وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
{وَلاَ تَدْعُ} لَا تعبد {مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ} فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة إِن عبدت {وَلاَ يَضُرُّكَ} إِن لم تعبده {فَإِن فَعَلْتَ} عبدت {فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمين} من الضارين لنَفسك(1/180)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
{وَإِن يَمْسَسْكَ} يصبك {الله بِضُرٍّ} بِشدَّة وَأمر تكرههُ {فَلاَ كَاشِفَ لَهُ} فَلَا رَافع للضر {إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ} يصبك {بِخَيْرٍ} بِنِعْمَة وَأمر تسر بِهِ {فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} لَا مَانع لعطيته {يُصَيبُ بِهِ} يخص بِالْفَضْلِ {مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} من كَانَ أَهلا لذَلِك {وَهُوَ الغفور} المتجاوز لمن تَابَ {الرَّحِيم} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/180)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
{قل يَا أَيُّهَا النَّاس} يَا أهل مَكَّة {قَدْ جَآءَكُمُ الْحق} الْكتاب وَالرَّسُول {مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى} بِالْكتاب وَالرَّسُول {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ}(1/180)
يَعْنِي ثَوَابه {وَمَن ضَلَّ} كفر بِالْكتاب وَالرَّسُول {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} يَعْنِي عَلَيْهَا جِنَايَة ذَلِك {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بكفيل نسختها آيَة الْقِتَال(1/181)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
{وَاتبع} يَا مُحَمَّد {مَا يُوحى إِلَيْكَ} مَا يُؤمر لَك فِي الْقُرْآن من تَبْلِيغ الرسَالَة {واصبر} على ذَلِك {حَتَّى يَحْكُمَ الله} بَيْنكُم وَبينهمْ بِقَتْلِهِم وهلاكهم يَوْم بدر {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمين} بهلاكهم ونصرهم
وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا هود وَهِي كلهَا مَكِّيَّة آياتها مائَة وَعِشْرُونَ وكلماتها ألف وسِتمِائَة وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ وحروفها سِتَّة آلَاف وَتِسْعمِائَة وَخَمْسَة
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}(1/181)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {الر} يَقُول أَنا لله أرى وَيُقَال قسم أقسم بِهِ {كِتَابٌ} أَن هَذَا كتاب يَعْنِي الْقُرْآن {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} بالحلال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي فَلم تنسخ {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بيَّنت {مِن لَّدُنْ} من عِنْد {حَكِيمٍ} حَاكم أَمر أَن لَا يعبد غَيره {خَبِيرٍ} بِمن يعبد وبمن لَا يعبد(1/181)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
{أَلاَّ تعبدوا} بِأَن لَا توحدوا {إِلاَّ الله إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ} من الله {نَذِيرٌ} من النَّار {وَبَشِيرٌ} بِالْجنَّةِ(1/181)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
{وَأَنِ اسْتَغْفرُوا رَبَّكُمْ} وحدوا ربكُم {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أَقبلُوا إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاص {يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً} يعشكم عَيْشًا {حَسَناً} بِلَا عَذَاب {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إِلَى وَقت مَعْلُوم يَعْنِي الْمَوْت {وَيُؤْتِ} ويعط {كُلَّ ذِي فَضْلٍ} فِي الْإِسْلَام {فَضْلَهُ} ثَوَابه فِي الْآخِرَة {وَإِن تَوَلَّوْاْ} عَن الْإِيمَان وَالتَّوْبَة {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} أعلم أَن يكون عَلَيْكُم {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} عَظِيم(1/181)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
{إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ} بعد الْمَوْت {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ} من الثَّوَاب وَالْعِقَاب {قَدِيرٌ}(1/181)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
{أَلا إِنَّهُمْ} يَعْنِي أخنس بن شريق وَأَصْحَابه {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} يضمرون فِي قُلُوبهم بغض مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعداوته {ليستخفوا مِنْهُ} ليستروا من مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بغضه وعداوته بِإِظْهَار الْمحبَّة لَهُ والمجالسة مَعَه {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} يغطون رؤوسهم بثيابهم {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} فِيمَا بَينهم وَمَا يضمرون فِي قُلُوبهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} من الْقِتَال والجفاء وَيُقَال من الْمحبَّة والمجالسة {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} بِمَا فِي الْقُلُوب من الْخَيْر وَالشَّر(1/181)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} إِلَّا الله قَائِم برزقها {وَيَعْلَمُ مستقرها} حَيْثُ تأوى بِاللَّيْلِ {ومستودعها} حَيْثُ تَمُوت فتدفن {كُلٌّ} أَي رزق كل دَابَّة وأجلها وأثرها {فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} مَكْتُوب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ مبيّن مَعْلُوم مُقَدّر ذَلِك عَلَيْهَا(1/181)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{وَهُوَ الَّذِي} وإلهكم هُوَ الَّذِي {خَلَق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} من أَيَّام أول الدُّنْيَا طول كل يَوْم ألف سنة أول يَوْم مِنْهَا يَوْم الْأَحَد وَآخر يَوْم مِنْهَا يَوْم الْجُمُعَة {وَكَانَ عَرْشُهُ} قبل أَن خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض {عَلَى المآء} وَكَانَ الله قبل الْعَرْش وَالْمَاء {لِيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم بَين الْحَيَاة وَالْمَوْت {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أخْلص عملا {وَلَئِن قُلْتَ} لأهل مَكَّة(1/181)
{إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ} محيون {مِن بَعْدِ الْمَوْت لَيَقُولَنَّ الَّذين كفرُوا} كفار مَكَّة {إِنْ هَذَا} مَا هَذَا الَّذِي يَقُول مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} كذب بيّن لَا يكون(1/182)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَاب إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} إِلَى وَقت مَعْلُوم يَوْم بدر {لَّيَقُولُنَّ} يَعْنِي أهل مَكَّة {مَا يَحْبِسُهُ} عَنَّا غَدا استهزاء بِهِ {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} الْعَذَاب {لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} لَا يصرف عَنْهُم الْعَذَاب {وَحَاقَ} دَار وَوَجَب وَنزل {بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزؤون} عَذَاب مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن(1/182)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَان} يَعْنِي الْكَافِر {مِنَّا رَحْمَةً} نعْمَة {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} أخذناها مِنْهُ {إِنَّهُ ليؤوس} يصير آيس شَيْء وأقنط شَيْء من رَحْمَة الله {كَفُورٌ} كَافِر بِنِعْمَة الله لَا يشْكر(1/182)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ} أصبناه يَعْنِي الْكَافِر {نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ} شدَّة أَصَابَته {لَيَقُولَنَّ} يَعْنِي الْكَافِر {ذَهَبَ السَّيِّئَات} الشدَّة {عني إِنَّهُ لَفَرِحٌ} بطر {فَخُورٌ} بِنِعْمَة الله غير شَاكر(1/182)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
{إِلَّا} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه {الَّذين صَبَرُواْ} على الْإِيمَان {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم فَإِنَّهُم لَا يَفْعَلُونَ ذَلِك وَلَكِن يصبرون بالشدة ويشكرون بِالنعْمَةِ {أُولَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم فِي الدُّنْيَا {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} ثَوَاب عَظِيم فِي الْجنَّة(1/182)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
{فَلَعَلَّكَ} يَا مُحَمَّد {تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ} أَمر لَك فِي الْقُرْآن من تَبْلِيغ الرسَالَة وَسَب آلِهَتهم وعيبها {وضائق بِهِ} بِمَا أمرت {صَدْرُكَ} قَلْبك {أَن يَقُولُواْ} بِمَا يَقُول كفار مَكَّة {لَوْلاَ أُنزِلَ} هلا أنزل {عَلَيْهِ} على مُحَمَّد {كَنزٌ} مَال من السَّمَاء فيعيش بِهِ {أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يشْهد لَهُ {إِنَّمَآ أَنتَ} يَا مُحَمَّد {نَذِيرٌ} رَسُول مخوف {وَالله على كُلِّ شَيْءٍ} من مقالتهم وعذابهم {وَكِيلٌ} كَفِيل وَيُقَال شَهِيد(1/182)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
{أَمْ يَقُولُونَ} بل يَقُول كفار مَكَّة {افتراه} اختلق مُحَمَّد الْقُرْآن من تِلْقَاء نَفسه فأتا بِهِ {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} مثل سور الْقُرْآن مثل سُورَة الْبَقَرَة وَآل عمرَان وَالنِّسَاء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال وَالتَّوْبَة وَيُونُس وَهود {مفتريات} مختلفات من تِلْقَاء أَنفسكُم {وَادعوا مَنِ اسْتَطَعْتُم} اسْتَعِينُوا بِمن عَبدْتُمْ {مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقين} أَن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يختلقه من تِلْقَاء نَفسه فَسَكَتُوا عَن ذَلِك(1/182)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
فَقَالَ الله {فَإِن لم يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} لم يجبك الظلمَة {فاعلموا} يَا معشر الْكفَّار {أَنَّمَآ أُنزِلِ} جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {بِعِلْمِ الله} وَأمره {وَأَن لاَّ إِلَه إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} مقرون بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن(1/182)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
{مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاة الدُّنْيَا} بِعِلْمِهِ الَّذِي افْترض الله عَلَيْهِ {وَزِينَتَهَا} زهرتها {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} نوفر لَهُم ثَوَاب أَعْمَالهم {فِيهَا} فِي الدُّنْيَا {وَهُمْ فِيهَا} فِي الدُّنْيَا {لاَ يُبْخَسُونَ} لَا ينقص من ثَوَاب أَعْمَالهم(1/182)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
{أُولَئِكَ الَّذين} عمِلُوا لغير الله {لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَة إِلاَّ النَّار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} رد عَلَيْهِم مَا عمِلُوا فِي الدُّنْيَا من الْخيرَات {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وَلَا يثابون فِي الْآخِرَة بِمَا كَانُوا يعْملُونَ فِي الدُّنْيَا من الْخيرَات لأَنهم عمِلُوا لغير الله(1/182)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
{أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} على بَيَان نزل من ربه يَعْنِي الْقُرْآن {وَيَتْلُوهُ} يقْرَأ عَلَيْهِ الْقُرْآن {شَاهِدٌ مِّنْهُ} من الله يَعْنِي جِبْرِيل {وَمِن قَبْلِهِ} من قبل الْقُرْآن {كِتَابُ مُوسَى} توراة مُوسَى قَرَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيل {إَمَاماً} يقْتَدى بِهِ {وَرَحْمَةً} لمن آمن بِهِ {أُولَئِكَ} من آمن بِكِتَاب مُوسَى {يُؤْمِنُونَ بِهِ} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن وَهُوَ عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه {وَمن يكفر بِهِ} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {مِنَ الْأَحْزَاب} من جَمِيع الْكفَّار {فَالنَّار مَوْعِدُهُ} مصيره {فَلاَ تَكُ} يَا مُحَمَّد {فِي مِرْيَةٍ} فِي شكّ {مِّنْهُ} من مصير من كفر بِالْقُرْآنِ {إِنَّهُ الْحق مِن رَّبِّكَ} إِن مصير من كفر بِالْقُرْآنِ النَّار وَيُقَال فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ فِي شكّ مِنْهُ من الْقُرْآن إِنَّهُ الْحق مِن رَّبِّكَ نزل بِهِ جِبْرِيل {وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاس} أهل مَكَّة {لاَ يُؤمنُونَ}(1/183)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أَعْتَى وأجرأ {مِمَّنِ افترى} اختلق {عَلَى الله كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ} يساقون إِلَى رَبهم {وَيَقُولُ الأشهاد} الْمَلَائِكَة والأنبياء {هَؤُلَاءِ} الْكفَّار {الَّذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله} عَذَاب الله {عَلَى الظَّالِمين} الْمُشْركين(1/183)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
{الَّذين يَصُدُّونَ} يصرفون {عَن سَبِيلِ الله} عَن دين الله وطاعته {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} يطلبونها زيغاً وَيُقَال غيراً {وَهُمْ بِالآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {هُمْ كَافِرُونَ} جاحدون(1/183)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْض} بفائتين من عَذَاب الله {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله} من عَذَاب الله {مِنْ أَوْلِيَآءَ} تحفظهم {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَاب} يَعْنِي الرؤساء {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السّمع} الِاسْتِمَاع إِلَى كَلَام مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بغضه وَيُقَال بِمَا كَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ السّمع الِاسْتِمَاع إِلَى كَلَام مُحَمَّد عَليّ الصَّلَاة وَالسَّلَام {وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} إِلَى مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من بغضه وَيُقَال وَمَا كَانُوا يبصرون مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بغضه(1/183)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)
{أُولَئِكَ} الرؤساء هم {الَّذين خسروا أَنْفُسَهُمْ} غبنوا أنفسهم وأهاليهم ومنازلهم وخدمهم فِي الْجنَّة وَورثه غَيرهم من الْمُؤمنِينَ {وَضَلَّ عَنْهُمْ} بَطل واشتغل عَنْهُم بِأَنْفسِهِم {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يعْبدُونَ من دون الله بِالْكَذِبِ(1/183)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
{لاَ جَرَمَ} حَقًا {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَة هُمُ الأخسرون} المغبونون بذهاب الْجنَّة وَمَا فِيهَا(1/183)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
{إِن الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {وأخبتوا إِلَى رَبهم} أخصلوا لرَبهم وخضعوا لرَبهم وخشعوا من رَبهم {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجنَّة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} مقيمون(1/183)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} الْكَافِر وَالْمُؤمن {كالأعمى والأصم} يَقُول مثل الْكَافِر كالأعمى لَا يبصر الْحق وَالْهدى وكالأصم لَا يسمع الْحق وَالْهدى {والبصير والسميع} يَقُول وَمثل الْمُؤمن كَمثل الْبَصِير يبصر الْحق وَالْهدى وكالسميع يسمع الْحق وَالْهدى {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} فِي الْمثل يَقُول هَل يَسْتَوِي الْكَافِر مَعَ الْمُؤمن فِي الطَّاعَة وَالثَّوَاب {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أَفلا تتعظون بأمثال الْقُرْآن فتؤمنوا(1/183)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} فَلَمَّا جَاءَهُم قَالَ لَهُم {إِنَّي لَكُمْ} من الله {نَذِيرٌ} رَسُول مخوف {مُّبِينٌ} بلغَة تعلمونها(1/183)
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
{أَن لاَّ تعبدوا} أَن لَا توحدوا {إِلاَّ الله إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} أعلم بِأَن يكون عَلَيْكُم إِن لم تؤمنوا(1/183)
{عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} وجيع وَهُوَ الْغَرق(1/184)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
{فَقَالَ الْمَلأ} الرؤساء {الَّذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} من قوم نوح {مَا نَرَاكَ} يَا نوح {إِلاَّ بَشَراً} آدَمِيًّا {مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتبعك} آمن بك {إِلاَّ الَّذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} سفلتنا وضعفاؤنا {بَادِيَ الرَّأْي} ظَاهر الرَّأْي الضَّعِيف وَيُقَال سَوء رَأْيهمْ حملهمْ على ذَلِك {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} بِمَا تَقولُونَ تَأْكُلُونَ وتشربون كَمَا نَأْكُل وَنَشْرَب {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} بِمَا تَقولُونَ(1/184)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
{قَالَ} نوح {يَا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ} يَقُول إِنِّي {على بَيِّنَةٍ من رَبِّي} على بَيَان نزل من رَبِّي {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} أكرمني بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام (فَعُمِّيَتْ) التبست وَإِن قَرَأت فعميت يَقُول ألبست {عَلَيْكُمْ} نبوتي وديني {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أنلهكموها ونعرفكموها {وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُون} جاحدون(1/184)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
{وَيَا قوم لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على التَّوْحِيد {مَالاً} جعلا {إِنْ أَجْرِيَ} مَا ثوابي {إِلاَّ عَلَى الله وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذين آمنُوا} بقولكم {إِنَّهُمْ ملاقو} معاينوا {رَبِّهِمْ} فيخاصمونني عِنْده {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} أَمر الله(1/184)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
{وَيَا قوم مَن يَنصُرُنِي} من يَمْنعنِي {مِنَ الله} من عَذَاب الله {إِن طَرَدتُّهُمْ} بقولكم {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أَفلا تتعظون بِمَا أَقُول لكم فتؤمنوا(1/184)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
{وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله} مَفَاتِيح خَزَائِن الله فِي الرزق {وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْب} مَتى نزُول الْعَذَاب وَمَا غَابَ عني {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} من السَّمَاء {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ} لَا تأخذهم أعينكُم يَقُول يحتقرون فِي أعينكُم {لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً} لن يكرمهم الله بِتَصْدِيق الْإِيمَان {الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} بِمَا فِي قُلُوبهم من التَّصْدِيق {إِنِّي إِذاً} إِن طردتهم {لَّمِنَ الظَّالِمين} الضارين بنفسي(1/184)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
{قَالُوا يَا نوح قَدْ جَادَلْتَنَا} خاصمتنا ودعوتنا إِلَى دين غير دين آبَائِنَا {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} خُصُومَتنَا ودعاءنا {فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ} من الْعَذَاب {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقين} أَنه يأتينا(1/184)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)
{قَالَ} نوح {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله} يَقُول يأتيكم الله بعذابكم {إِن شَآءَ} فيعذبكم {وَمَآ أَنْتُم بمعجزين} بقائتين من عَذَاب الله(1/184)
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
{وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي} دعائي وتحذيري إيَّاكُمْ من عَذَاب الله {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} أحذركم من عَذَاب الله وأدعوكم إِلَى التَّوْحِيد {إِن كَانَ الله} قد كَانَ الله {يُرِيدُ أَن يغويكم} أَن تضلكم عَن الْهدى {هُوَ رَبُّكُمْ} أولى بكم مني {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الْمَوْت فيجزيكم بأعمالكم(1/184)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
{أَمْ يَقُولُونَ} بل يَقُولُونَ قوم نوح {افتراه} اختلق نوح بِمَا آتَانَا بِهِ من تِلْقَاء نَفسه {قُلْ} لَهُم يَا نوح {إِنِ افتريته} اختلقته من تِلْقَاء نَفسِي {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} آثامي {وَأَنَاْ بَرِيء مِّمَّا تُجْرَمُونَ} تأثمون وَيُقَال نزلت هَذِه الْآيَة فِي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/184)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن} سوى من {قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ} فَلَا تحزن بهلاكهم {بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} فِي كفرهم(1/185)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
{واصنع الْفلك} خُذ فِي علاج السَّفِينَة {بِأَعْيُنِنَا} بِنَظَر منا {وَوَحْيِنَا} بأمرنا {وَلاَ تُخَاطِبْنِي} لَا تراجعني {فِي الَّذين ظلمُوا} فِي نجاة الَّذين كفرُوا {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} بالطوفان(1/185)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
{وَيَصْنَعُ الْفلك} أَخذ فِي علاج السَّفِينَة {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ} رُؤَسَاء {مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} هزئوا بمعالجته السَّفِينَة {قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا} الْيَوْم {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} بعد الْيَوْم {كَمَا تَسْخَرُونَ} الْيَوْم منا(1/185)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} يذله ويهلكه {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ} يجب عَلَيْهِ {عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دَائِم فِي الْآخِرَة(1/185)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
{حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} وَقت عذابنا {وَفَارَ التَّنور} نبع المَاء من التَّنور وَيُقَال طلع الْفجْر {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} فِي السَّفِينَة {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ} من كل صنفين {اثْنَيْنِ} ذكر وَأُنْثَى {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ} وَجب عَلَيْهِ {القَوْل} بِالْعَذَابِ {وَمَنْ آمَنَ} مَعَك أَيْضا احْمِلْ مَعَك فِي السَّفِينَة {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} ثَمَانُون إنْسَانا(1/185)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
{وَقَالَ} لَهُم {اركبوا فِيهَا} فِي السَّفِينَة {بِسْمِ الله مجْراهَا} حَيْثُ تجْرِي {وَمُرْسَاهَا} حَيْثُ تحبس وَإِن قَرَأت مجريها ومرسيها يَقُول الله مجريها حَيْثُ شَاءَ ومرسيها حَيْثُ شَاءَ {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} لمن تَابَ(1/185)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} بِأَهْلِهَا {فِي مَوْجٍ} فِي غمر المَاء {كالجبال} كجبل عَظِيم فِي الِارْتفَاع {ونادى نُوحٌ} دَعَا نوح {ابْنه} كنعان {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} فِي نَاحيَة من السَّفِينَة وَيُقَال فِي نَاحيَة الْجَبَل {يَا بني اركب مَّعَنَا} انج مَعنا بِلَا إِلَه إِلَّا الله {وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافرين} على دينهم فتغرق بالطوفان(1/185)
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
{قَالَ سآوي} سأذهب {إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي} يَمْنعنِي {مِنَ المآء} من الْغَرق {قَالَ} نوح {لاَ عَاصِمَ الْيَوْم} لَا مَانع الْيَوْم {مِنْ أَمْرِ الله} من عَذَاب الله الْغَرق {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} الله من الْمُؤمنِينَ {وَحَالَ بَيْنَهُمَا} بَين كنعان ونوح وَيُقَال بَين كنعان والجبل وَيُقَال بَين كنعان والسفينة {الموج} فكبه {فَكَانَ} فَصَارَ {مِنَ المغرقين} بالطوفان(1/185)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
{وَقيل يَا أَرض ابلعي ماءك} أنشفى ماءك {وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي} احبسي ماءك {وَغِيضَ} نقص {المآء وَقُضِيَ الْأَمر} وَفرغ من هَلَاك الْقَوْم أَي هلك من هلك وَنَجَا من نجا {واستوت} السَّفِينَة {عَلَى الجودي} وَهُوَ جبل بنصيبين فِي الْموصل {وَقِيلَ بُعْداً} سحقاً من رَحْمَة الله {لِّلْقَوْمِ الظَّالِمين} الْمُشْركين قوم نوح(1/185)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
{وَنَادَى نُوحٌ} دَعَا نوح {رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ} يَا رب {إِنَّ ابْني} كنعان {مِنْ أَهْلِي} الَّذِي وعدت أَن تنجيه(1/185)
{وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحق} الصدْق {وَأَنتَ أَحْكَمُ} أعدل {الْحَاكِمين} وَعَدتنِي نجاتي وَنَجَاة أَهلِي(1/186)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
{قَالَ} الله {يَا نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الَّذِي وعدتك أَن أنجيه {إِنَّهُ عَمَلٌ} فِي الشّرك {غَيْرُ صَالِحٍ} غير مرضِي وَإِن قَرَأت أَنه عمل غير صَالح يَقُول دعاؤك إيَّايَ بنجاته غير مرضِي {فَلاَ تَسْأَلْنِ} نجاة {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أَنه أهل للنجاة {إِنِّي أعظك} أياك {أَن تَكُونَ} أَن لَا تكون {مِنَ الْجَاهِلين} بسؤالك إيَّايَ مَا لم تعلم(1/186)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
{قَالَ} نوح {رَبِّ} يَا رب {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ} أمتنع بك {أَنْ أَسْأَلَكَ} نجاة {مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أَنه أهل للنجاة {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي} يَقُول إِن لم تغْفر لي يَعْنِي إِن لم تجَاوز عني {وترحمني} وَلَا ترحمني فتعذبني {أَكُن مِّنَ الخاسرين} بالعقوبة(1/186)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
{قيل يَا نوح اهبط} انْزِلْ من السَّفِينَة {بِسَلاَمٍ مِّنَّا} بسلامة منا {وَبَرَكَاتٍ} سعادات {عَلَيْكَ وعَلى أُمَمٍ} جمَاعَة {مِّمَّن مَّعَكَ} فِي السَّفِينَة من أهل السَّعَادَة {وَأُمَمٌ} جمَاعَة فِي أصلابهم {سَنُمَتِّعُهُمْ} سنعيشهم بعد خُرُوجهمْ من أصلاب آبَائِهِم {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ} يصيبهم {مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع بَعْدَمَا كفرُوا وهم أهل الشقاوة قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أوحى الله إِلَى نوح عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ ابْن أَرْبَعمِائَة وَثَمَانِينَ سنة ودعا قومه مائَة وَعشْرين سنة وَركب فِي السَّفِينَة وَهُوَ ابْن سِتّمائَة سنة وعاش بعد مَا ركب فِي السَّفِينَة ثلثمِائة وَخمسين سنة وَبَقِي فِي السَّفِينَة خَمْسَة أشهر وَكَانَ طول السَّفِينَة ثلثمِائة ذِرَاع بذراعه وعرضها خَمْسُونَ ذِرَاعا وطولها فِي السَّمَاء ثَلَاثُونَ ذِرَاعا وَكَانَ لَهَا ثَلَاثَة أَبْوَاب بَعْضهَا أَسْفَل من بعض حمل فِي الْبَاب الْأَسْفَل السبَاع والهوام وَحمل فِي الْبَاب الْأَوْسَط الوحوش والبهائم وَحمل فِي الْبَاب الْأَعْلَى بني آدم وَكَانُوا ثَمَانِينَ إنْسَانا أَرْبَعُونَ رجلا وَأَرْبَعُونَ امْرَأَة وَكَانَ بَين الرِّجَال وَالنِّسَاء جَسَد آدم صلوَات الله عَلَيْهِ وَكَانَ مَعَه ثَلَاثَة بَنِينَ سَام وَحَام وَيَافث(1/186)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
{تِلْكَ} هَذِه {مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْب} من أَخْبَار الْغَائِب عَنْك {نُوحِيهَآ إِلَيْكَ} نرسل جِبْرِيل إِلَيْك يَا مُحَمَّد بأخبار الْأُمَم الْمَاضِيَة {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ} يَعْنِي أَخْبَار الْأُمَم {أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا} الْقُرْآن {فاصبر} يَا مُحَمَّد على أذاهم وتكذيبهم إياك {إِنَّ الْعَاقِبَة} آخر الْأَمر بالنصرة وَالْجنَّة {لِلْمُتَّقِينَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش(1/186)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
{وَإِلَى عَادٍ} وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَاد {أَخَاهُمْ} نَبِيّهم {هودا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله} وحدوا الله {مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَه غَيره} غير الَّذين آمركُم أَن تؤمنوا بِهِ {إِنْ أَنتُمْ} مَا أَنْتُم بِعبَادة الْأَوْثَان {إِلاَّ مُفْتَرُونَ} كاذبون على الله لم يَأْمُركُمْ بعبادتها(1/186)
يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
{يَا قوم لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على التَّوْحِيد {أَجْراً} جعلا {إِنْ أَجْرِيَ} مَا ثوابي {إِلاَّ عَلَى الَّذِي فطرني} خلقني {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أَفلا تصدقُونَ أفليس لكم ذهن الإنسانية(1/186)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
{وَيَا قوم اسْتَغْفرُوا رَبَّكُمْ} وحدوا ربكُم {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أَقبلُوا إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاص {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} مَطَرا دَائِما دريراً كلما تحتاجون إِلَيْهِ {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} شدَّة إِلَى شدتكم بِالْمَالِ والبنين {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ} عَن الْإِيمَان وَالتَّوْبَة {مجرمين} مُشْرِكين بِاللَّه(1/186)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
{قَالُوا يَا هود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} بِبَيَان مَا تَقول {وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا} عبَادَة آلِهَتنَا {عَن قَوْلِكَ} بِقَوْلِك {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين بالرسالة(1/186)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
{إِن تَقول} مَا تَقول فِيمَا ننهاك عَنهُ {إِلاَّ اعتراك} يصيبك {بَعْضُ آلِهَتنَا بِسوء} بخبل لِأَنَّك تشتمها {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي بَرِيء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} بِاللَّه من الْأَوْثَان وَمَا تعبدونها(1/186)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
{مِن دُونِهِ} من دون الله {فَكِيدُونِي} فاعملوا فِي هلاكي أَنْتُم وآلهتكم {جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تنْظرُون} لَا تؤجلون وَلَا تَشكوا فِي أحدا(1/186)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله} فوضت أَمْرِي إِلَيْهِ {رَبِّي} خالقي ورازقي {وَرَبِّكُمْ} خالقكم ورازقكم {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ} يميتها ويحييها وَيُقَال فِي قَبضته يفعل مَا يَشَاء {إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} عَلَيْهِ ممر الْخلق وَيُقَال يَدْعُو الْخلق إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم دين قَائِم يرضاه وَهُوَ الْإِسْلَام(1/187)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أَعرضُوا عَن الْإِيمَان وَالتَّوْبَة {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} من الرسَالَة ويهلككم {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} خيرا مِنْكُم وأطوع {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} وَلَا يضر الله هلاككم شَيْئا {إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ} من أَعمالكُم {حَفِيظٌ} حَافظ شَهِيد(1/187)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} عذابنا {نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ} بِنِعْمَة {مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} شَدِيد(1/187)
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
{وَتِلْكَ عَادٌ} وَهَذِه عَاد {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} الَّتِي آتَاهُم بهَا هود {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} بِالتَّوْحِيدِ {وَاتبعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ} قَول كل قتال على الْغَضَب {عَنِيدٍ} معرض عَن الله(1/187)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
{وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِه الدُّنْيَا لَعْنَةً} أهلكوا فِي الدُّنْيَا بِالرِّيحِ {وَيَوْمَ الْقِيَامَة} لَهُم لعنة أُخْرَى وَهِي النَّار {أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} جَحَدُوا رَبهم {أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} من رَحْمَة الله(1/187)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
{وَإِلَى ثَمُودَ} وَأَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُود {أَخَاهُمْ} نَبِيّهم {صَالحا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله} وحدوا الله {مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَه غَيره} غير الَّذين آمركُم أَن تؤمنوا بِهِ {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْض} خَلقكُم من آدم وآدَم من الأَرْض {واستعمركم فِيهَا} عمركم فِي الأَرْض وجعلكم سكانها {فاستغفروه} فوحدوه {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أَقبلُوا إِلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّوْبَة وَالْإِخْلَاص {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ} بالإجابة {مُجيب} لمن وَحده(1/187)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
{قَالُوا يَا صَالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً} نرجوك {قَبْلَ هَذَا} قبل أَن تَأْمُرنَا بدين غير دين آبَائِنَا {أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الْأَوْثَان {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ} من دينك {مُرِيبٍ} ظَاهر الشَّك بِهِ(1/187)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
{قَالَ يَا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي} على بَيَان نزل من رَبِّي {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} أكرمني بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {فَمَن يَنصُرُنِي} يَمْنعنِي {مِنَ} عَذَاب {الله إِنْ عَصَيْتُهُ} وَتركت أمره {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} فَمَا ازْدَادَ إِلَّا بَصِيرَة فِي خسارتكم(1/187)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
{وَيَا قوم هَذِه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} عَلامَة {فَذَرُوهَا} فاتركوها {تَأْكُلْ فِي أَرْضِ الله} فِي أَرض الْحجر لَيْسَ عَلَيْكُم مؤنتها {وَلَا تمسوها بِسوء} بعقر {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} بعد ثَلَاثَة أَيَّام(1/187)
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
{فَعَقَرُوهَا} قتلوها قَتلهَا قدار بن سالف ومصدع بن زهر وقسموا لَحمهَا على ألف وَخَمْسمِائة دَار {فَقَالَ} لَهُم صَالح بعد قَتلهمْ لَهَا {تَمَتَّعُواْ} عيشوا {فِي دَارِكُمْ} فِي مدينتكم {ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} ثمَّ يأتيكم الْعَذَاب الْيَوْم الرَّابِع قَالُوا يَا صَالح مَا عَلامَة الْعَذَاب قَالَ أَن تصبحوا الْيَوْم الأول وُجُوهكُم مصفرة وتصبحوا الْيَوْم الثَّانِي وُجُوهكُم محمرة وتصبحوا الْيَوْم الثَّالِث وُجُوهكُم مسودة ثمَّ يأتيكم الْعَذَاب الْيَوْم الرَّابِع {ذَلِك} الْعَذَاب {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} غير مَرْدُود(1/188)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
{فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} عذابنا {نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ} بِنِعْمَة {مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} من عَذَاب يَوْمئِذٍ {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقوي} بنجاة أوليائه {الْعَزِيز} بنقمة أعدائه(1/188)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
{وَأَخَذَ الَّذين ظَلَمُواْ} أشركوا {الصَّيْحَة} الْعَذَاب {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ} مساكنهم {جَاثِمِينَ} ميتين لَا يتحركون أَي صَارُوا رَمَادا(1/188)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
{كَأَن لم يغنوا فِيهَا} كَأَن لم يَكُونُوا فِي الأَرْض قطّ {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ} قوم صَالح {كَفرُواْ رَبَّهُمْ} كفرُوا برَبهمْ {أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ} لقوم صَالح من رَحْمَة الله(1/188)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
{وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ} جِبْرِيل وَمن مَعَه من الْمَلَائِكَة اثْنَا عشر ملكا {إِبْرَاهِيمَ} إِلَى إِبْرَاهِيم {بالبشرى} بالبشارة لَهُ بِالْوَلَدِ {قَالُواْ سَلاَماً} سلمُوا على إِبْرَاهِيم حِين دخلُوا عَلَيْهِ {قَالَ سَلاَمٌ} رد عَلَيْهِم السَّلَام وَإِن قَرَأت سلم يَقُول أَمْرِي سلم من السَّلامَة {فَمَا لَبِثَ} مكث إِبْرَاهِيم {أَن جَآءَ بِعِجْلٍ} سمين {حَنِيذٍ} مشوي فَوَضعه بَين أَيْديهم(1/188)
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ} إِلَى طَعَامه لأَنهم لم يحتاجوا إِلَى طَعَام {نَكِرَهُمْ} أنكر مِنْهُم ذَلِك {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} وَقع فِي نَفسه خوفًا مِنْهُم وَظن أَنهم لصوص حَيْثُ لم يَأْكُلُوا من طَعَامه فَلَمَّا علمُوا خَوفه {قَالُواْ لاَ تَخَفْ} منا يَا إِبْرَاهِيم {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} لنهلكهم(1/188)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
{وَامْرَأَته} سارة {قَائِمَة} بِالْخدمَةِ {فَضَحكت} تعجبت من خوف إِبْرَاهِيم من أضيافه {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب} ولدا الْوَلَد فَضَحكت فَحَاضَت مقدم ومؤخر(1/188)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
{قَالَت يَا ويلتى أألد وَأَنَاْ عَجُوزٌ} بنت ثَمَان وَتِسْعين سنة للعجوز الْكَبِير ولد كَيفَ هَذَا {وَهَذَا بَعْلِي} زَوجي إِبْرَاهِيم {شَيْخاً} ابْن تسع وَتِسْعين سنة {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} عجب(1/188)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
{قَالُوا} لَهَا {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} من قدرَة الله {رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ} سعاداته {عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْت} يَا أهل بَيت إِبْرَاهِيم {إِنَّهُ حَمِيدٌ} بأعمالكم {مَّجِيدٌ} كريم يكرمكم بِولد صَالح(1/188)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع} الْخَوْف {وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى} الْبشَارَة بِالْوَلَدِ {يُجَادِلُنَا} يخاصمنا {فِي قَوْمِ لُوطٍ} فِي هَلَاك قوم لوط(1/188)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ} عَن الْجَهْل (أَوَّاهٌ) رَحِيم {منيب} مقبل إِلَى الله(1/188)
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
{يَا إِبْرَاهِيم أعرض عَن هَذَا} عَن جدالك هَذَا {إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ} عَذَاب رَبك بِهَلَاك قوم لوط {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ} يَأْتِيهم {عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} غير مَصْرُوف عَنْهُم(1/188)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
{وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا} جِبْرِيل وَمن مَعَه من الْمَلَائِكَة {لُوطاً} إِلَى لوط {سِيءَ بِهِمْ} سَاءَهُ مجيئهم {وَضَاقَ بِهِمْ} اغتم بمجيئهم {ذَرْعاً} اغتماماً شَدِيدا خَافَ عَلَيْهِم من صَنِيع قومه {وَقَالَ} فِي نَفسه(1/188)
{هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} شَدِيد عَليّ(1/189)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
{وَجَآءَهُ قَوْمُهُ} قوم لوط {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} يسرعون إِلَى دَاره ويهرولون هرولة {وَمِن قَبْلُ} أَي وَمن قبل مَجِيء جِبْرِيل {كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَات} عَمَلهم الْخَبيث {قَالَ} لَهُم لوط {يَا قوم هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} وَيُقَال بَنَات قومِي {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أَنا أزوجكم {فَاتَّقُواْ اللًّهَ} فاخشوا الله فِي الْحَرَام {وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} لَا تفضحوني فِي أضيافي {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} يدلهم على الصَّوَاب وَيَأْمُرهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر(1/189)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
{قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ} يَا لوط {مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} من حَاجَة {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} يعنون عَمَلهم الْخَبيث(1/189)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
{قَالَ} لوط فِي نَفسه {لَوْ أَنَّ لِي بكم قُوَّة} بِالْبدنِ وَالْولد {أَو آوي} أقدر أَن أرجع {إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} إِلَى عشيرة كَثِيرَة لمنعت نَفسِي مِنْكُم فَلَمَّا علم جِبْرِيل وَالْمَلَائِكَة خوف لوط من تهدد قومه(1/189)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
{قَالُوا يَا لوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ} بِالْهَلَاكِ نَحن نهلكهم {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} فسر بأهلك وَيُقَال أدْلج بهم {بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْل} فِي بعض من اللَّيْل آخر اللَّيْل عِنْد السحر {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ} لَا يتَخَلَّف مِنْكُم {أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتك} واعلة المنافقة {إِنَّهُ مُصِيبُهَا} سيصيبها {مَآ أَصَابَهُمْ} مَا يصيبهم من الْعَذَاب {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ} بِالْهَلَاكِ {الصُّبْح} عِنْد الصَّباح قَالَ لوط الْآن يَا جِبْرِيل قَالَ جِبْرِيل يَا لوط {أَلَيْسَ الصُّبْح بِقَرِيبٍ} لِأَنَّهُ رَآهُ وَلم ير لوط(1/189)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
{فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} عذابنا لهلاكهم {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} قلبناها وَجَعَلنَا أَسْفَلهَا أَعْلَاهَا وأعلاها أَسْفَلهَا {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} على شذاذها ومسافريها {حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} من سبخ ووحل مثل الْآجر وَيُقَال من سَمَاء الدُّنْيَا {مَّنْضُودٍ} متتابع بَعْضهَا على أثر بعض(1/189)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
{مُّسَوَّمَةً} مخططة بِالسَّوَادِ والحمرة وَالْبَيَاض وَيُقَال مَكْتُوب عَلَيْهَا اسْم من هلك بهَا {عِندَ رَبِّكَ} من عِنْد رَبك يَا مُحَمَّد تَأتي تِلْكَ الْحِجَارَة {وَمَا هِيَ} يَعْنِي الْحِجَارَة {مِنَ الظَّالِمين بِبَعِيدٍ} لم تخطهم بل أَصَابَتْهُم وَيُقَال مَا هِيَ من ظالمي أمتك بِبَعِيد من يَقْتَدِي بهم أَي يفعلهم(1/189)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
{وَإِلَى مَدْيَنَ} وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدين {أَخَاهُمْ} نَبِيّهم {شعيبا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله} وحدوا الله {مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَه غَيره} غير الَّذِي أَمركُم أَن تؤمنوا بِهِ {وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَال وَالْمِيزَان} أَي حُقُوق النَّاس بِالْكَيْلِ وَالْوَزْن {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} بسعة وَمَال وَرخّص السّعر {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إِن لم تؤمنوا بِهِ وَلم توفوا بِالْكَيْلِ وَالْوَزْن {عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} يُحِيط بكم وَلَا ينفلت مِنْكُم أحد من الْقَحْط والجدوبة وَغير ذَلِك(1/189)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
{وَيَا قوم أَوْفُواْ الْمِكْيَال وَالْمِيزَان} أَي أَتموا الْكَيْل وَالْوَزْن {بِالْقِسْطِ} بِالْعَدْلِ {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاس أَشْيَآءَهُمْ} لَا تنقصوا حُقُوق النَّاس بِالْكَيْلِ وَالْوَزْن {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْض مُفْسِدِينَ} لَا تعملوا فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ وبعبادة الْأَوْثَان وَدُعَاء النَّاس إِلَيْهَا وبخس الْكَيْل وَالْوَزْن(1/189)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
{بَقِيَّة الله} ثَوَاب الله على وَفَاء الْكَيْل وَالْوَزْن {خَيْرٌ لَّكُمْ} وَيُقَال مَا يبقي الله لكم من الْحَلَال خير لكم مِمَّا تبخسون بِالْكَيْلِ وَالْوَزْن {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} مُصدقين بِمَا أَقُول لكم {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} بكفيل أحفظكم لِأَنَّهُ لم يكن مَأْمُورا بقتالهم(1/189)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
{قَالُوا يَا شُعَيْب أصلاتك} كَثْرَة صلواتك {تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}(1/189)
من الْأَوْثَان {أَوْ أَن نَّفْعَلَ} لَا نَفْعل {فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} من البخس فِي الْكَيْل وَالْوَزْن {إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيم الرشيد} السَّفِيه الضال استهزاء بِهِ(1/190)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
{قَالَ يَا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ} يَقُول إِنِّي {على بَيِّنَةٍ من رَبِّي} على بَيَان نزل من رَبِّي {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رزقا حسنا} أكرمني بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام وَأَعْطَانِي مَالا حَلَالا {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} يَقُول مَا أُرِيد أَن أفعل مَا أنهاكم عَنهُ من البخس فِي الْكَيْل وَالْوَزْن {إِنْ أُرِيدُ} مَا أُرِيد {إِلاَّ الْإِصْلَاح} الْعدْل بِالْكَيْلِ وَالْوَزْن {مَا اسْتَطَعْت وَمَا توفيقي} بوفاء الْكَيْل وَالْوَزْن {إِلاَّ بِاللَّه} من الله {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فوضت أَمْرِي إِلَيْهِ {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أقبل(1/190)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
{وَيَا قوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لَا يحملنكم {شقاقي} بغضي وعداوتي حَتَّى لَا تؤمنوا وَلَا تؤفوا بِالْكَيْلِ وَالْوَزْن {أَن يُصِيبَكُم} فيصيبكم {مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} يَعْنِي عَذَاب قوم نوح من الْغَرق والطوفان {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} الْهَلَاك بِالرِّيحِ {أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} الصَّيْحَة {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ} مَا خبر قوم لوط {مِّنكُم بِبَعِيدٍ} قد بَلغَكُمْ مَا أَصَابَهُم(1/190)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
{وَاسْتَغْفرُوا رَبَّكُمْ} وحدوا ربكُم {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أَقبلُوا إِلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِخْلَاص {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ} بِعبَادة الْمُؤمنِينَ {وَدُودٌ} متودد إِلَيْهِم بالمغفرة وَالثَّوَاب وَيُقَال محب لَهُم ويحببهم إِلَى الْخلق وَيُقَال يحبب إِلَيْهِم طَاعَته(1/190)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
{قَالُوا يَا شُعَيْب مَا نَفْقَهُ} مَا نعقل {كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} مِمَّا تَأْمُرنَا {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} ضَرِير الْبَصَر {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ} قَوْمك {لَرَجَمْنَاكَ} لقتلناك {وَمَآ أَنْت علينا بعزيز} كريم(1/190)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
{قَالَ يَا قوم أرهطي} قومِي {أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله} من كِتَابه وَدينه وَيُقَال عُقُوبَة رهطي أَشد عَلَيْكُم من عُقُوبَة الله {واتخذتموه} نبذتموه {وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} خلف ظهركم مَا جِئْت بِهِ من الْكتاب {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ} بعقوبة مَا تَعْمَلُونَ {مُحِيطٌ} عَالم(1/190)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
{وَيَا قوم اعْمَلُوا على مَكَانَتِكُمْ} على دينكُمْ فِي مَنَازِلكُمْ بهلاكي {إِنِّي عَامِلٌ} بِهَلَاكِكُمْ {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ} إِلَى من يَأْتِيهِ {عَذَابٌ يُخْزِيهِ} يذله ويهلكه {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} على الله {وارتقبوا} انتظروا لهلاكي {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} منتظر لهلاككم(1/190)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} عذابنا {نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} بِنِعْمَة منا {وَأَخَذَتِ الَّذين ظَلَمُواْ} أشركوا يَعْنِي قوم شُعَيْب {الصَّيْحَة} بِالْعَذَابِ {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ} فصاروا فِي مساكنهم {جَاثِمِينَ} ميتين رَمَادا(1/190)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
{كَأَن لم يغنوا فِيهَا} كَأَن لم يَكُونُوا فِي الأَرْض قطّ {أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ} لقوم شُعَيْب من رَحْمَة الله {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} قوم صَالح من رَحْمَة الله وَكَانَ عَذَاب قوم صَالح وَقوم شُعَيْب سَوَاء كِلَاهُمَا كَانَ الصَّيْحَة بِالْعَذَابِ أَصَابَهُم حر شَدِيد وَقوم صَالح أَتَاهُم من تَحت أَرجُلهم الْعَذَاب وَقوم شُعَيْب أَتَاهُم من فَوق رؤوسهم الْعَذَاب(1/190)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} التسع {وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} حجَّة بَيِّنَة والآيات هِيَ حجَّة بَيِّنَة(1/191)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} رؤسائه {فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} وَتركُوا قَول مُوسَى {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ} قَول فِرْعَوْن {بِرَشِيدٍ} بصواب(1/191)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ} يتَقَدَّم ويقود قومه {يَوْمَ الْقِيَامَة فَأَوْرَدَهُمُ النَّار} فأدخلهم النَّار {وَبِئْسَ الْورْد المورود} بئس الْمدْخل فِرْعَوْن وَبئسَ الْمدْخل قومه وَيُقَال بئس الدَّاخِل فِرْعَوْن وَبئسَ الْمدْخل قومه وَيُقَال بئس الدَّاخِل فِرْعَوْن وَقَومه وَبئسَ الْمدْخل النَّار(1/191)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
{وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِه لَعْنَةً} أهلكوا فِي هَذِه الدُّنْيَا بِالْغَرَقِ {وَيَوْمَ الْقِيَامَة} لَهُم لعنة أُخْرَى وَهِي النَّار {بِئْسَ الرفد المرفود} يَقُول بئس الْغَرق ورفده النَّار وَيُقَال بئس العون وَبئسَ المعان(1/191)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
{ذَلِكَ} الَّذِي ذكرت {مِنْ أَنْبَآءِ الْقرى} فِي الدُّنْيَا من أَخْبَار الْقرى الْمَاضِيَة {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} ننزل عَلَيْك جِبْرِيل بأخبارها {مِنْهَا قَآئِمٌ} ينظر إِلَيْهَا قد باد أَهلهَا {وَحَصِيدٌ} مِنْهَا مَا قد خرب وَهلك أَهلهَا(1/191)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بإهلاكهم {وَلَكِن ظلمُوا أَنفُسَهُمْ} بالْكفْر والشرك وَعبادَة الْأَوْثَان {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ} يعْبدُونَ {مِن دُونِ الله} من عَذَاب الله {مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ} حِين جَاءَ عَذَاب رَبك {وَمَا زَادُوهُمْ} عبَادَة الْأَوْثَان {غَيْرَ تَتْبِيبٍ} غير تخسير(1/191)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} عَذَاب رَبك {إِذَا أَخَذَ الْقرى} عذب أهل الْقرى {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} مُشركَة كَافِرَة {إِنَّ أَخْذَهُ} عَذَابه {أَلِيمٌ} وجيع {شَدِيدٌ}(1/191)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
{إِنَّ فِي ذَلِك} فِيمَا ذكرت لَك {لآيَةً} لعبرة {لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَة} فَلَا يَقْتَدِي بهم {ذَلِك} يَوْم الْقِيَامَة {يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاس} يجمع فِيهِ الْأَولونَ وَالْآخرُونَ {وَذَلِكَ يَوْمٌ مشهود} شهده أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض(1/191)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
{وَمَا نُؤَخِّرُهُ} يَعْنِي ذَلِك الْيَوْم {إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} لوقت مَعْلُوم(1/191)
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
{يَوْمَ يَأْتِ} ذَلِك الْيَوْم {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} لَا تشفع نفس صَالِحَة لأحد {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} بأَمْره {فَمنهمْ} من النَّاس يؤمئذ {شَقِيٌّ} قد كتب عَلَيْهِ الشقاوة {وَسَعِيدٌ} قد كتب لَهُ السَّعَادَة(1/191)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
{فَأَمَّا الَّذين شَقُواْ} كتب عَلَيْهِم الشقاوة {فَفِي النَّار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} صَوت كزفير الْحمار فِي صَدره وَهُوَ أول مَا ينهق {وَشَهِيقٌ} كشهيق الْحمار فِي حلقه وَهُوَ آخر مَا يفرغ من نهيقه(1/191)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
{خَالِدِينَ فِيهَا} دائمين فِي النَّار {مَا دَامَتِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} إِلَّا مَا شَاءَ رَبك السَّمَوَات وَالْأَرْض مُنْذُ خلقت كدوام رَبك وَقد يَشَاء رَبك أَن يخلدوا فِي النَّار وَيُقَال يخلد من كتب عَلَيْهِ الشقاوة مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَبَنُو آدم إِلَّا مَا شَاءَ رَبك أَن يحوله من الشقاوة إِلَى السَّعَادَة بقوله يمحوا الله مَا يَشَاء وَيثبت وَيُقَال يكونُونَ دائمين فِي النَّار مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض سَمَاء النَّار وَأَرْض النَّار إِلَّا مَا شَاءَ رَبك أَن يخرجهم من أهل التَّوْحِيد من كَانَت شقاوته بذنب دون الْكفْر فيدخله الْجنَّة بإيمانه خَالِصا {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} كَمَا يُرِيد(1/191)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
{وَأَمَّا الَّذين سُعِدُواْ} كتب لَهُم السَّعَادَة {فَفِي الْجنَّة خَالِدِينَ فِيهَا} دائمين فِي الْجنَّة {مَا دَامَتِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} كدوام السَّمَوَات وَالْأَرْض مُنْذُ خلقنَا {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} وَقد شَاءَ رَبك أَن يحوله من السَّعَادَة إِلَى الشقاوة لقَوْله يمحو الله مَا يَشَاء من السَّعَادَة إِلَى الشقاوة وَيثبت وَيتْرك وَيُقَال يكونُونَ فِي الْجنَّة دائمين مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض سَمَاء الْجنَّة وَأَرْض الْجنَّة إِلَّا مَا شَاءَ رَبك أَن يعذبه فِي النَّار قبل أَن يدْخلهُ الْجنَّة ثمَّ يُخرجهُ من النَّار ويدخله الْجنَّة فَيكون بعد ذَلِك دَائِما فِي الْجنَّة {عَطَآءً} ثَوابًا لَهُم {غَيْرَ مَجْذُوذٍ} غير مَنْقُوص وَغير مَقْطُوع(1/191)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
{فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} فِي شكّ {مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} أهل مَكَّة(1/191)
{مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ} من قبلهم وهلكوا على ذَلِك {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} عقوبتهم {غَيْرَ مَنقُوصٍ} وَيُقَال نزلت هَذِه الْآيَة وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ فِي الْقَدَرِيَّة(1/192)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
{وَلَقَد آتَيْنَا} أعطينا {مُوسَى الْكتاب} يَعْنِي التَّوْرَاة {فَاخْتلف فِيهِ} فِي كتاب مُوسَى آمن بِهِ بعض وَكفر بِهِ بعض {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ} وَجَبت {مِن رَّبِّكَ} بِتَأْخِير الْعَذَاب عَن أمتك {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} لفرغ من هلاكهم ولجاءهم الْعَذَاب {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} ظَاهر الشَّك(1/192)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
{وَإِنَّ كُلاًّ} كلا الْفَرِيقَيْنِ {لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} يَقُول يوفرهم {رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} ثَوَاب أَعْمَالهم بالْحسنِ حسنا وبالسيء سَيِّئًا {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب {خَبِيرٌ}(1/192)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
{فاستقم} على طَاعَة الله {كَمَآ أُمِرْتَ} فِي الْقُرْآن {وَمَن تَابَ مَعَكَ} من الْكفْر والشرك أَيْضا فليستقم مَعَك {وَلاَ تَطْغَوْاْ} لَا تكفرُوا وَلَا تعصوا بِمَا فِي الْقُرْآن من الْحَلَال وَالْحرَام {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر {بَصِير}(1/192)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
{وَلاَ تركنوا} لَا تميلوا {إِلَى الَّذين ظَلَمُواْ} أنفسهم بالْكفْر والشرك والمعاصي {فَتَمَسَّكُمُ} فتصيبكم {النَّار} كَمَا تصيبهم {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله} من عَذَاب الله {مِنْ أَوْلِيَآءَ} من أقرباء تحفظكم من عَذَاب الله {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} لَا تمْنَعُونَ مِمَّا يُرَاد بكم(1/192)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
{وَأَقِمِ الصَّلَاة} أتم الصَّلَاة {طَرَفَيِ النَّهَار} صَلَاة الغذاة وَالظّهْر وَيُقَال صَلَاة الْغَدَاة وَالظّهْر وَالْعصر {وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْل} دُخُول اللَّيْل صَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء {إِنَّ الْحَسَنَات} الصَّلَوَات الْخمس {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} يكفرن السَّيِّئَات دون الْكَبَائِر وَيُقَال سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر {ذَلِك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} تَوْبَة للتائبين وَيُقَال كَفَّارَات لذنوب التائبين نزلت فِي شَأْن رجل تمار يُقَال لَهُ أَبُو الْيُسْر بن عَمْرو(1/192)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
{واصبر} يَا مُحَمَّد على مَا أمرت وعَلى أذاهم {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ} لَا يبطل {أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ثَوَاب الْمُؤمنِينَ الْمُحْسِنِينَ بالْقَوْل وَالْفِعْل(1/192)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُون} يَقُول لم يكن من الْقُرُون الْمَاضِيَة {مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ} من الْمُؤمنِينَ {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفساد فِي الأَرْض} عَن الْكفْر والشرك وَعبادَة الْأَوْثَان وَسَائِر الْمعاصِي {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} من الْمُؤمنِينَ {وَاتبع الَّذين ظَلَمُواْ} اشْتغل الَّذين أشركوا ب {مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ} بِمَا نعموا فِيهِ فِي الدُّنْيَا من المَال {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} مُشْرِكين(1/192)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ} أهل {الْقرى بِظُلْمٍ} مِنْهُم {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} فِيهَا من يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر وَيُقَال وَمَا كَانَ رَبك ليهلك الْقرى بظُلْم مِنْهُ وَأَهْلهَا مصلحون مقيمون على الطَّاعَة مستمسكون بهَا(1/192)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاس أُمَّةً وَاحِدَةً} لجمعهم على مِلَّة وَاحِدَة مِلَّة الْإِسْلَام {وَلاَ يَزَالُونَ} وَلَكِن لَا يزالون {مُخْتَلِفِينَ} فِي الدّين وَالْبَاطِل(1/192)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ} عصم {رَبُّكَ} من الْبَاطِل والأديان الْمُخْتَلفَة وهم الْمُؤْمِنُونَ {وَلذَلِك خَلَقَهُمْ} للرحمة خلق أهل الرَّحْمَة وللاختلاف خلق أهل الِاخْتِلَاف {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} وَجب قَول رَبك {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجنَّة وَالنَّاس} من كفار الْجِنّ وَالْإِنْس {أجْمَعِينَ}(1/192)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ} كَمَا بيّنت لَك(1/192)
{مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُل} أَخْبَار الرُّسُل {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} لكَي نطيب بِهِ قَلْبك أَنه قد فعل بغيرك من الْأَنْبِيَاء مَا فعل بك {وَجَآءَكَ فِي هَذِه} السُّورَة {الْحق} خبر الْحق {وَمَوْعِظَةٌ} من الْمعاصِي {وذكرى} عظة {لِلْمُؤْمِنِينَ}(1/193)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121)
{وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} بِاللَّه وباليوم الآخر وبالملائكة وبالكتب وبالنبيين {اعْمَلُوا على مَكَانَتِكُمْ} على دينكُمْ فِي مَنَازِلكُمْ بهلاكي {إِنَّا عَامِلُونَ} فِي هلاككم(1/193)
وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
{وَانْتَظرُوا} هلاكي {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} هلاككم(1/193)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
{وَللَّه غيب السَّمَاوَات وَالْأَرْض} مَا غَابَ عَن الْعباد {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمر} وَإِلَى الله يرجع أَمر الْعباد {كُلُّهُ} فِي الْآخِرَة {فاعبده} فأطعه {وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} ثق بِهِ {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} من الْمعاصِي وَيُقَال بتارك عُقُوبَة مَا تَعْمَلُونَ كَمَا لم يغْفل
وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا يُوسُف وَهِي كلهَا مَكِّيَّة آياتها مائَة وَإِحْدَى عشرَة وكلماتها ألف وَسَبْعمائة وست وَسَبْعُونَ وحروفها سَبْعَة آلَاف وَمِائَة وست وَتسْعُونَ
tit/2 {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {/tit(1/193)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {الر} يَقُول أَنا الله أرى مَا تَقولُونَ وَمَا تَعْمَلُونَ وَأَن مَا يقْرَأ عَلَيْكُم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ كَلَامي وَيُقَال قسم أقسم بِهِ {تِلْكَ آيَاتُ الْكتاب الْمُبين} إِن هَذِه السُّورَة آيَات الْقُرْآن الْمُبين الْحَلَال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي(1/193)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
{إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} يَقُول إِنَّا أنزلنَا جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ على مُحَمَّد على مجْرى اللُّغَة الْعَرَبيَّة {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكَي تعقلوا مَا أمرْتُم بِهِ وَمَا نهيتم عَنهُ(1/193)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} نبين لَك {أَحْسَنَ الْقَصَص} أحسن الْخَبَر من أَخْبَار يُوسُف وَإِخْوَته {بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} بِالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك جِبْرِيل بِهِ {هَذَا الْقُرْآن} فِي هَذَا الْقُرْآن {وَإِن كُنتَ} وَقد كنت {مِن قَبْلِهِ} من قبل نزُول جِبْرِيل عَلَيْك بِالْقُرْآنِ {لَمِنَ الغافلين} عَن خبر يُوسُف وَإِخْوَته(1/193)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
{إِذْ قَالَ} قد قَالَ {يُوسُف لِأَبِيهِ يَا أَبَت إِنِّي رَأَيْتُ} فِي مَنَام النَّهَار {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} نَزَلْنَ من أماكنهن وسجدن لي سَجْدَة التَّحِيَّة وهم إخْوَته أحد عشر أَخا {وَالشَّمْس وَالْقَمَر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} يَقُول رَأَيْت الشَّمْس وَالْقَمَر نزلا من أمكنتهما وَسجدا لي سَجْدَة التَّحِيَّة وهما أَبَوَاهُ راحيل وَيَعْقُوب(1/193)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
{قَالَ} يَعْقُوب ليوسف فِي السِّرّ {يَا بني} إِذا رَأَيْت رُؤْيا بعد هَذَا {لاَ تَقْصُصْ} لَا تخبر {رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ} لإخوتك {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً} فيحتالوا لَك حِيلَة يكون فِيهَا هلاكك {إِنَّ الشَّيْطَان لِلإِنْسَانِ} لبني آدم {عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظَاهر الْعَدَاوَة يحملهم على الْحَسَد(1/193)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
{وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {يَجْتَبِيكَ} يصطفيك {رَبُّكَ} بِالنُّبُوَّةِ {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيث} من تَعْبِير الرُّؤْيَا {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام أَي يُمِيتك على ذَلِك(1/193)
{وعَلى آلِ يَعْقُوبَ} بك وَيتم نعْمَته على أَوْلَاد يَعْقُوب بك {كَمَآ أَتَمَّهَآ} نعْمَته بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ} من قبلك {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} بنعمته {حَكِيمٌ} بإتمامها وَيُقَال عليم برؤياك حَكِيم بِمَا يصيبك(1/194)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
{لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ} فِي خبر يُوسُف {وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ} عبرات {لِّلسَّائِلِينَ} عَن خبرهم نزلت هَذِه الْآيَة فِي حبر من الْيَهُود(1/194)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
{إِذْ قَالُواْ} إخْوَة يُوسُف بَعضهم لبَعض {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} بنيامين {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا} آثر عِنْده {مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} عشرَة {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} فِي خطأ بَين فِي حب يُوسُف واختياره علينا(1/194)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
ثمَّ قَالَ بَعضهم لبَعض {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً} فِي جب {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} يَقُول يقبل عَلَيْكُم أبوكم بِوَجْهِهِ {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ} من بعد قَتله {قَوْماً صَالِحِينَ} تَائِبين من قَتله وَيُقَال صلحت حالكم مَعَ أبيكم(1/194)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
{قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ} من إخْوَة يُوسُف وَهُوَ يهوذا لإخوته {لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ} وَلَكِن اطرحوه {فِي غَيَابَةِ الْجب} فِي أَسْفَل الْجب وَيُقَال فِي ظلمته {يَلْتَقِطْهُ} يرفعهُ {بَعْضُ السيارة} مارى الطَّرِيق من الْمُسَافِرين {إِن كُنْتُم فاعلين} بِهِ أمرا ثمَّ جَاءُوا إِلَى أَبِيهِم(1/194)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)
{قَالُوا} لأبيهم {يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} حافظون(1/194)
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ} يذهب وَيَجِيء وينشط {وَيَلْعَبْ} يَله {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} مشفقون(1/194)
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
{قَالَ} أبوهم {إِنِّي ليحزنني أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} فَلَا أرَاهُ {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْب} لِأَنَّهُ رأى فِي مَنَامه أَن ذئباً يشْتَد عَلَيْهِ فَمن ذَلِك قَالَ وأخاف أَن يَأْكُلهُ الذِّئْب {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} باللعب وَيُقَال مشغولون بعملكم(1/194)
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
{قَالُواْ} لأبيهم {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} عشرَة {إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} لعاجزون وَيُقَال مغبونون بترك حُرْمَة الْوَالِد وَالْأَخ(1/194)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} بعد مَا أذن لَهُم بذهابه {وَأَجْمعُوا أَن يَجْعَلُوهُ} يَقُول اجْتَمعُوا على أَن يطرحوه {فِي غَيَابَةِ الْجب} فِي أَسْفَل الْجب {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ} إِلَى يُوسُف أرسلنَا إِلَيْهِ جِبْرِيل وَيُقَال ألهمه {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ} لتخبرنهم يَا يُوسُف {بِأَمْرِهِمْ} بصنيعهم {هَذَا} بك {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} وهم لَا يعلمُونَ أَنَّك يُوسُف حَتَّى تخبرهم وَيُقَال لَا يعلمُونَ بوحينا إِلَى يُوسُف(1/194)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)
{وجاؤوا أَبَاهُمْ} إِلَى أَبِيهِم {عِشَآءً} بعد الظّهْر {يَبْكُونَ} على يُوسُف(1/194)
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} ننتضل ونصطاد {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْد متاعنا} ليحفظ {فَأَكَلَهُ الذِّئْب} كَمَا قلت {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ} بمصدق {لنا وَلَو كُنَّا} وَإِن كُنَّا {صَادِقين} فِي قَوْلنَا(1/194)
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
{وجاؤوا على قَمِيصِهِ} لطخوا على قَمِيصه(1/194)
{بِدَمٍ كَذِبٍ} دم جدي وَيُقَال طري إِن قَرَأت بِالدَّال {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ} زينت {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} فِي هَلَاك يُوسُف ففعلتم {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} فعلى صَبر جميل بِلَا جزع {وَالله الْمُسْتَعَان} مِنْهُ أستعين {على مَا تَصِفُونَ} على صبري على مَا تَقولُونَ من هَلَاكه وَلم يُصدقهُمْ فِي قَوْلهم لأَنهم قَالُوا مرّة أُخْرَى قبل هَذَا قَتله اللُّصُوص(1/195)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} قافلة من الْمُسَافِرين من قبل مَدين يُرِيدُونَ مصر فتحيروا فِي الطَّرِيق فأخطئوا الطَّرِيق فَجعلُوا يهيمون فِي الأَرْض حَتَّى وَقَعُوا فِي الْأَرَاضِي الَّتِي فِيهَا الْجب وَهِي أَرض دوثن بَين مَدين ومصر فنزلوا عَلَيْهِ {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} فَأرْسل كل قوم طَالب المَاء وَهُوَ ساقيهم فَوَافَقَ جب يُوسُف مَالك بن دعر رجل من الْعَرَب من أهل مَدين ابْن أخي شُعَيْب النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام {فأدلى دَلْوَهُ} فَأرْخى دلوه فِي جب يُوسُف فَتعلق يُوسُف بِهِ فَلم يقدر على نَزعه من الْبِئْر فَنظر فِيهِ فَرَأى غُلَاما قد تعلق بالدلو فَنَادَى أَصْحَابه {قَالَ يَا بشرى} هَذَا بشراي يَا أَصْحَابِي قَالُوا مَا ذَلِك يَا مَالك قَالَ {هَذَا غُلاَمٌ} أحسن مَا يكون من الغلمان فَاجْتمعُوا عَلَيْهِ فأخرجوه من الْجب {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} وكتموه من الْقَوْم وَقَالُوا لقومهم هَذِه بضَاعَة استبضعها أهل المَاء لنبيعه لَهُم بِمصْر {وَالله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} بِيُوسُف يَعْنِي إخْوَة يُوسُف وَيُقَال أهل الْقَافِلَة(1/195)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
{وَشَرَوْهُ} باعوه إخْوَته من مَالك بن دعر {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} نُقْصَان بِالْوَزْنِ وَيُقَال زيوف وَيُقَال حرَام {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} عشْرين درهما وَيُقَال اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ درهما {وَكَانُواْ فِيهِ} فِي ثمن يُوسُف {مِنَ الزاهدين} لم يحتاجوا إِلَيْهِ وَيُقَال كَانَ إخْوَة يُوسُف فِي يُوسُف من الزاهدين لم يعرفوا قدره ومنزلته عِنْد الله تَعَالَى وَيُقَال كَانَ أهل الْقَافِلَة فِي يُوسُف من الزاهدين(1/195)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ} اشْترى يُوسُف {مِن مِّصْرَ} فِي مصر وَهُوَ الْعَزِيز خَازِن الْملك وَهُوَ صَاحب جُنُوده وَكَانَ يُسمى قطفير {لاِمْرَأَتِهِ} زليخا {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} قدره ومنزلته {عَسى أَن يَنفَعَنَآ} فِي ضيعتنا {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} أَو نتبناه وَكَانَ اشْتَرَاهُ من مَالك بن دعر بِعشْرين درهما وحلة ونعلين {وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} ملكنا يُوسُف {فِي الأَرْض} أَرض مصر {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيث} تَعْبِير الرُّؤْيَا {وَالله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} على مقدوره وَلَا يرد مقدوره أحد {وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاس} أهل مصر {لاَ يَعْلَمُونَ} ذَلِك وَلَا يصدقون وَيُقَال لَا يعلمُونَ أَن الله غَالب على أمره(1/195)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} والأشد من ثَمَان عشرَة سنة إِلَى ثَلَاثِينَ سنة {آتَيْنَاهُ} أعطيناه {حُكْماً وَعِلْماً} فهما ونبوة {وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} بالْقَوْل وَالْفِعْل بِالْعلمِ وَالْحكمَة(1/195)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
{وَرَاوَدَتْهُ} طلبته {الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} أَن تستمكن من نَفسه {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَاب} عَلَيْهَا وعَلى يُوسُف {وَقَالَتْ} ليوسف {هَيْتَ لَكَ} هَلُمَّ أَنا لَك وَيُقَال تَعَالَى أَنا لَك وَيُقَال تهيأت لَك مَعْنَاهُ إِن قَرَأت بِنصب الْهَاء وَالتَّاء هَلُمَّ لَك وَإِن قَرَأت بِكَسْر الْهَاء وَضم التَّاء والهمزة تهيأت لَك وَإِن قَرَأت بِنصب الْهَاء وَرفع التَّاء تَعَالَى أَنا لَك {قَالَ} يُوسُف {مَعَاذَ الله} أعوذ بِاللَّه من هَذَا الْأَمر {إِنَّهُ رَبِّي} سَيِّدي الْعَزِيز {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} قدري ومنزلتي لَا أخونه فِي أَهله {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} لَا يَأْمَن وَلَا ينجو {الظَّالِمُونَ} الزانون من عَذَاب الله(1/195)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} الْمَرْأَة {وَهَمَّ بِهَا} يُوسُف {لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} عَذَاب ربه لَازِما على نَفسه وَيُقَال رأى صُورَة أَبِيه وَيُقَال لَوْلَا أَن رأى برهَان ربه لَهُم مقدم ومؤخر {كَذَلِك} هَكَذَا {لنصرف عَنهُ السوء} الْقَبِيح {والفحشآء} يَعْنِي الزِّنَا {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} المعصومين من الزِّنَا(1/195)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
{واستبقا الْبَاب} تبادرا إِلَى الْبَاب أَرَادَ يُوسُف ليخرج وأرادت الْمَرْأَة لتغلق الْبَاب على يُوسُف فسبقته الْمَرْأَة {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ} شقَّتْ قَمِيص يُوسُف نِصْفَيْنِ {مِن دُبُرٍ} من الْخلف من وَسطه إِلَى قَدَمَيْهِ {وَأَلْفَيَا} ووجدا {سَيِّدَهَا} زوج الْمَرْأَة وَيُقَال ابْن عَمها {لَدَى الْبَاب} عِنْد الْبَاب {قَالَتْ} الْمَرْأَة لزَوجهَا {مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بأهلك سوءا} زنا {إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أَو يضْرب ضربا وجيعاً(1/195)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
{قَالَ} يُوسُف {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} هِيَ دعتني وَطلبت أَن تستمكن من نَفسِي {وَشَهِدَ شَاهِدٌ} حكم حَاكم {مِّنْ أَهْلِهَآ} وَهُوَ أَخُوهَا وَيُقَال ابْن عَمها(1/195)
{إِن كَانَ قَمِيصُهُ} قَمِيص يُوسُف {قُدَّ} شقّ {مِن قُبُلٍ} من قُدَّام {فَصَدَقَتْ} الْمَرْأَة {وَهُوَ من الْكَاذِبين}(1/196)
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ} شقّ {مِن دُبُرٍ} من خلف {فَكَذَبَتْ} الْمَرْأَة {وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} فِي قَوْله إِنَّهَا راودتني(1/196)
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ} شقّ {مِن دُبُرٍ} من خلف {قَالَ} أَخُوهَا {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ} من مكركن وصنيعكن {إِنَّ كَيْدَكُنَّ} مكركن وصنيعكن {عَظِيمٌ} يخلص إِلَى البريء والسقيم(1/196)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
ثمَّ قَالَ أَخُوهَا ليوسف {يُوسُفُ} يَعْنِي يَا يُوسُف {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} الْأَمر وَلَا تخبر أحدا ثمَّ أعرض إِلَى الْمَرْأَة وَقَالَ {واستغفري لِذَنبِكِ} استحلي واعتذري إِلَى زَوجك من سوء صنيعك أيتها الْمَرْأَة {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} من الخائنين لزوجك فَفَشَا أَمرهمَا بعد ذَلِك فِي الْمَدِينَة(1/196)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَة} وَهن أَربع نسْوَة امْرَأَة ساقي الْملك وَامْرَأَة صَاحب سجنه وَامْرَأَة صَاحب مطبخه وَامْرَأَة صَاحب دوابه {امْرَأَة الْعَزِيز} زليخا {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} تَدْعُو عَبدهَا أَن يستمكنها {عَن نَّفْسِهِ} من نَفسه {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} قد شقّ شغَاف قَلبهَا حب يُوسُف وَيُقَال بَطنهَا حب يُوسُف إِن قَرَأت بالشين وَالْعين {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} فِي خطأ بَين فِي حب عَبدهَا يُوسُف(1/196)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} بقولهن {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} ودعتهن إِلَى الضِّيَافَة {وأعتدت لَهُنَّ متكأ} وسائد يتكئن عَلَيْهَا إِن قُرِئت مُشَدّدَة وَإِن قُرِئت مُخَفّفَة يَقُول أترنجة وَجَاءَت بِاللَّحْمِ وَالْخبْز فَوَضَعته بَين أَيْديهم {وَآتَتْ} أَعْطَتْ {كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً} تقطع بهَا اللَّحْم لأَنهم كَانُوا لَا يَأْكُلُون من اللَّحْم إِلَّا مَا يقطعون بسكاكينهم {وَقَالَتِ} زليخا ليوسف {اخْرُج عَلَيْهِنَّ} يايوسف {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أعظمنه {وَقَطَّعْنَ} خدشن وخمشن {أَيْدِيَهُنَّ} بالسكين من الدهشة والتحير مِمَّا رأين من حسن يُوسُف {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} معَاذ الله {مَا هَذَا بشرا} آدَمِيًّا {إِن هَذَا} مَا هَذَا {إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} على ربه(1/196)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
{قَالَتْ} زليخا لَهُنَّ {فذلكن الَّذِي لُمْتُنَّنِي} عذلتنني وعيبتنني {فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} دَعوته إِلَى نَفسِي وطلبته لأستمكن من نَفسه {فاستعصم} فَامْتنعَ عني بالعفة {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمره ليسجنن} فِي السجْن {وليكونن مِّن الصاغرين} من الذليلين فِيهِ وقلن هَؤُلَاءِ النسْوَة ليوسف أطع مولاتك(1/196)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
{قَالَ} يُوسُف {رَبِّ} يَا رب {السجْن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} من الزِّنَا {وَإِلاَّ تَصْرِفْ} إِن لم تصرف {عَنِّي كَيْدَهُنَّ} مكرهن {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أمل إلَيْهِنَّ {وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلين} بنعمتك وَيُقَال من الزانين(1/196)
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
{فَاسْتَجَاب لَهُ رَبُّهُ} دَعوته {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} مكرهن {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيع} للدُّعَاء {الْعَلِيم} بالإجابة وَيُقَال السَّمِيع لمقالتهن الْعَلِيم بمكرهن(1/196)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ} ظهر لَهُم يَعْنِي للعزيز {مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الْآيَات} شقّ الْقَمِيص وَقَضَاء أَخِيهَا {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} إِلَى سِنِين وَيُقَال إِلَى حِين يقطع مقَالَة النَّاس(1/196)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
{وَدَخَلَ مَعَهُ السجْن} بعد دُخُوله إِلَى خمس سِنِين {فَتَيَانَ} عَبْدَانِ للْملك صَاحب شرابه وَصَاحب مطبخه غضب عَلَيْهِمَا وأدخلهما السجْن {قَالَ أَحَدُهُمَآ} وَهُوَ الساقي {إِنِّي أَرَانِي} رَأَيْت نَفسِي {أَعْصِرُ خَمْراً} عنباً وأسقي الْملك وَكَانَ رُؤْيَاهُ أَنه رأى فِي مَنَامه كَأَنَّهُ يدْخل كرماً فَرَأى فِي الْكَرم حبلة حَسَنَة فِيهَا ثَلَاث قضبان وعَلى القضبان عناقيد الْعِنَب فاجتنى الْعِنَب فعصره وناوله الْملك فَقَالَ لَهُ يُوسُف أحسن مَا رَأَيْت أما الْكَرم فَهُوَ الْعَمَل الَّذِي كنت فِيهِ وَأما الحبلة فَهِيَ سلطانك على ذَلِك وَأما حسنها فَهُوَ عزك وكرامتك فِي ذَلِك الْعَمَل وَأما ثَلَاثَة قضبان على الحبلة فَهِيَ ثَلَاثَة أَيَّام تكون فِي السجْن فَتخرج فتعود إِلَى عَمَلك وَأما الْعِنَب الَّذِي عصرت وناولت الْملك فَهُوَ أَن يردك إِلَى عَمَلك ويكرمك وَيحسن إِلَيْك(1/196)
{وَقَالَ الآخر} وَهُوَ الخباز {إِنِّي أَرَانِي} رَأَيْت نَفسِي {أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ} وَكَانَ رُؤْيَاهُ أَنه رأى فِي مَنَامه كَأَنَّهُ يخرج من مطبخ الْملك وعَلى رَأسه ثَلَاث سلال من الْخبز فَوَقع طير على أَعْلَاهَا وَأكل مِنْهَا فَقَالَ لَهُ يُوسُف بئس مَا رَأَيْت أما خُرُوجك من المطبخ فَهُوَ أَن تخرج من عَمَلك وَأما ثَلَاث سلال فَهِيَ ثَلَاثَة أَيَّام تكون فِي السجْن وَأما أكل الطير من رَأسك فَهُوَ أَن يخْرجك الْملك بعد ثَلَاثَة أَيَّام ويصلبك وتأكل الطير من رَأسك وَقَالَ قبل تَعْبِيره {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} أخبرنَا بِتَأْوِيل رؤيانا {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} إِلَى أهل السجْن وَيُقَال من الصَّادِقين فِيمَا تَقول(1/197)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
{قَالَ} لَهما يُوسُف وَأَرَادَ أَن يعلمهما علمه بتعبير الرُّؤْيَا {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} تطعمانه {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} بلونه وجنسه {قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} كَيفَ لَا أعلم تَعْبِير رؤياكما {ذلكما} التَّعْبِير {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ} لم أتبع دين قوم {لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَهُمْ بِالآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {هُمْ كافرون} جاحدون(1/197)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
{وَاتَّبَعت مِلَّةَ آبآئي} اسْتَقَمْت على دين آبَائِي {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ} مَا جَازَ لنا {أَن نُّشْرِكَ بِاللَّه مِن شَيْءٍ} شيأ من الْأَصْنَام {ذَلِك} الدّين الْقيم النُّبُوَّة وَالْإِسْلَام اللَّذَان أكرمنا الله بهما {مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا} منّ من الله علينا {وَعَلَى النَّاس} بإرسالنا إِلَيْهِم وَيُقَال على الْمُؤمنِينَ بِالْإِيمَان {وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاس} أهل مصر {لاَ يَشْكُرُونَ} لَا يُؤمنُونَ بذلك(1/197)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
{يَا صَاحِبي السجْن} قَالَ هَذَا للسجان وَلأَهل السجْن {أأرباب مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ} يَقُول أعبادة آلِهَة شَتَّى خير {أَمِ الله الْوَاحِد القهار} أم عبَادَة الله الْوَاحِد بِلَا ولد وَلَا شريك القهار الْغَالِب على خلقه(1/197)
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} من دون الله {إِلاَّ أَسْمَآءً} أصناماً أَمْوَاتًا {سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ} الْآلهَة {مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا} بعبادتكم لَهَا {مِن سُلْطَانٍ} من كتاب وَلَا حجَّة {إِنِ الحكم} مَا الحكم بِالْأَمر وَالنَّهْي وَيُقَال مَا الْقَضَاء فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة {إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ} فِي الْكتب كلهَا {أَلاَّ تعبدوا} أَن لَا توحدوا {إِلاَّ إِيَّاهُ} إِلَّا الله {ذَلِك} التَّوْحِيد {الدّين الْقيم} وَهُوَ الدّين الْقَائِم الَّذِي يرضاه وَهُوَ الْإِسْلَام {وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاس} أهل مصر {لاَ يَعْلَمُونَ} ذَلِك وَلَا يصدقون(1/197)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
ثمَّ بَين تَعْبِير رُؤْيا الفتيين فَقَالَ {يَا صَاحِبي السجْن أَمَّآ أَحَدُكُمَا} وَهُوَ الساقي فَيرجع إِلَى مَكَانَهُ وسلطانه الَّذِي كَانَ فِيهِ {فَيَسْقِي رَبَّهُ} سَيّده الْملك {خَمْراً وَأَمَّا الآخر} وَهُوَ الخباز يخرج من السجْن {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ} ففزعا لتعبير رُؤْيا الخباز وَقَالا جَمِيعًا مَا رَأينَا شَيْئا قَالَ لَهما يُوسُف {قُضِيَ الْأَمر الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} تَسْأَلَانِ فَكَمَا قلتما وَقلت لَكمَا كَذَلِك يكون رَأَيْتُمَا أَو لم تريا(1/197)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ} علم {أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا} من السجْن وَالْقَتْل وَهُوَ الساقي {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} عِنْد سيدك الْملك أَنِّي مظلوم عدا عليَّ إخوتي فباعوني وَأَنا حر وحبست فِي السجْن وَأَنا مظلوم {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَان ذِكْرَ رَبِّهِ} فأشغله الشَّيْطَان حَتَّى نسي ذكر يُوسُف عِنْد سَيّده الْملك وَيُقَال وسوس لَهُ الشَّيْطَان إِن ذكرت السجْن للْملك يرجعك إِلَى السجْن فَلذَلِك لم يذكرهُ وَيُقَال فأنساه الشَّيْطَان أنسى الشَّيْطَان يُوسُف ذكر ربه حَتَّى ترك ذكر ربه وَذكر مخلوقاً دونه {فَلَبِثَ} فَمَكثَ {فِي السجْن بِضْعَ سِنِينَ} عُقُوبَة بترك ذكر الله وَكَانَ قبل هَذَا فِي السجْن خمس سِنِين(1/197)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
{وَقَالَ الْملك إِنِّي أرى} رَأَيْت فِي الْمَنَام {سبع بقرات سمان} خرجن من نهر {يأكلهن} يبتلعهن {سَبْعٌ عِجَافٌ} بقرات هالكات من الهزال خرجن من بعد السمان وَلم يستبن عَلَيْهِنَّ شَيْء {وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ}(1/197)
التوين على الْخضر وغلبن خضرتهن وَلم يستبن عَلَيْهِنَّ شَيْء {يَا أَيهَا الْمَلأ} يَعْنِي العرافين والسحرة والكهنة {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} فِي تَعْبِير رُؤْيَايَ {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تعبرون} تعلمُونَ(1/198)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
{قَالُوا} يَعْنِي العارفين والكهنة والسحرة {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} هَذِه أباطيل أَحْلَام كَاذِبَة مُخْتَلفَة {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام} يَقُول بتعبير رُؤْيا الأحلام {بِعَالِمِينَ}(1/198)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} من السجْن وَالْقَتْل وَهُوَ الساقي {وادكر} تذكر يُوسُف {بَعْدَ أُمَّةٍ} سبع سِنِين وَيُقَال بعد النسْيَان إِن قَرَأت بِالْهَاءِ {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} قَالَ للْملك أَنا أخْبرك بتعبير الرُّؤْيَا يَا أَيهَا الْمَلأ {فَأَرْسِلُونِ} إِلَى السجْن فَإِن فِيهِ رجلا وَوصف علمه وحلمه وإحسانه إِلَى أهل السجْن وَصدقه بِتَأْوِيل الرُّؤْيَا(1/198)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
فَأرْسلهُ فَجَاءَهُ فَقَالَ ليوسف يَا {يُوسُفُ أَيُّهَا الصّديق} الصَّادِق فِي تَعْبِير الرُّؤْيَا الأولى {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} خرجن من نهر {يَأْكُلُهُنَّ} يبتلعهن {سَبْعٌ عِجَافٌ} هزال هالكات {وَسَبْعِ سنبلات خضر وَأخر يابسات} التوين على الْخضر وغلبن خضرتهن {لعَلي أَرْجِعُ إِلَى النَّاس} إِلَى الْملك {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} لكَي يعلمُوا رُؤْيا الْملك فَقَالَ يُوسُف نعم أما السَّبع بقرات السمان فهن سبع سِنِين مخصبة وَأما السَّبع سنبلات الْخضر فَهُوَ الخصب والرخص فِي السنين المخصبة وَأما السَّبع بقرات الهزال الهالكات فَهِيَ سبع سِنِين مُجْدِبَة وَأما السَّبع سنبلات اليابسات فَهُوَ الْقَحْط والغلاء فِي السنين المجدبة(1/198)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
ثمَّ علمهمْ يُوسُف كَيفَ يصنعون {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ} المخصبة {دَأَباً} دَائِما كل عَام {فَمَا حَصَدتُّمْ} من الزَّرْع {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} فِي كوافره وَلَا تدوسوه لِأَنَّهُ أبقى لَهُ {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} يَقُول بِقدر مَا تَأْكُلُونَ(1/198)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
{ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِك} من بعد السنين المخصبة {سَبْعٌ شِدَادٌ} سبع سِنِين قحطة {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} مَا رفعتم لَهُنَّ للسنين المجدبة فِي السنين المخصبة {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ} تحرزون(1/198)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
{ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِك} من بعد السنين المجدبة {عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاس} أهل مصر بِالطَّعَامِ والمطر {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} الكروم والأدهان وَالزَّيْت فَرجع الرَّسُول وَأخْبر الْملك بذلك(1/198)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
{وَقَالَ الْملك ائْتُونِي بِهِ} بِيُوسُف {فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُول} وَهُوَ الساقي إِلَى يُوسُف فَقَالَ إِن الْملك يَدْعُوك {قَالَ} لَهُ يُوسُف {ارْجع إِلَى رَبِّكَ} إِلَى سيدك الْملك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسْوَة} يَقُول قل للْملك حَتَّى يسْأَل عَن خبر النسْوَة {اللَّاتِي قَطَّعْنَ} خدشن وخمشن {أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي} سَيِّدي {بِكَيْدِهِنَّ} بمكرهن وصنيعهن {عَلِيمٌ} فَرجع الرَّسُول وَأخْبر الْملك فَجمع الْملك هَؤُلَاءِ النسْوَة كُلهنَّ وَكن أَربع نسْوَة امْرَأَة سَاقيه وَامْرَأَة صَاحب مطبخه وَامْرَأَة صَاحب دوابه وَامْرَأَة صَاحب سجنه وَامْرَأَة الْعَزِيز أَيْضا وَلم يكن فِي مصر أعظم مِنْهُنَّ دون الْملك(1/198)
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
{قَالَ} لَهُنَّ الْملك {مَا خَطْبُكُنَّ} مَا شأنكن وَمَا حالكن {إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} معَاذ الله {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ} مَا رَأينَا مِنْهُ {من سوء} من قَبِيح {قَالَت امْرَأَة الْعَزِيز الْآن حَصْحَصَ الْحق} الْآن تبين الْحق ليوسف وَيُقَال الْآن خبر الصدْق {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} أَنا دَعوته إِلَى نَفسِي {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقين} فِي قَوْله إِنَّه لم يراودني(1/198)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
قَالَ يُوسُف {ذَلِك لِيَعْلَمَ} الْعَزِيز {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ} فِي امْرَأَته {بِالْغَيْبِ} إِذا غَابَ عني(1/198)
{وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي} لَا يصوب وَلَا يرضى {كَيْدَ الخائنين} عمل الزانين(1/199)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَلَا حِين هَمَمْت بهَا يَا يُوسُف فَقَالَ يُوسُف {وَمَآ أبرئ نَفسِي} قلبِي من الْهم {إِنَّ النَّفس} يَعْنِي الْقلب {لأمارة} للجسد {بالسوء} بالقبيح من الْعَمَل {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} عصم رَبِّي {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} لما هَمَمْت(1/199)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
{وَقَالَ الْملك ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أخصه لنَفْسي دون الْعَزِيز {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} بعد مَا جَاءَ إِلَيْهِ وَفسّر رُؤْيَاهُ {قَالَ} لَهُ الْملك {إِنَّكَ الْيَوْم لَدَيْنَا} عندنَا {مِكِينٌ} لَك قدر ومنزلة {أَمِينٌ} بالأمانة وَيُقَال بِمَا وليتك(1/199)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
{قَالَ اجْعَلنِي على خَزَآئِنِ الأَرْض} على خراج مصر {إِنِّي حَفِيظٌ} بتقديرها {عَلِيمٌ} بساعة الْجُوع حِين يَقع وَيُقَال حفيظ لما وليتني عليم بِجَمِيعِ ألسن الغرباء الَّذين يأتونك(1/199)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} هَكَذَا مكنا يُوسُف {فِي الأَرْض} أَرض مصر {يَتَبَوَّأُ} ينزل {مِنْهَا} فِيهَا {حَيْثُ يَشَآءُ} يُرِيد {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا} نخص برحمتنا النُّبُوَّة وَالْإِسْلَام {مَن نَشَآءُ} من كَانَ أَهلا لذَلِك {وَلاَ نُضِيعُ} لَا نبطل {أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ثَوَاب الْمُؤمنِينَ الْمُحْسِنِينَ بالْقَوْل وَالْفِعْل(1/199)
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
{وَلأَجْرُ الْآخِرَة} ثَوَاب الْآخِرَة {خَيْرٌ} من ثَوَاب الدُّنْيَا {لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} بِاللَّه وَجُمْلَة الْكتب وَالرسل {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش(1/199)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
{وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} إِلَى مصر وهم عشرَة {فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ} على يُوسُف {فَعَرَفَهُمْ} يُوسُف أَنهم إخْوَته {وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} لَا يعْرفُونَ أَنه أخوهم يُوسُف(1/199)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} كال لَهُم كيلهم {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ} كَمَا قُلْتُمْ إِن لنا أَخا من أَبينَا عِنْد أَبينَا {أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْل} أوفر الْكَيْل وَيُقَال بيَدي كيل الطَّعَام {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} أفضل المضيفين(1/199)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ} بأخيكم من أبيكم {فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي} فِيمَا تستقبلون {وَلاَ تَقْرَبُونِ} مرّة أُخْرَى(1/199)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
{قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} سنطلبه من أَبِيه ونغري أَبَاهُ {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} لضامنون أَنا سنجيء بِهِ(1/199)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
{وَقَالَ} يُوسُف {لِفِتْيَانِهِ} لخدامه {اجعلوا بِضَاعَتَهُمْ} دسوا دراهمهم {فِي رِحَالِهِمْ} فِي جواليقهم كي لَا يعلمُونَ {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ} لكَي يعرفوا هَذِه الْكَرَامَة مني وَيُقَال لكَي يعرفوا أَنَّهَا دراهمهم فيردوها لي {إِذَا انقلبوا إِلَى أَهْلِهِمْ} إِذا رجعُوا إِلَى أَبِيهِم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} مرّة أُخْرَى(1/199)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
{فَلَمَّا رجعُوا إِلَى أَبِيهِم} بكنعان {قَالُوا يَا أَبَانَا منع منا الْكَيْل} فِيمَا يسْتَقْبل إِن كم ترسل مَعنا بنيامين {فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا} بنيامين {نَكْتَلْ} يشتر لنَفسِهِ حملا وَيُقَال نشتر لَهُ حملا إِن قَرَأت بالنُّون {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ضامنون برده إِلَيْك(1/199)
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
{قَالَ} لَهُم يَعْقُوب {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} على بنيامين {إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قبل}(1/199)
من قبل يُوسُف يَقُول هَل أقدر أَن آخذ عَلَيْكُم الْعَهْد والميثاق أَكثر مِمَّا أخذت عَلَيْكُم فِي يُوسُف {فَالله خَيْرٌ حَافِظاً} مِنْكُم {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وَهُوَ أرْحم بِهِ من وَالِديهِ وَمن إخْوَته(1/200)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
{وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ} جواليقهم {وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ} دراهمهم ثمن طعامهم {رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} مَعَ طعامهم {قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} مَا نكذب بِمَا قُلْنَا من إِحْسَان الرجل ولطفه بِنَا وَيُقَال مَا طلبنا هَذَا مِنْهُ {هَذِه بِضَاعَتُنَا} دراهمنا الَّتِي أعطيناه ثمن الطَّعَام {رُدَّتْ إِلَيْنَا} مَعَ الطَّعَام وَهَذَا من إحسانه إِلَيْنَا قَالَ لَهُم أبوهم بل جربكم الرجل بِهَذَا ردوا هَذِه الدَّرَاهِم إِلَيْهِ {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} نمتار أهلنا {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} فِي الذّهاب والمجيء بنيامين {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} وقر بعير إِذْ كَانَ هُوَ مَعنا {ذَلِك كَيْلٌ يَسِيرٌ} حمل يسير نعطي بِسَبَبِهِ وَيُقَال هَذَا أَمر يسير وحاجة هينة نطلب مِنْك(1/200)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
{قَالَ} لَهُم أبوهم {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ} بِهَذِهِ الْمقَالة {حَتَّى تُؤْتُونِ} تعطوني {مَوْثِقاً} عهدا {مِّنَ الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} لتردنه عليَّ {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} إِلَّا أَن ينزل عَلَيْكُم أَمر من السَّمَاء وَيُقَال إِلَّا أَن يُصِيبكُم أَمر من السَّمَاء أَو من الأَرْض {فَلَمَّآ آتَوْهُ} أعْطوا أباهم {مَوْثِقَهُمْ} عهودهم من الله على رده إِلَى أَبِيهِم {قَالَ} يَعْقُوب {الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} شَهِيد وَيُقَال كَفِيل(1/200)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
{وَقَالَ} لَهُم {يَا بني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ} من سكَّة وَاحِدَة {وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} من سِكَك مُخْتَلفَة {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله} من قَضَاء الله فِيكُم {مِن شَيْءٍ إِنِ الحكم} مَا الحكم بِالْقضَاءِ فِيكُم {إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اتكلت وفوضت أَمْرِي وأمركم إِلَيْهِ {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} فليثق الواثقون وَيُقَال على الْمُؤمنِينَ أَن يتوكلوا على الله وَكَانَ خَافَ عَلَيْهِم يعقوبَ من الْعين لأَنهم كَانُوا صباح الْوُجُوه جمالا فَمن ذَلِك خَافَ عَلَيْهِم(1/200)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
{وَلَمَّا دَخَلُواْ} مصر {مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ} كَمَا أَمرهم {أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ الله} من قَضَاء الله فيهم {مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً} حزازة {فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ} فِي قلب يَعْقُوب {قَضَاهَا} أبداها {وَإِنَّهُ} يَعْنِي يَعْقُوب {لَذُو عِلْمٍ} حفظ {لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} من الَّذِي علمناه من الْأَحْكَام وَالْحُدُود وَالْقَضَاء وَالْقدر علم أَنه لَا يكون إِلَّا مَا قضى الله {وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاس} أهل مصر {لاَ يَعْلَمُونَ} ذَلِك وَلَا يصدقون(1/200)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
{وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ} ضم إِلَيْهِ {أَخَاهُ} من أَبِيه وَأمه وَحبس سَائِر إخْوَته على الْبَاب {قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ} بِمَنْزِلَة أَخِيك الْهَالِك {فَلاَ تَبْتَئِسْ} فَلَا تحزن {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بك إخْوَتك من الْجفَاء وَيَقُولُونَ لَك من السب وَالتَّعْبِير(1/200)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} كال لَهُم كيلهم {جَعَلَ السِّقَايَة فِي رَحْلِ أَخِيهِ} دس سقايته الَّتِي كَانَ يشرب فِيهَا ويكيل بهَا فِي رَحل أَخِيه من أَبِيه وَأمه ثمَّ أَمرهم بالرحيل ثمَّ أرسل خَلفهم فَتى {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نَادَى مُنَاد وَهُوَ فَتى يُوسُف {أَيَّتُهَا العير} أهل الْقَافِلَة {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}(1/200)
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)
{قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ} يَقُول وَأَقْبلُوا عَلَيْهِم وَقَالُوا {مَّاذَا تَفْقِدُونَ} مَا تطلبون(1/200)
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
{قَالُواْ نَفْقِدُ} نطلب {صُوَاعَ الْملك} إِنَاء الْملك الَّذِي كَانَ يشرب فِيهِ ويكيل بِهِ وَكَانَ إِنَاء من الذَّهَب وَقد اتهمني الْملك {وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} كَفِيل قَالَ لَهُم هَذَا القَوْل فَتى يُوسُف(1/200)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
{قَالُواْ تالله} وَالله {لَقَدْ عَلِمْتُمْ} يَا أهل مصر {مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْض} أَرض مصر بِالسَّرقَةِ ومضرة النَّاس {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} مَا تطلبون(1/201)
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)
{قَالُواْ} يَعْنِي فَتى يُوسُف {فَمَا جَزَآؤُهُ} يَعْنِي مَا جَزَاء السَّارِق {إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ}(1/201)
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
{قَالُواْ جَزَآؤُهُ} السَّارِق {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} السّرقَة {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} يَقُول الاستعباد جَزَاء سَرقته {كَذَلِك نَجْزِي الظَّالِمين} السارقين بأرضنا(1/201)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
{فَبَدَأَ} فَتى يُوسُف {بِأَوْعِيَتِهِمْ} ففتشها {قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ} فَلم يجدهَا فِيهَا {ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ} من أَبِيه وَأمه فَقَالَ لَهُ فَتى يُوسُف فرجك الله كَمَا فرجتني (كَذَلِك) هَكَذَا {كِدْنَا} صنعنَا {لِيُوسُفَ} أكرمناه بِالْعلمِ وَالْحكمَة والفهم والنبوة وَالْملك {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ} يَقُول لم يَأْخُذ {أَخَاهُ فِي دِينِ الْملك} فِي قَضَاء الْملك {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} وَقد شَاءَ الله أَن لَا يَأْخُذ أَخَاهُ فِي دين الْملك وَكَانَ قَضَاء الْملك للسارق أَنه يضْرب وَيغرم وَيُقَال يقطع وَيغرم وَيُقَال إِلَّا أَن يَشَاء الله إِلَّا مَا علم يُوسُف أَنه يُرْضِي الله من قَضَاء الْملك فَكَأَن يَأْخُذ بذلك {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ} فَضَائِل {مَّن نَّشَآءُ} كَمَا نرفع فِي الدُّنْيَا {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وَفَوق كل ذِي علم عَالم حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى الله فَلَيْسَ فَوْقه أحد وَيُقَال الله عَالم وَفَوق كل عَالم فَلَيْسَ فَوْقه أحد(1/201)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
{قَالُوا} إخْوَة يُوسُف {إِن يَسْرِقْ} إِن سرق بنيامين سِقَايَة الْملك {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} من قبله أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأمه صنماً {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ} جَوَاب هَذِه الْكَلِمَة {فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} جوابها {قَالَ} فِي نَفسه {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} صنيعاً من يُوسُف {وَالله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} تَقولُونَ من أَمر يُوسُف(1/201)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
{قَالُوا يَا أَيهَا الْعَزِيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} يفرح بِهِ إِن رددناه {فَخُذْ أَحَدَنَا} رهنا {مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ} إِن فعلت ذَلِك {مِنَ الْمُحْسِنِينَ} إِلَيْنَا(1/201)
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
{قَالَ} لَهُم يُوسُف {مَعَاذَ الله} أعوذ بِاللَّه {أَن نَّأْخُذَ} بِالسَّرقَةِ {إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ} بِحَبْس من لم نجد متاعنا عِنْده(1/201)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
{فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ} أيسوا مِنْهُ {خَلَصُواْ نَجِيّاً} خلوا نجياً للمناجاة فِيمَا بَينهم {قَالَ كَبِيرُهُمْ} أفضلهم فِي الْعقل وَهُوَ يهوذا {أَلَمْ تعلمُوا} يَا إخوتاه {أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ الله} لتردنه عليَّ {وَمِن قَبْلُ} من قبل هَذَا الْغُلَام {مَا فَرَّطتُمْ} مَا تركْتُم عَهده وميثاقه {فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْض} أَرض مصر {حَتَّى يَأْذَن لي أبي} بِالرُّجُوعِ وَيُقَال يَأْذَن لي أبي حَتَّى أناجزهم الْقِتَال {أَوْ يَحْكُمَ الله لِي} فِي رد أخي {وَهُوَ خَيْرُ} أفضل {الْحَاكِمين} فِي رده إِلَى(1/201)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
ثمَّ قَالَ لَهُم يهوذا {ارْجعُوا} يَا إخوتي {إِلَى أبيكم فَقولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنك سَرَقَ} صواع الْملك إِنَاء من ذهب وَيُقَال أَخذ بِالسَّرقَةِ إِن قَرَأت بِضَم السِّين وخفض الرَّاء بِالتَّشْدِيدِ {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} رَأينَا أَن السّرقَة أخرجت من رَحْله {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} يَقُول لَو علمنَا الْغَيْب مَا ذَهَبْنَا بِهِ وَيُقَال مَا كُنَّا لَهُ بِاللَّيْلِ حافظين(1/201)
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
{واسأل الْقرْيَة} أهل الْقرْيَة {الَّتِي كُنَّا فِيهَا} وَهِي قَرْيَة من قرى مصر {وَالْعير} أهل العير {الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} جِئْنَا مَعَهم وَكَانَ صحبهم قوم من كنعان {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فِيمَا قُلْنَا لَك فَقَالُوا ليعقوب هَذَا القَوْل(1/202)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
{قَالَ} يَعْقُوب لَهُم {بَلْ سَوَّلَتْ} زينت {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} ففعلتموه {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} فعلي صَبر جميل بِلَا جزع {عَسَى الله} لَعَلَّ الله {أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} بِيُوسُف وأخيه من أَبِيه وَأمه بنيامين ويهوذا {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيم} بمكانهم {الْحَكِيم} بردهمْ عَليّ(1/202)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
{وَتَوَلَّى عَنْهُم} خرج من بَينهم {وَقَالَ يَا أسفى} يَا حزنا {عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الْحزن} من الْبكاء {فَهُوَ كَظِيمٌ} مغموم يتَرَدَّد حزنه فِي جَوْفه(1/202)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
{قَالُوا} وَلَده وَولد وَلَده {تالله} وَالله {تفتأ} لَا تزَال {تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً} حَتَّى تكون دنفاً {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} بِالْمَوْتِ(1/202)
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
{قَالَ} يَعْقُوب {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي} أدفَع غمي {وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يَقُول أعلم أَن رُؤْيا يُوسُف صَادِقَة وَأَنا لنسجد لَهُ وَيُقَال أعلم من رَحْمَة الله وَجَمِيل نظره وصنعه مَا لَا تعلمُونَ وَيُقَال أعلم أَن يُوسُف حَيّ لم يمت لِأَنَّهُ دخل عَلَيْهِ ملك الْمَوْت فَقَالَ لَهُ هَل قبضت روح ابْني يُوسُف فِيمَن قبضت قَالَ لَا فَمن ذَلِك(1/202)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
قَالَ {يَا بني اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} فاستخبروا واطلبوا خبر يُوسُف وأخيه بنيامين {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} من رَحْمَة الله {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله} من رَحْمَة الله {إِلاَّ الْقَوْم الْكَافِرُونَ} بِاللَّه وبرحمته(1/202)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ} على يُوسُف فِي الْمرة الثَّالِثَة {قَالُوا يَا أَيهَا الْعَزِيز مَسَّنَا} أَصَابَنَا {وَأَهْلَنَا الضّر} الْجُوع {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} بِدَرَاهِم لَا تنْفق فِي الطَّعَام وتنفق فِيمَا بَين النَّاس وَيُقَال بمتاع الْجَبَل كالصنوبر والحبة الخضراء وَيُقَال بمتاع الْعَرَب مثل الأقط وَالصُّوف والجبن وَالسمن {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْل} يَقُول وفر لنا الْكَيْل كَمَا توفر بالدارهم الْجِيَاد {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} مَا بَين الثمنين وَيُقَال بَين الكيلين {إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة(1/202)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
{قَالَ} لَهُم يُوسُف {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} شُبَّان غافلون(1/202)
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
{قَالُوا أئنك لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} من أبي وَأمي {قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَآ} بِالصبرِ {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} فِي النِّعْمَة {وَيِصْبِرْ} فِي الشدَّة {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ} لَا يبطل {أَجْرَ} ثَوَاب {الْمُحْسِنِينَ} بالتقوى وَالصَّبْر(1/202)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
{قَالُواْ} إخْوَة يُوسُف ليوسف {تالله} وَالله {لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا} فضلك الله علينا {وَإِن كُنَّا} وَقد كُنَّا {لَخَاطِئِينَ} مسيئين بك عاصين لله(1/202)
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
{قَالَ} لَهُم يُوسُف {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْم} يَقُول لَا أعيركم بعد الْيَوْم {يَغْفِرُ الله لَكُمْ} مَا كَانَ مِنْكُم {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} من الْوَالِدين(1/202)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} وَكَانَ قَمِيصه كسْوَة من الْجنَّة {فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} يرجع بَصيرًا {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} وَكَانُوا نَحْو سبعين إنْسَانا(1/203)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
{وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} خرجت العير من الْعَريش وَهِي قَرْيَة بَين مصر وكنعان {قَالَ أَبُوهُمْ} يَعْقُوب {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} تسفهونني وتخزونني وتكذبونني فِيمَا أَقُول(1/203)
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
{قَالُواْ} وَلَده وَولد وَلَده الَّذين كَانُوا عِنْده {تالله} وَالله {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيم} فِي خطئك الأول فِي ذكر يُوسُف(1/203)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
{فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير} وَهُوَ يهوذا بالقميص {أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فَارْتَد بَصِيراً} صَار بَصيرًا {قَالَ} لِبَنِيهِ وَبني بنيه {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يَقُول إِن يُوسُف حَيّ لم يمت(1/203)
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
{قَالُوا} وَلَده وَولد وَلَده {يَا أَبَانَا اسْتغْفر لَنَا ذُنُوبَنَآ} ادْع الله أَن يغْفر لنا ذنوبنا {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} مسيئين عاصين لله(1/203)
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
{قَالَ} لَهُم {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} أَدْعُو لكم رَبِّي لَيْلَة الْجُمُعَة آخر السحر {إِنَّهُ هُوَ الغفور} المتجاوز {الرَّحِيم} لمن تَابَ(1/203)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
{فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} ضم إِلَيْهِ أَبَاهُ وخالته لِأَن أمه كَانَت مَاتَت قبل ذَلِك {وَقَالَ ادخُلُوا} انزلوا {مِصْرَ إِن شَآءَ الله} وَقد شَاءَ الله {آمِنِينَ} من الْعَدو وَالسوء وَيُقَال ادخُلُوا مصر آمِنين من الْعَدو وَالسوء إِن شَاءَ الله مقدم ومؤخر(1/203)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْش} على السرير {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} خضعوا لَهُ بِالسُّجُود أَبَوَاهُ وَإِخْوَته وَكَانَ سجودهم تحيتهم فِيمَا بَينهم كَانَ يسْجد الوضيع للشريف والشاب للشَّيْخ وَالصَّغِير للكبير كَهَيئَةِ الرُّكُوع نَحْو فعل الْأَعَاجِم {وَقَالَ يَا أَبَت هَذَا} السُّجُود {تَأْوِيلُ} تَعْبِير {رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} من قبل هَذَا {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} صدقا {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} إليّ {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجْن} ونجاني من الْعُبُودِيَّة {وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو} من الْبَادِيَة {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ} أفسد {الشَّيْطَان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي} بِالْحَسَدِ {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ} لما جمع بَيْننَا {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيم} بِمَا أَصَابَنَا {الْحَكِيم} بِالْجمعِ والفرقة(1/203)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
{رَبِّ} يَا رب {قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْملك} أَعْطَيْتنِي ملك مصر أَرْبَعِينَ فرسخاً فِي أَرْبَعِينَ فرسخاً {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيث} تَعْبِير الرُّؤْيَا {فَاطِرَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} يَا خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض {أَنتَ وَلِيِّي} رَبِّي وخالقي ورازقي وحافظي وناصري {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة تَوَفَّنِي مُسْلِماً} مخلصاً بِالْعبَادَة والتوحيد {وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} بآبائي الْمُرْسلين فِي الْجنَّة(1/203)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
{ذَلِكَ} الَّذِي ذكرت لَك يَا مُحَمَّد من خبر يُوسُف وَإِخْوَته {مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْب} من أَخْبَار الْغَائِب عَنْك {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} نرسل إِلَيْك جِبْرِيل بِهِ {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} عِنْدهم {إِذْ أَجمعُوا أَمْرَهُمْ} اجْتَمعُوا على أَن يطْرَحُوا يُوسُف فِي الْجب {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} يُرِيدُونَ بذلك هَلَاك يُوسُف(1/203)
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
{وَمَآ أَكْثَرُ النَّاس} أهل مَكَّة {وَلَوْ حَرَصْتَ} لَو جهدت كل الْجهد مقدم ومؤخر {بِمُؤْمِنِينَ} بالكتب وَالرسل(1/204)
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
{وَمَا تَسْأَلهُمْ} يَا مُحَمَّد {عَلَيْهِ} على التَّوْحِيد {مِنْ أَجْرٍ} من جعل {إِنْ هُوَ} مَا هُوَ يَعْنِي الْقُرْآن {إِلاَّ ذِكْرٌ} عظة {لِّلْعَالَمِينَ} الْجِنّ وَالْإِنْس(1/204)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ} من عَلامَة {فِي السَّمَاوَات} من الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَغير ذَلِك {وَالْأَرْض} وَمَا فِي الأَرْض من الْجبَال والبحار وَالشَّجر وَالدَّوَاب وَغير ذَلِك {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} أهل مَكَّة {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} مكذبون بهَا لَا يتفكرون فِيهَا(1/204)
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ} أهل مَكَّة {بِاللَّه} فِي السِّرّ وَيُقَال بعبودية الله {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} بوحدانية الله فِي الْعَلَانِيَة(1/204)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
{أفأمنوا} أهل مَكَّة {أَن تَأْتِيَهُمْ} أَن لَا تأتيهم {غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله} عَذَاب من عَذَاب الله مثل يَوْم بدر {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة} عَذَاب السَّاعَة {بَغْتَةً} فَجْأَة {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بنزول الْعَذَاب(1/204)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {هَذِه} يَعْنِي مِلَّة إِبْرَاهِيم {سبيلي} ديني {أَدْعُو إِلَى الله على بَصِيرَةٍ} على دين وَبَيَان {أَنَاْ} أَدْعُو {وَمَنِ اتبعني} آمن بِي يدعونَ إِلَى الله أَيْضا على بَصِيرَة على دين وَبَيَان {وَسُبْحَانَ الله} نزه نَفسه عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْركين} مَعَ الْمُشْركين على دينهم(1/204)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} يَا مُحَمَّد {إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} نرسل إِلَيْهِم جِبْرِيل كَمَا أرسل إِلَيْك {مِّنْ أَهْلِ الْقرى} مَنْسُوب إِلَى الْقرى مثلك {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} أهل مَكَّة {فِي الأَرْض فَيَنظُرُواْ} فيتفكروا {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} كَيفَ صَار آخر أَمر {الَّذين مِن قَبْلِهِمْ} من الْكفَّار {وَلَدَارُ الْآخِرَة} الْجنَّة {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقوا} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش وآمنوا بِاللَّه بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أفليس لكم ذهن الإنسانية أَن الْآخِرَة خير من الدُّنْيَا وَيُقَال إِن الدُّنْيَا تفنى وَالْآخِرَة تبقى وَيُقَال أَفلا تصدقُونَ بِمَا أصَاب الْأَوَّلين حَيْثُ كذبُوا الرُّسُل(1/204)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
{حَتَّى إِذا استيأس الرُّسُل} فَلَمَّا أيس الرُّسُل من إِجَابَة الْقَوْم {وظنوا} علمُوا وأيقنوا يَعْنِي الرُّسُل {أَنَّهُمْ} يَعْنِي قَومهمْ {قد كذبُوا} كذبوهم بِمَا جَاءُوا بِهِ من الله إِن قُرِئت مُشَدّدَة وَيُقَال وظنوا يَعْنِي الْقَوْم يَعْنِي الرُّسُل قد كذبُوا أخلف وعد الرُّسُل إِن قُرِئت مُخَفّفَة {جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} يَعْنِي عذابنا بِهَلَاك قَومهمْ {فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ} يَعْنِي الرُّسُل وَمن آمن بالرسل {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا} عذابنا {عَنِ الْقَوْم الْمُجْرمين} الْمُشْركين(1/204)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} فِي خبرهم خبر يُوسُف وَإِخْوَته {عِبْرَةٌ} آيَة {لأُوْلِي الْأَلْبَاب} لِذَوي الْعُقُول من النَّاس {مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى} يَعْنِي الْقُرْآن لَيْسَ بِحَدِيث يختلق {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} مُوَافق للتوراة وَالْإِنْجِيل وَسَائِر الْكتب بِالتَّوْحِيدِ وَبَعض الشَّرَائِع وَخبر يُوسُف {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} تبيان كل شَيْء من الْحَلَال وَالْحرَام {وَهُدًى} من الضَّلَالَة {وَرَحْمَةً} من الْعَذَاب {لقوم يُؤمنُونَ} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن الَّذِي أنزل إِلَيْك من رَبك وَالله أعلم بأسرار كِتَابه(1/204)
وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا الرَّعْد وَهِي مَكِّيَّة غير آيَتَيْنِ قَوْله {وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا تصيبهم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَة} إِلَى آخرهَا وَقَوله {وَيَقُول الَّذين كفرُوا} إِلَى {وَمن عِنْده علم الْكتاب} فَإِنَّهُمَا مدنيتان آياتها خمس وَأَرْبَعُونَ وكلماتها ثَمَانمِائَة وَخمْس وَخَمْسُونَ وحروفها ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة وَسِتَّة أحرف
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {(1/205)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {المر} أَنا الله أعلم وَأرى مَا تَعْمَلُونَ وتقولون وَيُقَال قسم أقسم بِهِ {تِلْكَ آيَاتُ الْكتاب} إِن هَذِه السُّورَة آيَات لقرآن {وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحق} يَقُول الْقُرْآن هُوَ الْحق من رَبك {وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاس} أهل مَكَّة {لَا يُؤمنُونَ} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن(1/205)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
{الله الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَات} خلق السَّمَوَات ورفعها على الأَرْض {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} يَقُول ترونها بِغَيْر عمد وَيُقَال بعمد لَا ترونها {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} كَانَ الله على الْعَرْش قبل أَن رفع السَّمَوَات وَيُقَال اسْتَقر وَيُقَال امْتَلَأَ بِهِ وَيُقَال اسْتَوَى عِنْده الْقَرِيب والبعيد على معنى الْعلم وَالْقُدْرَة {وَسَخَّرَ الشَّمْس وَالْقَمَر} ذلل ضوء الشَّمْس وَالْقَمَر لبني آدم {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} إِلَى وَقت مَعْلُوم {يُدَبِّرُ الْأَمر} ينظر فِي أَمر الْعباد وَيبْعَث الْمَلَائِكَة بِالْوَحْي والتنزيل والمصيبة {يُفَصِّلُ الْآيَات} يبين الْقُرْآن بِالْأَمر وَالنَّهْي {لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} لكَي تصدقوا بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت(1/205)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْض} بسط الأَرْض على المَاء {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} خلق فِي الأَرْض الْجبَال الثوابت أوتاداً لَهَا {وَأَنْهَاراً} أجْرى فِيهَا أَنهَارًا {وَمِن كُلِّ الثمرات} من ألوان كل الثمرات {جَعَلَ فِيهَا} خلق فِيهَا {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} الحامض والحلو زوج والأبيض والأحمر زوج {يُغْشِي اللَّيْل النَّهَار} يُغطي اللَّيْل بِالنَّهَارِ وَالنَّهَار بِاللَّيْلِ يَقُول يذهب بِاللَّيْلِ وَيَجِيء بِالنَّهَارِ وَيذْهب بِالنَّهَارِ وَيَجِيء بِاللَّيْلِ {إِنَّ فِي ذَلِك} فِي اخْتِلَاف مَا ذكرت {لآيَاتٍ} لعلامات {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} لكَي يتفكروا فِيهِ(1/205)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
{وَفِي الأَرْض قِطَعٌ} أمكنة {مُّتَجَاوِرَاتٌ} ملتزقات أَرض سبخَة رَدِيئَة وبجنبها أَرض طيبَة عذبة جَيِّدَة {وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ} من كروم {وزروع} حرث {وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ} مُجْتَمع أُصُولهَا فِي أصل وَاحِد عشرَة أَو أقل أَو أَكثر {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} مفترق أُصُولهَا وَاحِدَة وَاحِدَة {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ} بِمَاء الْمَطَر أَو بِمَاء النَّهر {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الْأكل} فِي الْحمل والطعم {إِنَّ فِي ذَلِك} فِي اختلافها وألوانها {لآيَاتٍ} لعلامات {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يصدقون أَنَّهَا من الله(1/205)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
{وَإِن تَعْجَبْ} من تكذيبهم إياك {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} فَقَوْلهم أعجب حَيْثُ قَالُوا {أئذا كُنَّا} صرنا {تُرَابا} رميما {أئنا لفي خلق جَدِيد} يجدد بعد الْمَوْت وفنا الرّوح {أُولَئِكَ} أهل إِنْكَار الْبَعْث {الَّذين كَفَرُواْ} هم الَّذين كفرُوا {بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ} أهل الْكفْر {الأغلال فِي أَعْنَاقِهِمْ} والسلاسل فِي أَيْمَانهم مشدودة إِلَى أَعْنَاقهم {وَأُولَئِكَ} أهل الأغلال والسلاسل {أَصْحَابُ النَّار} أهل النَّار {هم فِيهَا خَالدُونَ} مقيمون لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا أبدا(1/205)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} يَا مُحَمَّد {بِالسَّيِّئَةِ} بِالْعَذَابِ استهزاء {قَبْلَ الْحَسَنَة} قبل الْعَافِيَة لَا يَسْأَلُونَك الْعَافِيَة {وَقَدْ خَلَتْ} مَضَت {مِن قَبْلِهِمُ المثلات} الْعُقُوبَات فِيمَن هلك {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} تجَاوز {لِّلنَّاسِ} لأهل مَكَّة {على ظُلْمِهِمْ} على شركهم إِن تَابُوا وآمنوا {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعقَاب} لمن مَاتَ على الشّرك(1/205)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
{وَيَقُول الَّذين كفرُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ} هلا أنزل عَلَيْهِ {آيَةٌ} عَلامَة {مِّن رَّبِّهِ} لنبوته كَمَا أنزل على رسله الْأَوَّلين {إِنَّمَآ أَنتَ} يَا مُحَمَّد {مُنذِرٌ} رَسُول مخوف {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} نَبِي وَيُقَال دَاع يَدعُوهُم من الضَّلَالَة إِلَى الْهدى(1/206)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
{الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} كل حَامِل ذكر هُوَ أَو أُنْثَى {وَمَا تَغِيضُ} وَمَا تنقص {الْأَرْحَام} فِي الْحمل من التِّسْعَة {وَمَا تَزْدَادُ} على التِّسْعَة فِي الْحمل {وَكُلُّ شَيْءٍ} من الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَخُرُوج الْوَلَد والمكث {عِنْده بِمِقْدَار}(1/206)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
{عَالم الْغَيْب} مَا غَابَ عَن الْعباد {وَالشَّهَادَة} مَا علمه الْعباد وَيُقَال الْغَيْب مَا يكون وَالشَّهَادَة مَا كَانَ وَيُقَال الْغَيْب هُوَ الْوَلَد فِي الْأَرْحَام وَالشَّهَادَة هُوَ الَّذِي خرج من الْأَرْحَام {الْكَبِير} لَيْسَ شَيْء أكبر مِنْهُ {المتعال} لَيْسَ شَيْء أَعلَى مِنْهُ(1/206)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
{سَوَآءٌ مِّنْكُمْ} عِنْد الله بِالْعلمِ {مَّنْ أَسَرَّ القَوْل} وَالْفِعْل {وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} من أعلن بالْقَوْل وَالْفِعْل يعلم الله ذَلِك مِنْهُ {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} مستتر {وَسَارِبٌ} ظَاهر {بِالنَّهَارِ} بقول أَو عمل يعلم الله ذَلِك مِنْهُ(1/206)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} أَيْضا مَلَائِكَة يعقب بَعضهم بَعْضًا يعقب مَلَائِكَة اللَّيْل مَلَائِكَة النَّهَار وملائكة النَّهَار مَلَائِكَة اللَّيْل {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ} مقدم ومؤخر {مِنْ أَمْرِ الله} بِأَمْر الله ويدفعونه إِلَى الْمَقَادِير {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} من أَمن ونعمة {حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} بترك الشُّكْر {وَإِذَا أَرَادَ الله بِقوم سوءا} عذَابا وهلاكاً {فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} لقَضَاء الله فيهم {وَمَا لَهُمْ} لمن أَرَادَ الله هلاكهم {مِّن دُونِهِ} من دون الله {مِن وَالٍ} من مَانع من عَذَاب الله وَيُقَال من ملْجأ يلجئون إِلَيْهِ(1/206)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْق} الْمَطَر {خَوْفاً} للْمُسَافِر بالمطر أَن تبتل ثِيَابه {وَطَمَعاً} للمقيم أَن يسْقِي حرثه {وَيُنْشِئُ} يخلق وَيرْفَع {السَّحَاب الثقال} بالمطر(1/206)
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْد بِحَمْدِهِ} بأَمْره وَهُوَ ملك وَيُقَال صَوت السَّمَاء {وَالْمَلَائِكَة} وتسبح الْمَلَائِكَة {مِنْ خِيفَتِهِ} وهم خائفون من الله {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِق} يَعْنِي النَّار {فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ} فَيهْلك بالنَّار من يَشَاء يَعْنِي زيد بن قيس أهلكه الله بالنَّار وَأهْلك صَاحبه عَامر ابْن الطُّفَيْل بطعنة فِي خاصرته {وَهُمْ يُجَادِلُونَ} يُخَاصِمُونَ {فِي الله} فِي دين الله مَعَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَهُوَ شَدِيدُ الْمحَال} شَدِيد الْعقَاب(1/206)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
{لَهُ دَعْوَةُ الْحق} دين الْحق شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَهِي كلمة الْإِخْلَاص {وَالَّذين يَدْعُونَ} يعْبدُونَ {مِن دُونِهِ} من دون الله {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} ينفع إِن دعوهم {إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} إِلَّا كماد يَدَيْهِ {إِلَى المآء} من بعد {لِيَبْلُغَ فَاهُ} لكَي يبلغ المَاء إِلَى فِيهِ {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} بِتِلْكَ الْحَال المَاء إِلَى فِيهِ أبدا يَقُول كَمَا لَا يبلغ المَاء فَاه هَذَا الرجل كَذَلِك لَا تَنْفَع الْأَصْنَام من عَبدهَا {وَمَا دُعَآءُ الْكَافرين} عبَادَة الْكَافرين {إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} فِي بَاطِل يضل عَنْهُم(1/206)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ} يُصَلِّي ويعبد {مَن فِي السَّمَاوَات} من الْمَلَائِكَة {وَالْأَرْض} من الْمُؤمنِينَ {طَوْعاً} أهل السَّمَاء لِأَن عِبَادَتهم بِغَيْر مشقة {وَكَرْهاً} أهل الأَرْض لِأَن عِبَادَتهم بالمشقة وَيُقَال طَوْعًا لأهل الْإِخْلَاص وَكرها لأهل النِّفَاق وَيُقَال طَوْعًا لمن ولد فِي الْإِسْلَام وَكرها لمن أَدخل فِي الْإِسْلَام جبرا {وَظِلالُهُم} ظلال من يسْجد لله أَيْضا تسْجد {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} غدْوَة وَعَشِيَّة غدْوَة عَن أَيْمَانهم وَعَشِيَّة عَن شمائلهم(1/206)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {مَن رَّبُّ} من خَالق {السَّمَاوَات وَالْأَرْض} فَإِن أجابوك وَقَالُوا الله وَإِلَّا {قُلِ الله} خالقهما {قُلْ} يَا مُحَمَّد {أفاتخذتم} عَبدْتُمْ {مِّن دُونِهِ} من دون الله {أَوْلِيَآءَ} أَرْبَابًا من الْآلهَة {لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نفعا}(1/206)
جر النَّفْع {وَلَا ضرا} دَافع الضّر {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} الْكَافِر وَالْمُؤمن {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَات والنور} يَعْنِي الْكفْر وَالْإِيمَان {أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ} وصفوا لله {شُرَكَآءَ} من الْآلهَة {خَلَقُواْ} خلقا {كَخَلْقِهِ} كخلق الله {فَتَشَابَهَ الْخلق} فتشابه كل الْخلق {عَلَيْهِمْ} فَلَا يَدْرُونَ خلق الله من خلق آلِهَتهم {قُلِ} يَا مُحَمَّد {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} بَائِن مِنْهُ لَا الْآلهَة لَا إِلَه إِلَّا هُوَ {وَهُوَ الْوَاحِد القهار} الْغَالِب على خلقه(1/207)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
ثمَّ ضرب مثل الْحق وَالْبَاطِل فَقَالَ {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} يَقُول أنزل جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ وَبَين فِيهِ الْحق وَالْبَاطِل {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} فاحتملت الْقُلُوب المنورة الْحق بِقدر سعتها ونورها {فَاحْتمل السَّيْل} الْقُلُوب الْمظْلمَة {زَبَداً رَّابِياً} بَاطِلا كثيرا بهواها {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّار} وَهَذَا مثل آخر يَقُول وَمِمَّا تطرحون فِي النَّار من الذَّهَب وَالْفِضَّة فِيهِ حَيْثُ مثل زبد الْبَحْر الْملح {ابتغآء} طلب {حِلْيَةٍ} تلبسونها يَقُول مثل الْحق مثل الذَّهَب وَالْفِضَّة ينْتَفع بهما كَذَلِك الْحق ينْتَفع بِهِ صَاحبه وَمثل الْبَاطِل مثل خبث الذَّهَب وَالْفِضَّة لَا ينْتَفع بِهِ كَذَلِك لَا ينْتَفع بِالْبَاطِلِ صَاحبه {أَوْ مَتَاعٍ} أَو حَدِيد أَو نُحَاس {زَبَدٌ مِّثْلُهُ} يَقُول يكون لَهُ خبث مثله مثل زبد المَاء وَهَذَا مثل آخر يَقُول مثل الْحق كَمثل الْحَدِيد والنحاس ينْتَفع بهما فَكَذَلِك الْحق ينْتَفع بِهِ صَاحبه وَمثل الْبَاطِل كَمثل خبث الْحَدِيد والنحاس لَا ينْتَفع بِهِ كَمَا لَا ينْتَفع بخبث الْحَدِيد والنحاس {كَذَلِك يَضْرِبُ الله} يبين الله الْحق وَالْبَاطِل {فَأَمَّا الزّبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً} يَقُول يذهب كَمَا جَاءَ لَا ينْتَفع بِهِ فَكَذَلِك الْبَاطِل لَا ينْتَفع بِهِ {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاس} وَهُوَ المَاء الصافي وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد والنحاس {فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض} ينْتَفع بِهِ فَكَذَلِك الْحق ينْتَفع بِهِ {كَذَلِك يَضْرِبُ الله الْأَمْثَال} يبين الله أَمْثَال الْحق وَالْبَاطِل(1/207)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} بِالتَّوْحِيدِ فِي الدُّنْيَا {الْحسنى} لَهُم الْجنَّة فِي الْآخِرَة {وَالَّذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ} لرَبهم بِالتَّوْحِيدِ {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْض} من الذَّهَب وَالْفِضَّة {جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ} ضعفه مَعَه {لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} لفادوا بِهِ أنفسهم {أُولَئِكَ لَهُم سوء الْحساب} شدَّة الْعَذَاب {وَمَأْوَاهُمْ} مصيرهم {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد} الْفراش والمصير(1/207)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
{أَفَمَن يَعْلَمُ} يصدق {أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ} يَعْنِي الْقُرْآن {الْحق} هُوَ الْحق {كَمَنْ هُوَ أعمى} كَافِر {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} يتعظ بِمَا أنزل إِلَيْك من الْقُرْآن {أُوْلُواْ الْأَلْبَاب} ذَوُو الْعُقُول من النَّاس(1/207)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
{الَّذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} يتمون فَرَائض الله {وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاق} لَا يتركون فَرَائض الله(1/207)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
{وَالَّذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} من الْأَرْحَام وَيُقَال من الْإِيمَان بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} يعْملُونَ لرَبهم {وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} شدَّة الْعَذَاب(1/207)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
{وَالَّذِينَ صَبَرُواْ} على أَمر الله والمرازي {ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ} طلب رضَا رَبهم {وَأَقَامُواْ الصَّلَاة} أَتموا الصَّلَوَات الْخمس {وأنفقوا من مَا رَزَقْنَاهُمْ} تصدقوا مِمَّا أعطيناهم {سِرّاً} فِيمَا بَينهم وَبَين الله {وَعَلاَنِيَةً} فِيمَا بَينهم وَبَين النَّاس {ويدرؤون بِالْحَسَنَة السَّيئَة} يدْفَعُونَ بالْكلَام الْحسن الْكَلَام السيء إِذا أورد عَلَيْهِم {أُولَئِكَ} أهل هَذِه الصّفة من قَوْله إِنَّمَا يتَذَكَّر إِلَى هَهُنَا {لَهُمْ عُقبى الدَّار} يَعْنِي الْجنَّة(1/207)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
ثمَّ بَين أَي الجنات لَهُم فَقَالَ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} وَهِي مَقْصُورَة الرَّحْمَن وَهِي مَعْدن الْأَنْبِيَاء وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ(1/207)
{يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ} من وحد {مِنْ آبَائِهِمْ} يدْخلُونَهَا أَيْضا {وَأَزْوَاجِهِمْ} من وحد من أَزوَاجهم يدْخلُونَهَا أَيْضا {وَذُرِّيَّاتِهِمْ} من وحد من ذرياتهم يدْخلُونَ أَيْضا جنَّات عدن {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} يُقَال لكل وَاحِد مِنْهُم خيمة من در مجوفة لَهَا أَرْبَعَة آلَاف بَاب لكل بَاب مصراع يدْخل عَلَيْهِم من كل بَاب ملك(1/208)
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
يَقُولُونَ {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} هَذِه الْجنَّة بِمَا صَبَرْتُمْ على أَمر الله والمرازي {فَنِعْمَ عُقبى الدَّار} نعم الْجنَّة لكم(1/208)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
{وَالَّذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله} يتركون فَرَائض الله {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} تغليظه وتشديده وتأكيده {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} من الْأَرْحَام وَالْإِيمَان بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْض} بالْكفْر والشرك وَالدُّعَاء إِلَى غير عبَادَة الله {أُولَئِكَ} أهل هَذِه الصّفة {لَهُمُ اللَّعْنَة} السخطة فِي الدُّنْيَا {وَلَهُمْ سوء الدَّار} يَعْنِي النَّار فِي الْآخِرَة(1/208)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
{الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ} قَالَ ابْن عَبَّاس وَإِن من عباده عباداً لَا يصلح لَهُم إِلَّا الْبسط وَلَو صرفُوا إِلَى غَيره لَكَانَ شرا لَهُم وَإِن من عباده عباداً لَا يصلح لَهُم إِلَّا التقتير وَلَو صرفُوا إِلَى غَيره لَكَانَ شرا لَهُم أَي يُوسع المَال على من يَشَاء فِي الدُّنْيَا وَهُوَ مكرمته {وَيَقَدِرُ} يقتر على من يَشَاء وَهُوَ نظر مِنْهُ {وفرحوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} رَضوا بِمَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا من النَّعيم وَالسُّرُور {وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا} مَا فِي الْحَيَاة من النَّعيم وَالسُّرُور {فِي الْآخِرَة} عِنْد نعيم الْآخِرَة فِي الْبَقَاء {إِلاَّ مَتَاعٌ} إِلَّا شَيْء قَلِيل كمتاع الْبَيْت مثل السكرجة والقدح وَالْقدر وَغير ذَلِك(1/208)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
{وَيَقُول الَّذين كفرُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ} هلا أنزل على مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {آيَةٌ} عَلامَة {مِّن رَّبِّهِ} لنبوته كَمَا كَانَت للرسل الْأَوَّلين بِزَعْمِهِ {قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} عَن دينه من كَانَ أَهلا لذَلِك {وَيهْدِي} يرشد {إِلَيْهِ} إِلَى دينه {مَنْ أَنَابَ} من أقبل إِلَى الله(1/208)
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
{الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} وترضى وتسكن قُلُوبهم {بِذِكْرِ الله} الْقُرْآن وَيُقَال بِالْحلف بِاللَّه {تطمئِن الْقُلُوب} أَي تسكن وتوضى الْقُلُوب(1/208)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
{الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {طُوبَى لَهُمْ} غِبْطَة لَهُم وَيُقَال طُوبَى شَجَرَة فِي الْجنَّة سَاقهَا من ذهب وورقها الْحلَل وَثَمَرهَا من كل لون وَأَغْصَانهَا مُتَوَالِيَات فِي الْجنَّة وتحتها كُثْبَان الْمسك والعنبر والزعفران {وَحُسْنُ مَآبٍ} الْمرجع فِي الْجنَّة(1/208)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ} يَقُول هَكَذَا أَرْسَلْنَاك إِلَى أمة {قَدْ خَلَتْ} مَضَت {مِن قَبْلِهَآ أُمَم لتتلو عَلَيْهِمُ} لتقرأ عَلَيْهِم {الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} أنزلنَا إِلَيْك جِبْرَائِيل بِهِ يَعْنِي الْقُرْآن {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} يَقُولُونَ مَا نَعْرِف الرَّحْمَن إِلَّا مُسَيْلمَة الْكذَّاب {قُلْ} الرَّحْمَن {هُوَ رَبِّي لَا إِلَه إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اتكلت ووثقت {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} الْمرجع فِي الْآخِرَة(1/208)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
ثمَّ نزل فِي شَأْن عبد الله بن أُميَّة المَخْزُومِي وَأَصْحَابه لقَولهم أذهب عَنَّا جبال مَكَّة بقرآنك وأنبع فِيهَا الْعُيُون كَمَا كَانَ لداود عين الْقطر بزعمك وائتنا برِيح نركب عَلَيْهَا إِلَى الشَّام ونجى عَلَيْهَا كَمَا كَانَت لِسُلَيْمَان بزعمك وأحي مَوتَانا كَمَا أحيى عِيسَى بن مَرْيَم بزعمك فَقَالَ الله {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} غير قُرْآن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {سُيِّرَتْ بِهِ الْجبَال} أذهبت بِهِ الْجبَال عَن وَجه الأَرْض {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْض} أَي قصد بِهِ الْبعد {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أَو أحيى بِهِ الْمَوْتَى لَكَانَ بقرآن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {بَل لِلَّهِ الْأَمر جَمِيعاً} بل الله يفعل ذَلِك جَمِيعًا إِن شَاءَ {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذين آمنُوا} أفلم يعلم الَّذين آمنُوا بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى النَّاس جَمِيعاً} لأكرم النَّاس كلهم بِدِينِهِ {وَلاَ يَزَالُ الَّذين كَفَرُواْ} بالكتب وَالرسل يَعْنِي كفار مَكَّة {تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ} فِي كفرهم {قَارِعَةٌ} سَرِيَّة وَيُقَال صَاعِقَة {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً}(1/208)
أَو تنزل مَعَ أَصْحَابك قَرِيبا {مِّن دَارِهِمْ} من مدينتهم مَكَّة بعسفان {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ الله} فتح مَكَّة {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} فتح مَكَّة وَيُقَال الْبَعْث بعد الْمَوْت(1/209)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
{وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} اسْتَهْزَأَ بهم قَومهمْ كَمَا اسْتَهْزَأَ بك قَوْمك قُرَيْش {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} فأمهلت للَّذين كفرُوا بعد الِاسْتِهْزَاء {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} بِالْعَذَابِ {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} انْظُر كَيفَ كَانَ تعييري عَلَيْهِم بِالْعَذَابِ(1/209)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
{أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ} يَقُول الله قَائِم على حفظ كل نفس {بِمَا كسبت} من الْخَيْر وَالشَّر والرزق وَالدَّفْع {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ} وصفوا لله {شُرَكَآءَ} من الْآلهَة يعبدونها {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {سَمُّوهُمْ} سموا منفعتهم وتدبيرهم إِن كَانَ لَهُم شركَة مَعَ الله {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} أتخبرونه {بِمَا لاَ يَعْلَمُ} بِمَا يعلم أَن لَيْسَ {فِي الأَرْض} أحد ينفع ويضر من دون الله {أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القَوْل} بل بباطل من القَوْل والزور وَالْكذب عبدوهم {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {مَكْرُهُمْ} قَوْلهم وفعلهم {وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيل} صرفُوا عَن الدّين {وَمَن يُضْلِلِ الله} عَن دينه {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} من موفق(1/209)
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
{لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} بِالْقَتْلِ يَوْم بدر {وَلَعَذَابُ الْآخِرَة أَشَقُّ} أَشد من عَذَاب الدُّنْيَا {وَمَا لَهُم مِّنَ الله} من عَذَاب الله {من واق} من مَانع وملجأ يلجئون إِلَيْهِ(1/209)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
{مَّثَلُ الْجنَّة} صفة الْجنَّة {الَّتِي وُعِدَ المتقون} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} ثَمَرهَا دَائِم لَا يفنى {وِظِلُّهَا} دَائِم لَا خلل فِيهِ {تِلْكَ} الْجنَّة {عُقبى} مأوى {الَّذين اتَّقوا} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش {وَّعُقْبَى} مأوى {الْكَافرين النَّار}(1/209)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
{وَالَّذين آتَيْنَاهُمُ} أعطيناهم {الْكتاب} علم التَّوْرَاة عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه {يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} من ذكر الرَّحْمَن {وَمِنَ الْأَحْزَاب} يَعْنِي الْيَهُود {من يُنكر بعضه} بعض الْقُرْآن مَا فِيهِ ذكر الرَّحْمَن {قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} مخلصاً {وَلَا أُشْرِكَ بِهِ} شَيْئا {إِلَيْهِ أَدْعُو} خلقه {وَإِلَيْهِ مَآبِ} مرجعي فِي الْآخِرَة(1/209)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ} هَكَذَا أنزلنَا جِبْرَائِيل بِالْقُرْآنِ {حُكْماً} الْقُرْآن كُله حكم الله {عَرَبِيّاً} على مجْرى لُغَة الْعَرَبيَّة {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم} دينهم وقبلتهم {بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعلم} الْبَيَان بدين إِبْرَاهِيم وقبلته {مَا لَكَ مِنَ الله} من عَذَاب الله {مِن وَلِيٍّ} قريب ينفعك {وَلاَ وَاقٍ} لَا مَانع يمنعك(1/209)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} كَمَا أَرْسَلْنَاك {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً} أَكثر من أَزوَاجك مثل دَاوُد وَسليمَان {وَذُرِّيَّةً} أَكثر من ذريتك مثل إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب نزلت هَذِه الْآيَة فِي شَأْن الْيَهُود لقَولهم لَو كَانَ مُحَمَّد نَبيا لشغلته النُّبُوَّة عَن التَّزَوُّج {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ} بعلامة {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} بِأَمْر الله {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} لكل كتاب أجل مهلة مقدم ومؤخر(1/209)
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
{يمحو الله مَا يَشَاء}(1/209)
من ديوَان الْحفظَة مَالا ثَوَاب وَلَا عِقَاب لَهُ {وَيثبت} يتْرك مَاله الثَّوَاب وَالْعِقَاب {وَعِندَهُ أُمُّ الْكتاب} أصل الْكتاب يَعْنِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ لَا يُزَاد فِيهِ وَلَا ينقص مِنْهُ(1/210)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من الْعَذَاب فِي حياتك {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} نقبضنك قبل أَن نريك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغ} التَّبْلِيغ عَن الله {وَعَلَيْنَا الْحساب} الثَّوَاب وَالْعِقَاب(1/210)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
(أَو لم يَرَوْاْ) ينْظرُوا أهل مَكَّة {أَنَّا نَأْتِي الأَرْض} نَأْخُذ الأَرْض {ننقصها} نفتحها لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {مِنْ أَطْرَافِهَا} من نَوَاحِيهَا وَيُقَال هُوَ موت الْعلمَاء {وَالله يَحْكُمُ} بِفَتْح الْبلدَانِ وَمَوْت الْعلمَاء {لاَ مُعَقِّبَ} لَا مغير {لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحساب} شَدِيد الْعقَاب وَيُقَال إِذا حاسب فحسابه سريع(1/210)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
{وَقَدْ مَكَرَ} صنع {الَّذين مِن قَبْلِهِمْ} من قبل أهل مَكَّة مثل نمْرُود بن كنعان بن سنجاريب بن كوش وَأَصْحَابه {فَلِلَّهِ الْمَكْر جَمِيعاً} عِنْد الله عُقُوبَة مَكْرهمْ جَمِيعًا {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ} يعلم الله مَا تكسب {كُلُّ نَفْسٍ} برة أَو فاجرة من خير أَو شَرّ {وَسَيَعْلَمُ الْكفَّار} يَعْنِي الْيَهُود وَسَائِر الْكفَّار {لِمَنْ عُقْبَى الدَّار} يَعْنِي الْجنَّة وَيُقَال الدولة يَوْم بدر وَلمن تكون مَكَّة(1/210)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{وَيَقُول الَّذين كفرُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن الْيَهُود وَغَيرهم {لَسْتَ مُرْسَلاً} من الله يَا مُحَمَّد وَإِلَّا فائتنا بِشَهِيد يشْهد لَك فَقَالَ الله {قُلْ كفى بِاللَّه شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} بِأَنِّي رَسُوله وَهَذَا الْقُرْآن كَلَامه {وَمَنْ عِنْده علم الْكتاب} يَعْنِي عبد الله ابْن سَلام وَأَصْحَابه إِن قَرَأت بِالنّصب وَيُقَال هُوَ آصف ابْن برخيا لقَوْله تَعَالَى {قَالَ الَّذِي عِنْده علم من الْكتاب} وَمن عِنْده من عِنْد الله علم الْكتاب تبيان الْقُرْآن إِن قَرَأت بالخفض وَهُوَ الْكتاب الَّذِي أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك
وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا إِبْرَاهِيم وَهِي كلهَا مَكِّيَّة وآياتها خَمْسُونَ وكلماتها ثَمَانمِائَة وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ وحروفها ثَلَاث آلَاف وَأَرْبَعمِائَة وَأَرْبع وَثَلَاثُونَ
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}(1/210)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {الر} يَقُول أَنا الله أرى مَا تَقولُونَ وَمَا تَعْمَلُونَ وَيُقَال قسم أقسم بِهِ {كِتَابٌ} أَي هَذَا كتاب {أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} أنزلنَا إِلَيْك جِبْرِيل بِهِ {لِتُخْرِجَ النَّاس} لتدعو أهل مَكَّة {من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} بِأَمْر رَبهم تدعوهم {إِلَى صِرَاطِ} إِلَى دين {الْعَزِيز} بالنقمة لمن لَا يُؤمن بِهِ {الحميد} لمن وَحده وَيُقَال الْمَحْمُود فِي فعاله(1/210)
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
{الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض} من الْخلق والعجائب {وَوَيْلٌ} وَاد فِي جَهَنَّم من أَشدّهَا حرا وأضيقها مَكَانا وأبعدها قعراً فَتَقول يَا رب قد اشْتَدَّ حرى وضاق مَكَاني وَبعد قعري فَأذن لي حَتَّى أنتقم مِمَّن عصاك وَلَا تجْعَل شَيْئا ينْتَقم مني {لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} غليظ(1/210)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
{الَّذين يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} يختارون الدُّنْيَا {عَلَى الْآخِرَة وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} يصرفون النَّاس عَن دين الله وطاعته {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} يطلبونها غيراً {أُولَئِكَ} الْكفَّار {فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} عَن الْحق وَالْهدى وَيُقَال فِي خطأ بيّن(1/210)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}(1/210)
بلغَة قومه {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} بلغتهم مَا أمروا بِهِ وَمَا نهوا عَنهُ وَيُقَال بِلِسَان يقدرُونَ أَن يتعلموا مِنْهُ {فَيُضِلُّ الله} عَن دينه {مَن يَشَآءُ} من كَانَ أَهلا لذَلِك {وَيَهْدِي} لدينِهِ {مَن يَشَآءُ} من كَانَ أَهلا لذَلِك {وَهُوَ الْعَزِيز} فِي ملكه وسلطانه وَيُقَال الْعَزِيز بالنقمة لمن لَا يُؤمن بِهِ {الْحَكِيم} فِي أمره وقضائه وَيُقَال الْحَكِيم بالإضلال وَالْهدى(1/211)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَآ} التسع الْيَد والعصا والطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم والسنين وَنقص من الثمرات {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} أَن ادْع قَوْمك {مِنَ الظُّلُمَات إِلَى النُّور} من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} بأيام عَذَاب الله وَيُقَال بأيام رَحْمَة الله {إِنَّ فِي ذَلِك} فبمَا ذكرت {لآيَاتٍ} لعلامات {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} على الطَّاعَة {شَكُورٍ} على النِّعْمَة(1/211)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} وَقد قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ بني إِسْرَائِيل {اذْكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} منَّة الله عَلَيْكُم {إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْن} من فِرْعَوْن وَقَومه القبط {يسومونكم سوء الْعَذَاب} يعذبونكم بأشد الْعَذَاب {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ} صغَارًا {وَيَسْتَحْيُونَ} يستخدمون {نِسَآءَكُمْ} كبارًا {وَفِي ذَلِكُم} فِي ذبح الْأَبْنَاء واستخدام النِّسَاء {بلَاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ} بلية من ربكُم عَظِيمَة ابتلاكم بهَا وَيُقَال وَفِي ذَلِكُم فِي إنجاء الله لكم بلَاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ نعْمَة من ربكُم عَظِيمَة أنعمكم بهَا(1/211)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} قَالَ ربكُم وَاعْلَم ربكُم فِي الْكتاب {لَئِن شَكَرْتُمْ} بالتوفيق والعصمة والكرامة وَالنعْمَة {لأَزِيدَنَّكُمْ} تَوْفِيقًا وعصمة وكرامة ونعمة {وَلَئِن كَفَرْتُمْ} بِي أَو بنعمتي {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} لمن كفر(1/211)
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
{وَقَالَ مُوسَى إِن تكفرُوا} بِاللَّه {أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ} عَن إيمَانكُمْ {حَمِيدٌ} لمن وَحده(1/211)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ} يَا أهل مَكَّة {نَبَأُ} خبر {الَّذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ} يَعْنِي قوم هود {وَثَمُود} يَعْنِي قوم صَالح {وَالَّذين مِن بَعْدِهِمْ} من بعد قوم صَالح قوم شُعَيْب وَغَيرهم كَيفَ أهلكهم الله عِنْد التَّكْذِيب {لاَ يَعْلَمُهُمْ} لَا يعلم عَددهمْ وعذابهم أحد {إِلاَّ الله جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والعلامات {فَردُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} على أَفْوَاههم يَقُول ردوا على الرُّسُل مَا جَاءُوا بِهِ وَيُقَال وضعُوا أَيْديهم على أفواهههم وَقَالُوا للرسل اسْكُتُوا وَإِلَّا سكتم {وَقَالُوا} للرسل {إِنَّا كَفَرْنَا} جحدنا {بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ} من الْكتاب والتوحيد {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ} من الْكتاب والتوحيد {مُرِيبٍ} ظَاهر الشَّك فِيمَا تَقولُونَ(1/211)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ} أَفِي وحدانية الله شكّ {فَاطِرِ السَّمَاوَات} خَالق السَّمَوَات {وَالْأَرْض يَدْعُوكُمْ} إِلَى التَّوْبَة والتوحيد {لِيَغْفِرَ لَكُمْ} بِالتَّوْبَةِ والتوحيد {مِّن ذُنُوبِكُمْ} فِي الْجَاهِلِيَّة {وَيُؤَخِّرَكُمْ} يؤجلكم بِلَا عَذَاب {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إِلَى وَقت مَعْلُوم يَعْنِي الْمَوْت {قَالُوا} للرسل {إِنْ أَنتُمْ} مَا أَنْتُم {إِلاَّ بَشَرٌ} آدَمِيّ {مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا} تصرفون {عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا} من الْأَصْنَام(1/211)
{فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بِكِتَاب وَحجَّة(1/212)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ} مَا نَحن {إِلاَّ بَشَرٌ} آدَمِيّ {مِّثْلُكُمْ} يَقُول خلق مثلكُمْ {وَلَكِن الله يَمُنُّ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {وَمَا كَانَ لَنَآ} مَا يَنْبَغِي لنا {أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ} بِكِتَاب وَحجَّة {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} بِأَمْر الله {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} يَقُول وعَلى الْمُؤمنِينَ أَن يتوكلوا على الله فَقَالُوا للرسل توكلوا أَنْتُم على الله حَتَّى تروا مَا يفعل بكم(1/212)
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
فَقَالَت الرُّسُل {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} أكرمنا بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {وَلَنَصْبِرَنَّ على مَآ آذَيْتُمُونَا} فِي أبداننا بِطَاعَة الله {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} فليثق الواثقون(1/212)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
{وَقَالَ الَّذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ} من مدينتنا {أَوْ لَتَعُودُنَّ} تدخلن {فِي مِلَّتِنَا} فِي ديننَا {فَأوحى إِلَيْهِمْ} إِلَى الرُّسُل {رَبُّهُمْ} أَن اصْبِرُوا {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمين} الْكَافرين(1/212)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ} لننزلنكم {الأَرْض} أَرضهم وديارهم {مِن بَعْدِهِمْ} من بعد هلاكهم {ذَلِك} التسكين {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} الْقيام بَين يَدي {وَخَافَ وَعِيدِ} عَذَابي(1/212)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
{واستفتحوا} استنصر كل قوم على نَبِيّهم {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ} خسر عِنْد الدُّعَاء من النُّصْرَة كل متكبر ختال {عَنِيدٍ} معرض عَن الْحق وَالْهدى(1/212)
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
{مِّن وَرَآئِهِ} من قُدَّام هَذَا الْجَبَّار بعد الْمَوْت {جَهَنَّمُ ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} مِمَّا يخرج من جُلُودهمْ من الْقَيْح وَالدَّم(1/212)
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
{يَتَجَرَّعُهُ} يسْتَمْسك الصديد فِي حلقه {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} يُجِيزهُ {وَيَأْتِيهِ الْمَوْت} غم الْمَوْت {مِن كُلِّ مَكَانٍ} من تَحت كل شَعْرَة وَيُقَال تَأْخُذهُ النَّار من كل مَكَان من كل نَاحيَة {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} من ذَلِك الْعَذَاب {وَمِن وَرَآئِهِ} من بعد الصديد {عَذَابٌ غَلِيظٌ} شَدِيد أَشد من الصديد(1/212)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
{مَّثَلُ الَّذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ} يَقُول مثل أَعمال الَّذين كفرُوا برَبهمْ {كَرَمَادٍ اشتدت} ذرت {بِهِ الرّيح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} قاصف شَدِيد من الرّيح {لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ} يَقُول لَا يَجدونَ ثَوَاب شَيْء مِمَّا عمِلُوا من الْخَيْر فِي الْكفْر كَمَا لَا يُوجد من الرماد شَيْء إِذا ذرته الرّيح {ذَلِك} الْكفْر وَالْعَمَل لغير الله {هُوَ الضلال الْبعيد} الْخَطَأ الْبعيد عَن الْحق وَالْهدى(1/212)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر يَا مُحَمَّد خَاطب بذلك نبيه وَأَرَادَ بِهِ قومه {أَنَّ الله خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} لبَيَان الْحق وَالْبَاطِل وَيُقَال للزوال والفناء {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} يهلككم أَو يمتكم يَا أهل مَكَّة {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} يخلق خلقا آخر خيرا مِنْكُم وأطوع لله(1/212)
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
{وَمَا ذَلِك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} بشديد يَقُول لَيْسَ على الله بشديد أَن يهلككم ويخلق خلقا آخر(1/212)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
{وَبَرَزُواْ لِلَّهِ} خَرجُوا من الْقُبُور بِأَمْر الله {جَمِيعاً} القادة والسفلة {فَقَالَ الضُّعَفَاء} السفلة {لِلَّذِينَ استكبروا} عَن الْإِيمَان وهم القادة {إِنَّا كُنَّا لكم تبعا}(1/212)
مُطِيعِينَ فِيمَا أمرتمونا {فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ} حاملون {عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ} شَيْئا من عَذَاب الله {قَالُواْ} يَعْنِي القادة {لَوْ هَدَانَا الله} لدينِهِ {لَهَدَيْنَاكُمْ} لدعوناكم إِلَى دينه {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ} الْعَذَاب {أَجَزِعْنَآ} أصحنا وتضرعنا {أَمْ صَبَرْنَا} سكتنا {مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} من مغيث وملجأ(1/213)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
{وَقَالَ الشَّيْطَان} يَقُول الشَّيْطَان وَهُوَ إِبْلِيس {لَمَّا قضي الْأَمر} أَدخل أهل الْجنَّة وَأهل النَّار النَّار فَيَقُول لأهل النَّار فِي النَّار {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحق} أَن الْجنَّة وَالنَّار والبعث والحساب وَالْمِيزَان والصراط حق {وَوَعَدتُّكُمْ} أَن لَا جنَّة وَلَا نَار وَلَا بعث وَلَا حِسَاب وَلَا ميزَان وَلَا صِرَاط {فَأَخْلَفْتُكُمْ} كذبت لكم {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} من حجَّة وَعذر ومقدرة {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ} إِلَى طَاعَتي {فاستجبتم لِي} طَاعَتي {فَلاَ تَلُومُونِي} فِي دَعْوَتِي لكم {ولوموا أَنفُسَكُمْ} بإجابتكم إيَّايَ {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} بمغيثكم ومنجيكم من النَّار {وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} بمغيثي ومنجي من النَّار {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ} بِالَّذِي أشركتموني بِهِ {مِن قَبْلُ} من قبل أَن أشركتموني بِهِ وَيُقَال إِنِّي كفرت الْيَوْم بِمَا أشركتموني يَقُول تبرأت مِنْكُم وَمن دينكُمْ وإجابتكم من قبل هَذَا من قبل فِي الدُّنْيَا {إِنَّ الظَّالِمين} الْكَافرين {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع يخلص وَجَعه إِلَى قُلُوبهم(1/213)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
{وَأدْخل الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {جنَّات} بساتين {تجْرِي من تحتهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {خَالِدِينَ فِيهَا} مقيمين فِيهَا {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} بِأَمْر رَبهم {تَحِيَّتُهُمْ} كرامتهم {فِيهَا} فِي الْجنَّة {سَلاَمٌ} يسلم بَعضهم على بعض إِذا تلاقوا(1/213)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر يَا مُحَمَّد {كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} يَقُول كَيفَ بَين الله صفة كلمة طيبَة وَهِي لَا إِلَه إِلَّا الله {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} وَهِي الْمُؤمن {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} يَقُول قلب الْمُؤمن المخلص ثَابت بِلَا إِلَه إِلَّا الله {وَفَرْعُهَا فِي السمآء} يَقُول بهَا يقبل عمل الْمُؤمن المخلص(1/213)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
{تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} يَقُول يعْمل الْمُؤمن المخلص كل حِين طَاعَة لله وَخيرا {بِإِذْنِ رَبِّهَا} يَقُول بِأَمْر رَبهَا وَيُقَال صفة كلمة طيبَة فِي النَّفْع والمدحة كشجرة طيبَة وَهِي النَّخْلَة شَجَرَة طيبَة ثَمَرهَا كَذَلِك الْمُؤمن أَصْلهَا ثَابت يَقُول أصل الشَّجَرَة ثَابت فِي الأَرْض بعروقها فَكَذَلِك الْمُؤمن ثَابت بِالْحجَّةِ والبرهان وفرعها فِي السَّمَاء يَقُول أَغْصَان النَّخْلَة ترفع نَحْو السَّمَاء وَكَذَلِكَ عمل الْمُؤمن المخلص يُوقع إِلَى السَّمَاء تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ يَقُول تخرج ثَمَرهَا كل سِتَّة أشهر بِإِذن رَبهَا بِإِرَادَة رَبهَا فَكَذَلِك الْمُؤمن المخلص يعْمل كل حِين طَاعَة وَخير بِأَمْر ربه {وَيَضْرِبُ الله الْأَمْثَال} هَكَذَا يبيّن الله الْأَمْثَال صفة توحيده {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لكَي يتعظوا وَيرغبُوا فِي توحيده فِي قَول الله جلّ ذكره(1/213)
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وَهُوَ الشّرك بِاللَّه {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} وَهُوَ الْمُشرك يَقُول الشّرك مَذْمُوم لَيْسَ لَهُ مِدْحَة كَمَا أَن الْمُشرك مَذْمُوم لَيْسَ لَهُ مِدْحَة وَيُقَال كشجرة خبيثة وَهِي الحنظلة لَيْسَ لَهَا مَنْفَعَة وَلَا حلاوة فَكَذَلِك الشّرك لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَة وَلَا مِدْحَة {اجتثت} اقتلعت {مِن فَوْقِ الأَرْض مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} من ثبات على وَجه الأَرْض كَذَلِك الْمُشرك لَيْسَ لَهُ حجَّة يَأْخُذ بهَا كَمَا أَن لَيْسَ لشَجَرَة الحنظلة أصل تثبت عَلَيْهِ وَلَا يقبل مَعَ الشّرك عمل(1/213)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
{يثبت الله الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن وَيُقَال آمنُوا يَوْم الْمِيثَاق بِطيبَة الْأَنْفس وهم أهل السَّعَادَة {بالْقَوْل الثَّابِت} شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله {فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} لكَي لَا يرجِعوا عَنْهَا {وَفِي الْآخِرَة} يَعْنِي فِي الْقَبْر إِذا سُئِلَ عَنْهَا {وَيُضِلُّ الله} يصرف الله {الظَّالِمين} الْمُشْركين عَن قَول لَا إِلَه إِلَّا الله فِي الدُّنْيَا لكَي لَا يَقُولُوا بِطيبَة النَّفس وَلَا فِي الْقَبْر وَلَا إِذا أخرجُوا من الْقُبُور وهم أهل الشقاوة {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ}(1/213)
من الإضلال والتثبت وَيُقَال من صرف مُنكر وَنَكِير(1/214)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر يَا مُحَمَّد {إِلَى الَّذين} عَن الَّذين {بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله} غيروا منَّة الله بِالْكتاب وَالرسل {كُفْراً} بالْكفْر أَي كفرُوا بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن وهم بَنو أُميَّة وَبَنُو الْمُغيرَة المطعمون يَوْم بدر {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ} أنزلوا أهل مَكَّة {دَارَ الْبَوَار} دَار الْهَلَاك يَعْنِي دَار بدر وَيُقَال جَهَنَّم(1/214)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)
ثمَّ قَالَ {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} يدْخلُونَهَا يَوْم الْقِيَامَة {وَبِئْسَ الْقَرار} الْمنزل والمصير جَهَنَّم(1/214)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
{وَجَعَلُواْ لِلَّهِ} قَالُوا ووصفوا لله {أَندَاداً} أعدالاً من الْأَوْثَان فعبدوها {لِّيُضِلُّواْ} بذلك {عَن سَبِيلِهِ} عَن دينه وطاعته {قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {تَمَتَّعُواْ} عيشوا فِي كفركم {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّار} يَوْم الْقِيَامَة(1/214)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
{قُل} يَا مُحَمَّد {لِّعِبَادِيَ الَّذين آمَنُواْ} بِي وبالكتب وَالرسل {يُقِيمُواْ الصَّلَاة} الصَّلَوَات الْخمس بوضوئها وركوعها وسجودها وَمَا يجب فِيهَا فِي مواقيتها {وَيُنْفِقُواْ} يتصدقوا {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} مَا أعطيناهم من الْأَمْوَال {سِرّاً} خفِيا {وَعَلانِيَةً} جَهرا وهم أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {من قبل أَن يَأْتِي يَوْم} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ} لَا فدَاء فِيهِ {وَلاَ خِلاَلٌ} لَا مخالة للْكَافِرِ والصالح تَنْفَعهُ خلته(1/214)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)
ثمَّ وحد نَفسه فَقَالَ {الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} مَطَرا {فَأَخْرَجَ بِهِ} فأنبت بالمطر {مِنَ الثمرات} من ألوان الثمرات {رِزْقاً لَّكُمْ} طَعَاما لكم ولسائر الْخلق {وَسَخَّرَ} ذلل {لَكُمُ الْفلك} يَعْنِي السفن {لِتَجْرِيَ} الْفلك {فِي الْبَحْر بِأَمْرِهِ} بِإِذْنِهِ وإرادته {وسخر} ذلل {لكم الْأَنْهَار} تجْرِي حَيْثُ تشاءون(1/214)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
{وَسَخَّر لَكُمُ} ذلل لكم {الشَّمْس وَالْقَمَر دَآئِبَينَ} دائمين إِلَى يَوْم الْقِيَامَة {وَسَخَّرَ} ذلل {لَكُمُ اللَّيْل وَالنَّهَار} يَجِيء وَيذْهب(1/214)
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
{وَآتَاكُم} أَعْطَاكُم {مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} وَمَا لم تحسنوا أَن تسألوا {وَإِن تعدوا نعْمَة الله} منَّة الله {لاَ تُحْصُوهَا} لَا تحفظوها وَلَا تشكروها {إِنَّ الْإِنْسَان} يَعْنِي الْكَافِر {لَظَلُومٌ} مُشْرك {كَفَّارٌ} كَافِر بِاللَّه وبنعمته(1/214)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)
{وَإِذْ قَالَ} وَقد قَالَ {إِبْرَاهِيمُ} بعد مَا بني الْبَيْت {رَبِّ} يَا رب {اجْعَل هَذَا الْبَلَد} مَكَّة {آمِناً} من أَن يهاج فِيهِ ويأمن فِيهِ الْخَائِف {واجنبني} احفظني {وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَام} من عبَادَة الْأَصْنَام والنيران وَيُقَال اعصمني(1/214)
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
{رَبِّ} يَا رب {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاس} أَي أضلّ بِهن كثير من النَّاس وَيُقَال ضل بِهن كثير من النَّاس {فَمَن تَبِعَنِي} تبع ديني وأطاعني {فَإِنَّهُ مِنِّي} على ديني {وَمَنْ عَصَانِي} فَخَالف ديني {فَإِنَّكَ غَفُورٌ} متجاوز لمن تَابَ مِنْهُم أَي يَتُوب عَلَيْهِم {رَّحِيمٌ} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/214)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
{رَّبَّنَآ} يَا رَبنَا {إِنِّي أَسْكَنتُ} أنزلت {مِن ذُرِّيَّتِي} إِسْمَاعِيل وَأمه هَاجر {بِوَادٍ} فِي وَاد {غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} لَيْسَ بِهِ زرع وَلَا نَبَات {عِندَ بَيْتِكَ الْمحرم} يَعْنِي مَكَّة {رَبَّنَا} يَا رَبنَا {لِيُقِيمُواْ الصَّلَاة} لكَي يتموا الصَّلَاة نَحْو الْكَعْبَة {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاس} قُلُوب بعض النَّاس {تهوي إِلَيْهِمْ} تشتاق وتنزع إِلَيْهِم كل سنة {وارزقهم مِّنَ الثمرات} من ألوان الثمرات {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} لكَي يشكروا نِعْمَتك {رَبَّنَآ} يَا رَبنَا(1/214)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)
{إِنَّك تعلم مَا نخفي} من حب إِسْمَعِيل {وَمَا نُعْلِنُ} من حب إِسْحَاق وَيُقَال مَا نخفي من وجد إِسْمَاعِيل وَمَا نعلن من الْجفَاء لَهُ {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ} من عمل خير أَو شَرّ {فَي الأَرْض وَلاَ فِي السمآء}(1/214)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
{الْحَمد لله}(1/214)
الشُّكْر لله {الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكبر} بعد الْكبر {إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} وَكَانَ ابْن مائَة سنة وَامْرَأَته سارة بنت تسع وَتِسْعين سنة حَيْثُ ولدهما {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء} مُجيب الدُّعَاء(1/215)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
{رَبِّ} يَا رب {اجْعَلنِي مُقِيمَ الصَّلَاة} متم الصَّلَاة {وَمِن ذُرِّيَتِي} أَيْضا يَقُول أكرمني وَأكْرم ذريتي بإتمام الصَّلَاة {رَبَّنَا} يَا رَبنَا {وَتَقَبَّلْ دُعَاء} عبادتي(1/215)
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
{رَبَّنَا} يَا رَبنَا {اغْفِر لِي} ذُنُوبِي {وَلِوَالِدَيَّ} لآبائي الْمُؤمنِينَ {وَلِلْمُؤْمِنِينَ} ولسائر الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات {يَوْمَ يَقُومُ الْحساب} يَوْم يكون الْحساب وَتقوم الْحَسَنَة والسيئة فَمن زَادَت لَهُ الْحَسَنَة وَجَبت لَهُ الْجنَّة وَمن زَادَت لَهُ السَّيئَة وَجَبت لَهُ النَّار وَمن اسْتَوَت لَهُ حَسَنَة وسيئة فَهُوَ من أَصْحَاب الْأَعْرَاف(1/215)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} يَقُول تَارِك عُقُوبَة مَا يعْمل الْمُشْركُونَ {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} يؤجلهم {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَار} أبصار الْكفَّار وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة(1/215)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
{مُهْطِعِينَ} مُسْرِعين قَاصِدين ناظرين إِلَى الدَّاعِي {مُقْنِعِي رؤوسهم} مطأطىء رؤوسهم وَيُقَال رافعي رؤوسهم وَيُقَال مادي أَعْنَاقهم {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} لَا يرجع إِلَيْهِم أَبْصَارهم من الهول والفزع {وَأَفْئِدَتُهُمْ} قُلُوبهم {هَوَآءٌ} خَالِيَة من كل خير وَيُقَال لَا عَائِدَة وَلَا خَارِجَة(1/215)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
{وَأَنذِرِ النَّاس} خوف أهل مَكَّة بِالْقُرْآنِ {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَاب} من يَوْم يَأْتِيهم الْعَذَاب وَهُوَ يَوْم بدر وَيُقَال يَوْم الْقِيَامَة {فَيَقُولُ الَّذين ظلمُوا} أشركوا {رَبَّنَآ} يَا رَبنَا {أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} مثل أجل الدُّنْيَا {نُّجِبْ دَعْوَتَكَ} إِلَى التَّوْحِيد {وَنَتَّبِعِ الرُّسُل} نطع الرُّسُل بالإجابة فَيَقُول الله لَهُم {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ} حلفتم {مِّن قَبْلُ} من قبل هَذَا فِي الدُّنْيَا {مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} من الدُّنْيَا وَلَا بعث(1/215)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)
{وَسَكَنتُمْ} نزلتم {فِي مسَاكِن} فِي منَازِل {الَّذين ظلمُوا أَنفُسَهُمْ} بالشرك والتكذيب فَلم يتعظوا بهلاكهم {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} فِي الدُّنْيَا {وَضَرَبْنَا} بَينا {لَكُمُ الْأَمْثَال} فِي الْقُرْآن من كل وَجه من الْوَعْد والوعيد وَالرَّحْمَة وَالْعَذَاب(1/215)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
{وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} صَنَعُوا صنيعهم بالتكذيب بالرسل {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} عُقُوبَة صنيعهم {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجبَال} لكَي تَخِر مِنْهُ الْجبَال إِن قَرَأت بخفض اللَّام الأولى وَنصب اللَّام الْأُخْرَى وَيُقَال وَإِن كَانَ مَكْرهمْ وَقد كَانَ مَكْرهمْ مكر نمروذ الْجَبَّار لتزول مِنْهُ الْجبَال لتخر مِنْهُ الْجبَال حَيْثُ سمع دوِي التابوت والنسور إِن قَرَأت بِنصب اللَّام الأولى وَرفع اللَّام الْأُخْرَى(1/215)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
{فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} لرسله بنجاتهم وهلاك أعدائهم {إِنَّ الله عَزِيزٌ} فِي ملكه وسلطانه {ذُو انتقام} ذُو نقمة من أعدائه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة(1/215)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْض} أَي فِي يَوْم تغير الأَرْض {غَيْرَ الأَرْض} على حَال سوى هَذِه الْحَال وتبديلها أَن يُزَاد فِيهَا وَينْقص مِنْهَا ويسوى جبالها وأوديتها وَيُقَال تبدل الأَرْض غير هَذِه الأَرْض {وَالسَّمَاوَات} مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ {وَبَرَزُواْ لِلَّهِ} خَرجُوا وظهروا لله {الْوَاحِد الْقَهَّارِ} لخلقه بِالْمَوْتِ(1/215)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
{وَتَرَى الْمُجْرمين} الْمُشْركين {يَوْمَئِذٍ} يَوْم الْقِيَامَة {مُّقَرَّنِينَ} مسلسلين وَيُقَال مقيدين {فِي الأصفاد} فِي الْقُيُود مَعَ الشَّيَاطِين(1/215)
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
{سَرَابِيلُهُم} قمصهم {مِّن قَطِرَانٍ} من نَار سَوْدَاء كالقطران وَيُقَال من قطران من صفر حَار قد انْتهى حره {وتغشى} تعلو {وُجُوهَهُمْ النَّار}(1/215)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
{لِيَجْزِيَ الله} وَهَذَا مقدم ومؤخر يَقُول وبرزوا لله الْوَاحِد القهار ليجزي الله {كُلَّ نَفْسٍ} برة أَو فاجرة {مَّا كَسَبَتْ} من الْخَيْر وَالشَّر(1/215)
{إِنَّ الله سَرِيعُ الْحساب} شَدِيد الْعقَاب وَيُقَال إِذا حاسب فحسابه سريع(1/216)
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
{هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ} أبلغهم عَن الله وَيُقَال بَيَان لَهُم بِالْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد والحلال وَالْحرَام {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} لكَي يخوفوا بِالْقُرْآنِ {وليعلموا} لكَي يعلمُوا ويقروا {أَنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِدٌ} بِلَا ولد وَلَا شريك {وَلِيَذَّكَّرَ} ولكي يتعظ بِالْقُرْآنِ {أُوْلُواْ الْأَلْبَاب} ذَوُو الْعُقُول من النَّاس
وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا الْحجر وَهِي كلهَا مَكِّيَّة وكلماتها سِتّمائَة وَخَمْسُونَ وَأَرْبع وحروفها أَلفَانِ وَسَبْعمائة وَسَبْعُونَ
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}(1/216)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {الر} يَقُول انا الله ارى قسم أقسم بِالْألف وَاللَّام وَالرَّاء {تِلْكَ آيَاتُ الْكتاب} إِن هَذِه السُّورَة آيَات الْكتاب {وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} يَقُول وَأقسم بِالْقُرْآنِ الْمُبين بالحلال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي(1/216)
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
{رُبمَا يود} يتَمَنَّى {الَّذين كفرُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} فِي الدُّنْيَا يَقُول رُبمَا يَأْتِي على الْكَافرين يَوْم يتَمَنَّى أَنه كَانَ مُسلما وَلِهَذَا كَانَ الْقسم وَذَلِكَ إِذا أخرج الله من النَّار من كَانَ مُؤمنا مخلصاً بإيمانه وَأدْخلهُ الْجنَّة فَعِنْدَ ذَلِك يتَمَنَّى الْكَافِر أَنه كَانَ مُسلما فِي الدُّنْيَا(1/216)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
{ذَرْهُمْ} اتركهم يَا مُحَمَّد {يَأْكُلُواْ} بِلَا حجَّة وَلَا همة مَا فِي الْغَد {وَيَتَمَتَّعُواْ} يعيشوا فِي الْكفْر وَالْحرَام {وَيُلْهِهِمُ الأمل} ويشغلهم الأمل الطَّوِيل عَن طَاعَة الله {فَسَوْفَ} وَهَذَا وَعِيد لَهُم {يَعْلَمُونَ} عِنْد الْمَوْت وَفِي الْقَبْر وَيَوْم الْقِيَامَة مَاذَا يفعل بهم(1/216)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} من أهل قَرْيَة {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} فِيهِ أجل مَعْلُوم مُؤَقّت لهلاكهم(1/216)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
{مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} يَقُول لَا تَمُوت وَلَا تهْلك أمة قبل أجلهَا {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} وَلَا تَأَخّر أمة عَن أجلهَا(1/216)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
{وَقَالُواْ} عبد الله بن أُميَّة المَخْزُومِي وَأَصْحَابه لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {يَا أَيهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذّكر} جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ بزعمك {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} تختلق(1/216)
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
{لَّوْ مَا تَأْتِينَا} هلا تَأْتِينَا {بِالْمَلَائِكَةِ} من السَّمَاء فيشهدوا لَك أَنَّك رَسُول الله {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقين} فِي مَقَالَتك(1/216)
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
قَالَ الله {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَة} من السَّمَاء {إِلاَّ بِالْحَقِّ} بِالْهَلَاكِ وَقبض أَرْوَاحهم {وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ} مؤجلين إِذا نزلت عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة(1/216)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكر} جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {وَإِنَّا لَهُ} لِلْقُرْآنِ {لَحَافِظُونَ} من الشَّيَاطِين حَتَّى لَا يزِيدُوا فِيهِ وَلَا ينقصوا مِنْهُ وَلَا يُغيرُوا حكمه وَيُقَال إِنَّا لَهُ لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحافظون من الْكفَّار وَالشَّيَاطِين(1/216)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} يَا مُحَمَّد الرُّسُل {فِي شِيَعِ الْأَوَّلين} فِي فرق الْأَوَّلين(1/216)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
{وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ} مُرْسل إِلَيْهِم {إِلاَّ كَانُوا بِهِ} بالرسول {يستهزؤون} يستسخرون(1/216)
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
{كَذَلِكَ} هَكَذَا {نَسْلُكُهُ} نَتْرُك التَّكْذِيب {فِي قُلُوبِ الْمُجْرمين} الْمُشْركين(1/216)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
{لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} لكَي لَا يُؤمنُوا بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن ونزول الْعَذَاب عَلَيْهِم {وَقَدْ خَلَتْ} مَضَت {سُنَّةُ الْأَوَّلين} سيرة الْأَوَّلين بتكذيب الرُّسُل كَمَا كَذبك قَوْمك وَمَضَت سيرة الله فيهم بِالْعَذَابِ والهلاك من الله لَهُم عِنْد التَّكْذِيب(1/216)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم} على أهل مَكَّة {بَاباً من السَّمَاء} يدْخلُونَ فِيهِ(1/216)
{فظلوا فِيهِ} فصاروا فِيهِ {يَعْرُجُونَ} يصعدون وينزلون يَعْنِي كالملائكة(1/217)
لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
{لَقَالُواْ} كفار مَكَّة {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} أخذت أَعيننَا {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} مغلوبو الْعقل قد سحرنَا(1/217)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً} قصوراً وَيُقَال نجوماً وَهِي النُّجُوم الَّتِي يهتدى بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر {وَزَيَّنَّاهَا} يَعْنِي السَّمَاء بالكواكب {لِلنَّاظِرِينَ} إِلَيْهَا وَهِي النُّجُوم الَّتِي زينت بهَا السَّمَاء(1/217)
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)
{وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} مَلْعُون مطرود بالنجوم الَّتِي يزجرون بهَا عَن اسْتِمَاع الْمَلَائِكَة يَعْنِي الشَّيَاطِين(1/217)
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
{إِلاَّ مَنِ اسْترق السّمع} إِلَّا من اختلس خلسة {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ} يلْحقهُ نجم مضيء حَار متوقد(1/217)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
{وَالْأَرْض مَدَدْنَاهَا} بسطناها على المَاء {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا} على الأَرْض {رَوَاسِيَ} جبالاً ثوابت أوتاداً لَهَا {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا} فِي الْجبَال وَيُقَال فِي الأَرْض {مِن كُلِّ شَيْءٍ} من النَّبَات وَالثِّمَار {مَّوْزُونٍ} مَقْدُور مقسوم مَعْلُوم وَيُقَال من كل شَيْء مَوْزُون يُوزن مثل الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد والصفر والرصاص وَغير ذَلِك(1/217)
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
{وَجَعَلْنَا} خلقنَا {لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} فِي الأَرْض من النَّبَات وَالثِّمَار وَمَا تَأْكُلُونَ وتشربون وتلبسون {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} يَقُول ويرزق من لَسْتُم لَهُ برازقين يَعْنِي الطير والوحش وَيُقَال الأجنة فِي الْبُطُون(1/217)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
{وَإِن مِّن شَيْءٍ} وَمَا من شَيْء من النَّبَات وَالثِّمَار والأمطار {إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} مفاتيحه يَقُول بيدنا مفاتيحه لَا بِأَيْدِيكُمْ {وَمَا نُنَزِّلُهُ} يَعْنِي الْمَطَر {إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} بكيل وَوزن مَعْلُوم بِعلم الْخزَّان(1/217)
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
{وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاح لَوَاقِحَ} تلقح الشّجر والسحاب {فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً} مَطَرا {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} فِي الأَرْض {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ} للمطر {بِخَازِنِينَ} بفاتحين(1/217)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
{وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي} للبعث {وَنُمِيتُ} فِي الدُّنْيَا {وَنَحْنُ الوارثون} المالكون على مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض بعد موت أَهلهَا وَقبل موت أَهلهَا(1/217)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ} يَعْنِي الْأَمْوَات من الْآبَاء والأمهات وَيُقَال الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُم فِي الصَّفّ الأول {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} يَعْنِي الْأَحْيَاء من الْبَنِينَ وَالْبَنَات وَيُقَال الْمُسْتَأْخِرِينَ فِي الصَّفّ الآخر(1/217)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} الْأَوَّلين والآخرين {إِنَّهُ حَكِيمٌ} حكم عَلَيْهِم بالحشر {عَلِيمٌ} بحشرهم وبثوابهم وعقابهم(1/217)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان} يَعْنِي آدم {مِن صَلْصَالٍ} من طين يتصلصل {مِّنْ حَمَإٍ} من طين {مَّسْنُونٍ} منتن وَيُقَال مُصَور(1/217)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
{والجآن} أَبَا الْجِنّ {خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ} من قبل آدم عَلَيْهِ السَّلَام {مِن نَّارِ السمُوم} من نَار لَا دُخان لَهَا(1/217)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)
{وَإِذ قَالَ} وَقد قَالَ {رَبك للْمَلَائكَة} الَّذين كَانُوا فِي الأَرْض وهم كَانُوا عشرَة آلَاف {إِنِّي خَالِقٌ} أخلق {بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ} من طين يتصلصل {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} من طين منتن(1/217)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} سويت خلقه باليدين وَالرّجلَيْنِ والعينين وَغير ذَلِك {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} جعلت الرّوح فِيهِ {فَقَعُواْ لَهُ} فَخَروا لَهُ {سَاجِدِينَ} بالتحية(1/217)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة} لآدَم صلوَات الله عَلَيْهِ {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}(1/217)
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
{إِلاَّ إِبْلِيسَ} رئيسهم {أَبى} تعظم {أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} بِالسُّجُود لآدَم عَلَيْهِ السَّلَام(1/217)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
{قَالَ} الله تَعَالَى {يَا إِبْلِيس} يَا آيس من رَحْمَتي {مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} بِالسُّجُود لآدَم(1/218)
قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
{قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ} من طين يتصلصل {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} من طين منتن يَقُول لَا يَنْبَغِي لي أَن أَسجد للطين(1/218)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)
{قَالَ} الله لَهُ {فَاخْرُج مِنْهَا} من صُورَة الْمَلَائِكَة وَيُقَال من كَرَامَتِي ورحمتي وَيُقَال من الأَرْض {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} مَلْعُون مطرود من رَحْمَتي(1/218)
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)
{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَة} لَعْنَتِي ولعنة الْمَلَائِكَة وَالْخَلَائِق {إِلَى يَوْمِ الدّين} يَوْم الْحساب(1/218)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)
{قَالَ} إِبْلِيس {رَبِّ} يَا رب {فَأَنظِرْنِي} فأمهلني {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} من الْقُبُور وَأَرَادَ الملعون أَن لَا يَذُوق الْمَوْت(1/218)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37)
{قَالَ} الله {فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين} من المؤجلين(1/218)
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
{إِلَى يَوْمِ الْوَقْت الْمَعْلُوم} النفخة الأولى(1/218)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
{قَالَ رَبِّ} يَا رب {بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} كَمَا أضللتني عَن الْهدى {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} لبني آدم {فِي الأَرْض} الشَّهَوَات وَاللَّذَّات {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ} لأضلنهم {أَجْمَعِينَ} عَن الْهدى(1/218)
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} المعصومين مني وَيُقَال الْمُوَحِّدين إِن قَرَأت بِكَسْر اللَّام(1/218)
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
ثمَّ {قَالَ} الله تَعَالَى {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} كريم شرِيف وَيُقَال على ممر من أطاعك وممر من دخل مَعَك وَيُقَال هَذَا صِرَاط طَرِيق مُسْتَقِيم قَائِم بِرِضَاهُ وَهُوَ الْإِسْلَام وَيُقَال هَذَا صِرَاط عَليّ رفيع إِن قَرَأت بِكَسْر اللَّام وَرفع الْبَاء(1/218)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
{إِنَّ عِبَادِي} الْمُؤمنِينَ {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ملك وَلَا مقدرَة {إِلاَّ مَنِ اتبعك} إِلَّا على من أطاعك {مِنَ الغاوين} من الْكَافرين(1/218)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ} مصيرهم مِمَّن أطاعك {أَجْمَعِينَ}(1/218)
لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} بَعْضهَا أَسْفَل من بعض أَعْلَاهَا جَهَنَّم وأسفلها الهاوية {لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ} من الْكفَّار {جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} حَظّ مَعْلُوم(1/218)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش يَعْنِي أَبَا بكر وَعمر وأصحابهما {فِي جَنَّاتٍ} فِي بساتين {وَعُيُونٍ} مَاء طَاهِر(1/218)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)
{ادخلوها} يَقُول الله تَعَالَى لَهُم يَوْم الْقِيَامَة ادخُلُوا الْجنَّة {بِسَلامٍ} مَعَ سَلام وتحية وَيُقَال بسلامة وَنَجَاة منا {آمِنِينَ} من الْمَوْت والزوال(1/218)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
{وَنَزَعْنَا} أخرجنَا {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} وغش وعداوة كَانَت بَينهم فِي الدُّنْيَا {إِخْوَاناً} فِي الْآخِرَة {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} فِي الزِّيَارَة(1/218)
لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
{لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا} لَا يصيبهم فِي الْجنَّة {نَصَبٌ} تَعب وَلَا مشقة {وَمَا هُمْ مِّنْهَا} من الْجنَّة {بِمُخْرَجِينَ}(1/218)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
{نَبِّئْ عِبَادِي} خبر عبَادي {أَنِّي أَنَا الغفور} المتجاوز {الرَّحِيم} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/218)
وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
{وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَاب الْأَلِيم} الوجيع لمن لم يتب وَمَات على الْكفْر(1/218)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)
{وَنَبِّئْهُمْ} أخْبرهُم {عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} عَن أضياف إِبْرَاهِيم جِبْرِيل واثني عشر ملكا مَعَه(1/218)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
{إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ} على إِبْرَاهِيم {فَقَالُواْ سَلاماً} سلمُوا عَلَيْهِ {قَالَ} لَهُم إِبْرَاهِيم حِين لم يطعموا من طَعَامه {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} خائفون(1/218)
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
{قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} لَا تفرق يَا إِبْرَاهِيم منا {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ} بِولد {عَلِيمٍ} فِي صغره حَلِيم فِي كبره(1/218)
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي} بِالْوَلَدِ {على أَن مَّسَّنِيَ الْكبر} بعد مَا أصابني الْكبر {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} فَبِأَي شَيْء تبشرون الْآن(1/219)
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
{قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} بِالْوَلَدِ {فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين} من الآيسين من الْوَلَد(1/219)
قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
{قَالَ} إِبْرَاهِيم {وَمَن يَقْنَطُ} ييأس {مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون} الْكَافِرُونَ بِاللَّه أَو بنعمته(1/219)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)
{قَالَ} إِبْرَاهِيم لجبريل وأعوانه {فَمَا خَطْبُكُمْ} فَمَا شَأْنكُمْ وبماذا جئْتُمْ {أَيُّهَا المُرْسَلُونَ}(1/219)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
{قَالُوا إنآ أرسلنآ إِلَى قوم مجرمين} مُشْرِكين اجترموا الْهَلَاك على أنفسهم بعملهم الْخَبيث يعنون قوم لوط(1/219)
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
{إِلاَّ آلَ لُوطٍ} ابْنَتَيْهِ زاعورا وريثا وَامْرَأَته الصَّالِحَة {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ} من الْهَلَاك {أَجْمَعِينَ}(1/219)
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
{إِلاَّ امْرَأَته} واعلة المنافقة {قَدَّرْنَآ} عَلَيْهَا {إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} لمن البَاقِينَ المتخلفين بِالْهَلَاكِ(1/219)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)
{فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ} إِلَى لوط {المُرْسَلُونَ} جِبْرِيل وأعوانه(1/219)
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)
{قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} فِي بلدنا هَذَا لم نعرفكم وَلم نَعْرِف سلامكم فَمن أجل ذَلِك قَالَ إِنَّكُم قوم منكرون يَعْنِي جِبْرِيل وأعوانه(1/219)
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
{قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} يَشكونَ من الْعَذَاب(1/219)
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
{وَآتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ} أَي جئْنَاك بِخَبَر الْعَذَاب {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} فِي مقالتنا أَن الْعَذَاب نَازل عَلَيْهِم(1/219)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} فأدلج بأهلك {بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْل} بِبَعْض من آخر اللَّيْل عِنْد السحر {وَاتبع أَدْبَارَهُمْ} امش وَرَاءَهُمْ نَحْو صعر {وَلاَ يَلْتَفِتْ} لَا يتَخَلَّف {مِنكُمْ أَحَدٌ وامضوا} سِيرُوا {حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} نَحْو صعر(1/219)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
{وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمر} أمرناه الْإِتْيَان إِلَى صعر وَيُقَال أخبرناه {أَنَّ دَابِرَ} غابر {هَؤُلآءِ} قوم لوط {مَقْطُوعٌ} مستأصل {مُّصْبِحِينَ} عِنْد الصَّباح(1/219)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
{وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَة} إِلَى دَار لوط {يَسْتَبْشِرُونَ} بعملهم الْخَبيث(1/219)
قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68)
{قَالَ} لَهُم لوط {إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي} أَي أضيافي {فَلاَ تَفْضَحُونِ} فيهم(1/219)
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)
{وَاتَّقوا الله} اخشوا الله فِي الْحَرَام {وَلاَ تخزون} لَا تذلوني فِي أضيافي(1/219)
قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
{قَالُوا أَو لم نَنْهَكَ} يَا لوط {عَنِ الْعَالمين} عَن ضِيَافَة الغرباء(1/219)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
{قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي} وَيُقَال بَنَات قومِي أَنا أزوجكم {إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} متزوجين(1/219)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
{لعمرك} أقسم بعمر مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيُقَال بِدِينِهِ {إِنَّهُمْ} يَعْنِي قوم لوط {لَفِي سَكْرَتِهِمْ} لفي جهلهم {يَعْمَهُونَ} لَا يبصرون(1/219)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة} بِالْعَذَابِ {مُشْرِقِينَ} عِنْد طُلُوع الشَّمْس(1/219)
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} أَعْلَاهَا أَسْفَلهَا وأسفلها أَعْلَاهَا {وأمطرنا عَلَيْهِم} على شذاذهم ومساهيرهم {حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} من سَمَاء الدُّنْيَا وَيُقَال من سبخ ووحل مطبوخ كالآجر(1/219)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
{إِن فِي ذَلِك} فِيمَا فعلنَا بهم {لآيَات} لعلامات وعبرات {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} للمتفرسين وَيُقَال للمتفكرين وَيُقَال للناظرين وَيُقَال للمعتبرين(1/219)
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
{إِنَّهَا} يَعْنِي قريات لوط {لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} طَرِيق دَائِم يَمرونَ عَلَيْهَا(1/219)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} فِي هلاكهم {لآيَةً} لعبرة {للْمُؤْمِنين}(1/220)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
{وَإِن كَانَ} يَعْنِي وَقد كَانَ {أَصْحَابُ الأيكة} يَعْنِي أَصْحَاب الغيضة والأيكة الشّجر وهم قوم شُعَيْب {لَظَالِمِينَ} لمشركين(1/220)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
{فانتقمنا مِنْهُمْ} فِي الدُّنْيَا بِالْعَذَابِ {وَإِنَّهُمَا} يَعْنِي قريات لوط وَشُعَيْب {لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} لبطريق وَاضح يَمرونَ عَلَيْهَا(1/220)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحجر} قوم صَالح {الْمُرْسلين} صَالحا وَجُمْلَة الْمُرْسلين(1/220)
وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)
{وَآتَيْنَاهُمْ} أعطيناهم {آيَاتِنَا} النَّاقة وَغَيرهَا {فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} مكذبين بهَا(1/220)
وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)
{وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجبَال} فِي الْجبَال {بُيُوتاً آمِنِينَ} من أَن تقع عَلَيْهِم وَيُقَال آمِنين من الْعَذَاب(1/220)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة} بِالْعَذَابِ {مُصْبِحِينَ} عِنْد الصَّباح(1/220)
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
{فَمَآ أغْنى عَنْهُم} من عَذَاب الله {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} يَقُولُونَ ويعملون ويعبدون من دون الله(1/220)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
{وَمَا خلقنَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بينهمآ} من الْخلق والعجائب {إِلاَّ بِالْحَقِّ} لبَيَان الْحق وَالْبَاطِل وَالْحجّة عَلَيْهِم {وَإِنَّ السَّاعَة لآتِيَةٌ} لكائنة {فاصفح الصفح الْجَمِيل} أعرض عَنْهُم إعْرَاضًا جميلاً بِلَا فحش وَلَا جزع وَهِي مَنْسُوخَة بِآيَة الْقِتَال(1/220)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق} الْبَاعِث لمن آمن بِهِ وَلمن لم يُؤمن بِهِ {الْعَلِيم} بثوابهم وعقابهم(1/220)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني} يَقُول أكرمناك بِسبع آيَات من الْقُرْآن تثني فِي كل رَكْعَة وسجدتين وَهِي فَاتِحَة الْكتاب وَيُقَال أكرمناك بأسباع الْقُرْآن لِأَن الْقُرْآن كُله مثان أَمر وَنهي ووعد ووعيد وحلال وَحرَام وناسخ ومنسوخ وَحَقِيقَة ومجاز ومحكم ومتشابه وَخبر مَا كَانَ وَمَا يكون ومدحة لقوم ومذمة لقوم {وَالْقُرْآن الْعَظِيم} يَقُول وأكرمناك بِالْقُرْآنِ الْعَظِيم الْكَرِيم الشريف كَمَا أنزلنَا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل على المقتسمين الْيَهُود وَالنَّصَارَى(1/220)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
{لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} لَا تنظرن بالرغبة {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} أعطينا من الْأَمْوَال {أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} رجَالًا من بني قُرَيْظَة وَالنضير وَيُقَال من قُرَيْش لِأَن مَا أكرمناك بِهِ من النُّبُوَّة وَالْإِسْلَام وَالْقُرْآن أعظم مِمَّا أعطيناهم من الْأَمْوَال {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} على هلاكهم إِن لم يُؤمنُوا {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} لين جَانِبك للْمُؤْمِنين يَقُول كن رحِيما عَلَيْهِم(1/220)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النذير الْمُبين} الرَّسُول الْمخوف بلغَة تعرفونها من عَذَاب الله(1/220)
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
{كَمَآ أَنْزَلْنَا} يَوْم بدر {عَلَى المقتسمين} أَصْحَاب الْعقبَة وَهُوَ أَبُو جهل ابْن هِشَام والوليد ابْن الْمُغيرَة المَخْزُومِي وحَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان وَعتبَة وَشَيْبَة ابْنا ربيعَة وَسَائِر أَصْحَابهم الَّذين قتلوا يَوْم بدر(1/220)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
{الَّذين جَعَلُواْ الْقُرْآن عِضِينَ} قَالُوا فِي الْقُرْآن أقاويل مُخْتَلفَة قَالَ بَعضهم سحر وَقَالَ بَعضهم شعر وَقَالَ بَعضهم كهَانَة وَقَالَ بَعضهم أساطير الْأَوَّلين وَقَالَ بَعضهم كذب يختلقه من تِلْقَاء نَفسه(1/220)
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)
{فوربك} يَا مُحَمَّد أقسم بِنَفسِهِ {لنسألنهم} يَوْم الْقِيَامَة {أَجْمَعِينَ}(1/220)
عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
{عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يَقُولُونَ فِي الدُّنْيَا وَيُقَال عَن تَركهم لَا إِلَه إِلَّا الله(1/220)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} يَقُول أظهر أَمرك بِمَكَّة {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْركين}(1/220)
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} رفعنَا عَنْك مُؤنَة الْمُسْتَهْزِئِينَ(1/220)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
{الَّذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ} يَقُولُونَ مَعَ الله آلِهَة شَتَّى {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} مَاذَا يفعل بهم فأهلكهم الله فِي يَوْم وَلَيْلَة كل وَاحِد مِنْهُم بِعَذَاب غير عَذَاب صَاحبه وَكَانُوا خَمْسَة مِنْهُم الْعَاصِ بن وَائِل السَّهْمِي لدغه شَيْء فَمَاتَ مَكَانَهُ أبعده الله وَمِنْهُم الْحَارِث بن قيس السَّهْمِي أكل حوتاً مالحاً وَيُقَال طرياً فَأَصَابَهُ الْعَطش فَشرب عَلَيْهِ المَاء حَتَّى انْشَقَّ بَطْنه فَمَاتَ مَكَانَهُ أتعسه الله وَمِنْهُم الْأسود بن الْمطلب ضرب جِبْرِيل رَأسه على شَجَرَة وَضرب وَجهه بالشوك حَتَّى مَاتَ نكسه الله وَمِنْهُم الْأسود بن عبد يَغُوث خرج فِي يَوْم شَدِيد الْحر فَأَصَابَهُ السمُوم فاسود حَتَّى عَاد حَبَشِيًّا فَرجع إِلَى بَيته فَلم يفتحوا لَهُ الْبَاب فنطح رَأسه بِبَابِهِ حَتَّى مَاتَ خذله الله وَمِنْهُم الْوَلِيد بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي أصَاب أكحله نبل فَمَاتَ من ذَلِك طرده الله وَكلهمْ كَانُوا يَقُولُونَ قتلني رب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/220)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ} يَا مُحَمَّد {بِمَا يَقُولُونَ} من التَّكْذِيب وبأنك شَاعِر وساحر وَكَذَّاب وكاهن(1/220)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} فصل بِأَمْر رَبك {وَكُنْ مِّنَ الساجدين} مَعَ الساجدين وَيُقَال مَعَ المطيعين(1/220)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{واعبد رَبَّكَ} اسْتَقِم على طَاعَة رَبك {حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} يَعْنِي الْمَوْت وَهُوَ الموقن(1/220)
وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا النَّحْل وَهِي كلهَا مَكِّيَّة غير أَربع آيَات نزلت بِالْمَدِينَةِ قَوْله {وَإِن عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا} إِلَى آخِره {واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه} إِلَى آخر وَقَوله {ثمَّ إِن رَبك للَّذين هَاجرُوا من بعد مَا فتنُوا} إِلَى آخر الْآيَة وَقَوله {وَالَّذين هَاجرُوا فِي الله من بعد مَا ظلمُوا} إِلَى آخر الْآيَة فَهَؤُلَاءِ الْآيَات ألأربع مدنيات آياتها مائَة وَعِشْرُونَ وثمان آيَات وكلماتها ألف وَثَمَانمِائَة وَإِحْدَى وَأَرْبَعين وحروفها سِتَّة آلَاف وَسَبْعمائة وَسَبْعَة أحرف
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(1/221)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس قَالَ لما نزل قَوْله اقْتَرَبَ للنَّاس حِسَابهمْ إِلَى آخر الْآيَة وَقَوله اقْتَرَبَتْ السَّاعَة إِلَى آخر الْآيَة فَمَكَثُوا على ذَلِك مَا شَاءَ الله أَن يمكثوا وَلم يتَبَيَّن لَهُم شَيْء فَقَالُوا يَا مُحَمَّد مَتى يأتينا مَا تعدنا من عَذَاب فَأنْزل الله {أَتَى أَمْرُ الله} أَتَى عَذَاب الله وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالِسا فَقَامَ لَا يشك أَن الْعَذَاب قد أَتَى فَقَالَ الله {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} بِالْعَذَابِ فَجَلَسَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {سُبْحَانَهُ} نزه نَفسه عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {وَتَعَالَى} ارْتَفع وتبرأ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} بِهِ من الْأَوْثَان(1/221)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَة} يَعْنِي جِبْرِيل وَمن مَعَه من الْمَلَائِكَة {بِالروحِ مِنْ أَمْرِهِ} بِالنُّبُوَّةِ وَالْكتاب بأَمْره {على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} يَعْنِي مُحَمَّدًا وَغَيره من الْأَنْبِيَاء {أَنْ أنذروا} خوفوا بِالْقُرْآنِ واقرءوا حَتَّى يَقُولُوا {أَنَّهُ لاَ إِلَه إِلاَّ أَنَاْ فاتقون} فأطيعوني ووحدوني(1/221)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
{خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} للحق وَيُقَال للزوال والفناء {تَعَالَى} تَبرأ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} من الْأَوْثَان(1/221)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
{خَلَقَ الْإِنْسَان} أبيّ بن خلف الجُمَحِي {مِن نُّطْفَةٍ} مُنْتِنَة {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} جدل بِالْبَاطِلِ {مُّبِينٌ} ظَاهر الْجِدَال لقَوْله {من يحيي الْعِظَام وَهِي رَمِيم}(1/221)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
{والأنعام} يَعْنِي الْإِبِل {خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} الإدفاء من الأكسية وَغَيرهَا {وَمَنَافِعُ} فِي ظُهُورهَا وَأَلْبَانهَا {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} من لحومها تَأْكُلُونَ(1/221)
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} منظر حسن {حِينَ تُرِيحُونَ} من الرَّعْي {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} إِلَى الرَّعْي(1/221)
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} أمتعتكم وزادكم {إِلَى بَلَدٍ} يَعْنِي مَكَّة {لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفس} إِلَّا بتعب النَّفس {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ} بِمن آمن {رَّحِيمٌ} بِتَأْخِير الْعَذَاب عَنْكُم(1/221)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
{وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير} يَقُول خلق الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير {لِتَرْكَبُوهَا} فِي سَبِيل الله {وَزِينَةً} لكم فِيهَا منظر حسن {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} يَقُول خلق من الْأَشْيَاء مَالا تعلمُونَ مِمَّا لم يسمه لكم(1/221)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
{وعَلى الله قَصْدُ السَّبِيل} هِدَايَة الطَّرِيق فِي الْبر وَالْبَحْر {وَمِنْهَا} من الطَّرِيق {جَآئِرٌ} مائل لَا يهتدى بِهِ {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} إِلَى الطَّرِيق فِي الْبَحْر وَالْبر وَيُقَال {وعَلى الله قَصْدُ السَّبِيل} الْهدى إِلَى التَّوْحِيد {وَمِنْهَا} من الْأَدْيَان {جَآئِرٌ} مائل لَيْسَ بعادل مثل الْيَهُودِيَّة والنصرانية والمجوسية {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} لدينِهِ(1/221)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآءً} مَطَرا {لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ} مَا يسْتَقرّ فِي الأَرْض فِي الركايا والغدران {وَمِنْهُ شَجَرٌ} بِهِ ينْبت الشّجر والنبات {فِيهِ تُسِيمُونَ} ترعون أنعامكم(1/221)
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
{يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ} بالمطر {الزَّرْع وَالزَّيْتُون والنخيل وَالْأَعْنَاب} يَعْنِي الكروم {وَمِن كُلِّ الثمرات} من ألوان كل الثمرات {إِنَّ فِي ذَلِكَ} فِي ألوان مَا ذكرت وَفِي طعمه {لآيَةً} لعلامة وعبرة {لِّقَوْمٍ يتفكرون}(1/221)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
{وَسَخَّرَ لَكُمُ} ذلل لكم {اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم مُسَخَّرَاتٌ} مذللات {بِأَمْرِهِ} بِإِذْنِهِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} فِي تسخير مَا ذكرت {لآيَاتٍ} لعلامات {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يعلمُونَ ويصدقون أَن تسخيرها من الله(1/222)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
{وَمَا ذَرَأَ} يَقُول وَمَا خلق {لَكُمْ فِي الأَرْض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} أجناسه من النَّبَات وَالثِّمَار وَغير ذَلِك {إِنَّ فِي ذَلِكَ} فِي ألوان مَا خلقت {لآيَةً} لعلامة وعبرة {لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} يتعظون بِمَا فِي الْقُرْآن(1/222)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ} ذلل {الْبَحْر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً} يَعْنِي سمكًا {طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ} من الْبَحْر {حِلْيَةً} زهرَة من اللُّؤْلُؤ وَغَيره {تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفلك} يَعْنِي السفن {مَوَاخِرَ} مقبلة ومدبرة {فِيهِ} فِي الْبَحْر تَجِيء وَتذهب برِيح وَاحِدَة {وَلِتَبْتَغُواْ} لكَي تَطْلُبُوا {مِن فَضْلِهِ} من عمله وَيُقَال من رزقه {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكَي تشكروا {فِيهِ} فِي الْبَحْر تَجِيء وَتذهب برِيح وَاحِدَة {وَلِتَبْتَغُواْ} لكَي تَطْلُبُوا {مِن فَضْلِهِ} من عمله وَيُقَال من رزقه {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكَي تشكروا نعْمَته(1/222)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
