامر} فَسَيَقُولُونَ الله وحيث كانُوا يتلعثمُون أحياناً في الجواب مخافةَ الالزام قيل له صلى الله عليه وسلم قُلِ الله إذ لا جواب سواء عندهم أيضاً وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ أي وإنَّ أحدَ الفريقينِ من الذين يوحِّدون المتوحِّدَ بالرِّزقِ والقُدرة الذَّاتيةِ ويخصونه بالعبادة والذين يُشركون به في العبادةِ الجمادَ النَّازلَ في أدنى المراتبِ الإمكانية لعلى أحدِ الأمرينِ من الهُدى والضَّلالِ المُبين وهذا بعد ما سبق من التَّقرير البليغ النَّاطقِ بتعيين من هُو على الهدى ومن هو في الضَّلالِ أبلغ من التَّصريحِ بذلك لجريانه على سَننِ الإنصاف المُسكتِ للخَصمِ الألدِّ وقُرىء وأنَا أو إيَّاكم إما على هُدًى أَوْ فِى ضلال مبين واختلافُ الجارِين للإيذان بأنَّ الهاديَ كمن استعلى مناراً ينظرُ الأشياءَ ويتطلَّع(7/132)
سبإ 25 30 عليها والضَّالُّ كأنَّه منغمسٌ في ظلامٍ لا يَرى شيئاً أو محبوسٌ في مطمورةٍ لا يستطيعُ الخروجَ منها(7/133)
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
{قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وهذا أبلغُ في الإنصافِ وأبعدُ من الجَدَلِ والاعتسافِ حيثُ أسند فيه الإجرامُ وإنْ أُريد به الزَّلَّةُ وتركُ الأولى إلى أنفسهم ومطلقُ العمل إلى المخاطَبين مع أن أعمالهم أكبرُ الكبائرِ(7/133)
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا) يومَ القيامةِ عند الحشرِ والحسابِ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق أي يحكمُ بيننا ويفصلُ بعد ظهورِ حالِ كلَ منّا ومنكم بأن يدخل المحقِّين الجنة والمبطلين النار وَهُوَ الفتاح الحاكم الفيصل في القضايا المنغلقة العليم بما ينبغي أنْ يُقضى به(7/133)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{قُلْ أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتُمْ} أي ألحقتمُوهم {بِهِ شُرَكَاء} أُريد بأمرهم بإراءةِ الأصنامِ مع كونها بمرأى منه صلى الله عليه وسلم إظهار خطئِهم العظيمِ وإطلاعهم على بُطلانِ رأيهم أي اروينها لأنظرَ بأيِّ صفةٍ ألحقتُموها بالله الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ في استحقاقِ العبادةِ وفيه مزيدُ تبكيتٍ لهم بعد إلزامِ الحجَّةِ عليهم كَلاَّ ردعٌ لهم عن المشاركةِ بعد إبطالِ المقايسةِ {بَلْ هُوَ الله العزيز الحكيم} أي الموصوفُ بالغلبةِ القاهرةِ والحكمةِ الباهرةِ فأينَ شركاؤكم التي هي أخسُّ الاشياء اذ لها من هذه الرُّتبةِ العاليةِ والضمير اما الله عز وعلا أو للشَّأنِ كما في قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ(7/133)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
{وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} أي إلا إرسالةً عامة لهم فإنهم إذا عمَّتهم فقد كفتْهمِ أنْ يخرجَ منها أحدٌ منهم أو إلا جامعاً لهم في الابلاغ فهي حالٌ من الكافِ والتَّاءِ للمُبالغةِ ولا سبيلَ إلى جعلِها حالاً من النَّاسِ لاستحالةِ تقدُّمِ الحالِ على صاحبها المجرورِ {بَشِيراً وَنَذِيراً ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك فيحملُهم جهلُهم على ما هم عليه من الغيِّ والضَّلالِ(7/133)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29)
{وَيَقُولُونَ} من فرطِ جهلِهم وغايةِ غيِّهم متى هذا الوعد بطريقِ الاستهزاءِ يعنون به المبشَّر به والمنذَر عنه أو الموعود بقوله تعالى بجمع بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا {إِن كُنتُمْ صادقين} مخاطبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به(7/133)
قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
{قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ} أي وعدُ يومٍ أو زمان وعدو الاضافة للتبيِّينِ وقُرىء ميعادٌ يومٌ منَّونينِ على البدل ويوماً بإ 4 ضمار اعنى للتعظيم {لا تستأخرون عَنْهُ} عند مفاجأتِه {سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ} صفةً لميعادُ وفي هذا الجواب من المبالغة في التهديد مالا يخفى حيثُ جعل الاستئخارَ في الاستحالة كالا ستقدام الممتنعِ عقلاً وقد مرَّ بيانُه مراراً ويجوزُ أنْ يكون نفي الاستئجار والاستقدامِ غيرَ مقيَّدٍ بالمُفاجأة فيكون وصفُ الميعادِ بذلك لتحقيقة(7/133)
سبإ 31 33 وتقريرِه(7/134)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نؤمن بهذا القرآن وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتبِ القديمةِ الدَّالَّةِ على البعث وقيل إنَّ كُفَّار مكَّةَ سألُوا أهلَ الكتابِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرُوهم أنَّهم يجدون نعتَهُ في كتبهم فغضبُوا فقالُوا ذلكَ وقيل الذي بين يديه القيامة {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون} المنكرون للبعث {مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ} أي في موقفِ المحاسبة {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول} أي يتحاورونَ ويتراجعون القولَ يَقُولُ الذين استضعفوا بدل من يرجع الخ أي يقول الأتباع {لِلَّذِينَ استكبروا} في الدُّنيا واستتبعوهم في الغيِّ والضَّلالِ {لَوْلاَ أَنتُمْ} أي لولا إضلالُكم وصدُّكم لنا عن الإيمانِ {لَكُنَّا مؤمنين} باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم(7/134)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)
{قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الذين استكبرُوا في الجواب فقيل قالُوا {أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} مُنكرين لكونهم هم الصَّادِّين لهم عن الإيمانِ مُثبتين أنَّهم هم الصَّادُّون بأنفسهم بسبب كونِهم راسخين في الإجرام(7/134)
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
{وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا} اضرابا عن إضرابِهم وإبطالاً له {بَلْ مكرَ اللَّيلِ والنَّهارِ} أي بل صدَّنا مكرُكم بنا باللَّيلِ والنَّهارِ فحُذف المضافُ إليه وأقيم مقامَه الظَّرفُ اتَّساعاً أو جُعل ليلُهم ونهارُهم ماكريْنِ على الإسناد المجازي وقُرىء بل مكرٌ اللَّيلَ والنَّهارَ بالتَّنوينِ ونصب الظَّرفينِ أي بل صدَّنا مكرُكم في اللَّيلِ والنَّهارِ على أن التنوين عوضٌ عن المُضافِ إليهِ أو مكرٌ عظيمٌ على أنَّه للتَّفخيمِ وقُرىء بل مكرٌ اللَّيلِ والنَّهارِ بالرَّفعِ والنَّصبِ أي تكرون الاغواء مكراً دائباً لا تفترون عنه فالرفع على الفاعلية أي بل صدَّنا مكركم الإغواء في اللَّيل والنَّهارِ على ما سبق من الاتِّساع في الظَّرفِ بإقامتِه مقامَ المضافِ إليه والنَّصبِ على المصدرية أي بل تكرون الإغواءِ مكرَ اللَّيلِ والنَّهارِ أي مكرا دائما وقوله تعالى {إِذْ تَأْمُرُونَنَا} ظرفٌ للمكرِ أي بل مكرُكم الدَّائمُ وقتَ أمرِكم لنا {أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} على أنَّ المرادَ بمكرِهم إمَّا نفسُ أمرِهم بما ذُكر كما في قوله تعالى يا قوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء(7/134)
سبإ 34 37 وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً فإنَّ الجعلينِ المذكورينِ نعمةٍ من الله تعالَى وأيُّ نعمةٍ وإما أمورٌ أُخَرُ مقارنة لأمرهم داعية إلى الامتثال به من التَّرغيب والتَّرهيبِ وغير ذلك وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب أي أضمرَ الفريقانِ الندامة على ما فَعَلا من الضَّلالِ والإضلالِ وأخفاها كلٌّ منهما عن الآخرِ مخافةَ التَّعييرِ أو أظهرُوها فإنَّه من الأضدادِ وهو المناسب لحالِهم {وَجَعَلْنَا الاغلال فِى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} أي في أعناقِهم والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ للتَّنويهِ بذمِّهم والتنَّبيهِ على موجب أغلالِهم {هَلْ يُجزون إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لا يُجزون إِلاَّ جزاءَ ما كانُوا يعملون أو إلاَّ بما كانُوا يعملونه على نزعِ الجارِّ(7/135)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ} من القُرى {مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ممَّا مُنِّيَ به من قومِه من التَّكذيبِ والكُفرِ بما جاء به والمنافسة بكثرةِ الأموالِ والأولادِ والمفاخرةِ بحظوظِ الدُّنيا وزخارفِها والتَّكبرِ بذلك على المُؤمنين والاستهانةِ بهم من أجلِه وقولهم أى الفريقين خير مقاما وأحسنُ نَديَّاً بأنَّه لم يرسل قط أهل قريةٍ من نذيرٍ إلاَّ قال مُترفوهم مثلَ ما قال مُترفو أهلِ مكة في حقه صلى الله عليه وسلم وكادُوا به نحوَ ما كادوا به صلى الله عليه وسلم وقاسوا أمورَ الآخرةِ الموهومةِ والمفروضةِ عندهم على أمورِ الدُّنيا وزعموا أنَّهم لو لم يَكْرُموا على الله تعالى لما رزقهم طيبات الدُّنيا ولولا أنَّ المؤمنينَ هانُوا عليهِ تعالى لمَا حرُمهموها وعلى ذلك الرأيِّ الرَّكيكِ بنَوَا أحكامَهم(7/135)
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
{وَقَالُواْ نَحْنُ أكثرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} إمَّا بناءً على انتفاءِ العذابِ الأُخرويِّ رأساً أو على اعتقادِ أنَّه تعالى أكرمَهم في الدُّنيا فلا يُهينهم في الآخرةِ على تقديرِ وقوعِها(7/135)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
(قُلْ) رَدَّاً عليهم وحسماً لمادَّةِ طمعِهم الفارغِ وتحقيقاً للحقِّ الذي عليه يدورُ أمرُ التَّكوين {إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} ان يبسط له {وَيَقْدِرُ} على مَن يَشَاء أنْ يقدرَه عليه من غير أن يكون لاحد من الفريقينِ داعٍ إلى ما فُعل به من البسطِ والقَدْرِ فربُّما يُوسِّعُ على العاصِي ويُضيِّقُ على المطيعِ وربَّما يُعكس الأمرُ ورُبَّما يُوسِّع عليهما معاً وقد يُضيَّق عليهما وقد يُوسِّع على شخصٍ تارةً ويُضيِّق عليه أخرى يفعلُ كُلاًّ من ذلك حسْبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم البالغةِ فلا يُقاس على ذلك أمرُ الثَّوابِ والعذابِ اللَّذينِ مناطُهما الطَّاعةُ وعدمُها وقُرىء ويُقدِّر بالتَّشديدِ {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك فيزعمون أنَّ مدارَ البسطِ هو الشَّرفُ والكرامةُ ومدارَ القَدْرِ هو الهوانُ ولا يدرون أنَّ الأوَّلَ كثيراً ما يكونُ بطريقِ الاستدراجِ والثَّاني بطريقِ الابتلاءِ ورفعِ الدَّرجاتِ(7/135)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
{وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى}(7/135)
كلام مستأنفٌ من جهته عزَّ وعلا خُوطب به النَّاسُ بطريقِ التَّلوينِ والالتفاتِ مبالغةً في تحقيقِ الحقِّ وتقريرِ ما سبق أي وما جماعةُ أموالِكم وأولادِكم بالجماعةِ التي تُقربكم عندنا قُربةً فإنَّ الجمعَ المكسَّر عقلاؤُه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث أو بالخصلة التي تقرِّبكم وقُرىء بالذَّي أيْ بالشِّيءِ الذَّي {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} استثناءٌ من مفعول تقربكم أي وما الأموالُ والأولادُ تقرِّبُ أحداً إلا المؤمنَ الصَّالحَ الذي أنفقَ أموالَه في سبيلِ الله تعالى وعلَّم أولادَه الخيرَ ورَبَّاهم على الصَّلاح ورشَّحهم للطَّاعةِ وقيل من أموالِكم وأولادِكم على حذفِ المضافِ أي إلاَّ أموالَ من الخ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلينِ باعتبارِ لفظِها وما فيهِ من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذانِ بعلوِّ رتبتِهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ أي فأولئكَ المنعوتُون بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ {لَهُمْ جَزَاء الضعف} أي ثابتٌ لهم ذلك على أنَّ الجارَّ والمجرورَ خبرٌ لما بعده والجملةَ خبرٌ لأولئك وفيه تأكيدٌ لتكررِ الإسنادِ أو يثبت لهم ذلك على أنَّ الجارُ والمجرورَ خبرٌ لأولئك وما بعدَهُ مرتفعٌ على الفاعليةِ وإضافة الجزاءِ إلى الضِّعفِ من إضافة المصدرِ إلى المفعولِ أصله فأولئك لهم أنْ يجازوا الضعف ثم جزاء الضعف ثمَّ جزاءَ الضِّعفِ ومعناه أنَّ تضاعفَ لهم حسناتُهم الواحدةُ عشراً فما فوقَها وقرىء جزاء الضعف على فأولئك لهم الضِّعفُ جزاءً وجزاءٌ الضِّعفَ على أنْ يجازوا الضِّعفَ وجزاءٌ الضِّعفُ بالرفع على أنَّ الضِّعفُ بدلٌ من جزاءٌ {بِمَا عَمِلُواْ} من الصَّالحاتِ {وَهُمْ فِى الغرفات} أي غرفات الجنة {آمنون} من جميع المكارِه وقُرىء بفتح الرَّاءِ وسكونِها وقُرىء في الغُرفةِ على إرادةِ الجنسِ(7/136)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)
{والذين يسعون في آياتنا} بالردِّ والطَّعنِ فيها {معاجزين} سابقينَ لأنبيائِنا أو زاعمينَ أنَّهم يفوتُوننا {أُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ} لا يجديهم ما عوَّلوا عليه نَفْعاً(7/136)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
{قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي يُوسعه عليهَ تارةً {وَيَقْدِرُ لَهُ} أي يضيقُه عليه تارةً أُخرى فلا تخشَوا الفقرَ وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله وتعرَّضُوا لنفحاتِه تعالى {وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ} عِوضاً إمَّا عاجلاً وإمَّا آجلا {وهو خير الرازقين} فإنَّ غيرَه واسطة في إيصالِ رزقِه لا حقيقة لرازقيتِه(7/136)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40)
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} أي المستكبرينَ والمستضعفينَ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دون الله ويومَ ظرفٌ لمضمرٍ متأخِّر سيأتي تقديرُه أو مفعولٌ لمضمرٍ مقدَّمٍ نحو اذكُر {ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} تقريعاً للمشركينَ وتبكيتاً لهم على نهجِ قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ الخ افناطا لهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من شفاعتِهم وتخصيص الملائكة(7/136)
سبإ 41 43 لأنَّهم أشرفُ شركائِهم والصَّالحونَ للخطابِ منهم ولأنَّ عبادتَهم مبدأُ الشِّركِ فبظهور قصورِهم عن رتبة المعبودَّيةِ وتنزههم عن عبادتِهم يظهر حالُ سائرِ شركائِهم بطريقِ الأولويةِ وقُرىء الفعلانِ بالنُّونِ(7/137)
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
{قالوا} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤالِ الملائكةِ كأنه قيل فماذا يقول الملائكةِ حينئذٍ فقيل يقولون متنزِّهين عن ذلك {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} والعدولُ إلى صيغة الماضي الدلالة على التَّحقُّقِ أي أنت الذي نواليهِ من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنَّهم بيَّنوا بذلك براءتَهم من الرِّضا بعبادتهم ثم أضربُوا عن ذلكَ ونفَوا أنَّهم عبدُوهم حقيقةً بقولهم {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} أي الشَّياطينَ حيثُ أطاعُوهم في عبادِة غيرِ الله سبحانه وتعالى وقيل كانُوا يتمثَّلون لهم ويخيِّلون لهم أنَّهم الملائكةُ فيعبدونهم وقيل يدخلونَ أجوافَ الأصنامِ إذا عُبدت فيعبدون بعبادتِها {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} الضَّميرُ الأوَّلُ للإنسِ أو للمشركينَ والأكثرُ بمعنى الكلِّ والثَّاني للجنِّ(7/137)
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
{فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً} من جملة ما يقال للملائكةِ عند جوابهم بالتَّنزه والتَّبرؤِ عمَّا نَسب إليهم الكفرةُ يخُاطبون بذلك على رءوس الأشهادِ إظهاراً لعجزهِم وقصورِهم عند عَبَدتهم وتنصيصاً على ما يُوجب خيبةَ رجائِهم بالكلِّية والفاءُ ليستْ لترتيبِ ما بعَدَها منَ الحكمِ على جوابِ الملائكةِ فإنَّه محقَّقٌ أجابُوا بذلك أم لا بل لترتيبِ الإخبار به عليه ونسبة عدمِ النَّفعِ والضُّرِّ إلى البعضِ المبهمِ للمبالغةِ فيما هو المقصودُ الذي هو بيانُ عدمِ نفعِ الملائكةِ للعبدةِ بنظمه في سلكِ عدم نفعِ العَبَدةِ لهم كأنَّ نفعَ الملائكةِ لعبدتِهم في الاستحالةِ والانتفاء كنفعِ العبدةِ لهم والتعرضِ لعدم الضُّرِّ مع أنَّه لا بحث عنه أصلاً إمَّا لتعميمِ العجزِ أو لحملِ عدمِ النَّفعِ على تقديرِ العبادةِ وعدمِ الضُّرِّ على تقديرِ تركِها أو لأنَّ المرادَ دفعُ الضُّرِّ على حذفِ المضاف وتقييد هذا الحكمِ بذلك اليومِ مع ثبوتِه على الإطلاقِ لانعقادِ رجائِهم على تحقُّقِ النَّفعِ يومئذٍ وقولُه عزَّ وجلَّ {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} عطفٌ على نقول للملائكةِ لا على لا يملكُ كما قيل فإنَّه ممَّا يقالُ يوم القيامةِ خطاباً للملائكةِ مترتباً على جوابِهم المحكيِّ وهذا حكاية لرسول صلى الله عليه وسلم لما سيقالُ للعبدةِ يومئذٍ إثر حكايةِ ما سيقالُ للملائكةِ أي يومَ نحشرُهم جميعاً ثُمَّ نَقُولُ للملائكةِ كذا وكذا ويقولون كذا وكذا ونقولُ للمشركينَ {ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} يكون من الاهوال والاحوال مالا يحيطُ به نطاقُ المقالِ وقوله تعالى(7/137)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
{وإذا تتلى عليهم آياتنا بَيّنَاتٍ}(7/137)
بيانٌ لبعضٍ آخرَ من كفرانِهم أي إذا تُتلى عليهم بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم آياتُنا الناطقةُ بحقِّيةِ التوحيدِ وبُطلان الشِّركِ {قَالُواْ مَا هذا} يعنون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم {إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم} فيستتبعكم بما يستدعيِه من غير أن يكون هناك دينٌ إلهيٌّ وإضافة الآباءِ إلى المخاطَبين لا إلى أنفسِهم لتحريكِ عرقِ العصبيةِ منهم مبالغةً في تقريرِهم على الشِّركِ وتنفيرِهم عن التَّوحيد {وَقَالُواْ مَا هذا} يعنون القرآنَ الكريمَ {إِلاَّ إِفْكٌ} أي كلام مصروفٌ عن وجهه لا مصداق له في الواقع {مُّفْتَرًى} بإسنادِه إلى الله تعالى {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ} أي لأمرِ النبوَّةِ أو الإسلامِ أو القرآن على أنَّ العطفَ لاختلافِ العُنوان بأنْ يُراد بالأولِ معناهُ والثاني نظمَه المعجزَ {لَمَّا جَاءهُمْ} مِنْ غيرِ تدبُّرٍ ولا تأمُّلٍ فيه {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهرٌ سحريّتُه وفي تكرير الفعلِ والتَّصريحِ بذكر الكفرةِ وما في الَّلامينِ من الإشارةِ إلى القائلينَ والمقولِ فيهِ ومَا في لمَّا مِنْ المسارعة الى البيت بهذا القولِ الباطلِ إنكارٌ عظيمٌ له وتعجيبٌ بليغٌ منه(7/138)
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
{وما آتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} فيها دليلٌ على صحَّةِ الإشراكِ كما في قوله تعالى أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ وقولِه تعالى {أم آتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} وقُرىء يدرسُونها ويدَّرسونها بتشديدِ الدَّالِ يفتعلون من الدَّرسِ {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ} يدعُوهم إليه وينذرُهم بالعقابِ إن لم يُشركوا وقد بان من قبلُ أنْ لا وجهَ له بوجهٍ من الوجوهِ فمن أينَ ذهبُوا هذا المذهبَ الزَّائغَ وهذا غايةُ تجهيلٍ لهم وتسفيهٍ لرأيهم ثمَّ هدَّدهم بقولِه تعالى(7/138)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} من الأمم التقدمة والقُرون الخاليةِ كما كذَّبوا {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا آتيناهم} أي ما بلغَ هؤلاءِ عشرَ ما آتينا أولئكَ من القوَّة وطولِ العمر وكثرةِ المالِ أو ما بلغ أولئك عشرَ ما آتينا هؤلاءِ من البيِّناتِ والهُدى {فَكَذَّبُواْ رُسُلِى} عطف على كذَّب الذينَ الخ بطريقِ التَّفصيلِ والتَّفسيرِ كقولِه تعالَى {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} الخ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكارِي لهم بالتَّدميرِ فليحذَرْ هؤلاء من مثلِ ذلك(7/138)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة} أي ما أُرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة هي ما دل عليه قوله تعالى {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ} على أنَّه بدلٌ منها أو بيانٌ لها أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هي أن تقومُوا من مجلس رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو تنتصبُوا للأمرِ خالصاً لوجهِ الله تعالى معرضاً عن المُماراةِ والتَّقليدِ {مثنى وفرادى} أي متفرِّقين اثنينِ اثنين وواحداً واحداً فإنَّ الازدخام يُشوش الأفهامَ ويخلطُ الأفكار بالأوهامِ وفي تقديمِ مَثْنى إيذانٌ بأنَّه أوثقُ وأقربُ إلى الاطمئنانِ {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ}(7/138)
في أمره صلى الله عليه وسلم وما جاء به لتعلمُوا حقيقتَه وحقِّيتَه وقوله تعالى {ما بصاحبكم من جنة} استئنافٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى للتَّنبيه على طريقةِ النَّظر والتَّأملِ بأنَّ مثلَ هذا الأمرِ العظيمِ الذي تحتَه ملك الدُّنيا والآخرةِ لا يتصدى لا دعائه إلا مجنونٌ لا يُبالي بافتضاحِه عند مطالبته بالبُرهان وظهور عجزهِ أو مؤيدٌ من عندِ الله مرشَّح للنُّبوةِ واثق بحجَّتهِ وبرهانه وإذ قد علمتُم أنَّه صلى الله عليه وسلم أرجحُ العالمين عقلاً وأصدقُهم قولاً وأنزههم نفساً وأفضلُهم علماً وأحسنُهم عملاً وأجمعُهم للكمالاتِ البشريَّةِ وجبَ أنْ تصدِّقُوه في دعواهُ فكيف وقد انضمَّ إلى ذلك معجزاتٌ تخِرُّ لها صُمُّ الجبالِ ويجوزُ أن يتعلَّق بما قبلَه على معنى ثم تتفكَّروا فتعلموا ما بصاحِبكم من جنَّةٍ وقد جُوِّز أن تكون ما استفهاميةً على معنى ثم تتفكروا أي شئ به من آثارِ الجنونِ {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد} هو عذاب الآخرة فإنه صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ في نَسَمِ السَّاعةِ(7/139)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
{قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أجر} أي أي شئ سألتُكم من أجرٍ على الرِّسالة {فَهُوَ لَكُمْ} والمرادُ نفيُ السُّؤالِ رأساً كقولِ مَن قال لمن لم يُعطه شيئاً إنْ أعطيتني شيئاً فخُذه وقيل مَا موصولةٌ أُريد بها ما سألهم بقوله تعالى مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يتخذ إلى ربه سبيلا وقوله تعالى لاَ أَسْأَلُكُم عَلَيهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى واتخاذ السَّبيلِ إليه تعالى منفعتهم الكُبرى وقرباه صلى الله عليه وسلم قرباهم {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله وَهُوَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٍ} مطَّلع يعلمُ صدقي وخلوصَ نيتَّي وقرئ إن أجري بسكون الياء(7/139)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
{قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق} أي يُلقيه ويُنزله على من يجتبيهِ من عبادِه أو يرمي به الباطلَ فيدمغُه أو يرمي به في أقطارِ الآفاقِ فيكون وعداً بإظهارِ الإسلامِ وإعلاءِ كلمةِ الحقِّ {علام الغيوب} صفةٌ محمولةٌ على محلِّ إنَّ واسمِها أو بدلٌ من المستكنِّ في يقذفُ أو خبرٌ ثانٍ لأنَّ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقرئ بالنَّصبِ صفة لربِّي أو مقدرا بأعنى وقرئ بكسرِ الغَين وبالفتحِ كصبور مبالغةُ غائب(7/139)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
{قُلْ جَاء الحق} أي الإسلامُ والتوحيد {وما يبدئ الباطل وَمَا يُعِيدُ} أي زهقَ الشِّركُ بحيث لم يبقَ أثرُه أصلاً مأخوذُ من هلاكِ الحيِّ فإنَّه إذا هلكَ لم يبقَ له إبداءٌ ولا إعادةٌ فجُعل مَثَلاً في الهلاكِ بالمرَّة ومنْهُ قولُ عُبيْدٍ أَقْفرَ مِن أَهْلِه عُبيد فليسَ يُبدي وَلاَ يُعيدُ وقيل الباطلُ إبليسُ أو الصنم والمعنى لا ينشئ خلقاً ولا يُعيد أو لا يبدئ خيراً لأهلِه ولا يُعيد وقيل ما استفهاميِّةٌ منصوبةٌ بما بعدَها(7/139)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
{قُلْ إِن ضَلَلْتُ} عن الطَّريقِ الحقِّ {فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى} فإنَّ وبالَ ضلالِي عليها لأنَّه بسببها إذهى الجاهلةُ بالذَّاتِ والأمَّارةُ بالسُّوءِ وبهذا الاعتبارِ قُوبل الشَّرطيةُ بقولِه تعالى {وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى} لأنَّ الاهتداءَ بهدايتِه وتوفيقِه وقرئ ربِّيَ بفتح الياء {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}(7/139)
يعلم قولَ كلَ من المُهتدي والضَّالِّ وفعلَه وإنْ بالغَ في إخفائِهما(7/140)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
{وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ} عند الموتِ أو البعثِ أو يومِ بدرٍ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ ثمانين ألفاً يغزُون الكعبةَ ليخرِّبوها فإذا دخلُوا البيداءَ خُسف بهم وجوابُ لو محذوفٌ أي لرأيتَ أمراً هائلاً {فَلاَ فَوْتَ} فلا يفوتُون الله عزَّ وجل يهرب أو تحصُّنٍ {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} من ظهرِ الأرضِ أو من الموقفِ إلى النَّارِ أو من صحراء بدرٍ إلى قَليبها أو من تحت أقدامهم إذا خُسف بهم والجملةُ معطوفة على فَزِعوا وقيل على لافوت على معنى إذْ فَزعُوا فلم يفوتُوا وأُخذوا ويؤيده أنه قرئ وأُخذ بالعطف على محلِّه أي فلا فوت هنا وهناك أخذ(7/140)
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
{وقالوا آمنا به} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد مرَّ ذكرُه في قوله تعالى ما بصاحِبكم {وأنى لَهُمُ التناوش} التَّناوشُ التَّناولُ السَّهلُ أي ومِن أينَ لهم أنْ يتناولُوا الإيمانَ تناولاً سهلاً {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} فإنَّه في حيِّزِ التكليف وهُم منه بمعزلٍ بعيدٍ وهو تمثيلُ حالِهم في الاستخلاصِ بالإيمانِ بعد ما فاتَ عنهم وبعُد بحالِ مَنْ يُريدُ أن يتناول الشئ من غَلْوةٍ تناوله من ذراع في الاستحالة وقرئ بالهمزة على قلبِ الواوِ لضمِّها وهو من نأشت الشئ إذا طلبتُه وعن أبي عمرو التَّناؤشُ بالهمزِ التَّناولُ من بُعدٍ من قولِهم نأشتُ إذا أبطأتَ وتأخَّرتَ ومنه قولُ مَن قالَ تمنَّى نَئيشا أنْ يكون أطاعنِي وقد حدثتْ بعدَ الامور أمورُ(7/140)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
{وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بالعذابِ الشَّديدِ الذي أنذرهم إياه {مِن قَبْلُ} أي من قبلِ ذلك في أوانِ التَّكليفِ {وَيَقْذِفُونَ بالغيب} ويَرجمون بالظَّنِّ ويتكلَّمون بما لم يظهر لهم في حق الرسول صلى الله عليه وسلم من المطاعنِ أو في العذاب المذكورِ من بت القول بنفيه {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} من جهةٍ بعيدةٍ من حاله صلى الله عليه وسلم حيث ينسبونه صلى الله عليه وسلم إلى الشِّعرِ والسِّحرِ والكذب وإن ابعد شئ ممَّا جاءَ به الشِّعرُ والسحر وأبعد شئ من عادته المعروفة فيما بين الدَّاني والقاصِي الكذبُ ولعله تمثيلٌ لحالِهم في ذلك بحالِ مَن يرمي شيئاً لا يراهُ من مكانٍ بعيدٍ لا مجالَ للوهم في لحوقه وقرئ ويُقذفون على أنَّ الشَّيطانَ يلقي إليهم ويلقِّنهم ذلك وهو معطوفٌ على قد كفروا به على حكايةِ الحالِ الماضيةِ أو على قالُوا فيكون تمثيلاً لحالِهم بحال القاذفِ في تحصيل ما ضيِّعُوه من الإيمان في الدُّنيا(7/140)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يشتهون} من نفعِ الإيمانِ والنَّجاة من النار وقرئ بإشمامِ الضَّمِّ للحاء {كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ} أي بأشباهِهم من كفرةِ الأُمم الدَّارجة {إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ مُرِيبٍ} أي مُوقعٌ في الرِّيبةِ أو ذي ريبة والأوَّلُ منقولٌ ممَّن يصحُّ أن يكونَ مُريباً من الأعيانِ إلى المعنى والثاني من صاحبِ الشَّكِّ إلى الشَّكِّ كما يُقال شعرٌ شاعرٌ والله أعلم عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ سبأٍ لم يبقَ رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ كان له يومَ القيامة رفيقاً ومُصافحاً(7/140)
سورة فاطر 1
سورة فاطر مكية وهى خمس وأربعون آية
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}(7/141)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
{الحمد لله فاطر السماوات والارض} مبدِعهما من غيرِ مثالِ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيهِ من الفَطرِ وهو الشَّقُّ وقيل الشَّقُّ طولاً كأنَّه شقَّ العدمَ بإخراجِهما منه وإضافته محضة لأنَّه بمعنى الماضي فهو نعتٌ للاسمِ الجليلِ ومن جعلها غيرَ محضةٍ جعله بدلاً منه وهو قليلٌ في المشتقِّ {جَاعِلِ الملائكة} الكلامُ في إضافتِه وكونِه نعتاً أو بدلاً كما قبلَه وقوله تعالى {رُسُلاً} منصوبٌ به على الوجهِ الثَّانِي من الاضافة الاتفاق وأمَّا على الوجهِ الأولِ فكذلك عند الكِسائِّي وأمَّا عند البصريينَ فبمضمرٍ يدلُّ هو عليه لأنَّ اسمَ الفاعلِ إذا كان بمعنى الماضي لا يعملُ عندهم إلا معرَّفاً باللام وقال أبو سعيدٍ السِّيرافيُّ اسم الفاعلِ المتعدِّي إلى اثنينِ يعملُ في الثَّانِي لإنَّ بإضافتَه إلى الأوَّلِ تعذرتْ إضافتُه إلى الثَّانِي فتعيِّن نصبُه له وعلل بعضُهم ذلك بأنَّه بالإضافة أشبه المعرَّفِ باللامِ فعمِل عملَه وقرئ جاعلُ بالرَّفعِ على المدح وقرئ الذى فَطَرَ السموات والارض وَجَعَلَ الملائكة أي جاعلهم وسائطَ بينه تعالى وبين أنبيائِه والصَّالحينَ من عبادِه يبلِّغون إليهم رسالاتِه بالوحيِ والإلهامِ والرُّؤيا الصَّادقةِ أو بينه تعالى وبين خلقِه أيضاً حيثُ يوصِّلون إليهم آثارَ قدرتِه وصنعِه هذا على تقديرِ كونِ الجعلِ تصبيريا أمَّا على تقديرِ كونِه إبداعيَّاً فرُسلاً نُصب على الحالية وقرئ رُسْلاً بسكونِ السِّينِ {أُوْلِى أَجْنِحَةٍ} صفةً لرُسلاً وأولو اسمُ جمعٍ لذُو كما أن أولاء اسم لذا ونظيرُهما في الأسماءِ المتمكِّنة المخاضُ والخلفةُ وقوله تعالى {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} صفاتٌ لأجنحة أي ذَوي أجنحة متعدِّدةٍ مُتفاوتةٍ في العدد حسب تفاوتِ ما لَهُم من المتراتب ينزلون بها ويعرجُون أو يسرعون بها والمعنى أنَّ من الملائكة خَلْقاً لكلِّ واحد منهم جناحانِ وخَلْقاً اجنحة كل منهم ثلاثة وخَلْقاً آخر لكلِّ منهم أربعة أجنحة ويُروى أنَّ صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة بجناحين منها يُلقون أجسادَهم وبآخرينِ منها يطيرون فيما أُمروا به من جهتِه تعالى وجناحانِ منها مرخيَّانِ على وجوههم حياءً من الله عزَّ وجلَّ وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه رأى جبريلَ عليه السَّلامُ ليلةَ المعراجِ وله ستمائةُ جناح ورُوي أنَّه سألَه عليهما السَّلامُ أنْ يتراءى له في صورتِه فقال إنَّك لن تطيقَ ذلك قال إنِّي أحبُّ أنْ تفعل فخرج صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ مُقمرةٍ فأتاهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ في صورته فغشى عليه صلى الله عليه وسلم ثم أفاق وجبريل مسندُهُ وإحدى يديِه على صدرِه والأخرى بين كتفيِه فقال سبحانَ الله ما كنتُ أرى أنَّ شيئاً من الخلقِ هكذا فقال جبريلُ عليه السَّلامُ فكيف لو رأيت(7/141)
