سورة الإنسان
قوله تعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) (الإنسان: 15 - 16) ، ثم قال بعد: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا) (الإنسان: 19) ، للسائل أن يسأل عن بناء الفعل في الآية الأولى لمهول ولم يسم الفاعل وبنائه في الثانية للفاعل؟ ولم يذكر مستدعاه المجرور فلم يقل بكذا، ما الفائدة في ذلك؟ وهل الفاعل في الآية الثانية هو الذي لم يسم أولاً في قوله: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ) ؟
والجواب عن ذلك أن بناء الآيتين في هذه السورة على تعظيم حال أهل الجنة وما أعد الله لهم، فذكر فيها ما يطاف (به) عليهم من أواني الفضة والأكواب بالطعام والشراب، وما يمزج به شرابهم من الزنجبيل والعين التي تسمى سلسبيلا، ثم ذكر الطائفون عليهم بذلك، ووصفوا بكونهم ولداناً لا أثر عليهم للعياء ولا يلحقهم في طوافهم مشقة وأنهم كالؤلؤ المنثور حسناً وتناسباً، فلما ذكرت أحوالهم على التفصيل، وقصد الاستيفاء لما منحوه، ناسب ذلك إيراد تنعمهم مفصلا بذكر المطاف به مستوفى، ثم ذكر الطائفون وقدم المطاف به لأنه الذي تنمهم تناولا واتصالا وتطعماً وغذاء مأكلاً ومشرباً، فكان أهم للتقديم، ثم أعقب بذكر الطائفين وهم الولدان المخلدون، فكمل مفصلا تفصيلايحرز الاعتناء في التعريف والثناء، وقد جمعت هذا المفصل آية واحدة وهي المفسرة لما ذكرته من (أن) الطائفين بأواني الفضة والأكواب هم الولدان المذكورون بعد وذلك قوله تعالى في سورة الواقعة: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) (الواقعة: 17 - 18) ، وضح الجواب عن الأسئلة الثلاثة على أبين وجه، والله أعلم.
*****(2/497)
سورة المرسلات
قوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين) للسائل أن يسأل عن تكريرها عشر مرات؟ وعن الترتيب فيما تخلل متكرر هذه الآية من الآيات وإبداء الفائدة في كل آية واختصاصها بموضوعها؟ وعن الفرق الوارد من هذه الآية هنا وفي سورة التطفيف من حيث تكررت هنا ولم تتكرر في سورة التطفيف؟ فهذه ثلاثة سؤالات في ثانيها تفصيل.
والجواب عن الأول: أن سورة الإنسان لما تضمنت التعريف بحال الفريقين ذوي السعادة وأهل الشقاء، وابتدئت بذكر حال المكذبين فقال تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا) (الإنسان: 4) ، ثم أردف هذا بالتعريف بحال وي التنعم وجرى في وصفهم إطناب، ثم عاد الكلام إلى حال من تقدم (فقال: (إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا) (الإنسان: 27) ،فلما قدم هذا من وعد الكافرين أقسم تعالى على وقوعه إبلاغاً في الإنذار فقال تعالى: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) (المرسلات: 1) إلى قوله: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) (المرسلات: 7) ، ثم عرف سبحانه بصفة يوم الوقوع، وكأنه على تقدير سؤال كأن قد قيل: ومتى ذلك؟ فقال: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ) (المرسلات: 8 - 9) إلى قوله: (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) (المرسلات: 13) ، ثم أكد هول ذلك اليوم بسؤاله صلي الله عليه وسلم عن تعرفه فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ) (المرسلات: 14) تعظيماً لأمره وإنباء بأهواله وشدائده، ثم قال: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (المرسلات: 15) ، ثم تكرر هذا الدعاء بالويل الحال بهم سبع مرات - رعيا لما تقدم في سورة الرحمن - آخرها: (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (المرسلات: 39 - 40) ، ثم رجع الكلام إلى التعريف بحال الناجين في آيات ثلاث لم يتخللها الدعاء بالويل لئلا يشوب بشارتهم تنقيص فقال تعالى (إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون) إلى قوله: (إنا كذلك نجزي المحسنين) (المرسلات: 41 - 44) ، ثم عادت الآي إلى ما بنيت عليه السورة من وعيد المكذبين وتخويفهم إلى آخر السورة، وتكرر فيها ذلك الدعاء بالويل للمكذبين ثلاث مرات، طوبق بها عدد آيات وصف المتقين ليكون زيادة في تنكيل المكذبين وتحسرهم بسماع حال من حاله على الضد منهم، فتلك العشرة التى تضمنتها السورة.
فإن قلت: لم فصل بين ما جرى من الآي المتقدمة وبين هاتين الآيتين من قوله: (المرسلات: 46) مع أن جميعها راجع إلى مقصد واحد(2/498)
من تقريع المكذبين ووصف أحوالهم، لم فصل بين ذلك بكر المتقين وأحوالهم؟ قلت: بدأ أولاً بتوبيخهم في عدم اعتبارهم بما ذكروا به من إهلاك من تقدمهم ممن كذب، وبدأة خلقهم من ماء مهين، وجعل الأرض تكفت إحياءهم وموتاهم، ثم عرفوا بجزائهم الأخراوي وما يشاهدون ويقال لهم عند مصيرهم إلى العذاب ووصف جهنم، ثم أعقب بذكر الضد من حال المتقين ليكون زائداً ومحركاً لندم المكذبين حين لا ينفع الندم، وتم هذا المقصد على أتم مناسبة، ثم رجع إلى الضرب الآخر المتقدم من التوبيخ بذكر حالهم الدنياوي في تنعمهم (وتمتعهم) ، وأورد ذلك بصغية الأمر تهكماً بهم وقيل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ) (المرسلات: 48) ، فلم يكن الوارد في هاتين الآيتين ليناسب ما تقدم من توبيخهم، ففصل عنه.