{وَألقى فِي الأَرْض رَوَاسِيَ} الْجبَال الثوابت {أَن تَمِيدَ} لكَي لَا تميد {بِكُمْ} الأَرْض {وَأَنْهَاراً} وأجرى فِيهَا أَنهَار لمنافعكم {وَسُبُلاً} جعل فِيهَا طرقاً {لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكَي تعرفوا الطَّرِيق(1/222)
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
{وَعَلامَاتٍ} من الْجبَال وَغير ذَلِك للمسافرين {وبالنجم} وبالفرقدين والجدي {هُمْ} يَعْنِي الْمُسَافِرين {يَهْتَدُونَ} بهما فِي الْبر وَالْبَحْر(1/222)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
{أَفَمَن يَخْلُقُ} وَهُوَ الله {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} لَا يقدر أَن يخلق يَعْنِي الْأَصْنَام {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أَفلا تتعظون فِيمَا خلق الله لكم(1/222)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} لَا تحفظوها وَيُقَال لَا تشكروها {إِنَّ الله لَغَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} لمن تَابَ(1/222)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
{وَالله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} من الْخَيْر وَالشَّر {وَمَا تُعْلِنُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر(1/222)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
{وَالَّذين يَدْعُونَ} يعْبدُونَ {مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً} لَا يقدرُونَ أَن يخلقوا شَيْئا كخلقنا {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ينحتون مخلوقة منحوتة(1/222)
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
{أَمْواتٌ} أصنام أموات {غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ} يَعْنِي الْآلهَة {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} من الْقُبُور فيحاسبون وَيُقَال مَا يعلم الْكفَّار مَتى يحاسبون وَيُقَال مَا تعلم الْمَلَائِكَة مَتى يحاسبون(1/222)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
{إِلَهكُم إِلَه وَاحِدٌ} يعلم ذَلِك لَا الْآلهَة {فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} بِالتَّوْحِيدِ {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عَن الْإِيمَان(1/222)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
{لاَ جَرَمَ} لَا جرم حقّاً {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} مَا يخفون من البغض والحسد وَالْمَكْر والخيانة {وَمَا يُعْلِنُونَ} مَا يظهرون من الشتم والطعن والقتال {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} عَن الْإِيمَان(1/222)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} للمقتسمين {مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} مَاذَا يَقُول لكم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ربكُم {قَالُواْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلين} كذب الْأَوَّلين وأحاديثهم(1/222)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
{لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ} آثامهم {كَامِلَةً} وافرة {يَوْمَ الْقِيَامَة وَمِنْ أَوْزَارِ} مثل آثام {الَّذين يُضِلُّونَهُمْ}(1/222)
يصرفونهم عَن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن وَالْإِيمَان {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بِلَا علم وَلَا حجَّة {أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} بئس مَا يحملون من الذُّنُوب يَعْنِي المقتسمين(1/223)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
{قَدْ مَكَرَ الَّذين مِنْ قَبْلِهِمْ} بِأَنْبِيَائِهِمْ كَمَا مكر المقتسمون بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ نمروذ الْجَبَّار الَّذِي بنى الصرح {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ} قلع بنيانهم الصرح {مِّنَ الْقَوَاعِد} من الأساس {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السّقف} فَوَقع عَلَيْهِم الصرح {مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَاب} بالهدم {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} لَا يعلمُونَ(1/223)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
{ثُمَّ} هُوَ {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ} يعذبهم ويذلهم {وَيَقُول} لله يَوْم الْقِيَامَة {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} يَعْنِي الْآلهَة الَّتِي زعمتم أَنهم شركائي (الَّذين كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) تخالفون لقبلهم وتعادون أنبيائي لقبلهم {قَالَ الَّذين أُوتُواْ الْعلم} يَعْنِي الْمَلَائِكَة {إِنَّ الخزي الْيَوْم} الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة {وَالسوء} النَّار والشدة {عَلَى الْكَافرين}(1/223)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
{الَّذين تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة} قبضتهم الْمَلَائِكَة يَوْم بدر {ظالمي أنفسهم} بالْكفْر {فَألْقوا السّلم} ردو الْجَواب وَيُقَال خضعوا لله {مَا كُنَّا نَعْمَلُ من سوء} نعْبد من شَيْء من دون الله وَمَا كُنَّا مُشْرِكين بِاللَّه {بلَى} يَقُول الله بلَى {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وتقولون وتعبدون من دون الله(1/223)
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
{فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} مقيمين فِيهَا لَا تموتون وَلَا تخرجُونَ مِنْهَا {فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} منزل الْكَافرين جَهَنَّم(1/223)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقوا} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش عبد الله بن مَسْعُود وَأَصْحَابه {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} مَاذَا يَقُول لكم مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من ربكُم {قَالُواْ خَيْراً} توحيداً وصلَة {لِّلَّذِينَ أَحْسنُوا} وحدوا {فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} الْجنَّة يَوْم الْقِيَامَة {وَلَدَارُ الْآخِرَة} يَعْنِي الْجنَّة {خَيْرٌ} من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش الْجنَّة(1/223)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
{جَنَّاتُ عَدْنٍ} وَهِي مَقْصُورَة الرَّحْمَن {يَدْخُلُونَهَا} يَوْم الْقِيَامَة {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {لَهُمْ فِيهَا} فِي الْجنَّة {مَا يَشَآؤونَ} مَا يشتهون ويتمنون {كَذَلِكَ} هَكَذَا {يَجْزِي الله الْمُتَّقِينَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش(1/223)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
{الَّذين تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة} قبضتهم الْمَلَائِكَة {طَيِّبِينَ} طاهرين من الشّرك {يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} من الله {ادخُلُوا الْجنَّة} بإيمانكم واقتسموها {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وتقولون من الْخيرَات فِي الدُّنْيَا(1/223)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)
{هَل ينظرُونَ} مَا ينتظرون أهل مَكَّة إِذْ لَا يُؤمنُونَ {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَة} لقبض أَرْوَاحهم {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} عَذَاب رَبك بهلاكهم {كَذَلِكَ} كَمَا فعل بك قَوْمك كَذبُوك وشتموك {فَعَلَ الَّذين مِن قَبْلِهِمْ} من قبل قَوْمك بِأَنْبِيَائِهِمْ كذبوهم وشتموهم {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} بهلاكهم {وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالشرك وَتَكْذيب الرُّسُل(1/223)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} عُقُوبَة مَا عمِلُوا وَقَالُوا من الْمعاصِي(1/223)
{وَحَاقَ بِهِم} دَار وَنزل بهم وَوَجَب عَلَيْهِم {مَا كَانُوا بِهِ يستهزؤون} عُقُوبَة استهزائهم بالأنبياء وَيُقَال الْعَذَاب الَّذِي كَانُوا بِهِ يستهزءون(1/224)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
{وَقَالَ الَّذين أَشْرَكُواْ} بِاللَّه الْأَوْثَان يَعْنِي أهل مَكَّة {لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} من الْأَصْنَام {نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا} قبلنَا {وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ} من دون الله {مِن شَيْءٍ} من الْبحيرَة والسائبة والوصيلة والحام وَلَكِن حرم الله وأمرنا بذلك {كَذَلِك} كَمَا فعل كذب قَوْمك على الله بِتَحْرِيم الْحَرْث والأنعام {فَعَلَ} كذب {الَّذين مِن قَبْلِهِمْ} على الله {فَهَلْ عَلَى الرُّسُل} مَا على الرُّسُل {إِلاَّ الْبَلَاغ} عَن الله رِسَالَة الله {الْمُبين} بلغَة تعلمونها ظَاهِرَة(1/224)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ} إِلَى كل قوم {رَّسُولاً} كَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَى قَوْمك {أَنِ اعبدوا الله} وحدوا الله {وَاجْتَنبُوا الطاغوت} اتْرُكُوا عبَادَة الْأَصْنَام وَيُقَال الشَّيْطَان وَيُقَال الكاهن {فَمِنْهُم} من أرسلنَا إِلَيْهِم الرُّسُل {مَّنْ هَدَى الله} لدينِهِ فَأجَاب الرُّسُل إِلَى الْإِيمَان {وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ} وَجَبت {عَلَيْهِ الضَّلَالَة} فَلم يجب الرُّسُل إِلَى الْإِيمَان {فَسِيرُواْ} سافروا {فِي الأَرْض فانظروا} فاعتبرا {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} آخر أَمر المكذبين بالرسل(1/224)
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
{إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} على توحيدهم {فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي} لدينِهِ {مَن يُضِلُّ} خلقه عَن دينه وَلَا يكون أَهلا لدينِهِ {وَمَا لَهُمْ} لكفار مَكَّة {مِّن نَّاصِرِينَ} من مانعين من عَذَاب الله(1/224)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} حلفوا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم وَإِذا حلف الرجل بِاللَّه فقد حلف جهد يَمِينه {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} بعد الْمَوْت {بلَى وَعْداً عَلَيْهِ} على الله {حَقّاً} كَائِنا وَاجِبا أَن يبْعَث من يَمُوت {وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاس} أهل مَكَّة {لاَ يَعْلَمُونَ} ذَلِك وَلَا يصدقون(1/224)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
{لِيُبَيِّنَ لَهُمُ} لأهل مَكَّة {الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} يخالفون فِي الدّين {وَلِيَعْلَمَ} لكَي يعلم {الَّذين كفرُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن يَوْم الْقِيَامَة {أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ} فِي الدُّنْيَا بِأَن لَا جنَّة وَلَا نَار وَلَا بعث وَلَا حِسَاب(1/224)
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ} أمرنَا لقِيَام السَّاعَة {إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(1/224)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{وَالَّذين هَاجَرُواْ فِي الله} فِي طَاعَة الله من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة {من بعد مَا ظُلِمُواْ} من بعد مَا عذبهم أهل مَكَّة يَعْنِي عمار ابْن يَاسر وبلالاً وصهيباً وأصحابهم {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا} لننزلنهم فِي الْمَدِينَة {حَسَنَةً} أَرضًا كَرِيمَة آمِنَة ذَات غنيمَة حَلَال {وَلأَجْرُ الْآخِرَة} ثَوَاب الْآخِرَة {أَكْبَرُ} أعظم من ثَوَاب الدُّنْيَا {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} وَقد كَانُوا يعلمُونَ(1/224)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
{الَّذين صَبَرُواْ} على أَذَى الْكفَّار {وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} لَا على غَيره يَعْنِي عماراً وَأَصْحَابه(1/224)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} يَا مُحَمَّد الرُّسُل {إِلاَّ رِجَالاً} آدَمِيًّا مثلك {نوحي إِلَيْهِمْ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والعلامات {فاسألوا أَهْلَ الذّكر} أهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل {إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} أَن لله لم يُرْسل الرُّسُل إِلَّا إنسياً(1/224)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
{بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والعلامات {الزبر} خبر كتب الْأَوَّلين {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكر} جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}(1/224)
مَا أَمر لَهُم فِي الْقُرْآن {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} لكَي يتفكروا مَا أَمر لَهُم فِي الْقُرْآن(1/225)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
{أَفَأَمِنَ الَّذين مَكَرُواْ السَّيِّئَات} الشّرك بِاللَّه {أَن يَخْسِفَ الله} أَن لَا يغور الله {بِهِمُ الأَرْض أَوْ يَأْتِيَهُمُ} أَو لَا يَأْتِيهم {الْعَذَاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} بنزوله(1/225)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ} أَو لَا يَأْخُذهُمْ {فِي تَقَلُّبِهِمْ} فِي ذهابهم ومجيئهم فِي التِّجَارَة {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} بفائتين من عَذَاب الله(1/225)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ} أَو لَا يَأْخُذهُمْ {على تَخَوُّفٍ} على تنقص رُؤَسَائِهِمْ وأصحابهم {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} لمن تَابَ وَيُقَال بِتَأْخِير الْعَذَاب(1/225)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} أهل مَكَّة {إِلَى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} من الشّجر وَالدَّوَاب {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} يتقلب ظلاله {عَنِ الْيَمين} غدْوَة {والشمآئل} وَعَن الشَّمَائِل عَشِيَّة {سُجَّداً لِلَّهِ} يَسْجُدُونَ لله وظلالهم غدْوَة وَعَشِيَّة أَيْضا تسْجد لله {وَهُمْ دَاخِرُونَ} مطيعون(1/225)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَات} من الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم {وَمَا فِي الأَرْض مِن دَآبَّةٍ} من الدَّوَابّ والطيور {وَالْمَلَائِكَة} فِي السَّمَاء يَسْجُدُونَ لله {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عَن السُّجُود لله(1/225)
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ} الَّذِي فَوْقهم على الْعَرْش {وَيَفْعَلُونَ} يَعْنِي وَيَقُولُونَ {مَا يُؤْمَرُونَ} يَعْنِي الْمَلَائِكَة(1/225)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
{وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ} لَا تعبدوا {إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} نَفسه والأصنام {إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِدٌ} بِلَا ولد وَلَا شريك {فَإيَّايَ فارهبون} فخافون فِي عبَادَة الْأَصْنَام(1/225)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
{وَله مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} من الْخلق والعجائب {وَلَهُ الدّين وَاصِباً} دَائِما وَيُقَال خَالِصا {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} تَعْبدُونَ(1/225)
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} فَمن قبل الله لَا من قبل الْأَصْنَام {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضّر} أَصَابَتْكُم الشدَّة {فَإِلَيْهِ} إِلَى الله {تَجْأَرُونَ} تتضرعون وتدعون(1/225)
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضّر} رفع الشدَّة {عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ} طَائِفَة {مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} الْأَصْنَام(1/225)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
{لِيَكْفُرُواْ} حَتَّى يكفروا {بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} أعطيناهم من النَّعيم فيقولوا بشفاعة آلِهَتنَا هَذَا {فَتَمَتَّعُواْ} فعيشوا فِي الْكفْر وَالْحرَام {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} مَاذَا يفعل بكم(1/225)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
{وَيَجْعَلُونَ} يَقُولُونَ {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً} حظاً للرِّجَال دون النِّسَاء وَيُقَال لما لَا يَقُولُونَ وَلَا يعلمُونَ يَعْنِي الْأَصْنَام {مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} من الْحَرْث والأنعام وَيَقُولُونَ الله أمرنَا بِهَذَا {تالله} وَالله {لتسألن} يَوْم الْقِيَامَة {عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} تكذبون على الله(1/225)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَات} يَقُولُونَ الْمَلَائِكَة بَنَات الله {سُبْحَانَهُ} نزه نَفسه عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} مَا يختارون من الذُّكُور(1/225)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} بالجارية {ظَلَّ وَجْهُهُ مسودا}(1/225)
صَار وَجهه مسوداً من الْغم {وَهُوَ كَظِيمٌ} مكروب يتَرَدَّد الْغم فِي جَوْفه(1/226)
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
{يتَوَارَى مِنَ الْقَوْم} يكتم من قومه {مِن سوء} من كره {مَا بُشِّرَ بِهِ} بِالْأُنْثَى كَرَاهِيَة الْإِظْهَار {أَيُمْسِكُهُ} أيحفظه {على هُونٍ} على هوان ومشقة {أَمْ يَدُسُّهُ} يدفنه {فِي التُّرَاب} حَيا {أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} بئس مَا يقضون لأَنْفُسِهِمْ الذُّكُور وَللَّه الْبَنَات(1/226)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {مَثَلُ السوء} يَعْنِي النَّار {وَلِلَّهِ الْمثل الْأَعْلَى} الصّفة الْعليا الألولهية والربوبية بِلَا ولد وَلَا شريك {وَهُوَ الْعَزِيز} بالنقمة لمن لَا يُؤمن بِهِ {الْحَكِيم} أَمر أَن لَا يعبد غَيره(1/226)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاس بِظُلْمِهِمْ} بشركهم {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} على ظهر الأَرْض {مِن دَآبَّةٍ} من الْجِنّ وَالْإِنْس أحدا {وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ} يؤجلهم {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى} إِلَى وَقت هلاكهم {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} وَقت هلاكهم {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} لَا يتركون عَن الْأَجَل قدر سَاعَة {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} لَا يهْلكُونَ قبل الْأَجَل(1/226)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} يَقُولُونَ لله الْبَنَات مَالا يرضون لأَنْفُسِهِمْ {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِب} يَقُولُونَ بألسنتهم الْكَذِب {أَنَّ لَهُمُ الْحسنى} يَعْنِي الذُّكُور وَيُقَال أَن لَهُم الْحسنى يَعْنِي الْجنَّة وَيُقَال أَن لَهُم الْحسنى من أَيْن لَهُم الْجنَّة {لاَ جَرَمَ} حَقًا {أَنَّ لَهُمُ النَّار وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} متروكون وَيُقَال منسيون وَيُقَال مفرطون بالْقَوْل وَالْفِعْل وَإِن قَرَأت بِكَسْر الرَّاء(1/226)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{تالله} وَالله {لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَان أَعْمَالَهُمْ} دينهم فَلم يُؤمنُوا {فَهُوَ وليهم الْيَوْم} فيالدنيا وقرينهم فِي النَّار {وَلَهُمْ} فِي الْآخِرَة {عَذَابٌ أَلِيم} وجيع(1/226)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
{وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكتاب} جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتلفُوا} خالفوا {فِيهِ} فِي الدّين {وَهُدًى} من الضَّلَالَة {وَرَحْمَةً} من الْعَذَاب {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بِهِ(1/226)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
{وَالله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} مَطَرا {فَأَحْيَا بِهِ} بالمطر {الأَرْض بعد موتهآ} قحطها ويبوستها {إِنَّ فِي ذَلِك} فِي إحْيَاء مَا ذكرت {لآيَةً} لعلامة {لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} يطيعون ويصدقون(1/226)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} نخرج {لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً} شهياً {لِلشَّارِبِينَ}(1/226)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
{وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل وَالْأَعْنَاب} يَعْنِي الكروم {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} مُسكرا وَهَذَا مَنْسُوخ وَيُقَال طَعَاما {وَرِزْقاً حَسَناً} حَلَالا من الْخلّ والدبس وَالزَّبِيب وَغير ذَلِك {إِنَّ فِي ذَلِك} فِيمَا ذكرت لكم {لآيَةً} لعلامة {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يصدقون(1/226)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
{وَأوحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْل} ألهم رَبك النَّحْل(1/226)
{أَنِ اتخذي مِنَ الْجبَال بُيُوتاً} فِي الْجبَال مسكنا {وَمِنَ الشّجر} وَفِي الشّجر أَيْضا {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} يبنون(1/227)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات} من ألوان كل الثمرات {فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ} فادخلي طرق رَبك {ذُلُلاً} مذللاً مسخراً لَك {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا} من بطُون النَّحْل {شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} الْأَحْمَر والأصفر والأبيض {فِيهِ} فِي الْعَسَل {شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} من الدَّاء وَيُقَال فِيهِ فِي الْقُرْآن شِفَاء بَيَان للنَّاس {إِنَّ فِي ذَلِك} فِيمَا ذكرت {لآيَةً} لعلامة وعبرة {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فِيمَا خلقت(1/227)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
{وَالله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} يقبض أرواحكم عِنْد انْقِضَاء آجالكم {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمر} أَسْفَل الْعُمر {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ} حَتَّى لَا يفقه {بَعْدَ عِلْمٍ} الْعلم الأول {شَيْئاً إِنَّ الله عَلِيمٌ} بتحويل الْخلق {قَدِيرٌ} على تحويلهم من حَال إِلَى حَال(1/227)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
{وَالله فضل بَعْضكُم على بعض فِي الرزق} نزلت هَذِه الْآيَة فِي أهل نَجْرَان حِين قَالُوا الْمَسِيح ابْن الله فَنزل قَوْله {وَالله فضل بَعْضكُم على بعض فِي الرزق} فِي المَال والخدم {فَمَا الَّذين فُضِّلُواْ} بِالْمَالِ والخدم {بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ} هَل يُعْطون مَالهم {على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} لعبيدهم وإمائهم {فَهُمْ} يَعْنِي الْمَالِك والمملوك {فِيهِ} فِي المَال {سَوَآءٌ} شرع قَالُوا لَا نَفْعل ذَلِك وَلَا نرضى فَقَالَ الله {أفبنعمة الله يجحدون} أفترضون لي مَالا ترْضونَ لأنفسكم وتكفرون بوحدانية الله(1/227)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
{وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} آدَمِيًّا مثلكُمْ {أَزْوَاجاً} نسَاء {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم} من نِسَائِكُم {بَنِينَ وَحَفَدَةً} يَعْنِي ولد الْوَلَد وَيُقَال خدما وعبيدا وَيُقَال أختاناً {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَات} جعل أرزاقكم أَلين وَأطيب من رزق الدَّوَابّ {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} أفبالشيطان والأصنام يُؤمنُونَ ويصدقون {وبنعمة الله} بوحدانية الله وَدينه {هُمْ يَكْفُرُونَ}(1/227)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ} مَا لَا يقدر {لَهُمْ} يَعْنِي الْأَصْنَام {رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَات} بالمطر {وَالْأَرْض} بالنبات {شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} لَا يقدرُونَ على ذَلِك(1/227)
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
{فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الْأَمْثَال} فَلَا تصفوا لله ولدا وَلَا شَرِيكا وَلَا شَبِيها {إِنَّ الله يَعْلَمُ} أَن لَا ولد وَلَا شريك لَهُ {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذَلِك يَا معشر الْكفَّار(1/227)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
ثمَّ ضرب مثل الْمُؤمن وَالْكَافِر فَقَالَ {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً} بَين الله صفة عبد مَمْلُوك {لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} من النَّفَقَة وَالْإِحْسَان وَهُوَ مثل الْكَافِر لَا يَجِيء مِنْهُ خير {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} أعطيناه {مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} مَالا كثيرا {فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً} فِيمَا بَينه وَبَين الله {وَجَهْراً} فِيمَا بَينه وَبَين النَّاس فِي سَبِيل الله وَهَذَا مثل الْمُؤمن المخلص {هَلْ يَسْتَوُونَ} فِي الثَّوَاب وَالطَّاعَة {الْحَمد لِلَّهِ} الشُّكْر لله والوحدانية لله {بَلْ أَكْثَرُهُمْ} كلهم {لاَ يَعْلَمُونَ} أَمْثَال الْقُرْآن وَيُقَال نزلت هَذِه الْآيَة فِي عُثْمَان بن عَفَّان وَرجل من الْعَرَب يُقَال لَهُ أَبُو الْعيص بن أُميَّة(1/227)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
ثمَّ ضرب مثله وَمثل الْأَصْنَام فَقَالَ {وَضَرَبَ الله مَثَلاً} بَين الله صفة {رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} أخرس {لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} من الْكَلَام وَهُوَ الصَّنَم {وَهُوَ كَلٌّ} ثقل {على مَوْلاهُ} على وليه وقرابته عِيَال على عائله(1/227)
{أَيْنَمَا يوجهه} ويدعوه من شَرق أَو عرب {لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} لَا يُجيب من يَدعُوهُ بِخَير وَهَذَا مثل الصَّنَم {هَلْ يَسْتَوِي} فِي النَّفْع وَدفع الضّر {هُوَ} يَعْنِي الصَّنَم {وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} بِالتَّوْحِيدِ {وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يَدْعُو إِلَى طَرِيق مُسْتَقِيم وَهُوَ الله(1/228)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
{وَللَّه غيب السَّمَاوَات وَالْأَرْض} مَا غَابَ عَن الْعباد {وَمَآ أَمْرُ السَّاعَة} أَمر قيام السَّاعَة فِي السرعة {إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَر} كطرف الْبَصَر {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} بل هُوَ أقرب {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ} من الْبَعْث وَغَيره {قدير}(1/228)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
{وَالله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} من الْأَشْيَاء وَيُقَال كل شَيْء {وَجَعَلَ لَكُمُ السّمع} تَسْمَعُونَ بهَا الْخَيْر {والأبصار} تبصرون بهَا الْخَيْر {والأفئدة} يَعْنِي الْقُلُوب تعقلون بهَا الْخَيْر {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكَي تشكروا نعْمَته وتؤمنوا بِهِ(1/228)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
{أَلَمْ يَرَوْاْ} ألم تنظروا يَا أهل مَكَّة حَتَّى تعلمُوا قدرَة الله ووحدانيته {إِلَى الطير مُسَخَّرَاتٍ} مذللات {فِي جَوِّ السمآء} فِي وسط السَّمَاء أَي بَين السَّمَاء وَالْأَرْض يطرن {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله} بعد الطيران {إِنَّ فِي ذَلِك} فِي إمساكهن من الْهَوَاء {لآيَاتٍ} لعلامات لوحدانية الله {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون أَن إمساكهن من الله(1/228)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
ثمَّ ذكر نعْمَته لكَي يشكروا بذلك ويؤمنوا بِهِ فَقَالَ {وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ} بيُوت الْمدر {سَكَناً} مسكنا وقراراً {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الْأَنْعَام} من أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا {بُيُوتاً} يَعْنِي الْخيام والفساطيط {تَسْتَخِفُّونَهَا} تستخفون حملهَا {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} يَوْم سفركم {وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} يَوْم نزولكم {وَمِنْ أَصْوَافِهَا} أصواف الْغنم {وَأَوْبَارِهَا} أوبار الْإِبِل {وَأَشْعَارِهَآ} أشعار الْمعز {أَثَاثاً} مَالا {وَمَتَاعاً} مَنْفَعَة {إِلَى حِينٍ} إِلَى حِين الفناء والإبلاء(1/228)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
{وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ} من الْأَشْجَار والحيطان وَالْجِبَال أكنانا {ظِلاَلاً} كُنَّا لكم من الْحر {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجبَال} فِي الْجبَال {أَكْنَاناً} يَعْنِي الغيران والأسراب {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} يَعْنِي القمص {تَقِيكُمُ الْحر} فِي الصَّيف وَالْبرد فِي الشتَاء {وَسَرَابِيلَ} يَعْنِي الدروع {تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} سلَاح عَدوكُمْ {كَذَلِكَ} هَكَذَا {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} لكَي تقروا وَيُقَال تسلموا من الْجراحَة إِن قَرَأت بِنصب التَّاء وَاللَّام(1/228)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} عَن الْإِيمَان {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغ الْمُبين} التَّبْلِيغ عَن الله بلغَة تعلمونها فَلَمَّا ذكر لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذِه النعم قَالُوا نعم يَا مُحَمَّد هَذِه كلهَا من الله(1/228)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
ثمَّ أَنْكَرُوا بعد ذَلِك وَقَالُوا بشفاعة آلِهَتنَا فَقَالَ الله {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله} يقرونَ أَن هَذِه النعم كلهَا من الله {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} فَيَقُولُونَ بشفاعة آلِهَتنَا {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} كلهم كافرون بِاللَّه(1/228)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ} نخرج من كل قوم {شَهِيداً} نَبيا عَلَيْهِم شَهِيدا بالبلاغ {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} فِي الْكَلَام {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يرجعُونَ إِلَى الدُّنْيَا(1/228)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
{وَإِذا رأى الَّذين ظلمُوا} كفرا {الْعَذَاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ}(1/228)
لَا يرفع عَنْهُم {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يؤجلون من عَذَاب الله(1/229)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
{وَإِذَا رَأى الَّذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ} آلِهَتهم {قَالُواْ رَبنَا} يَا رَبنَا {هَؤُلَاءِ شركاؤنا} آلِهَتنَا {الَّذين كُنَّا نَدْعُو} نعْبد {مِن دُونِكَ} أمرونا بعبادتهم {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القَوْل} ردوا إِلَيْهِم الْجَواب يَعْنِي الْأَصْنَام {إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} فِي مَقَالَتَكُمْ مَا أمرناكم وَمَا كُنَّا نعلم بعبادتكم(1/229)
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
{وَأَلْقَوْاْ إِلَى الله يَوْمَئِذٍ السّلم} استسلم العابد والمعبود لله تَعَالَى {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} بَطل افتراؤهم على الله وَيُقَال اشْتغل بِأَنْفسِهِم آلِهَتهم الَّتِي كَانُوا يعْبدُونَ بِالْكَذِبِ(1/229)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
{الَّذين كفرُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} عَن دين الله وطاعته {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً} عَذَاب الْحَيَّات والعقارب والجوع والعطش والزمهرير وَغير ذَلِك {فَوْقَ الْعَذَاب} فَوق عَذَاب النَّار {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} يَقُولُونَ ويعملون من الْمعاصِي والشرك(1/229)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ} نخرج من كل جمَاعَة {شَهِيداً} نَبيا {عَلَيْهِمْ} شَهِيدا بالبلاغ {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} آدَمِيًّا مثلهم {وَجِئْنَا بِكَ} يَا مُحَمَّد {شَهِيدا على هَؤُلَاءِ} على أمتك وَيُقَال مزكياً لَهُم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكتاب} جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} من الْحَلَال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي {وَهُدًى} من الضَّلَالَة {وَرَحْمَةً} من الْعَذَاب {وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} الْجنَّة(1/229)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
{إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} بِالتَّوْحِيدِ {وَالْإِحْسَان} بأَدَاء الْفَرَائِض وَيُقَال بِالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاس {وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى} يَعْنِي صلَة الرَّحِم {وَينْهى عَنِ الْفَحْشَاء} عَن الْمعاصِي كلهَا {وَالْمُنكر} مَالا يعرف فِي شَرِيعَة وَلَا سنة {وَالْبَغي} الاستطالة وَالظُّلم {يَعِظُكُمْ} يَنْهَاكُم عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر وَالْبَغي {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لكَي تتعظوا بأمثال الْقُرْآن(1/229)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ} نزلت هَذِه الْآيَة فِي كِنْدَة وَمُرَاد وَيُقَال أَتموا العهود بِاللَّه إِذا حلفتم بِاللَّه بِالْوَفَاءِ {وَلاَ تَنقُضُواْ الْأَيْمَان} يَعْنِي العهود فِيمَا بَيْنكُم {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} تغليظها وتشديدها {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} يَعْنِي شَهِيدا وَيُقَال حفيظاً مَعْنَاهُ وَقد قُلْتُمْ الله شَهِيد علينا بِالْوَفَاءِ على كلا الْفَرِيقَيْنِ {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} من النَّقْض وَالْوَفَاء(1/229)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
{وَلاَ تَكُونُواْ} فِي نقض الْعَهْد {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} يَعْنِي رابطة الحمقاء {مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} إبرام وإحكام {أَنكَاثاً} أنقاضاً {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ} عهودكم {دَخَلاً} مكراً وخديعة {بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ} بِأَن تكون جمَاعَة {هِيَ أَرْبَى} أَكثر {مِنْ أُمَّةٍ} من جمَاعَة {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ} يختبركم بِالْكَثْرَةِ وَيُقَال بِنَقْض الْعَهْد {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة مَا كُنتُمْ فِيهِ} فِي الدّين {تختلفون} تخالفون(1/229)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
{وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} لجمعكم على مِلَّة وَاحِدَة مِلَّة الْإِسْلَام {وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} عَن دينه من لم يكن أَهلا لدينِهِ {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ}(1/229)
لدينِهِ من كَانَ أَهلا لذَلِك {ولتسألن} يَوْم الْقِيَامَة {عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر فِي الْكفْر وَالْإِيمَان وَيُقَال من النَّقْض وَالْوَفَاء(1/230)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
{وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ} عهودكم {دَخَلاً} دغلاً ومكراً وخديعة {بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ} فتزلوا عَن طَاعَة الله كَمَا تزل قدم الرجل {بَعْدَ ثُبُوتِهَا} قِيَامهَا {وتذوقوا السوء} النَّار {بِمَا صَدَدتُّمْ} بِمَا صرفتم النَّاس {عَن سَبِيلِ الله} عَن دين الله وطاعته {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} شَدِيد فِي الْآخِرَة(1/230)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
{وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} بِالْحلف بِاللَّه كَاذِبًا عرضا يَسِيرا من الدُّنْيَا {إِنَّمَا عِنْدَ الله} من الثَّوَاب {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} مِمَّا عنْدكُمْ من المَال {إِن كُنتُمْ} إِذْ كُنْتُم {تَعْلَمُونَ} ثَوَاب الله وَيُقَال إِن كُنْتُم تصدقُونَ بِثَوَاب الله(1/230)
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
{مَا عِندَكُمْ} من الْأَمْوَال {يَنفَدُ} يفنى {وَمَا عِندَ الله} من الثَّوَاب {بَاقٍ} يبْقى {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذين صَبَرُوا} عَن الْيَمين وأقروا بِالْحَقِّ {أجرهم} ثوابهم فِي الْآخِرَة {بِأَحْسَن مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} بأحسنهم فِي الدُّنْيَا(1/230)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
{من عمل صَالحا} خَالِصا فِيمَا بَينه وَبَين ربه وَأقر بِالْحَقِّ {مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وَمَعَ ذَلِك مُؤمن مخلص {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} فِي الطَّاعَة وَيُقَال فِي القناعة وَيُقَال فِي الْجنَّة {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم} ثوابهم فِي الْآخِرَة {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بإحسانهم فِي الدُّنْيَا نزلت هَذِه الْآيَة فِي عَبْدَانِ بن الأشوع وامرىء الْقَيْس الْكِنْدِيّ فِي خُصُومَة كَانَت بَينهمَا فِي أَرض(1/230)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآن} فَإِذا أردْت يَا مُحَمَّد أَن تقْرَأ الْقُرْآن فِي أول افْتِتَاح الصَّلَاة أَو غير الصَّلَاة {فاستعذ بِاللَّه} فَقل أعوذ بِاللَّه {مِنَ الشَّيْطَان الرَّجِيم} اللعين المرجوم بِالنَّجْمِ المطرود من رَحْمَة الله(1/230)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} سَبِيل وَغَلَبَة {على الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} لاعلى غَيره ويفوضون أُمُورهم إِلَيْهِ(1/230)
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ} سَبيله وغلبته {على الَّذين يَتَوَلَّوْنَهُ} يطيعونه {وَالَّذين هُم بِهِ} بِاللَّه {مُشْرِكُونَ}(1/230)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً} نزلنَا جِبْرِيل بِآيَة ناسخة {مَّكَانَ آيَةٍ} مَنْسُوخَة {وَالله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} بصلاح مَا يَأْمر الْعباد {قَالُوا} كفار مَكَّة {إِنَّمَآ أَنتَ} يَا مُحَمَّد {مُفْتَرٍ} مختلق من تِلْقَاء نَفسك {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أَن الله لَا يَأْمر عباده إِلَّا بِمَا يصلح لَهُم(1/230)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {نَزَّلَهُ} يَعْنِي نزل الْقُرْآن وَإِنَّمَا شدده لِكَثْرَة نُزُوله {رُوحُ الْقُدس} جِبْرِيل الْمَطَر {مِن رَّبِّكَ} يَا مُحَمَّد {بِالْحَقِّ} بالناسخ والمنسوخ {لِيُثَبِّتَ} ليطيب ويطمئن إِلَيْهِ قُلُوب {الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَهُدًى} من الضَّلَالَة {وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} بِالْجنَّةِ(1/230)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ} يَا مُحَمَّد {أَنَّهُمْ} يَعْنِي كفار مَكَّة {يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ} يَعْنِي الْقُرْآن {بَشَرٌ} جبر ويسار {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} يميلون ويشبهون وينسبون إِلَيْهِ {أَعْجَمِيٌّ} عبراني {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ} يَقُول الْقُرْآن على مجْرى لُغَة الْعَرَبيَّة {مُّبِينٌ} بلغَة يعلمونها(1/230)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
{إِنَّ الَّذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله} بِمُحَمد عَلَيْهِ السَّلَام وَالْقُرْآن {لاَ يَهْدِيهِمُ الله} لدينِهِ من لم يكن أَهلا لدينِهِ وَيُقَال لَا يهْدِيهم إِلَى الْحجَّة وَلَا ينجيهم من النَّار {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1/230)
وجيع(1/231)
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
{إِنَّمَا يَفْتَرِي} يختلق {الْكَذِب} على الله {الَّذين لَا يُؤمنُونَ بآيَات الله} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} على الله(1/231)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
{مَن كَفَرَ بِاللَّه مِن بَعْدِ إيمَانِهِ} بِاللَّه فَعَلَيهِ غضب من الله {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} إِلَّا من أجبر على الْكفْر {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان} مُعْتَقد على الْإِيمَان نزلت هَذِه الْآيَة فِي عمار بن يَاسر {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} تكلم بالْكفْر طَائِعا {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله} سخط من الله {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} شَدِيد مِمَّا يكون فِي الدُّنْيَا نزلت هَذِه الْآيَة فِي عبد الله بن سعد بن أبي سرح {ذَلِك} الْعَذَاب(1/231)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
{بِأَنَّهُمُ استحبوا الْحَيَاة} اخْتَارُوا {الدُّنْيَا على الْآخِرَة} وَالْكفْر على الْإِيمَان {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي} لدينِهِ وَلَا يُنجي من عَذَابه {الْقَوْم الْكَافرين} من لم يكن أَهلا لذَلِك(1/231)
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)
{أُولَئِكَ الَّذين طَبَعَ الله} ختم الله {على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الغافلون} عَن أَمر الْآخِرَة تاركون لَهَا وَيُقَال غافلون عَن التَّوْحِيد جاحدون بِهِ(1/231)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
{لاَ جَرَمَ} حَقًا يَا مُحَمَّد {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَة هُمُ الخاسرون} المغبونون نزلت فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ(1/231)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ} يَا مُحَمَّد {لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ} من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة {من بعد مَا فُتِنُواْ} عذبُوا عذبهم أهل مَكَّة عمار بن يَاسر وَأَصْحَابه {ثُمَّ جَاهَدُواْ} الْعَدو فِي سَبِيل الله {وصبروا} مَعَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على المرازي {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} من بعد الْهِجْرَة {لَغَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} بهم(1/231)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
{يَوْمَ تَأْتِي} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {كُلُّ نَفْسٍ} برة أَو فاجرة {تُجَادِلُ} تخاصم {عَن نَّفْسِهَا} لقبل نَفسهَا وَيُقَال مَعَ شيطانها وَيُقَال مَعَ روحها {وَتوفى} توفر {كُلُّ نَفْسٍ} برة أَو فاجرة {مَا عملت} بِمَا عملت من خير أَو شَرّ {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لَا ينقص من حسناتهم وَلَا يُزَاد على سيئاتهم(1/231)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
{وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً} بَين الله تَعَالَى صفة أهل مَكَّة أبي جهل والوليد وأصحابهما {كَانَتْ آمِنَةً} كَانَ أَهلهَا آمِنين من الْعَدو والقتال والجوع والسبي {مُّطْمَئِنَّةً} مُقيما أَهلهَا {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} يحمل إِلَيْهَا من الثمرات {رَغَداً} موسعاً {من كل مَكَان} نَاحيَة أَرض يحمل إِلَيْهَا {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} فَكفر أَهلهَا بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الْجُوع وَالْخَوْف} فعاقب الله أَهلهَا بِالْجُوعِ سبع سِنِين وَالْخَوْف من خوف حَرْب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} يَقُولُونَ ويعملون بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْجفَاء(1/231)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
{وَلَقَد جَاءَهُم رَسُول} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {مِّنْهُمْ} من نسبهم عَرَبِيّ قرشي مثلهم {فَكَذَّبُوهُ} مِمَّا جَاءَهُم بِهِ {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَاب} عَذَاب الله بِالْجُوعِ وَالْقَتْل والسبي {وَهُمْ ظَالِمُونَ} كافرون(1/231)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
{فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} من الْحَرْث والأنعام وَالنَّعِيم {حَلالاً طَيِّباً واشكروا} واذْكُرُوا {نِعْمَةَ الله إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} إِن كُنْتُم إِيَّاه تُرِيدُونَ عبَادَة الله بِتَحْرِيم الْحَرْث والأنعام فاستحلوا فَإِن عبَادَة الله فِي تَحْلِيله(1/231)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْميتَة} الَّتِي أَمر بذبحها {وَالدَّم} دم المسفوح {وَلَحْمَ الْخِنْزِير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} وَمَا ذبح بِغَيْر اسْم الله عمدا أَو الْأَصْنَام {فَمَنِ اضْطر} أجهد إِلَى مَا حرم الله عَلَيْهِ {غَيْرَ بَاغٍ} على الْمُسلمين وَيُقَال غير مستحل لأكل الْميتَة {وَلاَ عَادٍ} قَاطع الطَّرِيق وَيُقَال متعمد للْأَكْل بِغَيْر الضَّرُورَة {فَإِنَّ الله غَفُورٌ} بِأَكْل الْميتَة عِنْد الضَّرُورَة {رَّحِيمٌ} إِذْ رخص لَهُ الْأكل عِنْد الضَّرُورَة(1/232)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِب} لَا تَقولُوا بألسنتكم الْكَذِب {هَذَا} يَعْنِي الْحَرْث والأنعام {حَلاَلٌ} على الرِّجَال {وَهَذَا حَرَامٌ} على النِّسَاء {لِّتَفْتَرُواْ} لتختلقوا {على الله الْكَذِب} بذلك {إِنَّ الَّذين يَفْتَرُونَ} يختلقون {على الله الْكَذِب لاَ يُفْلِحُونَ} لَا ينجون وَلَا يأمنون من عَذَاب الله(1/232)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} عيشهم فِي الدُّنْيَا قَلِيل {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع فِي الْآخِرَة(1/232)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
{وعَلى الَّذين هَادُواْ} مالوا عَن الْإِسْلَام يَعْنِي الْيَهُود {حَرَّمْنَا} عَلَيْهِم {مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} مَا سمينا لَك {مِن قَبْلُ} من قبل هَذِه السُّورَة فِي سُورَة الْأَنْعَام {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بِمَا حرمنا عَلَيْهِم من الشحوم واللحوم {وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} يضرون أَي بِذُنُوبِهِمْ حرم الله عَلَيْهِم(1/232)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
{ثمَّ إِن رَبك} يَا حمد {للَّذين عمِلُوا السوء بِجَهَالَةٍ} بتعمد وَإِن كَانَ جَاهِلا بركوبها {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ} السوء {وَأَصْلحُوا} الْعَمَل فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {إِنَّ رَبَّكَ} يَا مُحَمَّد {مِن بَعْدِهَا} من بعد التَّوْبَة {لَغَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} بهم(1/232)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
{إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة} إِمَّا مَا يقْتَدى بِهِ {قَانِتاً} مُطيعًا {لِلَّهِ حَنِيفاً} مُسلما مخلصاً {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْركين} مَعَ الْمُشْركين على دينهم(1/232)
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
{شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} شاكراً لما أنعم الله عَلَيْهِ {اجتباه} اصطفاه بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ثبته على طَرِيق قَائِم يرضيه وَهُوَ الْإِسْلَام(1/232)
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
{وَآتَيْنَاهُ} أعطيناه {فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} ولدا صَالحا وَيُقَال ثَنَاء حسنا وَيُقَال الذّكر وَالثنَاء الْحسن فِي النَّاس كلهم {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَة لَمِنَ الصَّالِحين} مَعَ آبَائِهِ الْمُرْسلين فِي الْجنَّة(1/232)
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
{ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} أمرناك يَا مُحَمَّد {أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أَن اسْتَقِم على دين إِبْرَاهِيم {حَنِيفاً} مُسلما {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْركين} مَعَ الْمُشْركين على دينهم(1/232)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
{إِنَّمَا جُعِلَ السبت} حرم السبت {على الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ} فِي الْجُمُعَة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} بَين الْيَهُود وَالنَّصَارَى {يَوْمَ الْقِيَامَة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ} فِي الدّين {يَخْتَلِفُونَ} يخالفون(1/232)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
{ادْع إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} إِلَى دين رَبك {بالحكمة} بِالْقُرْآنِ {وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة} عظهم بمواعظ الْقُرْآن {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بِالْقُرْآنِ وَيُقَال بِلَا إِلَه إِلَّا الله {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمن ضل عَن سَبيله} عَن دينه {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} لدينِهِ(1/232)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} مثلتم {فَعَاقِبُواْ} فمثلوا {بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ} مثلتم {بِهِ} بالأموات {وَلَئِن صَبَرْتُمْ} عَن الْمثلَة {لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} فِي الْآخِرَة(1/233)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
{واصبر} يَا مُحَمَّد على أذاهم {وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّه} بِتَوْفِيق الله {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} على الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالْهَلَاكِ {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ} وَلَا يضيق صدرك {مِمَّا يمكرون} بِمَا يَقُولُونَ ويصنعون بك(1/233)
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
{إِنَّ الله مَعَ الَّذين اتَّقوا} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش {وَالَّذين هُم مُّحْسِنُونَ} بالْقَوْل وَالْفِعْل موحدون
وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا بَنو إِسْرَائِيل وَهِي كلهَا مَكِّيَّة غير آيَات مِنْهَا خبر وَفد ثَقِيف وَخبر مَا قَالَت لَهُ الْيَهُود لَيست هَذِه بِأَرْض الْأَنْبِيَاء فَنزل {وَإِن كَادُوا ليستفزونك من الأَرْض} إِلَى قَوْله {أدخلني مدْخل صدق} إِلَى آخر الْآيَة فَهَؤُلَاءِ الْآيَات مدنيات آياتها مائَة وَعشر آيَات وكلماتها ألف وَخَمْسمِائة وَثَلَاث وَثَلَاثُونَ وحروفها سِتَّة آلَاف واربعمائة {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}(1/233)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
وباسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تعال {سُبْحَانَ} يَقُول تعظم وتبرأ عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ} سير عَبده وَيُقَال أدْلج عَبده مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {لَيْلاً} أول اللَّيْل {مِّنَ الْمَسْجِد الْحَرَام} من الْحرم من بَيت أم هانى بنت أبي طَالب {إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى} أبعد من الأَرْض وَأقرب إِلَى السَّمَاء يَعْنِي مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} بِالْمَاءِ وَالْأَشْجَار وَالثِّمَار {لنريه} لكَي نرى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {مِنْ آيَاتِنَآ} من عجائبنا فَكل مَا رأى تِلْكَ اللَّيْلَة كَانَ من عجائب الله {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيع} لمقالة قُرَيْش {الْبَصِير} بهم ويسير عَبده مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/233)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
{وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكتاب} أعطينا مُوسَى التَّوْرَاة جملَة وَاحِدَة {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} من الضَّلَالَة {أَلاَّ تَتَّخِذُواْ} أَن لَا تعبدوا {مِن دُونِي وَكيلا} رَبًّا(1/233)
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
{ذُرِّيَّةَ} يَا ذُرِّيَّة {مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} فِي السَّفِينَة فِي أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء {إِنَّهُ} يَعْنِي نوحًا {كَانَ عَبْداً شَكُوراً} شاكراً كَانَ إِذا أكل أَو شرب أَو اكتسى قَالَ الْحَمد لله(1/233)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
{وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} بَينا لبني إِسْرَائِيل {فِي الْكتاب} فِي التَّوْرَاة {لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْض} لتعصن فِي الأَرْض {مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} لتعتن عتواً كَبِيرا وَيُقَال لتقهرن قهرا شَدِيدا(1/233)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
{فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} أول العذابين وَيُقَال أول الفسادين {بَعَثْنَا} سلطنا {عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} بخْتنصر وَأَصْحَاب ملك بابل {أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} ذَوي قتال شَدِيد {فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار} فقتلوكم وسط الديار فِي الْأَزِقَّة {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} مَقْدُورًا كَائِنا لَئِن فَعلْتُمْ لَأَفْعَلَنَّ بكم فَكَانُوا تسعين سنة فِي الْعَذَاب أسرى فِي يَد بخْتنصر قبل أَن ينصرهم الله بكورش الْهَمدَانِي(1/233)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة} الدولة {عَلَيْهِمْ} بِظُهُور كورش الْهَمدَانِي على بخْتنصر وَيُقَال ثمَّ عطفنا عَلَيْكُم العطفة بالدولة {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} أعطيناكم أَمْوَالًا وبنين {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} رجَالًا وعدداً(1/233)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ} وحدتم بِاللَّه {أَحْسَنْتُمْ} وحدتم {لأَنْفُسِكُمْ} ثَوَاب ذَلِك الْجنَّة(1/233)
{وَإِنْ أَسَأْتُمْ} أشركتم بِاللَّه {فَلَهَا} فعلَيْهَا عُقُوبَة ذَلِك فَكَانُوا فِي النَّعيم وَالسُّرُور وَكَثْرَة الرِّجَال وَالْعدَد وَالْغَلَبَة على الْعَدو مِائَتَيْنِ وَعشْرين سنة قبل أَن يُسَلط عَلَيْهِم قطوس {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الْآخِرَة} آخر الفسادين وَآخر العذابين {ليسوؤوا} ليقبحوا {وُجُوهكُم} بِالْقَتْلِ والسبي يَعْنِي قطوس بن أسبيانوس الرُّومِي {وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِد} بَيت الْمُقَدّس {كَمَا دَخَلُوهُ أول مرّة} بخْتنصر وَأَصْحَابه {وَلِيُتَبِّرُواْ} يخربوا {مَا عَلَوْاْ} مَا ظَهَرُوا عَلَيْهِ {تَتْبِيراً} تخريباً(1/234)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
{عَسى رَبُّكُمْ} لَعَلَّ ربكُم {أَن يَرْحَمَكُمْ} بعد ذَلِك {وَإِنْ عُدتُّمْ} إِلَى الْفساد {عُدْنَا} إِلَى الْعَذَاب وَيُقَال إِن عدتم إِلَى الْإِحْسَان عدنا إِلَى الرَّحْمَة {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} سجناً ومحبسا(1/234)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآن يِهْدِي} يدل {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أصوب شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَيُقَال أبين {وَيُبَشِّرُ الْمُؤمنِينَ} المخلصين بإيمَانهمْ {الَّذين يَعْمَلُونَ الصَّالِحَات} فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} ثَوابًا عَظِيما وافراً فِي الْجنَّة(1/234)
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
{وَأَن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وجيعاً فِي الْآخِرَة(1/234)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
{ويدع الْإِنْسَان} يَعْنِي النَّضر ابْن الْحَارِث {بِالشَّرِّ} باللعن وَالْعَذَاب على نَفسه وَأَهله {دُعَآءَهُ بِالْخَيرِ} كدعائه بالعافية وَالرَّحْمَة {وَكَانَ الْإِنْسَان} يَعْنِي النَّضر {عَجُولاً} مستعجلاً بِالْعَذَابِ(1/234)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
{وَجَعَلْنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ} علامتين يَعْنِي الشَّمْس وَالْقَمَر {فَمَحَوْنَآ آيَةَ اللَّيْل} ضوء آيَة اللَّيْل يَعْنِي الْقَمَر {وَجَعَلْنَآ} تركنَا {آيَةَ النَّهَار مُبْصِرَةً} يَعْنِي الشَّمْس مبصرة مضيئة {لِتَبْتَغُواْ} لكَي تَطْلُبُوا {فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} بِطَلَب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة {وَلِتَعْلَمُواْ} لكَي تعلمُوا بِزِيَادَة الْقَمَر ونقصانه {عَدَدَ السنين والحساب} حِسَاب الْأَيَّام والشهور {وَكُلَّ شَيْءٍ} من الْحَلَال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي {فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} بَيناهُ فِي الْقُرْآن تبييناً(1/234)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ} ألزقناه {طَآئِرَهُ} كتاب إجَابَته فِي الْقَبْر لمنكر وَنَكِير {فِي عُنُقِهِ} وَيُقَال خَيره وشره لَهُ أَو عَلَيْهِ وَيُقَال سعادته وشقاوته لَهُ أَو عَلَيْهِ {وَنُخْرِجُ لَهُ} نظهر لَهُ {يَوْمَ الْقِيَامَة كِتَاباً يَلْقَاهُ} يعطاه {مَنْشُوراً} مَفْتُوحًا فِيهِ حَسَنَاته وسيئاته(1/234)
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
وَيُقَال لَهُ {اقْرَأ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ الْيَوْم عَلَيْكَ حَسِيباً} شَهِيدا بِمَا عملت(1/234)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
{مَّنِ اهْتَدَى} آمن {فَإِنَّمَا يَهْتَدي} يُؤمن {لِنَفْسِهِ} ثَوَاب ذَلِك {وَمَن ضَلَّ} كفر {فَإِنَّمَا يَضِلُّ} يجب {عَلَيْهَا} على نَفسه عُقُوبَة ذَلِك {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لَا تحمل حاملة ذَنْب أُخْرَى بِطيبَة النَّفس وَلَكِن يحمل عَلَيْهَا بِالْقصاصِ وَيُقَال لَا تُؤْخَذ نفس بذنب نفس أُخْرَى وَيُقَال لَا تعذب نفس بِغَيْر ذَنْب {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} قوما بِالْهَلَاكِ {حَتَّى نَبْعَثَ} إِلَيْهِم {رَسُولا} لَا تخاذ الْحجَّة عَلَيْهِم(1/234)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} جبابرتها ورؤساءها بِالطَّاعَةِ إِن قَرَأت بِنصب الْألف مخففاً وَيَقُول كَثرْنَا رؤساءها وجبابرتها وأغنياءها إِن قَرَأت بِفَتْح الْألف ممدوداً وَيُقَال سلطنا جبابرتها ورؤساءها إِن قَرَأت بِفَتْح الْألف وَتَشْديد الْمِيم {فَفَسَقُواْ فِيهَا} فعملوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي {فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْل} وَجب القَوْل عَلَيْهَا بِالْعَذَابِ {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} فأهلكناها إهلاكا(1/234)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُون} الْمَاضِيَة(1/234)
{مِن بَعْدِ نُوحٍ} من بعد قوم نوح {وَكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} بهلاكهم وَإِن لم نبين لَك وَتعلم ذنوبهم وعذابهم(1/235)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
{مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة} يَعْنِي الدُّنْيَا بأَدَاء مَا افْترض الله عَلَيْهِ {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا} أعطيناه فِي الدُّنْيَا {مَا نَشَآءُ} أَن نُعْطِيه {لِمَن نُّرِيدُ} أَن نهلكه فِي الْآخِرَة {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} أَوجَبْنَا لَهُ {يَصْلاهَا} يدخلهَا {مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} مقصياً من ثَوَاب كل خير نزلت هَذِه الْآيَة فِي مرْثَد بن ثُمَامَة(1/235)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَة} يَعْنِي الْجنَّة بأَدَاء مَا افْترض الله عَلَيْهِ {وسعى لَهَا سَعْيَهَا} عمل للجنة عَملهَا {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} مَعَ ذَلِك مُؤمن مخلص بإيمانه {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم} عَمَلهم {مَّشْكُوراً} مَقْبُولًا نزلت هَذِه الْآيَة فِي بِلَال الْمُؤَذّن(1/235)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
{كُلاًّ نُّمِدُّ} نعطي بالرزق {هَؤُلَاءِ} أهل الطَّاعَة {وَهَؤُلَاء} أهل الْمعْصِيَة يمدون {مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ} رزق رَبك {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ} رزق رَبك {محذورا} مَحْبُوسًا عَن الْبر والفاجر(1/235)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
{انْظُر} يَا مُحَمَّد {كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ والخدم {وَلَلآخِرَةُ} وَفِي الْآخِرَة {أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ} فَضَائِل للْمُؤْمِنين {وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} فَضَائِل للْمُؤْمِنين ثَوابًا فِي الدَّرَجَات(1/235)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
{لاَّ تَجْعَل} لَا تقل {مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً} ملوماً تلوم نَفسك {مَّخْذُولاً} يخذلك معبودك(1/235)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
{وَقضى رَبُّكَ} أَمر رَبك {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} أَن لَا توحدوا إِلَّا بِاللَّه تَعَالَى {وبالوالدين إِحْسَاناً} برا بهما {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكبر أَحَدُهُمَا} أحد الْأَبَوَيْنِ {أَوْ كِلاَهُمَا} كلا الْأَبَوَيْنِ {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} كلَاما رديئاً وَلَا تقذرهما {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} وَلَا تغلظ لَهما فِي الْكَلَام {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} لينًا حسنا(1/235)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
{واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل} لين جَانِبك لَهما {مِنَ الرَّحْمَة} كن رحِيما عَلَيْهِمَا {وَقُل رَّبِّ ارحمهما} إِن كَانَا مُسلمين {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} عالجاني فِي الصغر(1/235)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} بِمَا فِي قُلُوبكُمْ من الْبر والكرامة بالوالدين {إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ} بارين بالوالدين {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ} للراجعين من الذُّنُوب {غَفُوراً} متجاوزاً نزلت هَذِه الْآيَة فِي سعد بن أبي وَقاص(1/235)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} أعْط ذَا الْقَرَابَة حَقه يَقُول أَمر بصلَة الْقَرَابَة (والمسكين) أَمر بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْمِسْكِين {وَابْن السَّبِيل} أَمر بإكرام الضَّيْف النَّازِل بِهِ حَقه ثَلَاثَة أَيَّام {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} لَا تنْفق مَالك فِي غير حق الله وَإِن كَانَ دافقا وَيُقَال فِي غير طَاعَة الله(1/235)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
{إِنَّ المبذرين} المنفقين أَمْوَالهم فِي غير حق الله وَإِن كَانَ دافقا {كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِين} أعوان الشَّيَاطِين {وَكَانَ الشَّيْطَان لِرَبِّهِ كَفُوراً} لرَبه كَافِرًا(1/235)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} عَن الْقَرَابَة وَالْمَسَاكِين حَيَاء وَرَحْمَة {ابتغآء رَحْمَةٍ} انْتِظَار رَحْمَة {مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} أَن تَأْتِيك وَيُقَال قدوم مَال غَائِب عَنْك(1/235)
{فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} فعدهم عدَّة حَسَنَة أَي سأعطيكم(1/236)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} يَقُول لَا تمسك يدك عَن النَّفَقَة والعطية بِمَنْزِلَة المغلولة يَده إِلَى عُنُقه {وَلاَ تَبْسُطْهَا} فِي الْعَطِيَّة النَّفَقَة {كُلَّ الْبسط} فِي السَّرف يَقُول لَا تعط جَمِيع ماهو لَك مِسْكينا وَاحِدًا أَو قرَابَة وَاحِدَة وتترك الآخرين {فَتَقْعُدَ} فَتبقى {مَلُوماً} يلومك النَّاس يَعْنِي الْفُقَرَاء والقرابة {مَّحْسُوراً} مُنْقَطِعًا عَنْك الْقَرَابَة وَالْمَسَاكِين ذَاهِبًا الَّذِي لَك من المَال وَيُقَال نزلت هَذِه الْآيَة فِي امْرَأَة استكست قَمِيص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَعْطَاهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَمِيصه وَجلسَ عَارِيا فَنَهَاهُ الله عَن ذَلِك وَقَالَ لَهُ وَلَا تبسطها كل الْبسط فِي السَّرف حَتَّى تنْزع ثَوْبك فَتَقْعُدَ مَلُوماً يلومك النَّاس مَّحْسُوراً عَارِيا لَا تقدر أَن تخرج من العري(1/236)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
{إِنَّ رَبَّكَ} يَا مُحَمَّد {يَبْسُطُ الرزق} يُوسع المَال {لمن يشآء} على من يَشَاء من عباده وَهُوَ نظر مِنْهُ {وَيَقْدِرُ} يقتر على من يَشَاء من عباده وَهُوَ نظر مِنْهُ {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ} بصلاح عباده {خَبِيراً بَصِيراً} بالبسط والتقتير(1/236)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
{وَلاَ تقتلُوا أَوْلادَكُمْ} نزلت هَذِه الْآيَة فِي خُزَاعَة كَانُوا يدفنون بناتهم أَحيَاء فنهاهم الله عَن ذَلِك وَقَالَ وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم لَا تدفنوا بناتكم أَحيَاء {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} مَخَافَة الذل والفقر {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ} يَعْنِي بناتكم {وَإِيَّاكُم إنَّ قَتلهمْ} دفنهم أَحيَاء {كَانَ خطأ كَبِيراً} ذَنبا عَظِيما فِي الْعقُوبَة(1/236)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
{وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} سرا وَعَلَانِيَة {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} مَعْصِيّة ذَنبا {وَسَآءَ سَبِيلاً} بئس مسلكاً(1/236)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفس} المؤمنة {الَّتِي حَرَّمَ الله} قَتلهَا {إِلاَّ بِالْحَقِّ} بِالرَّجمِ أَو الْقود أَو الارتداد {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً} بالتعمد {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ} لوَلِيّ الْمَقْتُول {سُلْطَاناً} عذرا وَحجَّة على الْقَاتِل إِن شَاءَ قَتله وَإِن شَاءَ عَفا عَنهُ وَإِن شَاءَ آخذه بِالدِّيَةِ {فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْل} إِن قتلت قَاتل وليك وَيُقَال لَا تقتل غير الْقَاتِل حمية إِن قَرَأت بِالْجَزْمِ وَيُقَال لَا تقتل لقتل نفس وَاحِدَة عشرَة {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} يقتل وَلَا يعفي(1/236)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيم إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بالأرباح وَالْحِفْظ {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} خمس عشرَة سنة أَو ثَمَان عشرَة سنة(1/236)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
{وأوفوا بالعهد} أَتموا الْعَهْد بِاللَّه فِيمَا بَيْنكُم وَبَين النَّاس {إِنَّ الْعَهْد} نَاقض الْعَهْد {كَانَ مَسْؤُولاً} من نقضه يَوْم الْقِيَامَة {وَأَوْفُوا} أَتموا {الْكَيْل إِذا كِلْتُمْ} لغيركم {وَزِنُواْ بالقسطاس الْمُسْتَقيم} بميزان الْعدْل {ذَلِك} الْوَفَاء بِالْكَيْلِ وَالْوَزْن والعهد {خَيْرٌ} من النَّقْض والبخس {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} عَاقِبَة(1/236)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
{وَلاَ تَقْفُ} وَلَا تقل {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فَتَقول علمت وَلم تعلم وَرَأَيْت وَلم تَرَ وَسمعت وَلم تسمع {إِنَّ السّمع} ماتسمعون {وَالْبَصَر} مَا تبصرون {والفؤاد} مَا تتمنون {كُلُّ أُولَئِكَ} عَن كل ذَلِك {كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} يَوْم الْقِيَامَة(1/236)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
{وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْض مَرَحاً} بالتكبر وَالْخُيَلَاء {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْض} تجَاوز الأَرْض بخيلائك {وَلَن تَبْلُغَ الْجبَال طُولاً} وَلنْ تحازي الْجبَال(1/236)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
{كُلُّ ذَلِك} كل مَا نهيتك عَنهُ {كَانَ سَيِّئُهُ} سَيِّئًا {عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} عِنْد رَبك مقدم ومؤخر(1/236)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
{ذَلِكَ} الَّذِي أَمرتك {مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ} أَمرك {رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَة} فِي الْقُرْآن {وَلاَ تَجْعَلْ} لَا تقل {مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ فَتلقى} فتطرح {فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً} تلومك نَفسك {مَّدْحُوراً} مقصياً من كل خير(1/236)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
{أَفَأَصْفَاكُمْ} اختاركم {رَبُّكُم بالبنين} بالذكور(1/236)
{وَاتخذ} لنَفسِهِ {مِنَ الْمَلَائِكَة إِنَاثاً} الْبَنَات {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ} على الله {قَوْلاً عَظِيماً} فِي الْعقُوبَة وَيُقَال فِي الْفِرْيَة على الله(1/237)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} بَينا {فِي هَذَا الْقُرْآن} الْوَعْد والوعيد {لِيذكرُوا} لكَي يتعظوا {وَمَا يزيدهم} وَعبد الْقُرْآن {إِلاَّ نُفُوراً} تباعداً عَن الْإِيمَان(1/237)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
{قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ} طلبُوا {إِلَى ذِي الْعَرْش سَبِيلاً} قدرا ومنزلة وَيُقَال صعُودًا(1/237)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
{سُبْحَانَهُ} نزه نَفسه عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {وَتَعَالَى} تَبرأ وارتفع {عَمَّا يَقُولُونَ} من الشّرك {عُلُوّاً} على كل شَيْء {كَبِيراً} كَبِير كل شَيْء(1/237)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَات السَّبع وَالْأَرْض وَمَن فِيهِنَّ} من الْخلق {وَإِن مِّن شَيْءٍ} مَا من شَيْء من النَّبَات {إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} بأَمْره {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} بِأَيّ لُغَة هُوَ {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً} بعباده إِذْ لَا يعجلهم بالعقوبة {غَفُوراً} متجاوزاً لمن تَابَ(1/237)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآن} بِمَكَّة {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت يَعْنِي أَبَا جهل وَأَصْحَابه {حِجَاباً مَّسْتُوراً} محجوباً(1/237)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
{وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية {أَن يَفْقَهُوهُ} لكَي لَا يفقهوا الْحق {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} صمماً {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآن وَحْدَهُ} بِلَا إِلَه إِلَّا الله {وَلَّوْاْ على أَدْبَارِهِمْ} رجعُوا إِلَى أصنامهم وعطفوا إِلَى عبَادَة آلِهَتهم {نُفُوراً} تباعداً عَن قَوْلك(1/237)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} إِلَى قِرَاءَة الْقُرْآن {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} إِلَى قراءتك يَعْنِي أَبَا جهل وَأَصْحَابه {وَإِذْ هُمْ نجوى} فِي أَمرك يَقُول بَعضهم سَاحر وَيَقُول بَعضهم كَاهِن وَيَقُول بَعضهم مَجْنُون وَيَقُول بَعضهم شَاعِر {إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ} الْمُشْركُونَ بَعضهم لبَعض {إِن تَتَّبِعُونَ} مُحَمَّدًا مَا تتبعون {إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} مغلوب الْعقل(1/237)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
{انْظُر} يَا مُحَمَّد {كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَال} كَيفَ شبهوك بالمسحور {فضلوا} فأخطئوا فِي الْمقَالة {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} مخرجا عَن مقالتهم وَيُقَال حجَّة على مَا قَالُوا(1/237)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
{وَقَالُوا} يَعْنِي النَّضر وَأَصْحَابه {أئذا كُنَّا} صرنا {عِظَاماً} بالية {وَرُفَاتاً} تُرَابا رميماً {أئنا لَمَبْعُوثُونَ} لمحيون {خَلْقاً جَدِيداً} تجدّد بعد الْمَوْت فِينَا الرّوح(1/237)
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {كُونُواْ حِجَارَةً} لَو كُنْتُم حِجَارَة أَو أَشد من الْحِجَارَة {أَوْ حَدِيداً} أَو أقوى من الْحَدِيد(1/237)
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
{أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} يَعْنِي الْمَوْت لبعثتم {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} يحيينا {قُلِ} لَهُم يَا مُحَمَّد {الَّذِي فَطَرَكُمْ} خَلقكُم {أَوَّلَ مَرَّةٍ} فِي بطُون أُمَّهَاتكُم {فَسَيُنْغِضُونَ} يهزون {إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} تَعَجبا لِقَوْلِك {وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ} مَتى هَذَا الَّذِي تعدنا {قُلْ عَسى} وَعَسَى من الله وَاجِب {أَن يَكُونَ قَرِيباً}(1/237)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
ثمَّ بَين لَهُم فَقَالَ(1/237)
{يَوْمَ} فِي يَوْم {يَدْعُوكُمْ} إسْرَافيل فِي الصُّور {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} فتستجيبون دَاعِي الله بأَمْره {وَتَظُنُّونَ} تحسبون {إِن لَّبِثْتُمْ} فِي الْقُبُور {إِلاَّ قَلِيلاً}(1/238)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
{وَقُل لِّعِبَادِي} عمر وَأَصْحَابه {يَقُولُواْ} للْكفَّار بِالْكَلِمَةِ {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بِالسَّلَامِ واللطف {إِنَّ الشَّيْطَان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يفْسد بَينهم إِن جئْتُمْ بالجفاء {إِنَّ الشَّيْطَان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} ظَاهر الْعَدَاوَة وَهَذَا قبل أَن أمروا بِالْقِتَالِ(1/238)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} بصلاحكم {إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} فينجيكم من أهل مَكَّة {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} فيسلطهم عَلَيْكُم {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} كَفِيلا تُؤْخَذ بهم(1/238)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} من الْمُؤمنِينَ بصلاحهم {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيين على بعض} بالخلة وَالْكَلَام {وآتينا} وأعطينا {دَاوُد زَبُوراً} كتابا ومُوسَى التَّوْرَاة وَعِيسَى الْإِنْجِيل ومحمداً صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفرْقَان(1/238)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
{قُلِ} يَا مُحَمَّد لخزاعة الَّذين كَانُوا يعْبدُونَ الْجِنّ وظنوا أَنهم الْمَلَائِكَة {ادعوا الَّذين زَعَمْتُم} عَبدْتُمْ {مِّن دُونِهِ} من دون الله عِنْد الشدَّة {فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضّر عَنْكُمْ} رفع الشدَّة عَنْكُم {وَلاَ تَحْوِيلاً} إِلَى غَيْركُمْ(1/238)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
{أُولَئِكَ} يَعْنِي الْمَلَائِكَة {الَّذين} هم الَّذين {يَدْعُونَ} يعْبدُونَ رَبهم {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَة} يطْلبُونَ بذلك إِلَى رَبهم الْقرْبَة والفضيلة {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} إِلَى الله {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} جنته {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} لم يَأْتهمْ الْأمان(1/238)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
{وَإِن مِّن قَرْيَةٍ} مَا من قَرْيَة {إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} نميت أَهلهَا {قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً} بِالسَّيْفِ والأمراض {كَانَ ذَلِك} الْهَلَاك وَالْعَذَاب {فِي الْكتاب مَسْطُوراً} فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ مَكْتُوبًا أَن يكون(1/238)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
{وَمَا مَنَعَنَآ} لم يمنعنا {أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ} بالعلامات الَّتِي طلبوها {إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَولونَ} إِلَّا تَكْذِيب الْأَوَّلين عِنْد التَّكْذِيب أَي نهلكهم إِن كذبُوا بهَا كَمَا أهلكنا الْأَوَّلين عِنْد التَّكْذِيب {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقة} أعطينا قوم صَالح نَاقَة عشراء {مُبْصِرَةً} مبينَة عَلامَة لنبوة صَالح {فَظَلَمُواْ بِهَا} جَحَدُوا بهَا فَعَقَرُوهَا {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ} بالعلامات {إِلاَّ تَخْوِيفاً} بِالْعَذَابِ لنهلكهم إِن لم يُؤمنُوا بهَا(1/238)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} عَالم بِأَهْل مَكَّة بِمن يُؤمن وبمن لَا يُؤمن {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا} مَا أريناك الرُّؤْيَا {الَّتِي أَرَيْنَاكَ} فِي الْمِعْرَاج {إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} بلية لأهل مَكَّة مقدم ومؤخر {والشجرة الملعونة فِي الْقُرْآن} مَا ذكرنَا شَجَرَة الزقوم فِي الْقُرْآن {وَنُخَوِّفُهُمْ} بشجرة الزقوم {فَمَا يَزِيدُهُمْ} الْوَعيد {إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} تمادياً فِي الْمعْصِيَة(1/238)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
{وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة} الَّذين كَانُوا فِي الأَرْض(1/238)
{اسجدوا لآدَم} سَجْدَة التَّحِيَّة {فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس قَالَ أأسجد لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} لطيني(1/239)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
{قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} فضلت عَليّ بِالسُّجُود {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} أجلتني {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة لأَحْتَنِكَنَّ} لأستزلن ولأستملكن ولأستولين {ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} المعصومين مني(1/239)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
{قَالَ اذْهَبْ} قَالَ الله أعلم {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} فِي دينك {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} نَصِيبا وافراً(1/239)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
{واستفزز} استنزل {مَنِ اسْتَطَعْت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} بدعوتك وَيُقَال بِصَوْت المزامير والغناء وَسَائِر الْمَنَاكِير {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم} اجْمَعْ عَلَيْهِم وَيُقَال اسْتَعِنْ عَلَيْهِم {بِخَيْلِكَ} بخيل الْمُشْركين {ورجلك} رجفلة الْمُشْركين {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَال} أَمْوَال الْحَرَام {وَالْأَوْلَاد} أَوْلَاد الْحَرَام {وَعِدْهُمْ} أَن لَا جنَّة وَلَا نَار {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَان إِلاَّ غُرُوراً} بَاطِلا(1/239)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
{إِنَّ عِبَادِي} المعصومين مِنْك {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} سَبِيل وَغَلَبَة {وَكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} كَفِيلا بِمَا وعد وَيُقَال حفيظاً(1/239)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
{رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ} يسير لكم {الْفلك} السفن {فِي الْبَحْر لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} لكَي تَطْلُبُوا من رزقه وَيُقَال من علمه {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} بِتَأْخِير الْعَذَاب وَيُقَال بِمن تَابَ مِنْكُم(1/239)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضّر} الشدَّة والهول {فِي الْبَحْر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ} تتركون من تَعْبدُونَ من الْأَوْثَان فَلَا تسْأَلُون مِنْهُ النجَاة {إِلاَّ إِيَّاهُ} يَقُول تسْأَلُون من الله النجَاة {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبر أَعْرَضْتُمْ} عَن الشُّكْر والتوحيد {وَكَانَ الْإِنْسَان} يَعْنِي الْكَافِر {كَفُوراً} كَافِرًا بنعم الله(1/239)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
{أَفَأَمِنْتُمْ} يَا أهل مَكَّة {أَن يَخْسِفَ بِكُمْ} أَن لَا يغور بكم {جَانِبَ الْبر} كَمَا خسف بقارون {أَوْ يُرْسِلَ} أَن لَا يُرْسل {عَلَيْكُمْ حَاصِباً} حِجَارَة كَمَا أرسل على قوم لوط {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} مَانِعا(1/239)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
{أَمْ أَمِنْتُمْ} يَا أهل مَكَّة {أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ} فِي الْبَحْر {تَارَةً أُخْرَى} مرّة أُخْرَى يخرجكم إِلَيْهِ {فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرّيح} ريحًا شَدِيدا {فَيُغْرِقَكُم} فِي الْبَحْر {بِمَا كَفَرْتُمْ} بِاللَّه وبنعمته {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ} بغرقكم {تَبِيعاً} ثائراً أَو طَالبا(1/239)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} بِالْأَيْدِي والأرجل {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبر} على الدَّوَابّ {وَالْبَحْر} فِي الْبَحْر على السفن {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَات} جعلنَا أَرْزَاقهم أَلين وَأطيب من رزق الدَّوَابّ {وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا} من الْبَهَائِم {تَفْضِيلاً} بالصورة وَالْأَيْدِي والأرجل(1/239)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
{يَوْمَ نَدْعُواْ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم}(1/239)
نَبِيّهم وَيُقَال بِكِتَابِهِمْ وَيُقَال بداعيهم إِلَى الْهدى وَإِلَى الضَّلَالَة {فَمَنْ أُوتِيَ} أعطي {كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِك يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ} حسناتهم {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} لَا ينقص من حسناتهم وَلَا يُزَاد على سيئاتهم قدر فتيل وَهُوَ الشَّيْء الَّذِي يكون فِي شقّ النواة وَيُقَال هُوَ الْوَسخ الَّذِي فتلت بَين أصبعيك(1/240)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
{وَمَن كَانَ فِي هَذِه} النعم {أعمى} عَن الشُّكْر {فَهُوَ فِي الْآخِرَة} فِي نعيم الْجنَّة {أعمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} طَرِيقا وَيُقَال من كَانَ فِي هَذِه الدُّنْيَا أعمى عَن الْحجَّة وَالْبَيَان فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى أَشد عمى وأضل سَبِيلا عَن الْحجَّة(1/240)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
{وَإِن كَادُوا} وَقد كَادُوا {لَيَفْتِنُونَك} ليصرفونك وليستزلونك {عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} من كسر آلِهَتهم {لِتفْتَرِيَ} لتقول {عَلَيْنَا غَيْرَهُ} غير الَّذِي أَمرتك من كسر آلِهَتهم {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} صفياً بمتابعتك إيَّاهُم نزلت هَذِه الْآيَة فِي ثَقِيف(1/240)
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
{وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} عصمناك وحفظناك {لَقَدْ كِدتَّ} هَمَمْت {تَرْكَنُ} تميل {إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} فِيمَا طلبوك(1/240)
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
{إِذاً} أَو أَعْطَيْت مَا طلبوك {لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاة} عَذَاب الدُّنْيَا {وَضِعْفَ الْمَمَات} عَذَاب الْآخِرَة {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} مَانِعا(1/240)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
{وَإِن كَادُواْ} وَقد كَادُوا يَعْنِي الْيَهُود {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} ليستزلونك {مِنَ الأَرْض} أَرض الْمَدِينَة {لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا} إِلَى الشأم {وَإِذاً} لَو أخرجوك من الْمَدِينَة {لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} يَسِيرا حَتَّى نهلكهم(1/240)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} أهلكنا قَومهمْ إِذا خرج الرُّسُل من بَين أظهرهم {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا} لعذابنا {تَحْوِيلاً} تغييراً(1/240)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
{أَقِمِ الصَّلَاة} أتم الصَّلَاة يَا مُحَمَّد {لِدُلُوكِ الشَّمْس} بعد زَوَال الشَّمْس صَلَاة الظّهْر وَالْعصر {إِلَى غَسَقِ اللَّيْل} وَبعد دُخُول اللَّيْل صَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء {وَقُرْآنَ الْفجْر} صَلَاة الْغَدَاة {إِنَّ قُرْآنَ الْفجْر} صَلَاة الْغَدَاة {كَانَ مَشْهُوداً} تشهدها مَلَائِكَة اللَّيْل وملائكة النَّهَار(1/240)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
{وَمِنَ اللَّيْل فَتَهَجَّدْ بِهِ} بِقِرَاءَة الْقُرْآن والتهجد بعد النّوم {نَافِلَةً} فَضِيلَة {لَّكَ} وَيُقَال خَاصَّة لَك {عَسى} وَعَسَى من الله وَاجِب {أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} أَن يقيمك رَبك مقَاما مَحْمُودًا مقَام الشَّفَاعَة مَحْمُودًا يحمدك الْأَولونَ وَالْآخرُونَ(1/240)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
{وَقُل رَّبِّ} يَا رب {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} يَقُول أدخلني فِي الْمَدِينَة إِدْخَال صدق وَكَانَ خَارِجا من الْمَدِينَة {وَأَخْرِجْنِي} من الْمَدِينَة {مُخْرَجَ صِدْقٍ} إِخْرَاج صدق بعد مَا كنت فِيهَا فَأَدْخلنِي مَكَّة وَيُقَال أدخلني فِي الْقَبْر مدْخل صدق إِدْخَال صدق وأخرجني من الْقَبْر يَوْم الْقِيَامَة مخرج صدق إِخْرَاج صدق {وَاجعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ} من عنْدك {سُلْطَاناً نَّصِيراً} مَانِعا بِلَا ذل وَلَا رد قَول(1/240)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
{وَقل جَاءَ الْحق} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقُرْآنِ وَيُقَال ظهر الْإِسْلَام وَكثر الْمُسلمُونَ {وَزَهَقَ الْبَاطِل} هلك الشَّيْطَان والشرك وَأَهله {إِنَّ الْبَاطِل} الشَّيْطَان والشرك وَأَهله {كَانَ زَهُوقاً} هَالكا(1/240)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآن} نبين فِي الْقُرْآن {مَا هُوَ شِفَآءٌ} بَيَان من الْعَمى وَيُقَال بَيَان من الْكفْر والشرك والنفاق {وَرَحْمَةٌ} من الْعَذَاب {للْمُؤْمِنين} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمين} الْمُشْركين بِمَا نزل من الْقُرْآن {إَلاَّ خَسَاراً} غبناً(1/240)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
{وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَان} يَعْنِي الْكَافِر من كَثْرَة مَاله ومعيشته {أَعْرَضَ} عَن الدُّعَاء وَالشُّكْر {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} تبَاعد عَن الْإِيمَان {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرّ} أَصَابَته الشدَّة والفقر(1/240)
{كَانَ يؤوسا} أيساً من رَحْمَة الله نزلت فِي عتبَة بن ربيعَة(1/241)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {كُلٌّ} كل وَاحِد مِنْكُم {يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} على نِيَّته وَأمره الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَيُقَال على ناحيته وجبلته {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهْدى سَبِيلاً} أصوب دينا(1/241)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
{ويسألونك} يَا مُحَمَّد {عَنِ الرّوح} سَأَلَ أهل مَكَّة أَبُو جهل وَأَصْحَابه {قُلِ الرّوح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} من عجائب رَبِّي وَقَالَ من علم رَبِّي {وَمَآ أُوتِيتُم} أعطيتم {مِّنَ الْعلم} فِيمَا عِنْد الله {إِلاَّ قَلِيلاً}(1/241)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
{وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} بِحِفْظ الَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك جِبْرِيل بِهِ {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} كَفِيلا وَيُقَال مَانِعا(1/241)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
{إِلاَّ رَحْمَةً} نعْمَة (مِّن رَّبِّكَ) حفظ الْقُرْآن فِي قَلْبك {إِنَّ فَضْلَهُ} بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} عَظِيما(1/241)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
{قُل} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {لَّئِنِ اجْتمعت الْإِنْس وَالْجِنّ على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} بِمثل هَذَا الْقُرْآن بَالغا فِيهِ الْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وَخبر مَا كَانَ وَمَا يكون {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} معينا(1/241)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ} بَينا لأهل مَكَّة {فِي هَذَا الْقُرْآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} من كل وَجه من الْوَعْد والوعيد {فَأبى أَكْثَرُ النَّاس إِلاَّ كُفُوراً} لم يقبلُوا وثبتوا على الْكفْر(1/241)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
{وَقَالُواْ} يَعْنِي عبد الله بن أُميَّة المَخْزُومِي وَأَصْحَابه {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} لن نصدقك {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا} تشقق لنا {مِنَ الأَرْض} أَرض مَكَّة {يَنْبُوعاً} عيُونا وأنهاراً(1/241)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)
{أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ} بُسْتَان {مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ} كرم {فَتُفَجِّرَ} فتشقق {الْأَنْهَار خِلالَهَا} وَسطهَا {تفجيرا} تشقيقا(1/241)
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
{أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} قطعا بِالْعَذَابِ {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّه وَالْمَلَائِكَة قَبِيلاً} شَهِيدا على مَا تَقول(1/241)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} من ذهب وَفِضة {أَوْ ترقى فِي السمآء} أَو تصعد إِلَى السَّمَاء فَتَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ يشْهدُونَ أَنَّك رَسُول من الله إِلَيْنَا {وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} لصعودك إِلَى السَّمَاء {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً} من الله إِلَيْنَا {نَّقْرَؤُهُ} فِيهِ أَنَّك رَسُول الله إِلَيْنَا {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {سُبْحَانَ رَبِّي} أنزه رَبِّي عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} يَقُول مَا أَنا إِلَّا بشر رَسُول كَسَائِر الرُّسُل(1/241)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
{وَمَا مَنَعَ النَّاس} أهل مَكَّة {أَن يُؤمنُوا} بِاللَّه {إِذْ جَاءَهُم الْهدى} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقُرْآنِ {إِلاَّ أَن قَالُوا} إِلَّا قَوْلهم {أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} إِلَيْنَا(1/241)
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
{قُل} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {لَوْ كَانَ فِي الأَرْض مَلَائِكَة يَمْشُونَ} فِي الأَرْض يمضون {مُطْمَئِنِّينَ} مقيمين {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} لأَنا لَا نرسل إِلَى الْمَلَائِكَة الرُّسُل إِلَّا الْمَلَائِكَة وَإِلَى الْبشر إِلَّا الْبشر(1/241)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {كفى بِاللَّه شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}(1/241)
بِأَنِّي رَسُوله إِلَيْكُم {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ} بإرسال الرَّسُول إِلَى عباده {خَبِيراً بَصِيراً} بِمن يُؤمن وبمن لَا يُؤمن(1/242)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
{وَمَن يَهْدِ الله} لدينِهِ {فَهُوَ المهتد} لدينِهِ {وَمَن يُضْلِلْ} عَن دينه {فَلَن تَجِدَ لَهُمْ} لأهل مَكَّة {أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ} من دون الله يوفقونهم للهدى {وَنَحْشُرُهُمْ} نسحبهم {يَوْمَ الْقِيَامَة على وُجُوهِهِمْ} إِلَى النَّار {عُمْياً} لَا يبصرون شَيْئا {وَبُكْماً} خرصاً لَا يَتَكَلَّمُونَ بِشَيْء {وَصُمّاً} لَا يسمعُونَ شَيْئا {مَّأْوَاهُمْ} مصيرهم {جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ} سكنت النَّار وَسكن لهبها {زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} وقودا(1/242)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
{ذَلِكَ} الْعَذَاب {جَزَآؤُهُم} نصِيبهم {بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَقَالُوا} كفار مَكَّة {أئذا كُنَّا} صرنا {عِظَاماً} بالية {وَرُفَاتاً} تُرَابا رميماً {أئنا لَمَبْعُوثُونَ} لمحيون {خَلْقاً جَدِيداً} يجدد فِينَا الرّوح هَذَا مَا لَا يكون أبدا(1/242)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
{أَو لم يَرَوْاْ} أهل مَكَّة {أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ} يحيي {مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً} وقتا {لاَّ رَيْبَ فِيهِ} لَا شكّ فِيهِ عِنْد الْمُؤمنِينَ {فَأبى الظَّالِمُونَ} الْمُشْركُونَ {إَلاَّ كُفُوراً} لم يقبلُوا واستقاموا على الْكفْر(1/242)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
{قُل} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} مَفَاتِيح رزق رَبِّي {إِذاً لأمْسَكْتُمْ} عَن النَّفَقَة {خَشْيَةَ الْإِنْفَاق} مَخَافَة الْفقر {وَكَانَ الْإِنْسَان} الْكَافِر {قَتُوراً} ممسكاً بَخِيلًا مقترا(1/242)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا} أعطينا {مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} مبينات الْيَد والعصا والطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم والسنين وطمس الْأَمْوَال {فاسأل بَنِي إِسْرَائِيلَ} عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه {إِذْ جَآءَهُمْ} مُوسَى {فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأظنك يَا مُوسَى مَسْحُوراً} مغلوب الْعقل(1/242)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
{قَالَ} لَهُ مُوسَى {لَقَدْ عَلِمْتَ} يَا فِرْعَوْن {مَآ أَنزَلَ} على مُوسَى {هَؤُلَاءِ} الْآيَات {إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَات وَالْأَرْض بَصَآئِرَ} بَيَانا وعلامة لنبوتي {وَإِنِّي لأظنك} أعلم واستيقن {يَا فِرْعَوْن مَثْبُوراً} ملعوناً كَافِرًا(1/242)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
{فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم} يستزلهم {مِّنَ الأَرْض} أَرض الْأُرْدُن وفلسطين {فَأَغْرَقْنَاهُ} فِي الْبَحْر {وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا}(1/242)
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
{وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ} من بعد هَلَاكه {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا} انزلوا {الأَرْض} أَرض الْأُرْدُن وفلسطين {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الْآخِرَة} الْبَعْث بعد الْمَوْت وَيُقَال نزُول عِيسَى بن مَرْيَم {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} جَمِيعًا(1/242)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)
{وبالحق أَنْزَلْنَاهُ} بِالْقُرْآنِ أنزلنَا جِبْرِيل على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وبالحق نَزَلَ} بِالْقُرْآنِ نزل {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ} يَا مُحَمَّد {إِلاَّ مُبَشِّراً} بِالْجنَّةِ {وَنَذِيراً} من النَّار(1/242)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
{وَقُرْآناً} أنزلنَا جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {فَرَقْنَاهُ} بَيناهُ بالحلال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاس على مكث}(1/242)
مهل وهينة وَترسل {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} بَيناهُ تبياناً وَيُقَال نزلنَا جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ تَنْزِيلا مُتَفَرقًا آيَة وآيتين وَثَلَاثًا وَكَذَا وَكَذَا(1/243)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {آمِنُواْ بِهِ} بِالْقُرْآنِ {أَوْ لاَ تؤمنوا} وَهَذَا وَعِيد لَهُم {إِنَّ الَّذين أُوتُواْ الْعلم} أعْطوا الْعلم بِالتَّوْرَاةِ بِصفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته {مِن قَبْلِهِ} من قبل الْقُرْآن {إِذَا يُتْلَى} يقْرَأ {عَلَيْهِمْ} الْقُرْآن {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} على الْوُجُوه {سُجَّداً} يَسْجُدُونَ لله(1/243)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
{وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ} نزهوا الله عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {إِن كَانَ} قد كَانَ {وَعْدُ رَبِّنَا} فِي مبعث مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لمفعولا} كَائِنا صدقا(1/243)
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
{ويخرون للأذقان} للسُّجُود و {يَبْكُونَ} فِي السُّجُود {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} تواضعاً نزلت فِي عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه(1/243)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
{قُلِ} لَهُم يَا مُحَمَّد {ادعوا الله أَوِ ادعوا الرَّحْمَن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الْحسنى} الصِّفَات الْعليا مثل الْعلم وَالْقُدْرَة والسمع وَالْبَصَر فَادعوهُ بهَا {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} يَقُول لَا تجْهر بصوتك بِقِرَاءَة الْقُرْآن فِي صَلَاتك لكَي لَا يُؤْذِيك الْمُشْركُونَ {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} وَلَا تسر بِقِرَاءَة الْقُرْآن فَلَا تسمع أَصْحَابك {وابتغ} اطلب {بَيْنَ ذَلِك} بَين الرّفْع والخفض {سَبِيلاً} طَرِيقا وسطا(1/243)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
{وَقُلِ الْحَمد لِلَّهِ} الشُّكْر والألوهية لله {الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} من الْمَلَائِكَة والآدميين فيرث ملكه {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْملك} فيعاديه {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ} معِين {مَّنَ الذل} من أهل الذل يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى وهم أذلّ النَّاس وَيُقَال لم يذل حَتَّى يحْتَاج إِلَى ولي من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكين {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} يَعْنِي عظمه تَعْظِيمًا عَن مقَالَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكين وَالله أعلم بأسرار كِتَابه
وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا الْكَهْف وَهِي كلهَا مَكِّيَّة غير آيَتَيْنِ مدنيتين ذكر فيهمَا عُيَيْنَة بن حصن الْفَزارِيّ وآياتها مائَة واحدى عشرَة وكلماتها ألف وَخَمْسمِائة وَسبع وَسِتُّونَ وحروفها سِتَّة آلَاف وَأَرْبَعمِائَة وَسِتُّونَ حرفا
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}(1/243)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {الْحَمد لِلَّهِ} يَقُول الشُّكْر لله والإلهية لله {الَّذِي أنزل على عَبده} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {الْكتاب} جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} لم ينزله مُخَالفا للتوراة وَالْإِنْجِيل وَسَائِر الْكتب بِالتَّوْحِيدِ وَصفَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته نزلت فِي شَأْن الْيَهُود حِين قَالُوا الْقُرْآن مُخَالف لسَائِر الْكتب(1/243)
قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
{قَيِّماً} على الْكتب وَيُقَال مُسْتَقِيمًا {لِّيُنْذِرَ} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقُرْآنِ {بَأْساً} عذَابا {شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ} من عِنْده {وَيُبَشِّرَ} مُحَمَّد بِالْقُرْآنِ {الْمُؤمنِينَ} المخلصين {الَّذين يَعْمَلُونَ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} ثَوابًا كَرِيمًا فِي الْجنَّة(1/243)
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
{مَّاكِثِينَ فِيهِ} مقيمين فِي الثَّوَاب لَا يموتون وَلَا يخرجُون {أبدا}(1/243)
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)
{وينذر} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقُرْآنِ {الَّذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَبَعض الْمُشْركين(1/243)
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
{مَّا لَهُمْ بِهِ} من مقالتهم {مِنْ عِلْمٍ} من حجَّة وَلَا بَيَان {وَلاَ لآبَائِهِمْ} كَانَ علم ذَلِك {كَبُرَتْ كَلِمَةً} عظمت كلمة الشّرك {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} تظهر على أَفْوَاههم {إِن يَقُولُونَ} مَا يَقُولُونَ {إِلاَّ كَذِباً} على الله(1/243)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
{فَلَعَلَّكَ} يَا مُحَمَّد {بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} قَاتل نَفسك(1/243)
{على آثَارِهِمْ} لأجلهم {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الحَدِيث} بِأَن لم يُؤمنُوا بِهَذَا الْقُرْآن {أَسَفاً} حزنا(1/244)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْض} من الرِّجَال وَالنِّسَاء {زِينَةً لَّهَا} زهرَة للْأَرْض {لِنَبْلُوَهُمْ} لنختبرهم {أَيُّهُم} من هم {أَحْسَنُ} أخْلص {عَمَلاً} وَيُقَال إِنَّا جعلنَا مَا على الأَرْض من النَّبَات وَالشَّجر وَالدَّوَاب وَالنَّعِيم زِينَة لَهَا زهرَة للْأَرْض لنختبر أَيهمْ أزهد فِي الدُّنْيَا وأترك لَهَا(1/244)
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ} مغيرون {مَا عَلَيْهَا} من الزهرة {صَعِيداً} تُرَابا {جُرُزاً} أملس لَا نَبَات فِيهَا(1/244)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
{أَمْ حَسِبْتَ} أظننت يَا مُحَمَّد {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْف والرقيم} والكهف هُوَ الْجَبَل الَّذِي فِيهِ الْغَار والرقيم هُوَ اللَّوْح من رصاص فِيهِ أَسمَاء الْفتية وقصتهم وَيُقَال الرقيم هُوَ الْوَادي الَّذِي فِيهِ الْكَهْف وَيُقَال الرقيم هُوَ مَدِينَة {كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا} من عجائبنا {عَجَباً} الشَّمْس وَالْقَمَر وَالسَّمَاء وَالْأَرْض والنجوم وَالْجِبَال والبحار أعجب من ذَلِك(1/244)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
{إِذْ أَوَى الْفتية إِلَى الْكَهْف} دخل غلمة فِي غَار الْكَهْف {فَقَالُواْ} حِين دخلُوا {رَبَّنَآ} يَا رَبنَا {آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أَي ثبتنا على دينك {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رشدا} مخرجا(1/244)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
{فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ} ألقينا عَلَيْهِم النّوم وأنمناهم {فِي الْكَهْف سِنِين عددا} ثلثمِائة سنة وتسع سِنِين(1/244)
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ} أيقظناهم كَمَا نَامُوا {لِنَعْلَمَ} لكَي نرى {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} أَي الْفَرِيقَيْنِ الْمُؤْمِنُونَ والكافرون {أحصى لِمَا لَبِثُواْ} أحفظ لما مَكَثُوا فِي الْكَهْف {أَمَداً} أَََجَلًا(1/244)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} نبين لَك {نبَأَهُم} خبرهم {بِالْحَقِّ} بِالْقُرْآنِ {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} غلمة {آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} بَصِيرَة فِي أَمر دينهم وَيُقَال ثبتناهم فِي أَمر دينهم وَيُقَال ثبتناهم على الْإِيمَان(1/244)
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
{وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ} حفظنا قُلُوبهم بِالْإِيمَان وَيُقَال ألهمناهم الصَّبْر {إِذْ قَامُواْ} إِذْ خَرجُوا من عِنْد الْملك دقيانوس الْكَافِر {فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَات وَالْأَرْض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ} لن نعْبد من دون الله {إِلَهًا} ربّاً {لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} كذبا وزوراً على الله(1/244)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
{هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخذُوا مِن دُونِهِ} عبدُوا من دون الله {آلِهَةً} من الْأَوْثَان {لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم} هلا يأْتونَ على عِبَادَتهم {بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} بِحجَّة بَيِّنَة أَن الله أمرَهم بذلك {فَمَنْ أَظْلَمُ} فَلَيْسَ أحد أظلم {مِمَّنِ افترى} اختلق {عَلَى الله كَذِباً} بِأَن لَهُ شَرِيكا(1/244)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
{وَإِذِ اعتزلتموهم} تركتموهم وتركتم دينهم {وَمَا يَعْبُدُونَ} من دون الله من الْأَوْثَان فَلَا تعبدوا {إِلاَّ الله فَأْوُوا إِلَى الْكَهْف} فادخلوا هَذَا الْغَار {يَنْشُرْ لَكُمْ} يهب لكم {رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} من نعْمَته {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً} مَا يرفق بكم غَدا وَهَذَا كُله قَول الفتيه(1/244)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
{وَتَرَى الشَّمْس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ} تميل {عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمين} يَمِين الْغَار {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ} تتركهم {ذَاتَ الشمَال} شمال الْغَار {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} فِي نَاحيَة من الْكَهْف وَيُقَال فِي فضاء مِنْهُ من الضَّوْء {ذَلِك} الَّذِي ذكرت من قصتهم {مِنْ آيَاتِ الله} من عجائب الله {مَن يَهْدِ الله} لدينِهِ {فَهُوَ المهتد} لدينِهِ {وَمَن يُضْلِلْ} عَن دينه {فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً}(1/244)
موفقاً يوفقه للهدى(1/245)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
{وتحسبهم} يَا مُحَمَّد {أيقاظا} عير نيام {وَهُمْ رُقُودٌ} نيام {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمين وَذَاتَ الشمَال} فِي كل عَام مرّة لكَي لَا تَأْكُل الأَرْض لحومهم {وَكَلْبُهُمْ} قطمير {بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} بِفنَاء الْبَاب {لَوِ اطَّلَعت} هجمت {عَلَيْهِمْ} فِي تِلْكَ الْحَال {لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ} لأدبرت عَنْهُم {فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} لأخذت مِنْهُم خوفًا {وَكَذَلِكَ} هَكَذَا(1/245)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
{بعثناهم} أيقظناهم بعد مَا مضى ثلثمِائة سنة وتسع سِنِين {لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} ليتحدثوا فِيمَا بَينهم {قَالَ قَائِل مِنْهُم} سيدهم وَكَبِيرهمْ وهم مكسلميا {كَم لَبِثْتُمْ} مكثتم فِي هَذَا الْغَار بعد النّوم {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً} فَلَمَّا خَرجُوا فنظروا إِلَى الشَّمْس وَقد بَقِي مِنْهَا شَيْء قَالُوا {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ} يَعْنِي مكسلمينا {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} بعد النّوم {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ} تمليخا {بِوَرِقِكُمْ هَذِه} بدراهمكم هَذِه {إِلَى الْمَدِينَة} مَدِينَة أفسوس {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً} أَكثر طَعَاما وَيُقَال أطيب خبْزًا وَأحل ذَبِيحَة {فَلْيَأْتِكُمْ برزق مِنْهُ} بِطَعَام مِنْهُ {وليتلطف} يرفق فِي الشِّرَاء {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ} لَا يعلمن بكم {أَحَداً} من الْمَجُوس(1/245)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
{إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ} يطلعوا {عَلَيْكُمْ} الْمَجُوس {يَرْجُمُوكُمْ} يقتلوكم {أَوْ يُعِيدُوكُمْ} يرجعوكم {فِي مِلَّتِهِمْ} فِي دينهم الْمَجُوسِيَّة {وَلَن تُفْلِحُوا} لن تنجوا من عَذَاب الله {إِذاً أَبَداً} إِذا رجعتم إِلَى دينهم(1/245)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {أَعْثَرْنَا} أطْلعنَا {عَلَيْهِمْ} أهل مَدِينَة أفسوس الْمُؤمنِينَ الْكَافرين وَكَانَ ملكهم يؤمئذ مُسلما يُسمى يُسْتَفَاد وَمَات ملكهم الْمَجُوسِيّ دقيانوس قبل ذَلِك {ليعلموا} يَعْنِي الْمُؤمنِينَ والكافرين {أَنَّ وَعْدَ الله} الْبَعْث بعد الْمَوْت {حَقٌّ} كَائِن {وَأَنَّ السَّاعَة لاَ رَيْبَ فِيهَا} لَا شكّ فِيهَا {إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} إِذْ يَخْتَلِفُونَ فِي قَوْلهم فِيمَا بَينهم {فَقَالُواْ} يَعْنِي الْكَافرين {ابْنُوا عَلَيْهِم بنيانا} كَنِيسَة لأَنهم على ديننَا {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ} على قَوْلهم وهم الْمُؤْمِنُونَ {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً} لأَنهم على ديننَا وَكَانَ اخْتلَافهمْ فِي هَذَا(1/245)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
{سَيَقُولُونَ} نَصَارَى أهل نَجْرَان السَّيِّد وَأَصْحَابه وهم النسطورية {ثَلاثَةٌ} هم ثَلَاثَة {رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} قطمير {وَيَقُولُونَ} العاقب وَأَصْحَابه وهم الْمَار يعقوبية {خَمْسَةٌ} هم خَمْسَة {سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ} ظنا بِالْغَيْبِ بِغَيْر علم {وَيَقُولُونَ} أَصْحَاب الْملك وهم الملكانية {سَبْعَةٌ} هم سَبْعَة {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} قطمير {قُل} لَهُم يَا مُحَمَّد {رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} بعددهم {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} من الْمُؤمنِينَ قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنا من ذَلِك الْقَلِيل هم ثَمَانِيَة سوى الْكَلْب {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ} فَلَا تجَادل مَعَهم فِي عَددهمْ {إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} إِلَّا أَن تقْرَأ الْقُرْآن عَلَيْهِم ظَاهرا {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً} لَا تسْأَل أحدا مِنْهُم عَن عَددهمْ يَكْفِيك مَا بَين الله لَك(1/245)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)
{وَلاَ تَقْولَنَّ} يَا مُحَمَّد {لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِك غَداً} أَو قَائِل(1/245)
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
{إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} إِلَّا أَن تَقول إِن شَاءَ الله(1/245)
{وَاذْكُر رَبك} بالاستنثاء {إِذَا نَسِيتَ} وَلَو بعد حِين {وَقُلْ عَسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي} يدلني ويرشدني {لأَقْرَبَ} لأصوب {مِنْ هَذَا رَشَداً} صَوَابا ويقيناً نزلت هَذِه الْآيَة فِي شَأْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ قَالَ لمشركي أهل مَكَّة غَدا أَقُول لكم فَلم يقل إِن شَاءَ الله فِيمَا سَأَلُوهُ عَن خبر الرّوح(1/246)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
{وَلَبِثُوا} مَكَثُوا {فِي كهفهم ثَلَاث مائَة سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً} تسع سِنِين وَهَذَا قبل أَن أيقظهم الله(1/246)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
{قُلِ} يَا مُحَمَّد {الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} بِمَا مَكَثُوا بعد ذَلِك {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} مَا غَابَ عَن الْعباد {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} مَا أبصره وأعلمه بهم وشأنهم {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ} من دون الله {مِن ولي} يحفظهم وَيُقَال مَالهم لأهل مَكَّة من دونه من عَذَاب الله من ولي قريب يَنْفَعهُمْ {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ} فِي حكم الْغَيْب {أَحَداً}(1/246)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
{واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} يَقُول اقْرَأ عَلَيْهِم الْقُرْآن وَلَا تزد فِيهِ وَلَا تنقص مِنْهُ {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} لَا مغير لكلماته {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ} من دون الله {مُلْتَحَداً} ملْجأ(1/246)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
{واصبر نَفْسَكَ} احْبِسْ نَفسك {مَعَ الَّذين يَدْعُونَ رَبَّهُم} يعْبدُونَ رَبهم {بِالْغَدَاةِ والعشي} غدْوَة وَعَشِيَّة يَعْنِي سلمَان وَأَصْحَابه {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} يُرِيدُونَ بذلك وَجه الله وَرضَاهُ {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} لَا تجَاوز عَيْنَاك عَنْهُم {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} يُرِيدُونَ الزِّينَة {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} عَن توحيدنا {وَاتبع هَوَاهُ} فِي عبَادَة الْأَصْنَام {وَكَانَ أَمْرُهُ} قَوْله {فُرُطاً} ضائعاً نزلت هَذِه الْآيَة فِي عُيَيْنَة بن حصن الْفَزارِيّ(1/246)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
{وَقُلِ} لعيينة {الْحق} لَا إِلَه إِلَّا الله {مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} هَذَا وَعِيد من الله وَيُقَال فَمن شَاءَ فليؤمن يَقُول من شَاءَ الله لَهُ الْإِيمَان آمن وَمن شَاءَ فليكفر من شَاءَ الله لَهُ الْكفْر كفر {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} لعيينة وَأَصْحَابه {نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} سرادق النَّار يُحِيط بهم {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ} للغصة بِالْمَاءِ {يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمهْلِ} كدردي الزَّيْت وَيُقَال كالفضة المذابة {يَشْوِي الْوُجُوه} ينضج الْوُجُوه {بِئْسَ الشَّرَاب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} منزلا يَقُول بئس الدَّار دَار رفقائهم الشَّيَاطِين وَالْكفَّار(1/246)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
{إِن الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} لَا نبطل {أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} ثَوَاب من أخْلص عملا(1/246)
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
{أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} مَقْصُورَة الرَّحْمَن {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ} أَي من تَحت شجرهم ومساكنهم {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} يلبسُونَ فِي الْجنَّة {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} أقلبة ذهب {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سندس} مالطف من الديباج {وإستبرق} مَا ثخن من الديباج {متكئين فِيهَا} جالسين فِيهَا فِي الْجنَّة {عَلَى الأرآئك} فِي الحجال {نِعْمَ الثَّوَاب} الْجَزَاء الْجنَّة {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} منزلا يَقُول حسنت الدَّار دَار رفقائهم الْأَنْبِيَاء والصالحون(1/246)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
{وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً} بيّن لأهل مَكَّة صفة {رَّجُلَيْنِ} أَخَوَيْنِ فِي بني إِسْرَائِيل أَحدهمَا مُؤمن وَهُوَ يهوذا وَالْآخر كَافِر وَهُوَ أَبُو فطروس {جعلنَا لأَحَدهمَا} الْكَافِر {جَنَّتَيْنِ} بساتين {مِنْ أَعْنَابٍ} من كروم {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أحطناهما بِنَخْل {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا} بَين الْبَسَاتِين {زرعا} مزرعا(1/247)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
{كِلْتَا الجنتين} الْبَسَاتِين {آتَتْ أُكُلَهَا} أخرجت ثَمَرهَا كل عَام {وَلَمْ تَظْلِمِ} لم تنقص {مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا} وسطهما {نَهَراً}(1/247)
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} يَعْنِي ثَمَرَة الْبُسْتَان إِن قَرَأت بِالنّصب وَيُقَال مَال إِن قَرَأت بِالضَّمِّ {فَقَالَ لَصَاحِبِهِ} الْمُؤمن يهوذا {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} يفاخر بِالْمَالِ {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} أَكثر خدما(1/247)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} بستانه {وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} بالْكفْر {قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ} أَن تهْلك {هَذِه أبدا}(1/247)
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
{وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَة قَائِمَةً} كائنة {وَلَئِن رُّدِدتُّ} رجعت {إِلَى رَبِّي} كَمَا تَقول {لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا} من هَذِه الْجنَّة {مُنْقَلَباً} مرجعاً(1/247)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} الْمُؤمن {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} يُرَاجِعهُ عَن كفره {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} من آدم وآدَم من تُرَاب {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} من نُطْفَة أَبِيك {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} معتدل الْقَامَة(1/247)
لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
{لَّكِنَّا} لَكِن أَنا أَقُول {هُوَ الله رَبِّي} خالقي ورازقي {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} من الْأَوْثَان(1/247)
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ} فَهَلا دخلت {جَنَّتَكَ} بستانك {قُلْتَ مَا شَآءَ الله} هَذَا من الله لَيْسَ مني {لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّه} هَذَا بِقُوَّة الله لَا بقوتي {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} وخدماً فِي الدُّنْيَا(1/247)
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
{فَعَسَى رَبِّي} وَعَسَى من الله وَاجِب {أَن يُؤْتِيَنِ} أَن يعطيني فِي الْآخِرَة {خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ} من بستانك فِي الدُّنْيَا {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} على جنتك {حُسْبَاناً} نَارا {مِّنَ السمآء فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} تصير تُرَابا أملس(1/247)
أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
{أَوْ يُصْبِحَ} أَو يصير {مَآؤُهَا غَوْراً} غائراً لَا تناله الدلاء {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} حِيلَة(1/247)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أهلكت ثَمَرَته إِن قَرَأت بِالنّصب وَيُقَال أهلك مَاله إِن قَرَأت بِالضَّمِّ {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} يضْرب يَدَيْهِ بَعْضهَا على بعض ندامة {عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا} فِي الْجنَّة وَيُقَال على مَا كَانَ فيهمَا من غلتهما {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} سَاقِطَة {على عُرُوشِهَا} على سقوفها {وَيَقُول} يَوْم الْقِيَامَة {يَا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} من الْأَوْثَان(1/247)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
{وَلم تكن لَهُ فِئَة} مِنْهُ {يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله} من عَذَاب الله {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} مُمْتَنعا بِنَفسِهِ من عَذَاب الله(1/247)
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
{هُنَالِكَ الْولَايَة لِلَّهِ}(1/247)
أَي يَوْم الْقِيَامَة الْملك وَالسُّلْطَان لله {الْحق} الْعدْل {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً} خير من أثاب {وَخَيْرٌ عُقْباً} من أعقب(1/248)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
{وَاضْرِبْ لَهُم} بَين لأهل مَكَّة {مَّثَلَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} فِي بَقَائِهَا وفنائها {كَمَآءٍ} كمطر {أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأَرْض} فاختلط المَاء بنبات الأَرْض {فَأَصْبَحَ هَشِيماً} فَصَارَ يَابسا {تَذْرُوهُ الرِّيَاح} ذرته الرّيح وَلم يبْق مِنْهُ شَيْء كَذَلِك الدُّنْيَا تذْهب وَلَا يبْقى مِنْهَا شَيْء كَمَا لَا يبْقى من الهشيم شَيْء {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ} من فنَاء الدُّنْيَا وَبَقَاء الْآخِرَة {مُّقْتَدِراً} قَادِرًا(1/248)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
ثمَّ ذكر مَا فِيهَا من الزهرة فَقَالَ {المَال والبنون زِينَةُ الْحَيَاة الدُّنْيَا} زهرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا لَا تبقى كَمَا لَا يبْقى الهشيم {والباقيات الصَّالِحَات} الصَّلَوَات الْخمس وَيُقَال الْبَاقِيَات مَا يبْقى ثَوَابه والصالحات سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} جَزَاء {وَخَيْرٌ أَمَلاً} خير مَا يَرْجُو بِهِ الْعباد من أَعْمَالهم الصَّلَاة(1/248)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجبَال} عَن وَجه الأَرْض {وَتَرَى الأَرْض بَارِزَةً} خَارِجَة من تَحت الْجبَال وَيُقَال ظَاهِرَة {وَحَشَرْنَاهُمْ} للبعث {فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} فَلَا نَتْرُك مِنْهُم أحدا(1/248)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
{وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ} سبقوا إِلَى رَبك {صَفَّاً} جَمِيعًا فَيَقُول الله لَهُم {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} بِلَا مَال وَلَا ولد {بَلْ زَعَمْتُمْ} قُلْتُمْ فِي الدُّنْيَا {أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} أَََجَلًا للبعث(1/248)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
{وَوُضِعَ الْكتاب} فِي الْأَيْمَان وَالشَّمَائِل وتطايرت الْكتب إِلَى أَيدي الْخلق مثل الثَّلج {فَتَرَى الْمُجْرمين} الْمُشْركين وَالْمُنَافِقِينَ {مُشْفِقِينَ} خَائِفين {مِمَّا فِيهِ} فِي الْكتاب {وَيَقُولُونَ يَا ويلتنا مَا لهَذَا الْكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً} من أَعمالنَا {وَلاَ كَبِيرَة} وَيُقَال الصَّغِير التبسم والكبيرة القهقهة {إِلاَّ أَحْصَاهَا} حفظهَا وكتبها {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ} من خير وَشر {حَاضِراً} مَكْتُوبًا {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} لَا ينقص من حَسَنَات أحد وَلَا يُزَاد على سيئات أحد وَيُقَال لَا ينقص من حَسَنَة مُؤمن وَلَا يتْرك من سَيِّئَة كَافِر(1/248)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
{وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة} الَّذين كَانُوا فِي الأَرْض {اسجدوا لآدَم} سَجْدَة التَّحِيَّة {فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس} رئيسهم {كَانَ مِنَ الْجِنّ} من قَبيلَة الْجِنّ {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} فتعظم وتمرد عَن طَاعَة ربه وأبى عَن السُّجُود لآدَم {أَفَتَتَّخِذُونَهُ} تعبدونه {وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ} أَرْبَابًا {مِن دُونِي} من دون الله {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} ظَاهر الْعَدَاوَة {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ} الْمُشْركين مني {بَدَلاً} فِي الطَّاعَة وَيُقَال بئس مَا استبدلوا عبَادَة الله بِعبَادة الشَّيْطَان وَيُقَال ولَايَة الله بِولَايَة الشَّيْطَان(1/248)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
{مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ} يَعْنِي الْمَلَائِكَة وَالشَّيَاطِين {خَلْقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} حِين خلقهما {وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} حِين خلقتهمْ وَيُقَال مَا استعنت من الْمَلَائِكَة وَالشَّيَاطِين فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَلَا فِي خلق أنفسهم {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين} الْكَافرين الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَعَبدَة الْأَوْثَان {عضدا} عونا(1/248)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
{وَيَوْمَ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {يَقُولُ} لعبدة الْأَوْثَان {نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذين} يَعْنِي آلِهَتكُم {زَعَمْتُمْ} عَبدْتُمْ وقلتم إِنَّهُم شركائي حَتَّى يمنعوكم من عَذَابي {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} فَلم يجيبوا لَهُم {وَجَعَلنَا بَينهم} بَين العابد والمعبود {مَّوْبِقاً} وَاديا فِي النَّار وَجَعَلنَا مَا بَينهم من الْوَصْل والود فِي الدُّنْيَا موبقاً مهْلكا فِي الْآخِرَة(1/248)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
{وَرَأَى المجرمون} الْمُشْركُونَ {النَّار فظنوا} فَعَلمُوا وأيقنوا {أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} دَاخِلُوهَا يَعْنِي النَّار {وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً} مهرباً(1/249)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} بيّنا {فِي هَذَا الْقُرْآن لِلنَّاسِ} لأهل مَكَّة {مِن كُلِّ مَثَلٍ} من كل وَجه من الْوَعْد والوعيد لكَي يتعظوا فيؤمنوا {وَكَانَ الْإِنْسَان} أبي بن خلف الجُمَحِي {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} فِي الْبَاطِل وَيُقَال لَيْسَ شَيْء أجدل من الْإِنْسَان(1/249)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
{وَمَا مَنَعَ النَّاس} أهل مَكَّة المطعمين يَوْم بدر {أَن يُؤمنُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {إِذْ جَاءَهُم الْهدى} مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالْقُرْآنِ {وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} يتوبوا من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلين} عَذَاب الْأَوَّلين بهلاكهم {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَاب} بِالسَّيْفِ {قُبُلاً} مُعَاينَة يَوْم بدر(1/249)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ} بِالْجنَّةِ للْمُؤْمِنين {وَمُنذِرِينَ} عَن النَّار للْكَافِرِينَ {وَيُجَادِلُ} يُخَاصم {الَّذين كَفَرُواْ} بالكتب وَالرسل {بِالْبَاطِلِ} بالشرك {لِيُدْحِضُواْ} ليبطلوا {بِهِ} بِالْبَاطِلِ {الْحق} وَالْهدى {وَاتَّخذُوا آيَاتِي} كتابي ورسلي {وَمَا أُنْذِرُواْ} خوفوا من الْعَذَاب {هُزُواً} سخرية واستهزاء(1/249)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
{وَمَنْ أَظْلَمُ} لَيْسَ أحد أظلم {مِمَّن ذُكِّرَ} وعظ {بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} فصرف عَنْهَا جاحداً بهَا {وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ترك ذكر مَا عملت يَدَاهُ من الذُّنُوب {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية {أَن يَفْقَهُوهُ} لكَي لَا يفقهوا الْحق وَالْهدى {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} صمماً لكَي لَا يسمعوا الْحق وَالْهدى {وَإِن تَدْعُهُمْ} يَا مُحَمَّد {إِلَى الْهدى} إِلَى التَّوْحِيد {فَلَنْ يهتدوا} فَلَنْ يُؤمنُوا {إِذاً أَبَداً}(1/249)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
{وَرَبُّكَ الغفور} المتجاوز {ذُو الرَّحْمَة} بِتَأْخِير الْعَذَاب {لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ} بشركهم {لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَاب} فِي الدُّنْيَا {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} أجل لهلاكهم {لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ} من عَذَاب الله {مَوْئِلاٍ} ملْجأ(1/249)
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
{وَتِلْكَ الْقرى} أهل الْقرى الْمَاضِيَة {أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} حِين كفرُوا {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم} لهلاكهم {مَّوْعِداً} أَََجَلًا(1/249)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
ثمَّ ذكر قصَّة مُوسَى مَعَ الْخضر وَكَانَ مُوسَى وَقع فِي قلبه أَن لَيْسَ فِي الأَرْض أحد أعلم مني فَقَالَ الله يَا مُوسَى إِن لي فِي الأَرْض عبدا أعبد لي مِنْك وَأعلم وَهُوَ الْخضر فَقَالَ مُوسَى يَا رب دلَّنِي عَلَيْهِ فَقَالَ الله لَهُ خُذ سمكًا مالحا وامض على شاطى الْبَحْر حَتَّى تلقى صَخْرَة عِنْدهَا عين الْحَيَاة فانضح على السَّمَكَة مِنْهَا حَتَّى تحيا السَّمَكَة فثم تلقى الْخضر فَقَالَ الله {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} لشاجرده يُوشَع بن نون وَكَانَ من أَشْرَاف بني إِسْرَائِيل وَإِنَّمَا سمي فتاه لِأَنَّهُ كَانَ يتبعهُ ويخدمه {لَا أَبْرَح} لاأزال أمضي {حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرين} العذب والمالح بَحر فَارس وَالروم {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} سِنِين وَيُقَال دهرا(1/249)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} بَين الْبَحْرين {نَسِيَا حُوتَهُمَا} خبر حوتهما {فَاتخذ سَبِيلَهُ} طَرِيقه {فِي الْبَحْر سَرَباً} يَابسا(1/249)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
{فَلَمَّا جَاوَزَا} من الصَّخْرَة {قَالَ لِفَتَاهُ} لشاجرده {آتِنَا غَدَآءَنَا} أعطنا غداءنا {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً}(1/249)
تعبا ومشقة(1/250)
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
{قَالَ} يُوشَع {أَرَأَيْتَ} يَا مُوسَى {إِذْ أَوَيْنَآ} انتهينا {إِلَى الصَّخْرَة فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوت} خبر الْحُوت {وَمَآ أَنْسَانِيهُ} وَمَا شغلنيه {إِلاَّ الشَّيْطَان أَنْ أَذْكُرَهُ} لَك {وَاتخذ سَبِيلَهُ} طَرِيقه {فِي الْبَحْر عَجَباً} يَابسا(1/250)
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
{قَالَ} مُوسَى {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} نطلب دلَالَة لنا من الله على الْخضر {فارتدا} رجعا {على آثَارِهِمَا} خلفهمَا {قَصَصاً} يقصان أثرهما(1/250)
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
{فَوَجَدَا} هُنَاكَ عِنْد الصَّخْرَة {عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ} يَعْنِي خضرًا {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} يَقُول أكرمناه بِالنُّبُوَّةِ {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} علم الكوائن(1/250)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} أصحبك يَا خضر {على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} صَوَابا وَهدى(1/250)
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)
{قَالَ} يَا مُوسَى {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أَن ترى مني شَيْئا لَا تصبر عَلَيْهِ(1/250)
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
قَالَ مُوسَى أَصْبِر قَالَ خضر {وَكَيْفَ تَصْبِرُ} يَا مُوسَى {على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} على مَا لم تعلم بِهِ {خُبْراً} بَيَانا(1/250)
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
{قَالَ ستجدني} يَا خضر {إِن شَآءَ الله صَابِراً} على مَا أرى مِنْك {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} لَا أترك أَمرك(1/250)
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
{قَالَ} خضر {فَإِنِ اتبعتني} صحبتني يَا مُوسَى {فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ} فعلته {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ} حَتَّى أبين لَك {مِنْهُ ذِكْراً} بَيَانا(1/250)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
{فَانْطَلقَا} فمضيا مُوسَى وخضر عَلَيْهِمَا السَّلَام {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَة} عِنْد العبر {خَرَقَهَا} ثقبها الْخضر {قَالَ} لَهُ مُوسَى {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ} يَعْنِي لكَي يغرق {أَهْلَهَا} إِن قَرَأت بِنصب الْيَاء وَيُقَال لتغرق لتهلك إِن قَرَأت بِضَم التَّاء {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} لقد فعلت شَيْئا مُنْكرا شَدِيدا على الْقَوْم(1/250)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)
{قَالَ} لَهُ الْخضر {أَلَمْ أَقُلْ} يَا مُوسَى {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً}(1/250)
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
{قَالَ} مُوسَى {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} تركت من وصيتك {وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} يَعْنِي لَا تكلفني من أَمْرِي شدَّة(1/250)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
{فَانْطَلقَا} فمضيا {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً} بَين قريتين {فَقَتَلَهُ} الْخضر {قَالَ} مُوسَى (أَقَتَلْتَ) يَا خضر {نَفْساً زَكِيَّةً} بَريَّة {بِغَيْرِ نَفْسٍ} بِغَيْر قتل نفس {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} فعلت فعلا مُنْكرا عَظِيما(1/250)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)
{قَالَ} الْخضر {أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ} يَا مُوسَى {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} إِنَّك ترى مني شَيْئا لَا تصبر على ذَلِك(1/250)
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
{قَالَ} مُوسَى {إِن سَأَلْتُكَ} يَا خضر {عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا} بعد قتل هَذِه النَّفس {فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً} قد أعذرت مني بترك الصُّحْبَة(1/250)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
{فَانْطَلقَا} فمضيا {حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ} يُقَال لَهَا أنطاكية {استطعمآ أَهْلَهَا} طلبا من أَهلهَا الْخبز(1/250)
{فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا} يعطوهما الطَّعَام {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً} حَائِطا مائلاً {يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أَن يسْقط {فَأَقَامَهُ} فسواه الْخضر {قَالَ} مُوسَى {لَوْ شِئْتَ} يَا خضر {لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} جعلا خبْزًا نأكله(1/251)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
{قَالَ} الْخضر {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} يَا مُوسَى {سَأُنَبِّئُكَ} أخْبرك {بِتَأْوِيلِ} بتفسير {مَا لَمْ تستطع عَلَيْهِ صبرا} مالم تصبر عَلَيْهِ(1/251)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
{أَمَّا السَّفِينَة} الَّتِي ثقبتها {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْر} فيعبرون بِالنَّاسِ {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} أشينها {وَكَانَ وَرَآءَهُم} قدامهم {مَّلِكٌ} يُقَال لَهُ جلندى {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} فَلذَلِك ثقبتها(1/251)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
{وَأَمَّا الْغُلَام} الَّذِي قتلته {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} من عُظَمَاء تِلْكَ الْقرْيَة {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا} فَعلم رَبك أَن يكلفهما {طُغْيَاناً وَكُفْراً} بطغيانه وكفره ومعصيته بِالْحلف الْكَاذِب فَقتلته(1/251)
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
{فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} ولدا {خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً} صَالحا {وَأَقْرَبَ رُحْماً} أوصل رحما فرزق الله لَهما جَارِيَة فَتزَوج بهَا نَبِي من الْأَنْبِيَاء فَولدت نَبيا من الْأَنْبِيَاء فهدى الله على يَدَيْهِ أمة من النَّاس وَكَانَ الْغُلَام رجلا كَافِرًا لصاً قتالاً فَمن ذَلِك قَتله الْخضر وَكَانَ اسْمه جيسور(1/251)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
{وَأَمَّا الْجِدَار} الَّذِي سويته {فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ} وَكَانَ اسمهما أَصْرَم وصريم {فِي الْمَدِينَة} فِي مَدِينَة أنطاكية {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} لوح من الذَّهَب فِيهِ علم وَحِكْمَة مَكْتُوب فِيهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم عجبت لمن يُوقن بِالْمَوْتِ كَيفَ يفرح وَعَجِبت لمن يُوقن بِالْقدرِ كَيفَ يحزن وَعَجِبت لمن يُوقن بِزَوَال الدُّنْيَا وَتَقَلُّبهَا بِأَهْلِهَا كَيفَ يطمئن إِلَيْهَا لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} ذُو أَمَانَة يُقَال لَهُ كاشح {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا} أَن يحتلما {وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} يَعْنِي اللَّوْح {رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} نعْمَة لَهما من رَبك وَيُقَال وَحيا من رَبك فعلته {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} من قبل نَفسِي {ذَلِك تَأْوِيلُ} تَفْسِير {مَا لم تسطع عَلَيْهِ صبرا} مالم تصبر عَلَيْهِ(1/251)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
{وَيَسْأَلُونَكَ} يَا مُحَمَّد أهل مَكَّة {عَن ذِي القرنين} عَن خبر ذِي القرنين {قُلْ} يَا مُحَمَّد لَهُم {سأتلو عَلَيْكُم} سأقرأ عَلَيْكُم مِّنْهُ من خَبره {ذِكْراً} بَيَانا(1/251)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ} مكناه {فِي الأَرْض وَآتَيْنَاهُ} أعطيناه {مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} معرفَة الطَّرِيق والمنازل(1/251)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
{فَأَتْبَعَ سَبَباً} فَأخذ طَرِيقا(1/251)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْس} حَيْثُ تغرب {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} حارة وَيُقَال طِينَة سَوْدَاء مُنْتِنَة إِن قَرَأت بِغَيْر الْألف {وَوجد عِنْدهَا قوما} كفَّارًا {قُلْنَا يَا ذَا القرنين} ألهمناه {إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ} تقتل حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله {وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} مَعْرُوفا تَعْفُو عَنْهُم وتتركهم(1/251)
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)
{قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ} كفر بِاللَّه {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} فِي الْآخِرَة {فَيُعَذِّبُهُ} بالنَّار {عَذَاباً نُّكْراً} شَدِيدا(1/251)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} بِاللَّه {وَعَمِلَ صَالِحاً} خَالِصا {فَلَهُ جَزَآءً الْحسنى} الْجنَّة فِي الْآخِرَة {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} مَعْرُوفا(1/252)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} أَخذ طَرِيقا نَحْو الْمشرق(1/252)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْس وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا} بَينهم وَبَين الشَّمْس {سِتْراً} جبلا وَلَا شَجرا وَلَا ثوبا قوم عماة عُرَاة عَن الْحق يُقَال لَهُم تارج وتاويل ومنسك(1/252)
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
{كَذَلِك} كَمَا بلغ إِلَى الْمغرب بلغ إِلَى الْمشرق {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} قد علمنَا بِمَا كَانَ عِنْده من الْخَبَر وَالْبَيَان(1/252)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} أَخذ طَرِيقا إِلَى الْمشرق نَحْو الرّوم(1/252)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} بَين الجبلين {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا} من دون الجبلين {قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} قَول غَيرهم(1/252)
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
{قَالُوا} للترجمان {يَا ذَا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْض} يفسدون أَرْضنَا يَأْكُلُون رطبنا ويحملون يابسنا وَيقْتلُونَ أَوْلَادنَا وَيُقَال يفسدون فِي الأَرْض أَي يَأْكُلُون النَّاس ويأجوج كَانَ رجلا وَمَأْجُوج كَانَ رجلا وَكَانَا من بني يافث وَيُقَال سمي يَأْجُوج وَمَأْجُوج لكثرتهم {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} جعلا وَيُقَال أجرا إِن قَرَأت بِغَيْر الْألف {على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} حاجزاً(1/252)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
{قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ} مَا ملكني عَلَيْهِ {رَبِّي} وَأَعْطَانِي {خَيْرٌ} مِمَّا تعرضون عَليّ من الْجعل {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} قَالُوا أَي الْقُوَّة تُرِيدُ منا قَالَ آلَة الحدادين {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ردما} سدا(1/252)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
{آتُونِي} أعطوني {زُبَرَ الْحَدِيد} فلق الْحَدِيد {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصدفين} طرفِي الْجَبَل {قَالَ} لَهُم {انفخوا} فنفخوا فِيهِ النَّار {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً} يَقُول صَار الْحَدِيد كنار فَذهب بعضه فِي بعض {قَالَ آتوني} أعطوني {أُفْرِغْ عَلَيْهِ} أصب على الْحَائِط {قِطْراً} صفراً(1/252)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
{فَمَا اسطاعوا} فَلم يقدروا {أَن يَظْهَرُوهُ} من أَعْلَاهُ {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} من أَسْفَله(1/252)
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
{قَالَ هَذَا} الْحَائِط {رَحْمَةٌ} نعْمَة {مِّن رَّبِّي} عَلَيْكُم {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} بِخُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج {جعله دكا} كسراً {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي} بخروجهم {حَقّاً} صدقا كَائِنا(1/252)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ} يَوْم الْخُرُوج وَيُقَال يَوْم الرُّجُوع من الرّوم حَيْثُ لم يقدروا على الْخُرُوج مِنْهُ {يَمُوجُ} يجول {فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّور فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} جَمِيعًا(1/252)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)
{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ} كشفنا جَهَنَّم {يَوْمَئِذٍ} يَوْم الْقِيَامَة {لِّلْكَافِرِينَ} قبل دُخُولهمْ {عَرْضاً} كشفاً(1/252)
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
{الَّذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ} فِي عمى {عَن ذِكْرِي} عَن توحيدي وكتابي {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} الِاسْتِمَاع إِلَى قِرَاءَة الْقُرْآن من بغض مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/252)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
{أفحسب} أفيظن {الَّذين كفرُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي} أَن يعبدوا عبَادي {مِن دوني أَوْلِيَآءَ} أَرْبَابًا بِأَن ينفعوهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَيُقَال أفحسب أفيكفي إِن قَرَأت بِضَم الْبَاء وَجزم السِّين الَّذين كفرُوا أَن يتخذوا عبَادي أَن يعبدوا عبَادي من دوني من دون طَاعَتي أَوْلِيَاء أَرْبَابًا(1/252)
{إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} منزلا(1/253)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {هَلْ نُنَبِّئُكُم} نخبركم {بالأخسرين أَعْمَالاً} فى الْآخِرَة(1/253)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
{الَّذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ} بَطل عَمَلهم {فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} وهم الْخَوَارِج وَيُقَال أَصْحَاب الصوامع {وَهُمْ يَحْسَبُونَ} يظنون {أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} يعْملُونَ عملا صَالحا(1/253)
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
{أُولَئِكَ الَّذين كفرُوا بآيَات رَبهم} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {وَلِقَائِهِ} الْبَعْث بعد الْمَوْت {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} حسناتهم {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ} لأعمالهم {يَوْمَ الْقِيَامَة وَزْناً} ميزاناً وَيُقَال لَا يُوزن يَوْم الْقِيَامَة من أَعْمَالهم قدر ذرة(1/253)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
{ذَلِك جزاؤهم جَهَنَّم بِمَا كفرُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَاتَّخذُوا آيَاتِي} كتابي {وَرُسُلِي} مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَغَيره {هُزُواً} سخرية واستهزاء(1/253)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
{إِن الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس} أَعْلَاهَا دَرَجَة {نزلا} منزلا(1/253)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
{خَالِدِينَ فِيهَا} مقيمين فِيهَا {لاَ يَبْغُونَ} لَا يطْلبُونَ {عَنْهَا حِوَلاً} تحويلاً(1/253)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
{قُل} يَا مُحَمَّد للْيَهُود {لَّوْ كَانَ الْبَحْر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} لعلم رَبِّي {لَنَفِدَ الْبَحْر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} وَيُقَال تَدْبِير رَبِّي {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} زِيَادَة(1/253)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} آدَمِيّ مثلكُمْ {يُوحى إِلَيَّ} جِبْرِيل {أَنَّمَآ إِلَهكُم إِلَه وَاحِدٌ} بِلَا ولد وَلَا شريك {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ} يخَاف الْبَعْث بعد الْمَوْت {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} خَالِصا فِيمَا بَينه وَبَين ربه {وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} لَا يرائي وَلَا يخالط بِعبَادة ربه أحدا وَيُقَال بِطَاعَة ربه أحدا نزلت هَذِه الْآيَة فِي جُنْدُب بن زُهَيْر العامرى
tit/2 وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا مَرْيَم وهى كلهَا مَكِّيَّة آياتها ثَمَان وَتسْعُونَ وكلماتها تِسْعمائَة وَاثْنَانِ وَسِتُّونَ وحروفها ثَلَاثَة آلَاف وثلثمائة وحرفان /tit
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(1/253)
كهيعص (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {كهيعص} قَالَ هُوَ ثَنَاء أثنى بِهِ على نَفسه يَقُول كَاف هاد عَالم صَادِق وَيُقَال كَاف كَاف لخلقه هاهادى لخلقه يَا يدالله على خلقه وَعين عَالم بأمرهم صَاد صَادِق بوعده وَيُقَال الْكَاف من كريم وَالْهَاء من هاد وَالْيَاء من حَلِيم وَالْعين من عليم وَالصَّاد من صَادِق وَيُقَال من صَدُوق وَيُقَال هُوَ قسم أقسم بِهِ(1/253)
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
{ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} يَقُول هَذَا ذكر رَبك {عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} رَحمته بِولد مقدم ومؤخر(1/253)
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
{إِذْ نَادَى رَبَّهُ} دَعَا زَكَرِيَّا ربه فِي الْمِحْرَاب {نِدَاء خفِيا} أشره وأخفاه من قومه(1/253)
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
{قَالَ رَبِّ} يَا رب {إِنَّي وَهَنَ الْعظم مِنِّي} ضعف بدني {واشتعل الرَّأْس شَيْباً} أَخذ الرَّأْس شُمْطًا {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً}(1/253)
يَقُول لم أكن عنْدك بدعائي يَا رب خائبا(1/254)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
{وَإِنِّي خِفْتُ الموَالِي} يَعْنِي الْوَرَثَة {مِن وَرَآئِي} أَن لَا يكون من بعدِي وَارِث يَرث حبورتي ومكاني وَيُقَال قلت ورثتي إِن قَرَأت بِنصب الْخَاء وَكسر الْفَاء {وَكَانَتِ امْرَأَتي} صَارَت امْرَأَتي حنة أُخْت أم مَرْيَم بنت عمرَان بن ماثان {عَاقِراً} عقيماً من الْوَلَد {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ} من عنْدك {وَلِيّاً} ولدا(1/254)
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
{يَرِثُنِي} يَرث حبورتي ومكاني {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} إِن كَانَ لَهُم حبورة وَملك وَكَانَ آل يَعْقُوب أخوال يحيى {واجعله رَبِّ رَضِيّاً} مرضيا صَالحا(1/254)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
فناداه جِبْرِيل فَقَالَ {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ} بِولد {اسْمه يحيى} يُسمى يحيى باحيائه رحم أمه {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} أَي لم نجْعَل لزكريا من قبل يحيى سمياً ولدا يُسمى يحيى وَيُقَال لم يكن قبل يحيى أحد يُسمى يحيى(1/254)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
{قَالَ} زَكَرِيَّا لجبريل {رَبِّ} يَا رب وسيدي {أَنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} من أَيْن يكون لي ولد {وَكَانَتِ امْرَأَتي} صَارَت امْرَأَتي {عَاقِراً} عقيماً من الْوَلَد {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكبر عِتِيّاً} يبوساً وَيُقَال سني اثْنَان وَسَبْعُونَ سنة إِن قَرَأت بِكَسْر الْعين(1/254)
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
{قَالَ} لَهُ جِبْرِيل {كَذَلِك} هَكَذَا كَمَا قلت لَك {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} أَي خلقه هُوَ عَليّ هَين {وَقَدْ خَلَقْتُكَ} وَقد جعلتك يَا زَكَرِيَّا {مِن قَبْلُ} من قبل يحيى {وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}(1/254)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
{قَالَ رَبِّ} يَا رب {اجْعَل لي آيَةً} عَلامَة إِذا حبلت امْرَأَتي {قَالَ آيَتُكَ} علامتك {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاس} لَا تقدر أَن تكلم النَّاس {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} صَحِيحا بِلَا خرس وَلَا مرض(1/254)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
{فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَاب} من الْمَسْجِد {فَأوحى إِلَيْهِمْ} فَأَشَارَ إِلَيْهِم وَيُقَال كتب لَهُم على الأَرْض {أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} صلوا لَهُ غدْوَة وَعَشِيَّة(1/254)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
{يَا يحيى} قَالَ الله ليحيى بعد مَا بلغ وَأدْركَ {خُذِ الْكتاب} اعْمَلْ بِمَا فِي الْكتاب التَّوْرَاة {بِقُوَّةٍ} بجد ومواظبة النَّفس {وَآتَيْنَاهُ} أعطيناه يَعْنِي يحيى {الحكم} الْفَهم وَالْعلم {صَبِيّاً} فِي صغره(1/254)
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
{وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} أعطيناه رَحْمَة من عندنَا لِأَبَوَيْهِ {وَزَكَاةً} صَدَقَة لَهما وَيُقَال صلاحا فِي دينه {وَكَانَ تَقِيّاً} مُطيعًا لرَبه(1/254)
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)
{وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ} لطيفاً بِوَالِديهِ {وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً} فِي دينه قتالاً فِي الْغَضَب {عَصِيّاً} عَاصِيا لرَبه(1/254)
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
{وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ} سَلامَة ومغفرة وسعادة منا على يحيى {يَوْمَ وُلِدَ} حِين ولد {وَيَوْمَ يَمُوتُ} حِين يَمُوت {وَيَوْمَ يُبْعَثُ} حِين يبْعَث من الْقَبْر {حَيا}(1/254)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
{وَاذْكُر} يَا مُحَمَّد {فِي الْكتاب} فِي الْقُرْآن {مَرْيَمَ} خبر مَرْيَم {إِذِ انتبذت} انْفَرَدت وتنحت {من أَهلهَا مَكَانا شرقيا} مشرقة دَرَاهِم(1/254)
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
{فاتخذت مِن دُونِهِم} فَأَرختْ من دون أَهلهَا {حِجَاباً} سترا لكَي تَغْتَسِل فِيهِ من الْحيض {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ} بعد مَا فرغت {رُوحَنَا} رَسُولنَا جِبْرِيل {فَتَمَثَّلَ لَهَا} فتشبه لَهَا {بَشَراً سَوِيّاً} فِي صُورَة شَاب لم ينقص(1/254)
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
{قَالَتْ} مَرْيَم {إِنِّي أَعُوذُ} أمتنع {بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} مُطيعًا للرحمن وَيُقَال التقي كَانَ اسْم رجل سوء فظنت أَنه هُوَ ذَلِك الرجل فَمن ذَلِك تعوذت مِنْهُ(1/254)
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
{قَالَ} لَهَا جِبْرِيل {إنمآ أَنا رَسُول رَبك لأَهَبَ لَكِ} لكَي يهب الله لَك {غُلاَماً زَكِيّاً} ولدا صَالحا(1/254)
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
{قَالَتْ} مَرْيَم لجبريل عَلَيْهِ السَّلَام {أَنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} من أَيْن يكون لي ولد(1/254)
{وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} لم يقربنِي زوج {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} فاجرة(1/255)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
{قَالَ} لَهَا جِبْرِيل {كَذَلِك} هَكَذَا كَمَا قلت لَك {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} خلقه عَليّ هَين بِلَا أَب {وَلِنَجْعَلَهُ} لكَي نجعله {آيَةً} عَلامَة وعبرة {لِّلْنَّاسِ} لبني إِسْرَائِيل ولدا بِلَا أَب {وَرَحْمَةً مِّنَّا} لمن آمن بِهِ {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} قَضَاء كَائِنا أَن يكون ولدا بِلَا أَب(1/255)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
{فَحَمَلَتْهُ} مَرْيَم وَكَانَ حمله تِسْعَة أشهر وَيُقَال يَوْم وَاحِد {فانتبذت} فانفردت {بِهِ} بولادتها إِيَّاه {مَكَاناً قَصِيّاً} بَعيدا من النَّاس(1/255)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
{فَأَجَآءَهَا الْمَخَاض} فألجأها الطلق {إِلَى جِذْعِ النَّخْلَة} إِلَى أصل نَخْلَة يابسة {قَالَت يَا لَيْتَني مِتُّ قَبْلَ هَذَا} الْوَلَد وَيُقَال قبل هَذَا الْيَوْم {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} شَيْئا متروكاً لم يذكر وَيُقَال حَيْضَة ملقاة وَيُقَال سقطة(1/255)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
{فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} من تَحت أَسْفَلهَا يَعْنِي جِبْرِيل {أَلاَّ تَحْزَنِي} يَا مَرْيَم على ولادَة عِيسَى {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} نَبيا وَيُقَال فناداها من تحتهَا إِن قَرَأت بِنصب الْمِيم يَعْنِي عِيسَى أَن لَا تحزني قد جعل رَبك تَحْتك سرياً نَهرا صَغِيرا(1/255)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
{وهزى إِلَيْكِ} خذي إِلَيْك {بِجِذْعِ النَّخْلَة} بِأَصْل النَّخْلَة فحركيها {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} غضاً طريا(1/255)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
{فَكُلِي} من الرطب {واشربي} من النَّهر {وَقَرِّي عَيْناً} طيبي نفسا بِوِلَادَة عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبشر} من الْآدَمِيّين {أَحَداً} بعد هَذَا الْيَوْم {فَقولِي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} صمتا {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْم إِنسِيّاً} آدَمِيًّا ثمَّ اسكتي بعد ذَلِك حَتَّى يتَكَلَّم بعذرك عِيسَى(1/255)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
{فَأَتَتْ بِهِ} بِعِيسَى {قَوْمَهَا} إِلَى قَومهَا {تَحْمِلُهُ} وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ يَوْمًا {قَالُوا يَا مَرْيَم لقد جِئْت شَيْئا فريا} مُنْكرا عَظِيما(1/255)
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
{يَا أُخْت هَارُون} يَا شَبيهَة هرون فى الْعِبَادَة وَكَانَ هرون رجلا صَالحا من أمثل النَّاس وَيُقَال كَانَ هرون رجل سوء فضربوها بِهِ وَيُقَال كَانَ هرون أخاها من أَبِيهَا {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرأ سَوْءٍ} رجلا زَانيا {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} فاجرة(1/255)
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَن كَلمُوهُ {قَالُواْ} لَهَا {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد} فِي الْحجر وَيُقَال فِي السرير {صَبِيّاً} صَغِيرا ابْن أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَتكلم عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام(1/255)
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
{قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكتاب} عَلمنِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فِي بطن أُمِّي {وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} بعد الْخُرُوج من بطن أُمِّي(1/255)
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
{وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً} معلما للخير {أَيْنَ مَا كُنتُ} حَيْثُمَا كنت وأقمت {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ} بإتمام الصَّلَاة {وَالزَّكَاة} الصَّدَقَة {مَا دُمْتُ حَيّاً} مَا حييت(1/255)
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
{وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} لطيفاً بوالدتي {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً} فِي ديني قتالاً فِي الْغَضَب {شَقِيّاً} عَاصِيا لربى(1/255)
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
{وَالسَّلَام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ} السَّلامَة عَليّ حِين ولدت من لُمزَة الشَّيْطَان {وَيَوْمَ أَمُوتُ} حِين أَمُوت من ضغطة الْقَبْر {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} حِين أبْعث من الْقَبْر حَيا(1/255)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
{ذَلِك عِيسَى ابْن مَرْيَمَ} خبر عِيسَى ابْن مَرْيَم {قَوْلَ الْحق} خبر الْحق {الَّذِي فِيهِ} فِي عِيسَى {يَمْتُرُونَ} يَشكونَ يَعْنِي النَّصَارَى وَقَالَ بَعضهم هُوَ الله وَقَالَ بَعضهم هُوَ ابْن الله وَقَالَ بَعضهم هُوَ شَرِيكه(1/255)
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
{مَا كَانَ لِلَّهِ} مَا يَنْبَغِي لله {أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} نزه نَفسه عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {إِذَا قضى أَمْراً}(1/255)
إِذا أَرَادَ أَن يخلق ولدا بِلَا أَب {فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كن فَيكون} ولدا بِلَا أَب مثل عِيسَى فَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بالرسالة إِلَى قومه قَالَ إِنِّي عبد الله ومسيحه(1/256)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
{وَإِنَّ الله} هُوَ {رَبِّي} خالقي ورازقي {وَرَبُّكُمْ} خالقكم ورازقكم {فاعبدوه} وحدوه {هَذَا} التَّوْحِيد الَّذِي آمركُم بِهِ {صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} دين قَائِم يرضاه وَهُوَ الْإِسْلَام(1/256)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
{فَاخْتلف الْأَحْزَاب} الْكفَّار {مِن بَيْنِهِمْ} فِيمَا بَينهم فَقَالَ بَعضهم هُوَ الله وَقَالَ بَعضهم هُوَ ابْن الله وَقَالَ بَعضهم هُوَ شَرِيكه {فَوْيْلٌ} الويل وَاد فِي جَهَنَّم من قيح وَدم وَيُقَال جب فِي النَّار وَيُقَال فويل فشدة الْعَذَاب {لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} تحزبوا فِي عِيسَى {مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} من عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة(1/256)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} مَا أسمعهم وَمَا أبصرهم {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة أَن عِيسَى لم يكن الله وَلَا وَلَده وَلَا شَرِيكه {لَكِن الظَّالِمُونَ} الْمُشْركُونَ {الْيَوْم} فِي الدُّنْيَا {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} فِي كفر بيّن بقَوْلهمْ إِن عِيسَى هُوَ الله أَو وَلَده أَو شَرِيكه(1/256)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
{وَأَنْذِرْهُمْ} يَا مُحَمَّد خوفهم {يَوْمَ الْحَسْرَة} الندامة {إِذْ قُضِيَ الْأَمر} فرغ من الْحساب وَأدْخل أهل الْجنَّة الْجنَّة وَأهل النَّار النَّار وَذبح الْمَوْت {وهم فِي غَفلَة} فى جهلة وسمى عَن ذَلِك {وهم لَا يُؤمنُونَ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَالْقُرْآن والبعث بعد الْمَوْت(1/256)
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْض} نملك الأَرْض {وَمَنْ عَلَيْهَا} نملك من عَلَيْهَا وَيُقَال نميت من فِيهَا ونرث من عَلَيْهَا نميتهم ونحييهم {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يَوْم الْقِيَامَة فأجزيهم بأعمالهم الْحَسَنَة بِالْحَسَنَة والسيئة بِالسَّيِّئَةِ(1/256)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
{وَاذْكُر فِي الْكتاب إِبْرَاهِيمَ} خبر إِبْرَاهِيم {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً} مُصدقا بإيمانه {نَّبِيّاً} مُرْسلا يخبر عَن الله(1/256)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} آزر {يَا أَبَت لِمَ تَعْبُدُ} من دون الله {مَا لاَ يَسْمَعُ} إِن دَعوته {وَلاَ يَبْصِرُ} إِن عبدته {وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} من عَذَاب الله(1/256)
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
{يَا أَبَت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي} من الله {مِنَ الْعلم} الْبَيَان {مَا لم يأتك} مالم يجىء إِلَيْك أَن من عبد غير الله يعذبه الله تَعَالَى بالنَّار {فاتبعني} فِي دين الله {أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} أدلك إِلَى طَرِيق عدل قَائِم يرضاه وَهُوَ الْإِسْلَام(1/256)
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)
{يَا أَبَت لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَان} لَا تُطِع الشَّيْطَان فِي عبَادَة الْأَصْنَام {إِنَّ الشَّيْطَان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} كَافِرًا(1/256)
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
{يَا أَبَت إِنِّي أَخَافُ} أعلم {أَن يَمَسَّكَ} يصيبك {عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن} إِن لم تؤمن بِهِ {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} قريناً فِي النَّار(1/256)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
{قَالَ} آزر {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي} عَن عبَادَة آلهتى {يَا إِبْرَاهِيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} عَن مَقَالَتك {لأَرْجُمَنَّكَ} لأسبنك وَيُقَال لأَقْتُلَنك {واهجرني مَلِيّاً} واعتزلني مَا دمت حَيا وَيُقَال اتركني وَلَا تكلمني طَويلا وَيُقَال دهرا(1/256)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
{قَالَ} إِبْرَاهِيم {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} أَدْعُو لَك رَبِّي {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} عَالما إِن أَرَادَ أَن يستجيب دَعْوَتِي(1/256)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
{وَأَعْتَزِلُكُمْ} أترككم {وَمَا تَدْعُونَ} تَعْبدُونَ {مِن دُونِ الله} من الْأَوْثَان {وَأَدْعُو رَبِّي} أعبد رَبِّي {عَسى} وَعَسَى من الله وَاجِب {أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي} بِعبَادة رَبِّي {شَقِيّاً} خائباً(1/256)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
{فَلَمَّا اعتزلهم} تَركهم {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} من الْأَوْثَان {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ}(1/256)
الضاحك {وَيَعْقُوبَ} ولد الْوَلَد {وَكُلاًّ} إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب {جَعَلْنَا نَبِيّاً} أكرمناهم بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام(1/257)
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
{وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا} من نعمتنا ولدا صَالحا ومالاً حَلَالا {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} أكرمناهم بالثناء الْحسن(1/257)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
{وَاذْكُر فِي الْكتاب مُوسَى} خبر مُوسَى {إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} مَعْصُوما من الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش وَيُقَال مخلصاً بِالْعبَادَة والتوحيد إِن قَرَأت بِكَسْر اللَّام {وَكَانَ رَسُولاً} إِلَى بني إِسْرَائِيل {نَّبِيّاً} يخبر عَن الله تَعَالَى(1/257)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
{وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطّور} الْجَبَل {الْأَيْمن} عَن يَمِين مُوسَى {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} أَي قربناه حَتَّى سمع صرير الْقَلَم وَيُقَال كلمناه من قريب(1/257)
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ} من نعمتنا {أَخَاهُ هَارُون نَبيا} وزيرا معينا(1/257)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)
{وَاذْكُر فِي الْكتاب إِسْمَاعِيل} خبر إِسْمَعِيل {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْد} إِذا وعد أنْجز {وَكَانَ رَسُولاً} مُرْسلا إِلَى قومه {نَّبِيّاً} يخبر عَن الله(1/257)
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} قومه {بِالصَّلَاةِ} بإتمام الصَّلَاة {وَالزَّكَاة} بِإِعْطَاء الزَّكَاة الصَّدَقَة {وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مرضيا} صَالحا(1/257)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)
{وَاذْكُر فِي الْكتاب إِدْرِيسَ} خبر إِدْرِيس {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً} مُصدقا بإيمانه {نَّبِيَّاً} يخبر عَن الله(1/257)
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
{وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} فِي الْجنَّة(1/257)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
{أُولَئِكَ الَّذين} ذكرتهم إِبْرَاهِيم وإسمعيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب ومُوسَى وَهَارُون وَعِيسَى وَإِدْرِيس وَسَائِر الْأَنْبِيَاء {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيين} أكْرمهم الله بِالنُّبُوَّةِ والرسالة وَالْإِسْلَام {من ذُرِّيَّة آدم وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} من ذُرِّيَّة نوح أَوْلَاده {وَمن ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم} إِسْمَعِيل وَإِسْحَاق {وَإِسْرَائِيلَ} وَمن ذُرِّيَّة يَعْقُوب يُوسُف وَإِخْوَته {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} أكرمنا بِالْإِيمَان {واجتبينآ} اصْطَفَيْنَا بِالْإِسْلَامِ ومتابعة النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه {إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ} إِذا تقْرَأ عَلَيْهِم {آيَاتُ الرَّحْمَن} بِالْأَمر وَالنَّهْي {خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} يَسْجُدُونَ ويبكون من مَخَافَة الله(1/257)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
{فَخَلَفَ} فَبَقيَ {مِن بَعْدِهِمْ} من بعد الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ {خَلْفٌ} سوء {أَضَاعُواْ الصَّلَاة} تركُوا الصَّلَاة وَكَفرُوا بِاللَّه {وَاتبعُوا الشَّهَوَات} اشتغلوا باللذات فِي الدُّنْيَا وَتزَوج الْأَخَوَات من الْأَب وهم الْيَهُود {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} وَاديا فِي جَهَنَّم(1/257)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
{إِلاَّ مَن تَابَ} من الْيَهُود {وَآمَنَ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلَ صَالِحاً} خَالِصا فِيمَا بَينه وَبَين ربه {فَأُولَئِك يَدْخُلُونَ الْجنَّة وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} لَا ينقص من حسناتهم وَلَا يُزَاد على سيئاتهم(1/257)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
ثمَّ بَين أَي الْجنَّة لَهُم فَقَالَ {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَن عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} بالغائب عَنْهُم {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} كَائِنا(1/257)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا} فِي الْجنَّة {لَغْواً} حلفا بَاطِلا {إِلَّا سَلاما} لَكِن يسلم بَعضهم على بعض للإكرام {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا} طعامهم فِي الْجنَّة {بُكْرَةً وَعَشِيّاً} على مِقْدَار بكرَة وَعَشِيَّة فِي الدُّنْيَا(1/257)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
{تِلْكَ الْجنَّة} هَذِه الْجنَّة {الَّتِي نُورِثُ}(1/257)
ننزل {مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} من الْكفْر والشرك وَيُقَال مُطيعًا لرَبه(1/258)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
{وَمَا نَتَنَزَّلُ} من السَّمَاء {إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} يَا مُحَمَّد فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل ذَلِك حِين حبس الله عَنهُ الْوَحْي فِيمَا سَأَلته قُرَيْش عَن الرّوح وَذي القرنين وَأَصْحَاب الْكَهْف {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} من أَمر الْآخِرَة {وَمَا خَلْفَنَا} من أَمر الدُّنْيَا {وَمَا بَيْنَ ذَلِك} مَا بَين النفختين {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} لم ينْسك رَبك مُنْذُ أُوحِي إِلَيْك(1/258)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
{رب} خَالق {السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا} من الْخلق والعجائب هُوَ الله {فاعبده} فأطعه {واصطبر لِعِبَادَتِهِ} اصبر على عِبَادَته {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} أحدا يُسمى الله(1/258)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
{وَيَقُولُ الْإِنْسَان} أبي بن خلف الجُمَحِي بانكار الْبَعْث {أئذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} من الْقَبْر بعد الْمَوْت هَذَا مَالا يكون(1/258)
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
{أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ} أَو لَا يتعظ أبي بن خلف الجُمَحِي {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ} من قبل هَذَا من نُطْفَة مُنْتِنَة {وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} فَإِنِّي قَادر على أَن أحييه(1/258)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
{فَوَرَبِّكَ} أقسم بِنَفسِهِ {لَنَحْشُرَنَّهُمْ} يَوْم الْقِيَامَة يَعْنِي أَبَيَا وَأَصْحَابه {وَالشَّيَاطِين ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ} لنجمعنهم {حَوْلَ جَهَنَّمَ} وسط جَهَنَّم {جِثِيّاً} جَمِيعًا(1/258)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ} لَنخْرجَنَّ {مِن كُلِّ شِيعَةٍ} من كل أهل دين {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَن عِتِيّاً} جرْأَة بِالْقُرْآنِ(1/258)
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا} أَحَق بهَا {صِلِيّاً} دُخُولا(1/258)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
{وَإِن مِّنكُمْ} وَمَا مِنْكُم من أحد {إِلاَّ وَارِدُهَا} داخلها يَعْنِي النَّار غير النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ {كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} قَضَاء كَائِنا وَاجِبا أَن يكون(1/258)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذين اتَّقوا} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش {وَّنَذَرُ} نَتْرُك {الظَّالِمين} الْمُشْركين {فِيهَا} فِي جَهَنَّم {جِثِيّاً} جَمِيعًا دَائِما(1/258)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ} تقْرَأ عَلَيْهِم على النَّضر وَأَصْحَابه {آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} بِالْأَمر وَالنَّهْي {قَالَ الَّذين كفرُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن والبعث يَعْنِي النَّضر وَأَصْحَابه {لِلَّذِينَ آمنُوا} بِمُحَمد وَالْقُرْآن يَعْنِي أَبَا بكر وَأَصْحَابه {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} أهل دينين منا ومنكم {خَيْرٌ مَّقَاماً} منزلا {وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} مَجْلِسا(1/258)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} قبل قُرَيْش {مِّن قَرْنٍ} من أُمَم خَالِيَة {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً} أَكثر أَمْوَالًا وأولادا {ورئيا} أحسن منْظرًا(1/258)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {مَن كَانَ فِي الضَّلَالَة} فِي الْكفْر والشرك {فَلْيَمْدُدْ} فليزدد {لَهُ الرَّحْمَن مَدّاً} زِيَادَة فِي المَال وَالْولد فانظرهم يَا مُحَمَّد {حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} من الْعَذَاب {إِمَّا الْعَذَاب} يَوْم بدر بِالسَّيْفِ {وَإِمَّا السَّاعَة} وَإِمَّا عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة بالنَّار {فَسَيَعْلَمُونَ} وَهَذَا وَعِيد لَهُم {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً} منزلا فِي الْآخِرَة وضيقاً فِي الدُّنْيَا {وَأَضْعَفُ جُنداً} أَهْون ناضراً(1/258)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
{وَيَزِيدُ الله الَّذين اهتدوا} بِالْإِيمَان {هُدًى} بالشرائع وَيُقَال وَيزِيد الله الَّذين اهتدوا بالناسخ هدى بالمنسوخ {والباقيات الصَّالِحَات} والصلوات الْخمس {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} خير مَا يثيب الله بِهِ الْعباد الصَّلَوَات(1/258)
{وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} أفضل مرجعاً فِي الْآخِرَة(1/259)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كفر بِآيَاتِنَا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن يَعْنِي الْعَاصِ بن وَائِل السَّهْمِي {وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} لَئِن كَانَ مَا يَقُول مُحَمَّد فِي الْآخِرَة حَقًا لَأُعْطيَن مَالا وَولدا فى الْآخِرَة(1/259)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
فَرد الله عَلَيْهِ وَقَالَ {أَطَّلَعَ الْغَيْب} أنظر فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ أَن لَهُ مَا يَقُول {أَمِ اتخذ} اعْتقد {عِندَ الرَّحْمَن عَهْداً} بِلَا إِلَه إِلَّا الله فَيكون لَهُ مَا يَقُول(1/259)
كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
{كَلاَّ} رد عَلَيْهِ لَا يكون لَهُ مَا يَقُول {سَنَكْتُبُ} سنحفظ {مَا يَقُولُ} من الْكَذِب {ونمد لَهُ} نزيل لَهُ {مِنَ الْعَذَاب مَدّاً} زِيَادَة(1/259)
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} فِي الْجنَّة ونعطي غَيره من الْمُؤمنِينَ {وَيَأْتِينَا} يَوْم الْقِيَامَة {فَرْداً} وحيداً خَالِيا من المَال وَالْولد وَالْخَيْر نزلت هَذِه الْآيَة فِي خباب بن الْأَرَت وَصَاحبه فِي خُصُومَة كَانَت بَينهمَا(1/259)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
{وَاتَّخذُوا} عبدُوا أهل مَكَّة {مِن دُونِ الله آلِهَةً} يَعْنِي الْأَصْنَام {لِّيَكُونُواْ لَهُمْ} يَعْنِي الْأَصْنَام {عِزّاً} مَنْفَعَة من عَذَاب الله(1/259)
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
{كَلاَّ} رد عَلَيْهِم لَا يكون لَهُم مَنْفَعَة من عَذَاب الله {سيكفرون بعبادتهم} سيتبرءون يَعْنِي الْأَصْنَام من عبَادَة الْكفَّار {وَيَكُونُونَ} يَعْنِي الْأَصْنَام {عَلَيْهِمْ} على الْكفَّار {ضِدّاً} عوناً بِالْعَذَابِ(1/259)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر يَا مُحَمَّد {أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِين} سلطنا الشَّيَاطِين {عَلَى الْكَافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} تزعجهم إِلَى مَعْصِيّة الله إزعاجاً وتغريهم إغراء(1/259)
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
{فَلاَ تَعْجَلْ} فَلَا تستعجل {عَلَيْهِمْ} بِالْعَذَابِ {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} يَعْنِي النَّفس بعد النَّفس(1/259)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
{يَوْمَ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش {إِلَى الرَّحْمَن} إِلَى جنَّة الرَّحْمَن {وَفْداً} ركباناً على النوق(1/259)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
{وَنَسُوقُ الْمُجْرمين} الْمُشْركين {إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} عطاشاً(1/259)
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
{لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة} لَا تشفع الْمَلَائِكَة لأحد {إِلاَّ مَنِ اتخذ} من اعْتقد {عِندَ الرَّحْمَن عَهْداً} بِلَا إِلَه إِلَّا الله(1/259)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)
{وَقَالُواْ} يَعْنِي الْيَهُود {اتخذ الرَّحْمَن وَلَداً} عُزَيْرًا ابْنا(1/259)
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
{لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} قُلْتُمْ قولا مُنْكرا عَظِيما(1/259)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
{تَكَادُ السَّمَاوَات يَتَفَطَّرْنَ} يتشققن {مِنْهُ} من قَوْلهم {وَتَنشَقُّ الأَرْض} تتصدع الأَرْض {وَتَخِرُّ الْجبَال} تسير الْجبَال {هَدّاً} كسراً(1/259)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
{أَن دَعَوْا} بِأَن دعوا {للرحمن وَلَداً} عُزَيْرًا ابْنا(1/259)
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
{وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} عُزَيْرًا ابْنا(1/259)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} يَقُول مَا من أحد فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض {إِلاَّ آتِي الرَّحْمَن عَبْداً} إِلَّا مقرا للرحمن بالعبودية مُطيعًا لَهُ غير الْكَافِر(1/259)
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)
{لقد أحصاهم} حفظهم {وعدهم عدا} عَالم بعددهم(1/259)
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} يَجِيء إِلَى الله {يَوْمَ الْقِيَامَة فَرْداً} وحيداً بِلَا مَال وَلَا ولد(1/259)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
{إِن الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَن وُدّاً} يُحِبهُمْ ويحببهم إِلَى الْمُؤمنِينَ(1/259)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} هونا عَلَيْك قِرَاءَة الْقُرْآن {لِتُبَشِّرَ بِهِ} بِالْقُرْآنِ {الْمُتَّقِينَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش {وَتُنْذِرَ} تخوف {بِهِ} بِالْقُرْآنِ {قَوْماً لُّدّاً} جدلاً بِالْبَاطِلِ(1/259)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} قبل قَوْمك يَا مُحَمَّد(1/259)
{مِّن قَرْنٍ} من الْقُرُون الْمَاضِيَة {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ} هَل ترى مِنْهُم أحدا بعد الْهَلَاك {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} صَوتا بعد مَا هَلَكُوا ودرسوا
وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا طه وهى كلهَا مَكِّيَّة آياتها مائَة وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ وكلماتها ألف وثلثمائة وَوَاحِد وحروفها خَمْسَة آلَاف ومائتان وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ حرفا
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(1/260)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآن لتشقى} لتتعب بِالْقُرْآنِ نزلت هَذِه الْآيَة والنبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قبل ذَلِك يجْتَهد بِصَلَاة اللَّيْل حَتَّى تورمت قدماه فَخفف الله عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَة فَقَالَ طه يَا رجل هَذِه بِلِسَان مَكَّة أَي يَا مُحَمَّد مَا أنزلنَا عَلَيْك الْقُرْآن جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ(1/260)
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
{إِلاَّ تَذْكِرَةً} عظة {لِّمَن يخْشَى} لمن يسلم وَلم أنزلهُ لتشقى لتتعب نَفسك مقدم ومؤخر(1/260)
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
{تَنزِيلاً} يَقُول الْقُرْآن تكليماً {مِّمَّنْ خَلَق الأَرْض وَالسَّمَاوَات العلى} رفع بَعْضهَا فَوق بعض(1/260)
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
{الرَّحْمَن عَلَى الْعَرْش اسْتَوَى} اسْتَقر وَيُقَال امْتَلَأَ بِهِ وَيُقَال هُوَ من المكتوم الَّذِي لَا يُفَسر(1/260)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض وَمَا بَيْنَهُمَا} من الْخلق والعجائب {وَمَا تَحْتَ الثرى} الَّذِي تَحت الْأَرْضين السَّابِعَة السُّفْلى لِأَن الْأَرْضين على المَاء وَالْمَاء على الْحُوت والحوت على الصَّخْرَة والصخرة على قَرْني الثور والثور على الثرى هُوَ التُّرَاب الندي يعلم الله مَا تَحْتَهُ(1/260)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
{وَإِن تَجْهَرْ بالْقَوْل} تعلن بالْقَوْل الْفِعْل {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرّ} من القَوْل وَالْفِعْل {وَأَخْفَى} من السِّرّ مَا هُوَ كَائِن مِنْك لم يَك بعد أَو يكون يعلم الله ذَلِك كُله(1/260)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
{الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} وَحده لَا شريك لَهُ {لَهُ الأسمآء الْحسنى} الصِّفَات الْعليا فَادعوهُ بهَا(1/260)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)
{وَهَلْ أَتَاكَ} مَا أَتَاك يَا مُحَمَّد ثمَّ أَتَاك {حَدِيثُ مُوسَى} خبر مُوسَى(1/260)
إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
{إِذْ رَأَى نَاراً} عَن يسَاره {فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا} انزلوا مَكَانكُمْ {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} إِنِّي رَأَيْت نَارا {لعَلي آتِيكُمْ مِّنْهَا} من النَّار {بِقَبَسٍ} بشعلة مقتبسة وَكَانَ فِي برد شَدِيد من الشتَاء {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّار} عِنْد النَّار {هُدًى} من يدلني على الطَّرِيق(1/260)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)
{فَلَمَّآ أَتَاهَا} فَإِذا هِيَ شَجَرَة خضراء تتوقد مِنْهَا نَار بَيْضَاء {نُودي يَا مُوسَى}(1/260)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
{إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ فاخلع نَعْلَيْكَ} وَكَانَت نعلاه من جلد حمَار ميت {إِنَّكَ بالواد الْمُقَدّس} المطهر {طُوىً} اسْم الْوَادي وَيُقَال قد طوته الْأَنْبِيَاء قبلك وَيُقَال طوى بِئْر قد طويت بالصخر فِي ذَلِك الْوَادي للَّذي كَانَت فِيهِ الشَّجَرَة(1/260)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
{وَأَنَا اخْتَرْتُك} بالرسالة إِلَى فِرْعَوْن {فاستمع لِمَا يُوحى} فاعمل بِمَا تُؤمر(1/260)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
{إِنَّنِي أَنَا الله لَا إِلَه إِلَّا أَنَاْ فاعبدني} فأطعنى {وأقم الصَّلَاة لذكري} لَو نسيت صَلَاة فصلها حِين ذكرتها(1/260)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
{إِنَّ السَّاعَة آتِيَةٌ} كائنة {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أظهرها وَيُقَال أسترها عَن نَفسِي فَكيف أظهرها لغيري {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ} برة أَو فاجرة {بِمَا تسْعَى} بِمَا تعْمل من الْخَيْر وَالشَّر(1/260)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
{فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} فَلَا يصرفنك عَن الْإِقْرَار بهَا {مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتبع هَوَاهُ} بالإنكار وَعبادَة الْأَصْنَام {فتردى} فتهلك(1/260)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
{وَمَا تِلْكَ بيمينك يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عصاي أتوكأ عَلَيْهَا} أعْتَمد عَلَيْهَا إِذا عييت {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} أخبط بهَا الشَّجَرَة لغنمي {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} حوائج شتَّى(1/261)
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19)
{قَالَ ألقها} من يدك {يَا مُوسَى}(1/261)
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)
{فَأَلْقَاهَا} من يَده {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسْعَى} تشتد رَافِعَة رَأسهَا فولى مُوسَى هَارِبا مِنْهَا(1/261)
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
{قَالَ} الله لَهُ {خُذْهَا} يَا مُوسَى {وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا} سنجعلها {سِيَرتَهَا الأولى} عَصا كَمَا كَانَت(1/261)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)
{واضمم يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} أَدخل يدك فِي إبطك {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ} لَهَا شُعَاع {مِنْ غَيْرِ سوء} من غير برص {آيَةً أُخْرَى} عَلامَة أُخْرَى مَعَ الْعَصَا(1/261)
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
{لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا} من علاماتنا {الْكُبْرَى} الْعُظْمَى(1/261)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} علا وتكبر وَكفر(1/261)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)
{قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} لين لي قلبِي لكَي لَا أخافه(1/261)
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
{وَيَسِّرْ لي أَمْرِي} هون عَليّ تَبْلِيغ الرسَالَة إِلَى فِرْعَوْن(1/261)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)
{واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي} ابْسُطْ رتة من لسانى(1/261)
يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
{يَفْقَهُواْ قَوْلِي} لكَي يفقهوا كَلَامي(1/261)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)
{وَاجعَل لِّي وَزِيراً} معينا {مِّنْ أَهْلِي}(1/261)
هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
{هَارُونَ أَخِي اشْدُد بِهِ أَزْرِي} قو بِهِ ظَهْري(1/261)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)
{وَأَشْرِكْهُ} يَا رب {فِي أَمْرِي} فِي تَبْلِيغ رسالتي إِلَى فِرْعَوْن(1/261)
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)
{كَيْ نُسَبِّحَكَ} نصلي لَك {كَثِيراً}(1/261)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)
{وَنَذْكُرَكَ} بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان {كَثِيراً}(1/261)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
{إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} عَالما(1/261)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
{قَالَ} الله مَا {قد أُوتيت} أَعْطَيْت {سؤلك} مَا سَأَلت {يَا مُوسَى} فشرح الله لَهُ صَدره وَيسر أمره وَبسط لِسَانه وَجعل هَارُون لَهُ معينا(1/261)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} غير هَذَا(1/261)
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)
{إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ} ألهمنا أمك {مَا يُوحى} الَّذِي يلهم(1/261)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
{أَنِ اقذفيه فِي التابوت} أَن اطرحي الصَّبِي فِي التابوت البردي {فاقذفيه فِي اليم} فاطرحي التابوت فِي الْبَحْر {فَلْيُلْقِهِ اليم} الْبَحْر {بالسَّاحل} على الشط {يَأْخُذْهُ} يرفعهُ {عَدُوٌّ لِّي} بِالدينِ يَعْنِي فِرْعَوْن {وَعَدُوٌّ لَّهُ} بِالْقَتْلِ {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} يَا مُوسَى كل من رآك أحبك {وَلِتُصْنَعَ على عَيْني} وَمَا صنع بك كَانَ فِي منظري(1/261)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
{إِذْ تمشي أُخْتُكَ} فَدخلت قصر فِرْعَوْن {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} يرضعه {فَرَجَعْنَاكَ} فرددناك {إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} تطيب نَفسهَا {وَلاَ تَحْزَنَ} على ابْنهَا بِالْهَلَاكِ {وَقَتَلْتَ نَفْساً} قبطياً {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغم} من غم الْقود {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} ابتليناك ببلاء مرّة بعد مرّة {فَلَبِثْتَ} مكثت {سِنِينَ} عشر سِنِين(1/261)
{فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ} على مقدورى بالْكلَام والرسالة إِلَى فِرْعَوْن {يَا مُوسَى}(1/262)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
{واصطنعتك لِنَفْسِي} اصطفيتك لنَفْسي بالرسالة(1/262)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
{اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ} هَارُون {بِآيَاتِي} بِالْيَدِ والعصا {وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي} لَا تضعفا وَلَا تعجزا وَلَا تفترا فِي تَبْلِيغ رسالتي إِلَى فِرْعَوْن(1/262)
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)
{اذهبآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} علا وتكبر وَكفر(1/262)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
{فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} لطيفاً لَا إِلَه إِلَّا الله وَيُقَال كنياه {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} يتعظ {أَوْ يخْشَى} أَو يسلم(1/262)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
{قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ} أَن يعجل {عَلَيْنَآ} بِالضَّرْبِ {أَوْ أَن يطغى} بِالْقَتْلِ(1/262)
قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
{قَالَ} الله لَهما {لاَ تَخَافَآ} من الضَّرْب وَالْقَتْل {إِنَّنِي مَعَكُمَآ} معينكما {أَسْمَعُ} مَا يرد عَلَيْكُمَا {وَأرى} صنعه بكما(1/262)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
{فَأْتِيَاهُ} يَعْنِي فِرْعَوْن {فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} إِلَيْك {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} نَذْهَب بهم إِلَى أَرضهم {وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} لَا تتبعهم بِالْعَمَلِ وَذبح الْأَبْنَاء واستخدام النِّسَاء لأَنهم أَحْرَار {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ} بعلامة {مِّن رَّبِّكَ} يَعْنِي بِالْيَدِ وَهُوَ أول آيَة أَرَاهَا الله فِرْعَوْن {وَالسَّلَام على مَنِ اتبع الْهدى} التَّوْحِيد(1/262)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
{إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَاب} الدَّائِم {على مَن كَذَّبَ} بِالتَّوْحِيدِ {وَتَوَلَّى} عَن الْإِيمَان(1/262)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
{قَالَ} فِرْعَوْن {فَمن رَبكُمَا يَا مُوسَى}(1/262)
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أعْطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} شكله للْإنْسَان إنْسَانا وللبعير نَاقَة وَالْحمار أَتَانَا وللشاة النعجة {ثُمَّ هدى} ثمَّ ألهم الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع(1/262)
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
{قَالَ} فِرْعَوْن لمُوسَى {فَمَا بَالُ الْقُرُون الأولى} فَمَا خبر الْقُرُون الْمَاضِيَة عنْدك كَيفَ هَلَكُوا(1/262)
قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
{قَالَ} مُوسَى {عِلْمُهَا} علم هلاكها {عِندَ رَبِّي} مَكْتُوب {فِي كِتَابٍ} يَعْنِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ {لاَّ يضل رَبِّي} لَا يخطىء وَلَا يذهب عَلَيْهِ أَمرهم {وَلاَ يَنسَى} أَمرهم وَلَا يتْرك عقوبتهم(1/262)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْض مَهْداً} فرشاً {وَسَلَكَ} جعل {لَكُمْ فِيهَا} فِي الأَرْض {سُبُلاً} طرقاً تذهبون وتجيئون فِيهَا {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} مَطَرا {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} فَأَنْبَتْنَا بالمطر {أَزْوَاجاً} أصنافاً {مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى} مُخْتَلفا ألوانه(1/262)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
{كُلُواْ} يَعْنِي مَا تَأْكُلُونَ {وارعوا} مَا ترعون {أَنْعَامَكُمْ} من عشبها {إِنَّ فِي ذَلِك} فِي اختلافها وألوانها {لآيَاتٍ} لعلامات {لأُوْلِي النهى} لِذَوي الْعُقُول من النَّاس(1/262)
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
{مِنْهَا} من الأَرْض {خَلَقْنَاكُمْ} يَقُول خَلَقْنَاكُمْ من آدم وآدَم من تُرَاب وَالتُّرَاب من الأَرْض {وَفِيهَا} وَفِي الأَرْض {نُعِيدُكُمْ} يَقُول نقبركم {وَمِنْهَا} من الأَرْض {نُخْرِجُكُمْ} يَقُول من الْقُبُور نخرجكم {تَارَةً أُخْرَى} مرّة أُخْرَى بعد الْمَوْت للبعث(1/262)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} يَعْنِي فِرْعَوْن {آيَاتِنَا كُلَّهَا} الْيَد والعصا والطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم والسنين وَنقص من الثمرات {فَكَذَّبَ} بِالْآيَاتِ وَقَالَ لَيْسَ هَذَا من الله {وأبى} أَن يسلم وَلم يقبل الْآيَات(1/262)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
{قَالَ} لمُوسَى {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} مصر {بسحرك يَا مُوسَى}(1/262)
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)
{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ}(1/262)
مثل مَا جئتنا بِهِ {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ} يَا مُوسَى {مَوْعِداً} أَََجَلًا {لاَّ نُخْلِفُهُ} لَا نجاوزه {نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوىً} غير هَذِه وَيُقَال سوى أَي عدلا وَنصفا بَيْننَا وَبَيْنك إِن قُرِئت بِضَم السِّين(1/263)
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
{قَالَ} مُوسَى {مَوْعِدُكُمْ} أجلكم {يَوْمُ الزِّينَة} وَهُوَ يَوْم السُّوق وَيُقَال يَوْم الْعِيد وَيُقَال يَوْم النيروز {وَأَن يُحْشَرَ} يجمع {النَّاس} من الْمَدَائِن {ضحى} ضحوة(1/263)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
{فَتَوَلّى فِرْعَوْنُ} فَرجع فِرْعَوْن إِلَى أَهله {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} حيلته وسحرته اثْنَيْنِ وَسبعين ساحراً {ثُمَّ أَتَى} الموعدة(1/263)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
{قَالَ لَهُمْ مُوسَى} للسحرة {وَيْلَكُمْ} ضيق الله عَلَيْكُم الدُّنْيَا {لاَ تَفْتَرُواْ} لَا تختلقوا {عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم} فيهلككم {بِعَذَابٍ} من عِنْده {وَقَدْ خَابَ} خسر {مَنِ افترى} اختلق على الله الْكَذِب(1/263)
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
{فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} فتشاوروا فِيمَا بَينهم إِن غلب علينا مُوسَى آمنا بِهِ {وَأَسَرُّواْ} هَذَا {النَّجْوَى} من فِرْعَوْن(1/263)
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
ثمَّ {قَالُوا} بالعلانية {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} بلغَة بنى الْحَارِث بن كَعْب وَإِنَّمَا قَالَ إِن هَذَانِ على اللُّغَة لَا على الْإِعْرَاب وَيُقَال قَالَ لَهُم فِرْعَوْن إِن هَذَانِ مُوسَى وَهَارُون لساحران {يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ} يَعْنِي مُوسَى وَهَارُون {مِّنْ أَرْضِكُمْ} مصر {بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ} بدينكم ورجالكم {المثلى} الأمثل فالأمثل أهل الرأى والشرف(1/263)
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
{فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} مكركم وسحرتكم وعلمكم {ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً} جَمِيعًا {وَقَدْ أَفْلَحَ} فَازَ {الْيَوْم مَنِ استعلى}(1/263)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)
{قَالُوا} يعْنى السَّحَرَة لمُوسَى {يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} عصاك إِلَى الأَرْض أَولا {وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألْقى}(1/263)
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
{قَالَ} لَهُم مُوسَى {بَلْ أَلْقُواْ} أَنْتُم أَولا فَألْقوا اثْنَيْنِ وَسبعين عَصا واثنين وَسبعين حبلاً {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} أرى مُوسَى {مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسْعَى} تمْضِي(1/263)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} يَقُول أضمر مُوسَى فِي قلبه الْخَوْف خَافَ أَن لَا يظفر بهم فيقتلون من آمن بِهِ(1/263)
قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)
{قُلْنَا} لمُوسَى {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى} الْغَالِب عَلَيْهِم(1/263)
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
{وَأَلْقِ} على الأَرْض {مَا فِي يَمِينِكَ} يَا مُوسَى {تَلْقَفْ} تلقم {مَا صَنَعُوا} مَا طرحوا من العصي والحبال {إِنَّمَا صَنَعُواْ} طرحوا {كَيْدُ سَاحِرٍ} عمل سحر {وَلاَ يُفْلِحُ} لَا يَأْمَن وَلَا ينجو من عَذَاب الله وَلَا يفوز {السَّاحر حَيْثُ أَتَى} أَيْنَمَا كَانَ(1/263)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَة سُجَّداً} فسجدوا من سرعَة سجودهم كَأَنَّهُمْ ألقوا {قَالُوا} يَعْنِي السَّحَرَة {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُون ومُوسَى}(1/263)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
{قَالَ} لَهُم فِرْعَوْن {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذن لَكُمْ} قبل أَن آمركُم بِهِ {إِنَّهُ} يَعْنِي مُوسَى {لَكَبِيرُكُمُ} عالمكم {الَّذِي عَلَّمَكُمُ السحر فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} الْيَد الْيُمْنَى وَالرجل الْيُسْرَى {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخل} على جُذُوع النّخل {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأبقى} أدوم أَنا أَو رب مُوسَى وَهَارُون(1/263)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
{قَالُواْ} يَعْنِي السَّحَرَة لفرعون {لَن نُّؤْثِرَكَ} لن نَخْتَار عبادتك وطاعتك {على مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَينَات}(1/263)
من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْكتاب وَالرَّسُول والعلامات {وَالَّذِي فَطَرَنَا} وعَلى عبَادَة الَّذِي خلقنَا {فَاقْض مَآ أَنتَ قَاضٍ} فَاصْنَعْ مَا أَنْت صانع واحكم علينا مَا أَنْت حَاكم {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِه الْحَيَاة الدنيآ} تحكم علينا فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَك علينا سُلْطَان فِي الْآخِرَة(1/264)
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
{إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} شركنا {وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ} مَا أجبرتنا عَلَيْهِ {مِنَ السحر} من تعلم السحر {وَالله خَيْرٌ وَأبقى} مَا عِنْد الله من الثَّوَاب والكرامة أفضل وأدوم مِمَّا تُعْطِينَا من المَال(1/264)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
{إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ} يَوْم الْقِيَامَة {مُجْرِماً} مُشْركًا {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح {وَلاَ يحيى} حَيَاة تَنْفَعهُ(1/264)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)
{وَمَن يَأْتِهِ} يَوْم الْقِيَامَة {مُؤْمِناً} مُصدقا فِي إيمَانه {قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَات} فِيمَا بَينه وَبَين ربه {فَأُولَئِك لَهُمُ الدَّرَجَات العلى} الرفيعة فِي الْجنان(1/264)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
ثمَّ بَين أَن الْجنان لَهُم فَقَالَ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} وَهِي دَار الرَّحْمَن الَّتِي خلقهَا بِيَدِهِ وبقوته فِي وسط الْجنان والجنان حولهَا {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {خَالِدين فِيهَا} مقيمين فِي الْجنَّة لَا يموتون وَلَا يخرجُون {وَذَلِكَ} الْجنان والخلد {جَزَآءُ مَن تزكّى} ثَوَاب من وحد وَأصْلح(1/264)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ} أَي سر {بِعِبَادِي} أول اللَّيْل {فَاضْرب لَهُمْ} بَين لَهُم {طَرِيقاً فِي الْبَحْر يَبَساً} طَرِيقا يَابسا جدا {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً} إِدْرَاك فِرْعَوْن {وَلاَ تخشى} من الْغَرق(1/264)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)
{فأتبعهم فِرْعَوْن} فلحقهم فِرْعَوْن {بجُنُوده} بجموعه {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم} فَغشيَ عَلَيْهِم الْبَحْر {مَا غشيهم}(1/264)
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ} أهلك فِرْعَوْن {قَوْمَهُ} فِي الْبَحْر {وَمَا هدى} مَا نجاهم من الْغَرق وَيُقَال أضلهم عَن دين الله وَمَا دلهم إِلَى الصَّوَاب(1/264)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
{يَا بني إِسْرَائِيلَ} يَا أَوْلَاد يَعْقُوب {قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ} من فِرْعَوْن {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطّور} الْجَبَل {الْأَيْمن} يَمِين مُوسَى بِإِعْطَاء الْكتاب {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ والسلوى} فِي التيه(1/264)
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
{كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ} من حلالات {مَا رَزَقْنَاكُمْ} من الْمَنّ والسلوى {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} لَا تكفرُوا بِهِ وَيُقَال لَا تَرفعُوا للغد {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ} فَيجب عَلَيْكُم {غَضَبِي} سخطي وعذابي وَيُقَال ينزل إِن قَرَأت بِضَم الْحَاء {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي} يجب عَلَيْهِ غَضَبي سخطي وعذابي {فَقَدْ هوى} فقد هلك(1/264)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ} من الشّرك {وَآمَنَ} بِاللَّه {وَعَمِلَ صَالِحَاً} خَالِصا {ثُمَّ اهْتَدَى} ثمَّ رأى ثَوَاب عمله حَقًا وَيُقَال ثمَّ اهْتَدَى إِلَى السّنة وَالْجَمَاعَة وَمَات على ذَلِك(1/264)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)
فَلَمَّا ذهب مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ السّبْعين إِلَى الْمِيقَات تعجل فِي الميعاد قبل السّبْعين قَالَ الله لَهُ {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يَا مُوسَى}(1/264)
قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
{قَالَ هُمْ أولاء} يجيئون {على أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} لِيَزْدَادَ رضاك عني(1/264)
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
{قَالَ} يَا مُوسَى {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا} ابتلينا {قَوْمَكَ} بِعبَادة الْعجل {مِن بَعْدِكَ} من بعد انطلاقك إِلَى الْجَبَل {وَأَضَلَّهُمُ السامري} وَأمرهمْ بذلك السامرى(1/264)
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
{فَرَجَعَ} فَلَمَّا رَجَعَ {مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ} مَعَ السّبْعين سمع صَوت الْفِتْنَة فَصَارَ {غَضْبَانَ أَسِفاً} حَزينًا {قَالَ يَا قوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} صدقا {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْد} أفتجاوزت عَنْكُم الْمدَّة {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ} يجب عَلَيْكُم {غَضَبٌ} سخط وَعَذَاب {مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي} فخالفتم(1/265)
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
{قَالُواْ} يَا مُوسَى {مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ} مَا خَالَفنَا وَعدك {بِمَلْكِنَا} بعلمنا متعمدين {وَلَكنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً} إجراماً {مِّن زِينَةِ الْقَوْم} من حلي آل فِرْعَوْن فشؤم ذَلِك حملنَا على عبَادَة الْعجل {فَقَذَفْنَاهَا} فطرحنا الْحلِيّ فِي النَّار {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري} كَمَا ألقينا(1/265)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
{فَأَخْرَجَ لَهُمْ} فصاغ لَهُم السامري من الذَّهَب الَّذِي ألقوا فِي النَّار {عِجْلاً جَسَداً} مجسداً صَغِيرا بِلَا روح {لَّهُ خُوَارٌ} صَوت {فَقَالُواْ} أى شىء هَذَا قَالَ لَهُم االسامرى {هَذَا إِلَهكُم وإله مُوسَى فَنَسِيَ} فَترك السامري طَاعَة الله وَأمره وَيُقَال قَالَ السامري ترك مُوسَى الطَّرِيق وَأَخْطَأ فَقَالَ الله(1/265)
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
{أَفَلاَ يَرَوْنَ} يَعْنِي السامري وَأَصْحَابه {أَلاَّ يَرْجِعُ} أَن لَا يرد {إِلَيْهِمْ قَوْلاً} جَوَابا يَعْنِي الْعجل {وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ} لَا يقدر لَهُم {ضَرّاً} دفع الضَّرَر {وَلاَ نَفْعاً} وَلَا جر النَّفْع(1/265)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ} من قبل مجىء مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام {يَا قوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} ابتليتم بالخوار وَعبادَة الْعجل وَيُقَال أضللتم أَنفسكُم بِعبَادة الْعجل {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَن فَاتبعُوني} فِي دينه {وَأَطيعُوا أَمْرِي} قولي ووصيتى(1/265)
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
{قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ} لن نزال على عبَادَة الْعجل {عَاكِفِينَ} مقيمين {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى(1/265)
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)
{قَالَ} لهارون {يَا هَارُون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا} الطَّرِيق(1/265)
أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
{أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} لم لَا تتبع وصيتي وَلم تناجزهم الْقِتَال {أَفَعَصَيْتَ} أفتركت {أَمْرِي} وصيتي(1/265)
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
{قَالَ} هَارُون لمُوسَى {يَا ابْن أم} ذكر أمه لكَي يرفق بِهِ ويترحم عَلَيْهِ {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} وَلَا بِشعر رَأْسِي {إِنِّي خَشِيتُ} خفت {أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ} بِالْقَتْلِ {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} لم تنْتَظر قدومي فَمن ذَلِك تركت الْقِتَال مَعَهم ثمَّ رَجَعَ مُوسَى إِلَى السامري(1/265)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)
{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ} فَمَا الَّذِي حملك على عبَادَة الْعجل {يَا سامري}(1/265)
قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
{قَالَ} السامري {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} أى رَأَيْت مالم ير بَنو إِسْرَائِيل قَالَ لَهُ مُوسَى وَمَا رَأَيْت دونهم قَالَ رَأَيْت جِبْرِيل على فرس بلقاء أُنْثَى وَهِي دَابَّة الْحَيَاة {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُول} من تُرَاب حافر فرس جِبْرِيل {فَنَبَذْتُهَا} فطرحتها فِي فَم الْعجل وَدبره فخار {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ} زينت {لِي نَفْسِي}(1/265)
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
{قَالَ} لَهُ مُوسَى {فَاذْهَبْ} يَا سامري {فَإِنَّ لَك فِي الْحَيَاة} مَا حيييت {أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} لَا تخالط أحدا وَلَا يخالطك {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً} أَََجَلًا يَوْم الْقِيَامَة {لَّن تُخْلَفَهُ} لن تجاوزه {وَانْظُر إِلَى إلهك الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً}(1/265)
أَقمت عَلَيْهِ عابداً {لَّنُحَرِّقَنَّهُ} بالنَّار وَيُقَال لنبردنه بالمبرد {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً} لنذرينه فِي الْبَحْر ذَروا(1/266)
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
{إِنَّمَآ إِلَهكُم الله الَّذِي لَا إِلَه إِلاَّ هُوَ} بِلَا ولد وَلَا شريك {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} علم رَبنَا بِكُل شَيْء(1/266)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)
{كَذَلِك} هَكَذَا {نَقُصُّ عَلَيْكَ} يَا مُحَمَّد ننزل عَلَيْك جِبْرِيل {مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ} بأخبار الْأُمَم الْمَاضِيَة {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً} قد أكرمناك بِالْقُرْآنِ فِيهِ خبر الْأَوَّلين والآخرين(1/266)
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)
{مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} من كفر بِهِ {فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَة وِزْراً} شركا(1/266)
خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
{خَالِدِينَ فِيهِ} مقيمين فِي عُقُوبَة الْوزر {وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة حِمْلاً} من الذُّنُوب(1/266)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّور} النفخة الْأُخْرَى {وَنَحْشُرُ الْمُجْرمين} الْمُشْركين {يَوْمِئِذٍ زُرْقاً} عميا(1/266)
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