فاطر 2 3 إسرافيلَ له اثنا عشرَ جناحاً جناحٌ منها بالمشرقِ وجناحٌ منها بالمغربِ وإنَّ العرشَ على كاهلِه وإنَّه ليتضاءلُ الأحايينَ لعظمةِ الله عزَّ وجلَّ حتَّى يعودَ مثلَ الوَصَعِ وهو العصفورُ الصَّغيرُ {يَزِيدُ فِى الخلق ما يشاء} استثناف مقرِّرٌ لما قبله من تفاوتِ أحوالِ الملائكةِ في عددِ الأجنحةِ ومؤذنٌ بأنَّ ذلكَ من أحكامِ مشيئتِه تعالى لا لأمرٍ راجعٍ إلى ذَواتهم ببيان حكم كلِّي ناطق بأنَّه تعالى يزيدُ في أيِّ خلقٍ كان كلِّ ما يشاءُ أنْ يزيدَه بموجبِ مشيئتِه ومُقتضى حكمتِه من الأمورِ التي لا يحيطُ بَها الوصفُ وما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من تخصيص بعض المعاني بالذِّكرِ من الوجهِ الحسنِ والصَّوتِ الحسنِ والشَّعرِ الحسنِ فبيانٌ لبعضِ الموادِّ المعهودةِ بطريقِ التَّمثيلِ لا بطريقِ الحصرِ فيها وقولُه تعالى {إِنَّ الله على كل شَىْء قَدِيرٌ} تعليلٌ بطريقِ التَّحقيق للحُكمِ المذكورِ فإنَّ شمولِ قدرتِه تعالى لجميعِ الأشياءِ ممَّا يوجبُ قدرتَه تعالَى على أنَّ يزيدَ كلَّ ما يشاؤه إيجاباً بيِّناً(7/142)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
{مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} عبَّر عن إرسالِها بالفتحَ إيذاناً بأنَّها أنفسُ الخزائنِ التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ وأعزُّها منالاً وتنكيرُها للإشاعةِ والإبهام أيْ أي شئ يفتحُ اللَّهُ من خزائنِ رحمتِه أيَّة رحمةٍ كانتْ من نعمةٍ وصحَّةٍ وأمنٍ وعلمٍ وحكمةٍ إلى غيرِ ذلكَ ممَّا لا يُحاط به {فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} أي لا أحدَ يقدِر على إمساكِها {وَمَا يُمْسِكْ} أي أي شئ يُمْسِكْ {فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ} أي لا أحدَ يقدِر على إرسالِه واختلافُ الضَّميرينِ لما أنَّ مرجعَ الأوَّلِ مفسَّرٌ بالرَّحمةِ ومرجعَ الثَّانِي مطلقٌ يتناولُها وغيرَها كائناً ما كان وفيه إشعارٌ بأنَّ رحمتَه سبقتْ غَضبه {مِن بَعْدِهِ} أي من بعدِ إمساكِه {وَهُوَ العزيز} الغالبُ على كلِّ ما يشاءُ من الأمورِ التي من جُملتها الفتحُ والإمساك {الحكيم} الذي يفعلُ كلَّ ما يفعلُ حسبما تقتضيِه الحِكمةُ والمصلحةُ والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لما قبلها ومعربٌ عن كونِ كلَ من الفتحِ والإمساكِ بموجبِ الحكمةِ التي عليَها يدورُ أمرُ التَّكوينِ وبعد ما بيَّن سبحانَه أنَّه الموجدُ للملك والملكوتِ والمتصرِّفُ فيهما بالقبضِ والبسطِ من غيرِ أنْ يكون لأحد في ذلك دخلٌ ما بوجهٍ من الوجوهِ أمرَ النَّاس قاطبةً أو أهلَ مكَّةَ خاصَّةً بشكر نعمه فقال(7/142)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
{يا أيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} أي إنعامَه عليكم إنْ جُعلت النِّعمةُ مصدراً أو كائنةً عليكم إنْ جُعلت اسماً أي راعُوها واحفظُوها بمعرفةِ حقِّها والاعترافِ بها وتخصيصِ العبادةِ والطَّاعةِ بموليها ولمَّا كانتْ نعمُ الله تعالى مع تشعُّبِ فنونِها منحصرةً في نعمةِ الإيجادِ ونعمةِ الإبقاءِ نَفَى أنْ يكونَ في الوجودِ شئ غيرُه تعالى يصدرُ عنه إحدى النِّعمتينِ بطريقِ الاستفهامِ الإنكاريِّ المُنادِي باستحالةِ أنْ يُجاب عنه بنعَم فقال {هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله} أي هَلْ خالقٌ مغايرٌ له تعالى موجودٌ على أنَّ خالقٍ مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ زيدتْ عليه كلمة مِن لتأكيدِ العُمومِ وغيرِ الله نعتٌ له باعتبارِ محلِّه كما أنَّه نعتٌ له في قراءةِ الجر باعتبار لفظه وقرئ(7/142)
فاطر 4 5 بالنَّصبِ على الاستثناءِ وقوله تعالى {يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض} أي بالمطرِ والنَّباتِ كلامٌ مبتدأٌ على التَّقاديرِ لا محلَّ له من الإعراب داخل من حيِّز النَّفي والإنكار ولا مساغَ لما قيلَ من أنَّه صفةٌ أخرى لخالق مرفوعةُ المحلِّ أو مجرورتُه لأنَّ معناه نفي وجودِ خالقٍ موصوفٍ بوصفَيْ المغايرةِ والرَّازقيَّةِ معاً من غيرِ تعرضٍ لنفْي وجودِ ما اتَّصف بالمغايرةِ فَقَطْ ولا لما قيلَ من أنه الخبرُ للمبتدأِ ولا لما قيلَ من أنَّه مفسِّر لمضمرٍ ارتفع به قولُه تعالى مِنْ خالقٍ على الفاعلية أي هل يرزقكم من خالق الخ لما أنَّ معناهما نفي رازقيَّة خالقٍ مغايرٍ له تعالى من غيرِ تعرضٍ لنفيِ وجودِه رأساً مع أنَّه المرادُ حتماً ألا يُرى إلى قولِه تعالى {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} فإنَّه استئنافٌ مسوقٌ لتقرير النَّفيِ المستفادِ منه قصداً وجارٍ مجرى الجوابِ عمَّا يوهمه الاستفهامُ صورةً فحيث كان هذا ناطقاً بنفيِ الوجودِ تعيّنَ أنْ يكونَ ذلك أيضاً كذلك قطعاً والفاءُ في قوله تعالى {فأنى تُؤْفَكُونَ} لترتيبِ إنكارِ عدولهم عن التَّوحيدِ إلى الإشراكِ على ما قبلها كأنه قيل وإذا تبيَّن تفرُّده تعالى بالألوهية والخالقية والرازقية فمنْ أيِّ وجهٍ تُصرفون عن التَّوحيدِ إلى الشِّركِ وقوله تعالى(7/143)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
{وإن يكذبوك فقد كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين خطابي النَّاسِ مسارعةً الى تسليته صلى الله عليه وسلم بعمومِ البليَّةِ أولاً والإشارةِ إلى الوعدِ والوعيدِ ثانياً أيْ وإن استمرُّوا على أنْ يكذِّبوك فيما بلَّغتَ إليهم من الحقِّ المُبين بعد ما أقمتَ عليهم الحجَّةَ وألقمتَهم الحجرَ فتأسَّ بأولئك الرُّسلِ في المُصابرةَ على ما أصابهُم من قبل قومِهم فوضعَ موضعهَ ما ذُكر اكتفاءً بذكرِ السَّببِ عن ذكرِ المسبَّبِ وتنكيرُ الرُّسل للتَّفخيمِ الموجبِ لمزيدِ التَّسليةِ والتَّوجهِ إلى المُصابرةِ أي رسلٌ أولو شأنٍ خطير وذوو عدد كثيرٍ {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} لا إلى غيرِه فيُجازِي كَّلاً منك ومنُهم بما أنتُم عليهِ من الأحوالِ التي من جملتها صبرُك وتكذيبُهم وفي الاقتصارِ على ذكرِ اختصاصِ المرجعِ بالله تعالى مع إبهامِ الجزاءِ ثواباً وعقاباً من المبالغةِ في الوعدِ والوعيدِ ما لا يخفى وقرئ تَرْجعُ بفتحِ التَّاءِ من الرُّجوع والأولُ أدخلُ في التهويلِ(7/143)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
{يا أيها الناس} رجوعٌ إلى خطابِهم وتكريرُ النِّداءِ لتأكيدِ العظةِ والتَّذكير {إِنَّ وَعْدَ الله} المشارَ إليه برجعِ الأمورِ إليه تعالى من البعث والجزاء {حَقّ} ثابتٌ لا محالةَ من غيرِ خُلفٍ {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} بأنْ يُذهلكم التَّمتع بمتاعِها ويُلهيكم التَّلهي بزخارِفها عن تداركِ ما يهمكم يومَ حلولِ الميعادِ والمرادُ نهيُهم عن الاغترار بها وإنْ توجَّه النَّهيُ صورةً إليها كما في قوله تعالى لا يجر منكم شِقَاقِى {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله} وعفوِه وكرمه تعالى {الغرور} أي المبالغُ في الغُرور وهو الشَّيطانُ بأنْ يمنيكم المغفرةَ مع الإصرارِ على المعاصِي قائلاً اعملوا ما شئتُم أَنَّ الله غَفُورٌ يغفِرُ الذُّنوبَ جميعاً فإنَّ ذلكَ وإنْ أمكنَ لكنْ تعاطي الذّنوبِ بهذا التَّوقعِ من قبيلِ تناولِ السُّمِّ تعويلاً على دفعِ الطَّبيعةِ وتكريرُ فعلِ النَّهي للمبالغةِ فيه ولاختلافِ الغرورينِ في الكيفية وقرئ الغُرور بالضَّمِّ على أنَّه مصدرٌ أو جمعُ غَارٍ كقعود جمع قاعد(7/143)
فاطر(7/144)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
6 - 8 {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ} عداوةً قديمةً لا تكاد تزولُ وتقديمُ لكم للاهتمامِ به {فاتخذوه عَدُوّاً} بمخالفتِكم له في عقِائدِكم وأفعالِكم وكونِكم على حَذَرٍ منه في مجامعِ أحوالِكم وقولُه تعالى {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير} تقريرٌ لعداوتِه وتحذيرٌ من طاعتِه بالتَّنبيهِ على أنَّ غرضَه في دعوةِ شيعتِه إلى اتِّباعِ الهَوَى والركونِ إلى ملاذِّ الدُّنيا ليس تحصيلَ مطالبِهم ومنافِعهم الدُّنيويَّةِ كما هو مقصد المُتحابِّين في الدُّنيا عند سعي بعضِهم في حاجةِ بعضٍ بل هو توريطُهم وإلقاؤُهم في العذابِ المُخلَّد من حيثُ لا يحتسبون(7/144)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
{الذين كَفَرُواْ لَهُمْ} بسببِ كفرِهم وإجابتِهم لدعوةِ الشَّيطانِ واتِّباعِهم لخطواتِه {عَذَابٌ شَدِيدٍ} لا يقادَر قَدُره مديدٌ لا يُبلغ مداهُ {والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم} بسببِ ما ذُكر من الإيمانِ والعملِ الصالحِ الذي من جُملتِه عداوةُ الشِّيطانِ {مَغْفِرَةٌ} عظيمة {وأجر كبير} لاغاية لهما(7/144)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
{أَفَمَن زُين لَهُ سوءُ عَمَلِهِ فرآه حَسَناً} إمَّا تقريرٌ لما سبقَ من التَّبايُنِ البيِّنِ بين عاقبتيْ الفريقينِ ببيان تباين حاليهما المُؤدِّيينِ إلى تَينكِ العاقبتينِ والفاءُ لإنكارِ ترتيبِ ما بعدها على ما قبلها أي أبعدَ كونِ حاليهما كما ذُكر يكون من زُيِّن له الكفرُ من جهةِ الشَّيطانِ فانهمك فيه كمنْ استقبحَه واجتنَبه واختارَ الإيمانَ والعملَ الصَّالحَ حتَّى لا تكون عاقبتاهما كما ذُكر فحُذِفَ ما حُذف لدلالةِ ما سبق عليه وقولُه تعالى {فَإِنَّ الله يُضِلُّ} الخ تقريرٌ له وتحقيقٌ للحقِّ ببيانِ أنَّ الكُل بمشيئتِه تعالى أيْ فإنَّه تعالىَ يُضلُّ {مَن يَشَآء} أنْ يضلَّه لاستحسانه واستحبابِه الضَّلالَ وصرفِ اختيارِه إليه فيردَّه أسفلَ سافلينَ {وَيَهْدِى مَن يَشَآء} أنْ يهديَه بصرفِ اختيارِه إلى الهُدى فيرفعه إلى أعلى عليين وإمَّا تمهيدٌ لما يعقُبه من نهيه صلى الله عليه وسلم عن التَّحسرِ والتَّحزنِ عليهم لعدمِ إسلامِهم ببيانِ أنَّهم ليُسوا بأهلٍ لذلَك بلْ لأنْ يُضربَ عنهم صَفْحاً ولا يُبالي بهم قطعاً أي أبعدَ كونِ حالِهم كما ذُكر تتحسَّر عليهم فحُذف لما دلَّ عليه قولُه تعالى {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} دلالة بيِّنةٌ وإمَّا تمهيدٌ لصرفِه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من الحرصِ الشديدِ على إسلامِهم والمبالغةِ في دعوتِهم إليه ببيان استحالة تحولهم عن الكفرِ لكونِه في غايةِ الحسنِ عندهم أي أبعدَ ما ذُكر من زُيِّن له الكفرُ من قبل الشيطان فرآه فانهمك فيه يقبلُ الهدايةَ حتَّى تطمعَ في إسلامِه وتُتعبَ نفسَك في دعوتِه فحُذِفَ ما حُذف لدلالة ما مرَّ من قولِه تعالى فَإِنِ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء الخ على أنَّه ممن شاء الله تعالى أنْ يضلَّه فمن يهدى من أضل الله وَمَا لَهُم مِن ناصرين وقرئ فلا تُذهب نفسك وقولُه تعالى حسراتِ إمَّا مفعول له أي فلا(7/144)
فاطر 9 10 تهلك نفسك للحسرات والجمعُ للدِّلالةِ على تضاعفِ اغتمامِه صلى الله عليه وسلم على أحوالِهم أو على كثرةِ قبائحِ أعمالِهم الموجبةِ للتَّأسُّفِ والتَّحسرِ وعليهم صلةُ تذهب كما يقال هَلك عليه حبا ومات عليه حُزناً أو هو بيانٌ للمتحسَّر عليهِ ولا يجوزُ أنْ يتعلَّق بحسراتٍ لأنَّ المصدرَ لا تتقدَّمُ عليه صلتُه وإمَّا حالٌ كأن كلها صارت حسرات وقوله تعالى {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي من القبائحِ تعليلٌ لما قبله على الوجوهِ الثلاثةِ مع ما فيه فيه من الوعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّها نزلتْ في أبي جهلٍ ومُشركِي مكَّةَ(7/145)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
{والله الذى أَرْسَلَ الرياح} مبتدأ وخبر وقرئ الريح وصيغةُ المضارعِ في قوله تعالى {فَتُثِيرُ سحابا} لحكايةِ الحالِ الماضيةِ استحضاراً لعلك الصُّورةِ البديعةِ الدَّالَّةِ على كمال القدرةِ والحكمةِ ولأنَّ المرادَ بيانُ إحداثِها لتلك الخاصَّيةِ ولذلك أُسند إليها أو للدِّلالةِ على استمرارِ الإثارةِ {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ ميت} وقرئ بالتَّخفيفِ {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الارض} أي بالمطرِ النَّازلِ منه المدلولِ عليه بالسَّحابِ فإنَّ بينهما تلازماً في الذِّهنِ كما في الخارجِ أو بالسَّحابِ فإنَّه سببُ السَّببِ {بَعْدَ مَوْتِهَا} أي يُبسها وإيرادُ الفعلينِ على صيغةِ الماضِي للدَلالة على التحققِ وإسنادهما الى نون العظمة المنبئ عن اختصاصِهما به تعالى لما فيهما من مزيدِ الصُّنعِ ولتكميل المُماثلةِ بين إحياءِ الأرضِ وبين البعثِ الذي شُبِّه به بقوله تعالى {كَذَلِكَ النشور} في كمال الاختصاصِ بالقُدرةِ الرَّبانيةِ والكافُ في حيِّزِ الرفعِ على الخبرية أي مثلَ ذلك الإحياءِ الذي تشاهدونَه إحياءٌ الأمواتِ في صحَّة المقدوريَّةِ وسهولةِ التأتِّي من غيرِ تفاوتٍ بينَهما أصلاً سوى الألفِ في الأوَّلِ دُونَ الثَّانِي وقيل في كيفيَّةِ الإحياءِ يُرسل الله تعالى من تحت العرشِ ماءً فينبتُ منه أجسادُ الخلقِ(7/145)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
{مَن كَانَ يُرِيدُ العزة} هم المشركونَ الذينَ كانُوا يتعزَّزون بعبادةِ الأصنامِ كقولِه تعالى {واتخذوا مِن دُونِ الله آلهة لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً} والذين كانوا يتعزَّزون بهم من الذينَ آمنُوا بألسنتِهم كما في قوله تعالى {الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة} والجمعُ بين كانَ ويريد الدلالة على دَوام الإرادةِ واستمرارِها {فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً} أي له تعالى وحَدهُ لا لغيرِه عزَّةُ الدُّنيا وعزَّةُ الآخرةِ أي فليطلبها منْهُ لا من غيرِه فاستُغني عن ذكرِه بذكرِ دليلِه إيذاناً بأنَّ اختصاصَ العزَّةِ به تعالى موجبٌ لتخصيصِ طلبها به تعالى وقوله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} بيان لما يُطلب به العزَّةُ وهو التَّوحيدُ والعملُ الصَّالحُ وصعودُهما إليه مجازٌ عن قبولِه تعالى إيَّاهُما أو صعودُ الكَتَبةِ بصحيفتهما وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عبارةٌ عن كمالِ الاعتدادِ به كقولِه تعالى وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات أي إليه يصلُ الكلمُ الطَّيبُ الذي به يُطلب العزَّةَ لا إلى الملائكةِ الموكَّلين بأعمال العبادِ فَقطَ وهو يعزُّ صاحَبهُ ويعطى طلبته بالذات(7/145)
فاطر 11 والمستكّنُّ في يرفعه للكلم فإنَّ مدارَ قبولِ العملِ هو التَّوحيدُ ويُؤيده القراءةُ بنصب العمل أو العمل فإنَّه يحققُ الإيمانَ ويقويه ولا يُنال الدَّرجاتُ العاليةُ إلا به وقرئ يُصعد من الإصعادِ على البناءين والمُصعدُ هو الله سبحانَه أو المتكلِّم به أو الملكُ وقيل الكلمُ الطَّيبُ يتناول الذِّكرَ والدُّعاءَ والاستغفارَ وقراءةَ القُرآن وعنه صلى الله عليه وسلم انه سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبرُ إذَا قالَها العبدُ عرجَ بها الملكُ إلى السَّماءِ فحيا بها وجَه الرحمن فإذا لم يكُن عمل صالحا لم تُقبل وعن ابن مسعود رضي الله عنه ما من عبدٍ مسلمٍ يقول خمس كلمات سبحان والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله إلا أخذهنَّ ملكٌ فجعلهنَّ تحتَ جناحِه ثم صعدَ بهنَّ فما يمرُّ بهنَّ على جمعٍ من الملائكةِ إلا استغفرُوا لقائلهنَّ حتَّى يحيى بهنَّ وجَه ربِّ العالمين ومصداقُه قوله عزَّ وجلَّ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب الخ {والذين يَمْكُرُونَ السيئات} بيانٌ لحال الكَلِمِ الخَبيثِ والعملِ السيء وأهلِهما بعد بيانِ حالِ الكلم الطيب والعمل الصالح وانتِّصابُ السَّيئاتِ على أنَّها صفةٌ للمصدرِ المحذوفِ أي يمكرون المكَرَاتِ السَّيئاتِ وهي مكرات قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم في دارِ النَّدوةِ وتداورِهم الرَّأيِ في إحدى الثَّلاثِ التي هي الإثباتُ والقتلُ والإخراجُ {لَهُمْ} بسببَ مكراتِهم {عذاب شَدِيدٍ} لا يقادَر قَدرُه ولا يُؤبه عندَهُ لمَا يمكرونَ {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ} وضعَ اسمِ الإشارةِ موضعَ ضميرِهم للإيذانِ بكمالِ تميُّزهم بما هُم فيه من الشَّرِّ والفسادِ عن سائرِ المُفسدينَ واشتهارِهم بذلك وما فيه من معنى البعد للتنبيه على تَرامي أمرهِم في الطُّغيانِ وبُعد منزلِتهم في العُدوانِ أي ومكرُ أولئكَ المُفسدين الذينَ أرادُوا ان يمكروا به صلى الله عليه وسلم {هُوَ يَبُورُ} أي هو يهلكُ ويفسدُ خاصَّةً لا مَن مكرُوا بهِ ولقد أبارَهُم الله تعالى بعد إبارةِ مكراتِهم حيثُ أخرجَهم من مكَّةَ وقتلَهم وأثبتَهم في قَليبِ بدرٍ فجمعَ عليهم مكراتِهم الثَّلاثَ التي اكتفوا في حقه صلى الله عليه وسلم بواحدةٍ منهن(7/146)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
{والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} دليلٌ آخرُ على صحَّةِ البعثِ والنُّشورِ أي خلقكم ابتداءً منه في ضمنِ خلق آدمَ عليه السلام خلقاً إجماليَّاً كما مرَّ في تحقيقُه مراراً {ثُمَّ مِن نطفة} أي ثم خلقكم منها خلقاً تفصيلياً {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا} أي أصنافاً أو ذُكراناً وإناثاً وعن قَتادةَ جعل بعضَكم زَوْجاً لبعضٍ {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} إلا ملتبسةً بعلمِه تابعةً لمشيئتِه {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} أي من أحدٍ وإنما سُمِّي معمَّراً باعتبارِ مصيرِه أي وما يُمدُّ في عمرِ أحدٍ {وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أي من عمرِ أحدٍ على طريقةِ قولِهم لا يُثيب الله عبداً ولا يُعاقبه إلا بحقَ لكنْ لاعلى معنى لا يُنقص عمره بعد كونه زائدا بل على معنى لا يُجعل من الابتداءِ ناقصاً وقيل الزِّيادةُ والنَّقصُ في عمرٍ واحدٍ باعتبارِ أسبابِ مختلفةٍ أُثبتتْ في اللَّوحِ مثلِ أنْ يكتبَ فيه إنْ حجَّ فلانٌ فعمرُه ستُّونَ وإلا فأربعونَ وإليه أشارَ صلى الله عليه وسلم بقولِه الصَّدقة والصِّلةُ تُعمِّرانِ الدِّيارَ وتزيدانِ في الأعمارِ وقيلَ المرادُ بالنَّقصِ ما يمرُّ من عمرِه وينقصُ فإنَّه يكتب في الصَّحيفةِ عمرُه كذا وكذا سنة ثم يُكتب تحتَ ذلك ذهبَ يومٌ ذهبَ يومانِ وهكذا حتَّى يأتي على آخره وقرئ ولا ينقص عل البناءِ للفاعلِ ومن عُمْره(7/146)
فاطر 12 13 بسكونِ الميمِ {إِلاَّ فِى كتاب} عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه اللَّوحُ وقيل عِلمُ الله عزَّ وجلَّ وقيل صحيفةُ كلِّ إنسانٍ {إِنَّ ذلك} أي ما ذكر من الخلقِ وما بعدَهُ مع كونِه محاراً للعقولِ والأفهامِ {عَلَى الله يَسِيرٌ} لاستغنائِه عن الأسبابِ فكذلك البعثُ(7/147)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
{وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} مَثلٌ ضُرب للمؤمنِ والكافرِ والفُراتُ الذي يكسرُ العطشَ والسَّائغُ الذي يَسهلُ انحدارُه لعذوبتِه والأُجاج الذي يحرق بملوحته وقرئ سيِّغ كَسيِّد وسَيْغٌ بالتَّخفيفِ ومَلِح ككَتِفٍ وقوله تعالى {وَمِن كُلّ} أي من كلِّ واحدٍ منهما {تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ} أي من المالحِ خاصَّةً {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} إمَّا استطرادٌ في صفةِ البحرينِ وما فيهما من النِّعمِ والمنافعِ وإمَّا تكملةٌ للتَّمثيلِ والمعنى كما أنَّهما وإن اشتركا في بعضِ الفوائدِ لا يتساويانِ من حيثُ أنَّهما متفاوتانِ فيما هو المقصودُ بالذَّاتِ من الماءِ لمَّا خالطَ أحدهما ما أفسدَه وغيَّره عن كمال فطرته لا يساوي الكافرُ المؤمنَ وإنْ شاركه في بعض الصِّفاتِ كالشَّجاعةِ والسَّخاوةِ ونحوهما لتباينهما فيما هو الخاصيَّةُ العُظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصليَّةِ وحيازتِه لكماله اللائقِ دون الآخر أو تفضيلٌ للأُجاجِ على الكافرِ من حيثُ أنَّه يشارك العذبَ في منافعَ كثيرةٍ والكافرُ خِلْوٌ من المنافعِ بالكُلِّية على طريقة قوله تعالى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله والمرادُ بالحلية اللؤلؤُ والمرجانُ {وَتَرَى الفلك فِيهِ} أي في كلَ منهما وإفرادُ ضميرِ الخطابِ مع جمعِه فيما سبقَ وما لحقَ لان الخطاب الكل حد تتأتَّى منه الرُّؤيةُ دونَ المنتفعينَ بالبحرينِ فَقَطْ {مَوَاخِرَ} شواقَّ للماءِ بجريها مقبلةً ومدبرةً بريحٍ واحدةٍ {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} من فضلِ الله تعالى بالنقلة فيها واللام متعلِّقة بمواخرَ وقد جُوِّز تعلُّقها بما يدلُّ عليه الأفعالُ المذكورةُ أي فعلَ ذلك لتبتغُوا مِن فَضْلِهِ {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولتشكُروا على ذلك وحرفُ التَّرجِّي للإيذانِ بكونِه مرضياً عند الله تعالى(7/147)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
{يولج الليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار في الليل} بزيادةِ أحدِهما ونقصِ الآخرِ بإضافةِ بعضِ أجزاءِ كلٌّ منهما إلى الآخَر {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} عطفٌ على يُولج واختلافُهما صيغةً لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجددٌ حيناً فحيناً وأمَّا تسخِّيرُ النيرِّينِ فأمر لا تعدد فيه وإنَّما المتعددُ والمتجددُ آثارُه وقد أُشير إليهِ بقولِه تعالى {كُلٌّ يَجْرِى} أي بحسبِ حركتِه الخاصَّةِ وحركتِه القسرية على المدارات اليومية المُتعدِّدةِ حسب تعدُّدِ أيَّام السَّنةِ جَرياناً مستمرَّاً {لاِجَلٍ مسمى}(7/147)
فاطر 14 17 قدَّره الله تعالى لجريانهما وهو يوم القيامة كما رُوي عن الحسن رحمه الله وقيل جريانُهما عبارةٌ عن حركتيهما الخاصَّتينِ بهما في فلكيهما والأجلُ المُسمَّى هو منتهى دورتيهما ومدَّةُ الجريانِ للشمس سنة والقمر شهرٌ وقد مرَّ تفصيلُه في سُورة لقمانُ {ذلكم} إشارةٌ إلى فاعلِ الأفاعيلِ المذكورة وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية العظمةِ وهو مبتدأٌ وما بعدَه أخبارٌ مترادفةٌ أي ذلكم العظيمُ الشأنِ الذي أبدعَ هذه الصَّنائعَ البديعةَ {الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك} وفيه من الدلالة على أنَّ إبداعَه تعالى لتلك البدائعِ ممَّا يُوجبُ ثبوتَ تلك الاخبار له مالا يخفى ويجوزُ أنْ يكونَ الأخيرُ كلاماً مُبتدأً في مقابلةِ قوله تعالى {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يملكون من قطمير} الدلالة على تفرُّدِه تعالى بالأُلوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ وقُرىء يَدعُون بالياءِ التحتانيةِ والقطميرُ لفافةُ النَّواةِ وهو مثلٌ في القِلة والحقارةِ(7/148)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
{إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ} استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله كاشفٌ عن جليةِ حالِ ما يدعونَه بأنَّه جمادٌ ليس من شأنِه السَّماعُ {وَلَوْ سَمِعُواْ} على الفرضِ والتَّقديرِ {مَا استجابوا لَكُمْ} لعجزِهم عن الأفعالِ بالمرَّةِ لا لما قيلَ من أنَّهم متبرِّئون منكم وممَّا تدعُون لهم فإن ذلك مما لا يُتصور منهم في الدُّنيا {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي يجحدونَ بإشراكِكم لهم وعبادتِكم إيَّاهم بقولِهم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ {وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي لا يخبرك بالأمرِ مخبرٌ مثلُ خبيرٍ أخبرَك به وهو الحقُّ سبحانَه فإنَّه الخبيرُ بكُنهِ الأمورِ دُون سَائرِ المخبرين والمرادُ تحقيقُ ما أخبر به من حالِ آلهتِهم ونفيُ ما يدَّعُون لهم من الإلهيةِ(7/148)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
{يا أيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله} في أنفسِكم وفيما يعن لكم من امرمهم او خطب علم وتعريفُ الفقراءِ للمبالغةِ في فقرِهم كأنَّهم لكثرةِ افتقارِهم وشدَّةِ احتياجِهم هم الفقراءُ فحسب وأنَّ افتقارَ سائرِ الخلائقِ بالنسبةِ إلى فقرِهم بمنزلة العدمِ ولذلك قال تعالى وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً {والله هُوَ الغنى الْحَمِيدُ} أي المستغنِي على الإطلاقِ المنعمُ على سائرِ الموجوداتِ المستوجبُ للحمدِ(7/148)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16)
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} ليسُوا على صفتِكم بل مستمرُّون على الطَّاعةِ أو بعالمٍ آخرَ غيرِ ما تعرفونَهُ(7/148)
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
{وَمَا ذلك} أي ما ذُكر من الإذهابِ بهم والإتيانِ بآخرينَ {عَلَى الله بِعَزِيزٍ} بمتعذرٍ ولا متعسرٍ(7/148)
فاطر 18 22(7/149)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ} أي لا تحملٌ نفسٌ آثمةٌ {وِزْرَ أخرى} إثمَ نفسٍ أُخرى بل إنَّما تحملُ كلٌّ منهما وزرها وأماما في قولِه تعالى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ من حملِ المضلِّين أثقالاً غيرَ أثقالِهم فهو حملُ أثقالِ إضلالِهم مع أثقالِ ضلالِهم وكلاهما أوزارُهم ليس فيها من أوزارِ غيرِهم شئ {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} أي نفسٌ أثقلَها الأوزارُ {إلى حِمْلِهَا} لحملِ بعضِ أوزارِها {لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء} لم تجب بحمل شئ منه {وَلَوْ كَانَ} أي المدعُو المفهوم من الدَّعوةِ {ذَا قربى} ذا قرابةٍ من الداعى وقرئ ذُو قُربى وهذا نفيٌ للحملِ اختياراً والأوَّلُ نفيٌ له جبارا {إِنَّمَا تُنذِرُ} استئنافٌ مسوق لبيان من يتَّعظُ بما ذُكر أي إنَّما تنذر بهذه الإنذاراتِ {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} أي يخشَونَه تعالى غائبينَ عن عذابِه أو عن النَّاسِ في خلواتِهم أو يخشَون عذابَه وهو غائبٌ عنهم {وَأَقَامُوا الصلاة} أي راعَوها كما ينبغي وجعلوها مَنَاراً منصوباً وعَلَماً مرفُوعاً أي إنما ينفعُ إنذارُك وتحذيرُك هؤلاءِ من قومِك دُون مَنْ عداهُم منْ أهل التَّمرد والعناد {ومن تزكى} أن تطهرَ من أوضار الأوزارِ والمعاصِي بالتَّاثرِ من هذهِ الإنذاراتِ {فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} لاقتصارِ نفعِه عليها كما أنَّ مَن تدنَّس بها لا يتدنَّس إلا عليها وقرئ من ازكَّى فإنَّما يزكَّى وهو اعتراضٌ مقررٌ لخشيتهم وإقامِتهم الصَّلاةَ لأنَّها من معظمِ مبادِي التزكِّي {وإلى الله المصير} لا إلى أحدٍ غيرِه استقلالاً أو اشتراكاً فيجازيهم على تزكِّيهم أحسنَ الجزاء(7/149)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19)
{وما يستوى الاعمى والبصير} أي الكافرُ والمؤمنُ(7/149)
وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)
{وَلاَ الظلمات وَلاَ النور} أي ولا الباطلُ ولا الحقُّ وجمع الظلمات مع أفرادِ النُّورِ لتعدُّدِ فنونِ الباطلِ واتِّحاد الحقِّ(7/149)
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)
{وَلاَ الظل وَلاَ الحرور} أي ولا الثَّوابُ ولا العقاب وإدخال لاعلى المتقابلينِ لتذكيرِ نفيِ الاستواءِ وتوسيطها بينهما للتأكيد والحرور فَعولٌ من الحرِّ غلب على السَّمومِ وقيل السَّمومُ ما يهبُّ نهاراً والحَرورُ ما يهبُّ ليلاً(7/149)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
{وَمَا يَسْتَوِى الاحياء وَلاَ الاموات} تمثيلٌ آخرُ للمؤمنينَ والكافرين(7/149)
فاطر 23 27 أبلغُ من الأوَّلِ ولذلك كُرِّر الفعلُ وأُوثر صيغةُ الجمعِ في الطَّرفينِ تحقيقاً للتَّباينَ بين أفرادِ الفريقينِ وقيل تمثيلٌ للعُلماءِ والجَهَلةِ {إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء} أنْ يُسمَعه ويوفِّقه لفهم آياتِه والاتَّعاظِ بعظاتِه {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور} ترشيحٌ لتمثيل المصرِّينَ على الكُفرِ بالأمواتِ وإشباع في إقناطه صلى الله عليه وسلم من إيمانِهم(7/150)
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
{إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} ما عليكَ إلا الإنذارُ وأمَّا الإسماعُ البتةَ فليس من وظائفك ولا حيلة لك إليه في المطبوعِ على قلوبهم(7/150)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
{إِنَّا أرسلناك بالحق} أي محقَّين أو محقّاً أنتَ أو إرسالاً مصحُوباً بالحقِّ ويجوز أن يتعلق بقوله {بَشِيراً وَنَذِيراً} أي بشيراً بالوعدِ الحقِّ ونذيراً بالوعيدِ الحقِّ {وَإِن مّنْ أُمَّةٍ} أي ما مِنْ أُمَّةٍ من الأممِ الدَّارجةِ في الأزمنةِ الماضيةِ {إِلاَّ خَلاَ} أي مَضَى {فِيهَا نَذِيرٌ} من نبيَ أو عالمٍ يُنذرهم والاكتفاءُ بذكرهِ للعلمِ بأنَّ النَّذارةَ قرينةُ البشارةِ لا سيِّما وقد اقترنا آنِفاً ولأنَّ الإنذارَ هو الأنسبُ بالمقَامِ(7/150)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25)
{وَإِن يُكَذّبُوكَ} أي تموا على تكذيبكَ فلا تُبالِ بهم وبتكذيِبهم {فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم} من الأممِ العاتيةِ {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي المعجزاتِ الظاهرةِ الدالةِ على نُبوُّتهم {وبالزبر} كصُحفِ إبراهيمَ {وبالكتاب المنير} كالتوراة والإنجيلِ والزَّبورِ على إرادةِ التفصيل دون الجمع ويجوز أنْ يُرادَ بهما واحدٌ والعطفُ لتغايرِ العُنوانينِ(7/150)
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
{ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ} وضعَ الموصولُ موضعَ ضميرِهم لذمِّهم بما في حيز الصَّلةِ والإشعارِ بعلَّةِ الأخذِ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكارِي بالعقوبة وفيه مزيدُ تشديدٍ وتهويلٍ لها(7/150)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
{أَلَمْ تَرَ} استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من اختلافِ أحوالِ النَّاسِ ببيان أنَّ الاختلافَ والتَّفاوتَ أمرٌ مطردٌ في جميعِ المخلوقات من النَّباتِ والجمادِ والحيوانِ والرؤيةُ قلبيةٌ أيْ ألم تعلمَ {أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بذلك الماءِ والالتفات لإظهارِ كمال الاعتناءِ بالفعلِ لما فيه من الصُّنعِ البديع المنبئ عن كمالِ القُدرةِ والحكمةِ {ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} أي أجناسُها أو أصنافُها على أنَّ كلاًّ منها ذُو أصناف مختلفة أو هيآتها وأشكالُها أو ألوانُها من الصفرة والخضرة والحُمرةِ وغيرِها وهو الأوفقُ لما في قوله تعالى {ومن الجبال جُدَدٌ} أي ذو جدد أي خططٍ وطرائقَ ويقالُ جدة الحمارِ للخطةِ السَّوداءِ(7/150)
فاطر 28 29 على ظهره وقرئ جُدُد بالضَّمِّ جمع جديدةٍ بمعنى الجدة وجَدَد بفتحتينِ وهو الطَّريقُ الواضحُ {بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها} بالشِّدةِ والضَّعفِ {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} عطفٌ على بيضٌ أو على جدُد كأنَّه قيل ومن الجبالِ مُخطَّطٌ ذو جُددٍ ومنها ما هو على لونٍ واحدٍ غرابيبَ وهو تأكيد لمضمر يفسِّره ما بعدِه فإنَّ الغربيبَ تأكيدٌ للأسواد كالفاقعِ للأصفرِ والقانِي للأحمرِ ومن حقِّ التَّأكيدِ أنْ يتبعَ المؤكَّدَ ونظيرُه في الصِّفةِ قولُ النَّابغةِ والمؤمنِ العائذاتِ الطَّيرَ يمسحُها وفي مثلهِ مزيدٌ تأكيدٍ لما فيه من التَّكرارِ باعتبار الإضمارِ والإظهارِ(7/151)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