والجواب عن السؤال الثاني: أن وجه الترتيب فيما تخلل متكرر آية الدعاء من الآيات أنه لما ذكر سبحانه أهوال ذلك اليوم في قوله: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (المرسلات: 8) أعقب تعالى بتوبيخ المكذبين على غفلتهم عن التذكر بأخذ من تقدم من مكذبي الأمم وإهلاكهم بجزائهم فقال تعالى: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) (المرسلات: 16) أي فهلا اتعظوا بهم، كما قال تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) (الأنعام: 6) ، وقال تعالى: (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ) (الرعد: 6) ، (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ) (القمر: 43) ، ثم أردف سبحانه بقوله: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) (المرسلات: 20) ، فذكر بأصل الخلقة وتطور الإنسان وتقلبه إلى كمال أمره بتعرف الخطاب وكمال التعقل كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (يس: 77) ، ثم ذكر سبحانه خلي الأرض ومنافعها وما بها أرساها من الجبال وفجر فيها من المياه لسقينا، فحصل التذكير بضروب ثلاثة وهي: إهلاك الأمم السالفة بتكذيبهم، وخلق الإنسان، وخلق الأرض وما جعل فيها،ثم أعقب بما ياقل لهم في الآخرة وما يشاهدونه مما يحل بهم جزاء على تكذيبهم وتعاميهم عن الاعتبار فقال (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (المرسلات: 29) إلى قوله: (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) (المرسلات: 39) ثم ذكر تعالى حال المتقين ومصيرهم في ثلاث آيات تأنيسا للمؤمنين، وعلى المطرد في الكتاب العزيز من ذكر الإعقاب، متى ذكر أحد الفريقين من أهل النجاة وأهل الامتحان أن يعقب بذكر الفريق الآخر ثم عاد الكلام إلى تهديد من قدم وأعقب بما يلائم من امتناعهم عن الاستجابة والخشوع.
والجواب عن السؤال الثالث: أن سورة التطفيف لم تبن على التفصيل المقصود هنا فلم تتكرر فيها آية الدعاء، والله أعلم.
****(2/499)
سورة التساؤل
قوله تعالى: (كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون) ، يسأل عن تكرر التهديد وفائدته؟
والجواب عن ذلك: قد تقدم أن العرب متى تهممت بشئ أرادته لتحققه وقرب وقوعه أو قصدت الدعاء عليه كررته توكيداً، وكأنها تقيم تكرارها مكان القسم عليه والاجتهاد في الدعاء عليه حيث يقصد الدعاء، وإنما نزل القرآن بلسانهم وكأن مخاطباتهم جارية فيما بين بعضهم وبعض، وبهذا المسلك تستحكم الحجة عليهم في عجزهم عن المعارضة، وقد تقدم هذا وتقرر، وعلى ذلك يجري ما ورد في هذا الوعيد. ومنه قوله تعالى: (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (المدثر: 19 - 20) وقوله: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) (القيامة: 34 - 35) ومنه: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) (التكاثر: 6 - 7) وهو كثير.
الآية الثانية - قوله تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا) (النبأ: 24 - 26) ، (وقال في أهل الجنة) (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا) (النبأ: 31 - 32) إلى قوله: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) (النبأ: 36) ، للسائل أن يسأل عن موجب الفرق بين الفريقين حتى قيل في أهل النار: (جزاء وفاقاً) وفي أهل الجنة (جزاءً من ربك عطاء حساباً) مع أن كل ذلك جزاء؟
والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن الله سبحانه أعلمنا أنه يجازي على الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، على ما لا عين رأي ولا أن سمعت ولا خطر على قلب بشر، قال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) (الأنعام: 160) ، وقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) (البقرة: 261) ، وقال تعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 17) ، وقال: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) (فصلت: 31) وقال تعالى في الجزاء على السيئات: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى: 40) ، وقال تعالى: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الطور: 16) ، فحصل من هذا أن حكم السيئات المقابلة بأمثالها، وذلك فيمن نفذ عليه الوعيد ولم يغفر له، إذ المعتقد أنه تعالى يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، وأنه لا يخلد في النار إلا الكافر،(2/500)
فإذا تقرر ما ذكرنا فاعلم أن تسميه ما يمنحه الله سبحانه أهل الجنة جزاء إنما ذلك فضل منه سبحانه، إذ الجزاء لهم على أعمالهم أكثر من أعمالهم بوعده سبحانه، فإذا إنما حاصلة عطاء وإحسان وإنعام، وإنما سمى جزاء من حيث قوبل به عمل وارتبط به بحسب الإنعام، إذ لا يجب عليه شئ، فهذا حال الجزاء والإحسان.
وأما الطرف الآخر فاسم الجزاء عليه أوقع وأطبق من حيث المقابلة، فلهذا قيل في هذا (جزاء وفاقاً) كما قال تعالى: (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ) (غافر: 17) (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الطور16) ، وأما الجزاء الإحسانى فقد فاق الوفاق وعجز عنه التقدير، فلهذا أعقب قوله تعالى: (جزاء) بما يشعر بجريانه على حكم الإنعام والإحسان فقال تعالى (من ربك) ، وفي هذه الإضافة ما يشعر بعظيم الرحمة وزلفى القرب بقوله: (من ربك) ، ثم قال: (عطاء) فاعلم أنه لا يماثل ما ارتبط به من عمل العبد بل يفوق رجاء العبد وتقديره، ثم قال تعالى: (حسابا) فأشار إلى التضعيف المتقدم، ولم يكن ليلائم جزاء السيئة أن يقال فيها: (من ربك) ، ولا لتسمى عطاء ولا حسابا لما بيناه، فورد كل على ما يناسب، ولا يمكن فيه العكس، والله أعلم
فإن قيل: قد ورد التصنيف فى جزاء السيئات قال تعالى: (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ) (هود: 20) .
فالجواب أن التضعيف هنا ليس على الحد المتقدم في تضعيف جزاء الحسنة، فإن المراد هناك أن الحسنة الواحدة يتضاعف عليها الجزاء بعشر أمثالها إلى أكثر كما تقدم، وأما المراد بتضاعف عليها الجزاء بعشر أمثالها إلى أكثر كما تقدم، وأما المراد بتضعيف العذاب بتكثيره بحسب تكثير المجترحات، لأن السيئة الواحدة لا يضاعف الجزاء عليها بدليل قوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) (الشورى: 40) ، وقد تمهد هذا، وتقدم بقبل قوله في أهل الامتحان: (يضاعف لهم العذاب) ما يشهد بما ذكرته يبين المراد وهو قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) (هود: 18 - 19) ، فهؤلاء كذبوا على ربهم وصدوا عن سبيله وبغوها عوجاً، وكفروا بالجزاء، فهذه مرتكبات عذبوا بكل مرتكب (منها) فتضاعف عليهم العذاب لتضاعف مرتكباتهم، لكل مرتكب منها عذاب يخصه فليس ما ذكر من التضعيف في هذا الطرف على حد ما في الطرف الآخر، وقد بين القرآن ذلك بغير الجواب عن تخليدهم وكيف نبه عليه أنه وفاق لكفرهم.