{يتخافتون بَينهم} يتسارون فِيمَا بَينهم فِي هَذَا القَوْل وَيَقُول بَعضهم لبَعض {إِن لَّبِثْتُمْ} مَا مكثتم فِي الْقُبُور {إِلاَّ عَشْراً} عشرَة أَيَّام(1/266)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} فِي الْبَعْث {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أفضلهم عقلا وأصوبهم رَأيا وأصدقهم قولا {إِن لَّبِثْتُمْ} مَا مكثتم فِي الْقُبُور {إِلَّا يَوْمًا}(1/266)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
{ويسألونك} يَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلته بَنو ثَقِيف {عَن الْجبَال} عَن حَال الْجبَال يَوْم الْقِيَامَة {فَقُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} يقلعها رَبِّي قلعاً(1/266)
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)
{فَيَذَرُهَا} فَيتْرك الأَرْض {قَاعاً} مستوية {صَفْصَفاً} أملس لَا نَبَات فِيهَا(1/266)
لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
{لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً} وَاديا وَلَا شقوقاً {وَلَا أَمْتاً} وَلَا شَيْئا شاخصاً من الأَرْض وَلَا نباتا(1/266)
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
{يَوْمَئِذٍ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي} يسرعون ويقصدون إِلَى الدَّاعِي {لاَ عِوَجَ لَهُ} لَا يميلون يَمِينا وَلَا شمالا (وخشعت الْأَصْوَات) ذللت الْأَصْوَات {للرحمن} لهيبة الرَّحْمَن {فَلاَ تَسْمَعُ} يَا مُحَمَّد {إِلاَّ هَمْساً} إِلَّا وطأ خفِيا كَوَطْء الْإِبِل(1/266)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
{يَوْمَئِذٍ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَة} لَا تشفع الْمَلَائِكَة لأحد {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن} فِي الشَّفَاعَة {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} قبل مِنْهُ لَا إِلَه إِلَّا الله(1/266)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
{يَعْلَمُ} الله {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} بَين أَيدي الْمَلَائِكَة من أَمر الْآخِرَة {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أَمر الدُّنْيَا {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} لَا يعلمُونَ مَا بَين أَيْديهم وَمَا خَلفهم شَيْئا إِلَّا مَا علمهمْ الله يَعْنِي الْمَلَائِكَة(1/266)
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
{وَعَنَتِ الْوُجُوه} نصبت الْوُجُوه فِي الدُّنْيَا بِالسُّجُود وَيُقَال خضعت الْوُجُوه وذلت الْوُجُوه يَوْم الْقِيَامَة {لِلْحَيِّ} الَّذِي لَا يَمُوت {القيوم} الْقَائِم الَّذِي لَا بَدْء لَهُ {وَقَدْ خَابَ} خسر {مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} شركا(1/266)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَات} من الْخيرَات فِيمَا بَينه وَبَين ربه {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} مُصدق فِي إيمَانه {فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً} ذهَاب عمله كُله {وَلاَ هَضْماً} وَلَا نُقْصَان عمله(1/266)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
{وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} أنزلنَا جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مجْرى لُغَة الْعَرَبيَّة {وَصَرَّفْنَا فِيهِ} بيّنا فِي الْقُرْآن {مِنَ الْوَعيد} أَي من الْوَعْد والوعيد {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} لكَي يتقوا الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} ثَوابًا إِن آمنُوا وَيُقَال شرفاً إِن وحدوا وَيُقَال عذَابا إِن لم يُؤمنُوا(1/266)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
{فتعالى الله الْملك الْحق}(1/266)
تَبرأ عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} وَلَا تستعجل يَا مُحَمَّد بِقِرَاءَة الْقُرْآن {مِن قَبْلِ إَن يقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} من قبل أَن يفرغ جِبْرِيل من قِرَاءَة الْقُرْآن عَلَيْك وَكَانَ إِذا نزل عَلَيْهِ جِبْرِيل بِآيَة لم يفرغ جِبْرِيل من آخرهَا حَتَّى يتَكَلَّم رَسُول الله بأولها مَخَافَة أَن ينساها فَنَهَاهُ الله عَن ذَلِك وَقَالَ لَهُ {وَقُل} يَا مُحَمَّد {رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} وحفظاً وفهماً وَحكما بِالْقُرْآنِ(1/267)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
{وَلَقَد عهدنا إِلَى آدم} أمرنَا آدم أَن لَا يَأْكُل من هَذِه الشَّجَرَة {مِن قَبْلُ} من قبل أكله من الشَّجَرَة وَيُقَال من قبل مجىء مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فَنَسِيَ} فَترك مَا أَمر بِهِ {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عزما} جزما وعزيمة الرِّجَال(1/267)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)
{وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة} الَّذين كَانُوا فِي الأَرْض {اسجدوا لآدَم} سَجْدَة التَّحِيَّة {فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس} رئيسهم {أَبى} تعظم عَن السُّجُود لآدَم(1/267)
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
{فَقُلْنَا يَا آدم إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} حَوَّاء {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجنَّة} بطاعتكما لَهُ {فتشقى} فتتعب(1/267)
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)
{إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا} فِي الْجنَّة من الطَّعَام {وَلاَ تعرى} من الثِّيَاب(1/267)
وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
{وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا} لَا تعطش فِيهَا {وَلاَ تضحى} وَلَا يصيبك حر الشَّمْس وَيُقَال لَا نعرق(1/267)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
{فوسوس إِلَيْهِ الشَّيْطَان} بِأَكْل الشَّجَرَة {قَالَ يَا آدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الْخلد} من أكل مِنْهَا خلد وَلَا يَمُوت {وَمُلْكٍ لاَّ يبْلى} يبْقى فِي ملك لَا يفنى(1/267)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
{فأكلا مِنْهَا} من الشَّجَرَة {فبدت لَهما سوآتهما} فظهرت لَهما عوراتهما {وَطَفِقَا} عمدا {يَخْصِفَانِ} يلزقان {عَلَيْهِمَا} على عوراتهما {مِن وَرَقِ الْجنَّة} من ورق التِّين كلما ألزقا بَعْضهَا إِلَى بعض تساقطت {وَعصى آدم رَبَّهُ} بِأَكْلِهِ من الشَّجَرَة {فغوى} ترك طَرِيق الْهدى فَلم يصب بِأَكْلِهِ من الشَّجَرَة مَا أَرَادَهُ(1/267)
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
{ثُمَّ اجتباه} ثمَّ اصطفاه {رَبُّهُ} بِالتَّوْبَةِ {فَتَابَ عَلَيْهِ} فَتَجَاوز عَنهُ {وَهدى} هداه إِلَى التَّوْبَة(1/267)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
{قَالَ اهبطا مِنْهَا} من الْجنَّة {جَمِيعاً} لآدَم وحواء والحية والطاوس {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الْحَيَّة لبني آدم وَبَنُو آدم للحية {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً} فحين يَأْتينكُمْ يَا ذُرِّيَّة آدم مني هدى كتاب وَرَسُول {فَمَنِ اتبع هُدَايَ} كتابي ورسولي {فَلاَ يَضِلُّ} باتباعه إيَّاهُمَا فِي الدُّنْيَا {وَلاَ يشقى} فى الْآخِرَة(1/267)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} عَن توحيدي وَيُقَال كفر بكتابي ورسولي {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} عذَابا شَدِيدا فِي الْقَبْر وَيُقَال فِي النَّار {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة أعمى}(1/267)
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
{قَالَ} يَقُول {رَبِّ} يَا رَبِّي {لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} فِي الدُّنْيَا(1/267)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
{قَالَ كَذَلِك} هَكَذَا لِأَنَّك {أَتَتْكَ آيَاتُنَا} كتَابنَا ورسولنا {فَنَسِيتَهَا} فَتركت الْعَمَل وَالْإِقْرَار بهَا {وَكَذَلِكَ الْيَوْم تنسى} تتْرك فِي النَّار(1/267)
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
{وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} من أشرك {وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ} يَعْنِي الْكتاب وَالرَّسُول {وَلَعَذَابُ الْآخِرَة أَشَدُّ وَأبقى} أدوم من عَذَاب الدُّنْيَا(1/267)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} يبين لأهل مَكَّة {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُون} الْمَاضِيَة {يَمْشُونَ فِي مساكنهم} مَنَازِلهمْ(1/267)
{إِن فِي ذَلِك} فِيمَا فعلنَا بهم {لآيَات} لعلامات {لأُوْلِي النهى} لِذَوي الْعُقُول من النَّاس(1/268)
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ} وَجَبت {مِن رَّبِّكَ} بِتَأْخِير الْعَذَاب عَنْهُم {لَكَانَ لِزَاماً} عذَابا لهلاكهم {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} وَقت مَعْلُوم لهَذِهِ الْأمة(1/268)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
{فاصبر على مَا يَقُولُونَ} يَا مُحَمَّد عَمَّا يَقُولُونَ من الشتم والتكذيب نسخهَا آيَة الْقِتَال {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} صل بِأَمْر رَبك يَا مُحَمَّد {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْس} صَلَاة الْغَدَاة {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} صَلَاة الظّهْر وَالْعصر {وَمِنْ آنَآءِ اللَّيْل} بعد دُخُول اللَّيْل {فَسَبِّحْ} فصل صَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء {وَأَطْرَافَ النَّهَار} صَلَاة الظّهْر وَالْعصر {لَعَلَّكَ ترْضى} لكَي تُعْطى الشَّفَاعَة حَتَّى ترْضى(1/268)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} وَلَا تنظرن رَغْبَة {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} إِلَى مَا أعطينا من المَال {أَزْوَاجاً} رجَالًا {مِّنْهُمْ} من بني قُرَيْظَة وَالنضير {زَهْرَةَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} زِينَة الدُّنْيَا {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنختبرهم فِيمَا أعطيناهم من الزِّينَة {وَرِزْقُ رَبِّكَ} الْجنَّة {خَيْرٌ} أفضل {وَأبقى} أدوم مِمَّا لَهُم فِي الدُّنْيَا(1/268)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} عِنْد الشدَّة {واصطبر عَلَيْهَا} اصبر عَلَيْهَا {لَا نَسْأَلك رزقا} أَن ترزق نَفسك وَأهْلك {نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقبَة للتقوى} الْجنَّة لمتّقي الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش(1/268)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
{وَقَالُواْ} يَعْنِي أهل مَكَّة {لَوْلاَ يَأْتِينَا} هلا يأتينا مُحَمَّد {بِآيَة} بعلامة {من ربه أَو لم تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ} بَيَان {مَا فِي الصُّحُف الأولى} فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل أَن فيهمَا صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته(1/268)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
{وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ} يَعْنِي أهل مَكَّة {بِعَذَابٍ من قبله} من قبل مجىء مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَيْهِم بِالْقُرْآنِ {لَقَالُواْ} يَوْم الْقِيَامَة {رَبَّنَا} يَا رَبنَا {لَوْلَا} هلا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} فنطيع رَسُولك ونؤمن بِكِتَاب {مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ} نقْتل يَوْم بدر {ونخزى} نعذب بِعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة(1/268)
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {كُلٌّ} كل وَاحِد منا أَو مِنْكُم {مُّتَرَبِّصٌ} منتظر لهلاك صَاحبه {فَتَرَبَّصُواْ} فانتظروا {فَسَتَعْلَمُونَ} عِنْد نزُول الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة {مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاط السوي} الْعدْل {وَمَنِ اهْتَدَى} إِلَى الْإِيمَان منا أَو مِنْكُم
وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا الْأَنْبِيَاء وهى كلهَا مَكِّيَّة آياتها مائَة وَإِحْدَى عشرَة وكلماتها ألف وَمِائَة وثمان وَثَلَاثُونَ وحروفها اربعة آلَاف وثمان وَمِائَة وَسِتُّونَ حرفا
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(1/268)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
وبإسناد عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {اقْترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} يَقُول دنا لأهل مَكَّة مَا وعد لَهُم فِي الْكتاب من الْعَذَاب {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} عَن ذَلِك {مُّعْرِضُونَ} مكذبون بِهِ تاركون لَهُ(1/268)
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
{مَا يَأْتِيهِمْ} مَا يَأْتِي إِلَى نَبِيّهم جِبْرِيل(1/268)
{مِّن ذِكْرٍ} بِذكر يَعْنِي الْقُرْآن {مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} بِآيَة بعد آيَة وَسورَة بعد سُورَة لَكَانَ إتْيَان جِبْرِيل وَقِرَاءَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واستماعهم مُحدثا لَا الْقُرْآن {إِلاَّ استمعوه} إِلَّا اسْتمع أهل مَكَّة إِلَى قِرَاءَة مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {وهم يَلْعَبُونَ} يهزءون بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن(1/269)
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
{لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} غافلة قُلُوبهم من أَمر الْآخِرَة {وأسروا النَّجْوَى} أخفوا التَّكْذِيب بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن فِيمَا بَينهم {الَّذين ظَلَمُواْ} هم الَّذين ظلمُوا أشركوا أَبُو جهل وَأَصْحَابه يَقُول بَعضهم لبَعض {هَل هَذَا} مَا هَذَا يعنون مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {إِلاَّ بَشَرٌ} آدَمِيّ {مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السحر} أفتصدقون بِالسحرِ وَالْكذب {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} وَأَنْتُم تعلمُونَ بِأَنَّهُ سحر وَكذب(1/269)
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
{قَالَ} لَهُم يَا مُحَمَّد {رَبِّي يَعْلَمُ القَوْل فِي السمآء وَالْأَرْض} أَي يعلم السِّرّ من القَوْل وَالْفِعْل من أهل السَّمَاء وَالْأَرْض {وَهُوَ السَّمِيع} لمقالة أبي جهل وَأَصْحَابه {الْعَلِيم} بهم وبعقوبتهم(1/269)
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
{بَلْ قَالُوا} قَالَ بَعضهم {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} أباطيل أَحْلَام كَاذِبَة مَا أَتَانَا بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {بَلِ افتراه} وَقَالَ بَعضهم بل اختلق مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْقُرْآن من تِلْقَاء نَفسه {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} وَقَالَ بَعضهم بل هُوَ شَاعِر بروايته {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ} بعلامة {كَمَآ أُرْسِلَ الْأَولونَ} من الرُّسُل بِالْآيَاتِ إِلَى قَومهمْ بِزَعْمِهِ(1/269)
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
فَيَقُول الله {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ} قبل قَوْمك يَا مُحَمَّد بِالْآيَاتِ {مِّن قَرْيَةٍ} من أهل قَرْيَة {أَهْلَكْنَاهَآ} عِنْد التَّكْذِيب بِالْآيَاتِ {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} أفقومك يُؤمنُونَ بِالْآيَاتِ بل لَا يُؤمنُونَ(1/269)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} من الرُّسُل {إِلاَّ رِجَالاً} من الْبشر مثلك {نوحي إِلَيْهِمْ} نرسل إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة كَمَا أرسلنَا إِلَيْك {فاسألوا أَهْلَ الذّكر} أهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل {إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} أَن الله لم يُرْسل الرَّسُول إِلَّا من الْبشر(1/269)
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً} الْأَنْبِيَاء {لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَام} وَلَا يشربون الشَّرَاب {وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} فِي الدُّنْيَا وَلَكِن كَانُوا يَأْكُلُون الطَّعَام وَيَشْرَبُونَ الشَّرَاب ويموتون نزلت فيهم حِين قَالُوا مَا لهَذَا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام وَيَمْشي فِي الْأَسْوَاق(1/269)
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْد} أنجزنا وعد الْأَنْبِيَاء بالنجاة {فَأَنجَيْنَاهُمْ} يَعْنِي الْأَنْبِيَاء {وَمَن نَّشَآءُ} من آمن بالرسل {وَأَهْلَكْنَا المسرفين} الْمُشْركين(1/269)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
{لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ} إِلَى نَبِيكُم {كِتَاباً} جِبْرِيل بِكِتَاب {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} شرفكم وعزكم إِن آمنتم بِهِ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أَفلا تصدقُونَ بشرفكم وعزكم(1/269)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)
{وَكَمْ قَصَمْنَا} أهلكنا {مِن قَرْيَةٍ} أهل قَرْيَة {كَانَتْ ظَالِمَةً} كَافِرَة مُشركَة أَهلهَا {وَأَنشَأْنَا} خلقنَا {بَعْدَهَا} بعد هلاكها {قَوْماً آخَرِينَ} فسكنوا دِيَارهمْ(1/269)
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
{فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} رَأَوْا عذابنا لهلاكهم {إِذَا هُمْ مِّنْهَا} من بأسنا {يَرْكُضُونَ} يهزون وَيُقَال يهربون أَيْضا(1/269)
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
قَالَت لَهُم الْمَلَائِكَة {لاَ تَرْكُضُواْ} لَا تهزوا وَلَا تهربوا {وَارْجِعُوا إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ} أنعمتم {فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} مَنَازِلكُمْ {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} لكَي تسألوا عَن الْإِيمَان وَيُقَال عَن قتل النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام(1/269)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)
{قَالُوا} عِنْد الْقَتْل وَالْعَذَاب {يَا ويلنا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بقتل نَبينَا(1/269)
فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
{فَمَا زَالَت تِلْكَ} الويل {دَعْوَاهُمْ} قَوْلهم {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً} كحصيد السَّيْف {خَامِدِينَ} ميتين لَا يتحركون هَذِه قصَّة أهل قَرْيَة نَحْو الْيمن يُقَال لَهَا حُضُور بعث الله إِلَيْهِم نَبيا فَقتلُوا ذَلِك النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فَسلط الله عَلَيْهِم بخْتنصر فَقَتلهُمْ وَلم يتْرك فيهم عينا تطرف(1/269)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)
{وَمَا خَلَقْنَا السمآء وَالْأَرْض وَمَا بَيْنَهُمَا} من الْخلق {لاعبين} لَا هَين بِلَا أَمر وَلَا نهي ثمَّ نزل فِي قَوْلهم الْمَلَائِكَة بَنَات الله(1/269)
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
{لَو أردنَا أَن نتَّخذ لهوا} بَنَات وَيُقَال زَوْجَة وَيُقَال ولدا {لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ}(1/269)
من عندنَا من الْحور الْعين {إِن كُنَّا} سَاكِنا {فاعلين} ذَلِك(1/270)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ} نرمي الْحق {عَلَى الْبَاطِل} وَيُقَال نبين الْحق وَالْبَاطِل {فَيَدْمَغُهُ} فيهلكه {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} هَالك يَعْنِي الْبَاطِل {وَلَكُمُ} يَا معشر الْكفَّار {الويل} الشدَّة من الْعَذَاب {بِمَا تَصِفُونَ} مِمَّا تَقولُونَ الْمَلَائِكَة بَنَات الله(1/270)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
{وَلَهُ} عبيد {مَن فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} من الْخلق {وَمَنْ عِنْدَهُ} من الْمَلَائِكَة {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} لَا يتعاظمون {عَنْ عِبَادَتِهِ} عَن طَاعَته وَالْإِقْرَار بعبوديته {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} لَا يعيون من عبَادَة الله(1/270)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
{يُسَبِّحُونَ اللَّيْل وَالنَّهَار} يصلونَ لله بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار {لاَ يَفْتُرُونَ} لَا يملون من عبَادَة الله وَالْإِقْرَار بِاللَّه(1/270)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
{أَمِ اتَّخذُوا} أم عبدُوا يَعْنِي أهل مَكَّة (آلِهَةً مِّنَ الأَرْض) فِي الأَرْض {هُمْ يُنشِرُونَ} يحيون وَيُقَال يخلفون(1/270)
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ} يَعْنِي فِي السَّمَاء وَالْأَرْض إِلَه {إِلاَّ الله} غير الله {لَفَسَدَتَا} لفسد أهلوهما {فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْش} السرير {عَمَّا يَصِفُونَ} يَقُولُونَ على الله من الْوَلَد وَالشَّرِيك(1/270)
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
{لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} لَا يسْأَل الله عَمَّا يَقُول وَيَأْمُر وَيفْعل {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} والعباد يسْأَلُون عَمَّا يَقُولُونَ ويعملون(1/270)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
{أَمِ اتَّخذُوا} عبدُوا {مِن دُونِهِ} من دون الله {آلِهَةً} أصناماً {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} حجتكم بعبادتها {هَذَا} يَعْنِي الْقُرْآن {ذِكْرُ مَن مَّعِيَ} خبر من هُوَ معي {وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} خبر من كَانَ قبلي من الْمُؤمنِينَ والكافرين لَيْسَ فِيهِ أَن الله ولدا وشريكاً {بَلْ أَكْثَرُهُمْ} كلهم {لاَ يَعْلَمُونَ الْحق} وَلَا يصدقون بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {فهم معرضون} مكذبون بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن(1/270)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} يَا مُحَمَّد {مِن رَّسُولٍ} مُرْسل {إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ} أَي قل لقَوْمك حَتَّى يَقُولُوا {لَا إِلَه إِلاَّ أَنا فاعبدون} فوحدون(1/270)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)
{وَقَالُواْ} يَعْنِي أهل مَكَّة {اتخذ الرَّحْمَن وَلَداً} بَنَات من الْمَلَائِكَة {سُبْحَانَهُ} نزه نَفسه عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} بل هم عبيد أكْرمهم الله بِالطَّاعَةِ يَعْنِي الْمَلَائِكَة(1/270)
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)
{لاَ يَسْبِقُونَهُ} لَا يسْبق جِبْرِيل عَن مِيكَائِيل قبل أَن يَأْمُرهُ {بالْقَوْل} وَلَا بِالْفِعْلِ {وَهُمْ} يَعْنِي الْمَلَائِكَة {بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} وَيَقُولُونَ يَعْنِي الْمَلَائِكَة(1/270)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أَمر الْآخِرَة {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أَمر الدُّنْيَا {وَلاَ يَشْفَعُونَ} يَعْنِي الْمَلَائِكَة يَوْم الْقِيَامَة {إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} إِلَّا لمن رضى الله عَنهُ من أهل التَّوْحِيد بتوحيده {وَهُمْ} يَعْنِي الْمَلَائِكَة {مِّنْ خَشْيَتِهِ} من هيبته {مُشْفِقُونَ} خائفون(1/270)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
{وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ} يَعْنِي من الْمَلَائِكَة وَيُقَال من الْخلق {إِنِّي إِلَه مِّن دُونِهِ} من دون الله {فَذَلِك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} فبذلك نجزيه جَهَنَّم {كَذَلِكَ} هَكَذَا {نَجْزِي الظَّالِمين} الْكَافرين(1/270)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
{أَوَلَمْ يَرَ} يعلم {الَّذين كفرُوا} جَحَدُوا بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {أَنَّ السَّمَاوَات وَالْأَرْض كَانَتَا رَتْقاً} لم تنزل مِنْهَا قَطْرَة من مطر وَلم ينْبت على الأَرْض شَيْء من النَّبَات ملتزقاً بَعْضهَا على بعض {فَفَتَقْنَاهُمَا} ففرقناهما وأبنا بعضهما عَن بعض بالمطر والنبات {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} خلقنَا من مَاء الذّكر وَالْأُنْثَى كل شىء يحْتَاج إِلَى الماه {أَفلا يُؤمنُونَ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن يَعْنِي أهل مَكَّة(1/270)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
{وَجَعَلْنَا فِي الأَرْض رَوَاسِيَ} الْجبَال الثوابت أوتاداً لَهَا(1/270)
{أَن تَمِيدَ بِهِمْ} كي لَا تميد بهم الأَرْض(1/271)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
{وَجَعَلْنَا فِيهَا} فِي الأَرْض {فِجَاجاً} أَوديَة {سُبُلاً} طرقاً وَاسِعَة {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} لكَي يهتدوا إِلَى الطّرق فِي الذّهاب والمجيء {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً} على الأَرْض {مَّحْفُوظاً} من السُّقُوط وَيُقَال مَحْفُوظًا بالنجوم من الشَّيَاطِين {وَهُمْ} يَعْنِي أهل مَكَّة {عَنْ آيَاتِهَا} عَن شمسها وقمرها ونجومها {مُعْرِضُونَ} مكذبون لَا يتفكرون فِيهَا(1/271)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْل وَالنَّهَار وَالشَّمْس وَالْقَمَر} سخر الشَّمْس وَالْقَمَر {كُلٌّ} كل وَاحِد مِنْهُمَا {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فِي دوران يدوران فِي مجْرَاه يذهبون(1/271)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
{وَمَا جَعَلْنَا} مَا خلقنَا {لِبَشَرٍ} من الْأَنْبِيَاء {مِّن قَبْلِكَ الْخلد} فِي الدُّنْيَا {أَفَإِنْ مِّتَّ} يَا مُحَمَّد {فَهُمُ الخالدون} فِي الدُّنْيَا نزلت هَذِه الْآيَة فى قَوْلهم نَنْتَظِر مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حَتَّى يَمُوت فنستريح(1/271)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
{كُلُّ نَفْسٍ} منفوسة {ذَآئِقَةُ الْمَوْت} تذوق الْمَوْت {وَنَبْلُوكُم} نختبركم {بِالشَّرِّ وَالْخَيْر} بالشدة والرخاء {فِتْنَةً} كِلَاهُمَا ابتلاء من الله {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} بعد الْمَوْت فيجزيكم بأعمالكم(1/271)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
{وَإِذَا رَآكَ} يَا مُحَمَّد {الَّذين كفرُوا} أَبُو جهل وَأَصْحَابه {إِن يَتَّخِذُونَكَ} يَا مُحَمَّد مَا يَقُولُونَ لَك {إِلاَّ هُزُواً} سخرية يَقُول بَعضهم لبَعض {أَهَذا الَّذِي يَذْكُرُ} يعيب {آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَن هُمْ كَافِرُونَ} جاحدون يَقُولُونَ مَا نَعْرِف الرَّحْمَن إِلَّا مُسَيْلمَة الْكذَّاب(1/271)
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
{خُلِقَ الْإِنْسَان} يَعْنِي آدم {مِنْ عَجَلٍ} مستعجلاً وَيُقَال خلق الْإِنْسَان يَعْنِي النَّضر بن الْحَارِث من عجل مستعجلا بِالْعَذَابِ {سأريكم آيَاتِي} عَلَامَات وحدانيتي فِي الْآفَاق وَيُقَال سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي عَذَابي بِالسَّيْفِ يَوْم بدر {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} بِالْعَذَابِ قبل الْأَجَل(1/271)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
{وَيَقُولُونَ} يَعْنِي كفار مَكَّة {مَتى هَذَا الْوَعْد} الَّذِي تعدنا يَا مُحَمَّد {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(1/271)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
{لَو يعلم الَّذين كفرُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن مَالهم فِي الْعَذَاب لم يستعجلوا بِهِ {حِينَ لاَ يَكُفُّونَ} يَقُول حِين الْعَذَاب لَا يقدرُونَ أَن يمنعوا {عَن وُجُوهِهِمُ النَّار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ} الْعَذَاب {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} يمْنَعُونَ مِمَّا يُرَاد بهم من الْعَذَاب(1/271)
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
{بَلْ تَأْتِيهِم} السَّاعَة {بَغْتَةً} فَجْأَة {فَتَبْهَتُهُمْ} فتفجؤهم {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} دَفعهَا عَن أنفسهم {وَلاَ هم ينظرُونَ} يؤجلون من الْعَذَاب(1/271)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
{وَلَقَد استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} يَقُول اسْتَهْزَأَ بهم قَومهمْ كَمَا اسْتَهْزَأَ بك قَوْمك يَا مُحَمَّد {فَحَاقَ} فَوَجَبَ وَدَار وَنزل {بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ} على الْأَنْبِيَاء {مَا كَانُوا بِهِ يستهزؤون} من الْعَذَاب وَيُقَال نزل بهم الْعَذَاب باستهزائهم(1/271)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {مَن يَكْلَؤُكُم} من يحفظكم {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار مِنَ الرَّحْمَن} من عَذَاب الرَّحْمَن وَيُقَال غير الرَّحْمَن من عَذَابه {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ} عَن تَوْحِيد رَبهم وَكتاب رَبهم {معرضون} مكذبون بِهِ وتاركون لَهُ(1/271)
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ} ألهم آلِهَة {تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا} من عذابنا {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ} صرف الْعَذَاب عَن أنفسهم يَعْنِي الْآلهَة فَكيف عَن غَيرهم {وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ} من عذابنا يجارون فَكيف يجيرون غَيرهم(1/271)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
{بَلْ مَتَّعْنَا} أجلنا {هَؤُلَاءِ} يَعْنِي أهل مَكَّة(1/271)
{وَآبَآءَهُمْ} قبلهم {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمر} الْأَجَل {أَفَلاَ يَرَوْنَ} أهل مَكَّة {أَنَّا نَأْتِي الأَرْض} نَأْخُذ الأَرْض {ننقصها} نفتحها لمُحَمد {من أطرافها} من نَوَاحِيهَا {أَفَهُمُ الغالبون} أفهم الْآن غالبون على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/272)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْي} بِمَا نزل من الْقُرْآن {وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء} من يتصامم عَن الدُّعَاء إِلَى الله وَيُقَال لَا تقدر أَن تسمع الدُّعَاء من يتصامم إِن قَرَأت بِضَم التَّاء {إِذَا مَا ينذرون} يخوفون(1/272)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
{وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ} أَصَابَتْهُم {نَفْحَةٌ} طرف {مِّنْ عَذَابِ رَبك ليَقُولن يَا ويلنا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} على أَنْفُسنَا كَافِرين بِاللَّه(1/272)
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
{وَنَضَعُ الموازين الْقسْط} الْعدْل {لِيَوْمِ الْقِيَامَة} فِي يَوْم الْقِيَامَة ميزَان لَهَا كفتان ولسان لَا يُوزن فِيهَا غير الْحَسَنَات والسيئات {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} لَا ينقص من حَسَنَات أحد وَلَا يُزَاد على سيئات أحد {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} وزن حَبَّة من خَرْدَل {أَتَيْنَا بِهَا} جِئْنَا بهَا وَيُقَال جزينا بهَا {وَكفى بِنَا حَاسِبِينَ} حافظين وعالمين وَيُقَال مجازين(1/272)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا} أعطينا {مُوسَى وَهَارُونَ الْفرْقَان} الْمخْرج من الشُّبُهَات وَيُقَال النَّصْر والدولة على فِرْعَوْن {وَضِيَآءً} بَيَانا من الضَّلَالَة {وَذِكْراً} عظة {لَّلْمُتَّقِينَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش(1/272)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
{الَّذين يَخْشونَ رَبهم} يعْملُونَ لرَبهم {بِالْغَيْبِ} وَإِن كَانَ غَائِبا عَنْهُم {وَهُمْ مِّنَ السَّاعَة} من عَذَاب السَّاعَة {مُشْفِقُونَ} خائفون(1/272)
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
{وَهَذَا} الْقُرْآن {ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} فِيهِ الرَّحْمَة وَالْمَغْفِرَة لمن آمن بِهِ {أَنزَلْنَاهُ} أنزلنَا جِبْرِيل بِهِ {أَفَأَنْتُمْ} يَا أهل مَكَّة {لَهُ مُنكِرُونَ} جاحدون(1/272)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
{وَلَقَدْ آتَيْنَآ} أعطينا {إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} يَعْنِي الْعلم والفهم {مِن قَبْلُ} من قبل بُلُوغه وَيُقَال أكرمناه بِالنُّبُوَّةِ من قبل مُوسَى وَهَارُون وَيُقَال من قبل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} بِأَنَّهُ أهل لذَلِك(1/272)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} آزر {وَقَومه} نمروذ بن كنعان وَأَصْحَابه {مَا هَذِه التماثيل} التصاوير {الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} عَابِدُونَ لَهَا(1/272)
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
{قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} فَنحْن نعبدها(1/272)
قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)
{قَالَ} لَهُم إِبْرَاهِيم {لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ} قبلكُمْ {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} فِي كفر وَخطأ بَين(1/272)
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)
{قَالُوا} لابراهيم {أجئتنا بِالْحَقِّ} يجد تَقول يَا إِبْرَاهِيم {أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين} من الْمُسْتَهْزِئِينَ بِنَا(1/272)
قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
{قَالَ} إِبْرَاهِيم {بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَات وَالْأَرْض الَّذِي فطَرَهُنَّ} خَلقهنَّ {وَأَنَاْ على ذَلِكُم} على مَا قلت لكم {مِّنَ الشَّاهِدِينَ}(1/272)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
{وتالله} وَالله قَالَ فِي نَفسه {لأَكِيدَنَّ} لأكسرن {أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ} تنطلقوا {مُدْبِرِينَ} ذَاهِبين إِلَى الْعِيد فَلَمَّا ذَهَبُوا إِلَى عيدهم وَتركُوا إِبْرَاهِيم فِي مدينتهم دخل بَيت وثنهم(1/272)
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} كسراً {إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ} لم يكسرهُ {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} من عيدهم فيعتل بِهِ فَلَمَّا رجعُوا إِلَى بَيت وثنهم ودخلوا بَيت وثنهم(1/272)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
{قَالُواْ مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمين}(1/272)
على آلِهَتنَا(1/273)
قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
{قَالُواْ سَمِعْنَا} قَالَ رجل مِنْهُم سَمِعت {فَتىً يَذْكُرُهُمْ} بِالْكَسْرِ ويعيبهم {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}(1/273)
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
{قَالُواْ} قَالَ لَهُم نمروذ {فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ النَّاس} بمنظر النَّاس {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} على فعله وَيُقَال على قَوْله وَيُقَال على عُقُوبَته(1/273)
قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)
{قَالُوا} قَالَ لَهُ نمروذ {أَأَنْت فعلت هَذَا} الْكسر {بآلهتنا يَا إِبْرَاهِيم}(1/273)
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
{قَالَ} إِبْرَاهِيم {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} الَّذِي الفأس على عُنُقه {فاسألوهم إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ} يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى يُخْبِرُوكُمْ من كسرهم(1/273)
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ} بالملامة {فَقَالُوا} فَقَالَ لَهُم ملكهم نمروذ {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} لإِبْرَاهِيم(1/273)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
{ثمَّ نكسوا على رؤوسهم} رجعُوا إِلَى قَوْلهم الأول وَقَالَ نمروذ {لَقَدْ عَلِمْتَ} يَا إِبْرَاهِيم {مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} يَعْنِي الْأَصْنَام فَمن ذَلِك كسرتهم(1/273)
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)
{قَالَ} ابراهيم {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً} إِن عبدتموه {وَلاَ يَضُرُّكُمْ} إِن تَرَكْتُمُوهُ(1/273)
أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
{أُفٍّ لكم} قذرا لكم وَيُقَال تبالكم {وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أفليس لكم ذهن الإنسانية أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يعبد مَالا يضر وَلَا ينفع(1/273)
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
{قَالُواْ} قَالَ لَهُم ملكهم نمروذ {حَرِّقُوهُ} بالنَّار {وانصروا آلِهَتَكُمْ} انتقموا لآلهتكم {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} بِهِ شَيْئا فطرحوه فِي النَّار(1/273)
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
{قُلْنَا يَا نَار كُونِي بَرْداً} بَارِدَة من حرك {وَسلَامًا} سليمَة من الْبرد {على إِبْرَاهِيمَ} وَلَو لم يقل سَلاما لأحرقه الْبرد(1/273)
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
{وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} حرقاً {فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين} الأسفلين(1/273)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
{وَنَجَّيْنَاهُ} من النَّار {وَلُوطاً} نجينا لوطا من الْخَسْف وبلغناهما {إِلَى الأَرْض الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بِالْمَاءِ وَالشَّجر {لِلْعَالَمِينَ} وَهِي الْمُقَدّس وفلسطين والأردن(1/273)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
{وَوَهَبْنَا لَهُ} لإِبْرَاهِيم {إِسْحَاق} ولدا {وَيَعْقُوب} ولد الْوَلَد {نَافِلَةً} فَضِيلَة على الْوَلَد {وَكُلاًّ} يَعْنِي إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب وَأَوْلَادهمْ {جَعَلْنَا صَالِحِينَ} فِي دينهم مرسلين(1/273)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} قادة فِي الْخَيْر {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} يدعونَ الْخلق إِلَى أمرنَا {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخيرَات} الْعَمَل بالطاعات وَيُقَال الدُّعَاء إِلَى لَا إِلَه إِلَّا الله {وَإِقَامَ الصَّلَاة} إتْمَام الصَّلَاة {وَإِيتَآءَ الزَّكَاة} إِعْطَاء الزَّكَاة {وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ} مُطِيعِينَ(1/273)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
{وَلُوطاً} أَيْضا {آتَيْنَاهُ حُكْماً} أعطيناه فهما {وَعِلْماً} نبوة {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقرْيَة} من أهل قَرْيَة سدوم {الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ} أَهلهَا {الْخَبَائِث} يَعْنِي اللواطة {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ} سوء فِي كفرهم {فَاسِقِينَ} باللواطة(1/273)
وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
{وَأَدْخَلْنَاهُ} ندخله فِي الْآخِرَة {فِي رَحْمَتِنَآ} فِي جنتنا وَيُقَال أكرمناه فِي الدُّنْيَا بِالنُّبُوَّةِ(1/273)
{إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحين} فِي دينهم الْمُرْسلين(1/274)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
{وَنُوحاً} أَيْضا أكرمناه بِالنُّبُوَّةِ {إِذْ نَادَى} دَعَا ربه على قومه بِالْهَلَاكِ {مِن قَبْلُ} من قبل لوط {فاستجبنا لَهُ} الدُّعَاء {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} وَمن آمن بِهِ {مِنَ الكرب الْعَظِيم} يَعْنِي الْغَرق(1/274)
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
{وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْم} على الْقَوْم وَيُقَال نجيناه إِن قَرَأت نصرناه بتَشْديد الصَّاد من الْقَوْم {الَّذين كذبُوا بآياتنآ} بكتابنا ورسولنا نوح {إِنَّهُم كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ} فِي كفرهم {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} بالطوفان(1/274)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
{وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ} أَيْضا أكرمناهما بِالنُّبُوَّةِ وَالْحكمَة {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْث} فِي كرم قوم {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ} دخلت فِيهِ وَوَقعت فِيهِ بِاللَّيْلِ {غَنَمُ الْقَوْم} قوم آخَرين {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ} لحكم دَاوُد وَسليمَان {شَاهِدِينَ} عَالمين(1/274)
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الرِّفْق فِي الْقَضَاء وَالْحكم {وَكُلاًّ} دَاوُد وَسليمَان {آتَيْنَا} أعطينا {حُكْماً} فهما {وَعِلْماً} نبوة {وسخرنا مَعَ دَاوُد الْجبَال يُسَبِّحْنَ} مَعَ دَاوُد إِذا سبح {وَالطير} أَيْضا {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} إِنَّا فعلنَا ذَلِك بهم(1/274)
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} يَعْنِي الدروع {لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ} لتمنعكم {مِّن بَأْسِكُمْ} من سلَاح عَدوكُمْ {فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} نعْمَته بالدروع(1/274)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
{وَلِسُلَيْمَانَ} وسخرنا لِسُلَيْمَان {الرّيح عَاصِفَةً} قاصفة شَدِيدَة {تَجْرِي بِأَمْرِهِ} بِأَمْر الله وَيُقَال بِأَمْر سُلَيْمَان من إصطخر {إِلَى الأَرْض الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بِالْمَاءِ وَالشَّجر وَهِي الأَرْض المقدسة والأردن وفلسطين {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ} سخرنا لَهُ {عَالِمِينَ}(1/274)
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{وَمِنَ الشَّيَاطِين} سخرنا من الشَّيَاطِين {مَن يَغُوصُونَ لَهُ} لِسُلَيْمَان الْبَحْر فَيخْرجُونَ من الْبَحْر الْجَوْهَر {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً} من الْبُنيان {دُونَ ذَلِك} دون الغواصة {وَكُنَّا لَهُمْ} للشياطين {حَافِظِينَ} من أَن يعدو أحد على أحد فِي زَمَانه(1/274)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
{وَأَيُّوبَ} وَاذْكُر أَيُّوب {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} دَعَا ربه {أَنِّي مَسَّنِيَ الضّر} أَنِّي أصابتني الشدَّة فِي جَسَدِي فارحمني ونجني {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(1/274)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
{فاستجبنا لَهُ} الدُّعَاء {فَكَشَفْنَا} فرفعنا {مَا بِهِ مِن ضُرٍّ} من شدَّة {وَآتَيْنَاهُ} أعطيناه {أَهْلَهُ} فِي الْجنَّة الَّذين هَلَكُوا فِي الدُّنْيَا {وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} ولدا فِي الدُّنْيَا مثل مَا هَلَكُوا فِي الدُّنْيَا {رَحْمَةً} نعْمَة {مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ} عظة للْمُؤْمِنين(1/274)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ} وَاذْكُر إِسْمَاعِيل وَإِدْرِيس {وَذَا الكفل كُلٌّ مِّنَ الصابرين} على أَمر الله والمرازي(1/274)
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
{وَأَدْخَلْنَاهُمْ} ندخلهم فِي الْآخِرَة {فِي رَحْمَتِنَا} فِي جنتنا {إِنَّهُمْ مِّنَ الصَّالِحين} من الْمُرْسلين غير ذِي الكفل لِأَنَّهُ كَانَ رجلا صَالحا وَلم يكن نَبيا(1/274)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
{وَذَا النُّون} وَاذْكُر صَاحب الْحُوت يَعْنِي يُونُس ابْن مَتى {إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً} مصارماً من الْملك {فَظَنَّ} يَعْنِي فَحسب {أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} بالعقوبة {فَنَادَى فِي الظُّلُمَات} فِي ظلمَة الْبَحْر وظلمة أمعاء السّمك وظلمة بَطنهَا {أَن لاَّ إِلَه إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ} تبت إِلَيْك {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمين}(1/274)
على نَفسِي حَيْثُ غضِبت على أَمرك(1/275)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
{فاستجبنا لَهُ} الدُّعَاء {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغم} من غم الظُّلُمَات {وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {نُنجِي الْمُؤمنِينَ} عِنْد الدُّعَاء(1/275)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)
{وَزَكَرِيَّآ} وَاذْكُر يَا مُحَمَّد زَكَرِيَّا {إِذْ نَادَى} دَعَا {رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي} لَا تتركني {فَرْداً} وحيداً بِلَا معِين {وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثين} المعينين(1/275)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
{فاستجبنا لَهُ} الدُّعَاء {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} ولدا صَالحا {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} بِالْوَلَدِ {إِنَّهُمْ} يَعْنِي الْأَنْبِيَاء وَيُقَال زَكَرِيَّا وَيحيى {كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات} يبادرون إِلَى الطَّاعَات {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} هَكَذَا وَهَكَذَا وَيُقَال يعبدوننا رغباً إِلَى الْجنَّة ورهباً من النَّار {وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ} متواضعين مُطِيعِينَ(1/275)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
{وَالَّتِي} وَاذْكُر الَّتِي {أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} حفظت جيب درعها {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} فَنفخ جِبْرِيل فِي جيب درعها بأمرنا {وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً} عَلامَة وعبرة {لِّلْعَالَمِينَ} لبني إِسْرَائِيل ولدا بِلَا أَب وولادة بِلَا لمس(1/275)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
{إِنَّ هَذِه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} دينكُمْ دين وَاحِد مرضِي {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ} رب وَاحِد {فاعبدون} أطيعون(1/275)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
{وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} تفَرقُوا فِيمَا بَينهم فِي دينهم يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس {كُلٌّ} كل فرقة {إِلَيْنَا رَاجِعُونَ}(1/275)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينه وَبَين ربه {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} مُصدق فِي إيمَانه {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} لَا ينسى ثَوَاب عمله بل يُثَاب عَلَيْهِ {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} مجازون ومثيبون وَيُقَال حافظون(1/275)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
{وَحَرَامٌ} التَّوْفِيق {على قَرْيَةٍ} على أهل مَكَّة أبي جهل وَأَصْحَابه {أَهْلَكْنَاهَآ} خذلناها بالْكفْر {أَنَّهُمْ لَا يرجعُونَ} عَن كفرهم إِلَى الْإِيمَان وَيُقَال وَحرَام الرُّجُوع على قَرْيَة على أهل مَكَّة أهلكناها يَوْم بدر بِالْقَتْلِ أَنهم لَا يرجعُونَ إِلَى الدُّنْيَا(1/275)
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} فَحِينَئِذٍ يخرجُون {وَهُمْ} يَعْنِي يَأْجُوج وَمَأْجُوج {مِّن كُلِّ حَدَبٍ} من كل أكمة وَمَكَان مُرْتَفع {يَنسِلُونَ} يخرجُون(1/275)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
{واقترب الْوَعْد الْحق} دنا قيام السَّاعَة عِنْد خُرُوجهمْ من السد {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} ذليلة لَا تكَاد تطرف {أَبْصَارُ الَّذين كَفَرُواْ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن يَقُولُونَ {يَا ويلنا} يَا حسرتنا {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا} الْيَوْم {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} كَافِرين بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن(1/275)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
{إِنَّكُمْ} يَا أهل مَكَّة {وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} من الْأَصْنَام {حَصَبُ جَهَنَّمَ} حطب جَهَنَّم بلغَة الْحَبَشَة {أَنتُمْ} يَا أهل مَكَّة وَمَا تَعْبدُونَ من الْأَصْنَام {لَهَا وَارِدُونَ} داخلون يعْنى جَهَنَّم(1/275)
لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)
{لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ} الْأَصْنَام {آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا} مَا دخلُوا النَّار {وَكُلٌّ} العابد والمعبود {فِيهَا} فِي النَّار داخلون {خَالِدُونَ} مقيمون دائمون(1/275)
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
{لَهُمْ فِيهَا} فِي جَهَنَّم {زَفِيرٌ} صَوت كصوت الْحمار {وَهُمْ فِيهَا} فِي جَهَنَّم يتعاوون {لاَ يَسْمَعُونَ} صَوت الرَّحْمَة والشفاعة وَصَوت الْخُرُوج والرخاء وَلَا يبصرون(1/275)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
{إِنَّ الَّذين سَبَقَتْ} وَجَبت {لَهُمْ مِّنَّا الْحسنى} الْجنَّة يَعْنِي عِيسَى وعزيرا {أُولَئِكَ عَنْهَا} عَن النَّار {مُبْعَدُونَ} منجون(1/275)
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)
{لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} صَوتهَا {وَهُمْ فِي مَا اشتهت} تمنت(1/275)
{أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} مقيمون فِي الْجنَّة(1/276)
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
{لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزع الْأَكْبَر} إِذا أطبقت النَّار وَذبح الْمَوْت بَين الْجنَّة وَالنَّار {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَة} على بَاب الْجنَّة بالبشرى {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} فِي الدُّنْيَا نزلت من قَوْله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله إِلَى هَهُنَا فِي شَأْن عبد الله بن الزبعري السَّهْمِي الشَّاعِر وخصومته مَعَ النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقبل الْأَصْنَام(1/276)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
{يَوْمَ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {نَطْوِي السمآء} بِالْيَمِينِ {كَطَيِّ السّجل} كطي الْكتاب {لِلْكُتُبِ} الصَّحِيفَة {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ} أول خلقهمْ من النُّطْفَة {نُّعِيدُهُ} نبعثه من التُّرَاب {وَعْداً عَلَيْنَآ} وَاجِبا علينا {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} نحييهم بعد الْمَوْت(1/276)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبُور} فِي زبور دَاوُد {مِن بَعْدِ الذّكر} من بعد التَّوْرَاة وَيُقَال وَلَقَد كتبنَا فِي الزبُور فِي كتب الْأَنْبِيَاء من بعد الذّكر اللَّوْح الْمَحْفُوظ {أَنَّ الأَرْض} أَرض الْجنَّة {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} الموحدون وَيُقَال الأَرْض المقدسة يَرِثهَا ينزلها عبَادي الصالحون من بني إِسْرَائِيل وَيُقَال الصالحون فِي آخر الزَّمَان(1/276)
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
{إِنَّ فِي هَذَا} الْقُرْآن {لَبَلاَغاً} لكفاية وَيُقَال عظة بِالْأَمر وَالنَّهْي {لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} مُوَحِّدين(1/276)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ} يَا مُحَمَّد {إِلاَّ رَحْمَةً} من الْعَذَاب {لِّلْعَالَمِينَ} من الْجِنّ وَالْإِنْس من آمن بك وَيُقَال نعْمَة(1/276)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنَّمَآ يُوحى إِلَيَّ} فِي هَذَا الْقُرْآن {أَنَّمَآ إِلَهكُم إِلَه وَاحِدٌ} بِلَا ولد وَلَا شريك {فَهَلْ أَنتُمْ} يَا أهل مَكَّة {مُّسْلِمُونَ} مقرون مخلصون بِالْعبَادَة والتوحيد(1/276)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} عَن الْإِيمَان وَالْإِخْلَاص {فَقُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {آذَنتُكُمْ} أعلمتكم فصرت أَنا وَأَنْتُم {على سَوَآءٍ} على بَيَان عَلَانيَة بِغَيْر سر {وَإِنْ أَدْرِي} مَا أَدْرِي {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} من الْعَذَاب(1/276)
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْر مِنَ القَوْل} وَالْفِعْل {وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} مَا تسرون من القَوْل وَالْفِعْل وَيعلم بعذابكم مَتى يكون(1/276)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
{وَإِنْ أَدْرِي} مَا أَدْرِي {لَعَلَّهُ} يَعْنِي تَأْخِير الْعَذَاب {فِتْنَةٌ} بلية {لَّكُمْ وَمَتَاعٌ} أجل {إِلَى حِينٍ} حِين الْعَذَاب(1/276)
قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
{قَالَ} يَا مُحَمَّد {رَبِّ احكم بِالْحَقِّ} اقْضِ بينى وَبَين أهل مَكَّة بِالْحَقِّ وَالْعدْل {وَرَبُّنَا الرَّحْمَن الْمُسْتَعَان} نستعين بِهِ {على مَا تصفون} تَقولُونَ من الْكَذِب
وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا الْحَج وهى كلهَا مَكِّيَّة إِلَّا خمس آيَات {وَمِنَ النَّاس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ وَقَوله {أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا} إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ والسجدة الْأَخِيرَة فَهَؤُلَاءِ الْآيَات مدنيات وكل شىء فى الْقُرْآن يأيها الَّذين آمنُوا فَهُوَ مدنى وكل شىء فى الْقُرْآن يأيها النَّاس فَهُوَ مكى ومدنى وَلَا تَجِد يأيها الَّذين آمنُوا مَكِّيَّة آياتها خمس وَسَبْعُونَ آيَة وكلماتها ألف ومائتان وَإِحْدَى وَتسْعُونَ وحروفها خَمْسَة آلَاف وَمِائَة وَخَمْسَة وَثَلَاثُونَ
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(1/276)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس} خَاص وعام وَهَهُنَا عَام {اتَّقوا رَبَّكُمْ} اخشوا ربكُم وأطيعوه {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَة} قيام السَّاعَة {شَيْءٌ عَظِيمٌ} هوله(1/276)
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
{يَوْمَ تَرَوْنَهَا} حِين ترونها عِنْد النفخة الأولى {تَذْهَلُ} تشتغل {كُلُّ مُرْضِعَةٍ} وَالِدَة {عَمَّآ أَرْضَعَتْ} عَن وَلَدهَا {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا}(1/276)
وتضع الْحَوَامِل مَا فِي بطونها من الْأَوْلَاد {وَتَرَى النَّاس} قيَاما {سكارى} نشاوى {وَمَا هُم بسكارى} بنشاوى من الشَّرَاب {وَلَكِن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} فَمن ذَلِك تحيروا كَأَنَّهُمْ سكارى(1/277)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
{وَمِنَ النَّاس} وَهُوَ النَّضر بن الْحَارِث {مَن يُجَادِلُ فِي الله} يُخَاصم فِي دين الله وَكتابه {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بِلَا علم وَلَا حجَّة وَلَا بَيَان {وَيَتَّبِعُ} يُطِيع {كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} متمرد شَدِيد لعين(1/277)
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
{كُتِبَ عَلَيْهِ} قضي عَلَيْهِ على الشَّيْطَان {أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ} أطاعه {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} عَن الْهدى {وَيَهْدِيهِ} يَدعُوهُ {إِلَى عَذَابِ السعير} إِلَى مَا يجب بِهِ عَذَاب الْوقُود(1/277)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
{يَا أَيهَا النَّاس} يَعْنِي أهل مَكَّة {إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} فِي شكّ {مِّنَ الْبَعْث} بعد الْمَوْت فتفكروا فِي بَدْء خَلقكُم فَإِن إحياءكم لَيْسَ بأشد عَليّ من بدئكم {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ} من آدم وآدَم من تُرَاب {ثُمَّ} خَلَقْنَاكُمْ بعد ذَلِك {مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} من دم عبيط بعد النُّطْفَة {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} من لحم طري بعد الْعلقَة {مُّخَلَّقَةٍ} خلق تَمام {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} وَهِي السقط {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} فِي الْقُرْآن بَدْء خَلقكُم {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَام} من أَن يسْقط وَيُقَال نَتْرُك فِي الْأَرْحَام {مَا نَشَآءُ} من الْوَلَد {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إِلَى وَقت مَعْلُوم من الشُّهُور {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ} من الْأَرْحَام {طِفْلاً} صغَارًا {ثُمَّ} نترككم {لتبلغوا أَشُدَّكُمْ} من ثَمَان عشرَة سنة إِلَى ثَلَاثِينَ سنة {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى} يقبض روحه قبل الْبلُوغ {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ} يرجع {إِلَى أَرْذَلِ الْعُمر} إِلَى حَاله الأول بعد الْهَرم {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ} حَتَّى لَا يعقل {مِن بَعْدِ عِلْمٍ} من بعد علمه الأول {شَيْئاً وَتَرَى الأَرْض هَامِدَةً} منكسرة ميتَة {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت} بالنبات وَيُقَال تحركت واستبشرت بِالْمَاءِ {وَرَبَتْ} انتفخت للنبات {وَأَنبَتَتْ} أخرجت بِالْمَاءِ {مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} من كل لون حسن(1/277)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
{ذَلِك} الْقُدْرَة فِي تحويلكم وَغير ذَلِك لتقروا وتعلموا {بِأَنَّ الله هُوَ الْحق} بِأَن عبَادَة الله هِيَ الْحق {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} للنشور {وَأَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ} من الْحَيَاة وَالْمَوْت {قدير}(1/277)
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
{وَأَنَّ السَّاعَة آتِيَةٌ} كائنة {لاَّ رَيْبَ فِيهَا} لَا شكّ فِي كينونتها {وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُور} للجزاء وَالْعِقَاب(1/277)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
{ومِنَ النَّاس مَن يُجَادِلُ فِي الله} يُخَاصم فِي دين الله وَكتابه {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بِلَا علم {وَلاَ هُدىً} بِلَا حجَّة {وَلاَ كِتَابٍ مُنِير} مُبين بِمَا يَقُول(1/277)
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
{ثَانِي عطفه} لَا وَيَا عُنُقه معرضًا عَن الْآيَات مُكَذبا بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} عَن دين الله وطاعته {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} عَذَاب قتل يَوْم بدر صبرا {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة عَذَابَ الْحَرِيق} عَذَاب النَّار وَيُقَال الْعَذَاب الشَّديد(1/277)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
{ذَلِك} الْقَتْل يَوْم بدر صبرا {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} بِمَا عملت يداك فِي الشّرك نزل من قَوْله {ومِنَ النَّاس مَن يُجَادِلُ فِي الله} إِلَى هَهُنَا فِي شَأْن النَّضر بن الْحَارِث {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام للعبيد} أَن يَأْخُذهُمْ بِلَا جرم(1/277)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
{وَمِنَ النَّاس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} على وَجه تجربة وَشك وانتظار نعْمَة نزلت هَذِه الْآيَة فِي شَأْن بني الحلاف منافقي بني أَسد وغَطَفَان {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ}(1/277)
نعْمَة {اطْمَأَن بِهِ} رضى بدين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلِسَانِهِ {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} شدَّة {انْقَلب على وَجْهِهِ} رَجَعَ إِلَى دينه الأول الشّرك بِاللَّه {خَسِرَ الدُّنْيَا} غبن الدُّنْيَا بذهابها {وَالْآخِرَة} بذهاب الْجنَّة {ذَلِك} الْغبن {هُوَ الخسران الْمُبين} الْغبن البيّن بذهاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة(1/278)
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
{يَدْعُو} يعبد بَنو الحلاف {مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ} إِن لم يعبده {وَمَا لاَ يَنفَعُهُ} إِن عَبده {ذَلِك هُوَ الضلال} الْخَطَأ {الْبعيد} عَن الْحق وَالْهدى(1/278)
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
{يَدْعُو} يعبد بَنو الحلاف {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} يَقُول من ضره قريب ونفعه بعيد {لَبِئْسَ الْمولى} الرب {وَلَبِئْسَ العشير} الْخَلِيل والصاحب يَقُول من كَانَت عِبَادَته مضرَّة على عابده لبئس المعبود هُوَ(1/278)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
{إِن الله يدْخل الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {جنَّات} بساتين {تجْرِي من تحتهَا} من تَحت أشجارها ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} من الشقاوة والسعادة وَنزل فيهم أَيْضا حِين قَالُوا نَخَاف أَن لَا ينصر مُحَمَّد فِي الدُّنْيَا فَيذْهب مَا كَانَ بَيْننَا وَبَين الْيَهُود من الْمَوَدَّة(1/278)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
{مَن كَانَ يَظُنُّ} يحْسب {أَن لَّن يَنصُرَهُ الله} يعْنى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالغلبة {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} بالعذر وَالْحجّة {فَلْيَمْدُدْ} فليربط {بِسَبَبٍ} بِحَبل {إِلَى السمآء} إِلَى سَمَاء بَيته {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} ليختنق {فَلْيَنْظُرْ} فليتفكر فِي نَفسه {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ} اختناقه {مَا يَغِيظُ} غيظه فى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيُقَال فِيهِ وَجه آخر من كَانَ يظنّ أَن لن ينصره الله فِي الدُّنْيَا بالرزق وَالْآخِرَة بالثواب فليمدد بِسَبَب إِلَى السَّمَاء فليربط حبلاً إِلَى سقف بَيته ثمَّ ليقطع فَلْينْظر فِي نَفسه هَل يذْهبن كَيده اختناقه مَا يغيظه غيظة فِي رزقه(1/278)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
{وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ} أنزلنَا جِبْرِيل بآيَات {بَيِّنَاتٍ} بالحلال وَالْحرَام {وَأَنَّ الله يَهْدِي} يرشد إِلَى دينه {مَن يُرِيدُ} من كَانَ أَهلا لذَلِك(1/278)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
{إِن الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَالَّذين هَادُواْ} يهود أهل الْمَدِينَة {وَالصَّابِئِينَ} السائحين وهم شُعْبَة من النَّصَارَى {وَالنَّصَارَى} يَعْنِي نَصَارَى أهل نَجْرَان السَّيِّد وَالْعَاقِب {وَالْمَجُوس} عَبدة الشَّمْس والنيران {وَالَّذين أشركوا} مُشْركي الْعَرَب {إِنَّ الله يَفْصِلُ} يقْضِي {بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ} من اخْتلَافهمْ وأعمالهم {شَهِيد} عَالم(1/278)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر يَا مُحَمَّد فِي الْقُرْآن {أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَات} من الْخلق {وَمَن فِي الأَرْض} من الْمُؤمنِينَ {وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر والدوآب} كل هَؤُلَاءِ يَسْجُدُونَ لله {وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاس} وَجَبت لَهُم الْجنَّة وهم الْمُؤْمِنُونَ {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَاب} وَجب عَلَيْهِم عَذَاب النَّار وهم الْكَافِرُونَ {وَمَن يُهِنِ الله} بالشقاوة {فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} بالسعادة وَيُقَال وَمن يهن الله بالنكرة فَمَا لَهُ من مكرم بالمعرفة {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} بخلقه من الشقاوة والسعادة والمعرفة والنكرة(1/278)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
{هَذَانِ خَصْمَانِ} أهل دينين من الْمُسلمين وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى {اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} فِي دين رَبهم فَقَالَ كل وَاحِد مِنْهُم أَنا أولى بِاللَّه بِدِينِهِ فَحكم الله بَينهم فَقَالَ {فَالَّذِينَ كَفَرُواْ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ} قمص وجباب من نَار {يُصَبُّ من فَوق رؤوسهم} على رُءُوسهم {الْحَمِيم} المَاء الْحَار(1/278)
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
{يُصْهَرُ بِهِ} يذاب بالحميم {مَا فِي بُطُونِهِمْ} من الشحوم وَغَيرهَا {والجلود} ويذاب بِهِ الْجُلُود وَغَيرهَا(1/279)
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
{وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} حَار يضْرب على رؤوسهم(1/279)
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
{كلمآ أَرَادوا أَن يخرجُوا مِنْهَا} من النَّار {مِنْ غَمٍّ} من غم الْعَذَاب {أُعِيدُواْ فِيهَا} فِي النَّار بِضَرْب المقامع {وَذُوقُواْ} فَيُقَال لَهُم ذوقوا {عَذَابَ الْحَرِيق} الشَّديد(1/279)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
{إِن الله يدْخل الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {جنَّات} بساتين {تجْرِي من تحتهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} يلبسُونَ فِي الْجنَّة {مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} أسورة من ذهب {وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا} فِي الْجنَّة {حَرِيرٌ} لَا يُوصف فَضله(1/279)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
{وهدوا إِلَى الطّيب مِنَ القَوْل} أرشدوا فِي الدُّنْيَا إِلَى القَوْل الطّيب لَا إِلَه إِلَّا الله {وهدوا إِلَى صِرَاطِ الحميد} ووفقوا للدّين الْمَحْمُود فِي فعاله وَيُقَال الحميد لمن وَحده فَهَذَا قَضَاء الله فِيمَا بَين الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُؤمنِينَ فِي خصومتهم(1/279)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
{إِن الَّذين كفرُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن أَبُو سُفْيَان وَأَصْحَابه وَإِنَّمَا سَمَّاهُ كَافِرًا لِأَنَّهُ لم يكن مُؤمنا يَوْمئِذٍ {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} يصرفون النَّاس عَن دين الله وطاعته {وَالْمَسْجِد الْحَرَام} يصرفون مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأَصْحَابه عَام الْحُدَيْبِيَة عَن الْمَسْجِد الْحَرَام للْعُمْرَة {الَّذِي جَعَلْنَاهُ} حرما وقبلة {لِلنَّاسِ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد} يَعْنِي الْمُقِيم والغريب سَوَاء شرع {وَمَن يُرِدْ} يمل {فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} على أحد {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وجيع نضربه ضربا شَدِيدا لكَي لَا يعود إِلَى ظلم أحد وَيُقَال نزلت فِي شَأْن عبد الله بن أنس بن حنظل قتل أَنْصَارِيًّا بِالْمَدِينَةِ مُتَعَمدا وارتد عَن الْإِسْلَام والتجأ إِلَى مَكَّة وَنزل فِيهِ وَمن يرد فِيهِ من يلجأ إِلَيْهِ بالحاد بقتل بظُلْم بشرك نذقه من عَذَاب أَلِيم وجيع لَا يطعم وَلَا يسقى وَلَا يؤوى حَتَّى يخرج من الْحرم ثمَّ يُقَام عَلَيْهِ الْحَد(1/279)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ} بَينا لإِبْرَاهِيم {مَكَانَ الْبَيْت} الْحَرَام بسحابة وقفت على حياله فَبنى إِبْرَاهِيم الْبَيْت على حِيَال السحابة وأوحينا إِلَيْهِ {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} من الْأَصْنَام {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} مَسْجِدي من الْأَوْثَان {لِلطَّآئِفِينَ} حوله {والقآئمين} المقيمين فِيهِ {والركع السُّجُود} لأهل الصَّلَوَات من جملَة الْبلدَانِ من كل وَجه(1/279)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
{وَأَذِّن فِي النَّاس} نَاد ذريتك {بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ} حَتَّى يجيئوا إِلَيْك {رِجَالاً} مشَاة على أَرجُلهم {وعَلى كُلِّ ضَامِرٍ} ركباناً على كل إبل مُضْمر وَغَيره {يَأْتِينَ} يجئن {مِن كُلِّ فَجٍّ عميق} طَرِيق وَأَرْض بعيدَة(1/279)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
{لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} مَنَافِع الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مَنَافِع الْآخِرَة بِالدُّعَاءِ وَالْعِبَادَة وَمَنَافع الدُّنْيَا بِالرِّبْحِ وَالتِّجَارَة {وَيَذْكُرُواْ اسْم الله} لِيذكرُوا اسْم الله {فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} معروفات أَيَّام التَّشْرِيق {على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَام} على ذَبِيحَة الْأَنْعَام {فَكُلُواْ مِنْهَا} من الْأَضَاحِي {وَأَطْعِمُواْ} أعْطوا {البآئس الْفَقِير} الضَّرِير الزَّمن الْمُحْتَاج(1/279)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
{ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} ليتموا مَنَاسِك حجهم حلق الرَّأْس وَرمي الْجمار وتقليم الْأَظْفَار وَغير ذَلِك {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} وليتموا مَا أوجبوا على أنفسهم {وَلْيَطَّوَّفُواْ} الطّواف الْوَاجِب {بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} أعتق من كل جَبَّار دخل فِيهِ وَيُقَال من غرق الطوفان زمن نوح وَيُقَال هُوَ أول بَيت بني وَيُقَال من طَاف حوله فقد عتق(1/279)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
{ذَلِك} الَّذِي ذكرت من الْمَنَاسِك عَلَيْهِم أَن يوفوا ذَلِك {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله} مَنَاسِك الْحَج {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} بالثواب {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ} رخصت لكم {الْأَنْعَام} ذَبِيحَة الْأَنْعَام وَأكل لحومها {إِلاَّ مَا يُتْلَى} إِلَّا مَا حرم {عَلَيْكُمْ} فِي سُورَة الْمَائِدَة مثل الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير {فَاجْتَنبُوا الرجس مِنَ الْأَوْثَان} فاتركوا شرب الْخمر وَعبادَة الْأَوْثَان(1/279)
{وَاجْتَنبُوا قَوْلَ الزُّور} اتْرُكُوا قَول الْبَاطِل وَالْكذب لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ فِي تلبيتهم فِي الْجَاهِلِيَّة لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك لبيْك لَا شريك لَك إِلَّا شَرِيكا هُوَ لَك تملكه وَمَا ملك فنهاهم الله عَن ذَلِك(1/280)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
{حنفَاء لله} كونُوا مُسلمين مُخلصين لله بِالتَّلْبِيَةِ وَالْحج {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} بِاللَّه فِي التَّلْبِيَة وَالْحج {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّه فَكَأَنَّمَا خَرَّ} وَقع {مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ} فتأخذه {الطير} وَتذهب بِهِ حَيْثُ يَشَاء {أَوْ تَهْوِي} تذْهب {بِهِ الرّيح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} بعيد(1/280)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
{ذَلِك} التباعد لمن اشرك بِاللَّه {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله} مَنَاسِك الْحَج فَيذْبَح أسمنها وَأَعْظَمهَا {فَإِنَّهَا} يعْنى دبيحة أسمنها وَأَعْظَمهَا {مِن تَقْوَى الْقُلُوب} من صفاوة الْقُلُوب وإخلاص الرجل(1/280)
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
{لَكُمْ فِيهَا} فِي الْأَنْعَام {مَنَافِعُ} فِي ركُوبهَا وَأَلْبَانهَا {إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إِلَى حِين تقلد وَتسَمى هَديا {ثُمَّ مَحِلُّهَآ} منحرها {إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق} إِن كَانَت للْعُمْرَة وَإِن كَانَت لِلْحَجِّ فالى منى(1/280)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} من الْمُؤمنِينَ {جَعَلْنَا مَنسَكاً} مذبحاً لَهُم لحجهم وعمرتهم {لِّيَذْكُرُواْ اسْم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَام} على ذَبِيحَة الْأَنْعَام {فإلهكم إِلَه وَاحِدٌ} بِلَا ولد وَلَا شريك {فَلَهُ أَسْلِمُواْ} أَخْلصُوا بِالْعبَادَة والتوحيد {وَبَشِّرِ المخبتين} الْمُجْتَهدين المخلصين بِالْجنَّةِ(1/280)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
{الَّذين إِذَا ذُكِرَ الله} أمروا بِأَمْر من قبل الله {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} خَافت قُلُوبهم {وَالصَّابِرِينَ} وَبشر الصابرين أَيْضا بِالْجنَّةِ {على مَآ أَصَابَهُمْ} من المرازي والمصائب {والمقيمي الصَّلَاة} وَبشر المقيمين للصلوات الْخمس بوضوئها وركوعها وسجودها وَمَا يجب فِيهَا من مواقيتها بِالْجنَّةِ أَيْضا {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} من الْأَمْوَال {يُنفِقُونَ} يتصدقون ويؤدون زَكَاتهَا(1/280)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
{وَالْبدن} يَعْنِي الْبَقر وَالْإِبِل {جَعَلْنَاهَا لَكُمْ} سخرناها لكم {مِّن شَعَائِرِ الله} من مَنَاسِك الْحَج لكَي تذبحوا {لَكُمْ فِيهَا} فِي الْأَضَاحِي {خَيْرٌ} ثَوَاب {فاذكروا اسْم الله عَلَيْهَا} على ذَبحهَا {صَوَآفَّ} خوالص من الْعُيُوب وَيُقَال معقولة يَدهَا الْيُسْرَى قَائِمَة على ثَلَاث قَوَائِم وقرئت بِرَفْع النُّون {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} فَإِذا خرجت لجنبها بعد الذّبْح {فَكُلُواْ مِنْهَا} من الْأَضَاحِي {وَأَطْعِمُواْ} أعْطوا {القانع} السَّائِل الَّذِي يقنع باليسير {والمعتر} الَّذِي يعترضك وَلَا يَسْأَلك {كَذَلِك} الَّذِي ذكرت لكم {سَخَّرْنَاهَا} ذللناها {لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكَي تشكروا عمته ورخصته(1/280)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
{لَن يَنَالَ الله} لن يصل إِلَى الله {لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا} وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يضْربُونَ لحم الْأَضَاحِي على حَائِط الْبَيْت ويتلطخون بدمها فنهاهم الله عَن ذَلِك وَيُقَال لَا يقبل الله لحومها وَلَا دماءها {وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} وَلَكِن يقبل الْأَعْمَال الزاكية الطاهرة مِنْكُم {كَذَلِك} هَكَذَا {سَخَّرَهَا} ذللها {لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله} لتعظموا الله {على مَا هَدَاكُمْ} كَمَا هدَاكُمْ لدينِهِ وسنته {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} بالْقَوْل وَالْفِعْل بِالْجنَّةِ وَيُقَال الْمُحْسِنِينَ بالذبائح(1/280)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
{إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن كفار مَكَّة {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} خائن {كَفُورٍ} كَافِر بِاللَّه(1/280)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} أذن للْمُؤْمِنين بِالْقِتَالِ مَعَ كفار مَكَّة {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} ظلمهم كفار مَكَّة {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ} على نصر الْمُؤمنِينَ على عدوهم {لَقَدِيرٌ}(1/280)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
{الَّذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم} أخرجهم كفار مَكَّة من مَنَازِلهمْ {بِغَيْرِ حَقٍّ} بِلَا حق وَلَا جرم {إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله} إِلَّا لقَولهم لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله النَّاس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}(1/280)
فَدفع بالنبيين عَن الْمُؤمنِينَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ عَن الْكَافرين وبالمجاهدين عَن القاعدين بِغَيْر عذر وَلَوْلَا ذَلِك {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} صوامع الرهبان {وَبِيَعٌ} كنائس الْيَهُود {وَصَلَوَاتٌ} بَيت نَار الْمَجُوس لِأَن كل هَؤُلَاءِ فِي مأمن الْمُسلمين {وَمَسَاجِدُ} للْمُسلمين {يُذْكَرُ فِيهَا} فِي الْمَسَاجِد {اسْم الله} بِالتَّكْبِيرِ والتهليل {كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله} على عدوه {مَن يَنصُرُهُ} من ينصر نبيه بِالْجِهَادِ {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ} بنصرة نبيه ونصرة من ينصر نبيه {عَزِيزٌ} بالنقمة من أَعدَاء نبيه(1/281)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
{الَّذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْض} أنزلناهم فِي أَرض مَكَّة {أَقَامُواْ الصَّلَاة} أَتموا الصَّلَوَات الْخمس {وَآتَوُاْ الزَّكَاة} أعْطوا زَكَاة أَمْوَالهم {وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ} بِالتَّوْحِيدِ وَاتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكر} عَن الْكفْر والشرك وَمُخَالفَة الرَّسُول {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور} وَإِلَى الله ترجع عواقب الْأُمُور فِي الْآخِرَة(1/281)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42)
{وَإِن يُكَذِّبُوكَ} يَا مُحَمَّد قُرَيْش {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} قبل قَوْمك {قَوْمُ نُوحٍ} نوحًا {وَعَادٌ} قوم هود هوداً {وَثَمُودُ} قوم صَالح صَالحا(1/281)
وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43)
{وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ} إِبْرَاهِيم {وَقَوْمُ لُوطٍ} لوطاً(1/281)
وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)
{وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ} قوم شُعَيْب شعيباً {وَكُذِّبَ مُوسَى} كذبه قومه القبط {فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} فأمهلت للْكَافِرِينَ فِي كفرهم إِلَى الْأَجَل {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} بالعقوبة {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} انْظُر يَا مُحَمَّد كَيفَ كَانَ تغييري عَلَيْهِم بالعقوبة(1/281)
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
{فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ} كم من أهل قَرْيَة {أَهْلَكْنَاهَا} بِالْعَذَابِ {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} مُشركَة كَافِرَة أَهلهَا {فَهِيَ خَاوِيَةٌ} سَاقِطَة {على عُرُوشِهَا} على سقوفها {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} وَكم من بِئْر معطلة عطلها أَرْبَابهَا لَيْسَ عَلَيْهَا أحد {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} حُصَيْن طَوِيل لَيْسَ فِيهِ سَاكن إِن قُرِئت بِنصب الْمِيم وَيُقَال مجصص إِن قُرِئت بِضَم الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء(1/281)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْض} أفلم يُسَافر أهل مَكَّة فِي تجاراتهم {فَتَكُونَ} فَتَصِير {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ} التخويف وَمَا صنع بغيرهم إِذا نظرُوا وتفكروا فِيهَا {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} الْحق والتخويف {فَإِنَّهَا} يَعْنِي النظرة بِغَيْر عِبْرَة وَيُقَال كلمة الشّرك {لاَ تَعْمَى الْأَبْصَار} من النّظر {وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} من الْحق وَالْهدى(1/281)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
{ويستعجلونك} يَا مُحَمَّد {بِالْعَذَابِ} استعجله النَّضر ابْن الْحَارِث قبل أَجله {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} بِالْعَذَابِ {وَإِنَّ يَوْماً} من الَّذِي وعد فِيهِ عَذَابهمْ {عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} من سني الدُّنْيَا(1/281)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
{وكأين من قَرْيَة} وَكم من أهل قَرْيَة {أَمْلَيْتُ لَهَا} أمهلتها إِلَى أجل {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} مُشركَة كَافِرَة أَهلهَا {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} عَاقبَتهَا فِي الدُّنْيَا {وَإِلَيَّ الْمصير} الْمرجع فِي الْآخِرَة(1/281)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)
{قل يَا أَيهَا النَّاس} يَا أهل مَكَّة {إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ} من الله {نَذِيرٌ} رَسُول مخوف {مُّبِينٌ} بلغَة تعلمونها(1/281)
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
{فَالَّذِينَ آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الْخيرَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم فِي الدُّنْيَا {وَرِزْقٌ كريم} ثَوَاب حسن فِي الْجنَّة(1/281)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
{وَالَّذين سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا} كذبُوا بِآيَاتِنَا بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {مُعَاجِزِينَ} لَيْسُوا بفائتين من عذابنا {أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم}(1/281)
أهل النَّار(1/282)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} يَا مُحَمَّد {مِن رَّسُولٍ} مُرْسل {وَلاَ نَبِيٍّ} مُحدث لَيْسَ بمرسل {إِلاَّ إِذَا تمنى} قَرَأَ الرَّسُول أَو حدث النَّبِي {أَلْقَى الشَّيْطَان فِي أُمْنِيَّتِهِ} فِي قِرَاءَة الرَّسُول وَحَدِيث النَّبِي {فَيَنسَخُ الله} يبيّن الله {مَا يُلْقِي الشَّيْطَان} على لِسَان نبيه لكَي لَا يعْمل بِهِ ثُمَّ يُحْكِمُ الله يبين {آيَاتِهِ} لنَبيه لكَي يعْمل بهَا {وَالله عَلِيمٌ} بِمَا يلقِي الشَّيْطَان على لِسَان نبيه {حَكِيمٌ} حكم بنسخه(1/282)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
{لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَان} على لِسَان نبيه {فِتْنَةً} بلية {لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شكّ وَخلاف لكَي يعملوا بِهِ {والقاسية قُلُوبُهُمْ} من ذكر الله {وَإِنَّ الظَّالِمين} الْمُشْركين الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وَأَصْحَابه {لَفِي شِقَاقٍ} خلاف ومعاداة {بَعِيدٍ} عَن الْحق وَالْهدى(1/282)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
{وَلِيَعْلَمَ} ولكي يعلم تبيان الله {الَّذين أُوتُواْ الْعلم} أعْطوا الْعلم بِالْقُرْآنِ والتوراة عبد الله ابْن سَلام وَأَصْحَابه {أَنَّهُ} يَعْنِي تبيان الْحق هُوَ {الْحق مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} فيصدقوا بتبيان الله {فَتُخْبِتَ لَهُ} فتخلص لَهُ وتقبله يَعْنِي تبيان الله {قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الله لَهَادِ} حَافظ {الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} إِلَى دين قَائِم يرضاه وَهُوَ الْإِسْلَام(1/282)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
{وَلَا يزَال الَّذين كفرُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وَأَصْحَابه {فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} فِي شكّ من الْقُرْآن وَلَكِن انظرهم يَا مُحَمَّد {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة} قيام السَّاعَة {بَغْتَةً} فَجْأَة {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} لَا فرج فِيهِ وَهُوَ يَوْم بدر(1/282)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
{الْملك} الْقَضَاء {يَوْمَئِذٍ} يَوْم الْقِيَامَة {لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} يقْضِي بَين الْمُؤمنِينَ والكافرين {فَالَّذِينَ آمَنُواْ} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {فِي جَنَّاتِ النَّعيم} يكرمون بالتحف(1/282)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
{وَالَّذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا} بكتابنا ورسولنا {فَأُولَئِك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يهانون بِهِ وَيُقَال شَدِيد(1/282)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
{وَالَّذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة {ثُمَّ قتلوا} قَتلهمْ الْعَدو فِي سَبِيل الله {أَوْ مَاتُواْ} فِي سفر أَو حضر {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حسنا} ثَوابًا حسنا فى الْجنَّة لأموالهم وَغَنَائِم حَلَالا طيبا لأحيائهم {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} أفضل المطعمين فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة(1/282)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} لأَنْفُسِهِمْ وَيُقَال يقبلونه يَعْنِي الْجنَّة {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ} بثوابهم وكرامتهم {حَلِيمٌ} بِتَأْخِير عُقُوبَة من قَتلهمْ(1/282)
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
{ذَلِك} هَذَا قَضَاء الله فِيمَا بَين الْمُؤمنِينَ والكافرين فِي الْآخِرَة {وَمَنْ عَاقَبَ} قَاتل وليه {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} بوليه {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} ثمَّ تطاول عَلَيْهِ بظُلْم {لَيَنصُرَنَّهُ الله} يَعْنِي الْمَظْلُوم على الظَّالِم فيقتله وَلَا يَأْخُذ مِنْهُ الدِّيَة وَهُوَ رجل قتل وليه فَأخذ من قَاتل وليه الدِّيَة ثمَّ بغى عَلَيْهِ فَقتله أَيْضا فَيقْتل وَلَا يَأْخُذ مِنْهُ الدِّيَة {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ} متجاوز لمن تَابَ {غَفُورٌ} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/282)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
{ذَلِك} عُقُوبَة من بغى على أَخِيه {بِأَنَّ الله يُولِجُ اللَّيْل فِي النَّهَار} يزِيد اللَّيْل على النَّهَار فَيكون النَّهَار أطول من اللَّيْل {وَيُولِجُ النَّهَار فِي اللَّيْل} يزِيد النَّهَار على اللَّيْل فَيكون اللَّيْل أطول من النَّهَار {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ} لمقالة خلقه {بَصِيرٌ} بأعمالهم(1/282)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
{ذَلِك} الْقُدْرَة لتقروا وتعلموا {بِأَنَّ الله هُوَ الْحق} بِأَن عبَادَة الله هِيَ الْحق وَأَن الله هُوَ الْقوي {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ} يعْبدُونَ {مِن دُونِهِ} من دون الله {هُوَ الْبَاطِل} الضَّعِيف(1/282)
{وَأَنَّ الله هُوَ الْعلي} أَعلَى كل شَيْء {الْكَبِير} أكبر كل شَيْء(1/283)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر يَا مُحَمَّد فِي الْقُرْآن {أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} مَطَرا {فَتُصْبِحُ الأَرْض} فَتَصِير الأَرْض {مُخْضَرَّةً} بالنبات {إِنَّ الله لَطِيفٌ} باستخراج النَّبَات {خَبِيرٌ} بمكانه(1/283)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض} من الْخلق {وَإِنَّ الله لَهُوَ الْغَنِيّ} عَن خلقه {الحميد} الْمَحْمُود فِي فعاله وَيُقَال الحميد لمن وَحده(1/283)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر فِي الْقُرْآن يَا مُحَمَّد {أَنَّ الله سَخَّرَ} ذلل {لَكُم مَّا فِي الأَرْض} من الشّجر وَالدَّوَاب {والفلك} وسخر الْفلك يَعْنِي السفن {تَجْرِي فِي الْبَحْر بِأَمْرِهِ} بِإِذْنِهِ {وَيُمْسِكُ السمآء} يمْنَع السَّمَاء {أَن تَقَعَ} لكَي لَا تقع {عَلَى الأَرْض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} بأَمْره إِلَى يَوْم الْقِيَامَة {إِنَّ الله بِالنَّاسِ} بِالْمُؤْمِنِينَ {لرؤوف رَحِيم}(1/283)
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
{وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} فِي أَرْحَام أُمَّهَاتكُم صغَارًا {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} صغَارًا أَو كبارًا {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للبعث بعد الْمَوْت {إِنَّ الْإِنْسَان} يَعْنِي الْكَافِر بديل بن وَرْقَاء الْخُزَاعِيّ {لَكَفُورٌ} كَافِر بِاللَّه وبالبعث بعد الْمَوْت وبذبيحة الْمُسلمين(1/283)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
{لِّكُلِّ أُمَّةٍ} لكل أهل دين {جَعَلْنَا مَنسَكاً} مذبحاً وَيُقَال معبدًا {هُمْ نَاسِكُوهُ} ذابحوه على دينهم {فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ} فَلَا يخالفنك وَلَا يصرفنك {فِي الْأَمر} فِي الذَّبِيحَة والتوحيد {وادع إِلَى رَبِّكَ} إِلَى تَوْحِيد رَبك {إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} على دين قَائِم يرضاه هُوَ الْإِسْلَام(1/283)
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)
{وَإِن جَادَلُوكَ} خاصموك فِي أَمر الذَّبِيحَة والتوحيد لقَولهم إِن مَا ذبح الله أحل مِمَّا تذبحون أَنْتُم بسكاكينكم {فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} فِي دينكُمْ من الذَّبِيحَة وَغَيرهَا(1/283)
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
{الله يَحْكُمُ} يقْضِي {بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ} فِي أَمر الذَّبِيحَة والتوحيد {تَخْتَلِفُونَ} تخالفون(1/283)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
{أَلَمْ تَعْلَمْ} يَا مُحَمَّد {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء} مَا يكون فِي أهل السَّمَاء من الْخيرَات {وَالْأَرْض} مَا يكون من أهل الأَرْض من الْخَيْر وَالشَّر {إِنَّ ذَلِك فِي كِتَابٍ} مَكْتُوب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ {إِنَّ ذَلِك} حفظ ذَلِك بِغَيْر الْكتاب {عَلَى الله يسير} هَين(1/283)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
{وَيَعْبُدُونَ} يَعْنِي كفار مَكَّة {مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} كتابا وَلَا عذرا {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} حجَّة وَلَا بَيَان {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} الْمُشْركين {مِن نَّصِيرٍ} من مَانع من عَذَاب الله(1/283)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
{وَإِذَا تتلى} تقْرَأ {عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} الْقُرْآن {بَيِّنَاتٍ} مبينات بِالْأَمر وَالنَّهْي {تَعْرِفُ} يَا مُحَمَّد {فِي وُجُوهِ الَّذين كَفَرُواْ} بِالْقُرْآنِ {الْمُنكر} الْكَرَاهِيَة من الْقُرْآن {يَكَادُونَ يَسْطُونَ} يهمون أَن يضْربُوا ويقعوا {بالذين يَتلون} يقرءُون {عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} الْقُرْآن {قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {أَفَأُنَبِّئُكُم} أخْبركُم {بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُم} مِمَّا قُلْتُمْ للْمُسلمين فِي الدُّنْيَا لقَولهم مَا رَأينَا أهل دين أقل حظاً مِنْكُم فَقَالَ الله قل يَا مُحَمَّد الخ وَهِي {النَّار وَعَدَهَا الله الَّذين كفرُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن وَأَنْتُم كافرون بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَبِئْسَ الْمصير} صَارُوا إِلَيْهِ(1/283)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
{يَا أَيهَا النَّاس} يَعْنِي أهل مَكَّة {ضُرِبَ مَثَلٌ} بَين مثل آلِهَتكُم {فَاسْتَمعُوا لَهُ} وأجيبوا لَهُ {إِنَّ الَّذين تَدْعُونَ} تَعْبدُونَ {مِن دُونِ الله} من الْأَوْثَان {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً}(1/283)
لن يقدروا أَن يخلقوا ذباباً {وَلَوِ اجْتَمعُوا لَهُ} لَو اجْتمع العابد والمعبود مَا قدرُوا أَن يخلقوا ذباباً {وَإِن يَسْلُبْهُمُ} يَأْخُذ {الذُّبَاب} من الْآلهَة {شَيْئاً} مِمَّا لطخوا عَلَيْهَا من الْعَسَل {لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} لَا يستجيروه وَلَا يخلصوه من الذُّبَاب يَعْنِي الْآلهَة {ضَعُفَ الطَّالِب} يَعْنِي الصَّنَم {وَالْمَطْلُوب} الذُّبَاب وَيُقَال ضعف الطَّالِب العابد وَالْمَطْلُوب المعبود(1/284)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
{مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} مَا عظموا الله حق عَظمته بذلك نزلت فِي الْيَهُود لقَولهم عُزَيْر ابْن الله ولقولهم إِن الله فَقير وَنحن أَغْنِيَاء ولقولهم يَد الله مغلولة ولقولهم إِن الله استراح بعد مَا فرغ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض فَرد الله عَلَيْهِم ذَلِك وَقَالَ مَا قدرُوا الله حق قدره {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ} على أعدائه {عَزِيزٌ} بالنقمة من الْيَهُود(1/284)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
{الله يَصْطَفِي} يخْتَار {مِنَ الْمَلَائِكَة رُسُلاً} بالرسالة يَعْنِي جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وَملك الْمَوْت {وَمِنَ النَّاس} مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَسَائِر النَّبِيين {إِنَّ الله سَمِيعٌ} بمقالتهم حِين قَالُوا مَا لهَذَا الرَّسُول يَأْكُل وَيَمْشي فِي الْأَسْوَاق {بَصِيرٌ} بعقوبتهم(1/284)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} من أَمر الْآخِرَة {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أَمر الدُّنْيَا يَعْنِي الْمَلَائِكَة {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الْأُمُور} عواقب الْأُمُور فِي الْآخِرَة(1/284)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ ارْكَعُوا واسجدوا} فِي الصَّلَاة {وَاعْبُدُواْ} أطِيعُوا {رَبَّكُمْ وافعلوا الْخَيْر} الْعَمَل الصَّالح {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكَي تنجوا من السخط وَالْعَذَاب(1/284)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
{وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ} وَاعْمَلُوا لله حق عمله {هُوَ اجتباكم} اختاركم لدينِهِ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّين} فِي أَمر الدّين {مِنْ حَرَجٍ} من ضيق يَقُول من لم يسْتَطع أَن يُصَلِّي قَائِما فَليصل قَاعِدا وَمن لم يسْتَطع أَن يصلى مُضْطَجعا يومى إِيمَاء {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ} اتبعُوا دين أبيكم {إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ} الله سَمَّاكُم {الْمُسلمين مِن قَبْلُ} من قبل هَذَا الْقُرْآن فِي كتب الْأَنْبِيَاء {وَفِي هَذَا} الْقُرْآن {ليَكُون الرَّسُول} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {شَهِيداً عَلَيْكُمْ} مزكياً مُصدقا لكم {وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاس} لِلنَّبِيِّينَ {فَأَقِيمُواْ الصَّلَاة} فَأتمُّوا الصَّلَوَات الْخمس بوضوئها وركوعها وسجودها وَمَا يجب فِيهَا من مواقيتها {وَآتُواْ الزَّكَاة} أعْطوا زَكَاة أَمْوَالكُم {واعتصموا بِاللَّه} تمسكوا بدين الله وَكتابه {هُوَ مَوْلاَكُمْ} حافظكم {فَنِعْمَ الْمولى} الْحَافِظ {وَنِعْمَ النصير} الْمَانِع لكم
وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ وهى كلهَا مَكِّيَّة آياتها مائَة وتسع عشرَة وكلماتها ألف وَثَمَانمِائَة وَأَرْبَعُونَ وحروفها أَرْبَعَة آلَاف وَثَمَانمِائَة حرف
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(1/284)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} يَقُول قد فَازَ وَنَجَا وَسعد الموحدون بتوحيد الله أُولَئِكَ هم الوارثون الْجنَّة دون الْكفَّار وَيُقَال قد فَازَ وَنَجَا الْمُؤْمِنُونَ المصدقون بإيمَانهمْ والفلاح على وَجْهَيْن نجاح(1/284)
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
ثمَّ ذكر نعت الْمُؤمنِينَ فَقَالَ {الَّذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} مخبتون متواضعون لَا يلتفتون يَمِينا وَلَا شمالاً وَلَا يرفعون أَيْديهم فِي الصَّلَاة(1/284)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
{وَالَّذين هُمْ عَنِ اللَّغْو مُّعْرِضُونَ} عَن الْبَاطِل وَالْحلف تاركون لَهُ(1/284)
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
{وَالَّذين هم لِلزَّكَاةِ فاعلون} مؤدوون زَكَاة أَمْوَالهم(1/284)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
{وَالَّذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}(1/284)
يعفون فروجهم عَن الْحَرَام(1/285)
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
{إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ} أَربع نسْوَة {أَوْ مَا ملكت أَيْمَانهم} من الولائد بِغَيْر عدد {فَإِنَّهُم غَيْرُ مَلُومِينَ} بالحلال(1/285)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
{فَمَنِ ابْتغى وَرَآءَ ذَلِك} فَمن طلب سوى الْحَلَال {فَأُولَئِك هُمُ العادون} المعتدون الْحَلَال إِلَى الْحَرَام(1/285)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
{وَالَّذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ} لما ائتمنوا عَلَيْهِ مثل الصَّوْم وَالْوُضُوء والاغتسال من الْجَنَابَة والوديعة وَأَشْبَاه ذَلِك {وَعَهْدهمْ} فِيمَا بَينهم وَبَين الله أَو بَينهم وَبَين النَّاس {رَاعُونَ} حافظون لَهُ بِالْوَفَاءِ(1/285)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
{وَالَّذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ} لأوقات صلواتهم {يُحَافِظُونَ} لَهُ بِالْوَفَاءِ(1/285)
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
{أُولَئِكَ} أهل هَذِه الصّفة {هُمُ الوارثون} النازلون(1/285)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
{الَّذين يَرِثُونَ} ينزلون {الفردوس} مَقْصُورَة الرَّحْمَن والفردوس هُوَ الْبُسْتَان بِلِسَان الرومية {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فِي الْجنَّة مقيمون لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا(1/285)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان} ولد آدم {مِن سُلاَلَةٍ} سلة {مِّن طِينٍ} والطين هُوَ آدم(1/285)
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ} يَعْنِي مَاء السلالة {نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} فِي مَكَان حريز رحم أمه فَيكون نُطْفَة أَرْبَعِينَ يَوْمًا(1/285)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
{ثمَّ خلقنَا} ثمَّ حولنا {النُّطْفَة علقَة} دِمَاء عبيطاً فَتكون علقَة أَرْبَعِينَ يَوْمًا {فَخَلَقْنَا} فحولنا {الْعلقَة مُضْغَةً} لَحْمًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا {فَخَلَقْنَا} فحولنا {المضغة عِظَاماً} بِلَا لحم {فَكَسَوْنَا الْعِظَام لَحْماً} أوصالاً وعروقاً وَغير ذَلِك {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} جعلنَا فِيهِ الرّوح {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أحكم المحولين(1/285)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)
{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِك لَمَيِّتُونَ} تموتون(1/285)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة تُبْعَثُونَ} تحيون(1/285)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ} سبع سموات بَعْضهَا فَوق بعض مثل الْقبَّة {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخلق غَافِلِينَ} تاركين لَهُم بِلَا أَمر وَلَا نهى(1/285)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
{وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً} مَطَرا {بِقَدَرٍ} من الْمَعيشَة وَقيل بِمِقْدَار مَا يكفيكم {فَأَسْكَنَّاهُ} فأدخلناه {فِي الأَرْض} فَجعلنَا مِنْهُ الركي والعيون والأنهار والغدران {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ} على غور المَاء فِي الأَرْض {لَقَادِرُونَ}(1/285)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
{فَأَنشَأْنَا لَكُمْ} خلقنَا لكم وَيُقَال أنبتنا لكم {بِهِ} بِالْمَاءِ {جَنَّاتٍ} بساتين {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} كروم {لَّكُمْ فِيهَا} فِي الْبَسَاتِين {فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} ألوان فواكه كَثِيرَة {وَمِنْهَا} من ألوان الثِّمَار {تَأْكُلُونَ}(1/285)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
{وَشَجَرَةً} تنْبت بالمطر شَجَرَة وَهِي شَجَرَة الزَّيْتُون {تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ} من جبل مشجر وَالطور هُوَ الْجَبَل بِلِسَان النبط والسيناء هُوَ الْجَبَل المشجر بِلِسَان الْحَبَشَة {تَنبُتُ بالدهن} تخرج الدّهن {وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} وَمَا يصطبغ بِهِ الْآكِل(1/285)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَام} فِي الْإِبِل {لَعِبْرَةً} لعلامة {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا} من أَلْبَانهَا تخرج من بَين فرث وَدم لَبَنًا خَالِصا {وَلَكُمْ فيِهَا} فِي ركُوبهَا وَحملهَا {مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا} من لحومها وَأَلْبَانهَا وَأَوْلَادهَا {تَأْكُلُونَ}(1/285)
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
{وَعَلَيْهَا} على الْإِبِل يَعْنِي فِي الْبر {وَعَلَى الْفلك}(1/285)
على السفن فِي الْبَحْر {تُحْمَلُونَ} تسافرون(1/286)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
{وَلَقَدْ أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه فَقَالَ} لِقَوْمِهِ {يَا قوم اعبدوا الله} وحدوا الله {مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَه غَيره} غير الَّذِي أَمركُم أَن تؤمنوا بِهِ {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} عبَادَة غير الله(1/286)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)
{فَقَالَ الْمَلأ} الرؤساء {الَّذين كفرُوا من قومه مَا هَذَا} يعنون نوحًا {إِلاَّ بَشَرٌ} آدَمِيّ {مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} بالرسالة والنبوة {وَلَوْ شَآءَ الله} أَن يُرْسل إِلَيْنَا رَسُولا {لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً} أَي ملكا من الْمَلَائِكَة {مَّا سمعنَا بِهَذَا} الَّذِي يَقُول نوح {فِي} زمن {آبَآئِنَا الْأَوَّلين}(1/286)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
{إِنْ هُوَ} مَا هُوَ يعنون نوحًا {إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} جُنُون {فَتَرَبَّصُواْ} فانتظروا {بِهِ حَتَّى حِينٍ} إِلَى حِين يَمُوت(1/286)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
{قَالَ} نوح {رَبِّ انصرني} أَعنِي بِالْعَذَابِ {بِمَا كذبون} بالرسالة(1/286)
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
{فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ} أرسلنَا إِلَيْهِ جِبْرِيل {أَنِ اصْنَع الْفلك} أَن خُذ فِي علاج السَّفِينَة {بِأَعْيُنِنَا} بمنظر منا {وَوَحْيِنَا} بوحينا إِلَيْك {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} وَقت عذابنا {وَفَارَ التَّنور} نبع المَاء من التَّنور وَيُقَال طلع الْفجْر {فاسلك فِيهَا} فاحمل فِي السَّفِينَة {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} صنفين اثْنَيْنِ ذكر وَأُنْثَى {وَأَهْلَكَ} واحمل أهلك يَعْنِي من آمن بك {إِلاَّ مَن سَبَقَ} وَجب {عَلَيْهِ القَوْل} بِالْعَذَابِ {مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي} وَلَا تراجعني بِالدُّعَاءِ {فِي الَّذين ظلمُوا} فِي نجاة الَّذين كفرُوا من قَوْمك {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} بالطوفان(1/286)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
{فَإِذَا استويت أَنتَ} إِذا ركبت أَنْت {وَمَن مَّعَكَ} من الْمُؤمنِينَ {عَلَى الْفلك} على السَّفِينَة {فَقُلِ الْحَمد لِلَّهِ} الشُّكْر لله {الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْم الظَّالِمين} الْكَافرين(1/286)
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
{وَقُل} حِين تنزل من السَّفِينَة {رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} بِالْمَاءِ وَالشَّجر {وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة(1/286)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
{إِن فِي ذَلِك} فِيمَا فعلنَا بهم {لآيَات} لعلامات وعبرات لأهل مَكَّة لكَي يقتدوا بهم {وَإِن كُنَّا} وَقد كُنَّا {لَمُبْتَلِينَ} بالبلايا وَيُقَال مختبرين بالعقوبة(1/286)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)
{ثمَّ أنشأنا من بعدهمْ} خلقا من بعد هَلَاك قوم نوح {قَرْناً آخَرِينَ} قوما آخَرين(1/286)
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
{فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ} إِلَيْهِم {رَسُولاً مِّنْهُمْ} من نسبهم {أَنِ اعبدوا الله} وحدوا الله {مَا لَكُمْ من إِلَه غَيره} غير الَّذِي أَمركُم أَن تؤمنوا بِهِ {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} عبَادَة غير الله(1/286)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)
{وَقَالَ الْمَلأ} الرؤساء {مِن قَوْمِهِ} من قوم الرَّسُول {الَّذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الْآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {وَأَتْرَفْنَاهُمْ} أنعمناهم بِالْمَالِ وَالْولد {فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا مَا هَذَا} يعنون الرَّسُول {إِلاَّ بَشَرٌ} آدَمِيّ {مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ} كَمَا تَأْكُلُونَ مِنْهُ {وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} كَمَا تشربون(1/286)
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً} آدَمِيًّا {مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} جاهلون مغبونون(1/287)
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
{أَيَعِدُكُمْ} هَذَا الرَّسُول {أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ} صرتم {تُرَاباً} بعد الْمَوْت {وَعِظاماً} بالية {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} محيون بعد الْمَوْت(1/287)
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} بَعيدا بَعيدا {لِمَا تُوعَدُونَ} لَا يكون هَذَا(1/287)
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