{وَمِنَ الناس والدواب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه} أي ومنهم بعضٌ مختلفٌ ألوانُه أو وبعضُهم مختلفٌ ألوانُه على ما مرَّ في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمنا بالله وإيراد الجملتينِ اسميتين مع مشاركتِهما لما قبلَهُما من الجملةِ الفعليةِ في الاستشهادِ بمضمونِهما على تباينِ النَّاسِ في الأحوالِ الباطنةِ لما أنَّ اختلافَ الجبالِ والنَّاسِ والدَّوابِّ والأنعامِ فيما ذُكر من الألوانِ أمرٌ مستمرٌ فعبَّر عنه بما يدلُّ على الاستمرارِ وأمَّا إخراجُ الثَّمراتِ المختلفةِ فحيثُ كان أمراً حادثاً عبَّر عنه بما يدلُّ على الحدوثِ ثم لما كان فيه نوعُ خفاءً علَّق به الرُّؤية بطريقِ الاستفهامِ التقريري المنبئ عن الحمل عليها والتَّرغيبِ فيها بخلافِ أحوالِ الجبالِ والنَّاسِ وغيرِهما فإنَّها مُشاهدَة غنيَّةٌ عن التأمُّلِ فلذلك جُرِّدتْ عن التَّعليقِ بالرُّؤيةِ فتدبر وقوله تعالى {كذلك} مصدرٌ تشبيهيٌّ لقوله تعالى مختلفٌ أي صفة لمصدره المؤكِّد تقديرُه مختلفٌ اختلافاً كائناً كذلك أي كاختلاف الثمار والجبال وقرئ الوانا وقرئ والدَّوابَ بالتَّخفيفِ مبالغةً في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ وقوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} تكملة لقوله تعالى إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب بتعيين من يخشاه عزَّ وجلَّ من النَّاس بعد بيانِ اختلافِ طبقاتِهم وتباينِ مراتبِهم أمَّا في الأوصافِ المعنويَّةِ فبطريقِ التَّمثيلِ وأما في الأوصافِ الصُّوريةِ فبطريقِ التَّصريحِ توفية لكلَّ واحدةٍ منهما حقَّها اللائقَ بها من البيانِ أي إنَّما يخشاه تعالى بالغيب العالمون به عزَّ وجلَّ وبما يليق به من صفاتِه الجليلةِ وأفعالِه الجميلةِ لما أنَّ مدارَ الخشية معرفة المخشى والعلم بشئونه فمن كان أعلم به تعالى كانَ أخشى منه عزَّ وجلَّ كما قال صلى الله عليه وسلم أنا أخشاكُم لله وأتقاكُم له ولذلك عقَّب بذكرِ أفعالِه الدالةَ على كمالِ قدرتِه وحيث كان الكَفَرةُ بمعزلٍ من هذه المعرفةِ امتنع إنذارُهم بالكلِّية وتقديمُ المفعولِ لأن المقصودَ حصرُ الفاعليَّةِ ولو أُخِّر انعكسَ الأمر وقرئ برفع الاسم الجليلة ونصبِ العلماءِ على أنَّ الخشية مستعارةٌ للتَّعظيمِ فإنَّ المعظَّم يكونُ مهيباً {إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليل لوجوبِ الخشيةِ لدلالتهِ على أنَّه معاقبٌ للمصرِّ على طغيانِه غفورٌ للتائب عن عصيانِه(7/151)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
{إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله} أي يداومُون على قراءته أو متابعةِ ما فيه حتى(7/151)
فاطر 30 32 صارتْ سمةً لهم وعُنواناً والمرادُ بكتابِ الله تعالى القُرآنُ وقيلَ جنسُ كتبِ الله فيكون ثناءً على المصدِّقين من الأممِ بعد اقتصاصِ حالِ المكذِّبين منهم وليسَ بذاك فإنَّ صيغةَ المضارعِ مناديةٌ باستمرارِ مشروعيةِ تلاوتِه والعملِ بما فيه واستتباعِهما لما سيأتي من توفيةِ الأجورِ وزيادةِ الفضلِ وحملُها على حكايةِ الحالِ الماضيةِ مع كونِه تعسُّفاً ظاهرا مما لا سبيل إليه كيفَ لا والمقصودُ الترغيبُ في دينِ الإسلامِ والعملُ بالقُرآن النَّاسخِ لما بين يديهِ من الكتبِ فالتَّعرضُ لبيان حقيقتها قبل انتساخِها والإشباعُ في ذكرِ استتباعها لما ذُكر من الفوائدِ العظيمةِ مَّما يُورث الرَّغبةَ في تلاوتِها والإقبالِ على العملِ بها وتخصيصُ التِّلاوةِ بما لم ينسخ منها باطلٌ قطعاً لما أنَّ الباقي مشروعاً ليس إلا حكمها لكنْ لا من حيث أنه حكَّمها بل من حيثُ انه حكّم القرآنَ وأما تلاوتُها فبمعزلٍ من المشروعيَّةِ واستتباع الأجر بالمرَّة فتدبر {وَأَقَامُواْ الصلاة وأنفقوا من ما رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيةً} كيفما اتَّفق من غيرِ قصدٍ إليهما وقيل السِّرُّ في المسنونةِ والعلانيةُ في المفروضةِ {يَرْجُونَ تجارة} تحصيلَ ثوابٍ الطاعة وهو خبرُ إنَّ وقوله تعالى {لَّن تَبُورَ} أي لن تكسد ولن تهك بالخسرانِ أصلاً صفةٌ لتجارةَ جيء بها للدِّلالةِ على أنَّها ليستْ كسائرِ التِّجاراتِ الدَّائرةِ بين الرِّبحِ والخُسرانِ لأنَّه اشتراءُ باقٍ بفانٍ والإخبارُ برجائِهم من أكرمِ الأكرمينَ عِدَةٌ قطعيةٌ بحصولِ مرجوِّهم وقولُه تعالى(7/152)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
{لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} متعلقٌ بلَنْ تبورَ على معنى أنَّه ينتفي عنها الكسادُ وتنفُق عند الله تعالى ليوفيَهم أجورَ أعمالِهم {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} على ذلك من خزائنِ رحمتِه ما يشاءُ وقيل بمضمرٍ دلَّ عليه ما عُدَّ من أفعالهم المرضيَّةِ أي فعلُوا ذلك ليوفيَهم إلخ وقيل بيرجُون على أن اللامَ للعاقبةِ {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} تعليلٌ لما قبلَه من التَّوفيةِ والزِّيادةِ أي غفورٌ لفرطاتِهم شكورٌ لطاعاتِهم أي مجازيهم عليها وقيل هُو خبرُ إنَّ الذينَ ويرجُون حالٌ من واوِ أنفقُوا(7/152)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
{والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} وهو القرآنُ ومِن للتَّبيين أو الجنسِ ومن للتَّبعيضِ وقيل اللَّوحَ ومِن للابتداءِ {هُوَ الحق مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي أُحِقُّه مصدِّقاً لّمَا تقدَّمه من الكتبِ السَّماويةِ حالٌ مؤكِّدة لأنَّ حقِّيتَه تستلزمُ موافقتَه إيَّاهُ في العقائدِ وأصولِ الأحكامِ {إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} محيطٌ ببواطنِ أمورِهم وظواهرِها فلو كانَ في أحوالِك ما ينافي النُّبوة لم يُوحِ إليك مثلُ هذا الحقَّ المعجزِ الذي هو عيارٌ على سائرِ الكتبِ وتقديمُ الخبيرِ للتَّنبيه على أنَّ العمدةَ هي الأمورُ الرُّوحانيَّةُ(7/152)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} أي قضينا بتوريثةِ منك أو نورِّثه والتَّعبيرُ عنه بالماضِي لتقرره(7/152)
فاطر 33 34 وتحققه وقيل أورثناهُ من الأممِ السَّالفةِ أي أخَّرناه عنهم وأعطيناهُ {الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} وهم علماءُ الأمةِ من الصَّحابةِ ومن بعدهم ممَّن يسيرُ سيرتَهم أو الأمة بأسرِهم فإنَّ الله تعالى اصطفاهم على سائرِ الأممِ وجعلهم أمةً وسطاً ليكونُوا شهداءَ على النَّاسِ واختصَّهم بكرامةِ الانتماءِ إلى أفضلِ رسله عليهم الصلاة والسلام وليس من ضرورةِ وراثةِ الكتابِ مراعاتُه حقَّ رعايتِه لقوله تعالى فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب الآيةَ {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} بالتقصير في العمل به وهو المرجأُ لأمرِ الله {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} يعملُ به في أغلبِ الأوقاتِ ولا يخلُو من خلط السَّيءِ {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} قيل هم السّابقونَ الأوَّلُون من المهاجرينَ والأنصارِ وقيل هم المُداومون على إقامةِ مواجبهِ علماً وعملاً وتعليماً وفي قوله بِإِذْنِ الله أي بتيسيره وتوفيقِه تنبيةٌ على عزَّةِ منال هذه الرتبة وصعوبةِ مأخذِها وقيل الظَّالمُ الجاهلُ والمقتصدُ المتعلِّم والسَّابقُ العالمُ وقيل الظالمُ المجرمُ والمقتصدُ الذي خلطَ الصَّالحَ بالسَّيءِ والسَّابقُ الذي ترَّجحتْ حسناته بحيثُ صارتْ سيِّئاتُه مكفَّرةً وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا الذين سَبَقُواْ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَأَمَّا المقتصد فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون فى طول المحشر ثم يتلقاهم الله تعالى برحمته وقد رُوي أن عمر رضي الله عنه قال وهو على المنبرِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقُنا سابقٌ ومقتصدُنا ناجٍ وظالمُنا مغفورٌ له {ذلك} إشارةٌ إلى السَّبقِ بالخيراتِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلته في الشَّرفِ {هُوَ الفضل الكبير} من الله عز وجل لا يُنال إلا بتوفيقِه تعالى(7/153)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
{جنات عَدْنٍ} إمَّا بدلٌ من الفضلُ الكبيرُ بتنزيلِ السَّببِ منزلةَ المسَّببِ أو مبتدأٌ خبرُه {يَدْخُلُونَهَا} وعلى الأوَّلِ هو مستأنفٌ وجمعُ الضَّميرِ لأنَّ المرادَ بالسَّابقِ الجنسُ وتخصيصُ حالِ السَّابقينَ ومآلِهم بالذِّكرِ والسُّكوتُ عن الفريقينِ الآخرينِ وإنْ لم يدلَّ على حرمانِهما من دخولِ الجنةِ مُطلقاً لكنَّ فيه تحذيراً لهما من التَّقصيرِ وتحريضاً على السَّعيِ في إدراكِ شأوِ السَّابقينَ وقُرىء جنَّاتِ عدنٍ وجَّنةَ عدنٍ على النَّصبِ بفعلٍ يفسِّره الظَّاهرُ وقُرىء يُدخَلُونها على البناءِ للمفعولِ {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} خبرٌ ثانٍ أو حالٌ مقدرةٌ وقُرىء يحلُون من حَلِيتْ المرأةُ فهي حاليةٌ {مِنْ أَسَاوِرَ} هيَ جمع أسورة جمع سوار {من ذهب} من الأولى تبعيضيَّةٌ والثَّانيةُ بيانيَّةٌ أي يُحلَّون بعضَ أساورَ من ذهبٍ كأنَّه أفضلُ من سائرِ أفرادِها {وَلُؤْلُؤاً} بالنَّصبِ عطفاً عَلى محلِّ منْ أساورَ وقُرىء بالجرِّ عطفا على ذهبٍ أي من ذهبٍ مرصعٍ باللُّؤلؤِ أو من ذهبٍ في صفاءِ اللُّؤلؤِ {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} وتغيير الاسلوب قد مر في سورةِ الحجِّ(7/153)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
{وَقَالُواْ} أي يقولون وصيغةَ الماضِي للدلالةِ على التحقق {الحمد لله الذي أذهب عَنَّا الحزن} وهو ما أهمَّهم من خوفِ سوءِ العاقبةِ وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما حَزَنُ الأعراضِ والآفاتُ وعنه حَزَنُ الموتِ وعن الضَّحَّاكِ لحزن وسوسةِ إبليسَ وقيل همُّ المعاش وقيل حزن(7/153)
فاطر 35 37 زوالِ النِّعمِ والظَّاهرُ أنَّه الجنسُ المنتظمُ لجميعِ أحزانِ الدِّينِ والدُّنيا وقُرىء الحُزْنَ وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسَ على أهلِ لا إله إلا الله وحشةٌ في قبورِهم ولا في محشرِهم ولا في مسيرِهم وكأنِّي بأهل لا إله إلا الله يخرجُون من قبورِهم ينفضُون التُّرابَ عن وجوهِهم ويقولُون الحمدُ لله الذي أذهب عنا الحزن {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ} أي للمذنبينَ {شَكُورٌ} للمطيعينَ(7/154)
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
{الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة} أي دارَ الإقامةِ التي لا انتقالَ عنها أبداً {مِن فَضْلِهِ} من إنعامِه وتفضُّلِه من غيرِ أنْ يوجبَه شيءٌ من قبلنا {لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} تعب {وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} كلالٌ والفرقُ بينهما ان النصب نفس المشقَّة والكُلفة واللُّغوب ما يحدث منه من الفتورِ والتَّصريحُ بنفي الثَّاني مع استلزامِ نفي الأوَّلِ له وتكريرُ الفعلِ المنفي للمبالغةِ في بيانِ انتفاءِ كلَ منهما(7/154)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
{والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ} لا يُحكم عليهم بموتٍ ثانٍ {فَيَمُوتُواْ} ويستريحُوا ونصبُه بإضمارِ أنْ وقُرىء فيموتونَ عطفاً على يقضي كقوله تعالى وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا} بل كلَّما خبتْ زيد إسعارُها {كذلك} أي مثلَ ذلك الجزاء الفظيعِ {نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ} مبالغٍ في الكفرِ أو الكفرانِ لا جزاء أخف وأدنى منه وقُرىء يُجزى على البناءِ للمفعولِ وإسناده إلى الكلِّ وقرىء يجازى(7/154)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} يستغيثُون والاصطراخُ افتعالٌ من الصُّراخِ استُعمل في الاستغاثةِ لجهد المستغيثِ صوتَه {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ} بإضمارِ القولِ وتقييدِ العملِ الصَّالحِ بالوصفِ المذكورِ للتَّحسرِ على ما عملوه من غيرِ الصَّالحِ والاعترافِ به والإشعارِ بأنَّ استخراجَهم لتلافيهِ وأنَّهم كانُوا يحسبونه صالحاً والآنَ تبيَّن خلافُه وقولُه تعالى {أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} جوابٌ من جهتِه تعالى وتوبيخٌ لهم والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ ومَا نكرةٌ موصوفةٌ أي ألم نمهلْكُم أو ألم نؤخرْكُم ولم نعمْركُم عمراً يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ أي يتمكَّنُ فيه المتذكرُ من التَّذكُّرِ والتَّفكُّرِ قيل هو أربعون سنةً وعن ابن عباس رضي الله عنهما ستُّون سنة ورُوي ذلكَ عن عليَ رضيَ الله عنه وهو العُمر الذي أعذرَ الله فيه إلى ابنِ آدم قال صلى الله عليه وسلم أعذرَ الله إلى امرىءٍ أخَّر أجلَه حتَّى بلغَ ستِّين سنة وقولُه تعالى {وَجَاءكُمُ النذير} عطفٌ عَلَى الجملةِ الاستفهاميةِ لأنَّها في معنى قد عمَّرناكم كما في قوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ووضعنا الخ لأنَّه في معنى قد شرحنا الخ والمرادُ بالنذير رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما معه من القُرآن وقيل العقلُ وقيل الشَّيبُ وقيل موتُ الأقاربِ والاقتصارُ على ذكرِ النَّذيرِ لانه الذى(7/154)
فاطر 38 40 يقتضيهِ المقامُ والفاءُ في قوله تعالى {فذوقوا} لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التَّعميرِ ومجيءِ النَّذيرِ وفي قولِه تعالى {فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ} للتَّعليلِ(7/155)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
{إِنَّ الله عالم غَيْبِ السماوات والارض} بالإضافةِ وقُرىء بالتَّنوينِ ونصبِ غيبَ على المفعوليةِ أي لا يَخفى عليهِ خافيةٌ فيهما فلا تخفى عليه أحوالُهم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} قيل إنَّه تعليلٌ لما قبله لأنَّه إذا علمَ مضمراتِ الصُّدورِ وهي أخفى ما يكونُ كان أعلمَ بغيرِها(7/155)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
{هُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف فِى الارض} يقال للمستخلَفِ خليفة والأول يُجمع خلائفَ والثَّانِي خلفاءَ والمعنى أنَّه تعالى جعلكم خلفاءَه في إرضه وألقى إليكم مقاليدَ التَّصرفِ فيها وسلَّطكم على ما فيها وأباحَ لكم منافعها أو جعلكم خلفاءَ ممَّن قبلكم من الأممِ وأورثكَم ما بأيديهم من متاعِ الدُّنيا لتشكُروه بالتَّوحيدِ والطَّاعةِ {فَمَن كَفَرَ} منكُم مثلَ هذه النِّعمةِ السَّنيةِ وغمطَها {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي وبالُ كفرِه لا يتعداهُ إلى غيرِه وقولُه تعالى {وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً} بيانٌ لوبالِ الكفرِ وغائلتِه وهو مقتُ الله تعالى إيَّاهم أي بغضه الشَّديد الذي ليسَ وراءَهُ خزيٌّ وصغارٌ وخسارُ الأخرةِ الذي ما بعدَهُ شرٌّ وخسارٌ والتَّكريرُ لزيادةِ التَّقريرِ والتَّنبيهِ على أن اقتضاءِ الكُفر لكلِّ واحدٍ من الأمرين الهائلينِ القبيحينِ بطريقِ الاستقلالِ والأصالةِ(7/155)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
{قل} تبكيتا لهم {أرأيتم شُرَكَاءكُمُ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي آلَهتكم والإضافةُ إليهم لأنَّهم جعلوهم شركاءَ لله تعالى من غير أن يكون له أصلٌ ما أصلاً وقيل جعلُوهم شركاءَ لأنفسِهم فيما يملكونَهُ ويأباه سباقُ النظمِ الكريمِ وسياقُه {أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الارض} بدلُ اشتمالِ من أرأيتُم كأنَّه قيل أخبرُوني عن شركائِكم أرُوني أيَّ جزءٍ خلقُوا من الأرضِ {أَمْ لَهُمْ شرك في السماوات} أي أمْ لهم شركةٌ مع الله سبحانه في خلقِ السَّمواتِ ليستحقُّوا بذلك شركةً في الألوهَّيةِ ذاتيَّةً {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً} ينطقُ بأنَّا اتخذَّناهُم شركاءَ {فَهُمْ على بَيّنَةٍ مّنْهُ} أي حجَّةٍ ظاهرةٍ من ذلكَ الكتابِ بأنَّ لهم شركةً جعليةً ويجوزُ أنْ يكونَ ضميرُ آتيناهُم للمشركينَ كما في قوله تعالى أم أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا الخ وقُرىء على بيِّناتٍ وفيه إيماءٌ إلى أنَّ الشِّركَ أمرٌ خطيرٌ لا بُدَّ في إثباتهِ من تعاضدِ الدَّلائلِ {بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً} لمَّا نَفَى أنواعَ الحُججِ في ذلك أضربَ عنه بذكرِ ما حملَهم عليه وهو تغريرٌ الأسلافِ للأخلافِ وإضلالُ الرُّؤساءِ للأتباعِ بأنَّهم شفعاءُ عند الله يشفعُون لهم بالتَّقريبِ إليه(7/155)
فاطر(7/156)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
41 - 44 {إن الله يمسك السماوات والارض أَن تَزُولاَ} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ غايةِ قُبحِ الشرك وهو له أي يمسكها كراهةَ زوالِهما أو يمنعهما أنْ تزولا لأنَّ الإمساك منع {وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا} أي مَا أمسكهما {مِنْ أَحَدٍ مِن بَعْدِهِ} من بعدِ إمساكِه تعالى أو من بعدِ الزَّوالِ والجملةُ سادَّةٌ مسدَّ الجوابينِ ومن الأولى مزيدة لتأكيد العُمومِ والثَّانيةُ للابتداءِ {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} غيرَ معاجلٍ بالعقوبةِ التي تستوجبُها جناياتُهم حيثُ أمسكَهما وكانتا جديرتينِ بأنْ تهدّا هداً حسبما قال تعالى تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارض وقُرىء ولو زَالَتا(7/156)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)
{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم} بلغ قُريشاً قبل مبعثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ أهلَ الكتابِ كذَّبوا رسلَهم فقالُوا لعنَ الله اليَّهودَ والنَّصارَى أتتُهم الرُّسلُ فكذبوهم فو الله لئن أتانا رسولٌ لنكونَّن أهدى من إحدى الامم اليَّهودِ والنَّصارَى وغيرِهم أو من الأمَّةِ التي يُقال لها إِحدى الأممِ تفضيلاً لها على غيرِها في الهُدَى والاستقامةِ {فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ} وأيُّ نذير أشرفُ الرسلُ عليهم الصلاة والسلام {مَّا زَادَهُمْ} أي النَّذيرُ أو مجيئةُ {إِلاَّ نُفُورًا} تُباعداً عن الحقِّ(7/156)
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
{استكبارا فِى الارض} بدلٌ من نفورا او مفعول له {ومكر السيء} أصلُه وإنْ مكرُوا السَّيءَ أيَّ المكرَ السَّىءَ ثم ومكرا السيء ثم ومكرو السيء وقرىء بسكونِ الهمزةِ في الوصلِ ولعلَّه اختلاسٌ ظن سكوتا وقفةٌ خفيفةٌ وقرىء مكراً سيِّئاً {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ} أي ما ينتظرونَ {إِلا سُنَّةَ آلاْوَّلِينَ} أي سُنَّة الله فيهم بتعذيبِ مكذِّبيهم {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} بأنْ يضع موضعَ العذابِ غيرَ العذابِ {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً} بأنْ ينقله من المكذِّبين إلى غيرِهم والفاءُ لتعليلِ ما يُفيدُه الحكمُ بانتظارِهم العذابَ من مجيئهِ ونفيُ وجدانِ التَّبديلِ والتَّحويلِ عبارةٌ عن نفي وجودهما بالطَّريقِ البُرهانِّي وتخصيصُ كلَ منُهما بنفيٍ مستقلَ لتأكيدِ انتفائهما(7/156)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
{أو لم يَسِيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} استشهاد على ما قبلَه من جريانِ سُنَّتِه تعالى على تعذيبِ المكذبين بما يشاهدونه(7/156)
فاطر 45 في مسايرِهم إلى الشَّامِ واليمنِ والعراقِ من آثار دمار الأممِ الماضيةِ العاتيةِ والهمزة للانكار والنفي الواو للعطفِ على مقدَّرٍ يليقُ بالمقامِ أي أقعدُوا في مساكنِهم ولم يَسِيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين من قبلهم {وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وأطولَ أعماراً فما نفعُهم طولُ المَدَى وما أغنَى عنهم شدَّةُ القُوى ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحالية وقوله تعالى {وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء} أي ليسبقه ويفوته {في السماوات وَلاَ فِى الارض} اعتراضٌ مقررٌ لما يُفهم مَّما قبله من استئصالِ الأممِ السَّالفةِ وقولُه تعالىَ {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} أي مُبالغاً في العلمِ والقُدرةِ ولذلك علمَ بجميعِ أعمالِهم السَّيئةِ فعاقبَهم بموجبِها تعليل لذلك(7/157)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس} جميعاً {بِمَا كَسَبُواْ} من السَّيئاتِ كما فُعل بأولئكَ {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا} أي على ظهرِ الأرضِ {مِن دَابَّةٍ} من نسمةٍ تدُبُّ عليها من بني آدمَ وقيل ومن غيرِهم أيضاً من شؤمِ معاصِيهم وهو المرويُّ عن ابن مسعود وانس رضي الله عنهما ويعضُد الأولَ قولُه تعالى {ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} وهو يومُ القيامةِ {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} فيجازيهم عندَ ذلك بأعمالِهم إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرَّاً فشرٌّ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سورةَ الملائكةِ دعتْهُ ثمانيةُ أبوابِ الجنَّةِ أنِ ادخلْ من أيِّ بابٍ شئتَ والله تعالَى أعلم(7/157)
سورة يس 1 3
سورة يس مكية وعنه صلى الله عليه وسلم تدعى المعمة تعم صاحبها خير الدارين والدافعة والقاضية تدفع عنه كل سوء وتقضى له كل حاجة وآياتها ثلاث وثمانون
{بِسْمِ الله الرحمن الرحيم}(7/158)
يس (1)
{يس} إمَّا مسرودٌ على نمطِ التَعديدِ فلا حظَّ له من الإعرابِ أو اسم السورة كما نصَّ عليه الخليلُ وسيبويةِ وعليه الأكثرِ فمحلُّه الرفعُ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أو النَّصبُ على أنه مفعول لفعل مضمرٍ وعليهما مدارُ قراءةِ يس بالرَّفع والنَّصبِ أي هَذه يس او اقرا يس ولا مَساغَ للنَّصب بإضمارِ فعلِ القسمِ لأنَّ ما بعدَهُ مُقسمٌ بِه وقد ابو الجمعَ بين قَسَمين على شيءٍ واحدٍ قبل انقضاءِ الأوَّلِ ولا مجالَ للعطفِ لاختلافِهما إعراباً وقيل هو مجرورٌ بإضمارِ باءِ القسمِ مفتوحٌ لكونِه غيرَ منصرفٍ كما سلف في فاتحةِ سُورة البقرةِ من أنَّ ما كانتْ من هذه الفواتحِ مفردة مثلَ صاد وقاف ونون أو كانت موازنةً لمفردٍ نحوِ طس ويس وحم الموازنةِ لقابيلَ وهابيلَ يتأتَّى فيها الإعرابُ اللفظيُ ذكره سيبويه في بابِ أسماءِ السُّورِ من كتابِه وقيل هُما حركتا بناءٍ كما في حيثُ وأينَ حسَبما يشهدُ بذلك قراءة يس بالكسر كجَيْرِ وقيل الفتحُ والكسرُ تحريكٌ للجِدِّ في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ معناه يا إنسانُ في لغةِ طَيءٍ قالُوا المرادُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولعلَّ أصلَه يا أُنيسين فاقتُصر على شطرِه كما قيل مَنُ الله في ايمن الله(7/158)
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
{والقرآن} بالجر على أنه مقسم به ابتداءً وقد جُوِّز أنْ يكونَ عطفاً على يس على تقدير كونه مجرورا بإضمارِ باءِ القسمِ {الحكيم} أي المتضمِّنِ للحكمةِ أو النَّاطقِ بها بطريقِ الاستعارةِ أو المتَّصفِ بها على الإسنادِ المجازيِّ وقد جُوِّز أنْ يكونَ الأصلُ الحكيمُ قائلُه فحذُف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه فبانقلابِه مرفوعاً بعد الجرِّ استكنَّ في الصِّفةِ المُشبَّهةِ كما مرَّ في صدرِ سُورة لُقمانَ(7/158)
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)
{إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} جوابٌ للقسم والجملةُ لردِّ إنكار الكَفَرةِ بقولِهم في حقِّه صلى الله عليه وسلم لستَ مُرسَلاً وهذه الشَّهادةُ منه عزَّ وجلَّ من جملة ما أُشير إليه بقوله تعالى في جوابهم قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وفي تخصيص القُرآن بالإقسامِ به أَوَّلاً وبوصفه بالحكيمِ ثانياً تنويهٌ بشأنه وتنبيهٌ على أنه كما يشهد برسالته صلى الله عليه وسلم من حيث نظمُه المعجزُ المُنطوي على بدائعِ الحكم يشهدُ بها من هذه الحيثيَّةِ أيضاً لما أنَّ الاقسام بالشيء(7/158)
يس 4 7 استشهاد به على تحقُّقِ مضمون الجملة القسميةِ وتقوية لثبوتِه فيكون شاهداً به ودليلاً عليه قَطْعاً وقوله تعالى(7/159)
عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
{على صراط مُّسْتَقِيمٍ} خبرٌ آخَرُ لأنَّ أو حالٌ من المستكنِّ في الجار والمجرور على أنَّه عبارةٌ عن الشَّريعةِ الشَّريفةِ بكمالها لا عن التَّوحيدِ فقط وفائدتُه بيانُ أنَّ شريعتَه صلى الله عليه وسلم اقوم الشَّرائعِ وأعدلُها كما يُعرب عنه التَّنكيرُ التَّفخيميُّ والوصفُ اثر بيان انه صلى الله عليه وسلم من جملة المرسلين بالشَّرائعِ(7/159)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
{تَنزِيلَ العزيز الرحيم} نصب على المدح وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ وبالجرِّ على أنه بدلٌ من القرآن وأيا ما كان فهو مصدرٌ بمعنى المفعولِ عبَّر به عن القرآنُ بياناً لكمال عراقتِه في كونِه منزَّلاً من عندِ الله عزَّ وجلَّ كأنَّه نفس التَّنزيلِ واظهارا لفخامتِه الإضافيةِ بعدَ بيانِ فخامتِه الذَّاتيَّةِ بوصفه بالحكمة وفي تخصيص الاسمينِ الكريمينِ المُعربينِ عن الغلبةِ التَّامةِ والرأفة العامة حيث على الايمان ترهيباً وترغيباً وإشعارٌ بأنَّ تنزيلَه ناشيءٌ عن غايةِ الرَّحمةِ حسبما نطقَ به قولُه تعالى وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين وقيل النصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلِه المضمرِ أي نزل تنزيل العزيزِ الرَّحيمِ على أنَّه استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما ذُكر من فخامةِ شأنِ القُرآن وعلى كلِّ تقديرٍ ففيهِ فضلُ تأكيدٍ لمضمونِ الجملة القسميةِ(7/159)
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
{لّتُنذِرَ} متعلِّقٌ بتنزيل على الوجوهِ الأُولِ وبعامله المضمرِ على الوجهِ الآخيرِ أي لتنذَر به كما في صدرِ الأعرافِ وقيل هو متعلقٌ بما يدلُّ عليهِ لمن المرسلين أي إنَّك مرسلٌ لِتُنذِرَ {قَوْماً مَّا أُنذِرَ آباؤهم} أي لم يُنذْر آباؤُهم الأقربون لتطاولِ مدَّة الفترةِ على أنَّ ما نافيةٌ فتكون صفةً مبيِّنةً لغاية احتياجهم إلى الإنذارِ أو الذي أنذره أو شيئاً أُنذره آباؤهم الأبعدون على أنَّها موصولةٌ أو موصوفة فيكون مفعولاً ثانياً لتنذرَ أو إنذار آبائِهم الأقدمين على أنَّها مصدريةٌ فيكون نعتاً لمصدرٍ مؤكَّدٍ أي لتنذر انذار كائناً مثلَ إنذارِهم {فَهُمْ غافلون} على الوجهِ الأولِ متعلِّق بنفي الإنذارِ مترتِّب عليه والضَّميرُ للفريقينِ أي لم تنذر آباؤهم فهم جميعاً لأجلِه غافلون وعلى الوجوهِ الباقيةِ متعلِّقٌ بقوله تعالى لّتُنذِرَ أو بما يفيده إنَّك لمن المُرسلين وارد لتعليل انذاره صلى الله عليه وسلم أو إرساله بغفلتهم المحوجةِ إليهما على أنَّ الضميرَ للقوم خاصَّةً فالمعنى فهم غافلُون عنه أي عمَّا أُنذر آباؤهم الأقدمونَ لامتدادِ المُدَّة واللاَّمُ في قولِه تعالى(7/159)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
{لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} جوابُ القسمِ أيْ والله لقد ثبت وتحقَّقَ عليهم البتةَ لكن لا بطريق الجبرِ من غير أنْ يكون من قبلهم ما يقتضيِه بل بسبب إصرارِهم الاختياريِّ على الكُفر والإنكار وعدم تأثُّرهم من التَّذكيرِ والإنذار وغلوِّهم في العُتوِّ والطُّغيانِ وتماديهم في اتِّباعِ خُطُوات الشَّيطانِ بحيثُ لا يَلْويهم صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ كيف لا والمرادُ بما حقَّ من القول قوله(7/159)
يس 8 11 تعالى لإبليسَ عند قوله لأغوينَّهم أجمعين لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ منك وممن تبعك منهم أجمعين وهو المعنيُّ بقوله تعالى لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والنار والناس أجمعين كما يلوحُ به تقديمُ الجنة على النَّاسِ فإنَّه كما ترى قد أوقع فيه الحكم بإدخال جهنَّم على مَن تبعَ إبليسَ وذلك تعليلٌ له بتبعيته قطعاً وثبوت القولِ على هؤلاء الذين عبَّر عنهم بأكثرِهم إنَّما هو لكونِهم من جملة أولئك المصرِّين على تبعيَّةِ إبليسَ أبداً وإذ قد تبيَّن أنَّ مناطَ ثبوتِ القول وتحقُّقهِ عليهم إصرارُهم على الكُفرِ إلى الموتِ ظهر أنَّ قوله تعالى {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} متفرِّعٌ في الحقيقةِ على ذلك لا على ثُبوت القول وقوله تعالى(7/160)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
{إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا} تقريرٌ لتصميمهم على الكُفرِ وعدم ارعوائِهم عنه بتمثيلِ حالِهم بحال الذين غُلَّتْ أعناقُهم {فَهِىَ إِلَى الاذقان} أي فالأغلالُ منتهيةٌ إلى أذقانِهم فلا تدعُهم يلتفتونَ إلى الحقِّ ولاَ يَعطفونَ أعناقَهم نحوَه ولا يطأطئون رءوسهم له {فَهُم مُّقْمَحُونَ} رافعونَ رءوسهم غاضُّون أبصارَهم بحيثُ لا يكادُون يَروَن الحقَّ أو ينظرُون إلى جهتِه(7/160)
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} إمَّا تتَّمةٌ للتَّمثيل وتكميلٌ له أي تكميلٍ أي وجعلنا مع ما ذُكر من أمامهم سَدَّاً عظيماً ومن ورائهم سَدَّاً كذلك فغطينا بها أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يقدرونَ على إبصارِ شيءٍ ما أصلاً وإمَّا تمثيلٌ مستقلٌّ فإنَّ ما ذُكر من جعلهم محصورينَ بين سَدَّينِ هائلين قد غطَّيا أبصارَهم بحيث لا يُبصرون شيئاً قطعاً كافٍ في الكشف عن كمال فظاعةِ حالِهم وكونِهم محبوسين في مطمورةِ الغيِّ والجهالاتِ محرومين عن النَّظرِ في الأدلَّةِ والآياتِ وقُرىء سُدَّاً بالضمِّ وهي لغةٌ فيه وقيل ما كان من عمل النَّاسِ فهو بالفتحِ وما كان من خلقِ الله فبالضمِّ وقُرىء فأعشينَاهم من العَشَا وقيل الآيتانِ في بني مخزومٍ وذلك أنَّ أبا جهلٍ حلف لئِن رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي ليرضخنَّ رأسَه فأتاه وهو يصلي صلى الله عليه وسلم ومعه حجرٌ ليدمغَه فلَّما رفع يدَه انثنتْ يدُه إلى عنقِه ولزق الحجرُ بيده حتَّى فكُّوه عنها بجهدٍ فرجع إلى قومه فأخبرَهم بذلك فقال مخزوميٌّ آخرُ أنا أقتلُه بهذا الحجرِ فذهب فأَعمى الله تعالى بصرَهُ(7/160)
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)
{وسواء عليهم أأنذرتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} بيانٌ لشأنِهم بطريق التَّصريحِ إثرَ بيانه بطريق التمثيل أي مستوٍ عندهم إنذارُك إيَّاهم وعدمُه حسبما مرَّ تحقيقُه في سورةِ البقرةِ وقوله تعالى {لاَ يُؤْمِنُونَ} استئنافٌ مؤكِّدٌ لما قبله مبيِّنٌ لما فيه من إجمالِ ما فيه الاستواءُ أو حالٌ مؤكدةٌ له أو بدلٌ منه ولما بُيِّن كونَ الإنذارِ عندهم كعدمِه عقب ببيانِ من يتأثَّر منه فقيل(7/160)
إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
{إِنَّمَا تُنذِرُ} أي إنذاراً مستتبعاً للأثر {مَنِ اتبع الذكر} أي القُرآنَ بالتَّامُّلِ فيه أو الوعظِ ولم يصرَّ على اتِّباعِ خُطُوات الشَّيطانِ {وَخشِىَ الرحمن بالغيب} أي(7/160)
يس 12 14 خافَ عقابَه وهو غائبٌ عنْهُ على أنَّه حالٌ من الفاعلِ أو المفعولِ أو خافَه في سريرتِه ولم يغترَّ برحمتِه فإنَّه منتقمٌ قهَّار كما أنَّه رحيمٌ غَفَّار كما نطق به قولُه تعالَى نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الأليم {فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} عظيمةٍ {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} لا يُقادر قدرُه والفاء لترتيب البشارةِ أو الأمرِ بها على ما قبلها من اتِّباعِ الذِّكرِ والخشيةِ(7/161)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