*****(2/501)
سورة النازعات
قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) (النازعات: 34) ، (وقال) في سورة (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ) (عبس: 33) والمراد بهما القيامة. يسأل عن وجه افتراق العبارة؟ وهل كان يحسن ورود الصاخة هنا والطامة هناك؟
والجواب ن ذلك، والله أعلم: أن الطامة والصاخة وإن أريد بهما في السورتين شئ واحد فإن اسم الطامة أرهب وأنبأ بأهوال القيامة لأنها من قولهم طم السبل إذا علا وغلب. وأما الصاخة فالصيحة الشديدة من قولهم صخ بأذنيه مثل أصاخ فاستعيرت من أسماء القيامة مجازاً لأن الناس يصيخون لها، فلما كانت الطامة أبلغ في الإشارة إلى أهوالها خص بها أبلغ الصورتين في التخويف والإنذار، وعلى ذلك بنيت سورة النازعات، ألا ترى قوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (النازعات: 6 - 7) ووصف الطامة بالكبرى، وما أتبع به بعد، وابتداء السورة وختامها، فكلها تخويف وترهيب، فناسبها أشد العبارتين موقعاً وأرهبها.
وأما سورة عبس وتولى فلم تبن على ذلك الغرض وإنما بنيت على قصة عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، وذلك مشهور، ثم ورد قوله: (فإذا جاءت الصاخة) عقب التذكير بقوله: (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ) (عبس: 11) والتحريك للاعتبار بقوله: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) (عبس: 24) إلى قوله: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) (عبس: 32) ، ثم اتبع بعد ذكر الصاخة بقوله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) (عبس: 38 - 39) . فسورة "النازعات" على الجملة أشد في التخويف والترهيب فناسبها أبلغ العبارتين من أسماء القيامة في التخويف (والإنذار بحالها، وليست سورة " عبس وتولى "كسورة "النازعات " في التخويف) والترهيب فناسبها إيراد اسم القيامة بالصاخة، إذ ليس في الإرهاب كالطامة فجاء كل على ما يناسب، ولا يناسب عكس الوارد على ما تمهد، والله أعلم.
******(2/502)
سورة التكوير
قوله تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) (التكوير: 6) ، وفي سورة: (وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ) (الإنفطار: 3) ، يسأل عن اختصاص الأولى بقوله: "سجرت" والثانية بقوله "فجرت"؟ والجواب عن ذلك - والله أعلم - أن قوله: "سجرت" معناه ملئت، من قولك سجرت التنور إذا ملائته بالحطب، وقرئ مخففاً ومثقلاً والمعنى واحد، والمراد اجتماع مياهها وأما قوله: "فجرت" فتح بعضها واختلط العذب بالمالح فصار بحراً واحداً بزوال البرزخ الحاجز بينهما، وكل من الإخبارين (يؤدي معنى غير المعنى الآخر، فإن الامتلاء غير الانفجار، ثم كل من الإخبارين) مناط بالآخر لما بينهما من الشبه، ولهذا جرى كلام أكثر المفسرين على تفسير كل واحد من اللفظين بما يحرز المجموع من معنييهما، وتفاصيل ذلك على ما ذكرته مما يقتضى التباين لا الترادف، والإخبار بكل واحد منهما مقصود معتمد لكمال المراد.
وإنما خصت سورة الإنفطار بلفظ الإنفجار ليناسب مطلع السورة وافتتاحها، ألا ترى في انفجار العذب إلى المالح والمالح إلى العذب وبعضها إلى بعض انفطار ناسب انشقاق السماء وانفطارها. فانفطار السماء، وانفجار البحار، وبعثرة القبور، وانتشار النجوم، كل ذلك متناسب أوضح تناسب وأبينه. وحشر الوحوش وتزويج النفوس، وتسجير البحار، هذا كله اجتماع وائتلاف يناسب بعضه بعضاً، كما أن انفطار السماء، وانتثار الكوكب، وتفجر البحار، وبعثرة القبور، يناسب بعض ذلك بعضاً، فالتحام هذه الجمل في السورتين أبين التحام وأوضحه ملاءمة وتناسباً. فورد كل من ذلك على ما يجب ويناسب، والله أعلم بما أراد.
الآية الثانية (منها) قوله تعالى: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) (التكوير: 14) ، وفي سورة الإنفطار: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (الانفطار: 5) ، (للسائل أن يسأل عن موجب الاختلاف مع اتحاد المقصود في السورتين) ؟
والجواب عن ذلك (والله أعلم) أن المعنى في الآيتين واحد، إذ الذي تحضره كل نفس هو الذي قدمت من عملها وأخرت، إلا أن كلا من الموضوعين في السورتين خص بما يناسبه.
أما الآية الأولى فإنه لما انحصر فيها وفيما قبلها من أول قوله: (إِذَا الشَّمْسُ(2/503)
كُوِّرَتْ) (التكوير: 1) إلى آخر قوله: (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) (التكوير: 13) الأهوال، من لدن ابتداء نفخة الصعق، إلى انتهاء تلك المقامات بتسعير الجحيم، وإزلاف الجنة، وهو عبارة عن إدنائها لداخلها، وجئ بتلك الإخبارات منسوقة بالواو المقتضية الجمع حتى كأن تلك المقامات قد عبر (عنها) بلفظ واحد وتحصلت حاضرة للتصور الذهني، ناسب ذلك تقدير الأعمال المترتب عليها الجزاء حاضرة والعبارة عنها بما يحصل ذلك، فقيل: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) (التكوير: 14) ، وكأن قد قيل: إذا حضرت هذه الأهوال مدركة للعيان حضرت أعمالكم بالتذكير لها ومطالعتها مكتوبة محصورة في الصحف التى لا تغادر صغير ولا كبيرة إلا محصاة فيها، يبين هذا قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى) (النازعات: 34 - 35) وقوله تعالى: (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) (الكهف 49) .
أما الآية الثانية فإنه لما كان قوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) (التكوير: 14) غير مفصح باستيفاء أعمال الخلائق جئ بهذه الآية بعدها مشيرة إلى الحصر بما أشير إليه من ضبط طرفي أعمال المكلفين فقيل: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) (التكوير: 14) من متقدم عملها ومتأخرة، واقتضى التناسب تقدم الإحضار حيث ذكر، وتأخير ذكر التقديم والتأخير حيث ذكر، واتصل كل بما يشاكله ويلائمه، ولا يمكن سواه، إذ التعريف بالإحضار والحصر بذكر ما قدم وما أخر مقصود، معتمد، إما أن يذكر ذلك على الاستيفاء في كل من السورتين من غير تفصيل، وذلك تكرار من غير داع ولا مسوغ له، وأما أن يذكر مفصلاً على غير ما ورد وذلك غير مناسب، فلم يبق إلا وروده على أتم الملائمة والمناسبة، وهذا على رعي ترتيب القرآن على ما تقرر عليه،فعرفت الآيتان بإحصاء الأعمال المحضرة ما تقدم منها وما تأخر أي ما عمله المكلف في أول عمره وبدء تكليفه وفي آخر عمره وختم عمله كما أخبر تعالى من قوله كما أخبر تعالى من قول المجرمين: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) (الكهف: 49) فقدم ذكر إحضارها أولا ليناسب به ما تقدم، وآخر ذكر إحصائها ليعلم بالحصر والإستيفاء، وجاء كل على ما يناسب، والله سبحانه أعلم بما أراد.