{إِنْ هِيَ} مَا هِيَ {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} فِي الدُّنْيَا {نَمُوتُ وَنَحْيَا} يَمُوت الْآبَاء ويحيا الْأَبْنَاء {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} للبعث بعد الْمَوْت(1/287)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
{إِنْ هُوَ} مَا هُوَ يعنون الرَّسُول {إِلاَّ رَجُلٌ افترى} اختلق {على الله كَذِباً} بِمَا يَقُول {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين لَهُ بِمَا يَقُول(1/287)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)
{قَالَ} الرَّسُول {رَبِّ انصرني} أَعنِي بِالْعَذَابِ {بِمَا كذبون} بالرسالة(1/287)
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
{قَالَ} الله {عَمَّا قَلِيلٍ} عَن قَلِيل {لَّيُصْبِحُنَّ} ليصيرن {نَادِمِينَ} بالتكذيب عِنْد الْعقُوبَة(1/287)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة بِالْحَقِّ} يَعْنِي صَوت جِبْرِيل بِالْعَذَابِ {فَجَعَلْنَاهُمْ} بعد الْهَلَاك {غُثَآءً} يَابسا {فَبُعْداً} فسحقاً وخيبة من رَحْمَة الله {لِّلْقَوْمِ الظَّالِمين} للْكَافِرِينَ(1/287)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)
{ثُمَّ أَنشَأْنَا} خلقنَا {مِن بَعْدِهِمْ} من بعد هلاكهم {قرونا آخَرين} قرنا بعد قرن من قرن إِلَى قرن ثَمَان عشرَة سنة والقرن ثَمَانُون سنة(1/287)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ} مَا تهْلك من أمة {أَجَلَهَا} قبل أجلهَا {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} عَن الْأَجَل(1/287)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
{ثمَّ أرسلنَا رسلنَا تترا} متتابعاَ بَعْضهَا على أثر بعض {كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا} إِلَى أمة رَسُول {كَذَّبُوهُ} كذبُوا ذَلِك الرَّسُول {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} بِالْهَلَاكِ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} فِي دهرهم يحدث عَنْهُم {فَبُعْداً} فسحقاً من رَحْمَة الله {لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن(1/287)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا} التسع {وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} حجَّة بَيِّنَة(1/287)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} قومه {فاستكبروا} عَن الْإِيمَان بمُوسَى والآيات {وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ} مخالفين لمُوسَى مستكبرين عَن الْإِيمَان(1/287)
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
{فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ} لآدميين يعنون مُوسَى وَهَارُون {مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} مطيعون(1/287)
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
{فَكَذَّبُوهُمَا} بالرسالة {فَكَانُواْ مِنَ المهلكين} فصاروا من المغرقين فِي اليم(1/287)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
{وَلَقَد آتَيْنَا} أعطينا {مُوسَى الْكتاب} يعْنى التوارة {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} لكَي يهتدوا بهَا من الضَّلَالَة(1/287)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
{وَجَعَلْنَا ابْن مَرْيَمَ} يَعْنِي عِيسَى {وَأُمَّهُ آيَةً} عَلامَة وعبرة ولدا بِلَا أَب وولادة بِلَا لمس {وَآوَيْنَاهُمَآ} رجعناهما {إِلَى رَبْوَةٍ} إِلَى مَكَان مُرْتَفع {ذَاتِ قَرَارٍ} مستو ذَات نعيم {وَمَعِينٍ} مَاء ظَاهر جَار وَهُوَ دمشق(1/287)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
{يَا أَيهَا الرُّسُل} يَعْنِي مُحَمَّدًا {كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَات} كلوا من الْحَلَال {وَاعْمَلُوا صَالِحاً} اعْمَلْ صَالحا فِيمَا بَيْنك وَبَين رَبك(1/287)
{إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ} أَي بِمَا تعْمل يَا مُحَمَّد ويعملون من الْخَيْر {عَلِيمٌ} بثوابه(1/288)
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
{وَإِنَّ هَذِه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ملتكم مِلَّة وَاحِدَة ودينكم دينا وَاحِدًا مُخْتَارًا {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ} رب وَاحِد أكرمتكم بذلك {فاتقون} فأطيعون(1/288)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
{فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} فَتَفَرَّقُوا فِيمَا بَينهم فِي دينهم {زُبُراً} فرقا فرقا الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكين وَالْمَجُوس {كُلُّ حِزْبٍ} كل أهل دين وَفرْقَة {بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} معجبون(1/288)
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
{فَذَرْهُمْ} اتركهم يَا مُحَمَّد {فِي غَمْرَتِهِمْ} فِي جهلهم {حَتَّى حِينٍ} إِلَى حِين الْعَذَاب يَوْم بدر(1/288)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
{أَيَحْسَبُونَ} أيظن أهل الْفرق {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} لأنما نعطيهم فِي الدُّنْيَا {مِن مَّالٍ وَبَنِينَ}(1/288)
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
{نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخيرَات} مسارعة لَهُم منا فِي الْخيرَات فِي الدُّنْيَا وَيُقَال فِي الْآخِرَة {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} أَنا مكرمون لَهُم فِي الدُّنْيَا ومهينون لَهُم فِي الْآخِرَة(1/288)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
ثمَّ بيَّن لمن المسارعة فِي الْخيرَات فِي الدُّنْيَا فَقَالَ {إِنَّ الَّذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ} من عَذَاب رَبهم {مُّشْفِقُونَ} خائفون لَهُم منا مسارعة فِي الْخيرَات(1/288)
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)
{وَالَّذين هم بآيَات رَبهم} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {يُؤْمِنُونَ} يصدقون لَهُم منا مسارعة فِي الْخيرَات(1/288)
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
{وَالَّذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} الْأَوْثَان لَهُم منا مسارعة فِي الْخيرَات(1/288)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
{وَالَّذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ} يُعْطون مَا أعْطوا من الصَّدَقَة وينفقون مَا أتفقوا من المَال فِي سَبِيل الله وَيُقَال يعْملُونَ مَا عمِلُوا من الْخيرَات {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} خائفة {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} فِي الْآخِرَة فَلَا يقبل مِنْهُم(1/288)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
{أُولَئِكَ} أهل هَذِه الصّفة {يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات} يبادرون فِي الْأَعْمَال الصَّالِحَة {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} وهم سَابِقُونَ بالخيرات(1/288)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
{وَلَا تكلّف نفس} من الْعَمَل {إِلاَّ وُسْعَهَا} طاقتها {وَلَدَيْنَا} عندنَا {كِتَابٌ يَنطِقُ} وَهُوَ ديوَان الْحفظَة مَكْتُوب فِيهِ حسناتهم وسيئاتهم ينْطق {بِالْحَقِّ} يشْهد عَلَيْهِم بِالصّدقِ وَالْعدْل {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لَا ينقص من حسناتهم وَلَا يُزَاد على سيئاتهم(1/288)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
{بَلْ قُلُوبُهُمْ} قُلُوب أهل مَكَّة يَعْنِي أَبَا جهل وَأَصْحَابه {فِي غَمْرَةٍ} فِي جهلة وغفلة {مِّنْ هَذَا} الْكتاب وَيُقَال من هَذَا الْقُرْآن {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} مَقْدُور مَكْتُوب عَلَيْهِم {مِّن دُونِ ذَلِك} من دون مَا تَأْمُرهُمْ سوى الْخَيْر {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} فِي الدُّنْيَا حَتَّى أَجلهم يَا مُحَمَّد(1/288)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
{حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} جبابرتهم ورؤساءهم يَعْنِي أَبَا جهل بن هِشَام والوليد ابْن الْمُغيرَة المَخْزُومِي وَالْعَاص بن وَائِل السَّهْمِي وَعتبَة وَشَيْبَة أَصْحَابهم {بِالْعَذَابِ} بِالْجُوعِ سبع سِنِين {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} يَتَضَرَّعُونَ قل لَهُم يَا مُحَمَّد(1/288)
لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
{لاَ تَجْأَرُواْ} لَا تتضرعوا {الْيَوْم} من عذابنا {إِنَّكُمْ مِّنَّا} من عذابنا {لاَ تُنصَرُونَ} لَا تمْنَعُونَ(1/288)
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي} الْقُرْآن {تتلى} تقْرَأ وَتعرض {عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} إِلَى دينكُمْ الأول تميلون ترجعون(1/288)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
{مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} متعظمين بِالْبَيْتِ تَقولُونَ نَحن أَهله {سَامِراً} تَقولُونَ السمر حوله {تَهْجُرُونَ} تسبون مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَالْقُرْآن(1/288)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القَوْل} أفلم يتفكروا فِي الْقُرْآن وَمَا فِيهِ من الْوَعيد {أَمْ جَآءَهُمْ} من الْأَمْن والبراءة يَعْنِي أهل مَكَّة {مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الْأَوَّلين}(1/288)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ} نسب رسولهم {فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} جاحدون(1/288)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
{أَمْ يَقُولُونَ} بل يَقُولُونَ {بِهِ جِنَّةٌ} جُنُون {بل جَاءَهُم بِالْحَقِّ} جَاءَهُم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقُرْآنِ والتوحيد والرسالة {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ} لِلْقُرْآنِ {كَارِهُونَ} جاحدون(1/288)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
{وَلَوِ اتبع الْحق أَهْوَآءَهُمْ} لَو كَانَ الْإِلَه بهواهم فِي السَّمَاء إِلَه وَفِي الأَرْض إِلَه {لَفَسَدَتِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَن فِيهِنَّ} من الْخلق {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أنزلنَا جِبْرِيل إِلَى نَبِيّهم بِالْقُرْآنِ فِيهِ عزهم وشرفهم {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ} عَن شرفهم وعزهم {مُّعْرِضُونَ} مكذبون(1/289)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ} يَا مُحَمَّد أهل مَكَّة {خَرْجاً} جعلا فَلذَلِك لَا يجيبونك {فَخَرَاجُ رَبِّكَ} فثواب رَبك فِي الْجنَّة {خَيْرٌ} أفضل مِمَّا لَهُم فِي الدُّنْيَا {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} أفضل المعطين فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة(1/289)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
{وَإِنَّكَ} يَا مُحَمَّد {لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} دين قَائِم يرضاه وَهُوَ الْإِسْلَام(1/289)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
{وَأَن الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {عَنِ الصِّرَاط} عَن دين الله {لَنَاكِبُونَ} مائلون(1/289)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ} يَعْنِي أهل مَكَّة {وَكَشَفْنَا} رفعنَا {مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ} من جوع {لَّلَجُّواْ} لتمادوا {فِي طُغْيَانِهِمْ} فِي كفرهم وضلالتهم {يَعْمَهُونَ} يمضون عمهة لَا يبصرون الْحق وَالْهدى(1/289)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} بِالْجُوعِ والقحط {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} فَمَا خضعوا لرَبهم بِالتَّوْحِيدِ {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} لَا يُؤمنُونَ(1/289)
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
{حَتَّى} أَجلهم يَا مُحَمَّد {إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} يَعْنِي الْجُوع {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} آيسون من كل خير(1/289)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ} خلق لكم يَا أهل مَكَّة {السّمع} تَسْمَعُونَ بِهِ {والأبصار} تبصرون بهَا {والأفئدة} يَعْنِي الْقُلُوب تعقلون بهَا {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} فشكركم فِيمَا صنع إِلَيْكُم قَلِيل يَا أهل مَكَّة(1/289)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ} خَلقكُم {فِي الأَرْض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} بعد الْمَوْت فيجزيكم بأعمالكم(1/289)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
{وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي} للبعث {وَيُمِيتُ} فِي الدُّنْيَا {وَلَهُ اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} تقليب اللَّيْل وَالنَّهَار وذهابهما ومجيئهما وزيادتهما ونقصانهما وظلمة اللَّيْل وضوء النَّهَار كل هَذَا آيَة لكم بِأَن الله يحيي الْمَوْتَى {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أَفلا تصدقُونَ بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت(1/289)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)
{بَلْ قَالُواْ} كذبُوا بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت يَعْنِي كفار مَكَّة {مِثْلَ مَا قَالَ الْأَولونَ} مثل مَا كذب الْأَولونَ بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت(1/289)
قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
{قَالُوا أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} صرنا تُرَابا رميماً {وَعِظَاماً} بالية {أئنا لَمَبْعُوثُونَ} لمحيون بعد الْمَوْت(1/289)
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَذَا} الَّذِي تعدنا يَا مُحَمَّد {مِن قَبْلُ} من قبل مَا وعدتنا {إِن هَذَا} مَا هَذَا الَّذِي تَقول يَا مُحَمَّد {إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلين} أَحَادِيث الْأَوَّلين فِي دهرهم وكذبهم(1/289)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
{قُل} لكفار مَكَّة يَا مُحَمَّد {لِّمَنِ الأَرْض وَمَن فِيهَآ} من الْخلق أجِيبُوا {إِن كُنتُمْ تعلمُونَ}(1/289)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
{سيقولون لله قل} يَا مُحَمَّد {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أَفلا تتعظون فتطيعون الله(1/289)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)
{قُلْ} لَهُم أَيْضا يَا مُحَمَّد {مَن رَّبُّ} خَالق {السَّمَاوَات السَّبع وَرَبُّ الْعَرْش الْعَظِيم} السرير الْكَرِيم {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} الله خلقهَا(1/289)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} عبَادَة غير الله(1/289)
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
{قُلْ} لَهُم أَيْضا يَا مُحَمَّد {مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} خَزَائِن كل شَيْء {وَهُوَ يُجْيِرُ} يقْضِي {وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} لَا يقْضى عَلَيْهِ وَيُقَال هُوَ يجير الْخلق من عَذَابه وَلَا يجار عَلَيْهِ لَا يجير أحد أحدا من عَذَابه أجِيبُوا {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}(1/290)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
{سيقولون لله} بيد الله بقارة الله ذَلِك كُله {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {فَأنى تُسْحَرُونَ} من أَيْن تكذبون على الله وَيُقَال انْظُر يَا مُحَمَّد كَيفَ يصرفون بِالْكَذِبِ إِن قَرَأت بِضَم التَّاء(1/290)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} أرسلنَا جِبْرِيل إِلَى نَبِيّهم بِالْقُرْآنِ فِيهِ أَن لَيْسَ لله ولد وَلَا شريك {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فِي قَوْلهم إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله(1/290)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
{مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ} من بني آدم وَلَا بَنَات من الْمَلَائِكَة {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} من شريك {إِذاً} لَو كَانَ كَمَا يَقُولُونَ {لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَه بِمَا خَلَقَ} إِلَى نَفسه فاستولى كل إِلَه على مَا خلق {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} لغلب بَعضهم على بعض {سُبْحَانَ الله} نزه نَفسه وَيُقَال ارْتَفع وتبرأ {عَمَّا يَصِفُونَ} يَقُولُونَ من الْكَذِب(1/290)
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
{عَالِمِ الْغَيْب} مَا غَابَ عَن الْعباد وَيُقَال مَا يكون {وَالشَّهَادَة} أعلمهُ الْعباد وَيُقَال مَا كَانَ {فتعالى} فتبرأ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} بِهِ من الْأَوْثَان(1/290)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)
{قُل} يَا مُحَمَّد {رَّبِّ} يَا رب {إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} من الْعَذَاب(1/290)
رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
{رَبِّ} يَا رب {فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْم الظَّالِمين} مَعَ الْقَوْم الْكَافرين يَوْم بدر(1/290)
وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
{وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ} يَا مُحَمَّد {مَا نَعِدُهُمْ} من الْعَذَاب يَوْم بدر {لَقَادِرُونَ}(1/290)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيئَة} يَقُول ادْفَعْ بِلَا إِلَه إِلَّا الله كلمة الشّرك عَن أبي جهل وَأَصْحَابه وَيُقَال السَّلَام الْقَبِيح عَن نَفسك {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} من الْكَذِب(1/290)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
{وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ} أَعْتَصِم بك {مِنْ همزات} نزعات {الشَّيَاطِين} الَّتِي يصرع بهَا الرجل(1/290)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} من أَن يحضروني يَعْنِي الشَّيَاطِين فِي الصَّلَاة وَعند الْقِرَاءَة وَعند الْمَوْت(1/290)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
{حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ} يَعْنِي كفار مَكَّة {الْمَوْت} يَعْنِي ملك الْمَوْت وأعوانه لقبض روحهم {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} إِلَى الدُّنْيَا(1/290)
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
{لعَلي أعمل صَالحا} وأومن بك {فِيمَا تَرَكْتُ} فِي الَّذِي تركت فِي الدُّنْيَا وكذبت بِهِ {كَلاَّ} حَقًا يرد إِلَى الدُّنْيَا {إِنَّهَا} يَعْنِي الرّجْعَة {كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} يتَكَلَّم بهَا صَاحبهَا وَلَا تَنْفَعهُ {وَمِن وَرَآئِهِمْ} قدامهم {بَرْزَخٌ} يَعْنِي الْقَبْر {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} من الْقُبُور(1/290)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّور} نفخة الْبَعْث {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} فَلَا نفع بَينهم بِالنّسَبِ {يَوْمَئِذٍ} يَوْم الْقِيَامَة {وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} عَن ذَلِك(1/290)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)
{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} مِيزَانه من الْحَسَنَات {فَأُولَئِك هم المفلحون} الناجون من السخط وَالْعَذَاب(1/290)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} مِيزَانه من الْحَسَنَات {فَأُولَئِك الَّذين خسروا} غبنوا {أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} مقيمون دائمون لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا(1/290)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّار} تضرب وُجُوههم وَتحرق عظامهم وتأكل لحومهم النَّار {وَهُمْ فِيهَا} فِي النَّار {كَالِحُونَ} وكلحهم سَواد وُجُوههم وزرقة أَعينهم(1/290)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
{أَلَمْ تَكُنْ} يَقُول الله لَهُم ألم تكن {آيَاتِي} الْقُرْآن {تتلى عَلَيْكُمْ} فِي الدُّنْيَا {فَكُنْتُمْ بِهَا} بِالْآيَاتِ {تُكَذِّبُونَ} تجحدون(1/290)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
{قَالُواْ} الْكفَّار وهم فِي النَّار {رَبَّنَا} يَا رَبنَا {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} الَّتِي كتبت علينا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَلم نؤمن(1/290)
{وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ} كَافِرين(1/291)
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
{رَبَّنَآ} يَا رَبنَا {أَخْرِجْنَا مِنْهَا} من النَّار {فَإِنْ عُدْنَا} إِلَى الْكفْر {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} على أَنْفُسنَا(1/291)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
{قَالَ} الله لَهُم {اخسؤوا فِيهَا} اصغروا فِي النَّار {وَلاَ تُكَلِّمُونِ} وَلَا تسألونى فى الْخُرُوج من النَّار(1/291)
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ} طَائِفَة {مِّنْ عِبَادِي} الْمُؤمنِينَ {يَقُولُونَ رَبَّنَآ} يَا رَبنَا {آمَنَّا} بك وبكتابك وَرَسُولك {فَاغْفِر لَنَا} ذنوبنا {وارحمنا} فَلَا تعذبنا {وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} أَنْت أرْحم علينا من الْوَالِدين(1/291)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
{فاتخذتموهم سِخْرِيّاً} استهزاء {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} حَتَّى شغلكم ذَلِك عَن توحيدي وطاعتي {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} عَلَيْهِم تستهزئون(1/291)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْم} الْجنَّة {بِمَا صَبَرُوا} على طَاعَتي وعَلى أذاكم {أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون} فازوا بِالْجنَّةِ ونجوا من النَّار نزلت هَذِه الْآيَة فِي أبي جهل وَأَصْحَابه لاستهزائهم على سلمَان وَأَصْحَابه(1/291)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
{قَالَ} الله لَهُم {كَمْ لَبِثْتُمْ} مكثتم {فِي الأَرْض} فِي الْقُبُور {عَدَدَ سِنِينَ} الشُّهُور وَالْأَيَّام(1/291)
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)
{قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً} ثمَّ شكوا فِي ذَلِك فَقَالُوا {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ثمَّ قَالُوا لَا ندرى ذَلِك {فاسأل العآدين} الْحفظَة وَيُقَال ملك الْمَوْت وأعوانه(1/291)
قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
{قَالَ} الله لَهُم {إِن لَّبِثْتُمْ} مَا مكثتم فِي الْقُبُور {إِلاَّ قَلِيلاً} عِنْد مكثكم فِي النَّار {لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ذَلِك يَقُول إِن كُنْتُم تصدقُونَ قولي وَيُقَال يَقُول الله لَهُم لَو أَنكُمْ إِن كُنْتُم فِي الدُّنْيَا تعلمُونَ تصدقُونَ أنبيائي إِذا لعلمتم إِن لبثتم مَا مكثتم فِي الْقُبُور إِلَّا قَلِيلا مقدم ومؤخر(1/291)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
{أَفَحَسِبْتُمْ} أفظننتم يَا أهل مَكَّة {أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} هملاً بِلَا أَمر وَلَا نهي وَلَا ثَوَاب وَلَا عِقَاب {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} بعد الْمَوْت(1/291)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
{فَتَعَالَى الله} ارْتَفع وتبرأ عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {الْملك الْحق لاَ إِلَه إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْش الْكَرِيم} السرير الْحسن(1/291)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
{وَمَن يَدْعُ} يعبد {مَعَ الله إِلَهاً آخَرَ} من الْأَوْثَان {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} لَا حجَّة لَهُ مِمَّا يعبد من دون الله {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ} عَذَابه {عِندَ رَبِّهِ} فِي الْآخِرَة {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} لَا يَأْمَن وَلَا ينجو {الْكَافِرُونَ} من عَذَاب الله(1/291)
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
{وَقُل} يَا مُحَمَّد {رَّبِّ اغْفِر} تجَاوز عَن أمتِي {وَارْحَمْ} أمتِي فَلَا تُعَذبهُمْ {وَأنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} أرْحم الرَّاحِمِينَ
وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا النُّور وهى كلهَا مَدَنِيَّة وآياتها أَربع وَسِتُّونَ آيَة وكلماتها ألف وثلاثمائة وَسِتَّة عشر وحروفها خَمْسَة آلَاف وَتِسْعمِائَة وَثَمَانُونَ
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(1/291)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} يَقُول أنزلنَا جِبْرِيل بهَا برد الْهَاء إِلَيْهَا {وَفَرَضْنَاهَا} بيّنا فِيهَا الْحَلَال وَالْحرَام {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ} بيَّنا فِيهَا {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والفرائض وَالْحُدُود {لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لكَي تتعظوا بِالْأَمر وَالنَّهْي فَلَا تعطلوا الْحُدُود(1/291)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
{الزَّانِيَة وَالزَّانِي} وهما بكران زَنَيَا {فاجلدوا كُلَّ وَاحِد مِنْهُمَا} بِالزِّنَا {مائَة جَلْدَةٍ} سَوط {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا} بِإِقَامَة الْحَد عَلَيْهِمَا {رَأْفَةٌ} رقة {فِي دِينِ الله} فِي تَنْفِيذ حكم الله عَلَيْهِمَا {إِن كُنتُمْ} إِذْ كُنْتُم {تُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} وليحضر عِنْد إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِمَا {طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤمنِينَ} رجلا أَو رجلَانِ فَصَاعِدا لكَي يحفظوا الْحَد(1/292)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
{الزَّانِي} من أهل الْكتاب الْمُعْلن بِهِ {لاَ يَنكِحُ} لَا يتَزَوَّج {إِلاَّ زَانِيَةً} من ولائد أهل الْكتاب {أَوْ مُشْرِكَةً} من ولائد مُشْركي الْعَرَب {والزانية} من ولائد أهل الْكتاب أَو من ولائد الْمُشْركين {لاَ يَنكِحُهَآ} لَا يَتَزَوَّجهَا {إِلاَّ زَانٍ} من أهل الْكتاب {أَوْ مُشْرِكٌ} من مُشْركي الْعَرَب {وَحُرِّمَ ذَلِك} التَّزْوِيج يَعْنِي تَزْوِيج ولائد أهل الْكتاب وولائد أَحْرَار الْمُشْركين {عَلَى الْمُؤمنِينَ} نزلت هَذِه الْآيَة فِي قوم من أَصْحَاب النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادوا أَن يتزوجوا ولائد أهل الْكتاب وولائد أَحْرَار الْمُشْركين كن بِالْمَدِينَةِ زناة معلنات بِالزِّنَا رَغْبَة فِي كَسْبهنَّ فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة تركُوا ذَلِك وَيُقَال الزَّانِي من أهل الْقبْلَة أَو من أهل الْكتاب لَا ينْكح لَا يَزْنِي إِلَّا زَانِيَة إِلَّا بزانية مثله أَو من أهل الْكتاب أَو مُشركَة من مُشْركي الْعَرَب والزانية من أهل الْقبْلَة أَو من أهل الْكتاب أَو من مُشْركي الْعَرَب لَا ينْكِحهَا لَا يَزْنِي بهَا إِلَّا زَان من أهل الْقبْلَة أَو من أهل الْكتاب أَو مُشْرك من مُشْركي الْعَرَب وَحرم ذَلِك الزِّنَا على الْمُؤمنِينَ(1/292)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
{وَالَّذين يَرْمُونَ الْمُحْصنَات} يقذفون الْحَرَائِر المسلمات العفائف بالفرية {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} أَحْرَار عدُول مُسلمين {فَاجْلِدُوهُمْ} بالفرية {ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} العاصون بالفرية(1/292)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{إِلاَّ الَّذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِك} من بعد الْفِرْيَة {وَأَصْلَحُواْ} فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {فَإِنَّ الله غَفُورٌ} لمن تَابَ {رَّحِيمٌ} لمن مَاتَ على التَّوْبَة نزلت هَذِه الْآيَة من أَولهَا إِلَى هَهُنَا فِي شَأْن عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه(1/292)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
{وَالَّذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} نِسَاءَهُمْ بالفرية {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ} على مَا قَالُوا {إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّه} فَيحلف الرجل أَربع مَرَّات بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقين} فِي قَوْله على الْمَرْأَة(1/292)
وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)
{وَالْخَامِسَة أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ} وَفِي الْمرة الْخَامِسَة يَقُول لعنة الله على الرجل {إِن كَانَ من الْكَاذِبين} فِيمَا قَالَ عَلَيْهَا(1/292)
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)
{ويدرأ} يَعْنِي يدْفع الْحَاكِم {عَنْهَا الْعَذَاب} عَن الْمَرْأَة الْعَذَاب بِالرَّجمِ {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّه} إِذا حَلَفت الْمَرْأَة أَربع مَرَّات بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ {إِنَّهُ} يَعْنِي زَوجهَا {لَمِنَ الْكَاذِبين} فِيمَا قَالَ عَلَيْهَا(1/292)
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
{وَالْخَامِسَة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ} على الْمَرْأَة {إِن كَانَ} زَوجهَا {مِنَ الصَّادِقين} فِيمَا يَقُول عَلَيْهَا(1/292)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
{وَلَوْلَا فضل الله} من الله {عَلَيْكُم وَرَحمته} لبيَّن الْكَاذِب مِنْكُم {وَأَنَّ الله تَوَّابٌ} متجاوز لمن تَابَ {حَكِيمٌ} حكم للعان بَين الرجل وَالْمَرْأَة بالفرية نزلت هَذِه الْآيَة فِي عَاصِم بن عدي الْأنْصَارِيّ ابتلى بِهَذَا(1/292)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
{إِن الَّذين جاؤوا بالإفك} تكلمُوا بِالْكَذِبِ {عُصْبَةٌ} جمَاعَة {مِّنْكُمْ} نزلت فِي عبد الله بن أبي ابْن سلول الْمُنَافِق وَحسان بن ثَابت الْأنْصَارِيّ ومسطح بن أَثَاثَة بن خَالَة أبي بكر الصّديق وَعباد بن عبد الْمطلب وَحمْنَة بنت جحش الأَسدِية فِيمَا قَالُوا على عَائِشَة وَصَفوَان بن الْمُعَطل من الْفِرْيَة {لاَ تَحْسَبُوهُ} يَعْنِي الْقَذْف لعَائِشَة وَصَفوَان {شَرّاً لَّكُمْ} فِي الْآخِرَة {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} فى الثَّوَاب {لكل امْرِئ مِّنْهُمْ} مِمَّن خَاضَ فِي أَمر عَائِشَة وَصَفوَان بن الْمُعَطل {مَّا اكْتسب مِنَ الْإِثْم} على قدر مَا خَاضَ فِيهِ {وَالَّذِي تولى كِبْرَهُ} أشاع وَأعظم الْمقَالة فِيهِ وَهُوَ عبد الله بن أبي {مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فِي الدُّنْيَا بِالْحَدِّ وَفِي الْآخِرَة بالنَّار(1/292)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
{لَوْلَا} هلا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} قذف عَائِشَة وَصَفوَان(1/292)
{ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفُسِهِمْ} بأمهاتهم {خَيْراً} يَقُول هلا ظننتم بعائشة أم الْمُؤمنِينَ كَمَا تظنون بِأُمَّهَاتِكُمْ {وَقَالُوا} هلا قُلْتُمْ {هَذَا} الْقَذْف {إفْك مُبين} كذب بَين(1/293)
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
{لَوْلَا جاؤوا عَلَيْهِ} هلا جَاءُوا على مَا قَالُوا {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} عدُول فيصدقونهم بذلك {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ} بأَرْبعَة شُهَدَاء {فَأُولَئِك عِندَ الله هُمُ الْكَاذِبُونَ} ثمَّ نزل فِي شَأْن الَّذين لم يقذفوا عَائِشَة وَصَفوَان بن الْمُعَطل وَلَكِن خَاضُوا فِيهِ(1/293)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
{وَلَوْلَا فضل الله} من الله {عَلَيْكُم وَرَحمته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لمسكم} لأصابكم {فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} خضتم فِي شَأْن عَائِشَة وَصَفوَان {عَذَابٌ عَظِيمٌ} شَدِيد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة(1/293)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} إِذْ يرويهِ بَعْضكُم عَن بعض {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ} بألسنتكم {مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} حجَّة وَبَيَان {وَتَحْسَبُونَهُ} يَعْنِي قذف عَائِشَة وَصَفوَان {هَيِّناً} ذَنبا هيناً {وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ} فِي الْعقُوبَة(1/293)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
{وَلَوْلَا} هلا {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} قذف عَائِشَة وَصَفوَان {قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ} مَا يجوز لنا {أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا} الْكَذِب {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} كذب عَظِيم(1/293)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)
{يَعِظُكُمُ الله} يخوفكم الله وينهاكم {أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ} أَن لَا تعودوا إِلَى مثله {أَبَداً إِن كُنتُمْ} إِذْ كُنْتُم {مُّؤْمِنِينَ} مُصدقين(1/293)
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
{وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الْآيَات} بِالْأَمر وَالنَّهْي {وَالله عَلِيمٌ} بمقالتكم {حَكِيمٌ} فِيمَا حكم عَلَيْكُم من الْحَد(1/293)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
{إِن الَّذين يحبونَ} يعْنى عبد الله ابْن أبي وَأَصْحَابه {أَن تَشِيعَ} أَن تظهر {الْفَاحِشَة فِي الَّذين آمَنُواْ} عَائِشَة وَصَفوَان {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بِالضَّرْبِ {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} بالنَّار لعبد الله بن أبي خَاصَّة {وَالله يَعْلَمُ} أَن عَائِشَة وَصَفوَان لم يزنيا {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذَلِك(1/293)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
{وَلَوْلَا فضل الله} من الله {عَلَيْكُم وَرَحمته} على من لم يقذف عَائِشَة وَصَفوَان {وَأَنَّ الله رؤوف رَحِيم} بِالْمُؤْمِنِينَ(1/293)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
ثمَّ نَهَاهُم عَن مُتَابعَة الشَّيْطَان فَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَان} تَزْيِين الشَّيْطَان ووسوسته {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَان} تَزْيِين الشَّيْطَان ووسوسته {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء} بالقبيح من الْعَمَل وَالْقَوْل {وَالْمُنكر} مَالا يعرف فِي شَرِيعَة وَلَا فِي سنة {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله} من الله {عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بالعصمة والتوفيق {مَا زكا} مَا وحد وَصلح {مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِن الله يُزَكِّي} يوفق وَيصْلح {مَن يَشَآءُ} من كَانَ أَهلا لذَلِك {وَالله سَمِيعٌ} لمقالتكم {عَلِيمٌ} بكم وبأعمالكم(1/293)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
ثمَّ نزل فِي شَأْن أبي بكر حِين حلف أَنه لَا ينْفق على ذَوي قرَابَته لقبل مَا خَاضُوا فِي أَمر عَائِشَة يَعْنِي مسطحًا وَأَصْحَابه فَقَالَ {وَلاَ يَأْتَلِ} لَا يَنْبَغِي أَن يحلف {أُوْلُواْ الْفضل مِنكُمْ} بالبذل {وَالسعَة} بِالْمَالِ {أَن يؤتوا أُوْلِي الْقُرْبَى} أَن لَا يؤتوا أَي لَا يُعْطوا أَو لَا ينفقوا على ذَوي الْقَرَابَة وَكَانَ مسطح ابْن خَالَته {وَالْمَسَاكِين} وَكَانَ مِسْكينا(1/293)
{والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله وَكَانَ مهاجرياً {وَلْيَعْفُواْ} يتْركُوا {وليصفحوا} يتجاوزوا {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} أَلا تحب يَا أَبَا بكر أَن يغْفر الله لَك {وَالله غَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} لمن تَابَ فَقَالَ أَبُو بكر بلَى أحب يَا رب فألطف بقرابته وَأحسن إِلَيْهِ بعد مَا نزلت هَذِه الْآيَة(1/294)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
ثمَّ نزل فِي شَأْن عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه الَّذين خَاضُوا فِي أَمر عَائِشَة وَصَفوَان فَقَالَ {إِنَّ الَّذين يَرْمُونَ} بِالزِّنَا {الْمُحْصنَات} الْحَرَائِر {الْغَافِلَات} عَن الزِّنَا العفائف {الْمُؤْمِنَات} المصدقات بتوحيد الله يَعْنِي عَائِشَة {لُعِنُواْ} عذبُوا {فِي الدُّنْيَا} بِالْجلدِ {وَالْآخِرَة} بالنَّار يَعْنِي عبد الله بن أبي {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} شَدِيد أَشد مِمَّا يكون فِي الدُّنْيَا يَعْنِي عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه(1/294)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
{يَوْمَ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ} على عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {أَلْسِنَتُهُمْ} بِمَا قَالُوا {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فِي الدُّنْيَا(1/294)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
{يَوْمَئِذٍ} يَوْم الْقِيَامَة {يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الْحق} يوفيهم الله جَزَاء أَعْمَالهم بِالْعَدْلِ {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله} يَعْنِي أَن مَا قَالَ الله فِي الدُّنْيَا {هُوَ الْحق الْمُبين}(1/294)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
وَنزل فيهم أَيْضا {الخبيثات} من القَوْل وَالْفِعْل {لِلْخَبِيثِينَ} من الرِّجَال وَالنِّسَاء وَيُقَال بهم تلِيق {والخبيثون} من الرِّجَال وَالنِّسَاء {لِلْخَبِيثَاتِ} من القَوْل وَالْفِعْل يتبعُون وَيُقَال بهم تلِيق وَيُقَال الخبيثات من النِّسَاء حمْنَة بنت جحش الأَسدِية الَّتِي خاضت فِي أَمر عَائِشَة للخبيثين من الرِّجَال عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه وَحسان بن ثَابت تشبه والخبيثون من الرِّجَال عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه للخبيثات من النِّسَاء اللَّاتِي خضن فِي أَمر عَائِشَة تشبه {والطيبات} من القَوْل وَالْفِعْل {لِلطَّيِّبِينَ} من الرِّجَال وَالنِّسَاء وَيُقَال بهم تلِيق {والطيبون} من الرِّجَال وَالنِّسَاء {لِلْطَّيِّبَاتِ} من القَوْل وَالْفِعْل يتبعُون وَيُقَال بهم تلِيق وَيُقَال والطيبات من النِّسَاء يَعْنِي عَائِشَة للطيبين من الرِّجَال يعْنى النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للطيبات يَعْنِي عَائِشَة تشبه {أُولَئِكَ} عَائِشَة وَصَفوَان {مبرؤون مِمَّا يَقُولُونَ} عَلَيْهِم من الْفِرْيَة {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم فِي الدُّنْيَا {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فِي الْجنَّة يَقُول إِذا أثني على الرجل وَالْمَرْأَة ثَنَاء حسنا وَكَانَا أَهلا لذَلِك صدق بِهِ عَلَيْهِمَا وَيَقُول من سَمعه هما كَذَلِك وَإِذا أثني على الرجل وَالْمَرْأَة الخبيثين ثَنَاء سَيِّئًا وَكَانَا أَهلا لَهُ صدق بِهِ عَلَيْهِمَا وَيَقُول من سَمعه هما كَذَلِك(1/294)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
ثمَّ نَهَاهُم عَن دُخُول بَعضهم على بعض بِغَيْر إِذن فَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} لَيْسَ لكم أَن تدْخلُوا بُيُوتًا {حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} ثمَّ تستأنسوا فَيَقُول أَدخل مقدم ومؤخر {ذَلِكُم} التَّسْلِيم والاستئذان {خَيْرٌ لَّكُمْ} وَأصْلح {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لكَي تتعظوا فَلَا يدْخل بَعْضكُم على بعض بِغَيْر إِذن(1/294)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ} فِي الْبيُوت {أَحَداً} يَأْذَن لكم {فَلاَ تَدْخُلُوهَا} بِغَيْر إِذن {حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ} بِالدُّخُولِ {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجعُوا} إِن ردوكم {فَارْجِعُوا} وَلَا تقوموا على أَبْوَاب النَّاس {هُوَ} الرُّجُوع {أزكى لَكُمْ} أصلح لكم من أَن تقوموا على أَبْوَاب النَّاس {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الاسْتِئْذَان وَغَيره {عَلِيمٌ}(1/294)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
ثمَّ رخص لَهُم فِي الدُّخُول فِي بيُوت غير بُيُوتهم بِغَيْر إِذن وَهِي الْخَانَات على الطّرق فَقَالَ {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} حرج {أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} لَيْسَ فِيهَا سَاكن مَعْلُوم مثل الْخَانَات وَغير ذَلِك {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} مَنْفَعَة لكم من الْحر وَالْبرد فِي الشتَاء والصيف {وَالله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} من الاسئذان وَالتَّسْلِيم {وَمَا تَكْتُمُونَ} من الْجَواب وَالْإِذْن(1/294)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
ثمَّ أَمرهم بِحِفْظ الْعين والفرج فَقَالَ {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ} يَا مُحَمَّد {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} يكفوا أَبْصَارهم عَن الْحَرَام وَمن صلَة فِي الْكَلَام {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} عَن الْحَرَام {ذَلِك} حفظ الْعين والفرج (أزكى) أصلح {لَهُمْ} وَخير لَهُم {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر(1/294)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
{وَقُل} يَا مُحَمَّد {لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ} يكففن {مِنْ أبصارهن} عَن الْحَرَام ورؤية الرِّجَال من صلَة فِي الْكَلَام {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} عَن الْحَرَام {وَلاَ يُبْدِينَ} وَلَا يظهرن {زِينَتَهُنَّ} الدملوج والوشاح {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} من ثِيَابهَا {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ}(1/294)
يرخين قناعهن {على جُيُوبِهِنَّ} على صدورهن ونحورهن وليشدن ذَلِك ثمَّ ذكر الزِّينَة أَيْضا فَقَالَ {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} الدملوج والوشاح وَغير ذَلِك {إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} أَزوَاجهنَّ {أَوْ آبَآئِهِنَّ} فِي النّسَب أَو اللَّبن {أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ} أَو آبَاء أَزوَاجهنَّ {أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ} فِي النّسَب أَو اللَّبن {أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ} أَبنَاء أَزوَاجهنَّ من غَيْرهنَّ {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} فِي النّسَب أَو اللَّبن {أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ} فِي النّسَب أَو اللَّبن {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} فِي النّسَب أَو اللَّبن {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} نسَاء أهل دينهن المسلمات لِأَنَّهُ لَا يحل لَهَا أَن ترَاهَا متجردة يَهُودِيَّة أَو نَصْرَانِيَّة أَو مَجُوسِيَّة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} من الْإِمَاء دون العبيد {أَوِ التَّابِعين} لِأَزْوَاجِهِنَّ {غَيْرِ أُوْلِي الإربة} الشَّهْوَة {مِنَ الرِّجَال} وَالنِّسَاء يعى الْخصي وَالشَّيْخ الْكَبِير الفاني {أَوِ الطِّفْل} يَعْنِي الصَّغِير {الَّذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} لم يطيقوا المجامعة مَعَ النِّسَاء وَلَا (النِّسَاء) مَعَهم من الصغر وَلَا يعلمُونَ من أَمر الرِّجَال وَالنِّسَاء شَيْئا فَلَا بَأْس بِأَن يرى زينتهن هَؤُلَاءِ بِغَيْر رِيبَة {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى لتقرع الخلخال بالخلخال {لِيُعْلَمَ} لكَي يعلم وَيظْهر {مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} مَا يوارين من زينتهن يَعْنِي الخلاخل عِنْد الْغَرِيب {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً} من جَمِيع الذُّنُوب الصَّغَائِر والكبائر {أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكَي تنجوا من السخط وَالْعَذَاب(1/295)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
ثمَّ دلهم على تَزْوِيج الْبَنِينَ وَالْبَنَات وَالإِخْوَة وَالْأَخَوَات مِمَّن لَيْسَ لَهُم أَزوَاج فَقَالَ {وَأَنْكِحُواْ} زوجوا {الْأَيَامَى مِنْكُمْ} بناتكم وأخواتكم وَيُقَال بنيكم وأخواتكم مِمَّن لَيْسَ لَهُم أَزوَاج {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} وزوجوا الصَّالِحين من عبيدكم {وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ} يَعْنِي الْأَحْرَار {فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} من رزقه {وَالله وَاسِعٌ} برزقه للْحرّ وَالْعَبْد {عَلِيمٌ} بأرزاقهما(1/295)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
{وَلْيَسْتَعْفِفِ} عَن الزِّنَا {الَّذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} سَعَة للتزويج {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} من رزقه نزلت فِي حويطب بن عبد الْعُزَّى فِي شَأْن غُلَام لَهُ سَأَلَ كِتَابَته فَلم يكاتبه {وَالَّذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} يطْلبُونَ مِنْكُم الْمُكَاتبَة {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يَعْنِي عبيدكم {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} صلاحاً ووفاء {وَآتُوهُمْ} أعطوهم يَعْنِي لجملة النَّاس {مِّن مَّالِ الله الَّذِي آتَاكُمْ} أَعْطَاكُم حَتَّى يؤدوا مكاتبتهم وَيُقَال حث الْمولى على ترك الثُّلُث عَن مكَاتبه ثمَّ نزل فِي شَأْن عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه كَانَ لَهُم ولائد يجبرونهن على الزِّنَا لقبل كَسْبهنَّ وأولادهن فنهاهم الله عَن ذَلِك وَحرم عَلَيْهِم فَقَالَ {وَلاَ تُكْرِهُواْ} وَلَا تجبروا {فَتَيَاتِكُمْ} ولائدكم {عَلَى البغآء} على الزِّنَا والفجور {إِنْ أَرَدْنَ} بَعْدَمَا أردن {تَحَصُّناً} تعففاً عَن الزِّنَا {لِّتَبْتَغُواْ} لتطلبوا بذلك {عَرَضَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} من كَسْبهنَّ وأولادهن {وَمَن يُكْرِههُنَّ} يجبرهن يَعْنِي الولائد على الزِّنَا {فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} وتوبتهن {غَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} بعد الْمَوْت(1/295)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} يَقُول أنزلنَا جِبْرِيل إِلَى نَبِيكُم بآيَات مبينات بالحلال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي عَن الزِّنَا وَالْفَوَاحِش {وَمَثَلاً مِّنَ الَّذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ} صفة الَّذين مضوا من قبلكُمْ من الْمُؤمنِينَ والكافرين {وَمَوْعِظَةً} نهيا {لِّلْمُتَّقِينَ} عَن الزِّنَا وَالْفَوَاحِش(1/295)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
ثمَّ ذكر كرامته للْمُؤْمِنين ومنته عَلَيْهِم فَقَالَ {الله نُورُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} هادي أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْهدى من الله على وَجْهَيْن التِّبْيَان والتعريف وَيُقَال الله مزين السَّمَوَات بالنجوم وَالْأَرْض بالنبات والمياه وَيُقَال الله منور قُلُوب أهل السَّمَوَات وَأهل الأَرْض من الْمُؤمنِينَ {مَثَلُ نُورِهِ} نور الْمُؤمنِينَ وَيُقَال مثل نور الله فِي قلب الْمُؤمن {كَمِشْكَاةٍ} ككوة {فِيهَا مِصْبَاحٌ} مقدم ومؤخر يَقُول كمشكاة كمصباح وَهُوَ السراج {الْمِصْبَاح} السراج {فِي زُجَاجَةٍ} فِي قنديل من جَوْهَر {الزجاجة} الْقنْدِيل فِي مشكاة وَهِي كوَّة غير نَافِذَة بلغَة الْحَبَشَة {كَأَنَّهَا} يَعْنِي الزجاجة {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} نجم مضيء من هَذِه الأنجم الْخَمْسَة عُطَارِد وَالْمُشْتَرِي والزهرة وبهرام وزحل هَذِه الأنجم كلهَا درية(1/295)
{يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ} أَخذ دهن الْقنْدِيل من دهن شَجَرَة {مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} وَهِي شَجَرَة الزَّيْتُون {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} بفلاة على تلعة لَا يُصِيبهَا ظلّ الشرق وَلَا ظلّ الغرب وَيُقَال بمَكَان لَا تصيبها الشَّمْس حِين طلعت وَلَا حِين غربت {يَكَادُ زَيْتُهَا} زَيْت الشَّجَرَة {يضيء} من وَرَاء قشرها {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ} وَإِن لم تمسسه {نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ} فَهُوَ النُّور على النُّور الْمِصْبَاح نور والقنديل نور وَالزَّيْت نور {يَهْدِي الله لِنُورِهِ} يكرم الله بنوره يَعْنِي الْمعرفَة وَيُقَال يكرم الله بِدِينِهِ {مَن يَشَآءُ} من كَانَ أَهلا لذَلِك وَيُقَال مثل نوره نور مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أصلاب آبَائِهِ على هَذَا الْوَصْف إِلَى قَوْله توقد من شَجَرَة مباركة يَقُول كَانَ نور مُحَمَّد فِي إِبْرَاهِيم حَنِيفا مُسلما زيتونة دين حنيفية لَا شرقية وَلَا غربية لم يكن لإِبْرَاهِيم يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا يكَاد زيتها يَقُول تكَاد أَعمال إِبْرَاهِيم تضيء فِي أصلاب آبَائِهِ على هَذَا الْوَصْف إِلَى قَوْله توقد من شَجَرَة مباركة يَقُول كَأَنَّهُ نور مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو لم تمسسه نَار رأى لَو لم يكن إِبْرَاهِيم نَبيا لَكَانَ لَهُ هَذَا النُّور أَيْضا وَيُقَال لَو لم تمسسه نَار لَو لم يكرم الله إِبْرَاهِيم لم يكن لَهُ هَذَا النُّور وَيُقَال لَو لم يكرم الله عَبده الْمُؤمن بِهَذَا النُّور لم يكن لَهُ هَذَا النُّور {وَيَضْرِبُ الله الْأَمْثَال لِلنَّاسِ} هَكَذَا يبين الله صفة الْمعرفَة للنَّاس {وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ} من كرامته لِعِبَادِهِ {عَلَيِمٌ} وَهَذَا مثل ضربه الله للمعرفة وبيَّن مَنْفَعَتهَا ومدحتها لكَي يشكروا بهَا يَقُول كَمَا أَن للسراج نور يهتدى بِهِ كَذَلِك الْمعرفَة نور يهتدى بهَا وكما أَن الْقنْدِيل نور ينْتَفع بِهِ كَذَلِك الْمعرفَة نور يهدى بهَا وكما أَن الْكَوَاكِب الدرية بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر كَذَلِك الْمعرفَة يهتدى بهَا فِي ظلمات الْكفْر والشرك وكما أَن دهن الْقنْدِيل من زيتونة مباركة كَذَلِك الْمعرفَة من الله تَعَالَى لعَبْدِهِ وكما أَن الزيتونة لَا شرقية وَلَا غربية كَذَلِك دين الْمُؤمن حنيفي لَا يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ وكما أَن زَيْت الشَّجَرَة نور مضيء وَإِن لم تصبه النَّار فَكَذَلِك شرائع إِيمَان الْمُؤمنِينَ ممدوح وَإِن لم يكن مَعهَا غَيرهَا من الْفَضَائِل وكما أَن السراج والقنديل والمشكاة نور على نور كَذَلِك الْمعرفَة نور وقلب الْمُؤمن نور وصدره نور ومدخله نور ومخرجه نور على نور يهدي الله لنوره من يَشَاء يكرم الله بِهَذَا النُّور من كَانَ أَهلا لذَلِك فَهَذَا وصف الله للمعرفة(1/296)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
{فِي بُيُوتٍ} يَقُول هَذِه الْقَنَادِيل معلقَة فِي بيُوت وَيُقَال بيُوت {أَذِنَ الله} أَمر الله {أَن تُرْفَعَ} أَن تبنى وَهِي الْمَسَاجِد {وَيُذْكَرَ فِيهَا} فِي الْمَسَاجِد {اسْمه} توحيده {يُسَبِّحُ لَهُ} يصلى لله {فِيهَا} فِي الْمَسَاجِد {بِالْغُدُوِّ} غدْوَة صَلَاة الْفجْر {وَالْآصَال} عَشِيَّة صَلَاة الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء(1/296)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
{رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ} لَا تشغلهم {تِجَارَةٌ} فِي الجلب {وَلاَ بَيْعٌ} يدا بيد {عَن ذِكْرِ الله} عَن طَاعَة الله وَيُقَال عَن الْأَوْقَات الْخمس {وَإِقَامِ الصَّلَاة} إتْمَام الصَّلَوَات الْخمس بوضوئها وركوعها وسجودها وَمَا يجب فِيهَا فِي مواقيتها {وَإِيتَآءِ الزَّكَاة} أَي أَدَاء زَكَاة أَمْوَالهم {يَخَافُونَ يَوْماً} عَذَاب يَوْم وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوب والأبصار} حَالا بعد حَال يعْرفُونَ حينا وَلَا يعْرفُونَ حينا(1/296)
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
{لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} بِإِحْسَان مَا عمِلُوا فِي الدُّنْيَا {وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ} من كرامته بِوَاحِدَة تِسْعَة {وَالله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} بِلَا تَقْدِير وَلَا هنداز وَلَا منَّة(1/296)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
{وَالَّذين كفرُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {أَعْمَالُهُمْ} مثل أَعْمَالهم فِي الْآخِرَة {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} فِي بقاع من الأَرْض {يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً} العطشان مَاء من الْبعد {حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} من الشَّرَاب فَكَذَلِك لَا يجد الْكَافِر من ثَوَاب عمله شَيْئا يَوْم الْقِيَامَة {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} وَوجد عِنْد الله عُقُوبَة ذنُوبه وَيُقَال وجد الله مستعداً لعذابه {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} فوفره عَذَابه {وَالله سَرِيعُ الْحساب} شَدِيد الْعَذَاب وَيُقَال إِذا حاسب فحسابه سريع(1/296)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ} يَقُول مثل النكرَة فِي قلب الْكَافِر كظلمة فِي بَحر لجي فِي غمر عميق {يَغْشَاهُ} يعلوه يَعْنِي الْبَحْر {مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} آخر {مِّن فَوْقِهِ} من فَوق الموج الثَّانِي {سَحَابٌ} كَذَلِك قلب الْكَافِر مثل النكرَة(1/296)
فِي قلبه كظلمة الْبَحْر وَمثل قلبه كالبحر اللجي وَمثل صَدره كالموج الهائل وَمثل أَعماله كسحاب لَا ينْتَفع بِهِ لقَوْل الله ختم الله طبع الله على قُلُوبهم وعَلى سمعهم وعَلى أَبْصَارهم فَهَذِهِ {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} من شدَّة الظلمَة فَكَذَلِك الْكَافِر لَا يبصر الْحق وَالْهدى من شدَّة ظلمَة قلبه {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً} معرفَة فِي الدُّنْيَا {فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} من معرفَة فِي الْآخِرَة وَيُقَال وَمن لم يُكرمهُ الله بِالْإِيمَان فِي الدُّنْيَا فَمَا لَهُ من إِيمَان فِي الْآخِرَة(1/297)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر فِي الْقُرْآن يَا مُحَمَّد {أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ} يُصَلِّي لله {مَن فِي السَّمَاوَات} من الْمَلَائِكَة {وَالْأَرْض} من الْمُؤمنِينَ {وَالطير} ويسبح الطير {صَآفَّاتٍ} مفتوحات الأجنحة {كُلٌّ} كل وَاحِد مِنْهُم {قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ} من يُصَلِّي لَهُ {وَتَسْبِيحَهُ} من يسبح لَهُ وَيُقَال قد علم الله صَلَاة من يُصَلِّي وتسبيح من يسبح {وَالله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر(1/297)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
{وَلِلَّهِ مُلْكُ} خَزَائِن {السَّمَاوَات} الْمَطَر {وَالْأَرْض} النَّبَات {وَإِلَى الله الْمصير} الْمرجع بعد الْمَوْت(1/297)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر فِي الْقُرْآن يَا مُحَمَّد {أَنَّ الله يُزْجِي} يَسُوق {سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} يضم بَين السَّحَاب {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} بعضه على بعض يَقُول يَجعله ركاماً ثمَّ يؤلفه مقدم ومؤخر {فَتَرَى الودق} الْمَطَر {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} ينزل من خلال السَّحَاب {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} يَقُول ينزل من جبال فِي السَّمَاء بردا {فَيُصِيبُ بِهِ} فيعذب الله بالبرد {مَن يَشَآءُ} من كَانَ أَهلا لذَلِك {وَيَصْرِفُهُ} يصرف عَذَابه {عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} ضوء برق السَّحَاب {يَذْهَبُ بالأبصار} من شدَّة نوره(1/297)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
{يُقَلِّبُ الله اللَّيْل وَالنَّهَار} يذهب بِاللَّيْلِ وَيَجِيء بِالنَّهَارِ وَيذْهب بِالنَّهَارِ وَيَجِيء بِاللَّيْلِ فَهَذَا تقليبهما {إِنَّ فِي ذَلِك} فِيمَا ذكرت من تقليب اللَّيْل وَالنَّهَار وَغير ذَلِك {لَعِبْرَةً} لعلامة {لأُوْلِي الْأَبْصَار} فِي الدّين وَيُقَال فِي الْعين(1/297)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
{وَالله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} على وَجه الأَرْض {مِّن مَّآءٍ} من مَاء الذّكر وَالْأُنْثَى {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ} الْحَيَّة وأشباهها {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} الدَّوَابّ {يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ} كَمَا يَشَاء {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} من الْخلق وَغَيره(1/297)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
{لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} يَقُول أنزلنَا جِبْرِيل بآيَات مبينات بِالْأَمر وَالنَّهْي {وَالله يَهْدِي} يرشد إِلَى دينه {مَن يَشَآءُ} وَيكرم من كَانَ أَهلا لذَلِك {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} دين قَائِم يرضاه وَهُوَ الْإِسْلَام(1/297)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
ثمَّ نزل فِي شَأْن قوم عُثْمَان بن عَفَّان حِين قَالُوا لعُثْمَان لَا تذْهب مَعَ على للْقَضَاء عِنْد النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خُصُومَة فِي قِطْعَة أَرض كَانَت بَينهمَا لِأَنَّهُ يمِيل إِلَيْهِ فذمهم الله بذلك وَقَالَ {وَيِقُولُونَ} قوم عُثْمَان بن عَفَّان {آمَنَّا بِاللَّه وبالرسول} صدقنا بإيماننا بِاللَّه وبالرسول {وَأَطَعْنَا} مَا أمرنَا بِهِ {ثُمَّ يتَوَلَّى فَرِيقٌ} طَائِفَة {مِّنْهُمْ} من قوم عُثْمَان {مِّن بَعْدِ ذَلِك} من بعد مَا قَالُوا هَذِه الْكَلِمَة عَن حكم الله {وَمَآ أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} بالمصدقين فِي إِيمَانهم(1/297)
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
{وَإِذَا دعوا إِلَى الله} إِلَى كتاب الله {وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ} الرَّسُول {بَيْنَهُمْ} بِكِتَاب الله بِحكم الله {إِذَا فَرِيقٌ} طَائِفَة {مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} عَن كتاب الله وَحكم الرَّسُول(1/297)
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
{وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ} لقوم عُثْمَان {الْحق} الْقَضَاء {يَأْتُوا إِلَيْهِ} إِلَى النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {مُذْعِنِينَ} مُسْرِعين طائعين(1/297)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
{أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} شكّ ونفاق {أَمِ ارْتَابُوا} بل شكوا بِاللَّه وبرسوله {أَمْ يَخَافُونَ} أيخافون {أَن يَحِيفَ الله} يجور الله {عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} فِي الحكم {بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الضارون لأَنْفُسِهِمْ وَكَانُوا منافقين فِي إِيمَانهم(1/297)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
ثمَّ ذكر قَول المخلصين فَقَالَ {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤمنِينَ} المخلصين كَقَوْل عُثْمَان حَيْثُ قَالَ لعَلي بل أجيء مَعَك إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا قضى بَيْننَا رضيت بِهِ فمدحه الله بذلك وَقَالَ إِنَّمَا كَانَ قَول الْمُؤمنِينَ المخلصين وَإِذَا دعوا إِلَى الله {إِلَى كتاب الله}(1/297)
{وَرَسُولِهِ} وَسنة رَسُوله {لِيَحْكُمَ} الرَّسُول {بَيْنَهُمْ} بِكِتَاب الله بِحكم الله {أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا} أجبنا {وَأَطَعْنَا} مَا أمرنَا {وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون} الناجون من السخط وَالْعَذَاب يَعْنِي عُثْمَان بن عَفَّان(1/298)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
وَنزل فِي عُثْمَان أَيْضا لقَوْله وَالله لَئِن شِئْت يَا رَسُول الله لأخْرجَن من مَالِي كُله فَقَالَ الله {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} فِي الحكم {وَيَخْشَ الله} فِيمَا مضى {وَيَتَّقْهِ} فِيمَا بَقِي {فَأُولَئِك هُمُ الفآئزون} فازوا بِالْجنَّةِ ونجوا من النَّار(1/298)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} حلف بِاللَّه عُثْمَان جهد يَمِينه {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} من مَاله كُله {قُل} لَهُم يَا مُحَمَّد {لاَّ تُقْسِمُواْ} لَا تحلفُوا {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} هِيَ طَاعَة مَعْرُوفَة حَسَنَة أَن فَعلْتُمْ وَلَكِن طيعوا طَاعَة مَعْرُوفَة مَعْلُومَة الَّتِي أوجبت عَلَيْكُم {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر(1/298)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لقوم عُثْمَان {أَطِيعُواْ الله} فِي الْفَرَائِض {وَأَطِيعُواْ الرَّسُول} فِي السّنَن وَالْحكم {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أَعرضُوا عَن طاعتهما {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} مَا أَمر من التَّبْلِيغ {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} مَا أمرْتُم من الْإِجَابَة {وَإِن تُطِيعُوهُ} تطيعوا الله فِيمَا أَمركُم {تَهْتَدُواْ} من الضَّلَالَة {وَمَا عَلَى الرَّسُول إِلاَّ الْبَلَاغ الْمُبين} عَن الله(1/298)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
{وَعَدَ الله الَّذين آمَنُواْ مِنْكُمْ} يَا أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْض} بَعضهم على أثر بعض {كَمَا اسْتخْلف الَّذين مِن قَبْلِهِمْ} من بني إِسْرَائِيل يُوشَع بن نون وكالب بن يوقنا وَيُقَال لننزلنهم أَرض مَكَّة كَمَا أنزلنَا الَّذين من قبلهم من بني إِسْرَائِيل أَرضهم بَعْدَمَا أهلك عدوهم {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ} لَيظْهرَن لَهُم {دِينَهُمُ الَّذِي ارتضى لَهُمْ} رَضِي وَاخْتَارَ لَهُم {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} بِمَكَّة {مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الْعَدو {أَمْناً} بعد هَلَاك عدوهم {يَعْبُدُونَنِي} لكَي يعبدوني بِمَكَّة {لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} من الْأَوْثَان {وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِك} التَّمْكِين والتبديل {فَأُولَئِك هُمُ الْفَاسِقُونَ} العاصون(1/298)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
{وَأَقِيمُواْ الصَّلَاة} أَتموا الصَّلَوَات الْخمس {وَآتُواْ الزَّكَاة} أعْطوا زَكَاة أَمْوَالكُم {وَأَطِيعُواْ الرَّسُول} فِي الحكم {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لكَي ترحموا فَلَا تعذبوا(1/298)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
{لاَ تَحْسَبَنَّ} يَا مُحَمَّد {الَّذين كَفَرُواْ} كفار مَكَّة {مُعْجِزِينَ فِي الأَرْض} فائتين فِي الأَرْض من عَذَاب الله {وَمَأْوَاهُمُ} مصيرهم {النَّار} فِي الْآخِرَة {وَلَبِئْسَ الْمصير} صَارُوا إِلَيْهِ مَعَ الشَّيَاطِين نزلت هَذِه الْآيَة فِي أبي جهل وَأَصْحَابه(1/298)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
ثمَّ نزل حِين قَالَ عمر رضى الله عَنهُ وددت أَن الله نهى أبناءنا وَخَدَمنَا أَن لَا يدخلُوا علينا فِي العورات الثَّلَاث إِلَّا بِإِذن فَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {لِيَسْتَأْذِنَكُمُ} فِي الدُّخُول عَلَيْكُم {الَّذين مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} العبيد الصغار {وَالَّذين لَمْ يَبْلَغُوا الْحلم} الأحلام {مِنْكُمْ} من أحراركم {ثَلاثَ مَرَّاتٍ} فِي ثَلَاث سَاعَات {من قبل صَلَاة الْفجْر} من ينفجر الصُّبْح إِلَى حِين تصلى صَلَاة الْفجْر {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظهيرة} عِنْد القيلولة إِلَى أَن تصلى صَلَاة الظّهْر {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعشَاء} الْأَخِيرَة إِلَى حِين طُلُوع الْفجْر {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} ثَلَاث خلوات {لكُم} ثمَّ رخصهم بعد ذَلِك فِي الدُّخُول عَلَيْهِم بِغَيْر إِذن فَقَالَ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} على أَرْبَاب الْبيُوت {وَلاَ عَلَيْهِمْ} على الْأَبْنَاء والخدام الصغار دون الْكِبَار {جُنَاحٌ} حرج {بَعْدَهُنَّ} بعد هَذِه الثَّلَاث العورات {طَوَّافُونَ عَلَيكُمْ} للْخدمَة {بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} يدْخل بَعْضكُم على بعض بِغَيْر إِذن وَأما الْكِبَار من العبيد وَالْأَبْنَاء فَيَنْبَغِي لَهُم أَن يستأذنوا بِالدُّخُولِ على آبَائِهِم ومماليكهم فِي كل حِين {كَذَلِك} هَكَذَا {يبين الله لكم الْآيَات} الْأَمر وَالنَّهْي كَمَا بيّن الله هَذَا {وَاللهُ عَلِيمٌ} أعلم بصلاحكم {حَكِيمٌ} حكم عَلَيْكُم بالاستئذان للصبيان الصغار فِي العورات(1/298)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
ثمَّ ذكر الْكِبَار دون الصغار فَقَالَ {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَال مِنكُمُ} من أحراركم وعبيدكم(1/298)
{الْحلم} الِاحْتِلَام {فَلْيَسْتَأْذِنُواْ} عَلَيْكُم فِي كل حِين {كَمَا اسْتَأْذن الَّذين مِن قَبْلِهِمْ} من إخْوَانهمْ الْمَذْكُورين {كَذَلِك} هَكَذَا {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ} أمره وَنَهْيه كَمَا يبيّن الله هَذَا {وَالله عَلِيمٌ} بصلاحكم {حَكِيمٌ} حكم على الْكِبَار بالاستئذان فِي كل حِين(1/299)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
{وَالْقَوَاعِد مِنَ النسآء} الْعَجَائِز {اللَّاتِي} يئسن من الْمَحِيض اللَّاتِي {لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} لَا يتزوجن وَلَا يحتجن إِلَى الزَّوْج {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ} على الْعَجَائِز {جُنَاحٌ} حرج {أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} من ثيابهن الرِّدَاء عِنْد الْغَرِيب {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ} من غير أَن يتزين أَن يظهرن مَا عَلَيْهِنَّ من الزِّينَة عِنْد الْغَرِيب {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ} بالرداء عِنْد الْغَرِيب {خَيْرٌ لَّهُنَّ} من أَن يضعنه {وَالله سَمِيعٌ} لمقالتهن {عِلِيمٌ} بأعمالهن(1/299)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
ثمَّ نزل حِين تحرجوا من المواكلة مَعَ بَعضهم بَعْضًا مَخَافَة الظُّلم لما أنزل قَوْله يأيها الَّذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ بالظلم وخافوا من ذَلِك فَرخص لَهُم المواكلة مَعَ بَعضهم بَعْضًا فَقَالَ {لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} يَقُول لَيْسَ على من أكل مَعَ الْأَعْمَى حرج مأثم {وَلاَ عَلَى الْأَعْرَج حَرَجٌ} لَيْسَ على من أكل مَعَ الْأَعْرَج حرج مأثم {وَلاَ عَلَى الْمَرِيض حَرَجٌ} وَلَيْسَ على من أكل مَعَ الْمَرِيض حرج مأثم {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ} حرج مأثم {أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} من بيُوت أَبْنَائِكُم بِغَيْر إِذن بِالْعَدْلِ والإنصاف {أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} من كل وَجه {أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ} من كل وَجه {أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ} إخْوَة آبائكم {أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ} أَخَوَات آبائكم {أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ} إخْوَة أُمَّهَاتكُم {أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ} أَخَوَات أُمَّهَاتكُم {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} خَزَائِن مَا عنْدكُمْ من المَال يَعْنِي العبيد وَالْإِمَاء {أَوْ صَدِيقِكُمْ} فِي الْخلطَة نزل أَو صديقكم فِي مَالك بن زين والْحَارث بن عمار وَكَانَا صديقين {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} مأثم {أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً} مُجْتَمعين بِالْعَدْلِ والإنصاف {أَوْ أَشْتَاتاً} مُتَفَرّقين وَدخل فِي هَذِه الْآيَة الْأَعْمَى والأعرج وَالْمَرِيض وَغير ذَلِك {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً} يَعْنِي بُيُوتكُمْ أَو الْمَسَاجِد وَلَيْسَ فِيهَا أحد {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} فَقولُوا السَّلَام علينا من رَبنَا {تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله} كَرَامَة من الله لكم {مُبَارَكَةً} بالثواب {طَيِّبَةً} بالمغفرة {كَذَلِكَ} هَكَذَا {يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الْآيَات} الْأَمر وَالنَّهْي كَمَا بَين هَذَا {لَعَلَّكُمْ تعقلون} لكَي تعقلوا مَا أمرْتُم بِهِ(1/299)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} المصدقون فِي إِيمَانهم {الَّذين آمَنُواْ بِاللَّه وَرَسُولِهِ} فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة {وَإِذَا كَانُواْ مَعَه} مَعَ النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {على أَمْرٍ جَامِعٍ} فِي يَوْم الْجُمُعَة أَو فِي غَزْوَة {لَّمْ يَذْهَبُواْ} لم يخرجُوا من الْمَسْجِد وَلم يرجِعوا من الْغَزْو {حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} يعْنى يستأذنوا النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {إِنَّ الَّذين يَسْتَأْذِنُونَكَ} يَا مُحَمَّد بِالرُّجُوعِ عَن غَزْوَة تَبُوك وَكَانَ ذَلِك عمر بن الْخطاب اسْتَأْذن النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَة لعِلَّة كَانَت بِهِ {أُولَئِكَ الَّذين يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَرَسُولِهِ} فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة {فَإِذَا استأذنوك} يَا مُحَمَّد المخلصون {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} حَاجتهم {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} من المخلصين {واستغفر لَهُمُ الله} فِيمَا ذَهَبُوا {إِنَّ الله غَفُور} لمن تَابَ {رَحِيم} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/299)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُول بَيْنَكُمْ} أَي لَا تدعوا الرَّسُول باسمه يَا مُحَمَّد {كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا}(1/299)
اسْمه وَلَكِن عظموه ووقروه وشرفوه وَقُولُوا لَهُ يَا نَبِي الله وَيَا رَسُول الله وَيَا أَبَا الْقَاسِم {قَدْ يَعْلَمُ الله الَّذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ} يخرجُون مِنْكُم من الْمَسْجِد {لِوَاذاً} يلوذ بَعْضكُم بَعْضًا وَكَانَ المُنَافِقُونَ إِذا خَرجُوا من الْمَسْجِد خَرجُوا بِغَيْر إِذن إِذا لم يرهم أحد {فَلْيَحْذَرِ الَّذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} عَن أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيُقَال عَن أَمر الله {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} بلية {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بِالضَّرْبِ(1/300)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
{أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} من الْخلق {قَدْ يَعْلَمُ} أَي يعلم الله {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} من الْكفْر وَالْإِيمَان والتصديق والتكذيب وَالْإِخْلَاص والنفاق والاستقامة والميل وَغير ذَلِك {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} إِلَى الله وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {فَيُنَبِّئُهُمْ} يُخْبِرهُمْ الله {بِمَا عَمِلُواْ} فِي الدُّنْيَا {وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ} من أَعْمَالهم {عَلِيمُ} وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا الْفرْقَان وهى كلهَا مَكِّيَّة آياتها سبع وَتسْعُونَ آيَة وكلماتها ثَلَاثمِائَة وَاثْنَتَانِ وَتسْعُونَ وحروفها ثَلَاثَة آلَاف وَسَبْعمائة وَسِتُّونَ {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}(1/300)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {تبَارك} يَقُول ذُو بركَة وَيُقَال تبَارك وَتَعَالَى وارتفع وتبرأ عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {الَّذِي نَزَّلَ الْفرْقَان} نزل جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {على عَبْدِهِ} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {ليَكُون} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لِلْعَالَمِينَ} الْجِنّ وَالْإِنْس {نَذِيراً} رَسُولا مخوفا بِالْقُرْآنِ(1/300)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ} خَزَائِن {السَّمَاوَات} الْمَطَر {وَالْأَرْض} النَّبَات {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} كَمَا قَالَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى {وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ} كَمَا قَالَ مُشْرِكُوا الْعَرَب فيماريه {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} عبدوه وَغير مَا عبدوه {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} فَقدر آجالهم وأرزاقهم وأعمالهم بالتقدير وَيُقَال قدر لكل ذكر أُنْثَى(1/300)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
{وَاتَّخذُوا} كفار مَكَّة أَبُو جهل وَأَصْحَابه {مِن دُونِهِ} من دون الله {آلِهَةً} يعبدونها {لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً} لَا يقدرُونَ أَن يخلقوا شَيْئا {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وَهِي مخلوقة منحوتة يَعْنِي الْأَصْنَام {وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ} يَعْنِي الْأَصْنَام {ضَرّاً} دفع الضَّرَر {وَلاَ نَفْعاً} جر النَّفْع إِلَى أنفسهم وَلَا إِلَى غَيرهم {وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً} لَا يقدرُونَ أَن ينقصوا من الْحَيَاة {وَلاَ حَيَاةً} وَلَا أَن يزِيدُوا فِي الْحَيَاة وَيُقَال وَلَا يملكُونَ موتا لَا يقدرُونَ أَن يخلقوا نُطْفَة وَلَا حَيَاة وَلَا أَن يجْعَلُوا فِيهَا الرّوح {وَلاَ نُشُوراً} بعثاً بعد الْمَوْت(1/300)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
{وَقَالَ الَّذين كفرُوا} كفار مَكَّة {إِنْ هَذَا} مَا هَذَا الْقُرْآن {إِلاَّ إِفْكٌ} كذب {افتراه} اختلقه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من تِلْقَاء نَفسه {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ} على اختلاقه {قَوْمٌ آخَرُونَ} جبر ويسار وَأَبُو فكيهة الرُّومِي {فقد جاؤوا ظُلْماً} شركا {وَزُوراً} كذبا(1/300)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
{وَقَالُوا} يَعْنِي النَّضر وَأَصْحَابه {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلين} هَذَا الْقُرْآن أَحَادِيث الْأَوَّلين فِي دهرهم وكذبهم {اكتتبها} استقرأها مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جبر ويسار {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ} تقْرَأ على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} غدْوَة وعشياً(1/300)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {أَنزَلَهُ} يَعْنِي أنزل جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {الَّذِي يَعْلَمُ السِّرّ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً}(1/300)
لمن تَابَ مِنْهُم {رَّحِيماً} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/301)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
{وَقَالُواْ} أَبُو جهل وَأَصْحَابه وَالنضْر وَأَصْحَابه وَأُميَّة بن خلف وَأَصْحَابه {مَا لهَذَا الرَّسُول} مَا هَذَا الرَّسُول {يَأْكُلُ الطَّعَام} كَمَا نَأْكُل {وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاق} يتَرَدَّد وَيَمْشي فِي الطَّرِيق كَمَا نتردد ونمشي {لَوْلَا} هلا {أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} معينا يُخبرهُ بِمَا يُرَاد بِهِ من سوء(1/301)
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
{أوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} أَو ينزل عَلَيْهِ مَال فيستعين بِهِ {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} بُسْتَان {يَأْكُلُ مِنْهَا} فيشبع {وَقَالَ الظَّالِمُونَ} الْمُشْركُونَ أَبُو جهل وَالنضْر وَأُميَّة وأصحابهم {إِن تَتَّبِعُونَ} مُحَمَّدًا لَا تتبعون {إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} مغلوب الْعقل مَجْنُونا(1/301)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
{انْظُر} يَا مُحَمَّد {كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الْأَمْثَال} كَيفَ بينوا وَسموا لَك الْأَسْمَاء سَاحر وكاهن وَكَذَّاب وشاعر وَمَجْنُون وَيُقَال كَيفَ شبهوكم بالمسحور {فضلوا} فضلت حيلهم فأخطئوا {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} مخرجا مِمَّا قَالُوا فِيك وَلَا حجَّة على مَا قَالُوا لَك(1/301)
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
{تَبَارَكَ} يَقُول تَعَالَى {الَّذِي إِن شَآءَ} قد شَاءَ {جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِك} مِمَّا قَالُوا {جَنَّاتٍ} بساتين فِي الْآخِرَة {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} وَقد جعل لَك قصوراً فِي الْجنَّة من الذَّهَب وَالْفِضَّة خيرا لَك مِمَّا قَالُوا لَو كَانَ ذَلِك فِي الدُّنْيَا وَيُقَال إِن شَاءَ الله يَجْعَل لَك فِي الدُّنْيَا مَا قَالُوا من الْقُصُور والبساتين يَعْنِي يفتح لَك الْحُصُون والمدائن فِي الشرق والغرب برغم الْكفَّار(1/301)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)
{بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة} وَلَكِن كذبُوا بِقِيَام السَّاعَة {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة} بِقِيَام السَّاعَة {سَعِيراً} نَارا وقودا(1/301)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
{إِذَا رَأَتْهُمْ} النَّار {مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} من مسيرَة خَمْسمِائَة عَام {سَمِعُواْ لَهَا} للنار {تَغَيُّظاً} كتغيظ بني آدم {وَزَفِيراً} صَوتا كصوت الْحمار(1/301)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
{وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا} فِي النَّار ألقوا {مَكَاناً ضَيِّقاً} كضيق الزج فِي الرمْح {مُّقَرَّنِينَ} مسلسلين مَعَ الشَّيَاطِين {دَعَوْاْ هُنَالِكَ} عِنْد ذَلِك التضيق {ثُبُوراً} ويلا يَقُولُونَ واويلاه واثبوراه(1/301)
لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
يَقُول الله لَهُم {لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْم ثُبُوراً وَاحِداً} ويلا وَاحِدًا {وَادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} بِمَا أَصَابَكُم(1/301)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة لأبي جهل وَأَصْحَابه {أذلك} الَّذِي ذكرت من الويل وَالثُّبُور والسعير {خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخلد} لمُحَمد وَأَصْحَابه {الَّتِي وُعِدَ المتقون} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش {كَانَتْ} صَارَت {لَهُمْ} جنَّة الْخلد {جَزَآءً وَمَصِيراً} فِي الْآخِرَة(1/301)
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
{لَهُمْ فِيهَا} فِي الْجنَّة {مَا يَشَآؤونَ} مَا يتمنون ويشتهون {خَالِدِينَ} مقيمين فِي الْجنَّة لَا يموتون وَلَا يخرجُون {كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مسؤولا} سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ(1/301)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
{وَيَوْم} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {نحشرهم} يَعْنِي عَبدة الْأَوْثَان {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} من الْأَصْنَام {فَيَقُولُ} الله للأصنام وَيُقَال للْمَلَائكَة {أأنتم أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} عَن طَاعَتي وأمرتموهم بعبادتكم {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيل} طرقوا الطَّرِيق وعبدوكم بهوى أنفسهم(1/301)
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
{قَالُواْ} يَعْنِي الْأَصْنَام {سُبْحَانَكَ} نزهوه {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ} يسْتَحق لنا {أَن نَّتَّخِذَ} نعْبد {مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} أَرْبَابًا وَيُقَال قَالُوا يَعْنِي الْمَلَائِكَة سُبْحَانَكَ نزهوه مَا كَانَ يَنْبَغِي لنا لَا يجوز لنا أَن نتَّخذ نعْبد من دُونك من أَوْلِيَاء أَرْبَابًا فَكيف جَازَ لنا أَن نأمرهم بِأَن يعبدونا {وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ} أجلتهم فِي الْكفْر {وَآبَآءَهُمْ} قبلهم {حَتَّى نَسُواْ الذّكر} حَتَّى تركُوا التَّوْحِيد وطاعتك(1/301)
{وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} هلكى فَاسِدَة الْقُلُوب فَيَقُول الله لعبدة الْأَصْنَام(1/302)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
{فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} يَعْنِي الْكفَّار {صَرْفاً} صرف الْمَلَائِكَة وَيُقَال صرف الْأَصْنَام عَن شَهَادَتهم عَلَيْهِم أَو صرف الْعَذَاب عَن أنفسهم {وَلاَ نَصْراً} منعا {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ} يكفر مِنْكُم يَا معشر الْمُؤمنِينَ وَيُقَال من يَسْتَقِيم مِنْكُم على الْكفْر يَا معشر الْكفَّار {نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} فِي النَّار(1/302)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
{وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} يَا مُحَمَّد {مِنَ الْمُرْسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَام} كَمَا تَأْكُل جَوَابا لقَولهم مَا لهَذَا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام {وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاق} فِي الطّرق كَمَا تمشي {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} بلية ابتلينا الْعَرَبِيّ بالمولى والشريف بالوضيع والغني بالفقير يَقُول الله لأبي جهل وَأَصْحَابه {أَتَصْبِرُونَ} مَعَ النبى مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سلمَان وَأَصْحَابه حَتَّى تَكُونُوا مَعَهم فِي الدّين وَالْأَمر سَوَاء شرعا تجلسون مَعَهم {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} بِأَنَّهُم لَا يصبرون على ذَلِك وَيُقَال أَتَصْبِرُونَ يَا معشر أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أذاهم حَتَّى أوفيكم ثَوَاب الصابرين وَكَانَ رَبك بَصيرًا بِمن يُؤمن وبمن لَا يُؤمن مِنْهُم(1/302)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
{وَقَالَ الَّذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} الْبَعْث بعد الْمَوْت يَعْنِي أَبَا جهل وَأَصْحَابه {لَوْلاَ أُنْزِلَ} هلا أنزل {عَلَيْنَا الْمَلَائِكَة} فيخبرون بِأَن الله أرسلك إِلَيْنَا {أَوْ نرى رَبَّنَا} فنسأله عَنْك {لَقَدِ استكبروا فِي أَنفُسِهِمْ} عَن الْإِيمَان حَيْثُ سَأَلُوا رُؤْيَة الرب {وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} أَبَوا عَن الْإِيمَان إباء كَبِيرا وَيُقَال اجترءوا اجتراء كَبِيرا حَيْثُ سَأَلُوا نزُول الْمَلَائِكَة عَلَيْهِم(1/302)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
{يَوْمَ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {يَرَوْنَ الْمَلَائِكَة} عِنْد الْمَوْت {لاَ بشرى} تَقول لَهُم الْمَلَائِكَة لَا بشرى {يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} للْمُشْرِكين بِالْجنَّةِ {وَيَقُولُونَ} يَعْنِي الْمَلَائِكَة {حِجْراً مَّحْجُوراً} حرما محرما الْبُشْرَى بِالْجنَّةِ على الْكَافرين وَيُقَال وَيَقُولُونَ يَعْنِي الْكفَّار عِنْد رُؤْيَة الْمَلَائِكَة حجرا مَحْجُورا بعدا بَعيدا بَيْننَا وَبَيْنكُم(1/302)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
{وَقَدِمْنَآ} عمدنا {إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} خير فِي الدُّنْيَا {فَجَعَلْنَاهُ} فِي الْآخِرَة {هَبَآءً مَّنثُوراً} كتراب من حوافر الدَّوَابّ وَيُقَال كشيء يحول فِي ضوء الشَّمْس إِذا دخلت فِي كوَّة يرى وَلَا يُسْتَطَاع أَن يمس(1/302)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
{أَصْحَاب الْجنَّة} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَاب {يَوْمَئِذٍ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} منزلا {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} مبيتاً من منزل أبي جهل وَأَصْحَابه ومبيتهم(1/302)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
{وَيَوْم تشقق السَّمَاء بالغمام} لنزول الرب بِلَا كَيفَ {وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَة تَنزِيلاً} الأول فَالْأول(1/302)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
{الْملك} الْقَضَاء {يَوْمَئِذٍ الْحق} الْعدْل {للرحمن وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافرين عَسِيراً} شَدِيدا عسره وشدد ذَلِك الْيَوْم على الْكَافرين(1/302)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
{وَيَوْم يعَض الظَّالِم} الْكَافِر عقبَة ابْن أبي معيط {على يَدَيْهِ} على أنامله {يَقُولُ يَا لَيْتَني اتَّخذت مَعَ الرَّسُول سَبِيلاً} اسْتَقَمْت على دين الرَّسُول(1/302)
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)
{يَا ويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} مصافياً فِي الدّين أبي بن خلف الجُمَحِي(1/302)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
{لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذّكر} عَن التَّوْحِيد وَالطَّاعَة {بعد إِذْ جَاءَنِي} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالتَّوْحِيدِ {وَكَانَ الشَّيْطَان لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} خاذلاً يَخْذُلهُ عِنْد مَا يحْتَاج إِلَيْهِ(1/302)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
{وَقَالَ الرَّسُول} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {يَا رب إِنَّ قَوْمِي اتَّخذُوا هَذَا الْقُرْآن مَهْجُوراً} مسبوباً متروكاً لم يقرُّوا بِهِ وَلم يعملوا بِمَا فِيهِ(1/302)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
{وَكَذَلِكَ} كَمَا جعلنَا أَبَا جهل عدوا لَك {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ} قبلك {عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرمين} من مُشْركي قومه {وَكفى بِرَبِّكَ هَادِياً} حَافِظًا {وَنَصِيراً} مَانِعا مِمَّا يُرَاد بك(1/302)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
{وَقَالَ الَّذين كَفَرُواْ} أَبُو جهل وَأَصْحَابه {لَوْلاَ} هلا {نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} كَمَا أنزلت التَّوْرَاة على مُوسَى وَالْإِنْجِيل على عِيسَى وَالزَّبُور على دَاوُد {كَذَلِكَ} يَقُول أنزلنَا إِلَيْك جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ مُتَفَرقًا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} لنطيب بِهِ نَفسك ونحفظ بِهِ قَلْبك {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} بَيناهُ تبياناً بِالْأَمر وَالنَّهْي وَيُقَال أنزلنَا جِبْرِيل بِهِ مُتَفَرقًا آيَة بعد آيَة(1/303)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
{وَلاَ يَأْتُونَكَ} يَا مُحَمَّد {بِمَثَلٍ} بِصفة وَحجَّة بَيَان {إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} بِصفة وَبَيَان وَحجَّة وَمن فِيهَا نقض حجتهم {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} تبياناً وَحجَّة حجتهم(1/303)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
{الَّذين يُحْشَرُونَ} يجرونَ {على وُجُوهِهِمْ} يَوْم الْقِيَامَة {إِلَى جَهَنَّمَ} يَعْنِي أَبَا جهل وَأَصْحَابه {أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً} منزلا فِي الْآخِرَة وَعَملا فِي الدُّنْيَا {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} عَن الْحق وَالْهدى(1/303)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)
{وَلَقَد آتَيْنَا} أعطينا {مُوسَى الْكتاب} يَعْنِي التَّوْرَاة {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً} معينا(1/303)
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
{فَقُلْنَا اذهبآ إِلَى الْقَوْم الَّذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} التسع يَعْنِي فِرْعَوْن وَقَومه القبط فَلم يُؤمنُوا {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} أهلكناهم إهلاكاً بِالْغَرَقِ(1/303)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
{وَقَوْمَ نُوحٍ} أهلكنا {لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُل} يَعْنِي نوحًا وَجُمْلَة الرُّسُل {أَغْرَقْنَاهُمْ} بالطوفان {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} عِبْرَة لكيلا يقتدوا بهم {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} للْمُشْرِكين مُشْركي مَكَّة {عَذَاباً أَلِيماً} وجيعاً فِي النَّار(1/303)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
{وعادا} أهلكنا قوم هود {وَثَمُود} قوم صَالح {وَأَصْحَابَ الرس} قوم شُعَيْب {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} لم نسمهم أهلكناهم(1/303)
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
{وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَال} بَينا لكل قرن عَذَاب الْقُرُون الَّذين قبلهم فَلم يُؤمنُوا {وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} أهلكناهم إهلاكاً بَعضهم على أثر بعض(1/303)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
{وَلَقَدْ أَتَوْا} مضوا كفار مَكَّة {عَلَى الْقرْيَة} قريات لوط {الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء} يَعْنِي الْحِجَارَة {أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا} مَا فعل بهَا وبأهلها فَلَا يكذبُونَك بِمَا تَقول لَهُم {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} لَا يخَافُونَ الْبَعْث بعد الْمَوْت(1/303)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)
{وَإِذَا رَأَوْكَ} كفار مَكَّة {إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} مَا يَقُولُونَ لَك إِلَّا استهزاء وسخرية يَقُولُونَ {أَهَذا الَّذِي بَعَثَ الله رَسُولاً} إِلَيْنَا(1/303)
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
{إِن كَادَ} قد كَاد {لَيُضِلُّنَا} ليصرفنا {عَنْ آلِهَتِنَا} عَن عبَادَة آلِهَتنَا {لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} ثبتنا على عبادتها {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وَهَذَا وَعِيد من الله لَهُم {حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} دينا أَو حجَّة(1/303)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
{أَرَأَيْتَ} يَا مُحَمَّد {مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} من عبد إلهه بهوى نَفسه يَعْنِي النَّضر وَأَصْحَابه {أَفَأَنتَ} يَا مُحَمَّد {تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} حفيظاً من الْخُرُوج إِلَى هَذَا الْفساد نسختها آيَة الْجِهَاد وَيُقَال كَفِيلا بِالْعَذَابِ(1/303)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
{أَمْ تَحْسَبُ} يَا مُحَمَّد {أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} الْحق {أَوْ يَعْقِلُونَ} الْحق إِذا اسْتَمعُوا إِلَى كلامك {إِنْ هُمْ} مَا هم بفهم الْحق {إِلاَّ كالأنعام} كَالْبَهَائِمِ لَا تعقل إِلَّا الْأكل وَالشرب فَهُوَ كَذَلِك فِي اسْتِمَاع الْحق {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} عَن الْحجَّة وَالدين لِأَنَّهُ لَيْسَ على الْبَهَائِم السَّبِيل وَالْحجّة(1/303)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} ألم تنظر إِلَى صنع رَبك {كَيْفَ مَدَّ الظل}(1/303)
كَيفَ بسط الظل بعد طُلُوع الْفجْر وَقبل طُلُوع الشَّمْس من الْمشرق إِلَى الْمغرب {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} لتَركه دَائِما يَعْنِي الظل لَا شمس مَعَه {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْس عَلَيْهِ} على الظل {دَلِيلاً} حَيْثُمَا تكون الشَّمْس يكون الظل قبل ذَلِك وَيُقَال دَلِيلا تتلوه(1/304)
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ} يَعْنِي الظل {إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} هيناً وَيُقَال خفِيا(1/304)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْل لِبَاساً} ملبساً يلبس كل شَيْء فِيهِ {وَالنَّوْم سُبَاتاً} استراحة لأبدانكم {وَجَعَلَ النَّهَار نُشُوراً} مطلباً لمعايشكم(1/304)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاح بُشْرَاً} طيبا {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} قُدَّام الْمَطَر {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً} يطهر وَلَا يطهر(1/304)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
{لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} مَكَانا لَا نَبَات فِيهِ {وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً} بهائم {وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} خلقنَا كثيرا من النَّاس(1/304)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} يَعْنِي الْمَطَر قسمنا عَاما بعد عَام {لِيَذَّكَّرُواْ} لكَي يتعظوا بذلك {فَأبى أَكثر النَّاس إَلاَّ كُفُوراً} لم يقبلُوا واستقاموا على الْكفْر بِاللَّه وبنعمته(1/304)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)
{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} إِلَى كل أهل قَرْيَة {نَّذِيراً} رَسُولا مخوفا وَلَكِن جعلناك كَافَّة للنَّاس رَسُولا لكَي يكون الثَّوَاب والكرامة كِلَاهُمَا لَك(1/304)
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
{فَلاَ تُطِعِ الْكَافرين} أَبَا جهل وَأَصْحَابه بِمَا يأمرونك {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} بِالْقُرْآنِ {جِهَاداً كَبيراً} بِالسَّيْفِ(1/304)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرين} أرسل الْبَحْرين {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} حُلْو طيب {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} مر مالح زعاق {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا} بَين المالح وَالطّيب {بَرْزَخاً} حاجزاً {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} حَرَامًا محرما من أَن يُغير أَحدهمَا طعم صَاحبه(1/304)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المآء} من مَاء الذّكر وَالْأُنْثَى {بَشَراً} خلقا كثيرا {فَجَعَلَهُ نَسَباً} مَالا يحل تَزْوِيجه من الْقَرَابَة {وَصِهْراً} مَا يحل التَّزْوِيج من الْقَرَابَة وَغَيرهَا {وَكَانَ رَبُّكَ} بِمَا خلق من الْحَلَال وَالْحرَام {قَدِيراً}(1/304)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
{وَيَعْبُدُونَ} كفار مَكَّة {مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ} فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة عِبَادَته وطاعته {وَلاَ يَضُرُّهُمْ} فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مَعْصِيَته وَترك عِبَادَته {وَكَانَ الْكَافِر} أَبُو جهل {على رَبِّهِ ظَهِيراً} خَارِجا وَيُقَال عوناً للْكَافِرِينَ على ربه بالْكفْر(1/304)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {إِلاَّ مُبَشِّراً} بِالْجنَّةِ {وَنَذِيراً} من النَّار(1/304)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على التَّوْحِيد وَالْقُرْآن {مِنْ أَجْرٍ} من جعل وَلَا رزق {إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} طَرِيقا بِالْإِيمَان وَيُقَال إِلَّا من شَاءَ أَن يوحد ويتخذ بذلك التَّوْحِيد إِلَى ربه سَبِيلا مرجعا فيحدثوا بِهِ(1/304)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
{وَتَوَكَّلْ} يَا مُحَمَّد {عَلَى الْحَيّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ} وَلَا تتوكل على الْأَحْيَاء الَّذين يموتون مثل أبي طَالب وَخَدِيجَة وَلَا على الْأَمْوَات الَّذين لَا حَرَكَة لَهُم {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} صل بأَمْره {وَكفى بِهِ} بِاللَّه {بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} عَالما(1/304)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَيْنَهُمَا} من الْخلق والعجائب {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} من أَيَّام أول الدُّنْيَا طول كل يَوْم ألف سنة مِمَّا تَعدونَ أول يَوْم مِنْهَا يَوْم الْأَحَد وَآخر يَوْم مِنْهَا يَوْم الْجُمُعَة {ثُمَّ اسْتَوَى} اسْتَقر {عَلَى الْعَرْش} وَيُقَال امْتَلَأَ بِهِ الْعَرْش {الرَّحْمَن} مقدم ومؤخر يَقُول اسْتَوَى الرَّحْمَن على الْعَرْش(1/304)
{فاسأل بِهِ} بذلك {خَبِيراً} بِاللَّه عَالما وَيُقَال فاسأل عَن الله أهل الْعلم يخبروك(1/305)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} لكفار مَكَّة {اسجدوا للرحمن} أخضعوا للرحمن بِالتَّوْحِيدِ {قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَن} مَا نَعْرِف الرَّحْمَن إِلَّا مُسَيْلمَة الْكذَّاب {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} الْكذَّاب الْكَاذِب {وَزَادَهُمْ} ذكر الرَّحْمَن وَيُقَال الْقُرْآن وَيُقَال دَعْوَة النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {نُفُوراً} تباعداً عَن الْإِيمَان(1/305)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
{تَبَارَكَ} ذُو بركَة {الَّذِي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً} نجوماً وَيُقَال قصوراً {وَجَعَلَ فِيهَا} فِي السَّمَاء {سِرَاجاً} شمساً مضيئا لبني آدم بِالنَّهَارِ {وَقَمَراً مُّنِيراً} مضيئاً لبني آدم بِاللَّيْلِ(1/305)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْل وَالنَّهَار خِلْفَةً} مُخْتَلفَة بَعْضهَا لبَعض {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} أَن يتعظ باختلافهما {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} عملا صَالحا مَا ترك بِاللَّيْلِ يعْمل بِالنَّهَارِ وَمَا ترك بِالنَّهَارِ يعْمل بِاللَّيْلِ(1/305)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
{وَعِبَادُ الرَّحْمَن} خَواص الرَّحْمَن {الَّذين يَمْشُونَ على الأَرْض هَوْناً} تواضعاً من مَخَافَة الله {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ} وَإِذا كَلمهمْ الْكفَّار والفساق {قَالُواْ سَلاَماً} ردوا مَعْرُوفا وَقَالُوا سداداً من القَوْل(1/305)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
{وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ} بِالصَّلَاةِ {سُجَّداً وَقِيَاماً} فِي صَلَاة اللَّيْل(1/305)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
{وَالَّذين يَقُولُونَ رَبَّنَا} يَا رَبنَا {اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} لَازِما مُولَعا ملحاً(1/305)
إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
{إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً} منزلا {وَمُقَاماً} مثوى(1/305)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
ثمَّ ذكر نفقاتهم فَقَالَ {وَالَّذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ} لم ينفقوا فِي الْمعْصِيَة {وَلَمْ يَقْتُرُواْ} وَلم يمنعوا من الْحق {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ} بَين الْإِسْرَاف والتقتير {قَوَاماً} وسطا عدلا(1/305)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
{وَالَّذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله} لَا يعْبدُونَ مَعَ الله {إِلَهًا آخَرَ} من الْأَصْنَام {وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفس الَّتِي حَرَّمَ الله} قَتلهَا وَلَا يسْتَحلُّونَ قَتلهَا {إِلاَّ بِالْحَقِّ} بِالرَّجمِ وَالْقصاص والارتداد {وَلاَ يَزْنُونَ} وَلَا يسْتَحلُّونَ الزِّنَا {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِك} استحلالاً {يَلْقَ أَثَاماً} وَاديا فِي النَّار وَيُقَال جبا(1/305)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
{يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَاب يَوْمَ الْقِيَامَة وَيَخْلُدْ فِيهِ} فِي الْعَذَاب {مُهَاناً} يهان بِهِ ذليلاً(1/305)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
{إِلاَّ مَن تَابَ} من الْكفْر {وَآمَنَ} بِاللَّه {وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} خَالِصا بعد الْإِيمَان {فَأُولَئِك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} يحولهم الله من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان وَمن الْمعْصِيَة إِلَى الطَّاعَة وَمن عبَادَة الْأَصْنَام إِلَى عِبَادَته وَمن الشَّرّ إِلَى الْخَيْر {وَكَانَ الله غَفُوراً} لمن تَابَ {رَّحِيماً} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/305)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
{وَمَن تَابَ} من الذُّنُوب {وَعَمِلَ صَالِحاً} خَالِصا فِيمَا بَينه وَبَين ربه خَالِصا من قلبه {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً} مناصحة وَيُقَال يجد ثَوَابهَا عِنْد الله(1/305)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
{وَالَّذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} لَا يحْضرُون مجَالِس الزُّور {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} بمجالس الْبَاطِل {مَرُّوا كِراماً} أَعرضُوا حلماً(1/305)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ} وعظوا {بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا} على آيَات الله(1/305)
{صُمّاً} لَا يسمعُونَ {وَعُمْيَاناً} لَا يبصرون وَلَكِن يسمعُونَ ويبصرون(1/306)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
{وَالَّذين يَقُولُونَ رَبَّنَا} يَا رَبنَا {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} يَقُولُونَ أجعَل أَزوَاجنَا وَذُرِّيَّاتنَا صالحين لكَي تقر أَعيننَا بهم {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} اجْعَلْنَا صالحين لكَي يقتدوا بِنَا(1/306)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
{أُولَئِكَ} أهل هَذِه الصّفة {يُجْزَوْنَ الغرفة} الدَّرَجَات العلى فِي الْجنَّة {بِمَا صَبَرُواْ} على طَاعَة الله والفقر والمرازي {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} فِي الْجنَّة {تَحِيَّةً} من الله {وَسَلاَماً} يلقونهم بذلك الْمَلَائِكَة بالتحية وَالسَّلَام من الله إِذا دخلُوا فِي الْجنَّة(1/306)
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)
{خَالِدين فِيهَا} مقيمين فِي الْجنَّة لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً} منزلا {وَمُقَاماً} مثوى(1/306)
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} مَا يصنع بأجسامكم وصوركم رَبِّي {لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ} أَن الله أَمركُم بِالتَّوْحِيدِ {فَقَدْ كَذبْتُمْ} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {فَسَوْفَ} وَهَذَا وَعِيد من الله لَهُم {يَكُونُ لِزَاماً} عَذَاب يَوْم بدر بِالْقَتْلِ وَالضَّرْب والسبي يَعْنِي فقد كَذبْتُمْ بنبيكم فَسَوف يكون الْعَذَاب عَلَيْكُم لزاما وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا الشُّعَرَاء وهى كلهَا مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله وَالشعرَاء إِلَى آخر السُّورَة فَإِنَّهَا نزلت بِالْمَدِينَةِ آياتها مائَة وست وَعِشْرُونَ آيَة وكلماتها ألف ومائتان وَسبع وَسِتُّونَ وحروفها خَمْسَة آلَاف وَخَمْسمِائة وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}(1/306)
طسم (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {طسم} يَقُول الطَّاء طوله وَقدرته وَالسِّين سناؤه وَالْمِيم ملكه وَيُقَال قسم أقسم بِهِ(1/306)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{تِلْكَ آيَاتُ الْكتاب الْمُبين} يَقُول أقسم أَن هَذِه السُّورَة آيَات الْقُرْآن الْمُبين بالحلال وَالْحرَام وَالْأَمر والنهى(1/306)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} قَاتل نَفسك يَا مُحَمَّد بالحزن عَلَيْهِم {أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} بِأَن لَا يَكُونُوا مُؤمنين يَعْنِي قُريْشًا وَكَانَ حَرِيصًا على إِيمَانهم يحب إِيمَانهم(1/306)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
{إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً} عَلامَة {فَظَلَّتْ} فَصَارَت {أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} ذليلين(1/306)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
{وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ} مَا يَأْتِي جِبْرِيل إِلَى نَبِيّهم بقرآن {مِّنَ الرَّحْمَن مُحْدَثٍ} بإتيان مُحدث بعضه على إِثْر بعض {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ} مكذبين بِالْقُرْآنِ(1/306)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