{إنا نحن نحيي الموتى} بيانٌ لشأنٍ عظيمٍ ينطوي على الإنذارِ والتَّبشيرِ انطواءً إجماليَّاً أي نبعثُهم بعد مماتِهم وعن الحسنِ إحياؤهم إخراجُهم من الشِّركِ إلى الإيمانِ فهو حينئذٍ عدةٌ كريمةٌ بتحقيق المُبشَّر به {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} أي ما أسلفُوا من الأعمالِ الصالحة وغيرها {وآثارهم} التي أبقوها من الحسناتِ كعلمٍ علمُوه أو كتابٍ ألَّفُوه أو حبيسٍ وقفُوه أو بناءٍ بنوَه من المساجدِ والرِّباطاتِ والقناطرِ وغيرِ ذلك من وجوهِ البرِّ ومن السَّيئاتِ كتأسيسِ قوانينِ الظلم والعدوان وترتيب مبادي الشرِّ والفساد فيما بين العباد وغير ذلك من فنون الشُّرور التي أحدثُوها وسنُّوها لمن بعدهم من المُفسدين وقيل هي آثار المشَّائينَ إلى المساجدِ ولعلَّ المرادَ أنَّها من جُملةِ الآثارِ وقُرىء ويُكتب على البناءِ للمفعولِ ورفعِ آثارَهم {وَكُلَّ شىْء} من الأشياءِ كائناً ما كانَ {أحصيناه فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} أصلٍ عظيمِ الشَّأنِ مظهر لجميعِ الأشياءِ ممَّا كانَ وما سيكونُ وهو اللَّوحُ المحفوظُ وقُرىء كلُّ شيءٍ بالرَّفعِ(7/161)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
{واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية} ضربُ المَثَلِ يُستعملُ تارةً في تطبيقِ حالةٍ غريبةٍ بحالةٍ أُخرى مثلِها كما في قوله تعالى ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كفروا امراة نوح وامراة لُوطٍ وأخرى في ذكر حالةٍ غريبةٍ وبيانِها للنَّاس من غير قصدٍ إلى تطبيقِها بنظيرةِ لها كما في قولِهِ تعالى وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال على أحدِ الوجهينِ أي بيَّنا لكم أحوالاً بديعةً هي في الغرابةِ كالأمثالِ فالمَعْنى على الأوّلِ اجعلْ أصحابَ القريةِ مثلاً لهؤلاء في الغُلوِّ في الكفرِ والإصرارِ على تكذيبِ الرُّسلِ أي طبِّق حالَهم بحالهم على أنَّ مثلاً مفعولٌ ثان لا ضرب وأصحابَ القريةِ مفعولُه الأوَّلَ أُخِّر عنْهُ ليتَّصل بهِ ما هو شرحُه وبيانُه وعلى الثَّاني اذكُر وبيِّن لهم قصَّةً هي في الغرابةِ كالمَثَل وقوله تعالى أصحابَ القريةِ بدلٌ منه بتقديرِ المضافِ أو بيانٌ له والقريةُ أنطاكيِّةُ {إِذْ جَاءهَا المرسلون} بدلُ اشتمالٍ من أصحابَ القريةِ وهم رُسلُ عيسى عليه السَّلامُ إلى أهلِها ونسبةُ إرسالِهم إليهِ تعالى في قولِه(7/161)
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين} بناء على أنَّه كان بأمره تعالى لتكميلِ التَّمثيلِ وتتميم التَّسليةِ وهما يحيى وبُولس وقيل غيرُهما {فَكَذَّبُوهُمَا} أي فأتياهم فدعواهم إلى الحقِّ فكذَّبوهما في الرِّسالةِ {فَعَزَّزْنَا} أي قوَّينا يقال عزز المطر الارض اذ لبَّدها وقُرىء بالتَّخفيفِ من عزَّه إذا غلبَه وقهرَه وحُذف المفعولُ لدلالة ما قبله عليه ولأنَّ المقصدَ ذكر المعزَّزِ به {بِثَالِثٍ} هو شَمعُون {فَقَالُواْ} أي جميعاً {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} مُؤكِّدين كلامَهم لسبق الإنكارِ لما أنَّ تكذيبَهما تكذيبٌ للثَّالثِ لاتِّحادِ كلمتهم وذلك أنَّهم كانوا عَبَدَة أصنام فأرسل اليهم(7/161)
يس 15 17 عيسى عليه السلام اثنينِ فلما قَرُبا من المدينة رأياً شيخاً يَرعى غُنيماتٍ له وهو حبيبٌ النَّجارُ صاحب يس فسألهما فأخبراهُ قال أمعكما آيةٌ فقالا نشفي المريضَ ونُبرىء الأكْمَه والأبرصَ وكان له ولدٌ مريضٌ منذ سنتينِ فمسحاهُ فقام فآمن حبيبٌ وفشا الخبرُ وشُفي على أيديهما خلقٌ وبلغ حديثُهما إلى الملكِ وقال لهما ألنا إلهٌ سوى آلهتِنا قالا نعم من أوجدَك وآلهتَك فقال حتَّى أنظرَ في أمرِكما فتبعهما النَّاسُ وقيل ضربُوهما وقيل حُبسا ثمَّ بعث عيسى عليه السَّلامُ شَمعُون فدخلَ مُتنكِّرا وعاشر حاشيةَ الملك حتَّى استأنُسوا به ورفعوا خبرَه إلى الملكِ فأنسَ به فقالَ له يَوْماً بلغني أنَّك حبستَ رجلينِ فهل سمعت مايقولونه قال لاَ حال الغضبُ بيني وبينَ ذلكَ فدعاهُما فقال شَمعُون مَن أرسلكُما قالا الله الذي خَلَق كلَّ شيءٍ وليسَ له شريكٌ فقال صفاهُ وأَوْجِزا قالاَ يفعلُ مَا يشاءُ ويحكُم ما يريدُ قال وما آيتكُما قالا ما يتمنَّى الملكُ فَدَعا بغلامٍ مطمُوسِ العينينِ فدعَوَا الله تعالى حتَّى انشقَّ له بصرٌ فأخذا بُندقتينِ فوضعاهما في حدقتيهِ فصارتا مُقلتينِ ينظرُ بهما فقال له شَمعُون أرأيتَ لَو سألتَ إلهَك حتَّى يصنعَ مثلَ هذا فيكونَ لك وله الشَّرفُ قال ليس لي عنك سرٌّ إن إلهنَا لا يُبصر ولا يَسمع ولا يضرُّ ولا ينفعُ وكان شمعُون يدخلُ معهم على الصَّنمِ فيصلِّي ويتضرَّعُ وهم يحسبون أنَّه منهم ثم قال إنْ قدر إلهُكما على إحياءِ ميِّتٍ آمنَّا به فدعَوا بغلامٍ ماتَ من سبعةِ أيامٍ فقامَ وقال إنِّي أُدخلت في سبعةِ أوديةٍ من النَّارِ وإنِّي أُحذركم ما أنتُم فيه فآمِنُوا وقال فُتحت أبوابُ السَّماء فرأيتُ شَاباً حسنَ الوجهِ يشفعُ لهؤلاء الثَّلاثةِ قال الملكُ من هُم قال شمعُونُ وهذانِ فتعجَّبَ الملكُ فلمَّا رأى شمعُون أنَّ قولَه قد أثر فيه نصحَه فآمنَ وآمنَ قومٌ ومَن لم يُؤمن صاحَ عليهم جبريلُ عليه السَّلامُ فهلكُوا هكذا قالُوا ولكن لا يُساعده سياقُ النظمِ الكريمِ حيثُ اقُتصر فيه على حكايةِ تمادِيهم في العنادِ واللَّجاجِ وركوبِهم متنَ المُكابرةِ في الحِجاجِ ولم يُذكرْ فيه ممَّن يؤمن أحدٌ سوى حبيبٍ ولو أنَّ الملكَ وقوماً من حواشيه آمنُوا لكان الظَّاهرُ أنْ يُظاهروا الرُّسلَ ويساعدوهم قُبلوا في ذلك أو قُتلوا كدأب النَّجار الشهيد ولكان لهم فيه ذكرٌ ما بوجه من الوجوه اللَّهم إلاَّ أن يكونَ إيمانُ الملكِ بطريق الخُفيةِ على خوفٍ من عناة ملئِه فيعتزلُ عنهم مُعتذراً بعذرٍ من الأعذارِ(7/162)
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)
{قَالُواْ} أي أهلُ أنطاكيَّةَ الذينَ لَم يُؤمنوا مُخاطبينَ للثَّلاثةِ {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مثلنا} من غير مزيةٍ لكُم عَلينا مُوجبةٍ لاختصاصكم بما تدعونَه ورفعُ بشرٌ لانتقاضِ النَّفيِ المُقتضي لإعمالِ ما بإلاَّ {وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَىْء} ممَّا تدعُونه من الوحي والرِّسالةِ {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} في دَعْوى رسالتِه(7/162)
قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)
{قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إليكم لمرسلون} استشهدوا بعلمِ الله تعالى وهو يَجْري مجرى القسمِ مع ما فيه من تحذيرِهم معارضةَ علم الله تعالى وزادُوا الَّلامَ المؤكِّدةَ لِما شاهدُوا منُهم من شدَّةِ الإنكارِ(7/162)
وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)
{وَمَا عَلَيْنَا} أي من جهةِ ربِّنا {إِلاَّ البلاغ المبين} أي إلاَّ تبليغُ رسالتِه تبليغاً ظَاهِراً بيِّناً(7/162)
يس 18 22 بالآياتِ الشَّاهدةِ بالصِّحَّةِ وقد خرجنا عن عُهدته فلا مؤاخذةَ لنا بعد ذلك من جهة ربِّنا أو ما علينا شيءٌ نُطالب به من جهتِكم إلا تبليغُ الرِّسالةِ على الوجهِ المذكورِ وقد فعلناه فأيُّ شيءٍ تطلبون منَّا حتَّى تُصدِّقوُنا بذلك(7/163)
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)
{قَالُواْ} لمَّا ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العلل {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} تشاءمنا بكم جرياً على دَيْدنِ الجَهَلةِ حيث كانُوا يتيَّمنون بكلِّ ما يُوافق شهواتِهم وإن كان مستجلباً لكلِّ شر ووبال ويتشاءمون بمالا يُوافقها وإنْ كان مستتبعاً لسعادةِ الدَّارينِ أو بناء على الدعوة لاتخلو عن الوعيدِ بما يكرهونَه من اصابة ضر متعلق بأنفسهم وأهليهم وأموالِهم إنْ لم يُؤمنوا فكانوا ينفرون عنه وقد رُوي أنَّه حُبس عنهم القطرُ فقالوه {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ} أي عن مقالتِكم هذه {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} بالحجارةِ {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يُقادرُ قَدرُه(7/163)
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
{قَالُواْ طائركم} أي سببُ شُؤمكم {مَّعَكُمْ} لا مِن قِبلنا وهو سوءُ عقيدتِكم وقبحُ أعمالكم وقُرىء طَيركُم {أئن ذُكّرْتُم} أي وُعظتُم بما فيه سعادتُكم وجوابُ الشَّرط محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبلَهُ عليه أي تطيرتُم وتوعدتُم بالرَّجمِ والتَّعذيبِ وقُرىء بألفٍ بين الهمزتينِ وبفتحِ أنْ بمعنى أتطيرتُم لأنْ ذُكِّرتم وأنْ ذكِّرتم وإنْ ذُكِّرتم بغيرِ استفهام وأينَ ذُكِّرتم بمعنى طائركم معكم حيثُ جرى ذكركُم وهو أبلغُ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} إضرابٌ عمَّا تقتضيه الشَّرطيَّةُ من كونِ التَّذكيرِ سبباً للشُّؤمِ أو مصحِّحاً للتوعد أي ليس الأمرُ كذلك بل أنتُم قومٌ عادتُكم الإسرافُ في العصيان فلذلك أتاكُم الشُّؤمُ أو في الظُّلمِ والعُدوانِ ولذلك تَوعدتُم وتَشاءمتُم بمن يجبُ إكرامُه والتَّبركُ به(7/163)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)
{وَجَاء مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى} هو حبيبٌ النَّجارُ وكان ينحتُ أصنامَهم وهو ممَّن آمنَ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وبينهما ستمائةُ سنةٍ كما آمنَ به تُبَّعُ الأكبرُ وورقةُ بنُ نوفلٍ وغيرُهما ولم يؤمن من بنبي غيره صلى الله عليه وسلم أحدٌ قبل مبعثِه وقيل كان في غارٍ يعبدُ الله تعالى فلمَّا بلغه خبرُ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أظهرَ دينَه {قَالَ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ مجيئهِ ساعياً كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عند مجيئِه فقيل قال {يا قوم اتبعوا المرسلين} تعرض لعُنوانِ رسالتهم حثَّاً لهم على اتِّباعِهم كما أنَّ خطابَهم بيا قوم لتأليفِ قلوبِهم واستمالتِها نحو قبولِ نصيحتِه وقوله تعالى(7/163)
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
{اتبعوا من لا يسألكم أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} تكريرٌ للتأكيد والتوسل به إلى وصفهم بما يرغِّبُهم في اتِّباعهم من التَّنزهِ عن الغرض الدُّنيويِّ والاهتداء إلى خير الدُّنيا والدِّينِ(7/163)
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
{وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى} تلطُّفٌ في الارشاد(7/163)
يس 23 27 بإيراده في معرض المُناصحةِ لنفسِه وإمحاض النُّصحِ حيثُ أراهم أنَّه اختارَ لهم ما يختارُ لنفسه والمرادُ تقريعُهم على ترك عبادةِ خالقِهم إلى عبادةِ غيرِه كما ينبىء عنه قوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} مبالغةً في التَّهديدِ ثمَّ عاد إلى المساق الاول فقال(7/164)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)
{أأتخذ من دونه آلهة} إنكارٌ ونفيٌ لاتِّخاذِ الآلهة على الإطلاق وقوله تعالى {إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنّى شفاعتهم شَيْئاً} أي لا تنفعني شيئا من النفع {ولا يُنقِذُونَ} من ذلك الضُّرِّ بالنصرة والمظاهرة استئناف سيق لتعليلٍ النَّفي المذكور وجعلُه صفةً لآلهةً كما ذهب إليه بعضُهم رُبَّما يُوهم أنَّ هناك آلهةً ليستْ كذلكَ وقُرىء إنْ يَردن بفتح الياءِ على معنى إنْ يُوردني ضراً أي يجعلنِي مورداً للضُّرِّ(7/164)
إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
{إِنّى إِذاً} أي إذا اتخذتُ من دونه آلهةً {لَفِى ضلال مُّبِينٍ} فإنَّ اشراك ماليس من شأنِه النَّفعُ ولا دفعُ الضُّرِّ بالخالق المقتدرِ الذي لا قادرَ غيرُه ولا خيرَ إلا خيرُه ضلال بيِّن لا يَخْفى على أحدٍ ممَّن له تمييزٌ في الجملةِ(7/164)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
{إني آمنت بِرَبّكُمْ} خطاب منه للرُّسلِ بطريق التَّلوينِ قيل لمَّا نصحَ قومَه بما ذُكر همُّوا برجمِه فأسرع نحوَ الرُّسلِ قبل أن يقتلُوه فقال ذلك وإنَّما أكَّده لإظهارِ صدوره عنه بكمال الرغبة والنشاط واضاف الربَّ إلى ضميرِهم رَوْماً لزيادة التَّقريرِ وإظهاراً للاختصاصِ والاقتداء بهم كأنَّه قالَ بربِّكم الذي أرسلَكم أو الذي تدعُوننا إلى الإيمانِ به {فاسمعون} أي اسمعُوا إيمانيَ واشهدُوا لي به عند الله تعالى وقيل الخطابُ للكفرةِ شافههَم بذلك إظهاراً للتَّصلُّبِ في الدِّينِ وعدم المبالاة بالقتلِ وإضافةُ الرَّبِّ إلى ضميرهم لتحقيقِ الحقِّ والتَّنبيهِ على بُطلان ما هم عليه من اتِّخاذِ الأصنامِ أرباباً وقيل للنَّاس جميعاً(7/164)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)
{قِيلَ ادخل الجنة} قيل له ذلك لمَّا قتلُوه إكراماً له بدخولِها حينئذٍ كسائر الشُّهداءِ وقيل لما همُّوا بقتله رفعَه الله تعالى إلى الجنَّةِ قاله الحسنُ وعن قَتادةَ أدخلَه الله الجنَّةَ وهو فيها حيٌّ يُرزقُ وقيل معناه البُشرى بدخولِ الجنَّةِ وأنَّه من أهلِها وإنَّما لم يُقل له لأنَّ الغرضَ بيان المقول لا المقول له لظهوره وللمبالغةِ في المسارعةِ إلى بيانِه والجملةُ استئنافٌ وقعَ جواباً عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ حالِه ومقالهِ كأنَّه قيلَ كيفَ كان لقاءُ ربِّه بعد ذلك التصلُّب في دينه والتسخي بروحه لوجهه تعالى فقيل قيل ادخل الجنَّة وكذلك قوله تعالى {قَالَ يَا ليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ}(7/164)
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
{بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ المكرمين} فإنَّه جواب عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ حالهِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عند نيلِه تلك الكرامةَ السَّنيةَ فقيل قال الخ وإنما تمنَّى علَم قومه بحاله ليحملَهم ذلك عن اكتسابِ مثله(7/164)
يس 28 31 بالتَّوبةِ عن الكُفرِ والدخول في الإيمانِ والطَّاعةِ جرياً على سَننِ الأولياء في كظم الغيظ والتَّرحمِ على الأعداءِ أو ليعلموا أنهم كانُوا على خطأٍ عظيمٍ في أمره وأنَّه كان على الحقِّ وأنَّ عداوتَهم لم تكسبه إلاَّ سعادةً وقُرىء من المكرمين وما موصولةٌ أو مصدريةٌ والباء صلةُ يعلمون أو استفهاميةٌ وردت على الاصل والباء متعلِّقةٌ بغفرَ أي بأي شيءٍ غفرَ لي ربِّي يريدُ به تفخيمَ شأنِ المهاجرةِ عن ملَّتِهم والمصابرةِ على أذيَّتِهم(7/165)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)
{وَمَا أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ} من بعد قتلِه أو رفعِه {مِن جُندٍ مّنَ السماء} لإهلاكِهم والانتقامِ منهم كما فعلناه يوم بدر والخندق بل كفينا أمرَهم بصيحةِ مَلَكٍ وفيه استحقار لهم لاهلاكهم وإيماء إلى تفخيمِ شأن الرسول صلى الله عليه وسلم {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} وما صحَّ في حكمتِنا أنْ ننزلَ لإهلاكِ قومِه جُنداً من السَّماءِ لما أنَّا قَدَّرنا لكلِّ شيءٍ سَبَباً حيثُ أهلكنا بعضَ مَن أهلكنا من الأُمم بالحاصبِ وبعضَهم بالصيحة وبعضَهم بالخسفِ وبعضَهم بالإغراقِ وجعلنا إنزالَ الجندِ من خصائصِك في الانتصارِ من قومك وقيل ما موصولة معطوفة على جندٍ أي وما كنَّا مُنزلين على مَن قبلهم من حجارةٍ وريحٍ وأمطارٍ شديدةٍ وغيرِها(7/165)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
{إِن كَانَتْ} أي ما كانتْ الأخذةُ أو العقوبةُ {إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} صاحَ بها جبريلُ عليه السَّلامُ وقُرىء إلاَّ صيحةٌ بالرَّفعِ على أنَّ كانَ تامة وقُرىء إلا زَقيةً واحدةً من زَقَا الطَّائرُ إذا صاحَ {فَإِذَا هُمْ خامدون} ميِّتُون شُبِّهوا بالنَّارِ الخامدةِ رمزا الى أنَّ الحيَّ كالنَّارِ السَّاطعةِ في الحَرَكةِ والالتهابِ والميِّتُ كالرماد كما قال لَبيدٌ ... وَمَا المرءُ إلاَّ كالشَّهاب وضوئِه ... يحورُ رَمَاداً بعدَ إذْ هُو ساطع ...(7/165)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)
(يا حسرة عَلَى العباد) تعالى فهذه من الأحوالِ التي حقُّها أنْ تحضرِي فيها وهي ما دل عليه قوله تعالى {وَمَا يَأْتِيهِم من رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤون} فإنَّ المستهزئينَ بالنَّاصحينَ الذين نيطت بنصائِحهم سعادةُ الدَّارينِ أحقَّاءُ بأنْ يتحسَّروا ويتحسَّرُ عليهم المتحسِّرون أو قد تلهَّفَ على حالهم الملائكةُ والمؤمنون من الثَّقلينِ وقد جُوِّز أنْ يكون تحسُّراً عليهم من جهةِ الله تعالى بطريق الاستعارةِ لتعظيم ما جنوه على أنفسِهم ويؤيِّده قراءةُ يَا حسرتَا لأنَّ المعنى يا حسرتِي ونصبُها لطولِها بما تعلَّق بها من الجارِّ وقيل بإضمارِ فعلِها والمنادى محذوف وقرىء ياحسرة العبادِ بالإضافةِ إلى الفاعلِ او المفعول ويا حسرة على العبادِ بإجراءِ الوصلِ مجرى الوقفِ(7/165)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)
{أَلَمْ يَرَوْاْ} أي ألم يعلمُوا وهو معلَّقٌ عن العمل في قوله تعالى {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون} لأنَّ كم لا يعملُ فيها ما قبلها وإنْ كانتْ خبريَّةً لأنَّ أصلَها الاستفهامُ خلا أنَّ معناه نافذٌ في الجُملةِ كما نفذَ في قولك ألم تَرَ إنَّ زيداً لمنطلقٌ وإن لم يعملْ في لفظه {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ}(7/165)
بدلٌ من كم أهلكنا على المعنى أيْ ألم يروا كثرةَ إهلاكِنا من قبلهم من المذكُورين آنِفاً ومن غيرهم كونهم غير راجعين إليهم وقُرىء بالكسرِ على الاستئنافِ وقُرىء ألم يَرَوا من أهلكنا والبدلُ حينئذٍ بدلُ اشتمالٍ(7/166)
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
{وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} بيانٌ لرجوع الكلِّ إلى المحشرِ بعد بيان عدم الرُّجوعِ إلى الدُّنيا وأنْ نافية وتنوينُ كلٌّ عوضٌ عن المضافِ إليهِ ولمَّا بمعنى إلاَّ وجميعُ فعيلٌ بمعنى مفعولٍ ولدينا ظرفٌ له أو لما بعده والمعنى ما كلُّهم إلاَّ مجموعون لدينا مُحضرون للحسابِ والجزاءِ وقيل محضرون معذبون فكل عبارةٌ عن الكَفَرة وقُرىء لما بالتَّخفيفِ على أنَّ مُخفّفة من الثقيلة واللامُ فارقةٌ وما مزيدةٌ للتأكيد والمعنى أنَّ كلهم مجموعون الخ(7/166)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
{وآية لهم الأرض الميتة} بالتخفيف وقُرىء بالتَّشديدِ وقوله تعالى آيةٌ خبرٌ مقدَّمٌ للاهتمامِ به وتنكيرُها للتفخيم ولهم إمَّا متعلِّقةٌ بها لأنَّها بمعنى العلامةِ أو بمضمرٍ هو صفةٌ لها والأرضُ مبتدأٌ والميتةُ صفتُها وقوله تعالى {أحييناها} استئنافٌ مبيّن لكفية كونها آيةً وقيل آيةٌ مبتدأٌ ولهم خبرٌ والأرضُ الميتةُ مبتدأ موصوف وأحييناها خبره والجملة مفسِّرة لآية وقيل الإرض مبتدأ وأحييناها خبرُه والجملةُ خبرٌ لآيةٌ وقيل الخبرُ لها هو الأرضُ وأحييناها صفتُها لأنَّ المرادَ بها الجنسُ لا المعيِّنة والأولُ هو الأَولى لأن مصب الفائدة هو كونُ الأرضِ آيةً لهم لا كونُ الآيةِ هي الأرضُ {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} جنس الحبِّ {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} تقديم الصِّلةِ للدِّلالةِ على أنَّ الحبَّ معظم ما يُؤكل ويُعاش به(7/166)
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)
{وجعلنا فيها جناتٌ من نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي من أنواعِ النَّخلِ والعنبِ ولذلك جُمعا دون الحبِّ فإنَّ الدّالّ على الجنسِ مشعرٌ بالاختلافِ ولا كذلك الدَّالُّ على الأنواعِ وذكرُ النَّخيلِ دُون التُّمور ليطابقَ الحبَّ والأعنابَ لاختصاص شجرها بمزيدِ النَّفعِ وآثار الصُّنعِ {وَفَجَّرْنَا فِيهَا} وقُرىء بالتَّخفيفِ والفجرُ والتَّفجيرُ كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى {مِنَ العيون} أي بعضاً من العُيون فحذف الموصوفُ وأُقيمت الصفةُ مُقامَه أو العيون ومن مزيدةٌ على رأي الأخَفْشِ(7/166)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)
{لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرَهِ} متعلِّقٌ بجعلنا وتأخيرُه عن تفجير العيون لانه من مبادى الأثمارِ أي وجعلنا فيها جنَّاتٍ من نخيلٍ ورتبنا مبادى أثمارِها ليأكُلوا من ثمرِ ما ذُكر من الجنَّاتِ والنَّخيلِ بإجراء الضَّميرِ مجرى اسمِ الإشارةِ وقيل الضَّميرُ لله تعالى بطريقِ الالتفاتِ إلى الغَيبةِ والإضافةُ لأنَّ الثَّمرَ يخلقُه تعالى وقُرىء بضمَّتينِ وهي لغةٌ فيه أو جمع ثمارٍ وبضمَّةٍ وسكونٍ {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} عطفٌ على ثمرِه وهو ما يُتَّخذُ منه من العصير والدِّبس ونحوهما وقيل ما نافيةٌ والمعنى أن الثمر بخلق الله تعالى لا بفعلهم ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحاليةِ ويؤكد الأوَّلَ قراءة(7/166)
يس 36 38 عملتُ بلا هاءٍ فإنَّ حذفَ العائدِ من الصِّلةِ أحسنُ من الحذفِ من غيرِها {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} إنكارٌ واستقباحٌ لعدم شكرِهم للنِّعم المعدودةِ والفاء للعطفِ على مقدر يقتضيه المقام أي أيرون هذه النِّعمَ أو أيتنعمون بها فلا يشكرونَها(7/167)
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
{سُبْحَانَ الذي خَلَق الازواج كُلَّهَا} استئنافٌ مسوقٌ لتنزيهه تعالى عمّا فعلوه من ترك شكره على آلائه المذكورة واستعظام ما ذُكر في حيز صلة من بدائعِ آثارِ قُدرتِه وأسرارِ حكمتِه وروائعِ نعمائِه الموجبةِ للشُّكرِ وتخصيصِ العبادةِ به والتَّعجيب من إخلالِهم بذلك والحالةُ هذه وسبحانَ علمٌ للتَّسبيحِ الذي هو التبعيدُ عن السُّوءِ اعتقاداً وقولاً أي اعتقادَ البعدِ عنه والحكمَ به مِنْ سبَح في الأرضِ والماءِ إذا أبعدَ فيهما وأمعنَ ومنه فرسٌ سَبُوحٌ أي واسعُ الجرْي وانتصابُه على المصدريّةِ ولا يكاد يُذكر ناصبُه أي أُسبِّحُ سبحانَه أي أنزّهُه عمَّا لا يليقُ به عقْداً وعملاً تنزيهاً خاصَّا به حقيقاً بشأنِه وفيه مبالغةٌ من جهة الاشتفاق من السَّبْح ومن جهة النَّقلِ إلى التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ عن المصدرِ الدَّالِ على الجنسِ إلى الاسمِ الموضوع له خاصَّة لاسيما العلمُ المشيرُ إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ ومن جهة إقامتهِ مُقامَ المصدرِ مع الفعلِ وقيل هو مصدرٌ كغُفرانٍ أُريد به التنزُّهُ التامُّ والتَّباعد الكُلِّيُ عن السُّوءِ ففيه مبالغةٌ من جهةِ إسنادِ التَّنزه إلى الذَّاتِ المُقدَّسةِ فالمعنى تنزه بذاتِه عن كلِّ ما لا يليقُ به تنزُّهاً خاصَّا به فالجملةُ على هذا إخبارٌ من الله تعالى بتنزهِه وبراءتِه عن كل مالا يليقُ به مَّما فعلُوه وما تركُوه وعلى الأوَّلِ حكم منه عزَّ وجلَّ بذلك وتلقين للمؤمنين أنْ يقولوه ويعتقدُوا مضمونَه ولا يُخلُّوا به ولا يغفلُوا عنه المراد بالأزواجِ الأصنافُ والأنواعُ {مِمَّا تُنبِتُ الارض} بيانٌ لها والمرادُ به كلُّ ما ينبتُ فيها من الأشياءِ المذكورةِ وغيرها {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} أي خلقَ الأزواجَ من أنفسِهم أي الذَّكرَ والأُنثى {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} أي والأزواجَ مما لم يُطلعهم الله تعالى على خُصوصيَّاتهِ لعدمِ قُدرتِهم على الاحاطةِ بها ولمَّا لم يتعلَّق بذلك شيءٌ من مصالحِهم الدِّينيةِ والدُّنيويةِ وإنما أطلعَهم على ذلك بطريقِ الإجمالِ على منهاج قوله تعالى وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ لما نبط به وقوفُهم على عظمِ قدرتِه وسعةِ مُلكهِ وسلطانِه(7/167)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
{وآية لهم الليل} جملةٌ من خبرٍ مقدمٍ ومبتدأٍ مؤخَّرٍ كما مرَّ وقوله تعالى {نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} جملةٌ مبيِّنة لكيفيَّةِ كونِه آيةً أي نُزيله ونكشفُه عن مكانِه مستعارٌ من السَّلخِ وهو إزالةُ ما بين الحيوانِ وجلدِه من الاتِّصالِ والأغلبُ في الاستعمالِ تعليقُه بالجلدِ يقال سلختُ الإهابَ من الشَّاةِ وقد يُعكس ومنه الشَّاةُ المسلوخةُ {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} أي داخلونَ في الظَّلامِ مفاجأةً وفيه رمزٌ إلى أنَّ الأصلَ هو الظَّلامُ والنُّورُ عارضٌ(7/167)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
{والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} لحدَ مُعين ينتهي إليهِ دورُها فشبه بمستقرِّ المسافرِ اذا قطع مسيرَه أو لكبد السَّماءِ فإنَّ حركتَها فيه توجد ابطأ(7/167)
يس 39 41 بحيثُ يظنُّ أنَّ لها هناك وقفةً قال والشَّمسُ حَيْرى لها بالجوِّ تدويمُ أو لا استقرارَ لها على نهجٍ مخصوصٍ أو لمنتهى مقدَّر لكلِّ يومٍ لكلِّ يومٍ من المشارقِ والمغاربِ فإنَّ لها في دورِها ثلاثمائة وستِّين مشرقاً ومغرباً تطلع كلَّ يومٍ من مطلعِ وتغربُ من مغرب ثم لا يعود إليهما إلى العامِ القابلِ او المنقطع جريها عند خرابِ العالمِ وقُرىء إلى مستقرَ لها وقُرىء لا مستقرَّ لها أي لاسكون لها فإنَّها متحرِّكةٌ دائماً وقُرىء لا مستقرَّ لها على أنَّ لا بمعنى ليسَ {ذلك} إشارةٌ إلى جريها وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بالمُشار إليه للإيذان بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلتِه أي ذلك الجريُ البديعِ المنطوي على الحِكَم الرَّائعةِ التي تحارُ في فهمها العقولُ والأفهامُ {تَقْدِيرُ العزيز} الغالبِ بقُدرته علَى كلِّ مقدورٍ {العليم} المحيطِ علمُه بكلِّ معلومٍ(7/168)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
{والقمر قدرناه} بالنَّصبِ بإضمار فعل يفسره الظاهر وقُرِىءَ بالرَّفعِ على الابتداءِ أي قدَّرنا له {مَنَازِلَ} وقيل قدرنا مسيرَه منازلَ وقيل قدرنَاهُ ذا منازلَ وهي ثمانية وعشرون الشرطين البطان الثُّريَّا الدبَرانُ الهقعةُ الهنعةُ الذراعُ النثرةُ الطرفُ الجبهةُ الزبرةُ الصِّرفةُ العَوَا السِّماكُ الغفر الزباني الا كليل القلبُ الشوْلةُ النعائمُ البلدةُ سعدُ الذابحُ سعدُ بلَع سعدُ السعودِ سعدُ الأخبيةِ فرغُ الدلوِ المقدَّم فرغُ الدَّلوِ المؤخّرُ الرَّشا وهو بطنُ الحوتِ ينزل كلَّ ليلةٍ في واحدٍ منها لا يتخطَّاها ولا يتقاصرُ عنها فإذا كان في آخرِ منازلِه وهو الذي يكون قبيلَ الاجتماع دقَّ واستقوسَ {حتى عَادَ كالعرجون} كالشِّمراخِ المُعوجِ فعلون من الانعراجِ وهو الاعوجاجُ وقُرىء كالعَرجونَ وهما لغتانِ كالبُزيَون والبِزيونِ {القديم} العَتيقِ وقيل هو ما مرَّ عليه حولٌ فصاعداً(7/168)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
{لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا} أي يصحُّ ويتسهَّلُ {أَن تدْرِكَ القمر} في سرعةِ السَّيرِ فإنَّ ذلكَ يخلُّ بتكون النَّباتِ وتعيُّشِ الحيوانِ أو في الآثارِ والمنافعِ أو في المكانِ بأن تنزلَ في منزلِه أو في سلطانه فتطمس نورَه وإيلاءُ حرفِ النَّفي الشَّمسَ للدلالة على انها مسخرات لا يتيسر لها إلا ما قُدرِّ لها {ولا الليل سَابِقُ النهار} أي يسبقُه فيفوتُه ولكنْ يعاقُبه وقيل المراد بهما آيتاهما وهما النيِّرانِ وبالسبقِ سبقُ القمرِ إلى سُلطانِ الشَّمسِ فيكون عكساً للأوَّلِ وإيراد السَّبقِ مكان الإدراك لأنَّه الملائمُ لسرعةِ سيرهِ {وَكُلٌّ} أي وكلُّهم على أن التنوين عوضٌ عن المضافِ إليهِ الذي هو الضميرُ العائدُ إلى الشَّمسِ والقمرِ والجمعُ باعتبارِ التَّكاثرِ العارضِ لهما بتكاثرِ مطالعهما فإنَّ اختلافَ الأحوالِ يُوجب تَعدداً ما في الذَّاتِ أو إلى الكواكبِ فإنَّ ذكرَهما مشعرٌ بها {فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يسيرُون بانبساط وسهولة(7/168)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
{وآية لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ} أولادَهم الذين يبعثُونهم إلى تجاراتِهم أو صبيانَهم ونساءَهم الذين يستصحبونهم فإنَّ الذُّريةَ تطلقُ عليهن لا سيَّما مع الاختلاطِ وتخصيصُهم بالذِّكرِ لما أنَّ استقرارَهم في السُّفنِ أشقُّ واستمساكهم فيها أبدعُ {فِى الفلك المشحون} أي المملوءِ وقيل هو فلك نوح(7/168)
يس 42 45 عليه السَّلامُ وحملُ ذريَّاتِهم فيها حملُ آبائِهم الأقدمين وفي أصلابِهم هؤلاء وذرياتُهم وتخصيصُ أعقابِهم بالذَّكرِ دُونَهم لأنه أبلغَ في الامتنانِ وأدخلُ في التَّعجيبِ الذي عليه يدورُ كونُه آيةً(7/169)
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)
{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ} ممَّا يماثلُ الفُلكَ {مَا يَرْكَبُونَ} من الإبل فإنها سفائنُ البرِّ أو ممَّا يُماثل ذلك الفُلكَ من السُّفنِ والزَّوارقِ وجعلها مخلوقةً لله تعالى مع كونِها من مصنوعاتِ العبادِ ليس لمجرَّدِ كون صُنعِهم بأقدارِ الله تعالى وإلهامِه بل لمزيدِ اختصاصِ أصلِها بقُدرته تعالى وحكمته حسبما يُعرب عنه قولُه عزَّ وجلَّ واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا والتَّعبيرُ عن مُلابستهم بهذه السُّفنِ بالرُّكوبِ لأنَّها باختيارهم كما أنَّ التعبيرَ عن مُلابسة ذُرِّيَّتهم بفُلكِ نوحٍ عليه السَّلامُ بالحَملِ لكونِها بغير شعورٍ منهم واختيارٍ(7/169)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)
{وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} الخ من تمامِ الآيةِ فإنَّهم معترفون بمضمونِه كما ينطقُ به قولُه تعالى وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين وقرئ نُغرِّقهم بالتَّشديدِ وفي تعليق الإغراقِ بمحض المشيئةِ إشعار بأنَّه قد تكامل ما يُوجب إهلاكَهم من معاصيهم ولم يبقَ آلاَّ تعلُّقُ مشيئتِه تعالى به أي إنْ نشأْ نغرقهم في اليمِّ مع ما حملناهم فيه من الفُلك فحديثُ خَلْقِ الإبل حينئذٍ كلامٌ جئ به في خلالِ الآيةِ بطريق الاستطرادِ لكمالِ التَّماثلَ بين الإبلِ والفُلكِ فكأنَّها نوعٌ منه أو مع ما يركبون من السُّفنِ والزَّوارقِ {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} أي فلا مُغيثَ لهم يحرسهم من الغَرَق ويدفعه عنهم قبل وقوعِه وقيل فلا استغاثةَ لهم من قولِهم أتاهم الصَّريخُ {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ} أي ينجُّون منه بعد وقوعِه وقوله تعالى(7/169)
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
{إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا وَمَتَاعاً} استثناء مفرغ من أعم العللِ الشَّاملةِ للباعث المتقدِّمِ والغاية المتأخِّرةِ أي لا يغاثون ولا ينقذون لشئ من الأشياءِ إلا لرحمةٍ عظيمةٍ من قبلنا داعيةٍ إلى الإغاثةِ والانقاذِ وتمتيع بالحياة مترتِّب عليهما ويجوزُ أنْ يُرادَ بالرَّحمةِ ما يُقارن التَّمتيعَ من الرَّحمةِ الدُّنيويَّةِ فيكون كلاهما غايةً للإغاثةِ والانقاذِ أي لنوعٍ من الرحمة وتمتيع {إلى حِينٍ} أي إلى زمانٍ قُدِّر فيه آجالُهم كما قيل ... ولم أسلمْ لكي أبقَى ولكن ... سَلِمتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ ...(7/169)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
{وإذا قيل لهم اتقوا} بيانٌ لإعراضِهم عن الآياتِ التَّنزيليةِ بعد بيانِ إعراضِهم عن الآيات الآفافية التي كانُوا يشاهدونَها وعدم تأمُّلِهم فيها أيْ إذَا قيل لهم بطريقِ الإنذارِ بما نزل من الآيات أو بغيره اتَّقوا {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} من الآفاتِ والنَّوازلِ فإنَّها محيطة بكم أو ما يصيبكم من المكاره مِن حيثُ تحتسبون ومن حيثُ لا تحتسبون أو من الوقائع النَّازلةِ على الأُمم الخالية قبلكم والعذاب المعدِّ لكم في الآخرة أو من نوازل السَّماءِ ونوائب(7/169)