****(2/504)
سورة الإنشقاق
قوله فيها: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) (الإنشقاق: 2) ، وتكرر ذلك بعد لا سؤال فيه لأن كل واحد من الإخبارين معقب به غير ما أعقب به الآخر، فالأول إخبار عن السماء في طاعتها وانقيادها، والآخر إخبار عن الأرض بمثل ذلك، وإن كل واحدة منهما سمعت وانقادت، انفطرت السماء وتشققت وانتثرت نجومها، وأزيلت الجبال عن الأرض فامتدت وألقت ما تحمله من الأموات وغير ذلك مما استودعته من المعادن والكنوز وتخلت عنها سامعة مطيعة، وإن كان الإخبار الأول عن السماء والآخر عن الأرض فلا تكرار.
آية ثانية منها قوله (تعالى) : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ) (الإنشقاق: 22 - 23) ، وفي سورة البروج: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ) (البروج: 19 - 20) ، للسائل أن يسأل عن اختصاص الأول بقوله: " يكذبون " بلفظ المضارع والثانية بقوله: (في تكذيب) بلفظ المصدر مع اتحاد المعنى المقصود؟
والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية الانشقاق تقدمها وعيد أخراوي كله لم يقع بعد وهم مكذبون بجميعه، فجئ هنا باللفظ المقول على الاستقبال - وإن كان يصلح للحال - ليطابق الإخبار، لأنه عما يأتى ولم يقع بعد، فجئ بما يطابقه في استقباله. فأما آية البروج فقد تقدمها قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) (البروج: 17 - 18) ، وحديث هؤلاء وأخذهم بتكذيبهم قد تقدم ومضى زمانه، وهؤلاء مستمرون على تكذيبهم فقيل: (في تكذيب) ، وجئ بالمصدر ليحرز تماديهم وأن ذلك شأنهم أبداً فيما أخبرهم به وفيما يدعوهم إليه وينهاهم عنه، ولفظ المصدر أعطى لما قصد من هذا من لفظ المضارع، فجئ في كل من الآيتين بما يناسب.
******(2/505)
سورة البلد
الآية الأولى منها - قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) (البلد: 1 - 2) للسائل أن يسأل عن تكرير لفظ البلد وجعله معطوفاً وفاصلة في الآيتين؟ وكيف موقع ذلك في البلاغة وعند الفصحاء؟
والجواب أنه قد تقدم أن العرب مهما اعتنت بشئ وتهممت به كررته، وإن ذلك منفصيح كلامهم، وإن منه قولهم.
وإن صخرا لوالينا وسيدنا ... البيتين
والبلد الحرام لم يزل معظماً عند العرب، وما (دام) شأنه كذلك فتكريره مستحسن، مع أن التكرير هنا ليس كالتكرير الواقع في قوله.
لا أري الموت يسبق الموت شئ نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
وقال الآخر:
ليت الغراب غداة ينعب دائباً كان الغراب مقطع الأوداج
لأن هذا مما أوقعوا فيه الظاهر موقع المضمر المحتاج إليه في ربط الخبر، وفجاؤوا به ظاهراً تهويلاً لأمر الموت فقال: " يسبق الموت"، وهو يريد يسبقه، وهو ضمير لازم جعل موضعه الظاهر تعظيماً له، والكلام واحد حصل فيه الربط بإعادة الاسم ظاهراً، وكذا فعل الآخر في قوله: " كان الغراب مقطع الأوداج "، أعاد الظاهر موضع الضمير، وارتبط الكلام وحسن إعادة الظاهر لما قصد من التهويل والتشنيع وعظيم ما توهم من التفاؤل به، وهذا فيما وقع في جملة واحدة، وأما ما يقع من تكرير المكرر في جملتين إذا كرر اعتناء أو تهويلاً فأفصح عندهم من الواقع في جملة واحدة لحصول مناسبة تحسن كقوله في عجز البيت المتقدم.(2/506)
...... نغص الموت ذا الغني والفقيرا
فتكرير الموت هنا أوسع في التهويل من تكراره في قوله صدر البيت: " يسبق الموت شئ "، لأنا إذا عللنا هذا إنما نقول أعاد الظاهر موضع المضمر لما أراد من تعظيم الموت وتهويل أمره، فإذا عللنا تكريره في قوله: " نغص الموت ذا الغنى والفقيرا " عللناه بهذا وبأن الكلام جملتان فحسن فيهما ما لا يحسن في الجملة الواحدة. وإذا تقرر هذا فاعلم أن الواقع في الآية العلية أجل في البلاغة من هذا كله وأعظم موقعاً في الفصاحة لا تساع مجال التوسع، ألا ترى أن البلد معظم فهذا مسوغ كاف، والكلام جملتان وهذا مسوغ أيضا، والجملة الواقع فيها التكرر جملة اعتراض، وجمل الاعتراض كالكلام الأجنبي بوجه عام، إنما يؤتي بالجملة تشديداً وإنباء بما يقصد من اعتناء أو تحرير كلام، فلكون جمل الاعتراض أجنبية في الأصل عن الكلام حسن فيها ما لا يحسن في غيرها، فساغ التكرير وحسن في الآية من هذه الأوجه الثلاثة. إلا أن القسم إنما وقع بقوله: (أقسم بهذا البلد ووالد وما ولد) ، وليس قوله: (أنت حل بهذا البلد) مما وقع به القسم بوجه، وإنما هي جملة اعتراض سيقت بياناً لعظم قدره صلي الله عليه وسلم وأن هذا البلد العظيم الحرمة أحل له ولم يحل لأحد غيره. فكأن قد قيل: أقسم بهذا البلد العظيم لدينا وقد حللناه لك على عظم قدره، وذكره ظاهراً لما يحرز هذا المعنى من تعظيمه لما فيه من التنبيه والتحريك، فسيقت هذه الجملة اعتراضاً وكلاماً قائماً بنفسه. ليس من المقسم به في شئ، وإنما جئ به لما ذكر. وإذا تباين الكلام بجهة ما لم يستثقلوا فيه إعادة الظاهر إذ هو بمثابة ما الثاني فيه غير الأول، فوضح أن الآية واردة على أعلى وجوه البلاغة وأفصح الكلام، وأنه لو جئ هنا بالمضمر مكان الظاهر لم يكن بوجه، والله أعلم
الآية الثانية من سورة البلد - قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد: 4) ، وفي سورة التين والزيتون: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: 4) ، إن سئل عن قوله في الأولى: "في كبد" وفي الثانية: "في أحسن تقويم"؟
فالجواب عنه: أنهما حالان من حالات الإنسان لا تعارض بينهما لأن مصرف كل من هاتين الحالتين بين، وكلام المفسرين في ذلك شاف، وليس هذا بالجملة من الغرض المبنى عليه هذا الكتاب إذ لا إشكال فيه.