{فقد كذبُوا} مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ} أَخْبَار {مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون} من الْعَذَاب وَيُقَال خبر عُقُوبَة استهزائهم بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن(1/306)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} كفار مَكَّة {إِلَى الأَرْض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ} من كل لون {كَرِيمٍ} حسن فِي المنظر(1/306)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} فِي اخْتِلَاف ألوانه {لآيَةً} لعلامة وعبرة {وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين} لم يَكُونُوا مُؤمنين وَكلهمْ كَانُوا كَافِرين من هلك يَوْم بدر(1/306)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيز} بالنقمة مِنْهُم {الرَّحِيم} بِالْمُؤْمِنِينَ(1/306)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
{وَإِذْ نَادَى} إِذْ دَعَا {رَبُّكَ مُوسَى} وَيُقَال أَمر رَبك مُوسَى {أَنِ ائْتِ الْقَوْم الظَّالِمين} الْكَافرين(1/306)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
{قوم فِرْعَوْن} بدل من الْقَوْم {أَلا تَتَّقُون} فَقل لَهُم أَلا تَتَّقُون عبَادَة غير الله(1/306)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
{قَالَ} مُوسَى {رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}(1/306)
فى الرسَالَة(1/307)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
{وَيَضِيقُ صَدْرِي} بتكذيبهم إيَّايَ وَيُقَال يجبن قلبِي {وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي} لَا يَسْتَقِيم لساني من مهابته {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} فَأرْسل معي هَارُون يكون عوناً لي وَيُقَال فَأرْسل إِلَى هَارُون جِبْرِيل ليَكُون معي معينا(1/307)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
{وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ} قصاص بقتلي القبطي {فَأَخَافُ أَن يقتلُون}(1/307)
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
{قَالَ} الله {كَلاَّ} حَقًا يَا مُوسَى لَا أسلطهم عَلَيْكُمَا بِالْقَتْلِ {فاذهبا بِآيَاتِنَآ} التسع الْيَد والعصا والطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم وَنقص من الثمرات والسنين {إِنَّا مَعَكُمْ} معينكما {مُّسْتَمِعُونَ} أسمع مَا يَقُول لَكمَا(1/307)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالمين} إِلَيْك وَإِلَى قَوْمك(1/307)
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} وَلَا تُعَذبهُمْ فَنظر فِرْعَوْن إِلَى مُوسَى(1/307)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} صَغِيرا يَا مُوسَى {وَلَبِثْتَ} مكثت {فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} ثَلَاثِينَ سنة(1/307)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} قتلت النَّفس الَّتِي قتلت {وَأَنتَ مِنَ الْكَافرين} بنعمتي السَّاعَة(1/307)
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
{قَالَ} مُوسَى {فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّين} من الْجَاهِلين بنعمتك عَليّ(1/307)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
{فَفَرَرْتُ} فهربت {مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} على نَفسِي بِالْقَتْلِ {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً} فهما وعلماً ونبوة {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسلين} إِلَيْك وَإِلَى قَوْمك(1/307)
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} هَذِه نعْمَة {تَمُنُّهَا عَلَيَّ} يَا فِرْعَوْن وَلَا تذكر جفاك عَليّ {أَنْ عَبَّدتَّ} بِأَن استعبدت {بَنِي إِسْرَائِيلَ}(1/307)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)
{قَالَ فِرْعَوْنُ} لمُوسَى {وَمَا رَبُّ الْعَالمين} من رب الْعَالمين يَا مُوسَى إيَّايَ تَعْنِي(1/307)
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
{قَالَ} مُوسَى {رَبُّ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} يَقُول رب الْعَالمين هُوَ رب السَّمَوَات وَالْأَرْض {وَمَا بَيْنَهُمَآ} من الْخلق والعجائب {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} مُصدقين بِأَن الله خلقهما(1/307)
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)
{قَالَ} فِرْعَوْن {لِمَنْ حَوْلَهُ} من الجلساء {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} إِلَى مَا يَقُول مُوسَى وَكَانَ حوله مِائَتَان وَخَمْسُونَ رجلا جُلُوسًا عَلَيْهِم أقبية الديباج مخوصة بِالذَّهَب وَكَانُوا خاصته قَالُوا لمُوسَى من رب السَّمَوَات وَالْأَرْض الَّذِي تدعونا إِلَيْهِ يَا مُوسَى(1/307)
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
{قَالَ} مُوسَى {رَبُّكُمْ} هُوَ ربكُم {وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الْأَوَّلين}(1/307)
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
{قَالَ} فِرْعَوْن لجلسائه {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} قَالُوا إِلَى من تدعونا إِلَيْهِ يَا مُوسَى وَمن ربناا وَرب أبائنا الْأَوَّلين(1/307)
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
{قَالَ} مُوسَى {رَبُّ الْمشرق} هُوَ رب الْمشرق {وَالْمغْرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} تصدقُونَ ذَلِك(1/307)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
{قَالَ} فِرْعَوْن لمُوسَى {لَئِنِ اتَّخذت} عبدت {إِلَهًا غَيْرِي} يَا مُوسَى {لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} من المحبوسين فِي السجْن وَكَانَ سجنه أَشد من الْقَتْل وَكَانَ إِذا سجن أحدا طَرحه فِي مَكَان وَحده فَردا لَا يسمع فِيهِ شَيْئا وَلَا ينظر فِيهِ شَيْئا يهوله بِهِ(1/307)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
{قَالَ} مُوسَى {أَوَلَوْ جِئْتُكَ} يَا فِرْعَوْن {بِشَيءٍ مُّبِينٍ} بِآيَة بَيِّنَة على مَا أَقُول(1/307)
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
{قَالَ} فِرْعَوْن {فَأْتِ بِهِ} يَا مُوسَى {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقين} بأنك رَسُول إِلَيّ وَإِلَى قومى(1/307)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)
{فَألْقى} مُوسَى {عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ} حَيَّة صفراء ذكر {مُّبِينٌ} عَظِيم أعظم مَا يكون من الْحَيَّات قَالَ فِرْعَوْن هَذِه آيَة بَيِّنَة فَهَل غير هَذِه(1/307)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
{وَنَزَعَ يَدَهُ} أخرج مُوسَى يَده من إبطه {فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} لَهَا ضوء كضوء الشَّمْس تعجب الناظرين إِلَيْهَا(1/307)
قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
{قَالَ} فِرْعَوْن {لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا}(1/307)
الرَّسُول {لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} حاذق بِالسحرِ(1/308)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)
{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ} مصر {بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} تشيرون عَليّ بِهِ(1/308)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)
{قَالُوا أَرْجِهْ} احبسه {وَأَخَاهُ} وَلَا تقتلهما {وَابعث فِي المدآئن} إِلَى مَدَائِن الساحرين {حَاشِرِينَ} الشَّرْط(1/308)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ} سَاحر {عَلِيمٍ} حاذق بسحره فيصنعون مثل مَا يصنع مُوسَى(1/308)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
{فَجُمِعَ السَّحَرَة} اثْنَان وَسَبْعُونَ ساحراً {لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} لميعاد يَوْم مَعْرُوف وَهُوَ يَوْم السُّوق وَيُقَال يَوْم عيدهم وَيُقَال يَوْم نيروزهم(1/308)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
{وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَة} دين السَّحَرَة {إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين} على مُوسَى(1/308)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)
{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَة قَالُوا لفرعون أئن لَنَا لأَجْراً} جعلا من المَال {إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} على مُوسَى(1/308)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
{قَالَ} فِرْعَوْن {نَعَمْ} لكم عِنْدِي ذَلِك {وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} فِي الْقدر والمنزلة وَالدُّخُول على(1/308)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
{قَالَ لَهُمْ مُوسَى} للسحرة {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ ملقون}(1/308)
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
{فَألْقوا حبالهم وعصيهم} اثْنَتَيْنِ وَسبعين حبلا واثنين وَسبعين عَصا {وَقَالُواْ} يَعْنِي السَّحَرَة {بِعِزَّةِ} بمنعة {فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} على مُوسَى(1/308)
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)
{فَألْقى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} تلقم {مَا يَأْفِكُونَ} مأفوكهم من السحر(1/308)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَة سَاجِدِينَ} سجدوا من سرعَة سجودهم كَأَنَّهُمْ ألقوا لما ذهبت حبالهم وعصيهم علمُوا أَنه من الله(1/308)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)
{قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالمين} قَالَ لَهُم فِرْعَوْن إيَّايَ تعنون قَالُوا(1/308)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
{رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ} فِرْعَوْن {آمَنتُمْ لَهُ} صَدقْتُمْ بِهِ {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} آمركُم بِهِ {إِنَّهُ} يَعْنِي مُوسَى {لَكَبِيرُكُمُ} عالمكم {الَّذِي عَلَّمَكُمُ السحر فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} مَاذَا أفعل بكم {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} الْيَد الْيُمْنَى وَالرجل الْيُسْرَى {ولأصلبنكم أَجْمَعِينَ} على شاطىء نهر مصر(1/308)
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)
{قَالُواْ لاَ ضَيْرَ} لَا يضرنا فِي الْآخِرَة مَا تصنع بِنَا فِي الدُّنْيَا {إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} رَاجِعُون إِلَى الله وَإِلَى ثَوَابه(1/308)
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
{إِنَّا نَطْمَعُ} نرجو {أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ} شركنا {أَن كُنَّآ} بِأَن كُنَّا {أَوَّلَ الْمُؤمنِينَ} بمُوسَى(1/308)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بعبادي} أَن أدْلج بعبادي لَيْلًا من آمن بك من بني إِسْرَائِيل {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} يدرككم فِرْعَوْن وَقَومه(1/308)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)
{فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن حَاشِرِينَ} الشَّرْط(1/308)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
{إِنَّ هَؤُلَاءِ} أَصْحَاب مُوسَى {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} فِئَة قَليلَة(1/308)
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)
{وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ} مبغضون أحردونا(1/308)
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} شاكون ممدون بِالسِّلَاحِ(1/309)
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57)
{فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} مَاء طَاهِر(1/309)
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
{وَكُنُوزٍ} أَمْوَال {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} منَازِل حَسَنَة(1/309)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
{كَذَلِكَ} أفعل بِمن عَصَانِي {وَأَوْرَثْنَاهَا} يَعْنِي مصر {بني إِسْرَائِيلَ} بعد هلاكهم(1/309)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
{فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} عِنْد طُلُوع الشَّمْس(1/309)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
{فَلَمَّا تَرَاءَى} ظهر {الْجَمْعَانِ} جمع مُوسَى وَجمع فِرْعَوْن {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أَي أدركونا يَا مُوسَى(1/309)
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
{قَالَ} مُوسَى {كَلاَّ} حَقًا لَا يدركونا {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} سينجيني مِنْهُم ويهديني إِلَى الطَّرِيق(1/309)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
{فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْر} فَضرب {فانفلق} فانشق فَصَارَ فِيهِ اثْنَا عشر طَرِيقا {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} كل طَرِيق {كالطود الْعَظِيم} كالجبل الْعَظِيم(1/309)
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
{وأزلفنا ثمَّ الآخرين} يَقُول حبسنا فِرْعَوْن وَقَومه فِي الضبابة وَيُقَال فِي الْبَحْر وَكلهمْ كَانُوا كَافِرين(1/309)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)
{وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ} من الْغَرق(1/309)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين} فِرْعَوْن وَقَومه فِي اليم(1/309)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
{إِن فِي ذَلِك} فِيمَا فعلنَا بهم {لآيَة} لعلامة وعبرة {وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين} لم يَكُونُوا مُؤمنين(1/309)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيز} بالنقمة من الْكفَّار {الرَّحِيم} بِالْمُؤْمِنِينَ إِذْ أنجاهم من الْغَرق(1/309)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)
{واتل} اقْرَأ {عَلَيْهِمْ} على قَوْمك قُرَيْش {نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} خبر إِبْرَاهِيم فِي الْقُرْآن(1/309)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ} آزر {وَقَوْمِهِ} عَبدة الْأَوْثَان {مَا تَعْبدُونَ}(1/309)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
{قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً} آلِهَة {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} فنصير لَهَا عابدين مقيمين على عبادتها(1/309)
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)
{قَالَ} لَهُم إِبْرَاهِيم {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} يَقُول هَل يجيبونكم الْآلهَة إِذا دعوتموهم(1/309)
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
{أَوْ يَنفَعُونَكُمْ} فِي معايشكم إِذا أطعتموهم {أَوْ يَضُرُّونَ} فِي معايشكم إِذا عصيتموهم(1/309)
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
{قَالُواْ} لَا {بَلْ وَجَدْنَآ} وَلَكِن وجدنَا {آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} يعبدونها فَنحْن نعبدها نقتدي بهم(1/309)
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75)
{قَالَ} إِبْرَاهِيم {أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ}(1/309)
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)
{أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون} وَمَا كَانَ يعبد آباؤكم الْأَولونَ(1/309)
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} تَبرأ مِنْهُم {إِلاَّ رَبَّ الْعَالمين} إِلَّا من كَانَ مِنْهُم يعبد رب الْعَالمين(1/309)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
{الَّذِي خَلَقَنِي} من النُّطْفَة {فَهُوَ يَهْدِينِ} يحفظني على الدّين ويرشدني إِلَى الْحق وَالْهدى(1/309)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي} يَرْزُقنِي ويشبعني إِذا جعت {وَيَسْقِينِ} يرويني إِذا عطشت(1/309)
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} من الْمَرَض إِذا مَرضت(1/309)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
{وَالَّذِي يُمِيتُنِي} فِي الدُّنْيَا {ثُمَّ يُحْيِينِ} يَوْم الْقِيَامَة(1/309)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
{وَالَّذِي أَطْمَعُ} أَرْجُو {أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} ذَنبي {يَوْمَ الدّين} يَوْم الْحساب وَكَانَت خطيئته قَوْله إِنِّي سقيم وَقَوله بل فعله كَبِيرهمْ وَقَوله لامْرَأَته هَذِه أُخْتِي(1/309)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} فهما وعلماً {وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} بآبائي الْمُرْسلين فِي الْجنَّة(1/310)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
{وَاجعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ} ثَنَاء حسنا {فِي الآخرين} فِي البَاقِينَ بعدِي(1/310)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
{واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعيم} من نازلي جنَّة النَّعيم(1/310)
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
{واغفر لأبي} اهدِ أبي {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين} إِنَّه كَانَ ضَالًّا كَافِرًا(1/310)
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
{وَلاَ تُخْزِنِي} لَا تعذبني {يَوْمَ يُبْعَثُونَ} من الْقُبُور(1/310)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)
{يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ} كَثْرَة المَال {وَلاَ بَنُونَ} كَثْرَة الْبَنِينَ(1/310)
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
{إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} خَالص من الذَّنب وَحب الدُّنْيَا وَيُقَال سليم من بغض أَصْحَاب النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/310)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
{وَأُزْلِفَتِ الْجنَّة} قربت الْجنَّة {لِلْمُتَّقِينَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش فَصَارَت لَهُم منزلا(1/310)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيم} أظهرت وَيُقَال لاحت الْجَحِيم {لِلْغَاوِينَ} للْكَافِرِينَ فَصَارَت لَهُم منزلا(1/310)
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92)
{وَقِيلَ لَهُمْ} لعبدة الْأَوْثَان {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبدُونَ}(1/310)
مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
{مِن دُونِ الله} فِي الدُّنْيَا من الْأَصْنَام {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ} هَل يمنعونكم من عَذَاب الله {أَوْ يَنتَصِرُونَ} يمتنعون بِأَنْفسِهِم من الْعَذَاب(1/310)
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
{فَكُبْكِبُواْ فِيهَا} فطرحوا فِيهَا وجمعوا فِي النَّار {هُمْ} كفار مَكَّة وَسَائِر كفار الْإِنْس {والغاوون} كفار الْجِنّ وآلهتهم(1/310)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
{وَجُنُودُ إِبْلِيسَ} ذُرِّيَّة إِبْلِيس {أَجْمَعُونَ} وهم الشَّيَاطِين(1/310)
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)
{قَالُواْ} يَعْنِي الْكفَّار {وَهُمْ فِيهَا} فِي النَّار {يَخْتَصِمُونَ} مَعَ آلِهَتهم وَرُؤَسَائِهِمْ وذرية إِبْلِيس(1/310)
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)
{تالله} وَالله {إِن كُنَّا} قد كُنَّا {لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} فِي خطأ بَين فِي الدُّنْيَا(1/310)
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
{إِذْ نسويكم} نعد لكم {بِرَبِّ الْعَالمين} فِي الْعِبَادَة(1/310)
وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)
{وَمَآ أَضَلَّنَآ} مَا صرفنَا عَن الْإِيمَان وَالطَّاعَة {إِلاَّ المجرمون} الْمُشْركُونَ قبلنَا الَّذين اقتدينا بهم(1/310)
فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100)
{فَمَا لَنَا} فَلَيْسَ لنا أحد {مِن شَافِعِينَ} من الْمَلَائِكَة والنبيين وَالصَّالِحِينَ يشفع لنا(1/310)
وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
{وَلَا صديق حميم} لاذى قرَابَة يهمه أمرنَا(1/310)
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
{فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} رَجْعَة إِلَى الدُّنْيَا {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤمنِينَ} مَعَ الْمُؤمنِينَ بِالْإِيمَان(1/310)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} فِيمَا ذكرت من حَالهم {لآيَة} لعلامة وعبرة {وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين} لَو رجعُوا إِلَى الدُّنْيَا وَيُقَال لم يَكُونُوا مُؤمنين وَكلهمْ كَانُوا كَافِرين(1/310)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيز} بالنقمة مِنْهُم {الرَّحِيم} بِالْمُؤْمِنِينَ(1/310)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسلين} نوحًا وَجُمْلَة الْمُرْسلين الَّذين ذكرهم نوح(1/310)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} نَبِيّهم {نُوحٌ} وَلم يكن أَخَاهُم فِي الدّين وَلَكِن كَانَ من قرابتهم {أَلاَ تَتَّقُونَ} عبَادَة غير الله(1/310)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)
{إِنِّي لَكُمْ} من الله {رَسُولٌ أَمِينٌ} على الرسَالَة وَيُقَال قد كنت فِيكُم أَمينا قبل هَذَا فَكيف تتهموني الْيَوْم(1/310)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)
{فَاتَّقُوا الله} فاخشوا الله فِيمَا أَمركُم من التَّوْبَة وَالْإِيمَان {وَأَطِيعُونِ} اتبعُوا أَمْرِي وديني(1/310)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على التَّوْحِيد {مِنْ أَجْرٍ} من رزق {إِنْ أَجْرِيَ} مَا رِزْقِي {إِلاَّ على رَبِّ الْعَالمين}(1/310)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
{فَاتَّقُوا الله} فاخشوا الله فِيمَا أَمركُم من التَّوْبَة وَالْإِيمَان {وَأَطِيعُونِ} اتبعُوا وصيتي(1/310)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ} أنصدقك يَا نوح {واتبعك الأرذلون} سفلتنا وضعفاؤنا اطردهم حَتَّى نؤمن بك(1/310)
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)
{قَالَ} نوح {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} مَا علمت أَنهم يوفقون أَو أَنْتُم(1/311)
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)
{إِنْ حِسَابُهُمْ} مَا ثوابهم ومؤنتهم {إِلاَّ على رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} لَو تعلمُونَ ذَلِك(1/311)
وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
{وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤمنِينَ} عَن عبَادَة الله(1/311)
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
{إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} مَا أَنا إِلَّا رَسُول مخوف بلغَة تعلمونها(1/311)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
{قَالُوا لَئِن لم تَنْتَهِ يَا نوح} عَن مَقَالَتك {لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} من المقتولين كَمَا قتلنَا من آمن بك من الغرباء(1/311)
قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)
{قَالَ} نوح {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} فِي الرسَالَة وَقتلُوا من آمن بِي من الغرباء(1/311)
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
{فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} فَاقْض بيني وَبينهمْ قَضَاء بِالْعَدْلِ {وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤمنِينَ} من عَذَابهمْ(1/311)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
{فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ} من الْمُؤمنِينَ {فِي الْفلك المشحون} فى السَّفِينَة المجهزة الموقرة المملوؤة الَّتِي لم يبْق إِلَّا رَفعهَا(1/311)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)
{ثمَّ أغرقنا بعد} بعد مَا ركب نوح فِي السَّفِينَة {البَاقِينَ} من قومه(1/311)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)
{إِن فِي ذَلِك} فِيمَا فعلنَا بهم {لآيَة} لعلامة وعبرة لمن بعدهمْ {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} لم يَكُونُوا مُؤمنين وَكلهمْ كَانُوا كَافِرين(1/311)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيز} بالنقمة مِنْهُم إِذْ أغرقهم بالطوفان {الرَّحِيم} بِالْمُؤْمِنِينَ إِذْ نجاهم من الْغَرق(1/311)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسلين} قوم هود هوداً وَجُمْلَة الْمُرْسلين الَّذين ذكرهم هود(1/311)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} نَبِيّهم {هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} عبَادَة غير الله(1/311)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} من الله {أَمِينٌ} على الرسَالَة(1/311)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)
{فَاتَّقُوا الله} أطِيعُوا الله فِيمَا أَمركُم من التَّوْبَة وَالْإِيمَان {وَأَطِيعُونِ} فِيمَا أَمرتكُم(1/311)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على التَّوْحِيد {مِنْ أَجْرٍ} من جعل {إِنْ أَجْرِيَ} مَا ثوابي {إِلاَّ على رَبِّ الْعَالمين}(1/311)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} بِكُل طَرِيق عَلامَة {تَعْبَثُونَ} تضربون وتأخذون ثِيَاب من مر بكم من الغرباء وهم العشارون على الطّرق وَله وَجه آخر يَقُول أتبنون بِكُل ريع بِكُل سوق آيَة عَلامَة تعبثون تسخرون بِمن مر بكم(1/311)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} الْمنَازل والقصور والحياض {لَعَلَّكُمْ} كأنكم {تَخْلُدُونَ} فِي الدُّنْيَا لَا تخلدون(1/311)
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
{وَإِذا بطشتم بطشتم جبارين} وَإِذا أخذتهم بالعقوبة أَخَذْتُم بعقوبة الجبارين تضربون وتقتلون على الْغَضَب(1/311)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)
{فَاتَّقُوا الله} فاخشوا الله فِيمَا أَمركُم من التَّوْبَة وَالْإِيمَان {وَأَطِيعُونِ} اتبعُوا أَمْرِي(1/311)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132)
{وَاتَّقوا الَّذِي} اخشوا الَّذِي {أَمَدَّكُمْ} أَعْطَاكُم {بِمَا تعلمُونَ}(1/311)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)
ثمَّ بَين مَا أَعْطَاهُم فَقَالَ {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} أَعْطَاكُم أنعاماً وبنين(1/311)
وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
{وَجَنَّاتٍ} بساتين {وَعُيُونٍ} مَاء طَاهِر(1/311)
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} أعلم أَن يكون عَلَيْكُم {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فِي النَّار إِن لم تتوبوا من الْكفْر والشرك وَعبادَة الْأَوْثَان(1/311)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
{قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ} أنهيتنا {أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين} من الناهين لنا(1/311)
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
{إِنْ هَذَا} مَا هَذَا الَّذِي نَحن عَلَيْهِ {إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلين} دين الْأَوَّلين دين آبَائِنَا الْأَوَّلين وَيُقَال إِن هَذَا الَّذِي تَقول إِلَّا خلق الْأَوَّلين إِلَّا اخْتِلَاق الْأَوَّلين(1/311)
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كَمَا تَقول على هَذَا الدّين(1/311)
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
{فَكَذَّبُوهُ} بالرسالة وَبِمَا قَالَ لَهُم {فَأَهْلَكْنَاهُمْ} بِالرِّيحِ {إِن فِي ذَلِك} فِيمَا فعلنَا بهم {لآيَة} لعلامة وعبرة لمن بعدهمْ(1/311)
{وَمَا كَانَ أَكْثَرهم مُؤمنين} لم يَكُونُوا مُؤمنين وَكلهمْ كَانُوا كَافِرين(1/312)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيز} بالنقمة من الْكفَّار {الرَّحِيم} بِالْمُؤْمِنِينَ إِذْ نجاهم من الْعَذَاب بِالرِّيحِ(1/312)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسلين} قوم صَالح صَالحا وَجُمْلَة الْمُرْسلين الَّذين أخْبرهُم صَالح(1/312)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} نَبِيّهم {صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} عبَادَة غير الله(1/312)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143)
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} من الله {أَمِينٌ} على الرسَالَة(1/312)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)
{فَاتَّقُوا الله} فاخشوا الله فِيمَا أَمركُم من التَّوْبَة وَالْإِيمَان {وَأَطِيعُونِ} اتبعُوا أَمْرِي وديني(1/312)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على التَّوْحِيد {مِنْ أَجْرٍ} من جعل ورزق {إِنْ أَجْرِيَ} مَا ثوابي {إِلاَّ على رَبِّ الْعَالمين}(1/312)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
{أتتركون فِي مَا هَا هُنَا} فِي هَذِه النعم {آمِنِينَ} من الْمَوْت والزوال وَالْعَذَاب(1/312)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)
{فِي جَنَّاتٍ} فِي بساتين {وَعُيُونٍ} مَاء طَاهِر(1/312)
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
{وَزُرُوعٍ} حروث {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا} ثَمَرهَا {هَضِيمٌ} لين لطيف نضيج(1/312)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجبَال} الْجبَال {بُيُوتاً فَارِهِينَ} حاذقين وَيُقَال معجبين بضيعكم متكبرين إِن قَرَأت بِغَيْر الْألف(1/312)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
{فَاتَّقُوا الله} فاخشوا االله فِيمَا أَمركُم {وَأَطِيعُونِ} اتبعُوا أَمْرِي ووصيتي(1/312)
وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)
{وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين} قَول الْمُشْركين(1/312)
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
{الَّذين يُفْسِدُونَ فِي الأَرْض} بالْكفْر والشرك وَالدُّعَاء إِلَى غير عبَادَة الله {وَلاَ يُصْلِحُونَ} لَا يأمرون بالصلاح(1/312)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)
{قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} المجوفين سوقة مثلنَا لست بِملك وَلَا نَبِي(1/312)
مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
{مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ} آدَمِيّ {مِّثْلُنَا} تَأْكُل وتشرب كَمَا نَأْكُل وَنَشْرَب {فَأْتِ بِآيَةٍ} بعلامة على مَا تَقول {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقين} بمجيء الْعَذَاب وَأَنَّك رَسُول إِلَيْنَا(1/312)
قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
{قَالَ} لَهُم صَالح {هَذِه نَاقَةٌ} عَلامَة لكم لنبوتي {لَّهَا شِرْبٌ} يَوْم من المَاء {وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ} من المَاء {مَّعْلُومٍ} بالنوبة يَوْم لَهَا وَيَوْم لكم(1/312)
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
{وَلَا تمسوها بِسوء} بعقر {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} كَبِير(1/312)
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)
{فَعَقَرُوهَا} فَقَتَلُوهَا {فَأَصْبَحُواْ} صَارُوا {نَادِمِينَ} على قَتلهَا(1/312)
فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)
{فَأَخَذَهُمُ الْعَذَاب} بعد ثَلَاثَة أَيَّام {إِنَّ فِي ذَلِك} فِيمَا فعلنَا بهم {لآيَة} لعلامة وعبرة لمن بعدهمْ {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} لم يَكُونُوا مؤمنيها وَكلهمْ كَانُوا كَافِرين(1/312)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
{وَإِنَّ رَبَّكَ} يَا مُحَمَّد {لَهُوَ الْعَزِيز} بالنقمة من الْكفَّار {الرَّحِيم} بِالْمُؤْمِنِينَ(1/312)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسلين} لوطاً وَجُمْلَة الْمُرْسلين الَّذين أخْبرهُم لوط(1/312)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} نَبِيّهم {لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} عبَادَة غير الله(1/312)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162)
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} من الله {أَمِينٌ} على الرسَالَة(1/312)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163)
{فَاتَّقُوا الله} فاخشوا الله فِيمَا أَمركُم بِهِ من التَّوْبَة وَالْإِيمَان {وَأَطِيعُونِ} اتبعُوا أَمْرِي وديني(1/312)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على التَّوْحِيد {مِنْ أَجْرٍ} من جعل {إِنْ أَجْرِيَ} مَا ثوابي {إِلاَّ على رَبِّ الْعَالمين}(1/312)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
{أَتَأْتُونَ الذكران} أدبار الرِّجَال(1/312)
{مِنَ الْعَالمين} من بَين الْعَالمين(1/313)
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
{وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ} مَا أحل لكم ربكُم {مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} من فروج نِسَائِكُم {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} تعتدون الْحَلَال إِلَى الْحَرَام(1/313)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
{قَالُوا لَئِن لم تَنْتَهِ يَا لوط} عَن مَقَالَتك {لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين} من أَرْضنَا سدوم(1/313)
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
{قَالَ} لوط {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ} الْخَبيث {مِّنَ القالين} المبغضين(1/313)
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
{رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً} امْرَأَته المنافقة {فِي الغابرين} تخلفت مَعَ البَاقِينَ بِالْهَلَاكِ(1/313)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
{ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين} أهلكنا البَاقِينَ من قومه(1/313)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم} على شذاذهم ومسافريهم {مَّطَراً} حِجَارَة {فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنْذرين} بئس الْمَطَر بِالْحِجَارَةِ ان أَنْذرهُمْ لوط فَلم يُؤمنُوا(1/313)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
{إِن فِي ذَلِك} فِيمَا فعلنَا بهم {لآيَة} لعلامة وعبرة لمن بعدهمْ {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} لم يَكُونُوا مُؤمنين وَكلهمْ كَانُوا كَافِرين(1/313)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيز} بالنقمة من الْكَافرين {الرَّحِيم} بِالْمُؤْمِنِينَ(1/313)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
{كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة الْمُرْسلين} قوم شُعَيْب شعيباً وَجُمْلَة الْمُرْسلين(1/313)
إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177)
{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} عبَادَة غير الله(1/313)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178)
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} من الله {أَمِينٌ} على الرسَالَة(1/313)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179)
{فَاتَّقُوا الله} فاخشوا الله فِيمَا أَمركُم من التَّوْبَة وَالْإِيمَان {وَأَطيعُوا} اتبعُوا أَمْرِي ووصيتي(1/313)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على التَّوْحِيد {مِنْ أَجْرٍ} من جعل {إِنْ أَجْرِيَ} مَا ثوابي {إِلاَّ على رَبِّ الْعَالمين}(1/313)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)
{أَوْفُواْ الْكَيْل} أَتموا الْكَيْل وَالْوَزْن {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين} من ناقصي الْكَيْل وَالْوَزْن وَكَانُوا مسيئين بِالْكَيْلِ وَالْوَزْن(1/313)
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)
{وَزِنُواْ بالقسطاس الْمُسْتَقيم} بميزان الْعدْل(1/313)
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
{وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاس أَشْيَآءَهُمْ} لَا تنقصوا حُقُوق النَّاس فِي الْكَيْل وَالْوَزْن {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْض مفسدين وَإِذ} لَا تعملوا بالمعاصى فى الأَرْض وَالْفساد بِنَقص الْكَيْل وَالْوَزْن وَالدُّعَاء إِلَى غير عبَادَة الله(1/313)
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
{وَاتَّقوا} اخشوا {الَّذِي خَلَقَكُمْ والجبلة الْأَوَّلين} خلق الْأَوَّلين قبلكُمْ(1/313)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
{قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} من المجوفين سوقة مثلنَا لست بِملك وَلَا نَبِي(1/313)
وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)
{وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ} آدَمِيّ {مِّثْلُنَا} تَأْكُل وتشرب كَمَا نَأْكُل وَنَشْرَب {وَإِن نَّظُنُّكَ} وَقد نظنك {لَمِنَ الْكَاذِبين} على مَا تَقول(1/313)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً} قطعا {مِّنَ السمآء} من الْعَذَاب {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقين} بمجيء الْعَذَاب(1/313)
قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)
{قَالَ} شُعَيْب {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} فِي الْكفْر وَأعلم بكم وبعذابكم(1/313)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
{فَكَذَّبُوهُ} بالرسالة {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} وقف الْعَذَاب فَوْقهم كسحابة فَأَحْرَقَتْهُمْ بحرها {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} شَدِيد عَلَيْهِم بِالْعَذَابِ(1/313)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
{إِن فِي ذَلِك} فِيمَا فعلنَا بهم {لآيَة} لعلامة وعبرة لمن بعدهمْ {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} لم يَكُونُوا مُؤمنين وَكلهمْ كَانُوا كَافِرين(1/314)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيز} بالنقمة من الْكفَّار {الرَّحِيم} بِالْمُؤْمِنِينَ(1/314)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
{وَإِنَّهُ} يَعْنِي الْقُرْآن {لَتَنزِيلُ} لتكليم {رَبِّ الْعَالمين}(1/314)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
{نَزَلَ بِهِ الرّوح الْأمين} نزل الله بِالْقُرْآنِ جِبْرِيل الْأمين بالرسالة إِلَى أنبيائه(1/314)
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
{على قَلْبِكَ} على قدر حفظك وَيُقَال حِين تلاه عَلَيْك {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذرين} من المخوفين بِالْقُرْآنِ(1/314)
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} يَقُول الْقُرْآن على مجْرى لُغَة الْعَرَبيَّة وَيُقَال نبئهم يَا مُحَمَّد بلغتهم(1/314)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
{وَإِنَّهُ} يَعْنِي نعت الْقُرْآن وَمُحَمّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلين} مَكْتُوب فِي كتب الْأَنْبِيَاء قبلك(1/314)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
{أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ} لأهل مَكَّة {آيَةً} عَلامَة لنبوة مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {أَن يَعْلَمَهُ} أَن يُخْبِرهُمْ {عُلَمَاءُ بني إِسْرَائِيلَ} حَيْثُ سألوهم عَن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن فَأَخْبرُوهُمْ بذلك(1/314)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ} نزلنَا جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {على بَعْضِ الأعجمين} على رجل لَا يتَكَلَّم بِالْعَرَبِيَّةِ(1/314)
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
{فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم} على قُرَيْش {مَّا كَانُوا بِهِ} بِالْقُرْآنِ {مُؤْمِنِينَ} لأَنهم لم يُؤمنُوا بِمَا كَانَ بلغتهم فَكيف يُؤمنُونَ بِمَا لم يكن بلغتهم(1/314)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
{كَذَلِكَ} هَكَذَا {سَلَكْنَاهُ} تركنَا التَّكْذِيب {فِي قُلُوبِ الْمُجْرمين} الْمُشْركين أبي جهل وَأَصْحَابه(1/314)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
{لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} لكَي لَا يُؤمنُوا بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَاب الْأَلِيم} الوجيع(1/314)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
{فَيَأْتِيَهُم} الْعَذَاب {بَغْتَةً} فَجْأَة {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بنزول الْعَذَاب عَلَيْهِم(1/314)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)
{فَيَقُولُواْ} عِنْد نزُول الْعَذَاب عَلَيْهِم {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} مؤجلون من الْعَذَاب(1/314)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} بمجيئه(1/314)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)
{أَفَرَأَيْتَ} يَا مُحَمَّد {إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} فِي كفرهم(1/314)
ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)
{ثُمَّ جَآءَهُم} بل جَاءَهُم {مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ} من الْعَذَاب(1/314)
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
{مَآ أغْنى عَنْهُمْ} من عَذَاب الله {مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} يؤجلون(1/314)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)
{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} من أهل قَرْيَة {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} رسل مخوفون(1/314)
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
{ذكرى} يذكرونهم من عَذَاب الله {وَمَا كُنَّا ظالمين} بهلاكهم(1/314)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)
{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ} بِالْقُرْآنِ {الشَّيَاطِين} على عهد مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام(1/314)
وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)
{وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ} مَا هم الشَّيَاطِين لَهُ بِأَهْل {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} وَمَا يقدرُونَ على ذَلِك(1/314)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
{إِنَّهُمْ} يَعْنِي الشَّيَاطِين {عَنِ السّمع} عَن الِاسْتِمَاع للوحى {لمعزولون} لممنوعون(1/314)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
{فَلَا تدع} فَلَا تعبد {مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ} من الْأَوْثَان {فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبين} فِي النَّار(1/314)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبين} فِي الرَّحِم(1/314)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
{واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ الْمُؤمنِينَ} لين جَانِبك للْمُؤْمِنين(1/314)
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
{فَإِن عصوك} قُرَيْش {فَقل إِنِّي بَرِيء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} وتقولون فِي كفركم(1/314)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
{وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيز} بالنقمة من أعدائه {الرَّحِيم} بك وَبِالْمُؤْمِنِينَ(1/315)
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)
{الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} إِلَى الصَّلَاة(1/315)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
{وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} مَعَ أهل الصَّلَاة فِي الرُّكُوع وَالسُّجُود وَالْقِيَام وَيُقَال فِي أصلاب آبَائِك الْأَوَّلين(1/315)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيع} لمقالتهم {الْعَلِيم} بهم وبأعمالهم(1/315)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} أخْبركُم {على مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين} بالكهانة(1/315)
تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
{تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} فَاجر كَاهِن وَهُوَ مُسَيْلمَة الْكذَّاب وَطَلْحَة(1/315)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
{يُلْقُونَ السّمع} يَسْتَمِعُون إِلَى كَلَام الْمَلَائِكَة يَعْنِي الشَّيَاطِين {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} يَسْتَمِعُون وَاحِدًا ويجعلونه مائَة لم يخبرون بذلك الكهنة(1/315)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
{وَالشعرَاء} عبد الله بن الزِّبَعْرَى وأصابه يَقُولُونَ الشّعْر {يتبعهُم الْغَاوُونَ} الراءون يروون عَنْهُم(1/315)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر يَا مُحَمَّد {أَنَّهُمْ} يَعْنِي الشُّعَرَاء {فِي كُلِّ وَادٍ} فِي كل فن وَوجه {يَهِيمُونَ} يذهبون وَيَأْخُذُونَ يذمون ويمدحون(1/315)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ} فِي شعرهم {مَا لاَ يَفْعَلُونَ} أَنا وَأَنا وَلَيْسَ كَذَلِك وَيُقَال مَا لَا يقدرُونَ أَن يَفْعَلُوا وَكِلَاهُمَا غاويان الشَّاعِر والراوي(1/315)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
{إِلَّا الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن حسان بن ثَابت وَأَصْحَابه {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً} فِي الشّعْر {وانتصروا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه بِالرَّدِّ على الْكفَّار {مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} هجوا هجاهم الْكفَّار {وَسَيَعْلَمْ الَّذين ظلمُوا} هجوا النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه {أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} أَي مرجع يرجعُونَ فِي الْآخِرَة وَهِي النَّار يَعْنِي إِن لم يُؤمنُوا بطس وَالْقُرْآن الْحَكِيم وَالله تَعَالَى أعلم بأسرار كِتَابه
وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا النَّمْل وهى كلهَا مَكِّيَّة آياتها أَربع وَتسْعُونَ آيَة وكلماتها ألف وَمِائَة وتسع وَأَرْبَعُونَ وحروفها أَرْبَعَة آلَاف وَسَبْعمائة وَسبع وَسِتُّونَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(1/315)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {طس} يَقُول ط طوله وسين سناؤه وَيُقَال قسم أقسم بِهِ {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} إِن هَذِه السُّورَة آيَات وَالْقُرْآن وَكتاب مُبين بالحلال وَالْحرَام(1/315)
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
{هُدىً} من الضَّلَالَة {وبشرى} بِالْجنَّةِ {لِلْمُؤْمِنِينَ} المصدقين فى إِيمَانهم(1/315)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
ثمَّ بَين نعتهم فَقَالَ {الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة} يتمون الصَّلَوَات الْخمس بوضوئها وركوعها وسجودها وَمَا يجب فِيهَا من مواقيتها {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة} يُعْطون زَكَاة أَمْوَالهم {وهم بِالآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت وَالْجنَّة وَالنَّار {هُمْ يُوقِنُونَ} يصدقون(1/315)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
{إِنَّ الَّذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت أَبَا جهل وَأَصْحَابه {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} فِي الْكفْر {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} يمضون عمهة لَا يبصرون(1/315)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
{أُولَئِكَ} أهل هَذِه الصّفة {الَّذين لَهُم سوء الْعَذَاب} شدَّة الْعَذَاب فِي النَّار {وَهُمْ فِي الْآخِرَة} يَوْم الْقِيَامَة {هُمُ الأخسرون} المغبونون بذهاب الْجنَّة وَدخُول النَّار(1/315)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
{وَإِنَّكَ} يَا مُحَمَّد {لَتُلَقَّى الْقُرْآن} يَقُول ينزل عَلَيْك جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {مِن لَّدُنْ} من عِنْد {حَكِيمٍ} فِي أمره وقضائه {عَلِيمٍ} بخلقه(1/315)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
{إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ} حَيْثُ تحير فِي الطَّرِيق {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} رَأَيْت نَارا عَن يسَار الطَّرِيق امكثوا هَهُنَا {سَآتِيكُمْ} حَتَّى آتيكم {مِّنْهَا} من عِنْد النَّار {بِخَبَرٍ} عَن الطَّرِيق {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بشعلة مقتبسة {لَعَلَّكُمْ تصطلون} لكى تدفئوا وَكَانَ فِي شدَّة من الشتَاء(1/316)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
{فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّار} يَقُول بوركت النَّار {وَمَنْ حَوْلَهَا} من الْمَلَائِكَة وَهَكَذَا قِرَاءَة أبي عبد الله بن مَسْعُود وَيُقَال تبَارك من نور هَذَا النُّور وَيُقَال بورك من فِي الطّلب يَعْنِي مُوسَى من أَقَامَ حوله من الْمَلَائِكَة {وَسُبْحَانَ الله} نزه نَفسه {رَبِّ الْعَالمين} سيد الْجِنّ وَالْإِنْس(1/316)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
{يَا مُوسَى إِنَّهُ} الَّذِي دعَاك {أَنَا الله الْعَزِيز} بالنقمة لمن لَا يُؤمن بِي {الْحَكِيم} فِي أَمْرِي وقضائي أمرت أَن لَا يعبد غَيْرِي(1/316)
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
{وَأَلْقِ عَصَاكَ} من يدك فألقاها {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} تتحرك {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} حَيَّة لَا صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة {ولى مُدْبِراً} أدبر هَارِبا مِنْهَا {وَلَمْ يُعَقِّبْ} لم يلْتَفت إِلَيْهَا من خوفها قَالَ الله {يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ} مِنْهَا {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ} عندى {المُرْسَلُونَ}(1/316)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
{إَلاَّ مَن ظَلَمَ} وَلَا من ظلم {ثُمَّ بدل حسنا بعد سوء} ثمَّ تَابَ بعد ذَلِك فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَن لَا يخَاف أَيْضا {فَإِنِّي غَفُورٌ} متجاوز لمن تَابَ {رَحِيم} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/316)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} فِي إبطك {تَخْرُجْ بَيْضَاء من غير سوء} من غير برص اذْهَبْ {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} مَعَ تسع آيَات {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} القبط {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} كَافِرين(1/316)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
{فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا} مُوسَى بِآيَاتِنَا {مُبْصِرَةً} مبينَة بَعْضهَا على أثر بعض {قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} كذب بَين مَا جئتنا بِهِ يَا مُوسَى(1/316)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
{وَجَحَدُواْ بِهَا} بِالْآيَاتِ كلهَا {واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} بعد مَا استيقنت أنفسهم أَنَّهَا من الله {ظُلْماً} خلافًا واعتداء {وَعُلُوّاً} يَقُول عتواً وتكبراً {فَانْظُر} يَا مُحَمَّد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} آخر أَمر الْمُشْركين فِرْعَوْن وَقَومه كَيفَ أهلكناهم فِي الْبَحْر(1/316)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
{وَلَقَد آتَيْنَا} أعطينا {دَاوُد} ابْن إيشا {وَسليمَان} ابْن دَاوُد {عِلْماً} وفهماً بِالنُّبُوَّةِ وَالْقَضَاء {وَقَالاَ} كِلَاهُمَا {الْحَمد لِلَّهِ} الشُّكْر والْمنَّة لله {الَّذِي فَضَّلَنَا} بِالْعلمِ والنبوة {على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤمنِينَ}(1/316)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
{وَورث سُلَيْمَان دَاوُد} ملك دَاوُد من بَين أَوْلَاده وَكَانَ لداود تِسْعَة عشر بَنِينَ {وَقَالَ} سُلَيْمَان {يَا أَيهَا النَّاس عُلِّمْنَا} فهمنا {مَنطِقَ الطير} كَلَام الطير {وَأُوتِينَا} أعطينا {مِن كُلِّ شَيْءٍ} علم كل شَيْء فِي مملكتي {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفضل الْمُبين} الْمَنّ الْعَظِيم من الله عَليّ(1/316)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
{وَحُشِرَ} سخر وَجمع {لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ} جموعه {مِنَ الْجِنّ وَالْإِنْس وَالطير فَهُمْ يُوزَعُونَ} يحبس أَوَّلهمْ على آخِرهم حَتَّى اجْتَمعُوا(1/316)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
{حَتَّى إِذا أَتَوا على وَادي النَّمْل} بِأَرْض الشَّام مضوا على وَاد فِيهِ النَّمْل {قَالَتْ نَمْلَةٌ} عرجاء يُقَال لَهَا منذرة {يَا أَيهَا النَّمْل ادخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ}(1/316)
جحركم {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} لَا يكسرنكم وَلَا يدوسنكم {سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بكم وَيُقَال وهم يعْنى جنود سُلَيْمَان لم يشعروا بقول النملة(1/317)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
{فَتَبَسَّمَ} سُلَيْمَان {ضَاحِكاً} تَعَجبا {مِّن قَوْلِهَا} من قَول النملة لِأَنَّهُ علم كَلَامهَا دون جُنُوده {وَقَالَ رَبِّ أوزعني} ألهمني {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} أؤدي شكر نِعْمَتك {الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} مننت عَليّ بِالتَّوْحِيدِ {وعَلى وَالِدَيَّ} بِالتَّوْحِيدِ {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً} خَالِصا {تَرْضَاهُ} تقبله {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ} فضلك {فِي عِبَادِكَ الصَّالِحين} مَعَ عِبَادك الْمُرْسلين الْجنَّة(1/317)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
{وَتَفَقَّدَ الطير} طلب الطير فَلم ير الهدهد مَكَانَهُ {فَقَالَ مَا لي لاَ أَرَى الهدهد} مَكَانَهُ {أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} يَقُول إِن كَانَ من الغائبين من بَين الطُّيُور(1/317)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
{لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} لأنتفن ريشه فَكَانَ عَذَاب الطير هَذَا {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} بالسكين {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بِعُذْر بَين(1/317)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} فَلبث غير طَوِيل حَتَّى جَاءَهُ {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} بلغت إِلَى مَا لم تبلغ وَعلمت مالم تعلم أَيهَا الْملك {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ} من مَدِينَة سبأ {بِنَبَإٍ يَقِينٍ} بِخَبَر حق عَجِيب(1/317)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
{إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَة تَمْلِكُهُمْ} يُقَال لَهَا بلقيس {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} أَعْطَيْت علم كل شَيْء فِي بَلَدهَا {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} حسن كَبِير عَلَيْهِ من الْجَوَاهِر واللؤلؤ وَالذَّهَب وَالْفِضَّة كَذَا وَكَذَا(1/317)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
{وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} يعْبدُونَ الشَّمْس {مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَان أَعْمَالَهُمْ} عِبَادَتهم للشمس {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيل} فصرفهم الشَّيْطَان عَن طَرِيق الْحق الْهدى {فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} سَبِيل الْحق وَالْهدى(1/317)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
{أَلاَّ يَسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِي} وَقد قلت لَهُم أَلا يَا هَؤُلَاءِ اسجدوا لله وَيُقَال هَذَا قَول سُلَيْمَان يَقُول لم لَا يَسْجُدُونَ لله الذى {يخرج الخبء} مَا خبىء {فِي السَّمَاوَات} من الْمَطَر {وَالْأَرْض} من النَّبَات {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ} مَا يسرون من الْخَيْر وَالشَّر {وَمَا يعلنون} يظهرون من الْخَيْر وَالشَّر(1/317)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
{الله لاَ إِلَه إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْش الْعَظِيم} السرير الْكَبِير(1/317)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)
{قَالَ} سُلَيْمَان للهدهد {سَنَنظُرُ} فِي مَقَالَتك {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبين}(1/317)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
{اذْهَبْ بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} عَلَيْهِم {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} تَنَح عَنْهُم حَيْثُ لَا يرونك {فَانْظُر مَاذَا يَرْجِعُونَ} يَقُولُونَ ويردون ويجيبون كتابي فَفعل كَمَا أمره سُلَيْمَان فَأخذت بلقيس كتاب سُلَيْمَان وَخرجت إِلَى قَومهَا(1/317)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
{قَالَت يَا أَيهَا الْمَلأ} الرؤساء {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} مختوم(1/317)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)
{إِنَّهُ} عنوانه {مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ} أول سطره {بِسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}(1/317)
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
{أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ} أَن لَا تتكبروا عَليّ {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} مستسلمين مصالحين وَأَشْيَاء كَانَت فِيهِ مَكْتُوبَة(1/317)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
{قَالَت يَا أَيهَا الْمَلأ} الرؤساء {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} أخبروني عَن أَمْرِي وَيُقَال شاوروا لي {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً} فاعلة أمرا {حَتَّى تَشْهَدُونِ} تحضروني وتشاوروني(1/318)
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
{قَالُوا نَحن أولُوا قُوَّةٍ} بِالسِّلَاحِ {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} بِالْقِتَالِ {وَالْأَمر إِلَيْكِ} يَقُول أمرنَا لأمرك تبع {فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ} حَتَّى نَفْعل مَا تأمريننا ثمَّ نطقت بحكمة(1/318)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوك} مُلُوك الأَرْض {إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً} عنْوَة بِالْحَرْبِ والقتال {أَفْسَدُوهَا} خربوها {وَجعلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} بِالضَّرْبِ وَالْقَتْل وَغير ذَلِك {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} قَالَ الله كَذَلِك يَفْعَلُونَ يَعْنِي مُلُوك الأَرْض بالكبرياء(1/318)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ} إِلَى سُلَيْمَان {بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ} فأنتظر {بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ} الرُّسُل(1/318)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
{فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ} رسولها إِلَى سُلَيْمَان {قَالَ} سُلَيْمَان {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} هَدِيَّة {فَمَآ آتَانِي الله} أعطانى الله من الْملك والنبوة {خَيْرٌ} أفضل {مِّمَّآ آتَاكُمْ} أَعْطَاكُم من المَال {بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} إِن ردَّتْ إِلَيْكُم(1/318)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
{ارْجع إِلَيْهِمْ} بهديتهم {فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ} بجموع {لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} لَا طَاقَة لَهُم بهَا {وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ} من سبأ {أَذِلَّةً} مغلولة أَيْمَانهم إِلَى أَعْنَاقهم {وَهُمْ صَاغِرُونَ} ذليلون(1/318)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
{قَالَ} سُلَيْمَان {يَا أَيهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} بسريرها {قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} مستسلمين مصالحين(1/318)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
{قَالَ عِفْرِيتٌ} شَدِيد {مِّن الْجِنّ} يُقَال لَهُ عَمْرو {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} من مجلسك للْقَضَاء وَكَانَ مجْلِس قَضَائِهِ إِلَى انتصاف النَّهَار {وَإِنِّي عَلَيْهِ} على حمله {لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} على مَا فِيهِ من الْجَوَاهِر واللؤلؤ وَالذَّهَب وَالْفِضَّة قَالَ سُلَيْمَان بل أُرِيد أسْرع من هَذَا(1/318)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
{قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكتاب} اسْم الله الْأَعْظَم يَا حَيّ يَا قيوم وَهُوَ آصف بن برخيا {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} قبل أَن يبلغ الشَّيْء الَّذِي رَأَيْته من بعيد {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً} ثَابتا {عِندَهُ} يَعْنِي عرشها عِنْد عَرْشه {قَالَ} لآصف {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي} من منَّة ربى {لِيَبْلُوَنِي} ليختبرني {أَأَشْكُرُ} نعْمَته {أَمْ أَكْفُرُ} أم أترك شكر نعْمَته {وَمَن شَكَرَ} نعْمَته {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} ثَوَاب ربه {وَمَن كَفَرَ} ترك شكر نعْمَته {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عَن شكره {كَرِيمٌ} متجاوز لمن تَابَ لَا يعجل بالعقوبة(1/318)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
{قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} غيروا سريرها فزيدوا فِيهِ وانقصوا مِنْهُ {نَنْظُر أتهتدي} أتعرف {أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذين لاَ يَهْتَدُونَ} لَا يعْرفُونَ(1/318)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
{فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ} قَالَ لَهَا سُلَيْمَان {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} سريرك شبهوه عَلَيْهَا {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} شبهتموه عَليّ {وَأُوتِينَا الْعلم مِن قَبْلِهَا} فَقَالَ سُلَيْمَان قد أَعْطَانِي الله بتغيير سريرها ومجيئه من قبل مجيئها(1/318)
{وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} أَي مُخلصين من قبل مجيئها(1/319)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
{وَصَدَّهَا} صرفهَا سُلَيْمَان وَيُقَال صرفهَا الله {مَا كَانَت} عَمَّا كَانَت {تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} يَعْنِي الشَّمْس {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} الْمَجُوس(1/319)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
{قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح} الْقصر {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} مَاء غمراً يَعْنِي كثيرا {وَكَشَفَتْ} رفعت ثِيَابهَا {عَن سَاقَيْهَا قَالَ} لَهَا سُلَيْمَان {إِنَّهُ صَرْحٌ} قصر {مُّمَرَّدٌ} أملس {مِّن قَوارِيرَ} تَحْتَهُ مَاء فَلَا تخافي واعبري عَلَيْهِ {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بعبادتي الشَّمْس {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} على يَد سُلَيْمَان {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمين} سيد الْجِنّ وَالْإِنْس(1/319)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ} نَبِيّهم {صَالِحاً أَنِ اعبدوا الله} أَن قل لَهُم وحدوا الله وتوبوا إِلَيْهِ من الْكفْر والشرك {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ} فصاروا فرْقَتَيْن مُؤمنَة وكافرة {يَخْتَصِمُونَ} يتخاصمون فِي الدّين(1/319)
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
{قَالَ} صَالح للفرقة الْكَافِرَة {يَا قوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ} بِالْعَذَابِ {قَبْلَ الْحَسَنَة} قبل الْعَافِيَة وَالرَّحْمَة {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله} هلا تتوبون من الشّرك وَالْكفْر وتوحدون الله {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لكَي ترحموا فَلَا تعذبوا(1/319)
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
{قَالُواْ اطيرنا بِكَ} تشاءمنا بك {وَبِمَن مَّعَكَ} من قَوْمك يعنون شدتنا من شؤمك وَمن شوم من آمن بك {قَالَ} صَالح {طَائِرُكُمْ} شدتكم ورخاؤكم {عِندَ الله} من عِنْد الله {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} تختبرون بالشدة والرخاء وَيُقَال تخذلون وَلَا توفقون(1/319)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
{وَكَانَ فِي الْمَدِينَة تِسْعَةُ رَهْطٍ} نفر من الْفُسَّاق من أَبنَاء رُؤَسَائِهِمْ قدار بن سالف ومصدع ابْن دهو وأصحابهما {يُفْسِدُونَ فِي الأَرْض} بِالْمَعَاصِي {وَلاَ يُصْلِحُونَ} لَا يأمرون بالصلاح وَلَا يعْملُونَ بِهِ(1/319)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
{قَالُوا تقاسموا بِاللَّه} يَقُول توافقوا وتخلفوا بِاللَّه ثمَّ قَالَ {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} لندخلن عَلَيْهِ وعَلى أَهله لَيْلًا ولنقتلنه وَأَهله {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} لوَرثَته وقرابته {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} قتل صَالح وَأَهله {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} يصدقوننا فِي قَوْلنَا وَلَا يرد قَوْلنَا أحد(1/319)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
{وَمَكَرُواْ مَكْراً} أَرَادوا قتل صَالح وَمن آمن مَعَه {وَمَكَرْنَا مَكْراً} أردنَا قَتلهمْ {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بمكرنا وَيُقَال قَتلتهمْ الْمَلَائِكَة فِي دَار صَالح بِالْحِجَارَةِ وهم لَا يَشْعُرُونَ من الْمَلَائِكَة(1/319)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)
{فَانْظُر} يَا مُحَمَّد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} عُقُوبَة مَكْرهمْ بِصَالح {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} أهلكناهم بِالْحِجَارَةِ {وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} وأهلكنا قَومهمْ أَجْمَعِينَ(1/319)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} خَالِيَة سَاقِطَة {بِمَا ظلمُوا} أشركوا {إِنَّ فِي ذَلِك} فِيمَا فعلنَا بهم {لآيَةً} لعلامة وعبرة {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يصدقون مَا فعل بهم(1/319)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
{وَأَنجَيْنَا الَّذين آمَنُواْ} بِصَالح {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش وَقتل النَّاقة(1/319)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
{وَلُوطاً} أرسلنَا لوطاً إِلَى قومه {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة} اللواط {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} تعلمُونَ أَنَّهَا فَاحِشَة(1/319)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
{أئنكم لَتَأْتُونَ الرِّجَال} أدبار الرِّجَال {شَهْوَةً} اشتهاء لكم(1/319)
{مِّن دُونِ النسآء} من فروج النِّسَاء {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أَمر الله(1/320)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} فَلم يكن جَوَاب قومه {إِلاَّ أَن قَالُوا أخرجُوا آلَ لُوطٍ} لوطاً وابنتيه زعورا وريثا {مِّن قَرْيَتِكُمْ} سدوم {إِنَّهُم أنَاس يتطهرون} يتنزهون عَن أدبار الرِّجَال(1/320)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)
{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} ابْنَتَيْهِ {إِلاَّ امْرَأَته} المنافقة {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغابرين} يَقُول قَدرنَا عَلَيْهَا أَن تكون من المتخلفين بِالْهَلَاكِ(1/320)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم} على شذاذهم ومسافريهم {مَّطَراً} حِجَارَة {فَسَآءَ} فبئس {مَطَرُ الْمُنْذرين} من أَنْذرهُمْ لوط فَلم يُؤمنُوا(1/320)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
{قُلِ} يَا مُحَمَّد {الْحَمد لِلَّهِ} الشُّكْر والْمنَّة لله على هلاكهم {وَسَلاَمٌ} سَعَادَة وسلامة {على عِبَادِهِ الَّذين اصْطفى} اخْتَارَهُمْ الله بِالنُّبُوَّةِ وَيُقَال اصطفاهم لله بِالْإِسْلَامِ وهم أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {الله خير} قل يَا مُحَمَّد لأهل مكى أعبادة الله أفضل {أَمَّا يُشْرِكُونَ} أم عبَادَة مَا يشركُونَ بِاللَّه من الْأَوْثَان(1/320)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
{أم من خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً} مَطَرا {فَأَنبَتْنَا بِهِ} بالمطر {حَدَآئِقَ} بساتين مَا أحيط عَلَيْهَا من النّخل وَالشَّجر {ذَاتَ بَهْجَةٍ} ذَات منظر حسن {مَّا كَانَ لَكُمْ} مقدرَة {أَن تنبتوا شَجَرهَا} شجر الْبَسَاتِين {أإله مَّعَ الله} سوى الله فعل ذَلِك {بَلْ هم قوم يعدلُونَ} بِهِ الْأَصْنَام(1/320)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
{أم من جَعَلَ الأَرْض قَرَاراً} مسكنا {وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً} وَسطهَا أَنهَارًا {وَجَعَلَ لَهَا} للْأَرْض {رَوَاسِيَ} الْجبَال الثوابت أوتادا لَهَا {وَجعل بَين الْبَحْرين} الْعَذَاب والمالح {حاجزا} مَانِعا لَا يختلطان {أإله مَّعَ الله} سوى الله فعل ذَلِك {بَلْ أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ} لَا يصدقون(1/320)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
{أم من يُجِيبُ الْمُضْطَر} فِي الْبلَاء {إِذَا دَعَاهُ} بِدفع الْبلَاء {ويكشف السوء} بِدفع الْبلَاء {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأَرْض} سكان الأَرْض بعد هَلَاك أَهلهَا {أإله مَّعَ الله} سوى الله فعل ذَلِك {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} مَا تتعظون قَلِيلا وَلَا كثيرا(1/320)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
{أم من يَهْدِيكُمْ} ينجيكم {فِي ظُلُمَاتِ الْبر وَالْبَحْر} من شَدَائِد الْبر وَالْبَحْر إِذا سافرتم {وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاح بُشْراً} طيبَة {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} قُدَّام الْمَطَر {أإله مَّعَ الله} سوى الله فعل ذَلِك {تَعَالَى الله} تَبرأ الله {عَمَّا يُشْرِكُونَ} بِهِ من الْأَوْثَان(1/320)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
{أم من يَبْدَأُ الْخلق} يبتدئه من النُّطْفَة {ثُمَّ يُعيدُهُ} بعد الْمَوْت {وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء} بالمطر {وَالْأَرْض} بالنبات {أإله مَّعَ الله} سوى الله فعل ذَلِك {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} حجتكم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَن مَعَ الله آلِهَة شَتَّى(1/320)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
{قُل} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَات} من الْمَلَائِكَة {وَالْأَرْض} من الْخلق {الْغَيْب} مَتى قيام السَّاعَة ونزول الْعَذَاب(1/320)
{إِلاَّ الله وَمَا يَشْعُرُونَ} وَمَا يعلم الْخلق {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} مَتى يبعثون من الْقُبُور(1/321)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
{بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَة} يَقُول اجْتمع علمهمْ على أَن الْآخِرَة لَا تكون {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا} من قيام السَّاعَة {بل هم مِّنْهَا} من قيام السَّاعَة {عَمُونَ} عمي لَا يبصرون(1/321)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)
{وَقَالَ الَّذين كفرُوا} كفار مَكَّة {أئذا كُنَّا} صرنا {تُرَاباً} رميماً {وَآبَآؤُنَآ} قبلنَا {أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} من الْقُبُور لمحيون(1/321)
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
{لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا} الَّذِي تعدنا {نَحْنُ وَآبَآؤُنَا من قبل} من قبلنَا {إِن هَذَا} مَا هَذَا الَّذِي تعدنا يَا مُحَمَّد {إِلاَّ أَسَاطِيرُ} أَحَادِيث {الْأَوَّلين}(1/321)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {سِيرُواْ} سافروا {فِي الأَرْض} فانظروا فاعتبروا {كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُجْرمين} آخر أَمر الْمُشْركين(1/321)
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} يَا مُحَمَّد إِن لم يُؤمنُوا وَيُقَال وَلَا تحزن عَلَيْهِم بِالْهَلَاكِ {وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ} وَلَا تضيق صدرك يَا مُحَمَّد {مِّمَّا يَمْكُرُونَ} مِمَّا يَقُولُونَ ويصنعون(1/321)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)
{وَيَقُولُونَ مَتى هَذَا الْوَعْد} الَّذِي تعدنا يَا مُحَمَّد {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} إِن كنت من الصَّادِقين بمجيء الْعَذَاب(1/321)
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {عَسى} وَعَسَى من الله وَاجِب {أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} قرب لكم {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} من الْعَذَاب يَوْم بدر(1/321)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)
{وَإِنَّ رَبَّكَ} يَا مُحَمَّد {لَذُو فَضْلٍ} لذُو من {على النَّاس} بِتَأْخِير الْعَذَاب {وَلَكِن أَكْثَرهم لاَ يَشْكُرُونَ} بِتَأْخِير الْعَذَاب(1/321)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
{وَإِنَّ رَبَّكَ} يَا مُحَمَّد {لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} تضمر قُلُوبهم من البغض والعداوة {وَمَا يُعْلِنُونَ} مَا يظهرون من الْكفْر والشرك والقتال(1/321)
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
{وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ} من سر خَفِي {فِي السمآء وَالْأَرْض} من أهل السَّمَاء وَالْأَرْض {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} إِلَّا مَكْتُوب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ(1/321)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآن} الَّذِي تقْرَأ عَلَيْهِم يَا مُحَمَّد {يَقُصُّ على بني إِسْرَائِيلَ} يبين لبني إِسْرَائِيل الْيَهُود وَالنَّصَارَى {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} كل الَّذِي هم فِيهِ فِي الدّين يخالفون(1/321)
وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
{وَإِنَّهُ} يَعْنِي الْقُرْآن {لَهُدىً} من الضَّلَالَة {وَرَحْمَةٌ} من الْعَذَاب {للْمُؤْمِنين} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن(1/321)
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
{إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم} بَين الْيَهُود وَالنَّصَارَى {بِحُكْمِهِ} وقضائه يَوْم الْقِيَامَة {وَهُوَ الْعَزِيز} بالنقمة مِنْهُم {الْعَلِيم} بهم وبعقوبتهم(1/321)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)
{فَتَوَكَّلْ} يَا مُحَمَّد {عَلَى الله إِنَّكَ عَلَى الْحق الْمُبين} على الدّين الظَّاهِر وَهُوَ الْإِسْلَام(1/321)
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
{إِنَّكَ} يَا مُحَمَّد {لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} بالقلوب وَيُقَال كَأَنَّهُ ميت {وَلاَ تُسْمِعُ الصم} بالقلوب وَيُقَال المتصامم {الدعآء} دعوتك إِلَى الْحق وَالْهدى {إِذَا وَلَّوْاْ} أَعرضُوا {مُدْبِرِينَ} عَن الْحق وَالْهدى(1/321)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
{وَمَآ أَنتَ} يَا مُحَمَّد {بِهَادِي الْعمي عَن ضلالتهم} إِلَى الْهدى {إِن تسمع} مَا تسمع دعوتك {إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} بكتابنا ورسولنا {فَهُم مُّسْلِمُونَ} مخلصون بِالْعبَادَة والتوحيد(1/321)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
{وَإِذَا وَقَعَ} وَجب {القَوْل عَلَيْهِم} بالسخط وَالْعَذَاب(1/321)
{أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأَرْض} بَين الصَّفَا والمروة وَهِي عَصا مُوسَى وَيُقَال مَعهَا عَصا مُوسَى {تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاس كَانُوا بِآيَاتِنَا} بآيَات رَبنَا بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن وَيُقَال بِخُرُوج الدَّابَّة {لاَ يُوقِنُونَ} لَا يصدقون وَإِن قَرَأت بِنصب التَّاء تضربهم وتجرحهم(1/322)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
{وَيَوْمَ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ} من كل أهل دين {فَوْجاً} جمَاعَة {مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} بكتابنا ورسولنا {فَهُمْ يُوزَعُونَ} يَقُول يحبس أَوَّلهمْ على آخِرهم(1/322)
حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
{حَتَّى إِذا جاؤوا} اجْتَمعُوا {قَالَ} الله لَهُم {أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي} بكتابي ورسولي {وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً} يَقُول جحدتم وَلم تعلمُوا أَنَّهَا لَيست منى {أم مَاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فِي الْكفْر والشرك(1/322)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)
{وَوَقَعَ القَوْل} وَجب القَوْل {عَلَيْهِمْ} بالسخط وَالْعَذَاب {بِمَا ظَلَمُواْ} بكفرهم وشركهم {فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ} لَا يجيبون(1/322)
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
{أَلَمْ يَرَوْاْ} كفار مَكَّة {أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْل} مسكنا {لِيَسْكُنُواْ} ليستقروا {فِيهِ وَالنَّهَار مُبْصِراً} مضيئاً مطلباً لمعايشتهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ} فِيمَا فعلنَا بهم {لآيَاتٍ} لعلامات {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون(1/322)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّور} وَهِي نفخة الْمَوْت {فَفَزعَ} مَاتَ مَن {فِي السَّمَاوَات} من الْمَلَائِكَة {وَمَن فِي الأَرْض} من الْخلق {إِلاَّ مَن شَآءَ الله} من أهل السَّمَاء جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وَملك الْمَوْت فَإِنَّهُم لَا يموتون فِي النفخة الأولى وَلَكِن يموتون بعد ذَلِك {وَكُلٌّ} يَعْنِي أهل السَّمَاء وَأهل الأَرْض {أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} يأْتونَ إِلَى الله يَوْم الْقِيَامَة صاغرين ذليلين(1/322)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
{وَتَرَى الْجبَال} يَا مُحَمَّد فِي النفخة الأولى {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} سَاكِنة مُسْتَقِرَّة {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب} فِي الْهَوَاء {صُنْعَ الله} هَذَا فعل الله بخلقه {الَّذِي أَتْقَنَ} أحكم {كُلَّ شَيْءٍ} من الْخلق {إِنَّهُ خَبِيرٌ} عَالم {بِمَا تَفْعَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر(1/322)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
{مَن جَآءَ بِالْحَسَنَة} من جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة بِلَا إِلَه إِلَّا الله مخلصاً بهَا {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} فخيره كُله مِنْهَا وَمن قبلهَا {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} وهم آمنون من الْفَزع وَالْعَذَاب إِذا أطبقت النَّار(1/322)
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
{وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ} بالشرك بِاللَّه {فَكُبَّتْ} قلبت {وُجُوهُهُمْ فِي النَّار هَلْ تُجْزَوْنَ} فِي الْآخِرَة {إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فِي الدُّنْيَا قل يَا مُحَمَّد(1/322)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)
{إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ} أوحد {رَبِّ هَذِهِ الْبَلدة} يَعْنِي مَكَّة {الَّذِي حَرَّمَهَا} جعلهَا حرما {وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ} من الْخلق {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسلمين} مَعَ الْمُسلمين على دينهم(1/322)
وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
{وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآن} أمرت أَن أَقرَأ عَلَيْكُم الْقُرْآن {فَمَنِ اهْتَدَى} آمن بِمَا فِي الْقُرْآن {فَإِنَّمَا يَهْتَدِي} يُؤمن {لِنَفْسِهِ} ثَوَاب ذَلِك لنَفسِهِ {وَمَن ضَلَّ} كفر بِالْقُرْآنِ {فَقُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنْذرين} المخوفين من النَّار بِالْقُرْآنِ(1/322)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
ثمَّ أمره بعد ذَلِك بِالْقِتَالِ فَقَالَ {وَقُلِ} يَا مُحَمَّد {الْحَمد لِلَّهِ} الشُّكْر لله والوحدانية لله {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} عَلَامَات وحدانيته وَقدرته بِالْعَذَابِ يَوْم بدر {فَتَعْرِفُونَهَا} فتعلمون أَن مَا يَقُول لكم مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام حق وَصدق {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ} بساه {عَمَّا تَعْمَلُونَ} فِي الْكفْر والشرك يَعْنِي كفار قُرَيْش هَذَا وَعِيد لَهُم من الله فِي الْكفْر والشرك وَيُقَال بتارك عُقُوبَة مَا تَعْمَلُونَ من الْمَكْر والخيانة وَالْفساد(1/322)
tit/2 وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا الْقَصَص وهى كلهَا مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى {إِن الَّذِي فرض عَلَيْك الْقُرْآن لرادك إِلَى معاد} فانها نزلت بِالْجُحْفَةِ بَين مَكَّة وَالْمَدينَة آياتها ثَمَان وَثَمَانُونَ وكلماتها أَرْبَعمِائَة وَإِحْدَى وَأَرْبَعُونَ وحروفها خَمْسَة آلَاف وَثَمَانمِائَة {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {/tit(1/323)
طسم (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {طسم} ط طوله وَقدرته وسين سناؤه ورفعته وَمِيم ملكه وَيُقَال قسم أقسم بِهِ(1/323)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{تِلْكَ آيَاتُ الْكتاب الْمُبين} إِن هَذِه السُّورَة آيَات الْقُرْآن الْمُبين بالحلال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي(1/323)
نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
{نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} بِالْقُرْآنِ {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون بك وَبِالْقُرْآنِ(1/323)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ} خَالف وتجبر وَكفر {فِي الأَرْض} أَرض مصر {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} فرقا فرقا {يَسْتَضْعِفُ} يقهر {طَآئِفَةً مِّنْهُمْ} من بني إِسْرَائِيل {يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ} صغَارًا {وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} يستخدمهم كبارًا {إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين} فِي كفره بِالْقَتْلِ وَالدُّعَاء إِلَى غير عبَادَة الله(1/323)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)
{وَنُرِيدُ} بإرسال مُوسَى إِلَيْهِم وهلاكهم {أَن نَّمُنَّ} تنزلهم بالنجاة {عَلَى الَّذين استضعفوا} قهروا وهم بَنو إِسْرَائِيل {فِي الأَرْض} أَرض مصر {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} قادة فِي الْخَيْر {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثين} وارثي أَرض مصر(1/323)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
{وَنُمَكِّنَ لَهُمْ} ونملكهم {فِي الأَرْض} أَرض مصر {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} جموعهما {مِنْهُمْ} من مُوسَى وَبني إِسْرَائِيل {مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} من ذهَاب الْملك(1/323)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى} ألهمنا أم مُوسَى يوحانذ بنت لاوي بن يَعْقُوب {أَنْ أَرْضِعِيهِ} أَن أرضعي هَذَا الصَّبِي {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} أَن يضيع {فَأَلْقِيهِ فِي اليم} فاطرحيه فِي التابوت والتابوت فِي الْبَحْر {وَلاَ تَخَافِي} من الْغَرق {وَلاَ تحزني} من الضَّيْعَة أَن لَا يرد إِلَيْك {إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسلين} إِلَى فِرْعَوْن وَقَومه(1/323)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
{فالتقطه} فرفعه {آلُ فِرْعَوْنَ} جواري فِرْعَوْن من بَين المَاء وَالشَّجر فَأَخَذته وذهبن بِهِ إِلَى امْرَأَة فِرْعَوْن {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} من بعد مَا يَجِيء إِلَيْهِم بالرسالة {وَحَزَناً} بذهاب ملكهم {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ} مُشْرِكين(1/323)
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
{وَقَالَتِ امْرَأَة فِرْعَوْنَ} آسِيَة بنت مُزَاحم وَكَانَت عمَّة مُوسَى {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي} هَذَا الْغُلَام {وَلَكَ} يَا فِرْعَوْن {لاَ تَقْتُلُوهُ عَسى أَن ينفعنآ} فِي ضيعتنا {أَو نتخذه ولدا} أَو نتبناه {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بَنو إِسْرَائِيل لَا يعلمُونَ أَنه لَيْسَ منا وَيُقَال وهم لَا يَشْعُرُونَ أَن هلاكهم على يَدَيْهِ(1/323)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى} صَار قلب أم مُوسَى يوحانذ {فَارِغاً} من كل همّ وَذكر إِلَّا همّ مُوسَى وَذكر مُوسَى {إِن كَادَتْ} قد كَادَت {لَتُبْدِي بِهِ} لتظهر بِهِ تَقول هَذَا ابْني بعد مَا انتسب بِهِ إِلَى فِرْعَوْن(1/323)
{لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا} حفظنا {على قَلْبِهَا} بِالصبرِ {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤمنِينَ} من المصدقين بوعد الله أَن يكون من الْمُرْسلين(1/324)
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
{وَقَالَتْ} يَعْنِي أم مُوسَى {لأُخْتِهِ} لأخت مُوسَى تسمى مَرْيَم {قُصِّيهِ} اتبعي أَثَره {فَبَصُرَتْ بِهِ} بالغلام {عَن جُنُبٍ} عَن بعد {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} لَا يعلمُونَ أَنَّهَا أُخْت مُوسَى(1/324)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ} على مُوسَى {المراضع} ألبان النِّسَاء {مِن قَبْلُ} من قبل مَجِيء أمه {فَقَالَتْ} أُخْت مُوسَى لآل فِرْعَوْن {هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} يرضعون لكم هَذَا الْغُلَام {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} حافظون بالتربية فدلت على أمه(1/324)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
{فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} تطيب نَفسهَا بمُوسَى {وَلاَ تَحْزَنَ} على مُوسَى {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله} فِي رده إِلَيْهَا {حَقٌّ} صدق {وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ} يَعْنِي أهل مصر {لاَ يَعْلَمُونَ} ذَلِك وَلَا يصدقون(1/324)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} ثَمَان عشرَة سنة {واستوى} خلقه أَرْبَعِينَ سنة {آتَيْنَاهُ} أعطيناه {حُكْماً} فهما {وَعِلْماً} نبوة {وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} النَّبِيين بالفهم والنبوة وَيُقَال الصَّالِحين بِالْعلمِ وَالْحكمَة(1/324)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
{وَدخل الْمَدِينَة على حِين غَفلَة} اشْتِغَال اشْتِغَال {مِّنْ أَهْلِهَا} عِنْد القيلولة وَيُقَال بعد صَلَاة الْمغرب {فَوَجَدَ فِيهَا} فِي الْمَدِينَة {رَجُلَيْنِ} إِسْرَائِيلِيًّا وقبطياً {يَقْتَتِلاَنِ} يتنازعان ويتحاربان بَينهمَا {هَذَا مِن شِيعَتِهِ} من شيعَة مُوسَى الإسرائيلي {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} من عَدو مُوسَى القبطي {فاستغاثه الَّذِي مِن شِيعَتِهِ} من شيعَة مُوسَى {عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} من عَدو مُوسَى {فَوَكَزَهُ مُوسَى} فَجمع مُوسَى أَصَابِعه وَقبض عَلَيْهَا فلكزه لكزة {فَقضى عَلَيْهِ} الْمَوْت فَخر مَيتا {قَالَ} مُوسَى {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان} بِأَمْر الشَّيْطَان {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} ظَاهر الْعَدَاوَة وَنَدم على قَتله(1/324)
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)
{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} بقتل النَّفس {فَاغْفِر لِي} ذَنبي تجَاوز عني {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور} المتجاوز {الرَّحِيم} لمن تَابَ(1/324)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} مننت عَليّ بالمعرفة والتوحيد وَالْمَغْفِرَة {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} فَلَا تجعلني عوناً للْمُشْرِكين لفرعون وَقَومه(1/324)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
{فَأَصْبَحَ} فَصَارَ {فِي الْمَدِينَة خَآئِفاً} من قتل القبطي {يَتَرَقَّبُ} ينْتَظر مَتى يُؤْخَذ بِهِ {فَإِذَا الَّذِي استنصره} اسْتَعَانَ بِهِ {بالْأَمْس} على القبطي {يَسْتَصْرِخُهُ} يستغيثه على آخر من القبط {قَالَ لَهُ} للإسرائيلي {مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} مجادل بيّن الْجِدَال وَأَقْبل عَلَيْهِ بالعون(1/324)
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
{فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ} أَن يَأْخُذ {بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} القبطي ظن الإسرائيلي أَنه يُريدهُ {قَالَ} أى الإسرائيلى {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي} الْيَوْم {كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً} قبطياً {بالْأَمْس إِن تُرِيدُ} مَا تُرِيدُ {إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً} قتالاً {فِي الأَرْض} فِي أَرض مصر {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين}(1/324)
من المتورعين الآمرين بِالْمَعْرُوفِ والناهين عَن الْمُنكر(1/325)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
{وَجَآءَ رَجُلٌ} وَهُوَ حزقيل {مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَة} من أَسْفَل الْمَدِينَة وَيُقَال من وسط الْمَدِينَة {يسْعَى} يسْرع ويشتد فى مَشْيه {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ} أَوْلِيَاء الْمَقْتُول {يَأْتَمِرُونَ بِكَ} اتَّفقُوا عَلَيْك {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُج} من الْمَدِينَة {إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين} من المشفقين(1/325)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
{فَخَرَجَ} مُوسَى {مِنْهَا} من الْمَدِينَة {خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} ينْتَظر ويلتفت مَتى يلْحق وَيُؤْخَذ بِهِ {قَالَ} عِنْد ذَلِك {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْم الظَّالِمين} أهل مصر(1/325)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ} سَار نَحْو مَدين خَافَ أَن يخطىء الطَّرِيق {قَالَ عَسى} لَعَلَّ {رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي} أَن يرشدني {سَوَآءَ السَّبِيل} قصد الطَّرِيق نَحْو مَدين(1/325)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
{وَلَمَّا وَرَدَ} بلغ {مَآءَ مَدْيَنَ} وَهُوَ بِئْر {وَجَدَ عَلَيْهِ} على المَاء {أُمَّةً} جمَاعَة {مِّنَ النَّاس} أَرْبَعِينَ رجلا {يَسْقُونَ} غَنمهمْ {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} من ورائهم {امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} تحبسان غنمهما عَن المَاء من ضعفهما حَتَّى يفرغ الْقَوْم {قَالَ} لَهما مُوسَى {مَا خَطْبُكُمَا} مَا بالكما لَا تسقيان غنمكما {قَالَتَا لاَ نَسْقِي} لَا نقدر أَن نسقي غنمنا {حَتَّى يُصْدِرَ الرعآء} حَتَّى يفرغ الْقَوْم ثمَّ نسقي {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} لَيْسَ لَهُ أحد يُعينهُ غَيرنَا(1/325)
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
{فسقى لَهما} فسقى مُوسَى غنمهما وذهبتا إِلَى أَبِيهِمَا فأخبرتا أباهما عَن خبر مُوسَى {ثُمَّ تولى} مُوسَى {إِلَى الظل} ظلّ الشَّجَرَة وَيُقَال ظلّ حَائِط وَيُقَال كن {فَقَالَ} مُوسَى {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ} مَا قدرت لي {مِنْ خَيْرٍ} من طَعَام {فَقِيرٌ} مُحْتَاج(1/325)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهمَا} وهى الصُّغْرَى وسمها صفورا {تَمْشِي عَلَى استحيآء} مُعْتَرضَة رَافِعَة كمها على وَجههَا كمشي العذارى وَاضِعَة يَدهَا على وَجههَا {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ} ليعطيك {أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} عوض مَا سقيت لنا غنمنا {فَلَمَّا جَآءَهُ} مُوسَى إِلَى أَبِيهَا يثرون بن أخي شُعَيْب وَقد مَاتَ شُعَيْب قبل ذَلِك {وَقَصَّ عَلَيْهِ} على يثرون {الْقَصَص} فراره من فِرْعَوْن وَغير ذَلِك {قَالَ} لَهُ يثرون {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْم الظَّالِمين} أهل مصر(1/325)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
{قَالَت إِحْدَاهمَا} وهى الصُّغْرَى {يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرت} من الأجراء هُوَ {الْقوي} على الْحمل الثقيل {الْأمين} على الْأَمَانَة ثمَّ(1/325)
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{قَالَ} يثرون لمُوسَى {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ} أزَوجك يَا مُوسَى {إِحْدَى ابْنَتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي} تعْمل لي فِي غنمي {ثَمَانِيَ حِجَجٍ} ثَمَان سِنِين {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً} عشر سِنِين {فَمِنْ عِندِكَ} الزِّيَادَة {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} فِي الزِّيَادَة {سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} بِالْوَفَاءِ(1/325)
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
{قَالَ} مُوسَى {ذَلِكَ} الشَّرْط {بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَليْنِ قَضَيْتُ} الثمان أَو الْعشْر {فَلاَ عُدْوَانَ عَليّ} فَلَا سَبِيل لَك وعَلى {وَالله على مَا نَقُولُ} من الشَّرْط وَالْوَفَاء {وَكيل} شَهِيد(1/325)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
{فَلَمَّا قضى مُوسَى الْأَجَل}(1/325)
عشر سِنِين {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} نَحْو مصر {آنَسَ مِن جَانِبِ الطّور نَاراً} رأى عَن يسَار الطَّرِيق نَارا {قَالَ لأَهله امكثوا} أنزلوا هَهُنَا {إِنِّي آنَسْتُ} رَأَيْت {نَاراً لعَلي آتِيكُمْ مِّنْهَا} من عِنْد النَّار {بِخَبَرٍ} عَن الطَّرِيق وَقد كَانَ تحير فِي الطَّرِيق {أَوْ جَذْوَةٍ} قِطْعَة {من النَّار لَعَلَّكُمْ تصطلون} لكى تدنؤا بهَا وَكَانُوا فِي شدَّة من الشتَاء(1/326)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي من شاطئ الْوَادي الْأَيْمن} عَن يَمِين مُوسَى {فِي الْبقْعَة الْمُبَارَكَة} بِالْمَاءِ وَالشَّجر {مِنَ الشَّجَرَة} من نَحْو الشّجر {أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا الله رَبُّ الْعَالمين} سيد الْجِنّ وَالْإِنْس(1/326)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} من يدك {فَلَمَّا رَآهَا} بَعْدَمَا أَلْقَاهَا {تَهْتَزُّ} تتحرك رَافِعَة رَأسهَا {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} حَيَّة لَا صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة {ولى مُدْبِراً} هَارِبا مِنْهَا {وَلَمْ يُعَقِّبْ} وَلم يلْتَفت إِلَيْهَا قَالَ الله {يَا مُوسَى أَقْبِلْ} إِلَيْهَا {وَلاَ تَخَفْ} مِنْهَا {إِنَّكَ مِنَ الْآمنينَ} من شَرها فَأَخذهَا مُوسَى فَإِذا هِيَ عَصا كَمَا كَانَت قَالَ الله لَهُ(1/326)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
{اسلك} أَدخل {يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} فِي إبطك يَا مُوسَى {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ} لَهَا ضوء كضوء الشَّمْس {من غير سوء} من غير برص {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أَدخل يدك فِي إبطك بعد ذَلِك {مِنَ الرهب} من الْفرق إِذا أرهبت بهَا النَّاس {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ} فهاتان حجتان {مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} قومه {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} كَافِرين مفسدين فِي شركهم(1/326)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)
{قَالَ} مُوسَى {رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} بدلهَا(1/326)
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} أبين مني كلَاما وَكَانَ على لِسَان مُوسَى رتة {فَأَرْسِلْهِ مَعِيَ رِدْءاً} معينا {يُصَدِّقُنِي} يعبر عني كَلَامي وَيصدق قولي {إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} بالرسالة(1/326)
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
{قَالَ} الله {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ} سنقوي ظهرك {بِأَخِيكَ} هرون {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} عذرا وَحجَّة مقدم ومؤخر {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ} إِلَى قتلكما {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما} بِالْإِيمَان والآيات {الغالبون} على فِرْعَوْن وَقَومه(1/326)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
{فَلَمَّا جَآءَهُم مُوسَى بِآيَاتِنَا} الْيَد والعصا {بَيِّنَاتٍ} مبينات {قَالُوا} يَا مُوسَى {مَا هَذَا} الَّذِي جئتنا بِهِ {إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى} كذب مختلق من تِلْقَاء نَفسك {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} الَّذِي تَقول يَا مُوسَى {فِي آبَآئِنَا الْأَوَّلين} من آبَائِنَا الماضين(1/326)
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهدى} بالرسالة والتوحيد {مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّار} الْجنَّة فِي الْآخِرَة {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} لَا يَأْمَن وَلَا ينجو {الظَّالِمُونَ} الْمُشْركُونَ من عَذَاب الله(1/326)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
{وَقَالَ فِرْعَوْن يَا أَيهَا الْمَلأ} يَا رجال أهل مصر {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ} مَا عرفت لكم {مِّنْ إِلَه} إِلَهًا {غَيْرِي} فَلَا تطيعوا مُوسَى {فَأَوْقِدْ لِي} أَي النَّار {يَا هامان عَلَى الطين} فاطبخ لي يَا هامان من الطين آجراً {فَاجْعَلْ لِّي صَرْحاً} قصراً {لعَلي أَطَّلِعُ} أصعد وَأنْظر {إِلَى إِلَه مُوسَى} الَّذِي يزْعم أَنه فِي السَّمَاء وأرسله إِلَيّ {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبين} لَيْسَ فِي السَّمَاء من إِلَه(1/327)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
{واستكبر} تعظم عَن الْإِيمَان {هُوَ} فِرْعَوْن {وَجُنُودُهُ} جموعه القبط {فِي الأَرْض} فِي أَرض مصر {بِغَيْرِ الْحق} بِغَيْر أَن كَانَ لَهُم ذَلِك {وظنوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} فِي الْآخِرَة(1/327)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
{فَأَخَذْنَاهُ} يَعْنِي فِرْعَوْن بكلمته الأولى أَنا ربكُم الْأَعْلَى وَالْأُخْرَى مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي {وَجُنُودَهُ} جموعه القبط {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم} فألقيناهم فطرحانهم فِي الْبَحْر {فَانْظُر} يَا مُحَمَّد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمين} آخر أَمر الْمُشْركين فِرْعَوْن وَقَومه(1/327)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)
{وَجَعَلْنَاهُمْ} خذلناهم {أَئِمَّةً} قادة إِلَى الْكفَّار والضلال {يَدْعُونَ إِلَى النَّار} إِلَى الْكفْر والشرك وَعبادَة الْأَوْثَان {وَيَوْمَ الْقِيَامَة لاَ يُنصَرُونَ} لَا يمْنَعُونَ من عَذَاب الله(1/327)
وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
{وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أهلكناهم فِي الدُّنْيَا بِالْغَرَقِ {وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين} سود الْوُجُوه وزرق الْأَعْين(1/327)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
{وَلَقَد آتَيْنَا} أعطينا {مُوسَى الْكتاب} يَعْنِي التَّوْرَاة {مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُون الأولى} من قبل مُوسَى {بَصَآئِرَ} بَيَانا {لِلنَّاسِ} لبني إِسْرَائِيل {وَهدى} من الضَّلَالَة {وَرَحْمَة} لمن آمن بِهِ {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لكَي يتعظوا فيؤمنوا بِهِ(1/327)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
{وَمَا كُنتَ} يَا مُحَمَّد {بِجَانِبِ الغربي} الْجَبَل {إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الْأَمر} حَيْثُ أمرنَا مُوسَى الْإِتْيَان إِلَى فِرْعَوْن {وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدين} من الْحَاضِرين هُنَاكَ(1/327)
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
{وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا} خلقنَا {قُرُوناً} قرنا بعد قرن وبيّنا قصَّة الأول للْآخر كَمَا بيّنا لَك {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمر} الْأَجَل فَلم يُؤمنُوا فأهلكناهم قرنا بعد قرن {وَمَا كُنتَ} يَا مُحَمَّد {ثاويا} مُقيما {فِي أهل مَدين تتلو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} تقْرَأ على قَوْمك أياتنا الْقُرْآن تخبرهم {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} الرُّسُل إِلَى الْقُرُون الأولى وبيّنا قصَّة الأول للْآخر كَمَا بيّنا لَك قصَّة الْأَوَّلين(1/327)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطّور} جبل زبير {إِذْ نَادَيْنَا} حَيْثُ كلمنا مُوسَى وَيُقَال إِذْ نادينا أمتك {وَلَكِن} علمناك وأرسلناك {رَّحْمَةً} نعْمَة ومنة {مِّن رَّبِّكَ} إِذْ أرسل إِلَيْك جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ بأخبار الْأُمَم {لِتُنذِرَ قَوْماً} لكَي تخوف قوما بِالْقُرْآنِ {مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} لم يَأْتهمْ رَسُول مخوف {مِّن قَبْلِكَ} يَعْنِي قُريْشًا {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لكَي يتعظوا فيؤمنوا(1/327)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ} وَلَوْلَا أَن يُصِيب قَوْمك قُريْشًا عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بِمَا اكتسبوا فِي كفرهم {فَيَقُولُواْ} عِنْد نزُول الْعَذَاب بهم يَوْم الْقِيَامَة {رَبَّنَا} يَا رَبنَا {لَوْلَا} هلا {أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} مَعَ الْكتاب قبل الْعَذَاب {فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ} كتابك وَرَسُولك {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤمنِينَ}(1/327)
بِالْكتاب وَالرَّسُول لأهلكناهم قبلك وَلَكِن أَرْسَلْنَاك إِلَيْهِم بِالْقُرْآنِ لكَي لَا يكون لَهُم حجَّة علينا(1/328)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
{فَلَمَّا جَاءَهُم الْحق} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقُرْآنِ {مِنْ عِندِنَا قَالُواْ} كفار مَكَّة {لَوْلَا أُوتِيَ} هلا أعْطى مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَعْنِي الْيَد والعصا والمن والسلوى وَالْقُرْآن جملَة {مثل مَا أُوتِيَ} أعْطى {مُوسَى} بِزَعْمِهِ {أَو لم يَكْفُرُواْ} كفار مَكَّة {بِمَآ أُوتِيَ مُوسَى} أعطي مُوسَى {من قبل} من قبل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي التَّوْرَاة {قَالُواْ} كفار مَكَّة {سِحْرَانِ} يَعْنِي التَّوْرَاة وَالْقُرْآن {تَظَاهَرَا} تعاونا {وَقَالُواْ} كفار مَكَّة {إِنَّا بِكُلٍّ} بِالتَّوْرَاةِ وَالْقُرْآن {كَافِرُونَ} جاحدون(1/328)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهْدى} أصوب {مِنْهُمَآ} من التَّوْرَاة وَالْقُرْآن {أَتَّبِعْهُ} أعمل بِهِ {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَن التَّوْرَاة وَالْقُرْآن سحران تظاهرا فَلم يقدروا أَن يَأْتُوا(1/328)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
قَالَ الله {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ} فَإِن لم يجيبوك الظلمَة بِمَا سَأَلتهمْ {فَاعْلَم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ} بالْكفْر والشرك وَعبادَة الْأَوْثَان {وَمَنْ أَضَلُّ} أكفر عَن الْحق وَالْهدى {مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ} بالْكفْر والشرك وَعبادَة الْأَوْثَان {بِغَيْرِ هُدىً مِّنَ الله} بِغَيْر حجَّة وَبَيَان من الله {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي} لَا يرشد إِلَى دينه {الْقَوْم الظَّالِمين} الْمُشْركين أَبَا جهل وَأَصْحَابه(1/328)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
{وَلَقَد وصلنا لَهُم القَوْل} بَينا لَهُم الْقُرْآن بِالتَّوْحِيدِ {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لكَي يتعظوا بِالْقُرْآنِ فيؤمنوا(1/328)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