يس 46 47 الأرض أو من عذابَ الدُّنيا وعذابَ الآخرةِ أو ما تقدَّم من الذُّنوبِ وما تأخَّر {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} إمَّا حال من واوِ اتقوا أو غايةٌ له أي راجين أنْ تُرحموا أو كي تُرحموا فتنجُوا من ذلك لما عرفتُم أنَّ مناط النَّجاةِ ليس إلاَّ رحمةَ الله تعالى وجوابُ إذا محذوف ثقةً بانفهامِه من قوله تعالى(7/170)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
{وما تأتيُهم من آيةٍ من آيات رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} انفهاماً بيِّناً أمَّا إذا كان الإنذارُ بالآيةِ الكريمة فبعبارةِ النَّصِّ وأمَّا إذا كان بغيرها فبدلالته لأنَّهم حين أعرضوا عن آياتِ ربِّهم فلأنْ يُعرضوا عن غيرِها بطريق الأولويَّةِ كأنَّه قيل وإذا قيل لهم اتَّقوا العذاب أعرضُوا حسبما اعتادُوه وما نافيةٌ وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرارِ التَّجدُّدِي ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم والثاني تبعيضيةٌ واقعةٌ مع مجرورِها صفةً لآيةٍ وإضافةُ الآيات إلى اسم الرب المضافِ إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتْبِعِ لتهويل ما اجترُءوا عليه في حقِّها والمراد بها إمَّا الآياتُ التنزيليةُ فإتيانُها نزولُها والمعنى ما ينزِلُ إليهم آيةٌ من الآيات القرآنيةَ التي من جُمْلتِها هذهِ الآياتُ الناطقةُ بما فُصِّل من بدائعِ صنعِ الله تعالى وسوابغ آلائِه الموجبةِ للإقبال عليها والإيمانِ بها إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا معرضين على وجه التكذيبِ والاستهزاء وإمَّا ما يعمُّها وغيرها من الآياتُ التكوينيةُ الشاملةُ للمعجزات وغيرِها من تعاجيبِ المصنوعاتِ التي منْ جُملتها الآياتُ الثَّلاثُ المعدودة آنِفاً فالمرادُ بإتيانها ما يعمُّ نزول الوحيِ وظهور تلك الأمورِ لهم والمعنى ما يظهر لهم آيةٌ منَ الآياتِ التي منْ جُمْلتها ما ذكِرَ منَ شئونه الشَّاهدةِ بوحدانيَّتِه تعالى وتفرُّدهِ بالألُوهَّيةِ إلاَّ كانُوا عنها مُعرضين تاركين للنظر الصحيحِ فيها المؤدِّي إلى الإيمان به تعالى وإيثارُه على أنْ يُقال إلاَّ أعرضُوا عنها كما وقع مثلُه في قوله تعالى وأن يروا آية يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ الدلالة على استمرارهم على الإعراضِ حسَبَ استمرارِ إتيانِ الآياتِ وعن متعلقةٌ بمعرضين قُدِّمت عليه مراعاةً للفواصل والجملةُ في حيز النصبِ على أنَّها حالٌ من مفعولِ تأتي أو من فاعلِه المتخصِّصِ بالوصف لاشتمالِها على ضمير كلَ منهُما والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوالِ أي ما تأتيُهم من آيةٍ من آيات ربِّهم في حالٍ من أحوالِهم إلا حالَ إعراضِهم عنها أو ما تأتيهم آيةٌ منها في حالٍ من أحوالِها إلا حالَ إعراضِهم عنها(7/170)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ من ما رِزَقَكُمُ الله} أي أعطاكُم بطريق التَّفضلِ والإنعام من أنواع الأموالِ عبَّر عنها بذلكَ تحقيقاً للحقِّ وترغيباً في الإنفاق على منهاج قولِه تعالى وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وتنبيهاً على عِظَمِ جنايتهم في تركِ الامتثالِ بالأمر وكذلك من التبعيضية أي إذا قيل لهم بطريق النصيحة أنفقُوا بعض ما أعطاكم الله تعالى من فضله على المحتاجين فإنَّ ذلك مما يرد البلاء ويدفعُ المكاره {قَالَ الذين كَفَرُواْ} بالصَّانعِ عزَّ وجلَّ وهم زنادقةٌ كانُوا بمكَّةَ {للذين آمنوا} تهكُّماً بهم وبما كانُوا عليه من تعليق الأمورِ بمشيئةِ الله تعالى {أَنُطْعِمُ} حسبما تعظوننا به {مَن لَّوْ يَشَاء الله أَطْعَمَهُ}(7/170)
أي على زعمِكم وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان بمكَّةَ زنادقُة إذا أُمروا بالصَّدقةِ على المساكين قالوا لا والله أيُفقره الله ونُطعمه نحنُ وقيل قالَه مُشركو قُريشٍ حين استطعمهم فقراءُ المؤمنين من أموالهم التي زعمُوا أنَّهم جعلُوها لله تعالى مِنَ الحرث والأنعامِ يُوهمون أنَّه تعالى لما لم يشأْ إطعامَهم وهو قادرٌ عليه فنحن أحقُّ بذلك وما هو إلا لفرطِ جهالتِهم فإنَّ الله تعالى يُطعم عبادَه بأسبابٍ من جُملتها حثُّ الأغنياءِ على إطعامِ الفُقراء وتوفيقُهم لذلك {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ} حيثُ تأمروننا بما يُخالف مشيئةَ الله تعالى وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ جواباً لهم من جهتِه تعالى أو حكايةً لجواب المُؤمنين لهم(7/171)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} أي فيما تعدوننا بهِ من قيام السَّاعةِ مخُاطبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لمَا أنَّهم أيضاً كانُوا يتلون عليهم آياتِ الوعيدِ بقيامها ومعنى القُرْبِ في هذا إمَّا بطريق الاستهزاءِ وإمَّا باعتبارِ قُربِ العهدِ بالوعدِ(7/171)
مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
{مَا يَنظُرُونَ} جوابٌ من جهتهِ تعالى أي ما ينتظرونَ {إِلا صَيْحَةً واحدة} هي النَّفخةُ الأولى {تَأُخُذُهُمْ} مفاجأةً {وَهُمْ يَخِصّمُونَ} أي يتخاصمُون في متاجرِهم ومعاملاتِهم لا يخطر ببالهم شئ من مخايلها كقولِه تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فلا يغترُّوا بعدم ظهور علائِمها ولا يزعمُوا أنَّها لا تأتيهم وأصلُ يخصِّمون يَخْتَصِمُون فُسكِّنت التَّاءُ وأُدغمتْ في الصَّادِ ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين وقرئ بكسر الياءِ للاتباعِ وبفتح الخاءِ على إلقاءِ حركةِ التاء عليه وقرئ على الاختلاسِ وبالإسكانِ على تجويزِ الجمعِ بين السَّاكنينِ إذا كان الثَّاني مُدغَماً وإنْ لم يكُن الأوَّلُ حرف مد وقرئ يَخْصِمُون من خَصَمَه إذا جَادَله(7/171)
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
{فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} في شئ من أمورِهم إنْ كانُوا فيما بين أهليهم {وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} إنْ كانُوا في خارج أبوابِهم بل تبغتهم الصَّيحةُ فيموتون حيثُما كانُوا(7/171)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
{وَنُفِخَ فِى الصور} هيَ النَّفخةُ الثَّانيةُ بينها وبين الأوُلى أربعون سنةً أي يُنفخ فيهِ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على تحقق الوقوع {فَإِذَا هُم مّنَ الاجداث} أي القبورِ جمع جَدَثٍ وقرئ بالفاءِ {إلى رَبّهِمْ} مالِكَ أمرِهم على الإطلاقِ {يَنسِلُونَ} يُسرعون بطريقِ الإجبارِ دُونَ الأختيارِ لقولِه تعالى لدينا محضرون وقرئ بضمِّ السِّينِ(7/171)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
{قَالُواْ} أي في ابتداء بعثهم من القبور {يا ويلنا} احضر فهذا أوانك وقرئ يا ويلتَنَا {مَن بَعَثَنَا من مرقدنا} وقرئ مَن أهبّنا من هبَّ من نومه إذا انتبه وقرئ من هَبّنا بمعنى أهبنا وقيل أصله(7/171)
يس 53 55 هبَّ بنا فحُذف الجارُّ وأُوصل الفعلُ إلى الضَّميرِ قيل فيه ترشيحٌ ورمزٌ وإشعار بأنَّهم لاختلاطِ عقولِهم يظنُّون أنَّهم كانوا نياماً وعن مجاهدٍ أنَّ للكفَّار هجعةً يجدون فيها طعمَ النَّومِ فإذا صِيح بأهل القُبور يقولون ذلكَ وعنِ ابنِ عبَّاسٍ وأُبيِّ بنِ كعبٍ وقَتادة رحمهم الله تعالى إِنَّ الله تعالى يرفعُ عنهم العذابَ بينَ النَّفختينِ فيرقدُون فإذا بُعثوا بالنَّفخةِ الثَّانيةِ وشاهدُوا من أهوال يوم القيامةِ ما شاهدُوا دَعَوا بالويلِ وقالوا ذلك وقيل إذا عاينُوا جَهَنَّمَ وما فيها من أنواع العذابِ يصير عذابُ القبر في جنبِها مثلَ النَّومِ فيقولون ذلك وقُرىء مِن بَعْثنا ومِن هَبّنا بمن الجارَّةِ والمصدرِ والمرقدُ إمَّا مصدرٌ أي من رُقادِنا أو اسمُ مكانٍ أُريد به الجنسُ فينتظم مراقدَ الكلِّ {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون} جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ وما موصولةٌ محذوفةٌ العائدِ أو مصدريةٌ وهو جواب من قبل الملائكةِ أو المؤمنينَ عُدل به عن سَننِ سؤالِهم تذكيراً لكُفرهم وتقريعاً لهم عليه وتنبيهاً على أنَّ الذي يهُمهم هو السُّؤالُ عن نفسِ البعثِ ماذا هو دون الباعثِ كأنَّهم قالُوا بعثكم الرحمن الذي وعدكُم ذلك في كتبِه وأرسلَ إليكم الرُّسلَ فصدقُوكم فيه وليسَ الأمرُ كما تتوهمونَه حتَّى تسألُوا عن الباعثِ وقيلَ هُو مِنْ كلامِ الكافرينَ حيث يتذكرون ما سمعوه من الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فيجيبونَ به أنفسَهم أو بعضَهم بعضاً وقيل هذا صفةٌ لمرقدنا وما وعدَ الخ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي ما وعد الرَّحمنُ وصدقَ المرسلونَ حقٌّ(7/172)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)
{إِن كَانَتْ} أي ما كانَتْ النَّفخةُ التي حكيتُ آنفاً {إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} حصلتْ من نفخ إسرافيلَ عليه السَّلامُ في الصُّور {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ} أي مجموعٌ {لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} من غيرِ لبثٍ ما طرفهَ عينٍ وفيه من تهوينِ أمرِ البعثِ والحشرِ والإيذانِ باستغائهما عن الأسبابِ ما لا يَخْفى(7/172)
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
{فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ} من النُّفوسِ برةً كانتْ أو فاجرةً {شَيْئاً} من الظُّلم {وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كنتم تعملون} أي الا جزاءَ ما كنتُم تعملونَهُ في الدُّنيا على الاستمرار من الكفر والمعاصي على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامه للتَّنبيه على قُوَّةِ التَّلازمِ والارتباط بينهما كأنَّهما شيءٌ واحدٌ أو إلاَّ بما كنتُم تعملونَه أي بمقابلتِه أو بسببهِ وتعميمُ الخطابِ للمؤمنين يردُّه أنَّه تعالى يُوفِّيهم أجورهم ويزيدَهم من فضلِه أضعافاً مضاعفةً وهذه حكايةٌ لما سيُقال لهم حين يَرَوْنَ العذابَ المُعدَّ لهم تحقيقاً للحقِّ وتقريعاً لهم وقوله تعالى(7/172)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
{إِنَّ أصحاب الجنة اليوم فِى شُغُلٍ فاكهون} من جُملة ما سيُقال لهم يومئذ زيادةً لحسرتِهم وندامتِهم فإنَّ الأخبارَ بحسن حالِ أعدائِهم إثرَ بيان سُوء حالِهم مَّما يزيدُهم مساءةً على مساءةٍ وفي هذه الحكايةِ مزجرةٍ لهؤلاءِ الكَفرةِ عمَّا هم عليه ومدعاةٌ إلى الاقتداء بسيرةِ المُؤمنين والشُّغُل هو الشَّأنُ الذي يصدُّ المرءَ ويشغلُه عمَّا سواهُ من شئونه لكونِه أهمَّ عنده من الكُلِّ إمَّا لإيجابهِ كمالَ المسرة(7/172)
يس 56 57 والبهجةِ أو كمالِ المساءةِ والغمِّ والمرادُ ههنا هو الأولُ وما فيه من التنكير والإبهامِ للإيذان بارتفاعِه عن رتبةِ البيانِ والمراد به ما هم فيه من فنون الملاذّ التي تلهيهم عمَّا عداهَا بالكلية وإمَّا أنَّ المرادَ به افتضاضُ الابكار او السماع وضرب الاوتار او النزاور أو ضيافةُ الله تعالى أو شغلُهم عمَّا فيه أهلُ النَّارِ على الإطلاقِ أو شغلُهم عن أهاليهم في النَّارِ لا يهمهم أمرُهم ولا يُبالون بهم كيلا يُدخلَ عليهم تنغيصٌ في نعيمهم كما رَوى كلُّ واحدٍ منها عن واحدٍ من أكابرِ السَّلفِ فليس مرادُهم بذلك حصرَ شغلِهم فيما ذُكرُوه فقطُ بل بيانَ أنَّه من جملة اشغالهم وتخصيصُ كلَ منهم كلاًّ من تلكَ الأمورِ بالذكرِ محمول على اقتضاء مقامِ البيانِ إياَّه وهو مع جارِه خبرٌ لأنَّ وفاكهون خبر آخرُ لها أي أنهم مستقرُّون في شغل وأي شغلٍ في شغل عظيمِ الشَّأنِ متنعمون بنعيمٍ مقيم فائزون بملك كبيرٍ والتَّعبيرُ عن حالِهم هذه بالجملةِ الاسميةِ قبل تحققها بتنزيل المترقب المتوقَّعِ منزلة الواقع للإيذان بغايةِ سرعةِ تحقُّقها ووقوعِها ولزيادةِ مساءة المخاطَبين بذلك وقرىء في شغل بسكون الغين وفي شَغَل بفتحتين وبفتحةٍ وسكون والكل لغات وقرئ فكهون للمبالغةِ وفَكُهون بضمِّ الكاف وهي لغةٌ كنطُس وفاكهينَ وفكهِين على الحالِ من المستكنِّ في الظرف وقوله تعالَى(7/173)
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)
{هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الارائك مُتَّكِئُونَ} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ كيفيَّةِ شغلِهم وتفكّههم وتكميلهما بما يزيدهُم بهجة وسروراً من شركة أزواجِهم لهم فيمَا هُم فيهِ من الشُّغل والفكاهةِ على أنَّ هم مبتدأ وأزواجهم عطفٌ عليه ومتكئون خبر والجارَّانِ صلتانِ له قدمتا عليهِ لمراعاةِ الفواصلِ أو هو والجارانِ بما تعلّقا به من الاستقرارِ أخبارٌ مترتبة وقيل الخبر هو الظَّرفُ الأولُ والثَّاني مستأنفٌ على أنَّه متعلق بمتكئون وهو خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ وقيل على أنَّه خبرٌ مقدمٌ ومتكئون مبتدأٌ مؤخر وقرئ متكين بلا همز نصباً على الحالِ من المستكنَّ في الظَّرفينِ أو أحدِهما وقيل هم تأكيدٌ للمستكن في خبر إن ومتكئون خبرٌ آخرُ لها وعلى الأرائكِ متعلَّقٌ به وكذا في ظلال أو هذا بمضمرٍ هو حالٌ من المعطوفين والظِّلالُ جمع ظلَ كشعابٍ جمع شعبٍ أو جمع ظُلَّةٍ كقِباب جمع قبة ويؤيده قراءة في ظُللٍ والأرائك جمعُ أريكةٍ وهي السَّريرُ المزين بالثيابِ والسُّتورِ قال ثعلبٌ لا تكون أريكةٌ حتى تكونَ عليها حجلةٌ وقوله تعالى(7/173)
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)
{لَهُمْ فِيهَا فاكهة} الخ بيانٌ لما يتمتعون به في الجنةِ من المآكلِ والمشارب ويتلذذون به من الملاذِّ الجسمانيةِ والرُّوحانيةِ بعد بيانِ ما لهُم فيها من مجالسِ الأنسِ ومحافلِ القدسِ تكميلاً لبيانِ كيفيةِ ما هُم فيه من الشغلِ والبهجةِ أي لهم فيها فاكهةٌ كثيرةٌ من كلِّ نوعٍ من الفواكِه وما في قولِه تعالى {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} موصولةٌ أو موصوفةٌ عبَّر بها عن مدعوَ عظيمِ الشَّأنِ معيَّنٍ أو مبهمٍ إيذاناً بأنَّه الحقيقُ بالدُّعاءِ دون ما عداه ثم صرَّح به رَوْماً لزيادةِ التَّقريرِ بالتَّحقيقِ بعد التَّشويقِ كما ستعرفه أو هي باقيةٌ على عمومها قصد بها التَّعميمِ بعد تخصيصِ بعضِ الموادِّ المعتادةِ بالذكر وأيا ما كانَ فهو مبتدأ ولهم خبرُه والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ السَّابقةِ وعدمُ الاكتفاءِ بعطفِ ما يدَّعون على فاكهة لئلا(7/173)
يس 58 59 يتوهم كونِ ما عبارةً عن توابعِ الفاكهةِ وتتماتها والمَعْنى ولهم ما يدَّعون به لأنفسِهم من مدعوَ عظيمِ الشَّأنِ أو كل ما يدَّعُون به كائناً ما كانَ منْ أسبابِ البهجةِ وموجباتِ السرُّورِ وأيا ما كان ففيه دلالة على أنَّهم في أقصى غايةِ البهجةِ والغبطةِ ويدّعون يفتعلونَ من الدُّعاءِ كما أُشير إليه مثل اشتوى واجتمَل إذا شوَى وجمل لنفسهِ وقيل بمعنى يتداعون كالارتماءِ بمعنى التَّرامي وقيل بمعنى يتمَّنون من قولِهم ادعُ على ما شئتَ بمعنى تمنَّه علي وقال الزَّجَّاجُ هو من الدُّعاءِ أي ما يدعُو به أهلُ الجنَّةِ يأتيهم فيكون الافتعالِ بمعنى الفعلِ كالاحتمالِ بمعنى الحملِ والارتحالِ بمعنى الرِّحلةِ ويعضدُه القراءةُ بالتَّخفيفِ كما ذكره الكواشيُّ وقوله تعالى(7/174)
سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
{سلام} على التَّقديرِ الأوَّلِ بدلٌ من ما يدَّعُون أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ وقوله تعالى {قَوْلاً} مصدرٌ مؤكدٌ لفعل هو صفة لسلامٌ وما بعده من الجارِّ متعلِّقٌ بمضمر هو صفةٌ له كأنَّه قيل ولهم سلامٌ أو ما يدَّعُون سلامٌ يُقال لهم قَولاً كائناً {مِنْ} جهةِ {رَّبّ رَّحِيمٍ} أي يُسلَّم عليهم من جهتِه تعالى بواسطة المَلَكِ أو بدونِها مبالغةً في تعظيمهم قال ابن عباس رضي الله عنهما والملائكةُ يدخلُون عليهم بالتَّحيةِ من ربِّ العالمين وأمَّا على التَّقديرِ الثَّاني فقد قيل إنَّه خبرٌ لمَا يدَّعُون ولهم لبيان الجهةِ كما يُقال لزيدٍ الشَّرفُ متوفِّرٌ على أنَّ الشَّرفَ مبتدأٌ ومتوفِّرٌ خبرُه والجارُّ والمجرورُ لبيانِ مَن له ذلك أي ما يدَّعُون سالمٌ لهم خالصٌ لا شوبَ فيهِ وقولاً حينئذٍ مصدرٌ مؤكدٌ لمضمون الجملةِ أي عدةٌ من ربَ رحيمٍ والأوجَهُ أنْ ينتصبَ على الاختصاصِ وقيل هو مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أيْ لهم سلامٌ أي تسليمٌ قَوْلاً من رَّبّ رَّحِيمٍ أو سلامةٌ من الآفاتِ فيكون قولاً مصدراً مؤكداً لمضمونِ الجملة كما سبقَ وقيل تقديرُه سلامٌ عليهم فيكون حكايةً لما سيقالُ لهم من جهتِه تعالى يومئذٍ وقيل خبرُه الفعلُ المقدَّر ناصباً لقولاً وقيل خبرُه من ربَ رحيمٍ وقرئ سلاماً بالنَّصبِ على الحاليَّةِ أي لهم مرادُهم سالماً خالصا وقرئ سلمٌ وهو بمعنى السَّلامِ في المعنيينِ(7/174)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
{وامتازوا اليوم} عطفٌ إمَّا على الجملة السَّابقةِ المسوقة لبيان أحوالِ أهل الجنَّةِ لاعلى أنَّ المقصودَ عطف فعل الأمر بخصوصه حتى يتمحل له مَشاكِلٌ يصِحُّ عطفَه عليه بل على أنَّه عطفُ قصَّةِ سوء حال هؤلاءِ وكيفيَّة عقابِهم على قصَّةِ حُسن حال أولئك ووصف ثوابِهم كما مرَّ في قوله تعالى {وَبَشّرِ الذين آمنوا} الآيةَ وكأنَّ تغييرُ السَّبكِ لتخييل كمالِ التَّباينِ بين الفريقينِ وحاليهما وإمَّا على مضمَرٍ ينساق إليه حكايةُ حال أهل الجنَّةِ كأنَّه قيلَ إثرَ بيانِ كونِهم في شغل عظيمِ الشَّأنِ وفوزهم بنعيم مقيمٍ يقصرُ عنه البيانُ فليقرُّوا بذلك عيناً وامتازُوا عنهم {أَيُّهَا المجرمون} إلى مصيرِكم وعن قَتادةَ اعتزلُوا عن كل خير وعن الضَّحَّاكِ لكلِّ كافر بيتٌ من النَّارِ يكون فيه لا يَرى ولا يُرى وأمَّا ما قيل من أنَّ المضمرَ فليمتازوا فبمعزلٍ من السَّدادِ لما أنَّ المحكيَّ عنهم ليس مصيرهم إلى ما ذكر من الحال المرضيةِ حتَّى يتسنَّى ترتيب الأمر المذكور عليه بل إنَّما هو استقرارُهم عليها بالفعل وكونُ ذلك بطريق تنزيل المترقَّبِ منزلةَ الواقع لا يُجدي نفعاً لأنَّ مناطَ الإضمار إنسياقُ الافهام إليه وانصباب(7/174)
يس 60 62 نظم الكلامِ عليه فبعد ما نزلت تلك الحالة منزلَة الواقع بالفعل لما اقتضاه المقامُ من النُّكتةِ البارعة والحكمة الرَّائعةِ حسبما مرَّ بيانه وأسقط كونها مترَّقبةً عن درجة الاعتبار بالكُلِّيةِ يكون التصدي لإضمار شئ يتعلَّقُ به إخراجاً للنَّظمَ الكريم عن الجَزالة بالمرَّةِ(7/175)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)
{ألم أعهد إليكم يا بني آدَم أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان} من جُملة ما يُقال لهم بطريق التَّقريعِ والإلزام والتَّبكيتِ بين الأمر بالامتياز وبين الأمر بدخول جهنَّمَ بقوله تعالى اصلوها اليوم الخ والعهد الوصَّيةُ والتَّقدُّمُ بأمر فيه خير ومنفعة والمراد ههنا ما كلَّفهم الله تعالى على ألسنةِ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ من الأوامرِ والنواهي التي من جملتها قوله تعالى يا بني آدم لا يفتتنكم الشيطان كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة الآيةَ وقوله تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وغيرهما من الآياتِ الكريمةِ الواردةِ في هَذا المعنى وقيل هو الميثاق المأخوذُ عليهم حين أُخرجوا من ظهور بني آدمَ وأُشهدوا على أنفسهم وقيل هو ما نُصب لهم من الحُجج العقليَّةِ والسمعيَّةِ الآمرةِ بعبادته تعالى الزَّاجرةِ عن عبادة غيرِه والمرادُ بعبادة الشَّيطانِ طاعتُه فيما يُوسوس به إليهم ويزيِّنه لهم عبرَّ عنها بالعبادة لزيادة التَّحذيرِ والتَّنفيرِ عنها في مقابلة عبادته عزَّ وجل وقرئ إِعهد بكسرِ الهمزة وأعهِد بكسر الهاء وأحهد الحاء مكان العين وأحد بالإدغامِ وهي لغةُ بني تميمٍ {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي ظاهرَ العداوةِ وهو تعليلٌ لوجوب الانتهاء عن المنهيِّ عنه وقيل تعليل للنَّهيِ(7/175)
وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
{وَأَنِ اعبدونى} عطفٌ على أنْ لا تعبدوا على أنَّ أنْ فيهما مفسِّرةٌ للعهد الذي فيه معنى القول بالنهي والأمر أو مصدريةٌ حذف عنها الجار أي ألم أعهد إليكم في ترك عبادةِ الشَّيطانِ وفي عبادتي وتقديم النَّهي على الأمر لما أنَّ حق التخلية التقدم على التحلية كما في كلمة التَّوحيدِ وليتصل به قوله تعالى {هَذَا صراط مُّسْتَقِيمٌ} فإنَّه إشارة إلى عبادته تعالى التي هي عبارةٌ عن التَّوحيدِ والإسلام وهو المشار إليه بقوله تعالى هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ والمقصود بقوله تعالى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم والتَّنكيرُ للتَّفخيمِ واللام في قوله تعالى(7/175)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} جوابُ قسمٍ محذوف والجملة استئناف مَسوق لتشديد التَّوبيخِ وتأكيد التَّقريعِ ببيان أن جناياتِهم ليستْ بنقض العهدِ فقط بل به وبعدم الاتِّعاظِ بما شاهدوا من العقوبات النَّازلةِ على الأُمم الخاليةِ بسبب طاعتهم للشَّيطانِ فالخطابُ لمتأخِّريهم الذين من جُملتهم كُفَّارُ مكَّةَ خُصُّواً بزيادة التَّوبيخِ والتَّقريعِ لتضاعف جناياتهمِ والجِبِلُّ بكسرِ الجيم والباءِ وتشديدِ اللاَّم الخلق وقرئ بضمَّتينِ وتشديدٍ وبضمَّتينِ وتخفيفٍ وبضمَّةٍ وسكونٍ وبكسرتينِ وتخفيفٍ وبكسرةٍ وسكونٍ والكلُّ لغاتٌ وقرئ جِبَلاً جمعُ جِبْلةٍ كفِطَرٍ وخلق في فطرة وخلقة وقرئ جِيْلاً بالياء وهو الصِّنفُ من النَّاسِ أي وبالله لقد أضلَّ منكم خَلْقاً كثيرا أو صنفا(7/175)
يس 63 66 كثيراً عن ذلك الصِّراطِ المستقيم الذي أمرتُكم بالثَّباتِ عليه فأصابهم لأجلِ ذلك ما أصابَهم من العُقوبات الهائلةِ التي ملأ الآفاقَ أخبارُها وبقي مدى الدَّهرِ آثارُها والفاءُ في قوله تعالى {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أكنتُم تشاهدونَ آثارَ عقوباتِهم فلم تكونوا تعقلون أنَّها لضُلاَّلهِم أو فلم تكونُوا تعقلون شيئاً أصلاً حتَّى ترتدعُوا عمَّا كانُوا عليه كيلا يحيقَ بكم العقابُ وقولُه تعالَى(7/176)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)
{هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} استئنافٌ يخاطَبون به بعد تمامِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ والإلزام والتبكيت عن إشرافهم على شفير جهنَّمَ أي كنتم تُوعدونها على ألسنةِ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بمقابلة عبادة الشَّيطانِ مثل قولِه تعالى لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ منهم أجمعين وقوله تعالى {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا} وقولِه تعالى {قال اخرج منها مذؤوما مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} وغير ذلك مما لا يُحصى وقوله تعالى(7/176)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
{اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أمر تنكيل وإهانة كقولِه تعالى {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز} الخ أي ادخلُوها من فوق وقاسُوا فنون عذابِها اليَّومَ بكفرِكم المستمرِّ في الدُّنيا وقوله تعالى(7/176)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
{اليوم نَخْتِمُ على أفواههم} أي ختماً يمنعُها عن الكلامِ التفاتٌ إلى الغَيبة للإيذانِ بأنَّ ذكر أحوالِهم القبيحةِ استدعى أنْ يُعرَض عنهم ويَحكي أحوالَهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماءِ إلى أنَّ ذلك من مقتضيات الختم لأنَّ الخطاب لتلقِّي الجواب وقد انقطع بالكلية وقرئ تَختم {وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يُروى أنَّهم يجحدون ويُخاصمون فيشهد عليهم جيرانُهم وأهاليهم وعشائرُهم فيحلفون ما كانُوا مشركين فحينئذٍ يُختم على أفواهِهم وتكلم أيديهم وأرجلُهم وفي الحديث يقول العبدُ يوم القيامة إنِّي لا أجيزُ عليَّ شاهداً إلا من نفسي فيُختم على فيهِ ويقال لأركانِه انطقي فتنطقُ بأعماله ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام فيقول بُعداً لكنَّ وسُحقاً فعنكنَّ كنتُ أناضلُ وقيل تكليمُ الاركان وشهادتها دلالتها على أفعالها وظهورُ آثارِ المعاصي عليها وقرئ وتتكلم أيديهم وقرئ ولتكلَّمَنا أيديهم وتشهد بلام كَيْ والنَّصبِ على معنى ولذلك نختِم على أفواهِهم وقرئ ولتكلمنا أيديهم ولتشهد بلام الأمرِ والجزمِ(7/176)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
{وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} الطَّمسُ تعفيةُ شقِّ العينِ حتَّى تعودَ ممسوحةً ومفعولُ المشيئة محذوفٌ على القاعدة المستمرَّةِ التي هي وقوعها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاء أي لو نشاء أنْ نطمسَ على أعينهم لفعلناه وإيثارُ صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضيِّ لإفادة أن عدمَ الطَّمس على أعينهم لاستمرار عدمِ المشيئة فإنَّ المضارعَ المنفيَّ الواقعَ موقعَ الماضي ليس بنص في إفادة انتفاءِ استمرارِ(7/176)
يس 67 69 الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه بحسب المقام كما مرَّ في قوله تعالى وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير {فاستبقوا الصراط} أي فأرادوا أنْ يستبقُوا إلى الطَّريقِ الذي اعتادُوا سلوكَه على أنَّ انتصابه بنزع الجارِّ أو هو بتضمين الاستباقِ معنى الابتدارِ أو بالظَّرفيةِ {فأنى يُبْصِرُونَ} الطَّريقَ وجهة السلوك(7/177)
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
{وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم} بتغيير صُورِهم وإبطال قواهم {على مكانتهم} أي مكانِهم إلاَّ أن المكانة أخصُّ كالمَقامةِ والمقام وقرىء على مكاناتهم أي لمسخناهم مسخاً يُجمِّدهم مكانَهم لا يقدرون أنْ يبرحُوه بإقبالٍ ولا إدبارٍ ولا رجوعٍ وذلك قوله تعالى {فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ} أي ولا رجوعاً فوُضعَ موضعَه الفعلُ لمراعاةِ الفاصلةِ عن ابن عباس رضي الله عنهما قردةً وخنازيرَ وقيل حجارةً وعن قَتادةَ لأقعدناهم على أرجلِهم وأزمنَّاهم وقُرىء مِضيّا بكسر الميمِ وفتحها وليسَ مساقُ الشَّرطيتينِ لمجرد بيانِ قدرتِهِ تعالَى على ما ذُكر من عقوبة الطَّمسِ والمسخ بل لبيان أنَّهم بما هم عليه من الكفر ونقض العهد وعدم الاتِّعاظِ بما شاهدُوا من آثارِ دمارِ امثالهم احفاء بأنْ يُفعلَ بهم في الدُّنيا تلك العقوبة كما فُعل بهم في الآخرةِ عقوبةُ الختمِ وأنَّ المانع من ذلك ليس إلاَّ عدمُ تعلُّقَ المشيئة الإلهيَّةِ به كأنَّه قيل لو نشاء عقوبتَهم بما ذُكر من الطَّمسِ والمسخ جرياً على موجب جناياتهم المستدعيةِ لها لفعلناها ولكنَّا لم نشأها جرياً على سَننِ الرَّحمةِ والحكمة الدَّاعيتينِ إلى إمهالهم(7/177)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
{وَمَن نّعَمّرْهُ} أي نُطل عمره {نُنَكّسْهُ فِى الخلق} أي نقلبْه فيه ونخلقْه على عكسِ ما خلقناه أوَّلاً فلا يزال يتزايدُ ضعفُه وتتناقصُ قوَّتُه وتُنتقص بنيتُه ويتغير شكلُه وصورتُه حتَّى يعودَ إلى حالةٍ شبيهةٍ بحال الصبيِّ في ضعف الجسدِ وقلَّةِ العقلِ والخلوِّ عن الفهمِ والإدراكِ وقُرىء نَنكُسْه من الثُّلاثيِّ المجرَّدِ ونُنْكِسه من الإنكاسِ {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} أي أيرَون ذلك فلا يعقلون اما مَنْ قدَرَ على ذلكَ يقدِرُ على ما ذُكر من الطَّمسِ والمسخِ وأنَّ عدم إيقاعِهما لعدم تعلُّقِ مستئنه تعالى بهما تعقلون بالتَّاءِ لجري الخطابِ قبلَه(7/177)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
{وَمَا علمناه الشعر} ردٌّ وإبطالٌ لما كانُوا يقولونَه في حقه صلى الله عليه وسلم من أنَّه شاعرٌ وما يقولُه شعرٌ أي ما علَّمناه الشِّعرُ بتعليمِ القُرآن على معنى أنَّ القُرآنَ ليسَ بشعرٍ فإنَّ الشِّعرَ كلامٌ متكلَّفٌ موضوعٌ ومقالٌ مزخرَفٌ مصنوعٌ منسوجٌ على منوالِ الوزن والقافيةَ مبنيٌّ على خيالاتٍ وأوهامٍ واهيةٍ فأين ذلك من التَّنزيلِ الجليلِ الخطِرِ المنزَّهِ عن مماثلةِ كلامِ البشر المشحون بفُنونِ الحِكَمِ والأحكامِ الباهرةِ الموصِّلةِ إلى سعادةِ الدُّنيا والآخرةِ ومن اين اشتبه عليهم الشئون واختلطَ بهم الظُّنون قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون {وَمَا يَنبَغِى لَهُ} وما يصحُّ له الشِّعرُ ولا يتأتَّى له لو طلبه أي جعلناه بحيث لو أراد قرضَ الشِّعِر لم يتأتَّ له كما جعلناه أميَّاً لا يهتدي للخطِّ لتكون الحجَّةُ أثبتَ والشُّبهةُ أدحضَ واما قوله صلى الله عليه وسلم أنا النبيُّ لا كذِب أنا ابن عبد(7/177)
يس 70 72 المطلب وقوله صلى الله عليه وسلم هل أنتِ إلا أصبعٌ دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ فمنْ قبيلِ الاتفِّاقاتِ الواردةِ من غير قصدٍ إليها وعزمٍ على ترتيبها وقيل الضَّميرُ في له للقُرآنِ أي وما ينبغي للقُرآنِ أنْ يكونَ شِعراً {إِنْ هُوَ} أي مَا القرآن {إِلاَّ ذِكْرٌ} أي عظةٌ من الله عز وجل وإرشادٌ للثَّقلين كما قال تعالى إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين {وَقُرْآنٌ مُّبِين} أي كتابٌ سماويٌّ بيِّنٌ كونه كذلك أو فارقٍ بين الحقِّ والباطلِ يُقرأ في المحاريبِ ويُتلى في المعابدِ ويُنال بتلاوتِه والعملِ بما فيه فوزُ الدَّارينِ فكم بينَهُ وبينَ ما قالُوا(7/178)
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
{لّيُنذِرَ} أي القُرآنُ أو الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤبده القراءة بالتاء وقرئ لينذر من نذر به أي علمه وليُنذرَ مبنيَّا للمفعولِ من الإنذارِ {مَن كَانَ حَيّاً} أي عاقِلاً متأمِّلاً فإنَّ الغافلَ بمنزلةِ الميِّتِ أو مؤمناً في علمِ الله تعالى فإن الحياةَ الأبديَّةَ بالإيمانِ وتخصيصُ الإنذار به لأنَّه المنتفعُ به {وَيَحِقَّ القول} أي تجبُ كَلِمَةُ العذابِ {عَلَى الكافرين} المصرِّين على الكفرِ وفي إيرادِهم بمقابلةِ مَن كان حيّاً إشعارٌ بأنَّهم لخلوِّهم عن آثارِ الحياةِ وأحكامِها التي هي المعرفةُ أمواتٌ في الحقيقةِ(7/178)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} الهمزةُ للإنكارِ والتعجيب والواو للعطف على جملةٍ منفيِّةٍ مقدَّرةٍ مستتبعةٍ للمعطوفِ أي ألم يتفكرَّوا أو ألم يلاحظُوا ولم يعلمُوا علماً يقينيّاً مُتاخِماً للمُعاينةِ {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} أي لأجلِهم وانتفاعِهم {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي ممَّا تولينا إحداثَه بالذَّاتِ وذكرُ الأيدي وإسنادُ العمل إليها إستعارةٌ تفيد مبالغة في الاختصاص والتَّفردِ بالأحداث والاعتناء به {أنعاما} مفعولُ خلقنَا وتأخيره عن الجارَّينِ المتعلِّقين به مع أنَّ حقَّه التَّقدمُ عليهما لما مرَّ مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً لهُ فيتمكنُ عندَ ورودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ لا سيما عند كونِ المقدم منبئاً عن كونِ المؤخَّر أمراً نافعاً خطيراً كما في النَّظمِ الكريم فإنَّ الجارَّ الأول المُعربَ عن كون المؤخَّرِ من منافعهم والثَّاني المفصح عن كونه من الأمورِ الخطيرةِ يزيدان النَّفسَ شوقاً إليه ورغبةً فيه ولأنَّ في تأخيره جمعاً بينه وبين أحكامِه المتفرعة عليه بقوله تعالى {فَهُمْ لَهَا مالكون} الآيات الثلاث أي فملكناها إيَّاهمُ وإيثارُ الجملة الاسميةِ على ذلك للدِّلالةِ على استقرارِ مالكِّيتِهم لها واستمرارِها والَّلامُ متعلِّقةٌ بمالكون مقوَّيةٌ لعمله أي فهُم مالِكون لها بتمليكنا إياها لهم متصرِّفون فيها بالاستقلالِ مختصُّون بالانتفاع بها لا يزاحمهم في ذلك غيرهم أو قادرون على ضبطها متمكنون من الصرف فيها بأقدارِنا وتمكيننا وتسخيرِنا إيَّاها لهم كما في قولِ مَن قال ... أصبحتُ لا أحملُ السِّلاحَ ولا ... أملكُ رأسَ البعيرِ إنْ نفرا ...