*****(2/507)
سورة ألم نشرح لك صدرك
قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح: 5 - 6) يسأل عن وجه التكرير؟
والجواب عنه: أن هذه السورة تضمنت ذكر إنعامه سبحانه على نبيه صلي الله عليه وسلم، ثم اتبعت تلك المنح الجليلة بما تشركه فيه أمته من التأنيس بتيسير ما عرض فيه عسر للمؤمن في أمر دينه ودنياه، فقال تعالى: (فإن مع العسر يسرا) ، فبشر عباده بأن العسر يتبعه اليسر، وتأكد ذلك بأن المؤكدة للخبر، وزيد تأكيداً بالتكرير وتوسيع التأنيس بالإشعار الحاصل من تنكير اليسر وتعريف العسر، فإن العرب إذا أعادت الاسم بأداة العهد - وهي الألف واللام - كان المذكور ثانياً هو المذكور أولاً وسواء كان المذكور أولاً نكرة أو معرفة، تقول: لقيت رجلاً فأكرمت الرجل، إنما تريد الرجل الذي لقيته. فإن قلت: (لقيت) رجلا فأكرمت رجلاً كان الثاني غير الأول، هكذا كلامهم. وقد وقع اليسر في الآية منكراً في الموضعين فأشعر بالتوسعة، ولهذا قيل: " لن يغلب عسر يسرين "، فتحصل من التكرير وتنكير ما نكر توسعة طرف الرجاء والتأنيس، وذلك المناسب لما بنيت عليه السورة، والله أعلم.
******(2/508)
سورة القلم
قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق: 1 - 2) يسأل عن تكرير "خلق"؟
والجواب عنه: أنهما قصدان، فالمراد أولاً خلق المخلوقات وشتى العوالم، والمراد ثانياً تخصيص خلق الإنسان وأنه خلقه من علق، ولا تكرير على هذا.
****(2/509)
سورة التكاثر
قوله تعالى: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (التكاثر3 - 4) ، يسأل عن تكرير قوله: (سوف تعلمون) ؟
الجواب: أنه تهديد ووعيد فناسبه التكرير تحقيقاً وتثبيتاً كقوله: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ) (الحاقة: 1 - 2) ، و (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ) (القارعة: 1 - 2) وما أتى من مثل هذا، ودخلت " ثم " العاطفة في المعطوف بها كما دخلت في قوله: (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (المدثر: 20) وقد تقدم.
******(2/510)
سورة الكافرين
للسائل أن يسأل عن تكرير ما ورد فيها؟ والجواب أنها لم تتكرر فيها آية واحدة إذا اعتبرت أن كل آية منها تفيد من المعنى وتحرر ما لا تفيده الأخرى بذلك التحرير، فكأنها متباينة الألفاظ لتباين معانيها مع جليل التشاكل وعلي التلاؤم والتناسب.
بيان ذلك أنه ورد في سبب نزول هذه السورة أن قريشاً قالوا لرسول الله صلي الله عليه وسلم: أعبد آلهتنا سنة ونعد إلهك سنة، وروي أنهم قالوا: تعالى فلنشترك في عبادة ألهتنا وإلهك فنأخذ الخير حيث كان، فتبرأ صلي الله عليه وسلم من مقالهم وأنزل الله السورة فتلاها عليهم وهم مجتمعون في المسجد. فقوله: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (الكافرين: 2) أي لا أفعل ذلك يما أستقبله من زماني ولا أنتم تفعلونه فيما يستقبل، وهذا إخبار منه سبحانه عن أولئك العصبة أنهم لا يؤمنون، وهم الذين قتلهم (الله) يوم بدر، فهو إخبار بغيب. ثم قال تعالى: (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ) (الكافرين: 4) أي ولا أنا متصف فيما مضى من عمري إلى الآن بعبادة ألهتكم ولا كنتم أنتم فيما مضى متصفين بعبادة الله سبحانه، فحصل من ذلك الإخبار عن حال ما يستقبل منه صلي الله عليه وسلم ومنهم وعن حال ما مضى وتقدم منه صلي الله عليه وسلم ومنهم، فعبر عن أربعة أحوال متباينة وهي: احله، عليه السلام، فيما يستقبل وحالهم، وحاله فيما تقدم قبل وحالهم، فعبر عن هذه الأربعة بأربع آيات، فلا تكرار.
فإن قلت: فكيف تنزيل آي السورة على هذا؟ قلت: إن لا النافية إذا دخلت على المضارع المبهم مجردة عن قرينة من لفظ () خلصته للاستقبال، وقد دخلت في أول آية على قوله: " أعبد " فتخلص هذا الإخبار لما يستقبل، ثم بنيت الجملة من قوله: " ولا أنتم عابدون ما أعبد " على ما قبلها ليتقابل الإخبار ويلتئم نظم الكلام، وجئ فيه بالجملة الاسمية لأنها تحرز من حيث تسلط النفي على الصفة أنها لا توجد فيهم ولا يتصرفون بها في شئ مما يستقبلونه، ففي الصفة أحرز بتعميم ما يستقبل من نفي الفعل.