والأَوَّلُ هو الأظهرُ ليكون قوله تعالى(7/178)
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
{وذللناها لَهُمْ} تأسيساً لنعمةٍ على حيالِها لا تتمَّةً لما قبلها أي صيَّرناها منقادةً لهم بحيثُ لا تستعصى عليهم في شئ مَّما يُريدون بها حتَّى الذبح(7/178)
يس 73 76 حسبما ينطِق به قوله تعالى {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} الخ فإنَّ الفاء فيه لتفريع أحكام التَّذليلِ عليه وتفصيلها أي فبعضٌ منها ركوبُهم أي مركوبُهم أي معظم منافعها الرُّكوبُ وعدم التَّعرضِ للحمل لكونِه من تتمَّاتِ الركوب وقرئ ركوبتُهم وهي بمعناه كالحَلوبِ والحَلوبةِ وقيل الرَّكوبةُ اسم جمع وقرئ رُكوبُهم أي ذُو رُكوبِهم {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي وبعضٌ منها يأكلون لحمه(7/179)
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
{وَلَهُمْ فِيهَا} أي في الأنعامِ بكِلا قسميها {منافع} أخر غير الركوب والأكل كالجلودِ والأصوافِ والأوبارِ وغيرِها وكالحِراثةِ بالثِّيران {ومشارب} من اللَّبنِ جمع مَشربٍ وهذا مجمل ما فُصِّل في سورة النَّحلِ {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} أي أيُشاهدون هذه النِّعمَ أو أيتنعمون بها فلا يشكرونَ المنعمَ بها(7/179)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)
{واتخذوا مِن دُونِ الله} أي متجاوزينَ الله تعالى الذي شاهدُوا تفرُّدَه بتلك القدرةِ الباهرةِ وتفضُّله عليهم بهاتيك النعم المتظاهرة {آلهة} من الأصنام وأشركوهَا به تعالَى في العبادةِ {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} رجاءَ أنْ يُنصروا من جهتِهم فيما حزبَهم من الأمورِ أو يشفعُوا لهم في الآخرةِ وقولُه تعالَى(7/179)
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)
{لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} الخ استئنافٌ سيق لبيانُ بُطلانِ رأيِهم وخَيبةُ رجائِهم وانعكاسِ تدبيرِهم أي لا تقدرُ آلهتُهم على نصرِهم {وَهُمْ} أي المشركون {لَهُمْ} أي لآلِهتهم {جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} يشيِّعونهم عند مساقِهم إلى النَّارِ وقيل مُعَدُّون في الدُّنيا لحفظِهم وخدمتِهم والذبِّ عنهم ولا يساعده مساقُ النَّظمِ الكريم فإنَّ الفاءَ في قولِهِ تعالى(7/179)
فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
{فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} لترتيبِ النهْيِ على ما قبله فلابد أنْ يكونَ عبارةً عن خسرانِهم وحرمانِهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ وانعكاسُ الأمر عليهم بترتيب الشر على مارتبوه لرجاء الخير فإن ذلك مما يُهوِّن الخطْبَ ويورث السَّلوةَ وأما كونُهم معدِّين لخدمتِهم وحفظِهم فبمعزلٍ من ذلكَ والنَّهيُ وإن كان بحسب الظاهر متوجِّهاً إلى قولهم لكنه في الحقيقة متوجِّهٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهيٌ له عليه السَّلامُ عن التأثر منه بطريقِ الكنايةِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن النهي عن أسباب الشئ ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني وإبطالٌ للسَّببيةِ وقد يوجِّه النهيُ إلى المسبَّب ويراد النهيُ عن السَّببِ كما في قولِه لا أرينك هَهُنا يريد به نهيَ مخاطِبَه عن الحضورِ لديهِ والمرادُ بقولهم ما ينبئ عنه ما ذكر من اتِّخاذهم الأصنامَ آلهةً فإنَّ ذلكَ مما لا يخلُو عن التَّفوه بقولِهم هؤلاءِ آلهتُنا وأنهم شركاءُ لله سبحانه في المعبوديةِ وغير ذلك مَّما يُورث الحزنَ وقرئ يُحزِنك بضمِّ الياء وكسرِ الزَّايِ من أحزنَ المنقولِ من حزِن اللازمِ وقوله تعالى {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} تعليلٌ صريحٌ للنَّهي بطريقِ الاستئنافِ بعد تعليلهِ بطريقِ الإشعارِ فإنَّ العلمَ بما ذُكر مستلزمٌ للمجازاةِ قطعاً أي إنَّا نجازيهم بجميعِ جناياتهم الخافية(7/179)
يس 77 والباديةِ التي لا يعزُبُ عن علمنا شئ منها وفيه فضلُ تسليةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديمُ السرِّ على العلن إمَّا للمبالغةِ في بيانِ شمولِ علمِه تعالى لجميعِ المعلوماتِ كأنَّ علمَه تعالى بما يُسرونه أقدمُ منه بما يعلنونَه مع استوائِهما في الحقيقةِ فإنَّ علمَه تعالَى بمعلوماتهِ ليسَ بطريقِ حصولِ صُورِها بل وجود كل شئ في نفسِه عِلْمٌ بالنِّسبةِ إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلفُ الحالُ بين الأشياءِ البارزةِ والكامنةِ وإما لأنَّ مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبة العلنِ إذ ما من شئ يُعلَنُ إلا وهُو أو مباديهِ مضمرٌ في القلبِ قبل ذلك فتعلّقُ علمِهِ تعالَى بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقهِ بحالتهِ الثَّانية حقيقة(7/180)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
{أو لم يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ بطلانِ إنكارِهم البعثِ بعد ما شاهدوا في أنفسِهم أوضحَ دلائلهِ وأعدلَ شواهده كما أن ما سبق مسوق لبيان بطلانِ إشراكهم بالله تعالى بعد ما عاينُوا فيما بأيديهم ما يوجب التَّوحيدَ والإسلامَ وأما ما قيل من أنه تسليةٌ ثانيةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم بتهوينِ ما يقولونَهُ بالنِّسبةِ إلى إنكارِهم الحشرَ فكَلاَّ والهمزةُ للإنكارِ والتَّعجيبِ والواوُ للعطفِ عَلى جملةٍ مقدَّرةٍ هي مستتبعة للمعطوفِ كما مرَّ في الجملة الإنكارية السابقةِ أي ألم يتفكر الإنسانُ ولم يعلم علماً يقينياً أنا خلقناهُ من نطفةٍ الخ أو هي عين الجملة السابقةِ أعيدتْ تأكيداً للنكيرِ السَّابقِ وتمهيداً لإنكارِ ما هو أحقُّ منه بالإنكارِ والتَّعجيبِ لما أنَّ المنكرَ هناك عدمُ علمهم بما يتعلق بخلق اسباب معايشهم وههنا عدم علمهم بما يتعلق بخلقِ أنفسهم ولا ريبَ في أن علمَ الإنسانِ بأحوالِ نفسهِ أهمُّ وإحاطته بها أسهلُ وأكملُ فالإنكارُ والتَّعجيبُ من الإخلالِ بذلك أدخلُ كأنَّه قيل ألم يعلمُوا خلقَه تعالى لأسبابِ معايشهم ولم يعلمُوا خلقَه تعالى لأنفسِهم أيضاً مع كونِ العلمِ بذلك في غايةِ الظُّهور ونهايةِ الأهميةِ على معنى أنَّ المنكر الأول بعيدٌ قبيحٌ والثاني أبعدُ وأقبحُ ويجوزُ أنْ تكونَ الواوُ لعطفِ الجملةِ الإنكاريَّةِ الثَّانيةِ على الأُولى على أنَّها متقدِّمة في الاعتبارِ وأنَّ تقدمَ الهمزةِ عليها لاقتضائها الصَّدارة في الكلامِ كما هو رأيُ الجمهورِ وإيرادُ الإنسانِ موردَ الضَّميرِ لأنَّ مدارَ الإنكارِ متعلِّقٌ بأحوالهِ من حيثُ هو إنسانٌ كما في قولِه تعالى أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ من قبل ولم يك شَيْئاً وقولُه تعالى {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} أي شديدُ الخُصومةِ والجدالِ بالباطلِ عطفٌ على الجملةِ المنفيَّةِ داخل في حيز الإنكار والتَّعجيبِ كأنَّه قيل أولم يَرَ أنَّا خلقناهُ من أخسِّ الأشياءِ وأمهنِها ففاجأ خصومتنا في أمرٍ يشهدُ بصحَّتهِ وتحقُّقهِ مبدأُ فطرته شهادةً بيِّنةً وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للدِّلالةِ على استقرارِه في الخُصومةِ واستمرارِه عليها رُوي أنَّ جماعةً من كفَّارِ قُريشٍ منهم أُبيَّ بنَ خلفٍ الجُمَحي وأبُو جهلٍ والعاصِ بنُ وائلٍ والوليدُ بنُ المغيرة تكلَّموا في ذلكَ فقال لهم أبيُّ بنُ خلفٍ ألا ترون إلى ما يقولُ محمدٌ إنَّ اللَّهَ يبعثُ الأمواتَ ثم قال واللاَّتِ والعُزَّى لأَصيرنَّ إليه ولأخصِمنَّه وأخذ عظماً بالياً فجعل يفتُّه بيدِه ويقولُ يا محمَّدُ أترى الله يُحيي هذا بعد مارم قال صلى الله عليه وسلم نعم ويبعثُك ويُدخلكَ جهنَّم فنزلتْ وقيل معنى قولَه تعالى فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ فإذا هُو بعدما كانَ ماءً مَهيناً رجلٌ مميِّزٌ منطيقٌ قادرٌ على الخصامِ مبينٌ مُعرِبٌ عمَّا في نفسِه فصيحٌ فهو حينئذ معطوف على خلقناه غيرُ داخلٍ تحت الإنكار والتَّعجيبِ بل هو من مُتمَّماتِ شواهدِ صحَّةِ البعثِ فقوله تعالى(7/180)
يس(7/181)
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
78 - 80 {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} معطوفٌ حينئذٍ على الجُملة المنفيَّةِ داخل في حيز الإنكار والتَّقبيحِ وأمَّا على التَّقديرِ الأوَّلِ فهو عطفٌ على الجملة الفُجائيَّةِ والمعنى ففاجأ خصومتنا وضربَ لنا مَثَلاً أي أوردَ في شأنِنا قصَّةً عجيبةً في نفس الأمرِ هي في الغرابةِ والبُعدِ عن العقولِ كالمَثَلِ وهي إنكارُ إحيائنا العظامَ أو قصَّةً عجيبةً في زعمه واستبعدَها وعدَّها من قبيلِ المَثَلِ وأنكرَها أشدَّ الإنكارِ وهي إحياؤُنا إيَّاها وجعلَ لنا مَثَلاً ونظيراً من الخلقِ وقاسَ قُدرتنا على قُدرتهِم ونفى الكلَّ على العمومِ وقوله تعالى {وَنَسِىَ خَلْقَهُ} أي خلقَنا إيَّاهُ على الوجهِ المذكورِ الدَّالِّ على بُطلانِ ما ضربه إمَّا عطفٌ على ضربَ داخلٌ في حيِّزِ الإنكار والتعجيب أو حالٌ من فاعلِه بإضمار قد أو بدونه وقولُه تعالى {قَالَ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ ضربهِ المثلَ كأنَّه قيل أيَّ مَثَلٍ ضربَ أو ماذا قال فقيل قال {من يحيي العظام} منكِراً له أشدَّ النَّكيرِ مؤكِّداً له بقوله تعالى {وَهِىَ رَمِيمٌ} أي باليةٌ أشدَّ البلى بعيدةٌ من الحياةِ غاية البُعدِ فالمَثَلُ على الأوَّلِ هو إنكارُ إحيائهِ تعالى للعظامِ فإنَّه أمرٌ عجيبٌ في نفسِ الأمرِ حقيقٌ لغرابتهِ وبُعدهِ من العقولِ بأنْ يُعدَّ مثلاً ضرورةَ جزمِ العقول ببطلانِ الإنكارِ ووقوعِ المنكرِ لكونهِ كالإنشاءِ بل أهونُ منْهُ في قياسِ العقلِ وعلى الثَّاني هو إحياؤُه تعالى لها فإنَّه أمرٌ عجيبٌ في زعمهِ قد استبعدَهُ وعدَّه من قبيلِ المثل وأنكرَهُ أشدَّ الإنكارِ مع أنَّه في نفس الأمر أقرب شئ من الوقوعِ لما سبقَ من كونه مثلَ الإنشاءِ أو أهونَ منه وأما على الثَّالثِ فلا فرقَ بين أنْ يكون المَثَلُ هو الإنكارَ أو المنكرَ وعدمُ تأنيثِ الرَّميمِ مع وقوعهِ خبراً للمؤنَّثِ لأنَّه اسمٌ لما بَلِيَ من العظامِ غير صفة كالرُّفاتِ وقد تمسَّك بظاهرِ الآيةِ الكريمةِ من أثبتَ للعظمِ حياةً وبنى عليه الحكم بنجاسةِ عظمِ الميتةِ وأما أصحابُنا فلا يقولونَ بحياته كالشَّعرِ ويقولون المرادُ بإحياءِ العظامِ ردُّها إلى ما كانتْ عليهِ من الغضاضةِ والرُّطوبةِ في بدنٍ حيَ حسَّاسٍ(7/181)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
{قُلْ} تبكيتاً له بتذكيرِ ما نسبه من فطرته الدالَّةِ على حقيقةِ الحال وإرشاده إلى طريقةِ الاستشهادِ بها {يُحْيِيهَا الذى أنشأها أول مرة} فإنَّ قدرتَهُ كما هي لاستحالةِ التَّغير فيها والمادَّةُ على حالِها {وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلمِ بتفاصيلِ كيفيَّاتِ الخلقِ والإيجادِ إنشاءً وإعادةً محيطٌ بجميعِ الأجزاءِ المتفتتة المتبدِّدةِ لكلِّ شخصٍ من الأشخاصِ أصولها وفروعها وأوضاعِ بعضها من بعضٍ من الاتِّصالِ والانفصالِ والاجتماعِ والافتراقِ فيعيدُ كلاًّ من ذلك على النَّمطِ السَّابقِ مع القُوى التي كانتْ قبلُ والجملةُ إما اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمونِ الجوابِ أو معطوفةٌ على الصِّلةِ والعدولُ إلى الجُملةِ الاسميَّةِ للتَّنبيهِ على أن علمُه تعالَى بما ذُكر أمرٌ مستمرٌّ ليسَ كإنشائهِ للمنشآتِ وقولُه تعالى(7/181)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
{الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الاخضر نَاراً} بدلٌ من الموصولِ الأولِ وعدمُ الاكتفاءِ بعطف صلتهِ على صلته(7/181)
يس 81 83 للتَّأكيدِ ولتفاوتهما في كيفيَّةِ الدِّلالةِ أي خلقَ لأجلكم ومنفعتِكم منه ناراً على أنَّ الجعلَ إبداعيٌّ والجارَّانِ متعلِّقانِ به قُدِّما على مفعوله الصريح مع تأخيرهما عنه رتبةً لما مرَّ من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخَّرِ ووصفُ الشَّجرِ بالأخضرِ نظراً إلى اللَّفظِ وقد قُرىء الخضراءِ نظراً إلى المَعْنى وهو المَرخُ والعفارُ يقطعُ الرَّجلُ منهما عُصيَّتينِ مثل السِّواكينِ وهما خَضْراوانِ يقطرُ منهما الماءُ فيسحقُ المرخَ وهو ذكرٌ على العفارِ وهو أُنثى فتنقدحُ النَّارُ بإذنِ الله تعالى وذلك قوله تعالى {فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ} فمن قدرَ على إحداثِ النَّارِ من الشَّجرِ الأخضرِ مع ما فيه من المائيَّةِ المُضادَّةِ لها بكيفيَّتهِ كان أقدرَ على إعادةِ الغضاضةِ إلى ما كان غضًّا فطرأ عليه اليبوسةُ والبلى وقولِه تعالى(7/182)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
{أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السماوات والارض} الخ استئنافٌ مَسوقٌ من جهته عزَّ وجلَّ لتحقيق مضمون الجوابِ الذي امر صلى الله عليه وسلم بأنْ يُخاطبهم بذلك ويُلزمهم الحجَّة والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أليسَ الذى أنشأها أول مرة وليس الذي جعلَ لهم مّنَ الشجر الاخضر نَاراً وليسَ الذى خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ مع كِبر جِرمِهما وعظم شأنهما {بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} في الصِّغرِ والقَمَاءةِ بالنسبةِ إليهما فإنَّ بديهةَ العقلِ قاضيةٌ بأن مَن قدَر على خلقهما فهو على خَلْقِ الأناسيِّ أقدرُ كما قال تعالى {لخلق السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} وقُرىء يقدِرُ وقوله تعالى {بلى} جوابٌ من جهتهِ تعالى وتصريحٌ بما أفادَه الاستفهامُ الإنكارِيُّ من تقريرِ ما بعد النَّفيِ وإيذانٌ بتعيُّنِ الجوابِ نطقُوا به أو تلعثمُوا فيه مخافة الإلزامِ وقولُه تعالى {وَهُوَ الخلاق العليم} عطفٌ على ما يفيدُه الإيجابُ أي بَلَى هو قادرٌ على ذلكَ وهو المبالغُ في الخلقِ والعلم كَيْفاً وكمًّا(7/182)
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)
{إِنَّمَا أَمْرُهُ} أي شأنُه {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} من الأشياءِ {أَن يَقُولَ لَهُ كُن} أي أنْ يعلِّقَ به قدرته {فَيَكُونُ} فيحدُثُ من غير توقفٍ على شيءٍ آخرَ أصلاً وهذا تمثيل لقدرته تعالى فيما أرادَه بأمرِ الآمرِ المُطاعِ المأمورِ المطيعِ في سرعةِ حصولِ المأمورِ به من غيرِ توقفٍ على شيء مَا وقُرىء فيكونَ بالنَّصب عطفاً على يقولَ(7/182)
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
{فسبحان الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء} تنزيهٌ له عزَّ وعلا عمَّا وصفُوه تعالى به وتعجيبٌ ممَّا قالوا في شأنهِ تعالى وقد مر تحقيق معنى سبحانَ والفاءُ للإشارةِ إلى أنَّ ما فُصِّل من شئونه تعال موجبةٌ لتنزُّهه وتنزيههِ أكملَ إيجابٍ كما أنَّ وصفَه تعالى بالمالكيةِ الكلِّيةِ المُطلقة للإشعارِ بأنَّها مقتضيةٌ لذلك أتمَّ اقتضاءٍ والملكوتُ مبالغةٌ في المُلكِ كالرَّحموتِ والرَّهبوتِ وقُرىء ملكةُ كلِّ شيءٍ ومملكةُ كلِّ شيءٍ ومُلكُ كلِّ شيءٍ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لا إلى غيرِه وقُرىء تَرجِعون بفتح التاء من الرُّجوعِ وفيهِ من الوعدِ والوعيد مالا يَخْفى عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُما كنتُ لا أعلمُ ما رُوي في فصائل يس(7/182)
الصافات 1 3 وقر اءتها كيف خُصَّتْ بذلك فإذا أنه لهذه الآيةِ قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ لكلِّ شيءٍ قَلباً وإن قلب القرآن يس مَن قَرأها يريدُ بها وجهُ الله تعالى غفرَ اللَّهُ له وأُعطيَ منَ الأجرِ كأنَّما قرأ القُرآنَ اثنين وعشرينَ مرَّةً وأيَّما مسلمٍ قُرىء عنده إذَا نزل به مَلَكُ الموتِ سورةُ يس نزلَ بكلِّ حرفٍ منها عشرةُ أملاكٍ يقومون بين يديهِ صفوفاً يصلُّون عليهِ ويستغفرونَ له ويشهدونَ غسلَهُ ويتبعونَ جنازتَهُ ويصلُّون عليهِ ويشهدون دفنَهُ وأيَّما مسلمٍ قرأ يس في سكراتِ الموتِ لم يقبضْ مَلَكُ الموتِ رُوحَه حتَّى يجيئه رَضوانُ خازنُ الجنَّةِ بشربةٍ من شراب الجنَّةِ فيشربها وهو عَلى فراشِه فيقبضُ مَلَكُ الموتِ رُوحَه وهو ريَّانُ ويمكثُ في قبرهِ وهو ريَّانُ ولا يحتاجُ إلى حوضٍ من حياض الأنبياءِ حتَّى يدخلَ الجنَّة وهو ريَّانُ وقال صلى الله عليه وسلم إنَّ في القُرآنِ سورةً تشفعُ لقارئِها وتستغفرُ لمستمِعها ألا وهي سورة يس
سورة الصافات مكية وآياتها مائة واثنتان وثمانون آية
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}(7/183)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)
{والصافات صَفَّا} إقسامٌ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ بطوائِفَ الملائكةِ الفاعلاتِ للصُّفوفِ على أنَّ المرادَ إيقاعُ نفسِ الفعلِ منْ غيرِ قصدٍ إلى المفعولِ أو الصَّافَّاتُ أنفسَها أي النَّاظمات لها في سلك الصُّفوفِ بقيامها في مقاماتِها المعلومةِ حسبما ينطِق به قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وعلى هذينِ المعنيينِ مدارُ قوله تعالى وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون وقيل الصَّافاتُ أقدامها في الصَّلاةِ وقيل أجنحتها في الهواءِ(7/183)
فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)
{فالزاجرات زَجْراً} أي الفاعلاتِ للزَّجرِ او الزاجرت لما نيطَ بها زَجرُه من الأجرام العلوية والسفلية وغيرِها على وجهٍ يليقُ بالمزجورِ ومن جُملة ذلك زجر العباد بالمعاصي وزجرُ الشَّياطينِ عن الوسوسةِ والإغواءِ وعن استراقِ السَّمعِ كما سيأتي وصفًّا وزَجْراً مصدرانِ مؤكِّدانِ لما قبلهما أي صفًّا بديعاً وزَجْراً بليغاً وأمَّا ذِكراً في قولهِ تعالى(7/183)
فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)
{فالتاليات ذِكْراً} فمفعولُ التَّالياتِ أي التَّالياتِ ذكراً عظيمَ الشَّأنِ من آياتِ الله تعالى وكتبهِ المنزَّلةِ على الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وغيرِها من التَّسبيحِ والتَّقديسِ والتَّحميدِ والتَّمجيدِ وقيل هو أيضاً مصدرٌ مؤكِّدٌ لما قبله فإنَّ التِّلاوةَ من بابِ الذِّكرِ ثم إنَّ هذه الصِّفاتِ إنْ أُجريتْ على الكلِّ فعطفُها بالفاءِ للدِّلالةِ على ترتُّبها في الفضلِ إمَّا بكونِ الفضلِ للصَّفِ ثم للزجر ثم(7/183)
الصافات 4 6 للتِّلاوةِ أو على العكسِ وإن أُجريت كلُّ واحدة منهنَّ على طوائفَ معيَّنةٍ فهو الدلالة على ترتُّبِ الموصوفاتِ في مراتب الفضل بمعنى أنَّ طوائفَ الصَّافَّاتِ ذواتُ فضل والزَّاجراتُ أفضلُ والتَّالياتُ أبهرُ فضلاً أو على العكس وقيل المرادُ بالمذكوراتِ نفوسُ العلماءِ العمَّالِ الصَّافَّاتُ أنفسَها في صفوف الجماعاتِ وأقدامها في الصَّلواتِ الزَّاجراتُ بالمواعظ والنَّصائحِ التَّالياتُ آياتِ الله تعالى الدَّارساتُ شرائعه وأحكامَه وقيل طوائفُ الغُزاة الصَّافَّات أنفسَهم في مواطنِ الحروبِ كأنَّهم بنيانٌ مرصوصٌ أو طوائفُ قُوَّادِهم الصَّافَّاتُ لهم فيها الزَّاجراتُ الخيلَ للجهادِ سوقاً والعدوَّ في المعارك طَرْداً التَّالياتُ آياتِ اللَّهِ تعالى وذكره وتسبيحَه في تضاعيفِ ذلك والكلامُ في العطفِ ودلالتهِ على ترتُّبِ الصِّفاتِ في الفضلِ أو ترتُّب موصوفاتِها فيه كالذي سلفَ وأمَّا الدِّلالةُ على التَّرتُّبِ في الوجودِ كما في قوله يالهف زبانة للحرث الصابح فالغانمِ فالآيبِ فغيرُ ظاهرةٍ في شئ من الطَّوائفِ المذكورة فإنَّه لو سُلِّم تقدُّمُ الصَّفِ على الزَّجرِ في الملائكةِ والغزاةِ فتأخُّرُ التِّلاوةِ عن الزَّجرِ غيرُ ظاهرٍ وقيل الصَّافَّاتُ الطَّيرُ من قوله تعالى والطير صافات والزَّاجراتُ كلُّ ما يزجرُ عن المعاصِي والتّاليات كُّل مَن يتلُو كتابَ اللَّهِ تعالى وقيل الزَّاجراتُ القوارعُ القُرآنيةُ وقرئ بإدغامِ التَّاءِ في الصَّادِ والزاي والذَّالِ(7/184)
إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)
{إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} جوابٌ القسم والجملةُ تحقيقٌ للحقِّ الذي هو التَّوحيدُ بما هو المألوفُ في كلامِهم من التَّأكيدِ القسميِّ وتمهيدٌ لما يعقُبه من البُرهانِ النَّاطقِ به أعني قوله تعالى(7/184)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
{رب السماوات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق} فإنَّ وجودَها وانتظامَها على هذا النمط البديعِ من أوضحِ دلائلِ وجودِ الصَّانعِ وعلمهِ وقُدرتهِ وأعدلُ شواهدِ وحدتهِ كما مرَّ في قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} وربُّ خبرٌ ثانٍ لأن أو خبر مبتدأ محذوفٍ أي مالكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا من الموجوداتِ ومربِّيها ومبلِّغَها إلى كمالاتِها والمرادُ بالمشارقِ مشارقُ الشَّمسِ وإعادةُ الربِّ فيها لغايةِ ظهورِ آثارِ الرُّبوبيَّةِ فيها وتجدُّدِها كلَّ يومٍ فإنها ثلثمائة وستُّون مشرقاً تشرقُ كلَّ يومٍ من مشرقٍ منها وبحسبها تختلفُ المغاربُ وتغربُ كلَّ يوم في مغربٍ منها وأما قولُه تعالى {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} فهُما مشرقا الصَّيفِ والشِّتاءِ ومغرباهُما(7/184)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
{إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا} أي القُربى منكم {بِزِينَةٍ} عجيبة بديعة {الكواكب} بالجرِّ بدلٌ من زينةٍ على أنَّ المرادَ بها الاسمُ أي ما يزن به لا المصدرُ فإنَّ الكواكبَ بأنفسها وأوضاع بعضِها من بعضٍ زينةٌ وأيُّ زينة وقرئ بالإضافة على أنَّها بيانيَّةٌ لما أنَّ الزِّينةَ مبهمة صادقة على كلِّ ما يُزان به فتقع الكواكب بياناً لها ويجوزُ أنْ يُراد بزينةِ الكواكبِ ما زُيِّنت هي به وهو ضوؤها ورُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما بزينةِ الكواكبِ بضوءِ الكواكبِ هذا وإمَّا على تقديرِ كون الزِّينةِ مصدراً فالمعنى على(7/184)
الصافات 7 10 تقدير إضافتها إلى الفاعل بأنْ زانتِ الكواكبُ إيَّاها وأصله بزينة الكواكب وعلى تقدير إضافتها إلى المفعولِ بأنْ زانَ اللَّهُ الكواكبَ وحسَّنها وأصله بزينة الكواكب والمرادُ هو التَّزيينُ في رأي العينِ فإنَّ جميع الكواكب من الثَّوابتِ والسَّياراتِ تبدو للنَّاظرينَ كأنَّها جواهرُ مُتلالئةٌ في سطح سماء الدُّنيا بصورٍ بديعةٍ وأشكال رائعة ولا يقدحُ في ذلك ارتكازُ الثَّوابتِ في الفلك الثَّامنِ وما عدا القمر في الستة المتوسطة إنْ ثبتَ ذلك(7/185)
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
{وَحِفْظاً} منصوبٌ إمَّا بعطفه على زينةٍ باعتبارِ المَعْنى كأنَّه قيلَ إنَّا خلقنا الكواكبَ زينةً للسَّماءِ وحِفظاً {من كل شيطان مارد} أي خارجٍ عن الطَّاعةِ برميِ الشُّهبِ وإمَّا بإضمار فعلهِ وإمَّا بتقدير فعلٍ مؤخَّر معلَّلٍ به كأنَّه قيل وحِفظاً من كلِّ شيطانٍ ماردٍ زيَّناها بالكواكبِ كقوله تعالَى {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين} وقوله تعالى(7/185)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)
{لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الاعلى} كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لبيان حالهم بعد بيانِ حفظ السماء عنهم مع التَّنبيهِ على كيفيةِ الحفظِ وما يعتريهم في أثناء ذلك من العذابِ ولا سبيلَ إلى جعلهِ صفةً لكلِّ شيطانٍ ولا جواباً عن سؤال مقدَّرٍ لعدمِ استقامةِ المعنى ولا علَّةً للحفظِ على أن يكونَ الأصلُ لئلاَّ يسمعُوا فحُذفتِ اللاَّمُ كما حُذفتْ من قولك جئتُك أنْ تكرمني فبقيَ أنْ لا يسمعُوا ثم بحذف أنْ ويُهدرُ عملُها كما في قول من قالَ أَلاَ أيُّهذا الزَّاجِريْ أحضر الوَغَى لما أنَّ كلَّ واحدٍ من ذينكَ الحذفينِ غيرُ منكرٍ بانفرادِه فأمَّا اجتماعُهما فمنْ أنكرِ المنكرات التي يجبُ تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ الجليلِ عن أمثالها وأصل يسمعون يتسمعون والملأالأ الأعلى الملائكةُ وعن ابن عباس رضي الله عنهما هم الكَتَبةُ وعنه أشرافُ الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام أي لا يتطلَّبون السَّماعَ والإصغاء إليهم وقرئ يسمعُون بالتَّخفيفِ {وَيَقْذِفُونَ} يُرمَون {مِن كُلّ جَانِبٍ} من جميع جوانبِ السَّماءِ إذا قصدوا الصُّعودَ إليها(7/185)
دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)
{دُحُوراً} علَّةً للقذفِ أي للدحور أو حالٌ بمعنى مدحورينَ أو مصدرٌ مؤكِّد له لأنَّهما من وادٍ واحدٍ وقرئ دَحُوراً بفتح الدَّالِ أي قَذْفاً دَحُوراً مبالغاً في الطَّردِ وقد جُوِّز أنْ يكونَ مصدراً كالقَبُولِ والولُوعِ {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} أي وَلَهُمْ فِى الآخرةِ غيرُ ما في الدُّنيا من عذاب الرَّجمِ بالشُّهبِ عذابٌ شديد دائمٌ غيرُ منقطعٍ كقوله تعالَى {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير}(7/185)
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
{إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} استثناءٌ من واوِ يسمَّعون ومَن بدلٌ منه والخطفُ الاختلاسُ والمرادُ اختلاسُ كلامِ الملائكةِ مسارقة كما يُعرب عنه تعريفُ الخَطفةِ وقُرىء بكسرِ الخاءِ والطَّاءِ المشدَّدةِ وبفتحِ الخاء وكسرِ الطَّاءِ(7/185)
الصافات 11 16 وتشديدها وأصلُهما اختطفَ {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} أي تبعَه ولحقَه وقرىء فانبعه والشِّهابُ ما يُرى منقضاً من السَّماءِ {ثَاقِبٌ} مضىءٌ في الغايةِ كأنَّه يثقبُ الجوَّ بضوئهِ يُرجم به الشَّياطينُ إذا صعدُوا لاستراقِ السَّمعِ فيقتلهم أو يحرقُهم أو يخبلُهم قالُوا وإنَّما يعودُ من يَسلم منهم حيًّا طمعاً في السَّلامةِ ونيلِ المُرادِ كراكبِ السَّفينةِ(7/186)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
{فاستفتهم} فاستخبر مُشركي مكَّة {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} أي أقوى خِلقةً وأمتنُ بنيةً أو أصعبُ خَلْقاً وأشقُّ إيجاد {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} من الملائكةِ والسَّماءِ والأرضِ وما بينهما والمشارقُ والكواكبُ والشُّهبُ الثَّواقبُ ومن لتغليبِ العقلاءِ على غيرِهم ويدلُّ عليه إطلاقُه ومجيئُه بعد ذلك لا سيَّما قراءةُ مَن قرأ أمْ مَن عددنا وقولُه تعالى {إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ} فإنَّه الفارقُ بينهم وبينها لا بينهم وبين مِن قَبْلِهِم من الأممِ كعادٍ وثمود ولأنَّ المرادَ إثباتُ المعادِ وردُّ استحالتهم والأمرُ فيه بالإضافةِ إليهم وإلى مَن قبلهم سواء وقرئ لازمٍ ولاتبٍ(7/186)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
{بَلْ عَجِبْتَ} أي من قدرةَ الله تعالى على هذه الخلائقِ العظيمة وإنكارِهم للبعث {ويسخرون} من تعجيبك وتقريرك للبعث وقرئ بضمِّ التَّاءِ على معنى أنَّه بلغ كمالُ قدرتي وكثرةُ مخلوقاتي إليَّ حيث عجبتُ منها وهؤلاءِ لجهلهم يسخرونَ منها أو عجبتُ من أنْ ينكرُوا البعثَ ممَّن هذه أفاعيلُه ويسخرُوا ممَّن يجوزُه والعجبُ من اللَّهِ تعالى إمَّا على الفرضِ والتَّخييلِ أو على معنى الاستعظامِ اللاَّزمِ له فإنَّه رَوعةٌ تعتري الإنسانَ عند استعظام الشئ وقيل إنَّه مقدَّرٌ بالقولِ أي قُل يا محمدُ بل عجبتُ(7/186)
وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13)
{وَإِذَا ذُكّرُواْ} أي ودأبُهم المستمرُّ أنَّهم إذا وُعظوا بشئ من المواعظِ {لاَ يَذْكُرُونَ} لا يتَّعظون وإذَا ذُكر لهم ما يدلُّ على صحَّةِ البعثِ لا ينتفعُون به لغايةِ بلادتهم وقصورِ فكرهم(7/186)
وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
{وإذا رأوا آية} أي معجزةً تدلُّ على صدقِ القائلِ به {يَسْتَسْخِرُونَ} يُبالغون في السُّخريةِ ويقُولون إنَّه سحرٌ أو يستدعي بعضُهم من بعضٍ أنْ يسخرَ منها(7/186)
وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
{وَقَالُواْ إِنَّ هَذَا} أي ما يَرونه من الآياتِ الباهرةِ {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهر سحريته(7/186)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16)
{أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما} أي كانَ بعضُ أجزائِنا تُراباً وبعضُها عظاماً وتقديمُ التُّرابِ لأنَّه منقلبٌ من الأجزاءِ الباديةِ والعاملُ فِي إذَا ما دلَّ عليه مبعوثونَ في قوله تعالى {أئنا لمبعوثون} أي نبعث لانفسه لأن دونه خطوبا(7/186)
الصافات 17 22 لو تفرَّدَ واحدٌ منها لكفى في المنعِ وتقديمُ الظَّرفِ لتقويةِ الإنكارِ للبعثِ بتوجيههِ إلى حالةٍ منافيةٍ له غايةَ المُنافاة وكذا تكرير الهمزة في اثنا للمبالغةِ والتَّشديدِ في ذلك وكذا تحليةُ الجملةِ بأنْ واللامِ لتأكيد الانكار لالانكار التاكيد كما يوهمه ظاهر النَّظمِ الكريمِ فإنَّ تقديمَ الهمزةِ لاقتضائِها الصدارةَ كما في مثلِ قولِه تعالى {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} على رأي الجمهورِ فإن المعنى عندهم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التعقيبِ كما هو المشهور وقُرىء بطرحِ الهمزةِ الأُولى وبطرحِ الثَّانيةِ فَقَطْ(7/187)
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)
{أو آباؤنا الاولون} رفعٌ على الابتداءِ وخبرُه محذوفٌ عند سيبويهِ أي وآباؤنا الأوَّلُون أيضاً مبعثون وقبل عطفٌ على محلِّ إنَّ واسمِها وقيل على الضَّميرِ في مبعوثُون للفصلِ بهمزةِ الإنكارِ الجاريةِ مجرى حرفِ النَّفيِ في قوله تعالى مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وأيًّا ما كانَ فمرادُهم زيادةُ الاستبعادِ بناءً على أنَّهم أقدمُ فبعثهم أبعدُ على زعمهم وقُرىء أو آباؤُنا(7/187)
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
{قُلْ} تبكيتاً لهم {نِعْمَ} والخطابُ في قولِه تعالَى {وَأَنتُمْ داخرون} لهم ولآبائِهم بطريقِ التَّغليبِ والجملةُ حالٌ من فاعلِ ما دلَّ عليه نعم أي كلُّكم مبعوثون والحالُ أنَّكم صاغرونَ أذلاء وقرئ نَعِم بكسرِ العينِ وهي لغةٌ فيه(7/187)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
{فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة} هي إمَّا ضميرٌ مبهمٌ يفسِّرهُ خبرُه أو ضميرُ البعثةِ والجملةُ جوابُ شرطٍ مضمرٍ أو تعليلٌ لنهيَ مقدَّرٍ أي إذا كانَ كذلك فإنَّما هي الخ أو لا تستصعبُوه فإنَّما هي الخ والزَّجرةُ الصَّيحةُ من زجرَ الرَّاعي غنمه إذا صاحَ عليها وهي النَّفخةُ الثَّانيةُ {فَإِذَا هُم} قائمونَ من مراقدهم أحياءً {يَنظَرُونَ} يُبصرون كما كانُوا أو ينتظرون ما يفعل بهم(7/187)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)
{وَقَالُواْ} أي المبعوثونَ وصيغةُ الماضي الدِلالة على التحقق والتقرّرِ {يا ويلنا} أي هلا كنا احضر فهذا أو ان حضورِك وقولُه تعالى {هذا يَوْمُ الدين} تعليلٌ لدعائهم الويلِ بطريق الاستئنافِ أي اليوم الذي نُجازى فيه بأعمالنا وإنَّما علموا ذلك لأنَّهم كانوا يسمعون في الدُّنيا أنَّهم يُبعثون ويُحاسبون ويُجزَون بأعمالهم فلمَّا شاهدوا البعثَ أيقنُوا بما بعدَه أيضاً وقولُه تعالى(7/187)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
{هذا يَوْمُ الفصل الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} كلامُ الملائكةِ جواباً لهم بطريقِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ وقيل هُو أيضاً من كلامِ بعضِهم لبعضٍ والفصلُ القضاءُ أو الفرقُ بين فِرقِ الهُدى والضَّلالِ وقولُه تعالى(7/187)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)
{احشروا الذين ظَلَمُواْ} خطابٌ من الله عز وجل للملائكة(7/187)