فإن قيل: فإذا كان نفي الصفة على ما ذكر فلم لم يأت كذلك أولاً فكأن يقال: لا(2/511)
أنا عابد ما تعبدون (أو ما أنا عابد) ما تعبدون؟ قلت: لم يكن كذلك لأمرين: أحدهما أنه جواب لقولهم: أعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فلما كان جوابا لفعل أتي فيه بالفعل نفياً لعين ما طلبوه ولو نفي الاسم لما كان مطابقاً لقولهم، والثاني أن الجملة الأسمية إنما نفيها بما لا بلا، وما ليست بمخلصة للاستقبال، ونفي المستقبل مقصود، فلم يكن بد مما يحرزه، فهذا ما حمل أولاً على ما عليه الكلام. وأما الجملة المنفية على هذه وهي قوله: (ولآ انتم عابدون ما أعبد) فتنبيه لما قصد تعريفهم به، إذ هي طرف معرف بحالهم بناء على ما تقدمها من بيان حاله، عليه السلام، فهي جملة جوابهم، وبناؤها على ما تخلص استقباله مغن عن الأداة المخلصة لأن حكمها حكم ما بنيت عليه، وتم بها أنه قد وقع الفعل المبهم في صلة ما وهي معمولة لاسم الفاعل المجموع الواقع خبراً عن " أنتم " ولا يعمل إلا بمعنى الحال والاستقبال، ولكن المعتمد الجوابية على ما تقرر فقد تبين أن قوله: (لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد) إخبار عما يستقبل من الزمان وعن حاله، عليه السلام، فيه وحالهم فيه أيضا. ثم قال: (ولا أنا عابد ما عبدتم) فهذا نفي لما تقدم ومضى على كفاية الحال الماضية ولهذا عمل اسم الفاعل في " ما". ولما كان الإفصاح هنا بالماضي يحرز المقصود جاءت الجملة اسمية لتحصل الماضي والحال. أما الماضي فمهوم ببنية الفعل وهو قوله (ما عبدتم) ولو لم يقع الإفصاح بالفعل لأفهم السياق ما ذكر لأنه قد تقدم ما يستقبل في حق الفريقين فلم يبق إلا ما مضى، ولا مانع من اللفظ، فتعين المقصود.
أما الحال فإن الجملة الاسمية إذا دخل عليها النفى حملت على الحال ما لم يقع في الكلام ما يقيدها بغيره، فإن قيل: التقييد بقوله: (ما عبدتم) قلت: قوله: (ما عبدتم) من صلة ما بعد حصول المبتدأ الذي هو أنا وهو اسم الفاعل، فحصل من قوله: (ولا أنا عابد) نفي اتصافه صلي الله عليه وسلم في الحال بعباده آلهتهم، وإنما الحال عندنا الماضي غير المنقطع، قال سيبويه، رحمة الله، معرفاً بما يطلق عليه اسم الحال فقال:، وهو كائن لم ينقطع، فحصل عن المبتدأ والخبر من قوله: (ولا أنا عابد ما عبدتم) الإخبار عن حالة المستمرة على ذلك فيما تقدم متصلة غير منفصلة، وحصل من الجملة الخبرية الواقعة صلة وهي: " عبدتم " أنهم لم يفعلوا ذلك فيما مضى، وقد حصل فيما تقدم استمرارهم على ذلك حال الإخبار، وزيد بياناً وتأكيداً لقوله بعد: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) وقد حصل أيضا فيما تقدم أن تلك حالهم فيما يستقبلونه، فيحصل المجموع أنه صلي الله عليه وسلم تبرأ من عبادة آلهتهم فيما مضى وفي الحال وما يأتي، (وأنهم ما عبدوا الله كما يجب له سبحانه فيما مضى ولا في الحال ولا يفعلون ذلك فيما يأتي) ،(2/512)
وهو الحاصل من قوله سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ) (يونس: 96) . ثم قال سبحانه على لسان نبيه صلي الله عليه وسلم: (ولا أنتم عابدون ما أعبد) ، هذا في مقابلة قوله: (ولا أنا عابد ما عبدتم) فهو إخبار عن حالة صلي الله عليه وسلم فيما مضى وتقدم من عمره صلي الله عليه وسلم، وقد تبين ما قيل.
فإن قيل: لم لم يقل هنا: ولا أنتم عابدون ما عبدت فكان يجرى جري ما بني عليه وقوبل (به) ؟ قلت لو قيل: " ما عبدت " لأوهم انقطاعاً، لأن قول القائل: فعلت لا يقتضى الدوام والإتصال، ولكن وإن كان هناك مفهوماً فيما تقدم من مقصود الكلام بالجملة فإن الأولى رفع الاحتمال من اللفظ كما أحرز المعنى، وهو الجاري في الكتاب العزيز. ثم قال (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرين: 6) فحصل التبري، وتوضح التفصيل المتقدم.
*****(2/513)
سورة الإخلاص
قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص: 1) ، قيل في " أحد " هنا: أنه بمعنى واحد وأصله وحد، وربما يعتضد من قال بهذا بقراءة من قرأ: " قل هو الله الواحد " فيجعل هذه القراءة مفسرة للاخرى وهي قراءة شاذة خارجة عن خط المصحف فليست مما يقطع به، وربما عضد هذا القول أيضا بأن أحداً الواقع في الجواب إنما ينبغى أن يكون بمعنى واحد ومرادفاً له لأنه قد صح عن أئمة اللسان اتفاقهم على (أن) أحداً لفظ يخص الواجب من الكلام ويقع عاماً، فتقول: ما جاءنى أحد، فيحصل منه النفى العام، ولا تقول: جاءنى أحد. قال سيبويه، رحمة الله: لوقلت كان أحد من آل فلان لم يكن كلاماً، فإذا ورد في واجب فنيبغي أن يحمل على أنه بمعنى واحد، إذ قد تبين أن أحداً المقتضى العموم والاستغراق لا يرد في واجب ولا يتكلم به فيه، وعلى هذا كلام العرب، فحصل منه أن أحداً لفظ مجمل يكون للفي العام، فهذا لا يقع في (كل) واجب، ويكون بمعنى واحد فيقع في الواجب وغيره، والواقع في سورة الإخلاص من هذا القبيل أعنى الذي أحد فيه بمعنى واحد.
فإن قلت: فكيف تري موقع هذا التفسير؟ قلت: أما القول بأن أحداً هنا مرادف لواحد وبمعناه من كل جهة فقول ليس ببدع، ولذلك جري عليه أكثر كلام المفسرين، ولكن فيه ادعاء ترادف للفظين من غير حامل قطعي أكثر من وقوع أحد في قولك أحد عشر، وواحد وعشرون وشبه ذلك، ولا ينكر من كلامهم الاستغناء بالشئ عن الشئ لتقارب ما أو نسبة واشتراك في طرف ما، وما أراك تجد في كلامهم لفظ أحد المجرد عن التركيب والإضافة والعطف وأرادا في معنى واحد ومرادفاً له على القطع أبداً. وإذا ثبت هذا وجب إجراء الكلام على إبقاء كل واحدة من اللفظتين على ما استقر لها في المعنى وإلا يعدل عن ذلك ما وجدت عنه مندوحة.
وقد أوضح الاعتبار الفرق بين أحد وواحد من جهة اللفظ وحكمه ومن جهة المعنى. أما الفارق اللفظي فإن لفظ واحد قد فرقوا فيه بين المذكر والمؤنث، قالوا: واحد وواحدة فألحقوا مؤنثة الهاء، وجمعوه فقالوا: وحدان. وأما أحد فلم يلحقوه علامة تأنيث ولا جمعوه.