الصافات 23 28 أو من بعضِهم لبعضٍ بحشر الظَّلمةِ من مقامهم إلى الموقفِ وقيل من الموقفِ إلى الجحيمِ {وأزواجهم} أي أشباهَهم ونظراءَهم من العصاة عابد الصم مع عبدته وعابد الكواكب مع عَبَدتهِ كقوله تعالى وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثلاثة وقيل قرناءَهم من الشَّياطينِ وقيل نساءهم اللاتى عل دينهم {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ}(7/188)
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)
{من دُونِ الله} مِن الأصنامِ ونحوِها زيادةً في تحسيرهم وتخجيلهم قيل هو عامٌ مخصوصٌ بقوله تعالى إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى الآيةَ الكريمةَ وأنت خبيرٌ بأنَّ الموصولَ عبارةٌ عن المشركين خاصَّةً جئ به لتعليل الحكمِ بما في حيِّزِ صلتهِ فلا عمومَ ولا تخصيصَ {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الجحيم} أي عرِّفُوهم طريقها ووجِّهوهم إليها وفيه تهكُّمٌ بِهم(7/188)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
{وَقِفُوهُمْ} احبِسُوهم في الموقف كأنَّ الملائكة سارعُوا ألى مَا أُمروا بهِ من حشرِهم إلى الجحيم فأُمروا بذلك وعُلِّل بقوله تعالى {إنهم مسؤولون} إيذانا من أولِ الأمرِ بأنْ ذلك ليس للعفو عنهم ولا ليستريحُوا بتأخيرِ العذابِ في الجملة بل ليُسألوا لكن لا عن عقائدهم وأعمالهم كما قيل فإنَّ ذلك قد وقع قبل الأمرِ بهم إلى الجحيمِ بل عمَّا ينطقُ به قوله تعالى(7/188)
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)
{مَا لَكُمْ لاَ تناصرون} بطريق التَّوبيخِ والتَّقريعِ والتَّهكُّمِ أي لا ينصرُ بعضُكم بعضاً كما كنتُم تزعمون في الدُّنيا وتأخيرُ هذا السُّؤالِ إلى ذلك الوقتِ لأنَّه وقتُ تنجُّزِ العذابِ وشدَّةِ الحاجةِ إلى النُّصرةِ وحالة انقطاعِ الرَّجاءِ عنها بالكُلِّية فالتَّوبيخُ والتَّقريعُ حينئذٍ اشد وقعا وتأثيرا وقرئ لا تَتَناصرون ولا تنَّاصرُون بالإدغامِ(7/188)
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
{بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ} مُنقادون خاضعُون لظهورِ عجزهم وانسدادِ بابِ الحِيلِ عليهم أو أسلم بعضُهم بعضاً وخذله عن عجزٍ فكلُّهم مستسلم غيرُ منتصرٍ(7/188)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)
{وَأَقْبَلَ} حينئذٍ {بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} هم الأتباعُ والرؤساء أو الكفرةُ والقُرناء {يَتَسَاءلُونَ} يسألُ بعضُهم بعضاً سؤالَ توبيخٍ بطريقِ الخصومةِ والجدالِ(7/188)
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)
{قَالُواْ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ تساؤلهم كأنَّه قيل كيف تساءلوا فقيلَ قالوا أي الأتباعُ للرُّؤساء أو الكلُّ للقرناءِ {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا} في الدُّنيا {عَنِ اليمين} عن أقوى الوجوهِ وأمتنِها أو عن الدِّينِ أو عن الخيرِ كأنَّكم تنفعوننا نفعَ السائح فتبعناكم فهلكنا مستعارٌ من يمينِ الإنسانِ الذي هو أشرفُ الجانبينِ وأقواهما وأنفعُهما ولذلك سُمِّي يميناً ويُتيمَّن بالسائح أو عن القوَّة والقَسْر فتقسروننا على الغَيِّ وهو الأوفقُ للجوابِ أو عن الحلفِ حيثُ كانُوا يحلفون انهم على الحق(7/188)
الصافات(7/189)
قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
29 - 38 {قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق أي قالَ الرُّؤساء أو القُرناء {بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي لم نمنعكُم من الإيمانِ بل لم تُؤمنوا باختيارِكم وأعرضتُم عنه مع تمكُّنِكم منه وآثرتُم الكفرَ عليه(7/189)
وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30)
{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان} من قهرٍ وتسلُّطٍ نسلبكم به اختيارَكم {بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طاغين} مُختارين للطُّغيانِ مُصرِّين عليه(7/189)
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)
{فَحَقَّ عَلَيْنَا} أي لزمنا وثبتَ علينا {قَوْلُ رَبّنَا} وهو قوله تعالى لاملان جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ {إِنَّا لَذَائِقُونَ} أي العذابَ الذي وردَ به الوعيدُ(7/189)
فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)
{فأغويناكم} فدَعوناكم إلى الغيِّ دعوة غير ملجئة فاستجببتم لنا باختيارِكم واستحبابِكم الغيَّ على الرُّشدِ {إِنَّا كُنَّا غاوين} فلا عتبَ علينا في تعرُّضِنا لإغوائِكم بتلك المرتبةِ من الدَّعوةِ لتكونُوا أمثالنا في الغوايةِ(7/189)
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)
{فَإِنَّهُمْ} أي الأتباعُ والمتبُوعينَ {يَوْمَئِذٍ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ} حسبما كانُوا مشتركينَ في الغواية(7/189)
إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
{إِنَّا كَذَلِكَ} أي مثلَ ذلك الفعلِ البديعِ الذي تقتضيهِ الحكمةُ التَّشريعيَّةُ {نَفْعَلُ بالمجرمين} المتناهينَ في الإجرامِ وهم المُشركون كما يُعرب عنه التَّعليلُ بقولهِ تعالى(7/189)
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)
{إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ} بطريقِ الدَّعوةِ والتَّلقينِ {لا إله إلا الله يَسْتَكْبِرُونَ} عن القبولِ(7/189)
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
{ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} {بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين} ردٌّ عليهم وتكذيبٌ لهم ببيانِ أنَّ ما جاء به من التَّوحيدِ هو الحقُّ الذي قام به البُرهان وأجمعَ عليه كافَّةُ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فأينَ الشِّعرُ والجنونُ من ساحتهِ الرَّفيعةِ(7/189)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)
{إِنَّكُمْ} بما فعلتُم من الاشراك وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والاستكبار {لذائقوا العذاب الأليم}(7/189)
الصافات 39 43 والالتفاتُ لإظهارِ كمالِ الغضبِ عليهم وقُرىء بنصبِ العذابِ على تقديرِ النُّون كقولهِ ولا ذاكرُ اللَّهَ إلا قليلاً وقُرىء لذائقونَ العذابَ على الأصلِ(7/190)
وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كنتم تعملون} أي إلا جزاءَ ما كنتُم تعملونه من السَّيئاتِ أو إلاَّ بما كنتُم تعملونَه منها(7/190)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)
{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناءٌ منقطعٌ من ضمير ذائقو وما بينهما اعتراضٌ جئ به مسارعة إلى تحقيق الحقِّ ببيان أنَّ ذوقهم العذاب ليس إلاَّ من جهتِهِم لا من جهة غيرهم أصلاً وجعله استثناء من ضمير تُجزون على معنى أنَّ الكفرة لا يُجزون إلا بقدر أعمالهم دون عباد الله المُخلصين فإنَّهم يجزون أضعافاً مضاعفة مما لا وجهَ لَهُ أصلاً لا سيَّما جعله استثناء متَّصلاً بتعميم الخطاب في تُجزون لجميع المكلَّفين فإنَّه ليس في حيِّزِ الاحتمال فالمعنى إنَّكم لذائقون العذاب الأليم لكنْ عباد الله المُخلصين الموحِّدين ليسُوا كذلك وقولُه تعالى(7/190)
أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)
{أولئك} إشارةٌ إليهم للإيذان بأنَّهم ممتازون بما اتَّصفوا به من الإخلاص في عبادة الله تعالى عمَّن عداهم امتيازاً بالغاً منتظمون بسببه في سِلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإشعار بعلوِّ طبقتِهم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضلِ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {لَهُمْ} إمَّا خبرٌ له وقوله تعالى {رزق} مرتفع عل الفاعلية بما فيه من الاستقرارِ أو مبتدأٌ ولهم خبرٌ مقدّمٌ والجملةُ خبرُ لأولئك والجملةُ الكُبرى استئناف مبيِّنٌ لما أفاده الاستثناء إجمالاً بياناً تفصيليًّا وقيل هي خبر للاستثناء المنقطع على أنَّه متأوَّلٌ بالمبتدأ وقوله تعالى {مَّعْلُومٌ} أي معلومُ الخصائصِ من حُسن المنظر ولذَّةِ الطَّعمِ وطيب الرَّائحةِ ونحوها من نعوت الكمال وقيل معلوم الوقتِ كقوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً وقوله تعالى(7/190)
فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)
{فواكه} إمَّا بدل من رزقٌ أوْ خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ أي ذلك الرزقُ فواكهُ وتخصيصُها بالذِّكر لأنَّ أرزاق أهل الجنَّة كلَّها فواكه أي ما يُؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتياتِ لأنَّهم مستغنون عن القوت لكون خِلقتِهم مُحكمةً محفوظة من التَّحلُّلِ المُحوجِ إلى البدل وقيل لأنَّ الفواكه من أتباع سائرِ الأطعمةِ فذكرُها مُغنٍ عن ذكرِها {وَهُم مُّكْرَمُونَ} عند الله عز وجل لا يلحقُهم هوانٌ وذلك أعظم المثوباتِ وأليقها بأُولي الهممِ وقيل مكرمون في نيله حيثُ يصلُ إليهم بغير تعبٍ وسؤالٍ كما هو شأنُ أرزاقِ الدُّنيا وقرئ مكرَّمون بالتَّشديدِ(7/190)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43)
{فِي جنات النعيم} أي في جناتٍ ليسَ فيها إلاَّ النَّعيمُ وهو ظرف أو حالٌ من المستكنِّ في مكرمون أو خبرٌ ثانٍ لأولئك(7/190)
الصافات 44 50 وقوله تعالى(7/191)
عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44)
{على سُرُرٍ} محتمل للحاليَّةِ والخبريَّةِ فقولُه تعالى {متقابلين} حالٌ من المستكنِّ فيهِ أو في مُكرمون وقوله تعالى(7/191)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ} إمَّا استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من حكاية تكامن مجالسِ أُنسهم أو حال من الضَّميرِ في متقابلين أو في أحد الجارَّينِ وقد جُوِّز كونُه صفةً لمكرمون {بِكَأْسٍ} بإناء فيه خمر أو بخمرٍ فإنَّ الكأس تطلق على نفس الخمرِ كما في قول مَن قال وَكَأْسٍ شَرِبْتُ على لذَّة وأخرى تَدَاويتُ منها بها {مّن مَّعِينٍ} متعلِّقٌ بمضمرٍ هو صفة لكأس أي كائنةٌ من شرابٍ مَعينٍ أو من نهرٍ مَعينٍ وهو الجاري على وجه الأرضِ الظَّاهرُ للعُيونِ أو الخارجُ من العُيونِ من عان الماءُ إذا نبعَ وصف به الخمرُ وهو للماءِ لأنَّها تجري في الجنَّةِ في أنهارٍ كما يجري الماءُ قال تعالى وأنهارٍ من خمرٍ(7/191)
بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)
{بَيْضَاء لَذَّةٍ للشاربين} صفتانِ أيضاً لكأسٍ ووصفها بلذَّةٍ إمَّا للمُبالغةِ كأنَّها نفسُ اللَّذةِ أو لأنَّها تأنيثُ اللَّذِّ بمعنى اللَّذيذِ ووزنه فعل قال ... ولذَ كطعمِ الصر خدى تركتُه ... بأرضِ العِدا مِنْ خيفة الحدثان ...
يريد به النَّومَ(7/191)
لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
{لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي غائلةٌ كما في خمور الدُّنيا من غالَه إذا أفسدَه وأهلكه ومنه الغُول {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} يسكَرُون من نزف الشَّاربُ فهو نَزِيفٌ ومنزوفٌ إذا ذهب عقلُه ويقال للمطعونِ نزف فمات إذا خرج دمُه كلُّه أفرد هذا بالنَّفي مع اندراجه فيما قبله من نفي الغَول عنها لما أنَّه من معظم مفاسد الخمرِ كأنَّه جنس برأسهِ والمعنى لا فيها نوعٌ من أنواع الفسادِ من مغصٍ أو صُداعٍ أو خُمارٍ أو عَربدةٍ أو لغوٍ أو تأثيمٍ ولا هم يسكرون وقرئ يُنزفون بكسر الزَّاي من أنزفَ الشَّاربُ إذا نفدَ عقلُه أو شرابُه وقرئ ينزفون بضمِّ الزَّاي من نَزَف يَنزُف بضمِّ الزَّاي فيهما(7/191)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)
{وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف} قصرن أبصارَهنَّ على أزواجهنَّ لا يمددن طَرفاً إلى غيرهم {عِينٌ} نجُلُ العُيونِ جمع عَيْناءَ والنَّجَلُ سعةُ العينِ(7/191)
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} شُبِّهن ببيض النَّعامِ المصونِ من الغبارِ ونحوه في الصَّفاءِ والبياض المخلوطِ بأدنى صُفرةٍ فإن ذلك أحسنُ ألوانِ الأبدانِ(7/191)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} معطوف على يُطاف أي يشربون فيتحادثُون على الشَّراب كما هو عادة الشرب قال ... وما(7/191)
الصافات 51 56 بَقِيَتْ مِن اللَّذاتِ إلا ... أحاديثُ الكرامِ على المُدامِ ...
فيقبل بعضُهم على بعضٍ يَتَسَاءلُونَ عن الفضائلِ والمعارفِ وعمَّا جرى لهم وعليهم في الدُّنيا فالتَّعبيرُ عنه بصيغة الماضي للتَّأكيدِ والدِّلالةِ على تحقُّقِ الوقوع حتماً(7/192)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)
{قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ} في تضاعيف محاوراتهم {إِنّى كَانَ لِى} في الدُّنيا {قَرِينٌ} مصاحب(7/192)
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)
{يِقُولُ} لي على طريقة التَّوبيخِ بما كنت عليه من الإيمان والتَّصديقِ بالبعث {أئنك لَمِنَ المصدقين} أي بالبعث وقرئ بتشديدِ الصَّادِ من التَّصدُّقِ والأوَّلُ هو الأوفقُ لقولهِ تعالى(7/192)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
{أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أئنا لَمَدِينُونَ} أي لمبعوثون ومجزيُّون من الدِّينِ بمعنى الجزاء أو لمسوسُون يقال دانَه أي ساسَه ومنه الحديثُ العاقلُ من دانَ نفسَه وقيل كان رجلٌ تصدَّقَ بماله لوجه الله تعالى فاحتاج فاستجدَى بعضَ إخوانهِ فقال أين مالكُ قال تصدَّقتُ به ليعوضني الله تعالى في الآخرةِ خيراً منه فقال أئنَّك لمن المُصدِّقين بيوم الدِّينِ أو من المتصدِّقين لطلب الثَّوابِ والله لا أُعطيك شيئاً فيكون التَّعرُّضُ لذكر موتهم وكونِهم تُراباً وعظاماً حينئذٍ لتأكيدِ إنكار الجزاءِ المبني على إنكارِ البعث(7/192)
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
{قَالَ} أي ذلك القائلُ بعد ما حكى لجلسائه مقالة قرينهِ في الدُّنيا {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} أي إلى أهل النَّارِ لأريكم ذلك القرينَ يريد بذلك بيانَ صدقهِ فيما حكاه وقيل القائلُ هو اللَّهُ تعالى أو بعضُ الملائكة يقول لهم هل تُحبُّون أنْ تطَّلعوا على أهل النَّارِ لأريكم ذلك القرينَ فتعلموا أين منزلتُكم من منزلتهم قيل إنَّ في الجنَّة كُوى ينظر منها أهلُها إلى أهل النَّارِ(7/192)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)
{فاطلع} أي عليهم {فرآه} أي قربنه {فِى سَوَاء الجحيم} أي في وسطها وقرئ فأطَّلِعَ على لفظ المضارع المنصوب وقرئ مُطَّلعون فأطَّلع وفأطْلُعَ بالتَّخفيف على لفظ الماضي والمضارعِ المنصوبِ يقال طلعَ علينا فلان واطلع واطلع بمعنى واحد والمعنى هل أنتُم مطلعون الى القرن فأطَّلع أنا أيضاً أو عرض عليهم الاطِّلاعَ فقبلوا ما عرضَه فاطَّلع هو بعد ذلك وإن جُعل الاطِّلاعُ متعدِّياً فالمعنى أنَّه لما شرط في إطِّلاعه إطِّلاعهم كما هو ديدن الجُلساءِ فكأنَّهم مُطْلِعُوه وقيل الخطاب على هذا للملائكةِ وقُرىء مطلعون بكسر النون اراد مطلعونَ إيَّاي فوضع المتَّصلَ موضع المنفصل كقولهم هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونه اوشبه اسمُ الفاعل بالمضارع لما بينهما من التَّآخِي(7/192)
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)
{قَالَ} أي القائلُ مخاطباً لقرينهِ {تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} أي لتُهلكني بالإغواءِ وقرىء(7/192)
الصافات 57 62 لتُغوينِ والتَّاءُ فيه معنى التَّعجُّبِ وإنْ هي المخففةُ من أنَّ وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمها محذوف واللاَّمُ فارقةٌ أي تاللَّهِ ان الشأن كدت لنردين(7/193)
وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
{وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى} بالهدايةِ والعصمة {لَكُنتُ مِنَ المحضرين} أي من الذين أُحضروا العذابَ كما أُحضِرْته أنتَ وأضرابُك وقوله تعالى(7/193)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)
{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ} رجوع إلى محاورةِ جلسائه بعد إتمامِ الكلام مع قرينه تبجُّحاً وابتهاجاً بما أتاحَ الله عزَّ وجلَّ لهم من الفضلِ العظيمِ والنَّعيمِ المقيمِ والهمزة للتَّقريرِ وفيها معنى التَّعجُّبِ والفاء للعطف على مقدَّرٍ يقتضيه نظمُ الكلام أي أنحنُ مخلَّدون منعَّمون فما نحنُ بميِّتين أي بمن شأنه الموت وقُرىء بمائتينَ(7/193)
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
{إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاولى} التي كانت في الدُّنيا وهي متناولةٌ لما في القبر بعد الإحياء للسُّؤالِ قاله تصديقاً لقوله تعالى لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى وقيل إنَّ أهلَ الجنَّةِ أوَّلَ ما دخلُوا الجنَّة لا يعلمون أنَّهم لا يموتون فإذا جِيء بالموت على صُورة كبشٍ أملحَ فذُبح ونُودي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت يعلمونه فيقولون ذلك تحدُّثاً بنعمة الله تعالى واغنباطا بها {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كالكُفَّار فإنَّ النَّجاةَ من العذاب أيضاً نعمة جليلة مستوجبة للتَّحدثِ بها(7/193)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)
{إِنَّ هَذَا} أي الأمرُ العظيم الذي نحن فيه {لَهُوَ الفوز العظيم} وقيل هو من قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ تقريراً لقولهم وتصديقاً له وقرىء لهو الرِّزقُ العظيم وهو ما رُزقوه من السَّعادةِ العظمى(7/193)
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
{لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} أي لنيل هذا المرامِ الجليلِ يجب أنْ يعمل العاملون لا للحظوظِ الدُّنيويَّةِ السَّريعةِ الانصرام المشُوبةِ بفنون الآلام وهذا أيضاً يحتملُ أن يكونَ من كلام ربِّ العزَّةِ(7/193)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
{أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} أصل النُّزلِ الفضل والرِّيعُ فاستُعير للحاصل من الشَّيءِ فانتصابُه على التَّمييزِ أي أذلك الرِّزقُ المعلومُ الذي حاصلُه اللَّذةُ والسُّرورُ خيرٌ نزلاً أم شجرةُ الزَّقُومِ التي حاصلها الألم والغمُّ ويقال النُّزل لما يقامُ ويهيَّأُ من الطَّعامِ الحاضر للنَّازلِ فانتصابُه على الحاليَّةِ والمعنى أنَّ الرِّزقَ المعلوم نزلُ أهل الجنَّةِ وأهلُ النَّارِ نُزلهم شجرةُ الزَّقُّوم فأيُّهما خيرٌ في كونه نزلاً والزَّقُّومُ اسم شجرةٍ صغيرةِ الورقِ دَفرةٍ مُرَّةٍ كريهةِ الرَّائحةِ تكون في تِهامة سمِّيتْ به الشجرة الموصوفة(7/193)
الصافات(7/194)
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)
63 - 69 {إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين} محنةً وعذاباً لهم في الآخرة وابتلاء في الدُّنيا فإنَّهم لمَّا سمعوا أنَّها في النَّار قالوا كيف يمكن ذلك والنَّارُ تحرق الشَّجَر ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوانٍ يعيش في النَّارِ ويتلذذ بها افدر على خلق الشَّجرِ في النار وحفظه من الاحراق(7/194)
إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)
{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الجحيم} منبتُها في قعر جهنَّم وأغصانها ترتفعُ الى دركانها وقُرىء نابتةٌ في أصل الجحيم(7/194)
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
{طَلْعُهَا} أي حملُها الذي يخرج منها مستعار من طلع النَّخلةِ لمشاركته له في الشكل والطلوع من الشَّجرِ قالوا أوَّلُ التَّمرِ طَلعٌ ثم خِلالٌ ثم بلح ثم بسر ثم رُطَبٌ ثم تمرٌ {كأنه رؤوس الشياطين} في تناهي القُبح والهول وهو تشبيه بالمخيل كتشبيه الفائق في الحُسنِ بالمَلَك وقيل الشَّياطينُ الحيَّاتُ الهائلةُ القبيحةُ المنظر لها أعرافٌ وقيل إنَّ شجراً يقال له الأستنُ خشناً مُنتناً مُرًّا منكر الصُّورةِ يسمى ثمره رءوس الشَّياطينِ(7/194)
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
{فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا} أي من الشَّجرةِ أو من طلعِها فالتَّأنيثُ مكتسب من المضافِ إليه {فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} لغلبة الجوعِ أو للقسرِ على أكلِها وإنْ كرهوها ليكونَ ذلك باباً من العذابِ(7/194)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)
{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا} على الشَّجرةِ التي ملأوا منها بطونهم بعد ما شبِعُوا منها وغلبهم العطشُ وطال استسقاؤهم كما يُنبىء عنه كلمةُ ثُمَّ ويجوز أنْ تكونَ لما في شرابهم من مزيدِ الكراهة والبشاعةِ {لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} لشراباً من غسَّاقٍ أو صديدٍ مشُوباً بماءٍ حميمٍ يُقطِّع أمعاءهم وقُرىء بالضَّمِّ وهو اسم لما يُشاب به والأوَّلُ مصدر سُمِّي به(7/194)
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)
{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} أي مصيرَهم وقد قُرىء كذلك {لإِلَى الجحيم} لإلى دَرَكاتِها أو إلى نفسها فإنَّ الزَّقُّومَ والحميمَ نزلٌ يقدَّمُ إليهم قبل دخولها وقيل الحميمُ خارجٌ عنها لقوله تعالَى هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون يَطُوفُونَ بينها وبين حميم آن يذهب بهم عن مقارِّهم ومنازلهم في الجحيمِ إلى شجرة الزَّقُّومِ فيأكلون منها الى ان يمتثلوا ثم يُسقون من الحميم ثم يُردُّون إلى الجحيم ويُؤيِّده أنَّه قُرىء ثمَّ إنَّ منقلبَهم(7/194)
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69)
{إنهم ألفوا آباءهم ضَالّينَ} تعليل لاستحقاقِهم ما ذُكر من فنونِ العذاب بتقليد الآباء في الدِّينِ من غير أن يكون لهم ولا لآبائِهم شيءٌ يتمسَّكُ به أصلاً أي وجدوهم ضالِّين في نفس(7/194)
الصافات 70 76 الأمر ليس لهم ما يصلُح شبهةً فضلاً عن صلاحيةِ الدَّليلِ(7/195)
فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
{فهم على آثارهم يُهْرَعُونَ} من غير أنْ يتدبروا أنَّهم على الحقِّ أولاً مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمُّلٍ والإهراعُ الإسراع الشَّديدُ كأنَّهم يُزعجون ويحثُّون حثًّا على الإسراع على آثارِهم وقيل هو إسراعٌ فيه شبه رعدةٍ(7/195)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ} أي قبلَ قومِك قريش {أَكْثَرُ الاولين} من الأمم السَّالفةِ وهو جواب قسم محذوفٍ وكذَا قولُه تعالى(7/195)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} أي أنبياءَ أولي عددٍ كثيرٍ وذوي شأنٍ خطيرٍ بيَّنوا لهم بُطلانَ ما هم عليه وأنذرُوهم عاقبته الوَخِيمَةِ وتكريرُ القَسَمِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمون كلَ من الجملتين(7/195)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{فانظر كيف كان عاقبة المنذرين} من الهول والفظاعةِ لمَّا لم يلتفتُوا إلى الإنذار ولم يرفعُوا له رأساً والخطابُ إمَّا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يتمكَّنُ من مشاهدة آثارِهم وحيث كان المعنى أنَّهم اهلكوا هلاكا فظيعاً استُثني منهم المُخلصون بقوله تعالى(7/195)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} أي الذين أخلصَهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعملِ بموجب الإنذارِ وقُرىء المخلِصين بكسر اللاَّم أي الذين أخلصُوا دينَهم لله تعالى(7/195)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} نوعُ تفصيلٍ لَما أُجمل فيما قبل ببيان أحوال بعض المرسلين وحسنِ عاقبتهِم متضمِّنٍ لبيان سوء عاقبة بعض المُنذرين حسبما أُشير إليه بقوله تعالى فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين كقوم نوح آل فرعونَ وقوم لوطٍ وقوم إلياسَ ولبيان حُسن عاقبةِ بعضهم الذين أخلصُهم الله تعالى ووفَّقهم للإيمان كما أشار إليه الاستثناء كقوم يونسَ عليه السَّلامُ ووجه تقديم قصَّةِ نوحٍ على سائر القصص غنيٌّ عن البيان واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ وكذا ما في قوله تعالى {فَلَنِعْمَ المجيبون} أي وباللَّهِ لقد دعانا نوحٌ حين يئسَ من ايمان قومه بعد ما دعاهُم إليه أحقاباً ودُهُوراً فلم يزدهم دعاؤُه إلا فراراً ونُفوراً فأجبناه أحسنَ الاجابة فو الله لنعم المُجيبون نحن فحُذف ما حُذف ثقةً بدلالة ما ذُكر عليه والجمع دليلُ العظمةِ والكبرياءِ(7/195)
وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
{ونجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} أي من الغَرقِ وقيل من أذيةِ قومه(7/195)
الصافات(7/196)
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)
77 - 83 {وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين} فحسب حيثُ أهلكنا الكفرة بموجب دعائه رب لاتذر عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً وقد رُوي أنَّه ماتَ كلُّ من كانَ معه في السَّفينةِ غير أبنائه وأزواجهم أو هم الذين بقوا مُتناسلين إلى يوم القيامة قال قتادة النَّاسُ كلُّهم من ذُرِّيةِ نوحٍ عليه السَّلامُ وكان له ثلاثةُ أولادٍ سامٌ وحام ويافث فسام أبو العربِ وفارسَ والرُّومِ وحامٌ أبُو السودانِ من المشرق إلى المغربِ ويافثٌ أبو التُّركِ ويأجوجَ ومأجوجَ(7/196)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78)
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين} من الأمم(7/196)
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
{سلام على نُوحٍ} أي هذا الكلامُ بعينه وهو واردٌ على الحكاية كقولك قرأتُ سورة أنزلناها والمعنى يُسلِّمون عليه تسليماً ويدعُون له على الدَّوام أمَّةً بعد أمَّةٍ وقيل ثمة قولٌ مقدَّرٌ أي فقلنا وقيل ضُمِّن تركنا معنى قلنا وقوله تعالى {فِى العالمين} متعلِّقٌ بالجارِّ والمجرورِ ومعناهُ الدُّعاء بثباتِ هذه التَّحيةِ واستمرارِها أبداً في العالمين من الملائكة والثَّقلينِ جميعاً وقوله تعالى(7/196)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80)
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} تعليلٌ لما فُعل به عليه الصلاة والسلام من التَّكرمةِ السَّنيةِ من إجابةِ دُعائهِ أحسنَ إجابةٍ وإبقاء ذُرِّيتهِ وتَبقيةِ ذكره الجميلِ وتسليم العالمين عليه إلى آخرِ الدَّهرِ بكونه من زُمرة المعروفين بالإحسان الرَّاسخينَ فيه وأنَّ ذلك من قبيل مُجازاة الإحسانِ بالإحسانِ وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكر من الكراماتِ السَّنيةِ التي وقعتْ جزاءً له عليه الصلاة والسلام وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمُشار إليه للإيذان بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلتِه في الفضل والشَّرفِ والكافُ متعلِّقةٌ بما بعدها أي مثلَ ذلك الجزاءِ الكامل نجزِي الكاملينَ في الاحسان لاجزاء أدنى منه وقوله تعالى(7/196)
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81)
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} تعليل لكونهِ من المحسنين بخلوصِ عبوديته وكمال إيمانه وفيه من الدلالة على جلالة قدرهما مالا يخفى(7/196)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخرين} أي المغايرين لنوحٍ وأهله وهُم كفار وقومه أجمعين(7/196)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)
{وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ} أي ممَّن شايعه في أصول الدِّينِ {لإبراهيم} وإنِ اختلفتْ فروعُ شرائعهما ويجوزُ أن يكون بين شريعتيهما اتِّفاقٌ كلي او اكثرى وعن ابن عباس رضي الله عنهما من أهل دينهِ وعلى سنَّتهِ أو ممَّن شايعه على التَّصلُّبِ في دينِ الله ومصابرةِ المكذِّبين وما(7/196)
الصافات 84 90 كان بينهما إلا نبيَّانِ هود وصالح عليهم السلام وكان بين نوح وإبراهيمَ ألفانِ وستمائةٍ وأربعون سنةً(7/197)
إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
{إِذْ جَاء رَبَّهُ} منصوب باذكُر أو متعلقٌ بما في الشِّيعةِ من معنى المُشايعةِ {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي من آفات القلوب أو من العلائقِ الشَّاغلةِ عن التَّبتلِ إلى الله عزَّ وجلَّ ومعنى المجيء به ربَّه إخلاصُه له كأنَّه جاء به متحفاً إيَّاهُ بطريق التَّمثيلِ(7/197)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85)
{إذ قال لابيه وقومه مَاذَا تَعْبُدُونَ} بدلٌ من الأولى أو ظرفٌ لجاء أو لسليمٍ أي أيَّ شيءٍ تعبدُونه(7/197)
أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)
{أئفكا آلهة دُونَ الله تُرِيدُونَ} أي أتريدون آلهةً من دونِ الله إفكاً أي للإفكِ فقدَّم المفعولَ على الفعل للعنايةِ ثمَّ المفعولَ له على المفعولِ به لأنَّ الأهمَّ مكافحتُهم بأنَّهم على إفكٍ وباطل في شركهم ويجوزُ أن يكونَ إفكاً مفعولاً به بمعنى أتريدون إفكاً ثم يفسَّر الإفكُ بقوله آلهةً من دونِ الله دلالةً على أنَّها إفكٌ في نفسها للمبالغةِ أو يراد بها عبادتُها بحذفِ المضافِ ويجوزُ أنْ يكون حالاً بمعنى آفكينَ(7/197)
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
{فَمَا ظنُّكم بِرَبّ العالمين} أي بمن هو حقيقٌ بالعبادة لكونه ربًّا للعالمين حتَّى تركتُم عبادته خاصَّةً وأشركتُم به أخسَّ مخلوقاته أو فما ظنُّكم به أي شيء هو من الأشياء حتى جعلتُم الأصنام له اندادا او فماظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم بعد ما فعلتم ما فعلتُم من الإشراكِ به(7/197)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم} قيل كانت له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حُمَّى لها نوبةٌ معيَّنةٌ في بعض ساعات اللَّيلِ فنظر ليعرفَ هل هي تلك السَّاعةُ فإذا هي قد حضرتْ(7/197)
فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)
{فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ} وكان صادقاً في ذلك فجعلَه عُذراً في تخلُّفهِ عن عيدهم وقيل أرادَ إنِّي سقيمُ القلبِ لكفرِكم وقيل نظر في علمِها أو في كتبها أو في أحكامها ولا منعَ من ذلك حيثُ كان قصدُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إيهامَهم حين أرادُوا أنْ يخرجُوا به عليه الصلاة والسلام الى معيدهم ليتركُوه فإنَّ القومَ كانوا نجَّامين فأوهمهم أنَّه قد استدل بأمارة في النُّجوم على أنَّه سقيمٌ أي مشارف للسقمِ وهو الطَّاعُونُ وكان أغلبَ الأسقامِ عليهم وكانوا يخافون العدوى ليتفرَّقوا عنه فهربُوا منه الى معبدهم وتركوه في بيت الأصنامِ وذلك قوله تعالى(7/197)
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
{فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي هاربين مخافة العدوى(7/197)
الصافات(7/198)
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91)
91 - 96 {فراغ إلى آلهتهم} أي ذهب إليها في خيفة وأصله الميلُ بحيلةٍ {فَقَالَ} للأصنام استهزاءً {أَلا تَأْكُلُونَ} أي من الطَّعامِ الذي كانوا يصنعونَه عندها لتبرِّكَ عليه(7/198)
مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92)
{مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} أي بجوابي(7/198)
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)
{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} فمالَ مستعلياً عليهم وقوله تعالى {ضَرْباً باليمين} مصدر مؤكِّدٌ لراغَ عليهم فإنَّه بمعنى ضربَهم أو لفعلٍ مضمرٍ هُو حالٌ من فاعلِه أي فراغ عليهم يضربُهم ضرباً أو هو الحالُ منه على أنه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ أي فراغَ عليهم ضارباً باليمين أي ضرباً شديداً قويًّا وذلك لأنَّ اليمينَ أقوى الجارحتينِ وأشدُّهما وقوَّةُ الآلةِ تقتضي قُوَّة الفعلِ وشدَّته وقيل بالقُوَّةِ والمتانةِ كما في قوله ... إذَا مَا رايةٌ رُفعتْ لمجده ... تَلقَّاها عُرابةُ باليمينِ ...