وفرق ثان وهو أنهم استعملوا واحداً في الواجب وغير الواجب تقول: جاءني رجل(2/514)
واحد ومررت برجل واحد، قال تعالى (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (البقرة: 163) و (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (النساء: 171) و (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ) (سبأ: 46) أي بخصلة واحدة أو بموعظة واحدة، ومن غير الواجب (فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ) (القمر: 24) ، (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) (ص: 5) ، أما أحد فلا يقع مفرداً عن إضافة أو تركيب في كلام واجب أصلاً، فلا تقول: جاءنى أحد ولا مررت بأحد ولا ورد في كتاب الله سبحانه في كلام واجب إلا قوله سبحانه: (قل هو الله أحد) ويقع في غير الواجب وهو بابه الذي اختص به، تقول: ما جاءنى أحد وما مررت بأحد، قال تعالى: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) (الكهف: 26) ، (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110) ، (وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا) (الكهف 38) ، (لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ) (الجن 22) ، (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) (الجن: 2) وذلك كثير جداً.
وفرق ثالث وهو أن واحداً يقع تابعاً في أكثر موارده، وهو الوجه فيه، لأنه يجري صفة وإن كان الوصف به عارضاً كما في الأعداد، كلنه (قد) أجرى صفة، وحكم ما ليس بخاص من الصفات لزوم التبعية، ولا يقع أحد تابعاً أصلاً إلا في نادر فلا تقول: جاءنى رجل أحد كما تقول: رجل واحد ولا ما شابه ذلك فهذه فروق (ثلاثة) من جهة حكم اللفظ.
وأما الفرق من جهة المعنى فإن واحداً يقع على كل مفرد كان، مما يتصف بالعقل والعلم أو لا يتصف، تقول: رجل واحد وجمل واحد، وهذا خلاف حكم أحد فإنه لا يقع إلا لأولى العلم والعقل من الملائكة والإنس والجن.
وفرق ثان، وهو أنك تقول: ما جاءني رجل (واحد) فيحتمل ذلك ثلاث معان: أحدها أن تريد ما جاءني (رجل واحد بل جاءنى) أكثر، والثاني أن تريد ما جاء رجل عناء وقوة بل جاء الضعفاء، والثالث أن تريد النفي العام أي ما جاءنى رجل واحد ولا أكثر ولا قوي ولا ضعيف. والثالث أن تريد النفي العام أي ما جاءنى رجل واحد ولا أكثر ولا قوي ولا ضعيف. فإذا قلت ما جاءنى أحد لم يتحمل غير معنى واحد وهو النفي العام وهذا أوضح فارق بين لفظ واحد (وأحد) .
فإن قلت: قد تقرر فرق (ما) بين لفظ واحد وأحد (فما الحاصل المعتمد في معنى أحد) ومقتضاه؟ قلت: معناه وحدة لا غيرية معها ولا أثنينية، وإليه يشير ما فسره به أهل اللغة، قال صاحب العين: الوحد المنفرد وهو أوحد في هذا الأمر أي منفرد. وقد استشعر الفرق بين المفسرين من قال: أحد بمعنى واحد فرد من جميع جهات الوحدانية: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: 11) وهو قول بعض جلة المفسرين وقد أحسن. أما اقتصاد الزمخشري على تزاكيه في البيان وتوفر حظه من علم اللسان على أن قال ك أحد بمعنى واحد وأصله وحد ولم يزد على هذا فغير مناسب لمسلكه. وقال بعض الأئمة(2/515)
الفرق بين أحد وواحد أن الواحد المنفرد بالذات والأحد المنفرد بالمعنى ومنه في أسمائه تعالى: الواحد - الأحد. وقيل واحد اسم لمفتاح العدد ومن جنسه وأحد لنفي ما يذكر معه من العدد، وقيل أحد يدل على محض الوحدة، ألا ترى أنه ناف لما يرد معه يريد في نحو قولك: ما أتانى أحد لانتفاء الواحد وما سواه، بخلاف قولك: ما أتانى واحد إذ قد يحتمل أن يراد أنه أتاك أكثر من واحد، وقد تقدم هذا، ولا يحتمل ذلك قولك: ما أتانى أحد. ومن المعلوم المطرد أن حكم اللفظ المنفى لا يغاير موجبه في غر ما اقتضته أداة النفي ن وأن يبقي الكلام فيما عدا حكم النفي على ما كان ولا يتغير منه شئ سوي انتقاله من الإيجاب إلى النفي، وكذلك الحكم في كل أداة تدخل على لفظ الواجب من ثمن أو استفهام أو عرض أو غير ذلك، هكذا كلام العرب. ولفظ أحد لا يتناول بوضعه غير الوحدة فلو تكلم به في الواجب فقيل جاءني أحد لكان معناه: أحد لا ثاني له بوجه، ولو قلت: جاءني واحد لم يلزم فيه ذلك بل كان يحتمل أن تريد: جاءني واحد يعتد به ويعتمد، ولم ينتف أن يجيء معه من لا يعتد به أو يعتمد عليه، إذ ليس يمنع بوضعه الزائد على واحد إذا غايره من حيث ذكر. فإذا تقرر أن حكم أحد من مقتضى الوحدة ما ذكر، تبين أنه لايتصور ولا يصح بمعناه في واجب حيث يراد المخلوق المحدث، لأن كلا من المخلوقات له النظير والمثيل، حتى إن المتباعدات والمتباينات متماثلة من حيث الافتقار وانسحاب سمات الحدوث ودلائل عدم الاستقلال إلى غير ذلك من شواهد الحدوث، فكلها لا تنفك عن وجود النظراء والأنداد، فلم يصح وقوع لفظ أحد في كلام واجب يقع فيه لفظ أحد لمخلوق لما تبين، وصح ورود ذلك في حق الخالق جل جلاله لانفراده بالوحدانية وتنزيهه عن النظير والمثيل، فورد لفظ أحد حيث صح معناه من الكلام الواجب، (وأمتنع) حيث لا يصح معناه. أما غير الواجب فيصح فيه معنى أحد لصحة معنى الكلام، لأنك إذا قلت: ما أتاني أحد انتفى كل ما يمكن وصفه بالإتيان بمقتضى العموم، فانتفي ما وقع عليه لفظ أحد وانتفي النظير والمثيل، وصح هذا في المخلوق. بخلاف أن لو قلت: أتاني أحد فإنك فيه تتكلم بما لا يصح معنى ولا يعقل، إذ ليس في المخلوقات من لا مثيل له.