أي بالقُوَّة وعلى ذلك مدارُ تسميةِ الحلفِ باليمينِ لأنَّه يُقوِّي الكلامَ ويؤكِّدُه وقيل بسبب الحلفِ وهو قولُه تعالى وتالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم(7/198)
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
{فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ} أي المأمورون بإحضاره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام فوجدُوها مكسورةً فسألوا عن الفاعلِ فظنُّوا أنه عليه الصلاةُ والسلام فعلَه فقيل فأتُوا به {يَزِفُّونَ} حالٌ من واوِ أقبلُوا أي يُسرعون من زَفيفِ النَّعامِ وقُرىء يَزِفُون من أزفَ إذا دخلَ في الزَّفيف أو من أزفّه أي حملَه على الزَّفيفِ أي يزف بعضُهم بعضاً ويُزَفُّون على البناء للمفعولِ أي يُحملون على الزَّفيف ويَزِفون من وزَف يزِف إذا أسرع ويُزَفُّون من زفّاه إذا حداه كأنَّ بعضَهم يزفُو بعضاً لتسارعهم إليه عليه الصلاة والسلام(7/198)
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)
{قَالَ} أي بعدما أتَوا به عليه الصلاة والسلام وجرى بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم من المحاوراتِ ما نطقَ به قولُه تعالى قالوا اانت فعلت هذا بآلهتنا يا ابراهيم إلى قوله تعالى لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} ما تنحتونَه من الأصنام وقولِه تعالى(7/198)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
{والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} حالٌ من فاعل تعبدون مؤكِّدةٌ للإنكار والتَّوبيخِ أي والحالُ أنَّه تعالى خلقكم وخلقَ ما تعملونَهُ فإنَّ جواهرَ أصنامِهم ومادتها بخلقه تعالى وشكلها وإن كان بفعلهم لكنَّه بإقداره تعالى إيَّاهم عليه وخلقه ما يتوقَّفُ عليه فعلُهم من الدَّواعي والعدد والأسباب وما تعملون إمَّا عبارةٌ عن الأصنامِ فوضعه موضعَ ضميرِ ما تنحِتون للإيذان بأنَّ مخلوقيَّتها لله عزَّ وجلَّ ليس من حيثُ نحتُهم لها فقط بل من حَيثُ سائرُ أعمالهم أيضاً من التَّصويرِ والتَّحليةِ والتَّزيينِ ونحوها وإمَّا على عمومهِ فينتظم الاصنام انتظاما(7/198)
الصافات 97 102 أوليًّا مع ما فيه من تحقيقِ الحقِّ ببيانِ أنَّ جميعَ ما يعملونَهُ كائناً ما كان مخلوقٌ له سبحانه وقيل ما مصدريةٌ أي عملَكم على أنَّه بمعنى المفعولِ وقيل بمعناه فإنَّ فعلَهم إذا كان بخلقِ اللَّهِ تعالى كان مفعولهم المتوقِّفُ على فعلهم أولى بذلك(7/199)
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
{قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم} أي في النَّارِ الشَّديدةِ الاتِّقادِ من الجحمةِ وهي شدَّةُ التأجح واللاَّم عوضٌ من المضاف إليه أي جحيم ذلك البنيانِ وقد ذكر كيفية بنائهم له في سورة الأنبياء(7/199)
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
{فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} فإنَّه عليه الصلاة والسلام لما قهرهم بالحجَّةِ وألقمهم الحجرَ قصدُوا ما قصدُوا لئلاَّ يظهرَ للعامَّةِ عجزُهم {فجعلناهم الاسفلين} الأذلِّين بإبطال كيدِهم وجعله برهاناً نيِّراً على علو شأنِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بجعلِ النار عليه بردا وسلاما(7/199)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
{وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى} أي مهاجرٌ إلى حيثُ أمرني ربِّي كما قال إنِّي مهاجرٌ إلى ربِّي وهو الشَّامُ أو إلى حيث أتجرَّدُ فيه لعبادته تعالى {سَيَهْدِينِ} أي إلى ما فيه صلاحٌ ديني أو إلى مقصدي وبت القول بذلك لسبقِ الوعدِ أو لفرط توكِّله وللبناء على عادته تعالى معه ولم يكُن كذلك حالُ موسى عليه السلام حيث قال عسى ربى أن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل ولذلك أتى بصيغة التَّوقُّعِ(7/199)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100)
{رَبّ هَبْ لِى مِن الصالحين} أي بعضَ الصَّالحينَ يعينني على الدَّعوةِ والطَّاعةِ ويؤنسني في الغُربةِ يعني الولد لأن لفظَ الهبة على الإطلاقِ خاصٌّ به وإن كان قد وردَ مقيَّداً بالأخوةِ في قوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رحمتنا أخاه هرون نَبِيّاً ولقوله تعالى(7/199)
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
{فبشرناه بغلام حَلِيمٍ} فإنَّه صريحٌ في أن المبشربه عينُ ما استوهبه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولقد جمع فيه بشاراتٌ ثلاثٌ بشارةُ انه غلام وأنه يبلع او ان الحُلُم وأنَّه يكونُ حَليماً وأيُّ حِلْمٍ يُعادل حلمَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين عرض عليه يا أبت أبوه الذبح فقال يأبت افعل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إن شاء الله من الصابرين وقيل ما نعتَ اللَّهُ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بأقلَّ ممَّا نعتهم بالحِلْمِ لعزَّةِ وجودهِ غيرَ إبراهيمَ وابنه فإنَّه تعالى نعتهما به وحالهما المحكيَّةُ بعد أعدلُ بينةٍ بذلك والفاء في قوله تعالى(7/199)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} فصيحةٌ معربة عن مقدَّرٍ قد حُذف تعويلاً على شهادةِ الحال وإيذاناً بعدمِ الحاجة إلى التصريح(7/199)
الصافات 103 به لاستحالةِ التَّخلُّفِ والتَّأخُّرِ بعد البشارة كما مرَّ في قوله تعالى فلما رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وفي قوله تعالى فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه أي فوهبناه له فنشأ فلمَّا بلغَ رتبة ان يسعى معى في أشغالهِ وحوائجهِ ومعه متعلق بمحذوف ينبئ عنه السَّعيُ لا بنفسِه لأنَّ صلة المصدرِ لا تتقدَّمُه ولا يبلغ لأنَّ بلوغَهما لم يكن معاً كأنَّه لما ذُكر السَّعيُ قيل مع مَن فقيل مَعَه وتخصيصُه لأنَّ الأبَ أكملُ في الرِّفقِ والاستصلاحِ فلا يستسعيه قبل أوانهِ أو لأنَّه استوهبه لذلك وكان له يومئذٍ ثلاثَ عشرة سنةً {قَالَ} أيْ إبراهيمُ عليهِ السلام {يا بني إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} أي أرى هذه الصُّورة بعينها أو ما هذه عبارتُه وتأويلُه وقيل إنه رأى ليلةَ التَّرويةِ كأنَّ قائلاً يقول له إنَّ الله يأمُرك بذبحِ ابنِك هذا فلمَّا أصبحَ رَوَّى في ذلك من الصَّباحِ إلى الرَّواحِ أمنَ اللَّهِ هذا الحُلُم أم من الشَّيطانِ فمن ثمة سُمِّي يوم التَّرويةِ فلمَّا أمسى رأى مثلَ ذلك فعرفَ أنَّه من اللَّهِ تعالى فمن ثمَّة سمِّي يومَ عرفة ثم رأى مثله في اللَّيلةِ الثَّالثةِ فهمَّ بنحرهِ فسمِّي اليوم يومَ النَّحرِ وقيل إنَّ الملائكةَ حين بشَّرته بغلامٍ حليمٍ قال إذن هو ذبيح الله فلمَّا وُلد وبلغ حدَّ السَّعيِ معه قيل له أوفِ بنذرك والأظهرُ الأشهرُ أنَّ المخاطَب إسماعيلُ عليه السَّلامُ إذ هُو الذي وُهب إثرَ المُهاجرةِ ولأنَّ البشارة بإسحق بعده معطوفٌ على البشارةِ بهذا الغلام ولقوله صلى الله عليه وسلم أنا ابنُ الذَّبيحين فأحدُهما جدُّه إسماعيلُ عليه السَّلامُ والآخرُ أبُوه عبدُ اللَّهِ فإنَّ عبد المطَّلبِ نذر أنْ يذبحَ ولداً أنْ سهَّل الله تعالى له حفرَ بئرِ زمزمٍ أو بلغ بنُوه عشرةً فلمَّا حصل ذلك وخرجَ السَّهمُ على عبدِ اللَّهِ فداهُ بمائةٍ من الإبلِ ولذلك سُنَّت الدِّيةُ مائةً ولأنَّ ذلك كان بمكَّة وكان قَرْنا الكبشِ معلَّقين بالكعبةِ حتَّى احترقا في أيَّامِ ابن الزُّبيرِ ولم يكن إسحق ثمة ولان بشارة إسحق كانت مقرونةً بولادةِ يعقوبَ منه فلا يُناسبه الأمرُ بذبحهِ مُراهِقاً وما رُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام سئل عن النَّسب أشرفُ فقال يوسفُ صدِّيقُ اللَّهِ ابنُ يعقوبَ اسرائيل الله ابن اسحق ذبيحِ اللَّهِ ابنِ إبراهيمَ خليلِ اللَّهِ فالصَّحيحُ أنَّه عليه الصلاةُ والسلام قال يوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ اسحق بن ابراهيم الزوائد من الرَّاوي وما رُوي من أنَّ يعقوبَ كتب إلى يوسفَ مثلَ ذلك لم يثبت وقرئ إنِّيَ بفتح الياءِ فيهما {فانظر مَاذَا ترى} من الرَّأيِ وإنَّما شاوره فيه وهو أمرٌ محتومٌ ليعلمَ ما عنده فيما نَزلَ من بلاءِ اللَّهِ تعالى فيُثبِّت قدمَه إنْ جَزِعَ ويأمن عليه إنْ سلَّم وليُوطِّنَ نفسَه عليه فيُهون ويكتسبُ المثوبة عليه بالانقيادِ له قبل نزول وقرى ماذا تُري بضمِّ التَّاءِ وكسرِ الرَّاءِ وبفتحِها مبنياً للمفعول {قال يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ} أي تُؤمر بهِ فحذف الجارُّ أوَّلاً على القاعدةِ المُطَّردةِ ثم حُذف العائدُ إلى الموصولِ بعد انقلابه منصوباً بإيصاله إلى الفعلِ أو حُذفا دفعةً أو افعل أمرك على إضافة المصدر إلى المفعولِ وتسمية المأمورِ به امرا وقرئ ما تؤمر به وصيغة المضارعِ للدِّلالةِ على أنَّ الأمرَ متعلِّقٌ به متوجِّهٌ إليه مستمرٌّ إلى حينِ الامتثالِ به {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} على الذَّبحِ أو على قضاء الله تعالى(7/200)
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
{فَلَمَّا أَسْلَمَا} أي استسلما لأمرِ الله تعالى وانقادا وخَضَعا له يقال سَلَّم لأمرِ الله وأسلَم واستسلَم بمعنى واحد وقد قرئ بهنَّ جميعاً وأصلُها من قولك سلم هذا الفلان إذا خلُص له ومعناه سَلِمَ من أنْ يُنازع فيهِ وقولهم سلَّم لأمرِ الله وأسلمَ له منقولانِ منه ومعناهما أخلصَ نفسَه الله(7/200)
الصافات 104 109 وجعلها سالمةً له وكذلك معنى استسلَم استخلصَ نفسَه له تعالى وعن قتادة رضى الله عنه في أسلما أسلَمَ إبراهيمُ ابنَه وإسماعيلُ نفَسه {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} صرعَه على شقِّه فوقع جبينُه على الأرض وهو أحدُ جانبَيْ الجبهةِ وقيل كبَّه على وجههِ بإشارتهِ كيلا يرى منه ما يُورِث رقَّةً تحولُ بينه وبين أمرِ الله تعالى وكان ذلك عند الصَّخرةِ من مِنَى وقيل في الموضعِ المُشرف على مسجدِ مِنَى وقيل في المنحرِ الذي يُنحر اليوم فيه(7/201)
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)
{وناديناه أن يا إبراهيم} {قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} بالعزم على الإتيانِ بالمأمور به ترتيب مقدماتهِ وقد رُوي أنَّه أمرَّ السِّكِّينَ بقوَّتهِ على حلقهِ مراراً فلم يقطعْ ثم وضع السِّكِّينَ على قفاه فانقلبَ السِّكِّينُ فعند ذلك وقع النداء جواب لمَّا محذوفٌ إيذاناً بعدم وفاء التَّعبيرِ بتفاصيله كأنَّه قيل كانَ ما كانَ مما لا يحيطُ به نطاقُ البيانِ من استبشارهما وشكرِهما لله تعالَى عَلى ما أنعمَ به عليهما من دفعِ البلاء بعد حلولهِ والتَّوفيقِ لما لم يُوفَّقْ أحدٌ لمثله وإظهارِ فضلهما بذلك على العالمين مع إحراز الثَّوابِ العظيمِ إلى غيرِ ذلك {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} تعليلٌ لتفريجِ تلك الكُربةِ عنهما بإحسانهما واحتجَّ به من جوَّز النَّسخَ قبل وقوع المأمور به فإنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان مأموراً بالذَّبحِ لقوله تعالى افعل مَا تُؤمَرُ ولم يحصلْ(7/201)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106)
{إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين} الابتلاء البين الذي يتميَّز فيه المخلِصُ عن غيره أو المحنةُ البيِّنةُ الصُّعوبةِ إذ لا شئ أصعبُ منها(7/201)
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
{وفديناه بِذِبْحٍ} بِما يُذبح بدله فيتمُّ به الفعل {عظِيمٌ} أي عظيمِ الجثَّة سمينٍ أو عظيم القدر لأنَّه يَفدي به اللَّهُ نبيًّا ابنِ نبيَ من نسله سيِّدُ المُرسلينَ قيل كان ذلك كبشاً من الجنَّةِ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه الكبشُ الذي قرَّبه هابيلُ فتُقبِّل منه وكان يَرْعى في الجنَّةِ حتَّى فُدي به إسماعيلُ عليه السَّلامُ وقيل فُدي بوعلٍ أُهبط عليه من ثَبير ورُوي أنه هربَ من إبراهيمَ عليه السَّلامُ عند الجمرةِ فرماه بسبع حصياتٍ حتَّى أخذه فبقي سنَّةً في الرَّميِ ورُوي أنَّه رَمَى الشَّيطان حين تعرَّض له بالوسوسةِ عند ذبحِ ولده ورُوي أنَّه لمَّا ذبحه قال جبريلُ عليه السَّلامُ اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ فقال الذَّبيحُ لا إله إلا الله والله أكبر فقالَ إبراهيمُ اللَّهُ أكبرُ ولِلَّهِ الحمدُ فبقي سُنَّةً والفادي في الحقيقة هو إبراهيمُ وإنَّما قيل وفدينَاهُ لأنَّه تعالى هو المُعطي له والآمرُ به على التَّجوزِ في الفداءِ أو الإسنادِ(7/201)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين سلام على إبراهيم} قد سلف بيانُه في خاتمةِ قصة نوح عليه السلام(7/201)
الصافات(7/202)
كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)
110 - 116 {كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} ذلك إشارةٌ إلى إبقاءِ ذكره الجميل فيما بين الأممِ لا إلى ما أُشير إليه فيما سبق فلا تكرارَ وعدم تصديرِ الجملةِ بإنا للاكتفاءِ بما مرَّ آنِفاً(7/202)
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} الراسخين في الإيمان على وجهة الإيقان والاطمئنان(7/202)
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)
{وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين} أي مقضيًّا بنبُّوتهِ مقدَّراً كونه من الصَّالحينَ وبهذا الاعتبار وقَعا حالينِ ولا حاجةَ إلى وجود المبشَّر به وقت البشارةِ فإنَّ وجود ذي الحالِ ليس بشرطٍ وإنَّما الشَّرطُ مقارنةُ تعلُّق الفعل به لاعتبارِ معنى الحالِ فلا حاجةٍ إلى تقديرِ مضافٍ يجعل عاملاً فيهما مثل وبشرناه بوجود إسحاقَ نبيًّا من الصَّالحين ومع ذلكَ لا يصيرُ نظيرَ قوله تعالى فادخلوها خالدين فإنَّ الدَّاخلين كانوا مقدِّرين خلودهم وقت الدُّخولِ وإسحاقُ عليهِ السَّلامُ لم يكُنْ مقدِّراً نبُّوة نفسه وصلاحَها حين ما يُوجد ومن فسَّر الغلامَ بإسحاقَ جعل المقصودَ من البشارةِ نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ وفي ذكر الصَّلاحِ بعد تعظيمٍ لشأنهِ وإيماءً إلى أنَّه الغايةُ لها لتضمُّنِها معنى الكمالِ والتَّكميلِ بالفعلِ على الإطلاقِ(7/202)
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
{وباركنا عَلَيْهِ} على إبراهيمَ في أولادِه {وعلى إسحاق} بأنْ أخرجنا من صلبهِ أنبياءَ بني إسرائيلَ وغيرَهم كأيُّوبَ وشُعيبَ عليهم السَّلامُ أو أفضْنا عليهما بركاتِ الدين والدنيا وقرئ وبرَّكنا {وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} في عملهِ أو لنفسِه بالإيمانِ والطَّاعةِ {وظالم لّنَفْسِهِ} بالكفر والمَعَاصي {مُّبِينٌ} ظاهرٌ ظلمُه وفيه تنبيهٌ على أنَّ النَّسبَ لا تأثيرَ له في الهدايةِ والضَّلالِ وأنَّ الظُّلمَ في أعقابهما لا يعود عليهما بتقيصه ولاعيب(7/202)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114)
{وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وهارون} أي أنعمنا عليهما بالنبوَّة وغيرِها من النِّعم الدِّينيةِ والدُّنيويةِ(7/202)
وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)
{ونجيناهما وَقَوْمَهُمَا} وهم بنُو إسرائيلَ {مِنَ الكرب العظيم} هو مَلَكةُ آل فرعونَ وتسلطهم عليهم بألوان الغَشَمِ والعذاب كما في قوله تعالى وَإِذْ أنجيناكم مّنْ آل فِرْعَونَ وقيل هو الغَرَقُ وهو بعيد لأنَّه لم يكن عليهم كَرباً ومشقةً(7/202)
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)
{ونصرناهم} أي إيَّاهما وقومَهما على عدوِّهم {فَكَانُواْ} بسبب ذلك {هُمُ الغالبين} عليهم غلبةً لا غايةَ وراءها بعد أنْ كان قومُهما في أسرِهم وقَسْرِهم مقهورين تحت أيديهم العادية يسومُونهم(7/202)
الصافات 117 125 سوء العذاب وهذه التَّنجيةُ وإن كانتْ بحسب الوجودِ مقارنةً لما ذُكر من النَّصرِ والغَلَبة لكنَّها لما كانتْ بحسب المفهومِ عبارة عن التَّخليصِ من المكروهِ بدئ بها ثمَّ بالنَّصر الذي يتحقَّقُ مدلُوله بمحضِ تنجيةِ المنصورِ من عدوِّه من غير تغليبهِ عليه ثم بالغلبةِ لتوفيةِ مقام الامتنانِ حقَّه بإظهار أنَّ كلَّ مرتبةٍ من هذه المراتبِ الثَّلاثِ نعمةٌ جليلةٌ على حيالِهَا(7/203)
وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)
{وآتيناهما} بعد ذلك {الكتاب المستبين} أي البليغَ في البيان والتَّفصيلِ وهو التَّوراةُ(7/203)
وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
{وهديناهما} بذلك {الصراط المستقيمَ} الموصِلَ إلى الحقِّ والصَّوابِ بما فيه من تفاصيلِ الشَّرائعِ وتفاريعِ الأحكامِ(7/203)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الأخرين} {سلام على موسى وهارون} أي أبقينا فيما بين الأممِ الآخرين هذا الذِّكرَ الجميلَ والثَّناءَ الجزيلَ(7/203)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121)
{إِنَّا كَذَلِكَ} الجزاءِ الكاملِ {نَجْزِى المحسنين} الذين هُما من جملتهم لاجزاء قاصراً عنه(7/203)
إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
{إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} سبق بيانُه(7/203)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين} هو إلياسُ بنُ ياسينَ من سبط هرون أخي مُوسى عليهم السلام بُعث بعده وقيل إدريسُ لأنه قرئ مكانه إدريس وإدراس وقرئ إيليس وقرئ إلياسَ بحذفِ الهمزة(7/203)
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ} أي عذابَ الله تعالى(7/203)
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
{أَتَدْعُونَ بَعْلاً} أتعبدونَه وتطلبون الخيرَ منه وهو اسمُ صنمٍ كان لأهل بكَّ من الشَّأمِ وهو البلد المعروفُ اليوم ببَعْلَبَكَّ قيل كان من ذهبٍ طوله عشرون ذراعاً وله أربعةُ أوجهٍ فتُنوا به وعظَّموه حتى أخدمُوه أربعمائة سادنٍ وجعلوهم أنبياءَ فكان الشَّيطانُ يدخل جوفَه ويتكلَّم بشريعة الضَّلالةِ والسَّدنةُ يحفظونَها ويُعلِّمونها النَّاسَ وقيل البَعْلُ الرَّبُّ بلغة اليمنِ أي أتعبدون بعضَ البُعولِ {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين}(7/203)
أي وتتركون عبادته وقد أُشير إلى المقتضى للإنكارِ المعنيِّ بالهمزة ثم صرَّح به بقوله تعالى(7/204)
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
{الله ربكم ورب آبائكم الاولين} بالنَّصبِ على البدليةِ من أحسن الخالقين وقرئ بالرَّفعِ على الابتداءِ والتَّعرُّضُ لذكرِ ربوبيَّتهِ تعالى لآبائهم لتأكيدِ إنكارِ تركهِم عبادته تعالى والإشعارِ ببُطلان آراءِ آبائهم أيضاً(7/204)
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
{فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ} بسبب تكذيبهم ذلك {لَمُحْضَرُونَ} أي العذابَ والإطلاقُ للاكتفاء بالقرائنِ على أنَّ الإحضارَ المطلقَ مخصوص بالشَّرِّ عُرفاً(7/204)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)
{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناء من ضمير مُحضرون(7/204)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)
{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين سلام على إِل يَاسِين} هو لغة في الياسَ كسيناءَ في سينينَ وقيل هو جمعٌ له أُريد به هو وأتباعُه كالمهلَّبين والخُبَيبين وفيه أنَّ العَلَم إذا جُمع يجبُ تعريفُه كالمثالين وقرئ بإضافة آلِ إلى ياسينَ لأنَّهما في المصحفِ مفصولانِ فيكونُ ياسينَ أبا إلياس(7/204)
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} مرَّ تفسيرُه(7/204)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)
{وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين إِذْ نجيناه} أي اذكُر وقتَ تنجيتِنا إيَّاه {وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغابرين} أي الباقين في العذابِ أو الماضين الهالكين {ثُمَّ دَمَّرْنَا الاخرين} فإنَّ في ذلك شواهدَ على جليةِ أمرِه وكونِه من جملة المرسلين(7/204)
الصافات 137 145(7/205)
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
{وَإِنَّكُمْ} يا أهلَ مكَّة {لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ} على منازلهم في متاجرِكم إلى الشَّأمِ وتشاهدون آثارَ هلاكهم فإنَّ سدومَ في طريق الشَّأمِ {مُّصْبِحِينَ} داخلينَ في الصَّباحِ(7/205)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
و {بالليل} أي ومساء أونهارا أو ليلا ولعلَّها وقعت بقرب منزلٍ يمرُّ بها المرتحلُ عنه صباحاً والقاصدُ له مساءً {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتَّى تعتبرُوا به وتخافوا أنْ يُصيبكم مثلُ ما أصابهم(7/205)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139)
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين} وقرئ بكسر النُّونِ(7/205)
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)
{إِذْ أَبَقَ} أي هربَ وأصله الهربُ من السَّيدِ لكن لمَّا كان هربُه من قومه بغير إذن ربِّه حسُن إطلاقُه عليه {إِلَى الفلك المشحون} أي المملوءِ(7/205)
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)
{فساهم} فقارعَ أهلَه {فَكَانَ مِنَ المدحضين} فصار من المغلوبينَ بالقُرعةِ وأصله المزلق عن مقام الظفر رُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام لمَّا وعدَ قومَه بالعذابِ خرجَ من بينهم قبل أنْ يأمرَه الله تعالى به فركبَ السَّفينةَ فوقفتْ فقالوا فيها عبدٌ آبقٌ فاقترعُوا فخرجت القُرعةُ عليه فقال أنا الآبقُ ورَمَى بنفسه في الماءِ(7/205)
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
{فالتقمه الحوت} فابتعله من اللُّقمةِ {وَهُوَ مُلِيمٌ} داخلٌ في المَلامةِ أو آتٍ بما يُلام عليه أو مليم نفسه وقرئ مَليم بالفتح مبنيًّا من لِيم كمَشيب في مشُوب(7/205)
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
{فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} الذَّاكرينَ الله كثيراً بالتَّسبيحِ مدَّة عمره أو في بطنِ الحوتِ وَهُوَ قوله لاَ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين وقيل من المصلِّين فإنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان كثيرَ الصَّلاةِ في الرَّخاءِ(7/205)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
{لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} حيًّا وقيل ميِّتاً وفيه حثٌّ على إكثارِ الذِّكرِ وتعظيمٌ لشأنهِ ومن أقبل عليه في السَّراءِ أُخذ بيدِه عند الضَّرَّاء(7/205)
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
{فنبذناه بالعراء} بأن حملنا الحوتَ على لفظه بالمكان الخالي عمَّا يُغطِّيه من شجرٍ أو نبتٍ رُوي(7/205)
الصافات 146 149 أنَّ الحوتَ سار مع السفينة رافعا رأسا يتنفسُّ فيه يونسُ عليه السلام ويسبِّحُ ولم يفارقْهم حتى انتهو إلى البرِّ فلفظَه سالماً لم يتغير منه شئ فأسلمُوا ورُوي أنَّ الحوتَ قذفَه بساحل قريةٍ من المَوصلِ واختُلف في مقدارِ لبثه فقيل أربعون يوماً وقيل عشرون وقيل سبعةٌ وقيل ثلاثةٌ وقيل لم يلبثْ إلا قليلاً ثم أُخرج من بطنهِ بعيد الوقتِ الذي التُقمَ فيه رَوى عطاءٌ أنَّه حين ابتعله أوحى اللَّهُ تعالى إلى الحوتِ إنِّي جعلتُ بطنك له سجناً ولم أجعله لك طعاماً {وَهُوَ سَقِيمٌ} ممَّا ناله قيل صار بدنُه كبدنِ الطِّفلِ حين يُولد(7/206)
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
{وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ} أي فوقه مظلَّة عليه {شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ} وهو كل ما ينبسطُ على الأرضِ ولا يقوم على ساقٍ كشجر البطِّيخ والقِثَّاءِ والحنظلِ وهو يَفْعيلٌ من قَطَن بالمكانِ إذا أقام به والأكثرون على أنَّه الدُّبَّاءُ غطَّته بأوراقِها عن الذُّبابِ فإنَّه لا يقعُ عليه ويدلُّ عليه أنَّه قيلَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم إنَّك تحبُّ القرعَ قال أجلْ هي شجرةُ أخي يونس وقيل هي التِّينُ وقيل المَوزُ تغطَّى بورقهِ واستظلَّ بأغصانهِ وأفطر على ثماره وقيل كان يستظلُّ بالشَّجرةِ وكانت وعلةٌ تختلفُ إليه فيشربُ من لبنها(7/206)
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
{وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ} هم قومُه الذين هرب منهم وهم أهل نَيْنَوى والمرادُ به إرسالُه السَّابقُ أَخبر أولاً بأنَّه من المرسلين على الاطلاقِ ثم أخبرَ بأنَّه قد أُرسل إلى أمةٍ جمَّةٍ وكأنَّ توسيطَ تذكير وقت هربِه إلى الفُلكِ وما بعده بينهما لتذكير سببهِ وهو ما جَرَى بينَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبين قومِه من إنذاره إيَّاهم عذابَ الله تعالى وتعيينِه لوقت حلوله وتعلُّلِهم وتعليقِهم لإيمانِهم بظهور أماراتِه كما مرَّ تفصيلُه في سُورة يونسَ ليعلم أنَّ إيمانَهم الذي سيحكى بعد لم يكُن عقيبَ الإرسالِ كما هو المتبادَرُ من ترتيبِ الإيمانِ عليه بالفاء بل بعد اللَّتيا والَّتي وقيل هو إرسالٌ آخرُ إليهم وقيل إلى غيرِهم وليس بظاهرٍ {أَوْ يَزِيدُونَ} أي في مَرأى النَّاظرِ فإنَّه إذا نظر إليهم قال إنَّهم مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ والمراد هو الوصف بالكثرة وقرئ بالواو(7/206)
فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
{فآمنوا} أي بعد ما شاهدُوا علائمَ حلول العذابِ إيماناً خالصا {فمتعناهم} أي بالحياة الدُّنيا {إلى حِينٍ} قدَّره الله سبحانه لهم قيل ولعل عدمَ ختمِ هذه القصَّةِ وقصَّةِ لوطٍ بما خُتم به سائرُ القصصِ للتَّفرقةِ بينهما وبين أربابِ الشَّرائعِ وأُولي العزمِ من الرُّسلِ أو اكتفاء بالتسليم بالشامل لكلِّ الرُّسلِ المذكورينَ في آخرِ السُّورةِ(7/206)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
{فاستفتهم} أمرِ الله عزَّ وجلَّ في صدرِ السُّورة الكريمةِ رسوله صلى الله عليه وسلم بتبكيتِ قُريشٍ وإبطالِ مذهبِهم في إنكارِ البعثِ بطريقِ الاستفتاءِ وساقَ البراهينَ القاطعةَ النَّاطقة بتحقُّقةِ لا محالة وبيَّن وقوعَه وما سيلقَونه عند ذلكَ من فُنون العذابِ واستثنى منهم عبادَه المُخلَصين وفصَّل ما لهم من النَّعيمِ المقيمِ ثم ذكر أنَّه قد ضلَّ من قبلهم أكثرُ الأوَّلينَ(7/206)
الصافات 150 153 وأنَّه تعالى أرسلَ إليهم منذرين عل وجهِ الإجمالِ ثم أوردَ قصص كلِّ واحدٍ منهم على وجهِ التَّفصيلِ مبيِّناً في كل قصَّةِ منها أنَّهم من عبادِه تعالى واصفاً لهم تارةً بالإخلاصِ وأُخرى بالإيمانِ ثم أمره صلى الله عليه وسلم ههنا بتبكيتِهم بطريقِ الاستفتاءِ عن وجهِ أمرٍ منكرٍ خارج عن العقول بالكلِّيةِ وهي القسمةُ الباطلةُ اللازمةُ لما كانُوا عليه من الاعتقاد الزَّائغِ حيثُ كانُوا يقولون كبعض أجناس العربِ جُهينةَ وبني سلمةَ وخُزاعةَ وبني مَليحٍ الملائكةُ بناتُ الله والفاءُ لترتيبِ الأمرِ على ما سبق من كون أولئك الرُّسلِ الذين هم أعلامُ الخَلْقِ عليهم الصلاة والسلام عبادَه تعالى فإنَّ ذلك ممَّا يؤكِّدُ التَّبكيتَ ويُظهر بُطلانَ مذهبهم الفاسد ثم تبكيتُهم بما يتضمَّنُه كفرهم المذكورُ من الاستهانة بالملائكة بجعلهم إناثاً ثم أبطل أصلَ كفرهم المنطوي على هذينِ الكفرينِ وهو نسبةُ الولدِ إليه سبحانَه وتعالى عن ذلكَ علوَّاً كبيراً ولم ينظمه في سلكِ التَّبكيتِ لمشاركتهم النَّصارى في ذلك أي فاستخبرْهم {أَلِرَبّكَ البنات} اللاتي هن أوضعُ الجنسينِ {وَلَهُمُ البنون} الذين هم أرفعُهما فإنَّ ذلك ممَّا لا يقولُ به من له أدنى شئ من العقلِ وقوله تعالى(7/207)
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)
{أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إناثا} إضرابٌ وانتقالٌ من التبكيتِ بالاستفتاءِ السَّابقِ إلى التَّبكيتِ بهذا كما أُشير إليه أي بل أخلقنا الملائكةَ الذين هم من أشرفِ الخلائقِ وأبعدِهم من صفات الأجسامِ ورذائل الطَّبائعِ إناثاً والأُنوثةُ من أخسِّ صفاتِ الحيوانِ وقوله تعالى {وَهُمْ شاهدون} استهزاء بهم وتجهيل لهم كقولِه تعالى أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ وقوله تعالى مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والارض والا خلق أَنفُسِهِمْ فإنَّ أمثالَ هذه الامور لا تعلم بالمشاهدةِ إذ لا سبيلَ إلى معرفتِها بطريقِ العقلِ وانتفاء النَّقلِ ممَّا لا ريَب فيه فلا بُدَّ أنْ يكون القائل بأنوثتهم شاهداً عند خلقِهم والجملةُ إما حالٌ من فاعل خلقنا أي بل أخلقناهُم إناثاً والحالُ أنهم حاضرون حينئذٍ أو عطفٌ على خلقنا أي بل أهم شاهدون وقوله تعالى(7/207)
أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)
{أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ ليقولون ولد الله} استثناف من جهته غيرُ داخلٍ تحت الأمر بالاستفتاء مسبوق لإبطالِ أصل مذهبِهم الفاسدِ ببيان أنَّ مبناهُ ليس إلاَّ الإفكُ الصَّريحُ والافتراء القبيحُ من غير أنْ يكونَ لهم دليلٌ أو شبهة قطعاً {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} في قولِهم ذلك كَذِباً بيِّناً لا ريبَ فيه وقرئ ولدُ الله على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الملائكةُ ولدُه تعالَى عن ذلكَ عُلوَّاً كبيراً فإنَّ الولدَ فعل بمعنى مفعولٍ يستوي فيه الواحدُ والجمعُ والمذكَّرُ والمؤنَّثُ(7/207)
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
{أَصْطَفَى البنات على البنين} إثباتٌ لإفكِهم وتقريرٌ لكذبِهم فيما قالوا ببيان استلزامه لأمر بيِّن الاستحالة هو اصطفاؤه تعالى البنات على النبين والاصطفاء أخذ صفوة الشئ لنفسه وقرئ بكسرِ الهمزةِ على حذفِ حرف الاستفهام(7/207)
الصافات 154 158 ثقةً بدلالةِ القَرَائنِ عليهِ وجعله بدلاً من ولدَ الله ضعيفٌ وتقديرُ القولِ أي لكاذبونَ في قولِهم اصطفَى الخ تعسُّفٌ بعيدٌ(7/208)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)
{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بهذا الحكم الذي يَقضي ببطلانِه بديهةُ العقلِ(7/208)
أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155)
{أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} بحذفِ إحدى التاءين من تتذكرون وقرئ تذكُرون من ذَكَر والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ أي ألا تلاحِظون ذلك فلا تتذكَّرون بطلانَهُ فإنَّه مركوزٌ في عقلِ كلِّ ذكيَ وغبيَ(7/208)
أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156)
{أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ} إضرابٌ وانتقالٌ من توبيخِهم وتبكيتِهم بما ذُكر إلي تبكيتِهم بتكليفِهم ما لا يدخُل تحتَ الوجودِ أصلاً أي بل ألكُم حجَّةٌ واضحةٌ نزلتْ عليكم من السَّماءِ بأنَّ الملائكةَ بناتُه تعالى ضرورةَ أنَّ الحكمَ بذلك لا بُدَّ له من سندٍ حسيَ أو عقلي وحيثُ انتفى كلاهُما فلا بُدَّ من سندٍ نقليَ(7/208)
فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)
{فَأْتُواْ بكتابكم} النَّاطقِ بصَّحةِ دَعْواكم {إِن كُنتُمْ صادقين} فيها وفي هذه الآياتِ من الإنباءِ عن السُّخطِ العظيمِ والإنكارِ الفظيعِ لأقاويلهم والاستبعادِ الشَّديدِ لأباطيلِهم وتسفيِه أحلامِهم وتركيكِ عقولِهم وأفهامِهم مع استهزاءٍ بهم وتعجيبٍ من جهلِهم مَا لا يَخْفى عَلَى مَنْ تأمَّل فيها وقولُه تعالَى(7/208)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
{وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} التفاتٌ إلى الغَيبةِ للإيذانِ بانقطاعِهم عن الجوابِ وسقوطِهم عن درجةِ الخطابِ واقتضاءِ حالِهم أنْ يعرضَ عنهم وتُحكى جناياتُهم لآخرينَ والمرادُ بالجِنَّةِ الملائكةُ قالوا الجنسُ واحدً ولكنْ من خبث من الجن ومردوكان شرَّاً كله فهو شيطانٌ ومن طهر منهم ونسكَ وكان خيراً كله فهو مَلَكٌ وإنَّما عبَّر عنهم بذلك الاسمِ وَضْعاً منهم وتَقصيراً بهم مع عِظَمِ شأنِهم فيما بينَ الخلقِ أنْ يبلغُوا منزلةَ المناسبة التي أضافُوها إليهم فجعلهم هذا عبارةً عن قولَهم الملائكةُ بناتُ الله وإنَّما أُعيد ذكُره تمهيداً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي وبالله لقد علمتْ الجِنَّةُ التي عظَّموها بأنْ جعلُوا بينها وبينه تعالى نَسَباً وهم الملائكةُ أنَّ الكفرةَ لمحضرونَ النَّار معذَّبُون بها لكذبِهم وافترائِهم في قولِهم ذلك والمرادُ به المبالغةُ في التَّكذيبِ ببيانِ أنَّ الذين يدَّعي هؤلاء لهم تلك النِّسبةَ ويعلمون أنَّهم أعلمُ منهم بحقيقةِ الحالِ يكذبونهم في ذلك ويحكمُون بأنَّهم معذَّبون لأجلِه حُكماً مؤكَّداً وقيل إنَّ قوماً من الزَّنادقةِ يقولون الله تعالى وإبليسُ أخوانِ فالله هو الخيِّرُ الكريم وإبليس هوالشرير اللَّئيمُ وهو المرادُ بقوله تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نَسَباً قال الإمامُ الرَّازيُّ وهذا القولُ عندي أقربُ الأقاويلِ وهو مذهبُ المجوس القائلين بيزدان واهر من ويعبرون عنهما بالنور والظلمة وقال مجاهدٌ قالتْ قُريشٌ(7/208)
الصافات 159 164 الملائكةُ بناتُ الله فقال ابو بكرٍ الصدِّيقِ رضيَ الله عنه فمنْ أمهاتهم تبكيتاً لهمُ فقالوا سَرَواتُ الجنِّ وقيل معنى جعلُوا بينه وبين الجِنَّةِ نَسَباً جعلُوا بينهما مناسبةً حيثُ أشركُوا به تعالى الجن في استحقاق العبادةِ فعلى هذه الأقاويلِ يجوزُ أنْ يكونَ الضَّميرُ في إنَّهم لمحضرون للجنَّة فالمَعنى لقد علمتِ الشَّياطينُ أنَّ الله تعالى يحضرهم النَّارَ ويُعذبهم بها ولو كانُوا مناسبينَ له تعالى أو شركاء في استحقاق العبادةِ لمَّا عذَّبهم والوجهُ هو الأوَّلُ فإنَّ قوله(7/209)
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)
{سبحان الله عما يصفون} حكايةٌ لتنزيهِ الملائكةِ إيَّاهُ تعالى عمَّا وَصَفه المشركونَ به بعد تكذيبِهم لهم في ذلكَ بتقديرِ قولٍ معطوفٍ على علمتْ وقولُه تعالى(7/209)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} شهادةٌ منهم ببراءةِ المخلصينَ مِن أنْ يَصفُوه تعالَى بذلكَ متضمِّنة لتبرئِهم مِنْهُ بحكمِ اندراجِهم في زُمرة المُخلصين على أبلغِ وجهٍ وآكدِه على أنَّه استثناءٌ منقطعٌ من واوِ يصفُون كأنه قيل ولقد علمنت الملائكةُ أنَّ المشركينَ لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عمَّا يصفونَه به لكنْ عبادُ الله الذين من جملتهم برءاء من ذلكَ الوصفِ وقوله تعالى(7/209)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)
{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} {مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين} تعليلٌ وتحقيقٌ لبراءةِ المخلصين ممَّا ذُكر ببيانِ عجزِهم عن إغوائِهم وإضلالِهم والالتفاتُ إلى الخطابِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِ الكلامِ وما تعبدون عبارةٌ عن الشِّياطينِ الذين اغووهم وفي إيذانٌ بتبرئهم عنهم وعن عبادتِهم كقولِهم بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجنَّ وما نافيةٌ وأنتُم خطابٌ لهم ولمعبوديهم تغليباً وعلى متعلقة بفاتنينَ يقال فتنَ فلانٌ على فلانٍ امرأتَه أي أفسدَها عليه والمعنى فإنَّكم ومعبوديكم أيُّها المشركونَ لستُم بفاتنينَ عليه تعالى بإفسادِ عبادِه وإضلالِهم(7/209)