فلما كان لفظ أحد بالنظر إلى المخلوقين يصح معناه في غير الواجب ورد من كلامهم حيث يصح معناه وامتنع حيث لا يستقيم معناه، ووضع قول أئمة اللسان أنه لا يرد في الواجب، يريدون في محاورات المخلوقين وتخاطبهم، إذ لا يصح معناه هناك، فأما في حق الخالق جل جلاله فهو موضعه الذي يصح فيه ولا يتعداه، ولم يتعرض النحويون لعلة امتناعه في الواجب، بل اكتفوا بتقرير السماع من غير تعرض للعلة، إذ لا يبني لهم على ذلك قانون تتسع جهاته وتنتشر مسائلة. وإذ وضحت العلة تبين وجه وروده في السورة الكريمة، ولم يحتج إلى ادعاء اشتراك ولا تأويل، والله أعلم.
*****(2/516)
سورة الفلق
قوله تعالى: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (الفلق: 3 - 5) ، للسائل أن يسأل عن التقييد بالظرف في قوله تعالى: (ومن شر غاسق إذا وقب) وفي قوله: (ومن شر حاسد إذا حسد) فلم تقع الاستعاذة من شر هذين بتقييد الوقوب في الغاسق ووقع الحسد من الحاسد ويطلق حكم الاستعاذة من شر النفاثات وهن الساحرات، ولم يقل إذا نفثن أو سحرن فيقيد كما قيد ما قبل وما بعد، فما الفرق؟
والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن قوله سبحانه في سورة: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه: 69) ، إطلاق حاكم بتماديه وتمادي حكمه على تلك الصفة المذمومة، فلم يكن التقييد في آية الفلق لو قيل: إذا كذا ليطابق ما ورد في سورة طه من الإطلاق. ثم إن السحر كفر، وقد ذكر سبحانه قول الملكين للطالب تعلمه: (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) (البقرة: 102) أي بتعلم السحر، (ولا بسحركم سحر الساحر ولا يسمي ساحراً إلا باعتقاد. فتبين أن السحر شر مطلق) ، فورد التعوذ منه مطلقاً غير مقيد بوقوع أو () وتأثير الكواكب وذلك كفر، وما أجرى الله سبحانه من التأثير في العالم عند تلاقيها وتقابلها وتنازرها وما في ذلك من تفصيل التناظر، كل ذلك فعل الله سبحانه ولا تأثير إلا له جل وتعالى، (ويقتل الساحر ولا استتابة) في قول.
أما الغاسق فإن الليل إذا أظلم، وليس الشر منه بما هو ليل مظلم إنما هو ستر لذوي الشر لاحتجابهم بظلمته عن أعين الناس فيوقعون فيه شرهم، فالشر فيه لا منه.ألا تري أنه لأهل الخير رحمة ونعمة، وكذلك لكل من لا يترصده لشر، قال تعالى: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (القصص: 73) أي لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضل الله في النهار. وتردد ذكر الليل في غير ما آية في كتاب الله معدودا في نعم الله تعالى على عباده، وهو شقيق النهار في تلك. ثم إنه من حيث هو لباس وستر عن الأعين فيمكن فيه لأهل الشر ما لا يمكنهم في نهارهم، فيستحكم فيه(2/517)
شرهم عند امتداد ظلمته لأمنهم من الناس في ذلك. فتبين أنه ليس شراً بما هو ليل إنما الشر فيه وعنده لا به بما هو ليل ولا منه، ولا يتمكن مطلوق ذوي الشر إلا في ظلمته، فنسبة الشر إليه بهذا الوجه، والإضافة في لسان العرب تكون بأدنى ملابسة، قال تعالى: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) (النازعات: 46) والضحى ليس للعشية وإنما هما طرفان للنهار فصحت الإضافة بهذا القدر، وقال تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) (سبأ: 33) والليل والنهار لا يمكران غنما يكون المكر فيهما، قال معناه سيبويه، رحمه الله.
وأما الحاسد فإن القائم بنفسه من هذه الصفة قبل أن يمضى يمكن أن ينفذها حسداً ويمكن أن ينفذها غبطة، فإذا لا يتبين كونه حسداً إلا بعد أن يمضى ويوقع، ألا تري اتحاد ما يقوم بالنفس أولاً من هذه الصفة. بيان ذلك أن كل عاقل - بما هو عاقل - إذا رأي نعمة على غيره من دين أو دنيا أعجبته وتمناها لنفسه، فإن أراد زوالها عمن ظهرت عليه وانفراده هو بها فهذا هو الحسد المذموم، وإن تمنى مثلها أو أكثر وبقاء تلك على صاحبها فهذه هي الغبطة، وهي من صفات المؤمنين. فقد وضح أنه إنما يكون حسداً ويوصف بتلك الصفة عند ظهوره وقوعه على الصفة المذمومة وأما قبل ذلك فلا شر فيه ولا هو شر، ألا تري أن الحساد لو قامت به تلك الفة ثم تذكر واستغفر لمن رأي النعمة به والخير وركن قله إلى ذلك لم يؤاخذ شرعاً بتلك الهمة والخطرة، وقد نص الشترع على ذلك، واتفق العلماء والقاضي أبو بكر ومن قال بقوله على تلقى الوارد في هذا عن الشارع، عليه السلام، منزلا على ما ذكرته. فلما كان حال الحسد على ما ذكر وحال الغاسق على ما تقدم ذلك وقع التقييد في الإستعاذة من شرهما بالظرف فقيل: (إذا وقب) و (إذا حسد) ، ولم يقع تقييد في الإستعاذة من شر السحرة، وجاء كل من ذلك على ما يجب ويناسب، ولا يمكن خلافه، والله أعلم.
******(2/518)
سورة قل أعوذ برب الناس
قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (الناس: 1) إلى آخر السورة، يسأل عن تكرار الناس في قوله تعالى (مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ) (الناس: 2 - 3) ؟ وما وجه ذلك.
والجواب، أن التبعية في ملك الناس على عطف البيان ولا تحسن فيه الإضافة إلى الضمير لأن ذلك يؤدي إلى تعرف الأسمين بضمير الأول الذي عليه حملهما، فكأن يكون الأول في حكم الأعراف من اللفظ التابع له وذلك عكس ما عليه عطف البيان، أما إذا أضيف التابع لما أضيف إليه متبوعه فإنه إذ ذاك لا يكون مساوياً له، وذلك هو الجاري المطرد في هذا الضرب من التوابع - أعني أن يكون في الأغلب الكثير مساوياً للأول أو أعرف - فلهذا جاء مضافاً إلى الظاهر هنا والله أعلم.
*****(2/519)