{الَّذين آتَيْنَاهُمُ الْكتاب} أعطيناهم علم التَّوْرَاة {مِن قبله} من قبل مجىء مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن يَعْنِي عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه نَحْو أَرْبَعِينَ رجلا مِنْهُم من جَاءَ من الشَّام وَمِنْهُم من جَاءَ من الْيمن {هُم بِهِ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {يُؤْمِنُونَ} يوقنون(1/328)
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
{وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} يقْرَأ عَلَيْهِم الْقُرْآن بنعت مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصفته {قَالُوا آمنا بِهِ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {إِنَّهُ الْحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ} من قبل قِرَاءَة الْقُرْآن علينا {مُسلمين} مقرين بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن(1/328)
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
{أُولَئِكَ} أهل هَذِه الصّفة {يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} يُعْطون ثوابهم ضعفين {بِمَا صَبَرُواْ} على أَذَى الْكفَّار وطعنهم مَتى بينوا صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته فِي كِتَابهمْ ودخلوا فِي دين مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {ويدرؤون بِالْحَسَنَة السَّيئَة} يدْفَعُونَ بالْكلَام الْحسن بِلَا إِلَه إِلَّا الله الْكَلَام الْقَبِيح الشّرك من غَيرهم {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أعطيناهم من الْأَمْوَال {يُنفِقُونَ} يتصدقون(1/328)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
{وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْو} الْبَاطِل يَعْنِي طعنة الْكفَّار عَلَيْهِم {أَعْرَضُواْ عَنْهُ} كراماً {وَقَالُواْ} مَعْرُوفا {لَنَآ أَعْمَالُنَا} عبَادَة الله وَدين الْإِسْلَام {وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} عَلَيْكُم أَعمالكُم عبَادَة الْأَوْثَان وَدين الشَّيْطَان الشّرك بِاللَّه {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} هدَاكُمْ الله {لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلين} لَا نطلب دين الْمُشْركين بِاللَّه(1/328)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
{إِنَّكَ} يَا مُحَمَّد {لاَ تَهْدِي} لَا تعرف {مَنْ أَحْبَبْتَ} إيمَانه يَعْنِي أَبَا طَالب {وَلَكِن الله يَهْدِي} يوفق ويرشد وَيعرف {مَن يَشَآءُ} لدينِهِ أَبَا بكر وَعمر وأصحابهما {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} لدينِهِ(1/328)
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
{وَقَالُوا} حَارِث بن عَمْرو النوفلى وَأَصْحَابه {إِن نَّتَّبِعِ الْهدى} التَّوْحِيد {مَعَكَ} يَا مُحَمَّد {نتخطف} نطرد {من أَرْضنَا} مَكَّة {أَو لم نُمَكِّن لَّهُمْ} ننزلهم ونجعل لَهُم {حَرَماً آمِناً} من أَن يهاج فِيهِ {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كل شَيْء} يحمل إِلَيْهِ ألون كل شىء مِمَّن الثمرات {رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا} طَعَاما لَهُم من عندنَا فَكيف أسلط عَلَيْهِم الْكفَّار إِن آمنُوا {وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ذَلِك وَلَا يصدقون(1/328)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} من أهل قَرْيَة(1/328)
{بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} كفرت بمعيشتها {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ} مَنَازِلهمْ {لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ} من بعد هلاكهم {إِلاَّ قَلِيلاً} مِنْهَا يسكنهَا المسافرون وسائرها خراب {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثين} المالكين على مَا ملكوا وَتركُوا بعد هلاكهم(1/329)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقرى} أهل الْقرى {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا} فِي أعظمها مَكَّة وَيُقَال إِلَى عظمائها وكبرائها {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} بِالْأَمر وَالنَّهْي {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقرى} أهل الْقرى {إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} مشركون(1/329)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
{وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ} مَا أعطيتم من المَال والخدم يَا معشر قُرَيْش {فَمَتَاعُ الْحَيَاة الدُّنْيَا} كمتاع الْحَيَاة الدُّنْيَا الخزف والزجاج {وَزِينَتُهَا} زهرتها لَا تبقى هَذِه الزهرة {وَمَا عِندَ الله} لمُحَمد وَأَصْحَابه فِي الْجنَّة {خَيْرٌ} أفضل {وَأبقى} أدوم لكم فِي الدُّنْيَا {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أفليس لكم ذهن الإنسانية إِن الدُّنْيَا فانية وَالْآخِرَة بَاقِيَة(1/329)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
{أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً} يَعْنِي الْجنَّة وَهُوَ مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأَصْحَابه وَيُقَال هُوَ عُثْمَان بن عَفَّان {فَهُوَ لاَقِيهِ} معاينه فِي الْآخِرَة {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} أعطيناه المَال والخدم فِي الدُّنْيَا يَعْنِي أَبَا جهل بن هِشَام {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَة مِنَ المحضرين} من الْمُعَذَّبين فِي النَّار(1/329)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
{وَيَوْمَ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {يُنَادِيهِمْ} الله يَعْنِي أَبَا جهل وَأَصْحَابه {فَيَقُول} الله عز وَجل {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} تَعْبدُونَ وتقولون إِنَّهُم شركائى(1/329)
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
{قَالَ الَّذين حَقَّ عَلَيْهِمُ} وَجب عَلَيْهِم {القَوْل} بالسخط وَالْعَذَاب وهم الرؤساء {رَبَّنَا} يَا رَبنَا {هَؤُلَاءِ} السفلة {الَّذين أَغْوَيْنَآ} أضللنا {أَغْوَيْنَاهُمْ} أضللناهم عَن الْحق وَالْهدى {كَمَا غَوَيْنَا} ضللنا عَن الْحق وَالْهدى {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ} مِنْهُم {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} بأمرنا(1/329)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)
{وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ} آلِهَتكُم حَتَّى يمنعوكم من عَذَاب الله {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} فَلم يجيبوهم بِرَفْع عَذَاب الله عَنْهُم {وَرَأَوُاْ الْعَذَاب} القادة والسفلة {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} تمنوا لَو أَنهم كَانُوا فِي الدُّنْيَا على الْحق وَالْهدى(1/329)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)
{وَيَوْمَ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {يُنَادِيهِمْ} الْكفَّار {فَيَقُولُ} الله لَهُم {مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسلين} بِمَا دعوكم(1/329)
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
{فَعَمِيَتْ} فالتبست {عَلَيْهِمُ الأنبآء} الْأَخْبَار والإجابة {يَوْمَئِذٍ} يَوْم الْقِيَامَة {فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ} لَا يجيبون(1/329)
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
{فَأَمَّا مَن تَابَ} من الْكفْر {وَآمَنَ} بِاللَّه {وَعمل صَالحا} خَالِصا فِيمَا بَينه وَبَين ربه {فَعَسَى} وَعَسَى من الله وَاجِب {أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين} من الناجين من السخط وَالْعَذَاب(1/329)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} كَمَا يَشَاء {وَيَخْتَارُ} من خلقه بِالنُّبُوَّةِ من يَشَاء يَعْنِي مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {مَا كَانَ لَهُمُ} لأهل مَكَّة {الْخيرَة} الِاخْتِيَار {سُبْحَانَ الله} نزه نَفسه {وَتَعَالَى} تَبرأ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} بِهِ من الْأَوْثَان(1/329)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} مَا تضمر قُلُوبهم من البغض والعداوة {وَمَا يُعْلِنُونَ} مَا يظهرون من الْمعاصِي(1/329)
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
{وَهُوَ الله لَا إِلَه إِلاَّ هُوَ} لَا ولد لَهُ وَلَا شريك لَهُ(1/329)
{لَهُ الْحَمد} لَهُ الشُّكْر {فِي الأولى وَالْآخِرَة} على أهل الأَرْض وَالسَّمَاء وَيُقَال لَهُ الْحَمد والْمنَّة وَالْفضل وَالْإِحْسَان فِي الأولى وَالْآخِرَة على أهل الدُّنْيَا وَالْآخِرَة {وَلَهُ الحكم} الْقَضَاء بَينهم {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الْمَوْت(1/330)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {أَرَأَيْتُمْ} مَا تَقولُونَ يَا معشر الْكفَّار {إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اللَّيْل} إِن ترك الله عَلَيْكُم اللَّيْل مظلماً {سَرْمَداً} دَائِما {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة} لَا نَهَار فِيهِ {مَنْ إِلَه غَيْرُ الله} سوى الله {يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ} بنهار {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} أَفلا تطيعون من جعل لكم اللَّيْل وَالنَّهَار(1/330)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد أَيْضا {أَرَأَيْتُمْ} مَا تَقولُونَ {إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ} إِن ترك الله عَلَيْكُم {النَّهَار سَرْمَداً} دَائِما {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة} لَا ليل فِيهِ {مَنْ إِلَه غَيْرُ الله} سوى الله {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} تستقرون فِيهِ {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} أَفلا تصدقُونَ من جعل لكم خلق اللَّيْل وَالنَّهَار(1/330)
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
{وَمِن رَّحْمَتِهِ} نعْمَته {جَعَلَ لَكُمُ} خلق لكم {اللَّيْل وَالنَّهَار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} لتستقروا فِي اللَّيْل {وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} لكَي تَطْلُبُوا بِالنَّهَارِ فَضله بِالْعلمِ وَالْعِبَادَة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكَي تشكروا نعْمَته عَلَيْكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار(1/330)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)
{وَيَوْمَ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} تَقولُونَ إِنَّهُم شركائي(1/330)
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
{وَنَزَعْنَا} أخرجنَا {مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} نَبيا يشْهد عَلَيْهِم بالبلاغ وَهُوَ نَبِيّهم الَّذِي كَانَ فيهم فِي الدُّنْيَا {فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} حجتكم لماذا رددتم على الرُّسُل {فَعَلمُوا} علم كل أمة {أَنَّ الْحق لِلَّهِ} أَن عبَادَة الله وَدين الله الْحق وَأَن الْقَضَاء فيهم لله {وَضَلَّ عَنْهُمْ} اشْتغل عَنْهُم بِأَنْفسِهِم {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يعْبدُونَ بِالْكَذِبِ(1/330)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى} ابْن عَم مُوسَى {فبغى عَلَيْهِمْ} فتطاول على مُوسَى وَهَارُون وقومهما فَقَالَ لمُوسَى الرسَالَة ولهارون الحبورة وَلست فِي شَيْء لَا أرْضى بِهَذَا ورد على مُوسَى نبوته {وَآتَيْنَاهُ} أعطيناه {مِنَ الْكُنُوز} يَعْنِي الْأَمْوَال {مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ} مَفَاتِيح خزائنه {لَتَنُوءُ بالعصبة} لتثقل بِالْجَمَاعَة {أُوْلِي الْقُوَّة} ذَوي الْقُوَّة وهم أَرْبَعُونَ رجلا يحملون مَفَاتِيح خزانته {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} قوم مُوسَى {لاَ تَفْرَحْ} لَا تبطر بِالْمَالِ وتشرك {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} البطرين فِي المَال(1/330)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
{وابتغ} اطلب {فِيمَآ آتَاكَ الله} بِمَا أَعْطَاك الله بِالْمَالِ {الدَّار الْآخِرَة} يَعْنِي الْجنَّة {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} لَا تتْرك نصيبك من الْآخِرَة بنصيبك من الدُّنْيَا وَيُقَال لَا تنقص نصيبك من الدُّنْيَا بِمَا أنفقت وَأعْطيت للآخرة {وَأَحْسِن} إِلَى الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين {كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} بِالْمَالِ {وَلاَ تَبْغِ الْفساد فِي الأَرْض} لَا تعْمل بِالْمَعَاصِي وَخلاف أَمر الرَّسُول مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين} بِالْمَعَاصِي(1/330)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
{قَالَ} قَارون {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ} أَعْطَيْت هَذَا المَال الذى أَعْطَيْت {على علم عِنْدِي} على مَا علم الله أَنِّي أهل لذَلِك وَيُقَال يصنع الذَّهَب بالكيمياء {أَو لم يَعْلَمْ} قَارون {أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُون} الْمَاضِيَة {مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً} بِالْبدنِ {وَأَكْثَرُ جَمْعاً} مَالا ورجالاً {وَلَا يسْأَل عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} الْمُشْركُونَ يَوْم الْقِيَامَة كل يعرف بسيماه(1/330)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
{فَخَرَجَ} قَارون {على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}(1/330)
الَّتِي كَانَت لَهُ من الْخَيل وَالْبِغَال والغلمان والجواري وحلي الذَّهَب وَالْفِضَّة وألوان السِّلَاح وَالثيَاب {قَالَ الَّذين يُرِيدُونَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} وهم الراغبون {يَا لَيْت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ} أعطي {قَارُونُ} من المَال {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} نصيب كثير(1/331)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
{وَقَالَ الَّذين أُوتُواْ الْعلم} أعْطوا علم الزّهْد والتوكل وهم الزاهدون قَالُوا للراغبين {وَيْلَكُمْ} ضيق الله عَلَيْكُم الدُّنْيَا {ثَوَابُ الله خَيْرٌ} فِي الْجنَّة أفضل {لِّمَنْ آمَنَ} بِاللَّه وبموسى {وَعَمِلَ صَالِحاً} خَالِصا فِيمَا بَينه وَبَين ربه {وَلاَ يُلَقَّاهَآ} لَا يعْطى الْجنَّة {إِلاَّ الصَّابِرُونَ} على أَمر الله والمرازي وَيُقَال لَا يوفق للكلمة الطّيبَة الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر إِلاَّ الصَّابِرُونَ على أَمر الله والمرازي(1/331)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
{فَخَسَفْنَا بِهِ} بقارون {وَبِدَارِهِ} بمنزله {الأَرْض} غارت بِهِ الأَرْض {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ} من جمَاعَة وجند {يَنصُرُونَهُ} يمنعونه {مِن دُونِ الله} من عَذَاب الله حِين نزل بِهِ {وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين} الممتنعين بِنَفسِهِ من عَذَاب الله(1/331)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
{وَأَصْبَحَ} صَار {الَّذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ} قدره ومنزلته وَمَاله {بالْأَمْس يَقُولُونَ} بَعضهم لبَعض {وَيْكَأَنَّ الله} لَيْسَ كَمَا قَالَ قَارون إِن هَذَا المَال بصنعي وَلَكِن الله {يَبْسُطُ} يُوسع {الرزق} المَال {لمن يشآء} على من يَشَاء {من عباده} وَهُوَ مكر مِنْهُ كَمَا كَانَ لقارون {وَيَقْدِرُ} يقتر على من يَشَاء وَهُوَ نظر مِنْهُ {لَوْلَا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا} فَمنع عَنَّا مَا أعطَاهُ {لَخَسَفَ بِنَا} غارت بِنَا الأَرْض كَمَا خسف بقارون {وَيْكَأَنَّهُ} وَأَنه وَالْيَاء وَالْكَاف صلَة فِي الْكَلَام {لاَ يُفْلِحُ} لَا ينجو وَلَا يَأْمَن {الْكَافِرُونَ} من عَذَاب الله(1/331)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
{تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة} الْجنَّة {نَجْعَلُهَا} نعطيها {لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً} عتواً وتكبراً {فِي الأَرْض} بِالْمَالِ {وَلاَ فَسَاداً} بالنقش والتصاوير والمعاصي {وَالْعَاقبَة} الْجنَّة {لِلْمُتَّقِينَ} الْكفْر والشرك والعلو وَالْفساد فِي الأَرْض(1/331)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
{مَن جَآءَ بِالْحَسَنَة} بِلَا إِلَه إِلَّا الله مخلصاً بهَا {فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} فَلهُ مِنْهَا خير {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ} بالشرك بِاللَّه {فَلاَ يُجْزَى الَّذين عَمِلُواْ السَّيِّئَات} فِي الشّرك بِاللَّه {إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} النَّار(1/331)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآن} نزل عَلَيْك جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} إِلَى مَكَّة وَيُقَال الْجنَّة {قُل} يَا مُحَمَّد {رَبِّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهدى} بِالتَّوْحِيدِ وَالْقُرْآن {وَمَنْ هُوَ فِي ضلال مُبين} فِي كفر بَين وَخطأ بَين(1/331)
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
{وَمَا كنت} يَا مُحَمَّد {ترجو أَن يلقى إِلَيْكَ الْكتاب} أَن ينزل عَلَيْك جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ وَتَكون نَبيا {إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} وَلَكِن منَّة وكرامة من رَبك إِذْ أرسل عَلَيْك جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ وجعلك نَبيا {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً} عوناً {لِّلْكَافِرِينَ} بالْكفْر(1/331)
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
{وَلاَ يَصُدُّنَّكَ} لَا يصرفنك {عَنْ آيَاتِ الله} الْقُرْآن {بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} جِبْرِيل بهَا {وادع إِلَى رَبِّكَ} إِلَى تَوْحِيد رَبك وَكتاب رَبك {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْركين} مَعَ الْمُشْركين على دينهم مِنْهُم(1/331)
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
{وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ} لَا تعبد من دون الله أحدا وَلَا تدع الْخلق إِلَى أحد دون الله {لاَ إِلَه إِلاَّ هُوَ} وَحده لَا شريك لَهُ {كُلُّ شَيْءٍ} كل عمل لغير وَجه الله {هَالِكٌ} مَرْدُود {إِلاَّ وَجْهَهُ} إِلَّا مَا ابْتغى بِهِ وَجهه وَيُقَال كل وَجه متغير إِلَّا وَجهه وكل ملك زائل إِلَّا ملكه {لَهُ الحكم} الْقَضَاء بَين خلقه {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الْمَوْت فيجازيكم بأعمالكم(1/331)
وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا العنكبوت وهى كلهَا مَكِّيَّة آياتها سبع وَسَبْعُونَ آيَة وكلماتها سَبْعمِائة وَثَمَانُونَ كلمة وحروفها أَرْبَعَة آلَاف وَمِائَة وَخَمْسَة وَأَرْبَعُونَ
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}(1/332)
الم (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {الم} يَقُول أَنا الله أعلم وَيُقَال قسم أقسم بِهِ بقوله وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذين مِن قبلهم(1/332)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
{أَحسب النَّاس} أيظن أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أَن يتْركُوا} يمهلوا بعد مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أَن يَقُولُوا} بِأَن يَقُولُوا آمنا بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} لَا يبتلون بالهوى والبدعة وانتهاك الْمَحَارِم(1/332)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذين مِن قَبْلِهِمْ} ابتلينا الَّذين من قبل أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد النَّبِيين بالهوى والبدعة وانتهاك الْمَحَارِم {فَلَيَعْلَمَنَّ الله} لكَي يرى الله ويميز {الَّذين صَدَقُواْ} فِي إِيمَانهم باجتناب الْهوى والبدعة وَترك الْمَحَارِم {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبين} يَعْنِي المكذبين فِي إِيمَانهم بالهوى والبدعة وانتهاك الْمَحَارِم(1/332)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
ثمَّ نزل فِي أبي جهل بن هِشَام والوليد بن الْمُغيرَة وَعتبَة وَشَيْبَة ابْني ربيعَة الَّذين بارزوا على بن أَبى طَالب رضى الله عَنهُ وَحَمْزَة بن عبد الْمطلب عَم النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعبيدَة بن عبد الْمطلب يَوْم بدر وتفاخر بَعضهم على بعض فَقَالَ {أَمْ حَسِبَ} أيظن {الَّذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئَات} فِي الشّرك بِاللَّه {أَن يَسْبِقُونَا} أَن يفوتوا من عذابنا {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} بئس مَا يقضون ويظنون لأَنْفُسِهِمْ ذَلِك(1/332)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
{مَن كَانَ يَرْجُو} يخَاف {لِقَآءَ الله} الْبَعْث بعد الْمَوْت {فَإِنَّ أَجَلَ الله} الْبَعْث بعد الْمَوْت {لآتٍ} لكائن {وَهُوَ السَّمِيع} لمقالة كلا الْفَرِيقَيْنِ يَوْم بدر {الْعَلِيم} بِمَا يصيبهم(1/332)
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
ثمَّ نزل فِي عَليّ وصاحبيه بِمَا افْتَخرُوا فَقَالَ {وَمَن جَاهَدَ} فِي سَبِيل الله يَوْم بدر {فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} فَلهُ بذلك الثَّوَاب {إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالمين} عَن جِهَاد الْعَالمين(1/332)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
{وَالَّذين آمَنُواْ} عَليّ وصاحباه {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} لنمحصن عَنْهُم ذنوبهم دون الْكَبَائِر {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فِي جهادهم(1/332)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَان} أمرنَا الْإِنْسَان سعد بن أبي وَقاص {بِوَالِدَيْهِ} بِمَالك وَحمْنَة بنت أبي سُفْيَان {حُسْناً} برا بهما {وَإِن جَاهَدَاكَ} أمراك وأراداك {لِتُشْرِكَ} لتعدل {بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أَنه شَرِيكي وَلَك علم أَنه لَيْسَ لي شريك {فَلاَ تُطِعْهُمَآ} فِي الشّرك وَكَانَ أَبَوَاهُ مُشْرِكين {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} مرجعك ومرجع أَبَوَيْك {فَأُنَبِّئُكُم} فأخبركم {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر فِي الْكفْر وَالْإِيمَان(1/332)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
{وَالَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم فِي كل زمَان {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحين} مَعَ الصَّالِحين وَفِي الْجنَّة أبي بكر الصّديق وَعمر الْفَارُوق وَعُثْمَان ذِي النورين وَعلي الْأمين رضى الله عَنْهُم(1/332)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
{وَمِنَ النَّاس} وَهُوَ عَيَّاش بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي {مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّه} صدقنا بتوحيد الله {فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله} عذب فِي دين الله {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاس} عَذَاب النَّاس بالسياط {كَعَذَابِ الله} فِي النَّار دَائِما حَتَّى كفر وَرجع عَن دينه {وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ} فتح مَكَّة {لَيَقُولُنَّ} عَيَّاش وَأَصْحَابه {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} على دينكُمْ {أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالمين} قُلُوب الْعَالمين من الْخَيْر وَالشَّر ثمَّ أسلم عَيَّاش وَأَصْحَابه بعد ذَلِك وَحسن إسْلَامهمْ(1/332)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
{وَلَيَعْلَمَنَّ} يرى ويميز {الله الَّذين آمَنُواْ} فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة {وَلَيَعْلَمَنَّ} يرى ويميز {الْمُنَافِقين} يَوْم بدر(1/333)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
{وَقَالَ الَّذين كَفَرُواْ} كفار مَكَّة أَبُو جهل وَأَصْحَابه {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} عَليّ وسلمان وأصحابهما {اتبعُوا سَبِيلَنَا} ديننَا فِي عبَادَة الْأَوْثَان {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} ذنوبكم عَنْكُم يَوْم الْقِيَامَة {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ} ذنوبهم {مِّن شَيْءٍ} يَوْم الْقِيَامَة {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فِي مقالتهم(1/333)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} أوزارهم يَوْم الْقِيَامَة {وَأَثْقَالاً} مثل أوزار الَّذين يضلونهم {مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} مَعَ أوزارهم {وليسألن يَوْمَ الْقِيَامَة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يكذبُون على الله(1/333)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ} فَمَكثَ فيهم {أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} يَدعُوهُم إِلَى التَّوْحِيد فَلم يُجِيبُوهُ {فَأَخَذَهُمُ الطوفان} فأهلكهم الله بالطوفان {وَهُمْ ظَالِمُونَ} كافرون(1/333)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
{فأَنْجَيْناهُ} نوحًا {وأَصْحَابَ السَّفِينَة} وَمن آمن مَعَه فِي السَّفِينَة {وَجَعَلْنَاهَآ} سفينة نوح {آيَةً} عِبْرَة {للْعَالمين} بعدهمْ(1/333)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)
{وَإِبْرَاهِيمَ} وَأَرْسَلْنَا إِبْرَاهِيم إِلَى قومه {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعبدوا الله} وحدوا الله {واتقوه} اخشوه وأطيعوه بِالتَّوْبَةِ من الْكفْر والشرك وَعبادَة الْأَوْثَان {ذَلِكُم} التَّوْبَة والتوحيد {خَيْرٌ لَّكُمْ} مِمَّا أَنْتُم عَلَيْهِ {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ذَلِك وتصدقون وَلَكِن لَا تعلمُونَ وَلَا تصدقُونَ(1/333)
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
{إِنَّمَا تَعْبدُونَ من دون الله أوثانا} أَحْجَار {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} وتقولون كذبا وتنحتون بِأَيْدِيكُمْ مَا تَعْبدُونَ من دون الله {إِنَّ الَّذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} من الْأَوْثَان {لاَ يَمْلِكُونَ لكم رزقا} لَا يقدرُونَ أَن يرزقوكم {فابتغوا عِندَ الله الرزق} فَاطْلُبُوا من الله الرزق {واعبدوه} ووحدوه {واشكروا لَهُ} بِالتَّوْحِيدِ {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الْمَوْت فيجزيكم بأعمالكم(1/333)
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
{وَإِن تكذبوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالرسالة با معشر قُرَيْش {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} رسلهم بالرسالة فأهلكناهم {وَمَا عَلَى الرَّسُول إِلاَّ الْبَلَاغ} تَبْلِيغ الرسَالَة عَن الله {الْمُبين} يبين لَهُم بلغَة يعلمونها(1/333)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} يخبروا كفار مَكَّة فِي الْكتاب {كَيفَ يبدئ الله الْخلق} من النُّطْفَة {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يَوْم الْقِيَامَة {إِنَّ ذَلِك} إبداءه وإعادته {عَلَى الله يسير} هَين(1/333)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {سِيرُواْ} سافروا {فِي الأَرْض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ} الله {الْخلق} من النُّطْفَة وأهلكهم بعد ذَلِك {ثمَّ الله ينشئ النشأة الْآخِرَة} يخلق الله الْخلق يَوْم الْقِيَامَة {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ} من الْخلق والبعث وَالْمَوْت والحياة {قَدِيرٌ}(1/333)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)
{يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} يُمِيت من يَشَاء على الْكفْر فيعذبه {وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ} يُمِيت من يَشَاء على الْإِيمَان فيرحمه {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} ترجعون بعد الْمَوْت فيجزيكم بأعمالكم(1/333)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
{وَمَآ أَنتُمْ} يَا أهل مَكَّة {بِمُعْجِزِينَ} بفائتين من عَذَاب الله {فِي الأَرْض} من أهل الأَرْض {وَلاَ فِي السمآء} وَلَا من أهل السَّمَاء(1/333)
334 - {وَمَا لكم من دون الله} من عَذَاب الله {مِن وَلِيٍّ} قريب ينفعكم {وَلاَ نَصِيرٍ} مَانع يمنعكم من عَذَاب الله(1/334)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
{وَالَّذين كفرُوا بآيَات الله} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَسَائِر الْكفَّار {وَلِقَآئِهِ} وَكَفرُوا بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {أُولَئِكَ} أهل هَذِه الصّفة {يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي} من جنتي وهم الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَن يكون فِي الْجنَّة الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع من جنته {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} وجيع(1/334)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} لم يكن جَوَاب قوم إِبْرَاهِيم حَيْثُ دعاهم إِلَى الله تَعَالَى {إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} بالنَّار {فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النَّار} سالما {إِنَّ فِي ذَلِك} فِيمَا فعلنَا بِقوم إِبْرَاهِيم {لآيَاتٍ} لعبرات {لقوم يُؤمنُونَ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن(1/334)
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
{وَقَالَ} إِبْرَاهِيم لِقَوْمِهِ {إِنَّمَا اتخذتم} عَبدْتُمْ {مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً} أحجاراً {مَّوَدَّةَ} صلَة {بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} لَا تبقى {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} يتبرأ بَعْضكُم من بعض {وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ} مصيركم {النَّار} يَعْنِي العابد والمعبود {وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} من مانعين من عَذَاب الله(1/334)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} فَقَالَ لَهُ لوط صدقت يَا إِبْرَاهِيم {وَقَالَ} إِبْرَاهِيم {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} رَاجع إِلَى طَاعَة رَبِّي وَخرج من حران إِلَى فلسطين {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيز} بالنقمة مِنْهُم {الْحَكِيم} حكم التَّحْوِيل من بلد إِلَى بلد لقبل سَلامَة أَمر الدّين وَالزِّيَادَة(1/334)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{وَوَهَبْنَا لَهُ} لإِبْرَاهِيم {إِسْحَاق} ولدا {وَيَعْقُوب} ولد الْوَلَد {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ} نَسْله {النُّبُوَّة وَالْكتاب} يَقُول أكرمنا ذُريَّته بِالنُّبُوَّةِ وَالْكتاب وَالْولد الطّيب وَكَانَ فيهم الْأَنْبِيَاء والكتب {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} أكرمناه بِالنُّبُوَّةِ وَالثنَاء الْحسن وَالْولد الطّيب فِي الدُّنْيَا {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَة لَمِنَ الصَّالِحين} مَعَ آبَائِهِ الْمُرْسلين فِي الْجنَّة(1/334)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)
{وَلُوطاً} أرسلنَا لوطاً إِلَى قومه {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُم لتأتون الْفَاحِشَة} للواطة {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالمين} يَقُول لم يعْمل قبلكُمْ أحد من الْعَالمين عَمَلكُمْ الْخَبيث(1/334)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَال} أدبار الرِّجَال {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيل} نسل الْوَلَد وَيُقَال تقطعون السَّبِيل على من مر بكم من الغرباء {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكر} تَعْمَلُونَ فِي مجالسكم الْمُنكر نَحْو عشر خِصَال كَانُوا يعملونها فى مجَالِسهمْ مثل الْحَذف بالبندق وَالْفُحْش وَغير ذَلِك {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} فَلم يكن جَوَاب قوم لوط {إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقين} بمجيء عَذَاب الله علينا إِن لم نؤمن(1/334)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
{قَالَ} لوط {رَبِّ انصرني} أَعنِي بِالْعَذَابِ {عَلَى الْقَوْم المفسدين} الْمُشْركين(1/334)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)
{وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ} جِبْرِيل وَمن مَعَه من الْمَلَائِكَة إِلَى إِبْرَاهِيم {بالبشرى} فبشروه بِالْوَلَدِ {قَالُوا} لإِبْرَاهِيم {إِنَّا مهلكو أَهْلِ هَذِه الْقرْيَة} قريات لوط {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ} مُشْرِكين اجترحوا الْهَلَاك على أنفسهم بعملهم الْخَبيث(1/334)
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
{قَالَ} إِبْرَاهِيم {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} كَيفَ تهلكهم يَا جِبْرِيل {قَالُواْ} يَعْنِي جِبْرِيل وَمن مَعَه من الْمَلَائِكَة {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} ) ابْنَتَيْهِ زاعورا وريثا {إِلاَّ امْرَأَته}(1/334)
واعلة المنافقة {كَانَتْ مِنَ الغابرين} تتخلف مَعَ المتخلفين بِالْهَلَاكِ(1/335)
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
{وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا} جِبْرِيل وَمن مَعَه من الْمَلَائِكَة {لُوطاً} إِلَى لوط {سِيءَ بِهِمْ} سَاءَهُ مجيئهم {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} اغتم بمجيئهم اغتماماً شَدِيدا لما خَافَ عَلَيْهِم من عمل قومه الْخَبيث {وَقَالُواْ} يَعْنِي جِبْرِيل وَمن مَعَه للوط {لاَ تَخَفْ} علينا {وَلاَ تَحْزَنْ} لأمرنا من الْهَلَاك {إِنَّا مُنَجُّوكَ} من قَوْمك {وَأَهْلَكَ} ابنتيك {إِلاَّ امْرَأَتك} المنافقة {كَانَتْ مِنَ الغابرين} تتخلف مَعَ المتخلفين بِالْهَلَاكِ(1/335)
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)
{إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هَذِه الْقرْيَة} يَعْنِي قريات لوط {رِجْزاً} عذَابا {مِّنَ السمآء} بِالْحِجَارَةِ {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} يكفرون ويعصون(1/335)
وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
{وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ} تركناها يَعْنِي قريات لوط {آيَةً} عَلامَة {بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يصدقون ويعلمون مَا فعل بهم فَلَا يقتدون بهم(1/335)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)
{وَإِلَى مَدْيَنَ} وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدين {أَخَاهُمْ} نَبِيّهم {شعيبا فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله} وحدوا الله {وارجوا الْيَوْم الآخر} خَافُوا يَوْم الْقِيَامَة {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْض مُفْسِدِينَ} لَا تعملوا فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ والمعاصي(1/335)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
{فَكَذَّبُوهُ} بالرسالة {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} الزلزلة بِالْعَذَابِ {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} فصاروا فِي مجمعهم {جَاثِمِينَ} ميتين لَا يتحركون(1/335)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
{وعادا} أهلكنا قوم هود {وَثَمُود} أهلكنا قوم صَالح {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم} يَا أهل مَكَّة {مِّن مَّسَاكِنِهِمْ} من خراب مَنَازِلهمْ مَا فعل بهم {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَان أَعْمَالَهُمْ} فِي الشّرك وحالهم فِي الشدَّة والرخاء {فَصَدَّهُمْ} فصرفهم بذلك {عَنِ السَّبِيل} عَن الْحق وَالْهدى {وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ} كَانُوا يرَوْنَ أَنهم على الْحق وَلم يَكُونُوا على الْحق(1/335)
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)
{وَقَارُونَ} أهلكنا قَارون {وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} وَزِير فِرْعَوْن {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والعلامات {فاستكبروا فِي الأَرْض} عَن الْإِيمَان وَلم يُؤمنُوا بِالْآيَاتِ {وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ} فائتين من عَذَاب الله(1/335)
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
{فَكُلاًّ} فَكل قوم {أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} فِي الشّرك {فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} حِجَارَة وهم قوم لوط {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَة} بِالْعَذَابِ وهم قوم شُعَيْب وَصَالح {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْض} غارت بِهِ الأَرْض وَهُوَ قَارون وَمن مَعَه {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} فِي الْبَحْر وَهُوَ فِرْعَوْن وَقَومه {وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} بإهلاكهم {وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالْكفْر والشرك وَتَكْذيب الرُّسُل(1/335)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{مَثَلُ الَّذين اتَّخذُوا} عبدُوا {مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ} أَرْبَابًا من الْأَوْثَان {كَمَثَلِ العنكبوت اتَّخذت بَيْتاً} مسكنا {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبيُوت} أَضْعَف الْبيُوت {لَبَيْتُ العنكبوت} يَقُول إِن بَيت العنكبوت لَا يَقِيهَا من حر وَلَا برد كَذَلِك الْآلهَة لَا تَنْفَع من عَبدهَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} هَذَا الْمثل وَلَكِن لَا يعلمُونَ وَلَا يصدقون بذلك(1/335)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
{إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ} مَا يعْبدُونَ {مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} من الْأَوْثَان أَنَّهَا لَا تنفعهم فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة {وَهُوَ الْعَزِيز} بالنقمة لمن يَعْبُدهَا {الْحَكِيم} حكم أَن لَا يعبد غَيره(1/336)
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
{وَتِلْكَ الْأَمْثَال} هَذِه الْأَمْثَال {نَضْرِبُهَا} نبينها {لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ} يَعْنِي أَمْثَال الْقُرْآن {إِلاَّ الْعَالمُونَ} بِاللَّه الموحدون(1/336)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
{خَلَقَ الله السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} للحق لَا للباطل {إِنَّ فِي ذَلِك} فِيمَا ذكرته من الْأَمْثَال {لآيَة} لعبرة {للْمُؤْمِنين} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن(1/336)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
{اتل مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكتاب} يَقُول اقْرَأ عَلَيْهِم يَا مُحَمَّد مَا أنزل إِلَيْك جِبْرِيل بِهِ يعْنى بِالْقُرْآنِ {وَأَقِمِ الصَّلَاة} أتم الصَّلَوَات الْخمس {إِنَّ الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء} المعاصى {وَالْمُنكر} مَالا يعرف فِي شَرِيعَة وَلَا سنة مَا دَامَ الرجل فِيهَا فَهِيَ تَمنعهُ عَن ذَلِك {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} يَقُول ذكر الله إيَّاكُمْ بالمغفرة وَالثَّوَاب أكبر من ذكركُمْ إِيَّاه بِالصَّلَاةِ {وَالله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر(1/336)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
{وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الْكتاب} لَا تخاصموا الْيَهُود وَالنَّصَارَى {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن} يعْنى الْقُرْآن {إِلاَّ الَّذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} من وَفد بني نَجْرَان بالملاعنة {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا} يعْنى الْقُرْآن {وَأنزل إِلَيْكُم} يعْنى التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل {وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ} بِلَا ولد وَلَا شريك {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} مخلصون لَهُ بِالْعبَادَة والتوحيد مقرون بِهِ(1/336)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكتاب} يَقُول هَكَذَا أنزلنَا إِلَيْك جِبْرِيل بِالْكتاب لتقرأ عَلَيْهِم مَا فِيهِ من الْأَمر وَالنَّهْي والأمثال {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكتاب} أعطيناهم علم التَّوْرَاة عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه {يُؤمنُونَ بِهِ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَمِنْ هَؤُلَاءِ} من أهل مَكَّة {مَن يُؤمن بِهِ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {إِلاَّ الْكَافِرُونَ} كَعْب وَأَصْحَابه وَأَبُو جهل واصحابه(1/336)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
{وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ} تقْرَأ {مِن قَبْلِهِ} من قبل الْقُرْآن {مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ} لَا تكتبه {بِيَمِينِكَ إِذاً} لَو كنت قَارِئًا أَو كَاتبا {لاَّرْتَابَ المبطلون} لشك الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ لِأَن فِي كِتَابهمْ أَنَّك أُمِّي لَا تقْرَأ وَلَا تكْتب(1/336)
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
{بَلْ هُوَ} يَعْنِي نعتك وصفتك {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} عَلَامَات بَيِّنَات علمهَا {فِي صُدُورِ الَّذين أُوتُواْ الْعلم} أعْطوا الْعلم بِالتَّوْرَاةِ وَيُقَال بل هُوَ يَعْنِي الْقُرْآن آيَات بَيِّنَات مبينات بالحلال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي فِي صُدُور الَّذين أُوتُوا الْعلم أعْطوا الْعلم بِالْقُرْآنِ {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {إِلاَّ الظَّالِمُونَ} الْكَافِرُونَ وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ(1/336)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
{وَقَالُواْ} وَقَالَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ} هلا أنزل على مُحَمَّد {آيَاتٌ} عَلَامَات {مِّن رَّبِّهِ} كَمَا أنزل على مُوسَى وَعِيسَى {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {إِنَّمَا الْآيَات عِندَ الله} إِنَّمَا العلامات من عِنْد الله تَجِيء {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ} رَسُول مخوف {مُّبِينٌ} بلغَة تعلمونها(1/336)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
{أَو لم يَكْفِهِمْ} أهل مَكَّة يَا مُحَمَّد آيَة لنبوتك {أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكتاب} جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {يُتْلَى} يقْرَأ {عَلَيْهِمْ} بِالْأَمر وَالنَّهْي وأخبار الْأُمَم {إِنَّ فِي ذَلِك} فِي الَّذِي أنزلت إِلَيْك جِبْرِيل بِهِ يَعْنِي الْقُرْآن {لَرَحْمَةً} من الْعَذَاب لمن آمن بِهِ {وذكرى} موعظة {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن(1/336)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {كفى بِاللَّه بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} بِأَنِّي رَسُوله {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} من الْخلق {وَالَّذين آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ}(1/336)
بالشيطان {وَكَفَرُواْ بِاللَّه أُولَئِكَ هُمُ الخاسرون} المغبونون بالعقوبة يَعْنِي أَبَا جهل وَأَصْحَابه(1/337)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} يَا مُحَمَّد {بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى} وَقت مَعْلُوم {لَّجَآءَهُمُ الْعَذَاب} قبل وقته {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} فَجْأَة {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بنزوله(1/337)
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)
{يَسْتَعْجِلُونَكَ} يَا مُحَمَّد {بِالْعَذَابِ} فِي الدُّنْيَا {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ} ستحيط {بالكافرين} وَهِي تجمعهم جَمِيعًا(1/337)
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ} يَأْخُذهُمْ {الْعَذَاب مِن فَوْقِهِمْ} من فَوق رُءُوسهم {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} إِذا ألقوا فِي النَّار {وَيِقُولُ} لَهُم {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ وتقولون فى الْكفْر(1/337)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
{يَا عبَادي الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن يَعْنِي أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وعلياً وأصحابهم {إِنَّ أَرْضِي} أَرض الْمَدِينَة {وَاسِعَةٌ} آمِنَة فاخرجوا إِلَيْهَا {فإياي فاعبدون} فأطيعون(1/337)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)
{كُلُّ نَفْسٍ} منفوسة {ذَآئِقَةُ الْمَوْت} تذوق الْمَوْت {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} بعد الْمَوْت فيجزيكم بأعمالكم(1/337)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)
{وَالَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجنَّة} لننزلنهم فِي الْجنَّة {غرفا} علا لى {تجْرِي من تحتهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {خَالِدِينَ فِيهَا} مقيمين فِي الْجنَّة {نِعْمَ أَجْرُ العاملين} ثَوَاب العاملين(1/337)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
{الَّذين صَبَرُواْ} على أَمر الله والمرازي {وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} لَا على غَيره(1/337)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
فَلَمَّا أَمرهم الله بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَة قَالُوا لَيْسَ لنا بهَا أحد يؤوينا ويطعمنا ويسقينا فَقَالَ {وَكَأَيِّن} وَكم {مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} لغد إِلَّا النملة فَإِنَّهَا تجمع لسنة) {الله يَرْزُقُهَا} من تحمل وَمن لَا تحمل {وَإِيَّاكُمْ} يَا معشر الْمُؤمنِينَ {وَهُوَ السَّمِيع} لمقالتكم من يرزقنا {الْعَلِيم} بأرزاقكم يعلم من أَيْن يرزقكم(1/337)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} يَعْنِي كفار مَكَّة {مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَسَخَّرَ} ذلل {الشَّمْس وَالْقَمَر لَيَقُولُنَّ} كفار مَكَّة {الله} خلق سخر وذلل {فَأنى يُؤْفَكُونَ} فَمن أَيْن يكذبُون على الله(1/337)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
{الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} يُوسع المَال على من يَشَاء من عباده وَهُوَ مكر مِنْهُ {وَيَقْدِرُ لَهُ} يقتر على من يَشَاء من عباده وَهُوَ نظر مِنْهُ {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ} من الْبسط وَالتَّقْدِير {عليم}(1/337)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} يَعْنِي كفار مَكَّة {مَّن نَّزَّلَ من السَّمَاء مَاء} مطر {فَأَحْيَا بِهِ} بالمطر {الأَرْض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا} قحطها ويبوستها {لَيَقُولُنَّ} كفار مَكَّة {الله} نزل ذَلِك {قُلِ الْحَمد لِلَّهِ} الشُّكْر لله على ذَلِك {بَلْ أَكْثَرُهُمْ} كلهم {لاَ يَعْقِلُونَ} لَا يعلمُونَ وَلَا يصدقون بذلك(1/337)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
{وَمَا هَذِه الْحَيَاة الدنيآ} مَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا من الزهرة وَالنَّعِيم {إِلاَّ لَهْوٌ} فَرح {وَلَعِبٌ} بَاطِل لَا يبْقى {وَإِنَّ الدَّار الْآخِرَة}(1/337)
يَعْنِي الْجنَّة {لَهِيَ الْحَيَوَان} الْحَيَاة لَا يَمُوت أَهلهَا {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يصدقون وَلَكِن لَا يعلمُونَ وَلَا يصدقون بذلك(1/338)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
{فَإِذا ركبُوا فِي الْفلك} فى السَّفِينَة يعْنى كفار مَكَّة {دَعَوُاْ الله} بالنجاة {مُخْلِصِينَ لَهُ الدّين} مفردين لَهُ الدعْوَة {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} من الْبَحْر {إِلَى الْبر} إِلَى الْقَرار {إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} بِاللَّه الْأَوْثَان(1/338)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
{لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} حَتَّى يكفروا بِمَا أعطيناهم من النَّعيم {وَلِيَتَمَتَّعُواْ} يعيشوا فِي كفرهم {فَسَوْفَ يَعلَمُونَ} مَاذَا يفعل بهم عِنْد نزُول الْعَذَاب بهم(1/338)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} كفار مَكَّة {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} من أَن يهاج فِيهِ {وَيُتَخَطَّفُ النَّاس} يطرد وَيذْهب النَّاس {مِنْ حَوْلِهِمْ} يطردهم وَيذْهب بهم عدوهم فَلَا يدْخل عَلَيْهِم فِي الْحرم {أفبالباطل يُؤمنُونَ} أفبا الشَّيْطَان والأصنام يصدقون {وَبِنِعْمَةِ الله} الَّتِي أَعْطَاهُم فِي الْحرم وبوحدانية الله {يَكْفُرُونَ}(1/338)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أَعْتَى وأجرأ على الله {مِمَّنْ افترى} اختلق {عَلَى الله كَذِباً} فَجعل لَهُ ولدا وشريكاً {أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ} أَو كذب بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {لما جَاءَهُ} حِين جَاءَهُ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقُرْآنِ {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} منزل {لِّلْكَافِرِينَ} لأبي جهل وَأَصْحَابه(1/338)
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
{وَالَّذين جَاهَدُواْ فِينَا} فِي طاعتنا قَالَ ابْن عَبَّاس فِي قَول الله {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أَي من عمل بِمَا علم لنوفقنهم لما لَا يعلمُونَ وَيُقَال لنهدينهم سبلنا لنكرمنهم بالطبع والطوع والحلاوة وَيُقَال لنهدينهم سبلنا لنوفقنهم لطاعتنا {وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} معِين الْمُحْسِنِينَ بالْقَوْل وَالْفِعْل بالتوفيق والعصمة
وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا الرّوم وهى كلهَا مَكِّيَّة آياتها سَبْعُونَ وكلماتها ثَمَانمِائَة وتسع عشرَة وحروفها ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسمِائة وَثَلَاثُونَ
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}(1/338)
الم (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {الم} يَقُول أَنا الله أعلم وَيُقَال قسم أقسم بِهِ(1/338)
غُلِبَتِ الرُّومُ (2)
{غُلِبَتِ الرّوم} قهرت الرّوم وهم أهل الْكتاب غلبهم فَارس وهم الْمَجُوس عَبدة النيرَان(1/338)
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
{فِي أَدْنَى الأَرْض} مِمَّا يَلِي فَارس فَاغْتَمَّ بذلك الْمُؤْمِنُونَ وسر بذلك الْمُشْركُونَ وَقَالُوا نَحن نغلب على أهل الْإِيمَان كَمَا غلب أهل فَارس على الرّوم حَتَّى ذكر الله غلبهم {وَهُم} يَعْنِي أهل الرّوم {مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ} غَلَبَة فَارس عَلَيْهِم {سَيَغْلِبُونَ} على فَارس(1/338)
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
{فِي بِضْعِ سِنِينَ} عِنْد رَأس سبع سِنِين وَكَانَ قد بَايع بذلك أَبُو بكر الصّديق أبي بن خلف الجُمَحِي على عشرَة من الْإِبِل {لله الْأَمر} النُّصْرَة والدولة لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {مِن قَبْلُ} من قبل غَلَبَة فَارس على الرّوم {وَمِن بَعْدُ} من بعد غَلَبَة فَارس على الرّوم وَيُقَال من قبل غَلَبَة الرّوم وَمِن بَعْدُ من بعد غَلَبَة الرّوم على فَارس وَيُقَال لِلَّهِ الْأَمر الْعلم وَالْقُدْرَة والمشيئة مِن قَبْلُ من قبل إبداء الْخلق وَمِن بَعْدُ من بعد فنَاء الْخلق وَيُقَال كَانَ الله آمراً من قبل المأمورين وَمن بعد المأمورين وَكَذَلِكَ كَانَ خَالِقًا من قبل المخلوقين ورازقاً من قبل المرزوقين وخالقاً ورازقاً بعد المخلوقين والمرزوقين وَكَذَلِكَ كَانَ مَالِكًا من قبل المملوكين ومالكاً من بعد المملوكين كَقَوْلِه تَعَالَى {مَالك يَوْم الدّين} قبل يَوْم الدّين {وَيَوْمَئِذٍ} يَوْم غَلَبَة الرّوم على فَارس ونصرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أهل مَكَّة وَكَانَ ذَلِك يَوْم بدر وَيُقَال يَوْم الْحُدَيْبِيَة {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}(1/338)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
{بنصر الله} مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أعدائه وبدولة الرّوم على فَارس {يَنصُرُ من يَشَاء} الله يعْنى مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَهُوَ الْعَزِيز} بالنقمة من أبي جهل وَأَصْحَابه يَوْم بدر {الرَّحِيم} بِالْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه(1/338)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{وعد الله} بالنصرة والدولة لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/338)
{لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ} لنَبيه بالنصرة والدولة {وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاس} أهل مَكَّة {لاَ يَعْلَمُونَ} أَن الله لَا يخلف وعده لنَبيه(1/339)
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
{يَعْلَمُونَ} أهل مَكَّة {ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} من مُعَاملَة الدُّنْيَا من الْكسْب وَالتِّجَارَة وَالشِّرَاء وَالْبيع والحساب من وَاحِد إِلَى ألف وَمَا يَحْتَاجُونَ فِي الشتَاء والصيف {وَهُمْ عَنِ الْآخِرَة} عَن أَمر الْآخِرَة {هُمْ غَافِلُونَ} جاهلون بهَا تاركون لعملها(1/339)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} كفار مَكَّة {فِي أَنفُسِهِمْ} فِيمَا بَينهم {مَّا خَلَقَ الله السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَيْنَهُمَآ} من الْخلق والعجائب {إِلاَّ بِالْحَقِّ} للحق وَالْأَمر وَالنَّهْي لَا للباطل {وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} لوقت مَعْلُوم يقْضِي فِيهِ {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاس} يَعْنِي كفار مَكَّة {بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {لَكَافِرُونَ} لجاحدون(1/339)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
{أولم يَسِيرُوا} يسافروا كفار مَكَّة {فِي الأَرْض فَيَنظُرُواْ} فيتفكروا {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} جَزَاء {الَّذين مِن قَبْلِهِمْ} عَن تكذيبهم الرُّسُل {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} بِالْبدنِ {وَأَثَارُواْ الأَرْض} أَشد لَهَا طلبا وَأبْعد ذَهَابًا فِي السّفر وَالتِّجَارَة وَيُقَال أثاروا الأَرْض حرثوها وقلبوها للزِّرَاعَة وَالْغَرْس أَكثر مِمَّا حرث أهل مَكَّة {وَعَمَرُوهَآ} بقوا فِيهَا {أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أَكثر مِمَّا بَقِي فِيهَا أهل مَكَّة {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والعلامات فَلم يُؤمنُوا بهم فأهلكهم الله تَعَالَى {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} بإهلاكه إيَّاهُم {وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالْكفْر والشرك وَتَكْذيب الرُّسُل(1/339)
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{ثمَّ كَانَ عَاقِبَة} جَزَاء {الَّذين أساؤوا} أشركوا بِاللَّه {السوأى} النَّار فِي الْآخِرَة {أَن كَذَّبُواْ} بِأَن كذبُوا {بآيَات الله} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَكَانُوا بهَا} بآيَات الله {يستهزؤون} يسخرون(1/339)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
{الله يَبْدَأُ الْخلق} من النُّطْفَة {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يَوْم الْقِيَامَة {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تردون فِي الْآخِرَة فيجزيكم بأعمالكم(1/339)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {يُبْلِسُ المجرمون} ييأس الْمُشْركُونَ من كل خير(1/339)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)
{وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ} لعبدة الْأَوْثَان {مِّن شُرَكَآئِهِمْ} من آلِهَتهم {شُفَعَاءُ} أحد يشفع لَهُم من عَذَاب الله {وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ} بآلهتهم بعبادتهم إِيَّاهَا {كَافِرِينَ} جاحدين يَقُولُونَ وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين(1/339)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير(1/339)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
{فَأَما الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ} فِي جنَّة {يُحْبَرُونَ} ينعمون ويكرمون بالتحف(1/339)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
{وَأَمَّا الَّذين كَفَرُواْ} بِاللَّه {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَلِقَآءِ الْآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {فَأُولَئِك فِي الْعَذَاب} فِي النَّار {مُحْضَرُونَ} معذبون(1/339)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)
{فَسُبْحَانَ الله} فصلوا لله {حِينَ تُمْسُونَ} صَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} صَلَاة الْفجْر(1/339)
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
{وَلَهُ الْحَمد فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} الشُّكْر وَالطَّاعَة على أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض {وَعَشِيّاً} وَهِي صَلَاة الْعَصْر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} وَهِي صَلَاة الظّهْر(1/339)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
{يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيِّت} النَّسمَة وَالدَّوَاب من النُّطْفَة وَالطير من الْبَيْضَة وَالنَّخْل من النواة {وَيُخْرِجُ الْمَيِّت مِنَ الْحَيّ} النُّطْفَة من النَّسمَة وَالدَّوَاب وَالْبيض من الطير والنواة من النّخل {وَيُحْيِي الأَرْض بَعْدَ مَوْتِهَا} بعد قحطها ويبوستها {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} يَقُول هَكَذَا تحيون وتخرجون من الْقُبُور(1/339)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
{وَمِنْ آيَاتِهِ} من عَلَامَات وحدانيته وَقدرته ونبوة رَسُوله {أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ}(1/339)
من آدم وآدَم من تُرَاب وَأَنْتُم أَوْلَاده {ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ} نسم {تَنتَشِرُونَ} تتمتعون على وَجه الأَرْض(1/340)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
{وَمن آيَاته} من عَلَامَات وحدانيته وَقدرته {أَن خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} آدَمِيًّا مثلكُمْ {لتسكنوا إِلَيْهَا} ليسكن الرجل إِلَى زَوجته {وَجَعَلَ بَيْنَكُم} بَين الْمَرْأَة وَالزَّوْج {مَّوَدَّةً} محبَّة للْمَرْأَة على الزَّوْج {وَرَحْمَة} الرجل على الْمَرْأَة أَي على زَوجته وَيُقَال مَوَدَّة للصَّغِير على الْكَبِير وَرَحْمَة الْكَبِير على الصَّغِير {إِن فِي ذَلِك} فِيمَا ذكرت {لآيَات} لعلامات وعبراً {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فِيمَا خلق الله(1/340)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
{وَمِنْ آيَاتِهِ} من عَلَامَات وحدانيته وَقدرته {خَلْقُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَاخْتِلَاف أَلْسِنَتِكُمْ} لغاتكم الْعَرَبيَّة والفارسية وَغير ذَلِك {وَأَلْوَانِكُمْ} وَاخْتِلَاف ألوان صوركُمْ الْأَحْمَر وَالْأسود وَغير ذَلِك {إِنَّ فِي ذَلِك} فِيمَا ذكرت من الِاخْتِلَاف (لآيَاتٍ) لعلامات {لِّلْعَالَمِينَ} الْجِنّ وَالْإِنْس(1/340)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
{وَمن آيَاته} من عَلَامَات وحدانية وَقدرته {مَنَامُكُم} بيتوتتكم {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ} من رزقه بِالنَّهَارِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} فِيمَا ذكرت من اللَّيْل وَالنَّهَار (لآيَاتٍ) لعلامات وعبراً {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} ويطيعون(1/340)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
{وَمن آيَاته} من عَلَامَات وحدانية وَقدرته {يُرِيكُمُ الْبَرْق} من السَّمَاء {خَوْفاً} للْمُسَافِر من الْمَطَر أَن يبل ثِيَابه {وَطَمَعاً} للمقيم فِي الْمَطَر أَن يسْقِي حروثه {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مَآءً} مَطَرا {فَيُحْيِي بِهِ} بالمطر {الأَرْض بَعْدَ مَوْتِهَا} بعد قحطها ويبوستها {إِنَّ فِي ذَلِكَ} فِيمَا ذكرت من الْمَطَر {لآيَاتٍ} لعلامات وعبراً {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يصدقون أَنه من الله(1/340)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
{وَمن آيَاته} من عَلَامَات وحدانيته وَقدرته {أَن تَقُومَ السمآء} أَن تكون السَّمَاء {وَالْأَرْض بِأَمْرِهِ} بِإِذْنِهِ {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ} يَعْنِي الله يَوْم الْقِيَامَة على لِسَان إسْرَافيل {دَعْوَةً مِّنَ الأَرْض} من الْقُبُور {إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} من الْقُبُور(1/340)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
{وَلَهُ} عبيد {مَن فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مطيعون غير الْكفَّار(1/340)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخلق} من النُّطْفَة {ثُمَّ يُعِيدُهُ} يحييه يَوْم الْقِيَامَة (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) هَين عَلَيْهِ إِعَادَته كإبدائه {وَلَهُ الْمثل الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} يَقُول لَهُ الصّفة الْعليا بِالْقُدْرَةِ على أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض {وَهُوَ الْعَزِيز} فِي ملكه وسلطانه {الْحَكِيم} فِي أمره وقضائه(1/340)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
{ضَرَبَ لَكُمْ} بيّن لكم يَا معشر الْكفَّار {مَّثَلاً} شبها {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} آدَمِيًّا مثلكُمْ {هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} من عبيدكم وَإِمَائِكُمْ {مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} أعطيناكم من المَال والأهل وَالْولد {فَأَنتُمْ} وعبيدكم وَإِمَائِكُمْ {فِيهِ} فِيمَا رزقناكم {سَوَآءٌ} شرك {تَخَافُونَهُمْ} تخافون لائمتهم {كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} كلائمة آبائكم وأبنائكم وَإِخْوَانكُمْ إِذا لم تُؤَدُّوا حُقُوقهم فِي الْمِيرَاث قَالُوا لَا قَالَ أفترضون لي مَا لَا ترْضونَ لأنفسكم تشركون عَبِيدِي فِي ملكي وَلَا تشركون عبيدكم فِيمَا رزقناكم {كَذَلِكَ} هَكَذَا {نُفَصِّلُ الْآيَات} نبيّن عَلَامَات وحدانيتي وقدرتي {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يصدقون بأمثال الْقُرْآن(1/340)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
{بَلِ اتبع الَّذين ظلمُوا} كفرُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ {أَهْوَآءَهُمْ} أَي مَا هم عَلَيْهِ من الْيَهُودِيَّة والنصرانية والشرك {بِغَيْر علم} وَلَا حجَّة {فَمَن يَهْدِي} فَمن يرشد إِلَى دين الله {مَنْ أَضَلَّ الله} عَن دينه {وَمَا لَهُمْ} للْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكين(1/340)
{مِّن نَّاصِرِينَ} من مانعين من عَذَاب الله(1/341)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} نَفسك وعملك {لِلدِّينِ حَنِيفاً} مُسلما يَقُول أخْلص دينك وعملك لله واستقم على دين الْإِسْلَام {فطْرَة الله} دين الله {الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا} الَّتِي خلق النَّاس عَلَيْهَا فِي بطُون أمهاتهم وَيُقَال اتبع يَوْم الْمِيثَاق {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} لَا تَبْدِيل لدين الله {ذَلِكَ} هُوَ {الدّين الْقيم} الْحق الْمُسْتَقيم {وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاس} أهل مَكَّة {لاَ يَعْلَمُونَ} أَن دين الْحق هُوَ الْإِسْلَام(1/341)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} كونُوا مُؤمنين أَي مُقْبِلين إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ {واتقوه} وأطيعوه فِيمَا أَمركُم {وَأَقِيمُواْ الصَّلَاة} أَتموا الصَّلَوَات الْخمس {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْركين} مَعَ الْمُشْركين على دينهم(1/341)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
{مِنَ الَّذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} تركُوا دين الْإِسْلَام {وَكَانُواْ شِيَعاً} صَارُوا فرقا الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَسَائِر أهل الْملَل {كُلُّ حِزْبٍ} كل أهل دين {بِمَا لَدَيْهِمْ} بِمَا عِنْدهم من الدّين {فَرِحُونَ} معجبون يرَوْنَ أَنه حق(1/341)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
{وَإِذَا مَسَّ} أصَاب {النَّاس} كفار مَكَّة {ضُرٌّ} شدَّة {دَعَوْاْ رَبَّهُمْ} بِرَفْع الشدَّة {مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} مُقْبِلين بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ {ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ} أَصَابَهُم {مِّنْهُ} من الله {رَحْمَةً} نعْمَة {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} يَعْنِي الْكفَّار {بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} يعدلُونَ بِهِ الْأَصْنَام(1/341)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
{لِيَكْفُرُواْ} حَتَّى يكفروا {بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} أعطيناهم من النِّعْمَة {فَتَمَتَّعُواْ} فعيشوا يَا أهل مَكَّة فِي الدُّنْيَا {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} مَاذَا يفعل بكم فِي الْآخِرَة(1/341)
أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
{أَمْ أَنزَلْنَا} هَل أنزلنَا {عَلَيْهِمْ} على أهل مَكَّة {سُلْطَاناً} كتابا فِيهِ الْعذر والبرهان من السَّمَاء {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} يشْهد وينطق {بِمَا كَانُواْ بِهِ} بِاللَّه {يُشْرِكُونَ} يعدلُونَ أَن الله أَمرهم بذلك(1/341)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
{وَإِذا أذقنا النَّاس} أصبْنَا كفار مَكَّة {برحمة} نعْمَة {فَرِحُواْ بِهَا} أَي أعجبوا بهَا غير شاكرين بهَا {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} شدَّة ضيق وقحط وَمرض {بِمَا قَدَّمَتْ} بِمَا عملت {أَيْدِيهِمْ} فِي الشّرك {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} ييأسون من رَحْمَة الله غير صابرين بهَا(1/341)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} يخبروا فِي الْكتاب كفار مَكَّة {أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق} يُوسع المَال {لِمَن يَشَآءُ} على من يَشَاء وَهُوَ مكر مِنْهُ {وَيقدر} يقتر على من يَشَاء وَهُوَ نظر مِنْهُ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} فِيمَا ذكرت من الْبسط وَالتَّقْدِير {لآيَاتٍ} لعلامات وعبراً {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن(1/341)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى} فأعط يَا مُحَمَّد ذَا الْقُرْبَى فِي الرَّحِم {حَقَّهُ} صلته {والمسكين} أعْط الْمِسْكِين الْكسْوَة وَالطَّعَام {وَابْن السَّبِيل} أكْرم الضَّيْف النَّازِل بك ثَلَاثَة أَيَّام فَمَا فَوق ذَلِك فَهُوَ صَدَقَة مَعْرُوف {ذَلِكَ الَّذِي} ذكرت من الصِّلَة والعطية وَالْإِكْرَام {خَيْرٌ} ثَوَاب وكرامة فِي الْآخِرَة {للَّذين يُرِيدُونَ وَجه الله} بعطيتهم {أُولَئِكَ هُمُ المفلحون} الناجون من السخط وَالْعَذَاب(1/341)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
{وَمَآ آتَيْتُمْ} أعطيتم {مِّن رِّباً} من عَطِيَّة {لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاس} لتكثروا أَمْوَالكُم بأموال النَّاس يَقُول ليعطوا أَكثر وَأفضل مِمَّا تعطون {فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله} فَلَا يكثر عِنْد الله بالتضعيف وَلَا يقبلهَا فَإِنَّهَا لَيست لله {وَمَآ آتَيْتُمْ} أعطيتم {مِّن زَكَاةٍ} من صَدَقَة إِلَى الْمَسَاكِين {تُرِيدُونَ} بذلك {وَجْهَ الله فَأُولَئِك هُمُ المضعفون} فَأُولَئِك هم الَّذين أَضْعَف صَدَقَاتهمْ فِي الْآخِرَة وَأَكْثَرت أَمْوَالهم فِي الدُّنْيَا بِالْحِفْظِ وَالْبركَة(1/341)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
{الله الَّذِي خَلَقَكُمْ} نسماً فِي بطُون أُمَّهَاتكُم ثمَّ أخرجكم وَفِيكُمْ الرّوح {ثُمَّ رَزَقَكُمْ} الطَّيِّبَات الرزق إِلَى الْمَوْت {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عِنْد انْقِضَاء مدتكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للبعث بعد الْمَوْت {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ} من آلِهَتكُم يَا أهل مَكَّة {مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ} من يقدر أَن يفعل من ذَلِك شَيْئا(1/341)
سُبْحَانَهُ) نزه نَفسه عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {وَتَعَالَى} ارْتَفع وتبرأ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} بِهِ من الْأَوْثَان(1/342)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
{ظَهَرَ الْفساد} تبينت الْمعْصِيَة {فِي الْبر} من قتل قابيل أَخَاهُ هابيل {وَالْبَحْر} من جلندن الْأَزْدِيّ {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاس} بقتل قابيل هابيل وبغصب جلندن سفن النَّاس فِي الْبَحْر وَيُقَال ظهر الْفساد بِمَوْت الْبَهَائِم والقحط والجدوبة وَنقص الثمرات والنبات فِي الْبر فِي السهل والجبل والبادية والمفازة وَالْبَحْر فِي الرِّيف والقرى والعمران بِمَا كسبت أَيدي النَّاس بِمَعْصِيَة النَّاس {لِيُذِيقَهُمْ} لكَي يصيبهم {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ} من الْمعاصِي {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لكَي يرجِعوا عَن ذنوبهم فَيكْشف عَنْهُم(1/342)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {سِيرُواْ} سافروا {فِي الأَرْض فانظروا} تَفَكَّرُوا {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} جَزَاء {الَّذين مِن قَبْلُ} من قبلهم كَيفَ أهلكهم الله عِنْد تكذيبهم الرُّسُل {كَانَ أَكْثَرُهُمْ} كلهم {مُّشْرِكِينَ} بِاللَّه(1/342)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} نَفسك وعملك {لِلدِّينَ الْقيم} يَقُول أخْلص دينك وعملك لله وَكن على دين الْحق الْمُسْتَقيم {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {لاَّ مَرَدَّ لَهُ} لَا مَانع لَهُ {مِنَ الله} من عَذَاب الله {يَوْمَئِذٍ} يَوْم الْقِيَامَة {يَصَّدَّعُونَ} يفرقون فريق فِي الْجنَّة وفريق فِي السعير(1/342)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)
{مَن كَفَرَ} بِاللَّه {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} عُقُوبَة كفره خُلُود النَّار {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً} فِي الْإِيمَان {فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} يفرشون ويجمعون الثَّوَاب والكرامة فِي الْجنَّة(1/342)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
{ليجزي الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {مِن فَضْلِهِ} من ثَوَابه وكرامته فِي الْجنَّة {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافرين} لَا يرضى دينهم(1/342)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
{وَمن آيَاته} من عَلَامَات وحدانيته وَقدرته {أَن يُرْسِلَ الرِّيَاح مُبَشِّرَاتٍ} لخلقه بالمطر {وَلِيُذِيقَكُمْ} لكَي يُصِيبكُم {مِّن رَّحْمَتِهِ} نعْمَته (وَلِتَجْرِيَ الْفلك) السفن (بِأَمْرِهِ) بمشيئته فِي الْبَحْر {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} لكَي تَطْلُبُوا لركوبكم السفن من فَضله من رزقه {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكَي تشكروا نعْمَته(1/342)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} بعثنَا {مِن قَبْلِكَ} يَا مُحَمَّد {رسلًا إِلَى قَومهمْ فجاؤوهم بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والعلامات فَلم يُؤمنُوا {فانتقمنا} بِالْعَذَابِ {مِنَ الَّذين أَجْرَمُواْ} أشركوا {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا} وَاجِبا علينا {نَصْرُ الْمُؤمنِينَ} مَعَ الرُّسُل بنجاتهم وهلاك أعدائهم(1/342)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)
{الله الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاح فَتُثِيرُ سَحَاباً} ثقالاً بالمطر {فَيَبْسُطُهُ فِي السمآء كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} قطعا إِن شَاءَ {فَتَرَى الودق} يَعْنِي الْمَطَر {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} من خلال السَّحَاب {فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ} بالمطر {مَن يَشَآءُ} من يُرِيد {مِنْ عِبَادِهِ} فِي الأَرْض {إِذَا هُمْ يستبشرون} بالمطر(1/342)
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
{وَإِن كَانُواْ} وَقد كَانُوا {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ} من قبل الْمَطَر {لَمُبْلِسِينَ} آيسين من الْمَطَر(1/342)
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
{فَانْظُر} يَا مُحَمَّد {إِلَى آثَار رَحْمَة الله} قُدَّام الْمَطَر وَبعد الْمَطَر {كَيْفَ يُحْيِيِ الأَرْض بعد مَوتهَا} بعد قحطها ويبوستها {إِن ذَلِكَ} الَّذِي يحيي الأَرْض بعد مَوتهَا {لَمُحْييِ الْمَوْتَى}(1/342)
للبعث {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ} من الْحَيَاة وَالْمَوْت والبعث لِلْخلقِ {قَدِيرٌ}(1/343)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً} حارة أَو بَارِدَة على الزَّرْع {فَرَأَوْهُ} الزَّرْع {مُصْفَرّاً} متغيراً بعد خضرته {لَّظَلُّواْ} لصاروا {مِن بَعْدِهِ} من بعد صفرته {يَكْفُرُونَ} بِاللَّه وبنعمته يَقُول يُقِيمُونَ على الْكفْر بِاللَّه وبنعمته(1/343)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
{فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى} لَا تفقه الْمَوْتَى مِمَّن كَأَنَّهُ ميت {وَلاَ تُسْمِعُ الصم} المتصامم {الدعآء} دعوتك إِلَى الْحق وَالْهدى {إِذَا وَلَّوْاْ} أَعرضُوا {مُدْبِرِينَ} عَن الْحق وَالْهدى(1/343)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
{وَمَا أَنْت بِهَادِي الْعمي عَن ضَلالَتِهِمْ} إِلَى الْهدى {إِن تُسْمِعُ} مَا تسمع دعوتك {إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} بكتابنا ورسولنا {فَهُمْ مُّسْلِمُونَ} مخلصون لَهُ بِالْعبَادَة والتوحيد(1/343)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
{الله الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ} من نُطْفَة ضَعِيفَة {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ} رجلا شَابًّا قَوِيا {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً} هرماً {وَشَيْبَةً} شُمْطًا بعد شباب {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} يحول خلقه كَمَا يَشَاء من حَال إِلَى حَال {وَهُوَ الْعَلِيم} بخلقه {الْقَدِير} عَلَيْهِم بتحويله(1/343)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {يُقْسِمُ المجرمون} يحلف الْمُشْركُونَ بِاللَّه {مَا لَبِثُواْ} فِي الْقُبُور {غَيْرَ سَاعَةٍ} غير قدر سَاعَة {كَذَلِكَ} كَمَا كَانُوا يكذبُون فِي الْآخِرَة {كَانُواْ يُؤْفَكُونَ} يكذبُون فِي الدُّنْيَا(1/343)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
{وَقَالَ الَّذين أُوتُواْ الْعلم وَالْإِيمَان} أكْرمُوا بِالْعلمِ وَالْإِيمَان {لَقَدْ لَبِثْتُمْ} فِي الْقُبُور {فِي كِتَابِ الله} بِكِتَاب الله وهم الْمَلَائِكَة وَيُقَال وهم النَّبِيُّونَ وَيُقَال هم المخلصون فِي إِيمَانهم يَقُولُونَ للْكفَّار {إِلَى يَوْمِ الْبَعْث} إِلَى يَوْم يبعثون من الْقُبُور {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْث} يَوْم الْقِيَامَة {وَلَكِنَّكُمْ كُنتمْ} فِي الدُّنْيَا {لاَ تَعْلَمُونَ} ذَلِك وَلَا تصدقُونَ(1/343)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
{فَيَوْمَئِذٍ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {لاَّ ينفَعُ الَّذين ظَلَمُواْ} أشركوا {مَعْذِرَتُهُمْ} اعتذارهم من ذَنْب {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} وَلَا هم يرجعُونَ عَن سَيِّئَة وَلَا هم يردون إِلَى الدُّنْيَا(1/343)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا} بيّنا {لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} من كل وَجه {وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} من السَّمَاء كَمَا طلبُوا {لَّيَقُولَنَّ الَّذين كفرُوا} كفار مَكَّة {إِنْ أَنتُمْ} مَا أَنْتُم يَا معشر الْمُؤمنِينَ {إِلاَّ مُبْطِلُونَ} كاذبون(1/343)
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)
{كَذَلِك} هَكَذَا {يطبع الله} يخْتم الله {على قُلُوبِ الَّذين لاَ يَعْلَمُونَ} تَوْحِيد الله وَلَا يصدقون بِهِ(1/343)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
{فاصبر} يَا مُحَمَّد {إِنَّ وَعْدَ الله} بالنصرة والدولة لَك وبهلاكهم {حَقٌّ} كَائِن صدق {وَلاَ يستخفنك} لَا يستنزلنك عَن الْإِيمَان يَوْم الْقِيَامَة {الَّذين لاَ يُوقِنُونَ} لَا يصدقون وهم أهل مَكَّة(1/343)
وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا لُقْمَان وهى كلهَا مَكِّيَّة آياتها أَربع وَثَلَاثُونَ وكلماتها سَبْعمِائة وثمان وَأَرْبَعُونَ وحروفها أَلفَانِ وَمِائَة وَعشرَة أحرف
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}(1/344)
الم (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {الم} يَقُول أَنا الله أعلم وَيُقَال قسم أقسم بِهِ(1/344)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)
{تِلْكَ آيَات الْكتاب الْحَكِيم} إِن هَذِه السُّورَة آيَات الْقُرْآن الْمُبين للْحَلَال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي(1/344)
هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)
{هُدىً} من الضَّلَالَة {وَرَحْمَةً} من الْعَذَاب {لِّلْمُحْسِنِينَ} المخلصين الْمُوَحِّدين(1/344)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
{الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة} يتمون الصَّلَوَات الْخمس بوضوئها وركوعها وسجودها وَمَا يجب فِيهَا فِي مواقيتها {وَيُؤْتونَ الزَّكَاة} يُعْطون زَكَاة أَمْوَالهم {وهم بِالآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {هُمْ يُوقِنُونَ} يصدقون(1/344)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
{أُولَئِكَ على هُدىً} على بَيَان وكرامة {مِّن رَبهم وَأُولَئِكَ هم المفلحون} الناجون من السخط وَالْعَذَاب(1/344)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
{وَمن النَّاس} وَهُوَ النَّضر ابْن الْحَارِث {مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيث} أباطيل الحَدِيث وَكتب الأساطير وَالشَّمْس والنجوم والحساب والغناء وَيُقَال هُوَ الشّرك بِاللَّه {لِيُضِلَّ} بذلك {عَن سَبِيلِ الله} عَن دين الله وطاعته {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بِلَا علم وَلَا حجَّة {وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} سخرية {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} شَدِيد(1/344)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
{وَإِذَا تتلى} تقْرَأ {عَلَيْهِ آيَاتُنَا} بِالْأَمر وَالنَّهْي {ولى مستكبرا} رَجَعَ متعظا عَن الْإِيمَان بهَا {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} لم يعها {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً} صمماً {فَبَشِّرْهُ} يَا مُحَمَّد {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وجيع يَوْم بدر فَقتل يَوْم بدر صبرا(1/344)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)
{إِن الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعيم} لَا يفنى نعيمها(1/344)
خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
{خَالِدِينَ فِيهَا} مقيمين فِيهَا لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا {وَعْدَ الله} الْمُؤمنِينَ بِالْجنَّةِ {حَقّاً} صدقا {وَهُوَ الْعَزِيز} فِي ملكه وسلطانه {الْحَكِيم} فِي أمره وقضائه(1/344)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
{خَلَقَ} الله {السَّمَاوَات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} بِلَا عمد وَيُقَال بعمد لَا ترونها {وَألقى فِي الأَرْض} خلق للْأَرْض {رَوَاسِيَ} الْجبَال الثوابت أوتاداً لَهَا {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} لكَي لَا تميد بكم {وَبَثَّ فِيهَا} خلق وَبسط فِي الأَرْض {مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} فِيهَا الرّوح {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً} مَطَرا {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا} الأَرْض {مِن كُلِّ زَوْجٍ} لون {كَرِيمٍ} حسن(1/344)
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
{هَذَا خلق الله} هَذَا مَخْلُوق أَنا خلقته {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذين مِن دُونِهِ} من دون الله يَعْنِي الْأَوْثَان {بَلِ الظَّالِمُونَ} الْمُشْركُونَ {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} فِي خطأ بَين(1/344)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا} أعطينا {لُقْمَانَ الْحِكْمَة} الْعلم والفهم وإصابة القَوْل وَالْفِعْل {أَنِ اشكر لِلَّهِ} بِالتَّوْحِيدِ وَالطَّاعَة {وَمَن يَشْكُرْ} نعْمَته بِالتَّوْحِيدِ وَالطَّاعَة {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ} بِالتَّوْحِيدِ وَالطَّاعَة {لِنَفْسِهِ} الثَّوَاب {وَمَن كَفَرَ} نعْمَته {فَإِنَّ الله غَنِيٌّ} عَن شكره {حَمِيدٌ} فى أَفعاله(1/344)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ} سَلام {وَهُوَ يَعِظُهُ} ينهاه عَن الشَّرّ ويأمره بِالْخَيرِ {يَا بني لاَ تُشْرِكْ بِاللَّه إِنَّ الشّرك} بِاللَّه {لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لذنب عَظِيم عُقُوبَته عِنْد الله(1/344)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
{وَوَصينَا الْإِنْسَان}(1/344)
سعد بن وَقاص {بِوَالِدَيْهِ} برا بهما {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} فِي بَطنهَا {وَهْناً على وَهْنٍ} ضعفا على ضعف وَشدَّة على شدَّة ومشقة على مشقة كلما كبر الْوَلَد فِي بَطنهَا كَانَ أَشد عَلَيْهَا {وَفِصَالُهُ} فطامه {فِي عَامَيْنِ} فِي سنتَيْن {أَنِ اشكر لِي} بِالتَّوْحِيدِ وَالطَّاعَة {وَلِوَالِدَيْكَ} بالتربية {إِلَيَّ الْمصير} مصيرك ومصير والديك(1/345)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
{وَإِن جَاهَدَاكَ} أمراك وأراداك {على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أَنه شَرِيكي وَلَك بِهِ علم أَنه لَيْسَ بشريكي {فَلاَ تُطِعْهُمَا} فِي الشّرك {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} بِالْبرِّ وَالْإِحْسَان {وَاتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} دين من أقبل إِلَيّ وَإِلَى طَاعَتي وَهُوَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} ومرجع أبويكم {فَأُنَبِّئُكُمْ} أخْبركُم {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر ثمَّ رَجَعَ إِلَى كَلَام لُقْمَان(1/345)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
{يَا بني إِنَّهَآ} يَعْنِي الْحَسَنَة وَيُقَال الرزق {إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} وزن حَبَّة {مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} الَّتِي تَحت الْأَرْضين {أَوْ فِي السَّمَاوَات} أَو فَوق السَّمَوَات {أَوْ فِي الأَرْض} أَو فِي بطن الأَرْض {يَأْتِ بِهَا الله} إِلَى صَاحبهَا حَيْثُمَا يكون {إِنَّ الله لَطِيفٌ} باستخراجها {خَبِير} بمكانها(1/345)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
{يَا بني أَقِمِ الصَّلَاة} أتم الصَّلَاة {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِحْسَان {وانه عَنِ الْمُنكر} عَن الشّرك والقبيح من القَوْل وَالْعَمَل {واصبر على مَآ أَصَابَكَ} فيهمَا {إِنَّ ذَلِكَ} يَعْنِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَيُقَال الصَّبْر {مِنْ عَزْمِ الْأُمُور} من حزم الْأُمُور وَخير الْأُمُور(1/345)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
{وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} لَا تعرض وَجهك من النَّاس تكبراً وتعظماً عَلَيْهِم وَيُقَال لَا تحقر فُقَرَاء الْمُسلمين {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْض مَرَحاً} بالتكبر وَالْخُيَلَاء {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} فِي مشيته {فَخُورٍ} بنعم الله(1/345)
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
{واقصد فِي مَشْيِكَ} تواضع فِيهَا {واغضض مِن صَوْتِكَ} واخفض صَوْتك وَلَا تكن سليطاً {إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَات} يَقُول أقبح وأشر الْأَصْوَات {لَصَوْتُ الْحمير}(1/345)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
{أَلَمْ تَرَوْاْ} ألم تخبروا فِي الْقُرْآن {أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ} ذلل لكم {مَّا فِي السَّمَاوَات} من الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم والسحاب والمطر {وَمَا فِي الأَرْض} من الشّجر وَالدَّوَاب {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ} وَأتم عَلَيْكُم {نِعَمَهُ ظَاهِرَةً} بِالتَّوْحِيدِ {وَبَاطِنَةً} بالمعرفة وَيُقَال ظَاهِرَة مَا يعلم النَّاس من حَسَنَاتك وباطنة مَا لَا يعلم النَّاس من سيئاتك وَيُقَال ظَاهِرَة من الطَّعَام وَالشرَاب وَالدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَغير ذَلِك وباطنة من النَّبَات وَالثِّمَار والأمطار والمياه وَغير ذَلِك وَيُقَال ظَاهِرَة مَا أكرمك بهَا وباطنة مَا حفظك عَنْهَا {وَمِنَ النَّاس} وَهُوَ نضر بن الْحَرْث {مَن يُجَادِلُ فِي الله} يُخَاصم فِي دين الله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بِلَا علم {وَلاَ هُدىً} وَلَا حجَّة {وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} مُبين بِمَا يَقُول(1/345)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} لكفار مَكَّة {اتبعُوا مَآ أنزل الله} على نبيه من الْقُرْآن اقرءوه وَاعْمَلُوا بِمَا فِيهِ {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا} من الدّين وَالسّنة {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَان يَدعُوهُم} يدعوا آبَاءَهُم {إِلَى عَذَابِ السعير} إِلَى الْكفْر والشرك وَمَا يجب بِهِ عَذَاب السعير فهم يقتدون بهم(1/345)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله} من يخلص دينه وَعَمله لله {وَهُوَ مُحْسِنٌ} موحد مخلص {فَقَدِ استمسك} فقد أَخذ {بالعروة} بِلَا إِلَه إِلَّا الله {الوثقى} الْوَثِيقَة الَّتِي لَا انفصام لَهَا(1/345)
{وَإِلَى الله عَاقِبَةُ الْأُمُور} ترجع عواقب الْأُمُور فِي الْآخِرَة الَّتِي يموتون عَلَيْهَا(1/346)
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)
{وَمَن كَفَرَ} بِاللَّه من قُرَيْش أَو من غَيرهم {فَلَا يحزنك} يَا مُحَمَّد كفره وهلاكه فِي {كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} بعد الْمَوْت {فَنُنَبِّئُهُم} فنخبرهم {بِمَا عمِلُوا} فِي الدُّنْيَا فِي كفرهم {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} بِمَا فِي الْقُلُوب من الْخَيْر وَالشَّر(1/346)
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
{نُمَتِّعُهُمْ} نعيشهم {قَلِيلاً} يَسِيرا فِي الدُّنْيَا {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} نصيرهم وَيُقَال نلجئهم {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} شَدِيد لوناً بعد لون(1/346)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} يَا مُحَمَّد {مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض لَيَقُولُنَّ} كفار مَكَّة خلقهما {الله قُلِ الْحَمد لِلَّهِ} الشُّكْر لله فاشكروه {بَلْ أَكْثَرُهُمْ} كلهم {لاَ يَعْلَمُونَ} تَوْحِيد الله وَلَا يشكرون نعمه(1/346)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات} من الْخلق {وَالْأَرْض إِنَّ الله هُوَ الْغَنِيّ} عَن خلقه {الحميد} الْمَحْمُود فِي فعاله(1/346)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} تبرى أقلاماً {وَالْبَحْر يَمُدُّهُ} يُعْطِيهِ المدد {مِن بَعْدِهِ} من بعد مَا صيرت {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} مداداً فَكتب بهَا كَلَام الله وَعلم الله {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} كَلَام الله وَعلم الله يُقَال تَدْبِير الله {إِنَّ الله عَزِيزٌ} فِي ملكه وسلطانه {حَكِيمٌ} فِي أمره وقضائه(1/346)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
{مَّا خَلْقُكُمْ} على الله إِذْ خَلقكُم {وَلاَ بَعْثُكُمْ} إِذْ يبعثكم {إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إِلَّا بِمَنْزِلَة نفس وَاحِدَة {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لمقالتكم كَيفَ يبعثنا {بَصِيرٌ} ببعثكم(1/346)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر فِي الْقُرْآن {أَنَّ الله يُولِجُ اللَّيْل فِي النَّهَار} يزِيد اللَّيْل على النَّهَار فَيكون اللَّيْل خمس عشرَة سَاعَة وَالنَّهَار تسع سَاعَات {وَيُولِجُ النَّهَار فِي اللَّيْل} يزِيد النَّهَار على اللَّيْل فَيكون النَّهَار خمس عشرَة سَاعَة وَاللَّيْل تسع سَاعَات {وَسَخَّرَ الشَّمْس} ذلل الشَّمْس {وَالْقَمَر كُلٌّ يجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إِلَى وَقت مَعْلُوم فِي منَازِل مَعْرُوفَة لَهما {وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر {خَبِير}(1/346)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
{ذَلِكَ} الْقُدْرَة لِتَعْلَمُوا وتقروا {بِأَنَّ الله هُوَ الْحق} بِأَن عِبَادَته هُوَ الْحق {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ} يعْبدُونَ {مِن دُونِهِ} من دون الله {الْبَاطِل} هُوَ الْبَاطِل {وَأَنَّ الله هُوَ الْعلي} أَعلَى كل شَيْء {الْكَبِير} أكبر كل شَيْء(1/346)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر {أَنَّ الْفلك} السفن {تَجْرِي فِي الْبَحْر بِنِعْمَةِ الله} بمنة الله {لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ} من عجائبه {إِنَّ فِي ذَلِكَ} فِيمَا ذكرت {لآيَاتٍ} لعلامات وعبرات {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} على الطَّاعَة {شَكُورٍ} بنعم الله(1/346)
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
{وَإِذَا غَشِيَهُمْ} ركبهمْ {مَّوْجٌ} غمر {كالظلل} فِي الِارْتفَاع كالسحاب فَوْقهم {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدّين} مفردين لَهُ بالدعوة {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} من الْبَحْر {إِلَى الْبر} إِلَى الْقَرار {فَمِنْهُمْ} من الْكفَّار {مُّقْتَصِدٌ} بالْقَوْل وَالْفِعْل فَيكون أَلين مِمَّا كَانَ قبل ذَلِك {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ} غدار {كَفُورٍ} كَافِر بِاللَّه وبنعمته(1/346)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
{يَا أَيهَا النَّاس} يَا أهل مَكَّة {اتَّقوا رَبَّكُمْ} أطِيعُوا ربكُم {واخشوا يَوْماً} عَذَاب يَوْم(1/346)
{لاَّ يَجْزِي} لَا يُغني {وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ} مغن {عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} عَذَاب الله {إِنَّ وَعْدَ الله} الْبَعْث بعد الْمَوْت {حَقٌّ} كَائِن صدق {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاة الدنيآ} مَا فِي الدُّنْيَا من الزهرة وَالنَّعِيم {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّه الْغرُور} الشَّيْطَان وَيُقَال الأباطيل إِن قَرَأت بِضَم الْغَيْن(1/347)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
{إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة} علم قيام السَّاعَة وَهُوَ مخزون عَن الْعباد {وَيُنَزِّلُ الْغَيْث} الْمَطَر يعلم نزُول الْغَيْث وَهُوَ مخزون عَن الْعباد {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَام} من الْوَلَد ذكر أَو أُنْثَى تَامّ أَو غَيره شقي أَو سعيد وَهُوَ مخزون عَن الْعباد {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} من الْخَيْر وَالشَّر وَهُوَ مخزون عَن الْعباد {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} بِأَيّ قدم تُؤْخَذ وَهُوَ مخزون عَن الْعباد {إِنَّ الله عَلَيمٌ} بخلقه {خَبِير} بأعمالهم وَبِمَا يصيبهم من النَّفْع والضر {إِن الله عليم} بخلقه {خَبِير} بأعمالهم وَبِمَا يصيبهم من النَّفْع والضر
وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا السَّجْدَة وهى كلهَا مَكِّيَّة آياتها تسع وَعِشْرُونَ وكلماتها ثَلَاثمِائَة وَثَلَاثُونَ كلمة وحروفها ألف وَخَمْسمِائة وَثَمَانِية عشر
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}(1/347)
الم (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {الم} يَقُول أَنا الله أعلم وَيُقَال قسم أقسم بِهِ(1/347)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
{تَنْزِيل الْكتاب} إِن هَذَا الْكتاب تكليم من الله {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لَا شكّ فِيهِ أَنه {مِن رَّبِّ الْعَالمين}(1/347)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
{أَمْ يَقُولُونَ} بل يَقُولُونَ كفار مَكَّة {افتراه} اختلق مُحَمَّد الْقُرْآن من تِلْقَاء نَفسه {بَلْ هُوَ الْحق} يَعْنِي الْقُرْآن {مِن رَّبِّكَ} نزل بِهِ جِبْرِيل عَلَيْك {لِتُنذِرَ} بِهِ لكَي تخوف بِالْقُرْآنِ {قَوْماً} يَعْنِي قُريْشًا {مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ} لم يَأْتهمْ رَسُول مخوف قبلك يَا مُحَمَّد {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} من الضَّلَالَة(1/347)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
{الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَيْنَهُمَا} من الْخلق والعجائب {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} من أَيَّام أول الدُّنْيَا طول كل يَوْم ألف سنة مِمَّا تَعدونَ من سِنِين الدُّنْيَا أول يَوْم مِنْهَا يَوْم الْأَحَد وَآخر يَوْم مِنْهَا يَوْم الْجُمُعَة {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} وَكَانَ الله على الْعَرْش قبل أَن خلقهما {مَا لَكُمْ} يَا أهل مَكَّة {مِّن دُونِهِ} من دون الله {مِن وَلِيٍّ} من قريب ينفعكم {وَلاَ شَفِيعٍ} يشفع لكم من عَذَاب الله {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} تتعظون بِالْقُرْآنِ فتؤمنوا(1/347)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
{يُدَبِّرُ الْأَمر مِنَ السمآء إِلَى الأَرْض} يبْعَث الْمَلَائِكَة بِالْوَحْي والتنزيل والمصيبة {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} يصعد إِلَيْهِ يَعْنِي الْمَلَائِكَة {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ} مِقْدَار صُعُوده على غير الْمَلَائِكَة {أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} من سِنِين الدُّنْيَا(1/347)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
{ذَلِك} الْمُدبر {عَالِمُ الْغَيْب} مَا غَابَ عَن الْعباد وَمَا يكون {وَالشَّهَادَة} مَا علمه الْعباد وَمَا كَانَ {الْعَزِيز} بالنقمة من الْكفَّار {الرَّحِيم} بِالْمُؤْمِنِينَ(1/347)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} أحكم كل شَيْء خلقه {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَان} يَعْنِي آدم {مِن طِينٍ} أَخذ من أَدِيم الأَرْض(1/347)
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} ذُريَّته {مِن سُلاَلَةٍ} نُطْفَة(1/347)
{مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} من نُطْفَة ضَعِيفَة من مَاء الرجل وَالْمَرْأَة(1/348)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
{ثُمَّ سَوَّاهُ} جمع خلقه فِي بطن أمه {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} جعل الرّوح فِيهِ {وَجَعَلَ لَكُمُ السّمع} خلق لكم السّمع لكَي تسمعوا بِهِ الْحق وَالْهدى {والأبصار} لكَي تبصروا بهَا الْحق وَالْهدى {والأفئدة} يَعْنِي الْقُلُوب لكَي تفقهوا بهَا الْحق وَالْهدى {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} شكركم بِمَا صنع إِلَيْكُم قَلِيل(1/348)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
{وَقَالُوا} يعْنى أَبَا جهل وَأَصْحَابه {أئذا ضللنا} هلكنا {فِي الأَرْض} بعد الْمَوْت {أئنا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} تجدّد بعد الْمَوْت هَذَا مَا لايكون {بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {كافرون} جاحدون(1/348)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {يَتَوَفَّاكُم} يقبض أرواحكم {مَّلَكُ الْمَوْت الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} بِقَبض أرواحكم {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} فِي الْآخِرَة(1/348)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
{وَلَو ترى إِذْ المجرمون} الْمُشْركُونَ {ناكسو رؤوسهم} مطأطئو رُءُوسهم {عِندَ رَبِّهِمْ} يَوْم الْقِيَامَة {رَبَّنَآ} يَقُولُونَ يَا رَبنَا {أبصرنا} علمنَا مالم نعلم {وَسَمِعْنَا} أيقنا بِمَا لم نَكُنْ بِهِ موقنين {فارجعنا} حَتَّى نؤمن بك {نَعْمَلْ صَالِحاً} خَالِصا {إِنَّا مُوقِنُونَ} مقرون بك وبكتابك وَرَسُولك وبالبعث بعد الْمَوْت(1/348)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
{وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا} لأعطينا {كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} تقواها {وَلَكِن حَقَّ القَوْل} وَجب القَوْل {مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجنَّة وَالنَّاس} من كفار الْجِنّ وَالْإِنْس {أَجْمَعِينَ} لَوْلَا ذَلِك لأكرمت كل نفس بالمعرفة والتوحيد(1/348)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
{فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ} تركْتُم الْإِقْرَار وَالْعَمَل {لِقَآءَ يومكم} بلقاء يومكم {هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} تركناكم فِي النَّار {وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخلد} الدَّائِم {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فِي الْكفْر(1/348)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
{إِنَّمَا يُؤمن} يصدق {بِآيَاتِنَا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {الَّذين إِذَا ذُكِّرُواْ} دعوا {بِهَا} إِلَى الصَّلَوَات الْخمس بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَة {خَرُّواْ سُجَّداً} أَتَوا تواضعاً {وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} صلوا بِأَمْر رَبهم {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} لَا يتعظمون عَن الْإِيمَان بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن والصلوات الْخمس فِي الْجَمَاعَة
نزلت هَذِه الْآيَة فِي شَأْن الْمُنَافِقين وَكَانُوا لَا يأْتونَ الصَّلَاة إِلَّا كسَالَى متثاقلين(1/348)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ} تتقلب جنُوبهم {عَنِ الْمضَاجِع} عَن الْفراش بعد النّوم بِاللَّيْلِ لصَلَاة التَّطَوُّع {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} يعْبدُونَ رَبهم بالصلوات الْخمس وَيُقَال ترفع جنُوبهم من الْفراش حَتَّى يصلوا صَلَاة الْعشَاء الْأَخِيرَة وَيُقَال ترفع جنُوبهم عَن الْفراش بعد النّوم بِاللَّيْلِ لصَلَاة التَّطَوُّع {خَوْفاً} مِنْهُ وَمن عَذَابه {وَطَمَعاً} إِلَيْهِ وَإِلَى رَحمته {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أعطيناهم من المَال {يُنفِقُونَ} يتصدقون بِهِ(1/348)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ} فَلَيْسَ تعلم أنفسهم {مَّآ أُخْفِيَ لَهُم} مَا أعد لَهُم وَمَا رفع لَهُم وَمَا ذخر لَهُم {مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} من طيبَة النَّفس وَالثَّوَاب والكرامة فِي الْجنَّة {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فِي الدُّنْيَا من الْخيرَات(1/348)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً} مُصدقا فِي إيمَانه وَهُوَ عَليّ بن أبي طَالب {كَمَن كَانَ فَاسِقاً} منافقاً فِي إيمَانه وَهُوَ الْوَلِيد بن عقبَة بن أبي معيط {لاَّ يَسْتَوُونَ} فِي الدُّنْيَا بِالطَّاعَةِ وفى الْآخِرَة بِالصَّوَابِ والكرامة عِنْد الله وَكَانَ بَينهمَا كَلَام وتنازع حَتَّى قَالَ على بن أَبى طَالب رضى الله عَنهُ يَا فَاسق(1/348)
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)
ثمَّ بيَّن مستقرهما بعد الْمَوْت فَقَالَ {أَمَّا الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الْخيرَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى نُزُلاً} منزلا ثَوابًا لَهُم فِي الْآخِرَة {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فِي الدُّنْيَا من الْخيرَات(1/348)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
{وَأَمَّا الَّذين فَسَقُواْ}(1/348)
نافقوا فِي إِيمَانهم {فَمَأْوَاهُمُ} فمصيرهم {النَّار كُلَّمَآ أَرَادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ} من النَّار {أُعِيدُواْ} ردوا {فِيهَا} فِي النَّار بمقامع الْحَدِيد {وَقِيلَ لَهُمْ} قَالَت لَهُم الزَّبَانِيَة {ذُوقُواْ عَذَابَ النَّار الَّذِي كُنْتُم بِهِ} فِي الدُّنْيَا {تكذبون} أَنه لَا يكون(1/349)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ} لنصيبنهم يَعْنِي كفار مَكَّة {مِّنَ الْعَذَاب الْأَدْنَى} من عَذَاب الدُّنْيَا بِالْقَحْطِ والجدوبة والجوع وَالْقَتْل وَغير ذَلِك وَيُقَال عَذَاب الْقَبْر {دُونَ الْعَذَاب الْأَكْبَر} قبل عَذَاب النَّار يخوفهم بذلك {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عَن كفرهم فيتوبوا(1/349)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
{وَمَنْ أَظْلَمُ} لَيْسَ أحد أَعْتَى وأظلم {مِمَّن ذُكِّرَ} وعظ {بِآيَاتِ رَبِّهِ} نزلت فِي الْمُنَافِقين الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالْقُرْآنِ {ثمَّ أعرض عَنْهَا} جاحدابها {إِنَّا من الْمُجْرمين} منالمشركين {منتقمون} بِالْعَذَابِ(1/349)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا} أعطينا {مُوسَى الْكتاب} التَّوْرَاة جملَة وَاحِدَة {فَلَا تكن} يامحمد {فِي مِرْيَةٍ} فِي شكّ {مِّن لِّقَآئِهِ} من لِقَاء مُوسَى لَيْلَة أسرِي بك إِلَى بَيت الْمُقَدّس {وَجَعَلْنَاهُ} يَعْنِي كتاب مُوسَى {هُدىً لبني إِسْرَائِيلَ} من الضَّلَالَة(1/349)
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ} من بني إِسْرَائِيل {أَئِمَّةً} قادة بِالْخَيرِ {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} يدعونَ الْخلق إِلَى أمرنَا {لَمَّا صَبَرُواْ} حِين صَبَرُوا على الْإِيمَان وَالطَّاعَة {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {يُوقِنُونَ} يصدقون فِي كِتَابهمْ(1/349)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
{إِن رَبك} يامحمد {هُوَ يَفْصِلُ} يقْضِي {بَيْنَهُمْ} بَين الْكَافِر وَالْمُؤمن وَيُقَال بَين بني إِسْرَائِيل {يَوْمَ الْقِيَامَة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ} فِي الدّين {يَخْتَلِفُونَ} يخالفون(1/349)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
{أولم يهد لَهُم} أولم يبيِّن لكفار مَكَّة {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ} بِالْعَذَابِ {مِّنَ الْقُرُون} الْمَاضِيَة {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} فِي مَنَازِلهمْ منَازِل قوم شُعَيْب وَصَالح وَهود {إِن فِي ذَلِك} فِيمَا فعلنَا بهم {لآيَات} لعلامات وعبرات لمن بعدهمْ (أَفَلاَ يَسْمَعُونَ) أَفلا يطيعون من فعل بهم ذَلِك(1/349)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
(أَوَلَمْ يَرَوْاْ) يعلمُوا كفار مَكَّة {أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأَرْض الجرز} الملساء الَّتِي لَا نَبَات فِيهَا {فَنُخْرِجُ بِهِ} بالمطر {زَرْعاً} نباتاً {تَأْكُلُ مِنْهُ} من العشب {أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ} من الْحُبُوب وَالثِّمَار والبقول {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} أَفلا يعلمُونَ أَنه من الله(1/349)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)
{وَيَقُولُونَ} يَعْنِي بني خُزَيْمَة وَبني كنَانَة {مَتى هَذَا الْفَتْح} فتح مَكَّة {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَن يفتح لكم يسخرون بذلك على الْمُؤمنِينَ(1/349)
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لبني خُزَيْمَة وكنانة {يَوْمَ الْفَتْح} فتح مَكَّة {لاَ يَنفَعُ الَّذين كفرُوا} بني خُزَيْمَة {إِيَمَانُهُمْ} من الْقَتْل {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يؤجلون من الْقَتْل(1/349)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} عَن بني خُزَيْمَة وَلَا تشتغل بهم {وانتظر} هلاكهم يَوْم فتح مَكَّة {إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} هلاكك فأهلكهم الله يَوْم فتح مَكَّة(1/349)
وَمن السُّورَة الَّتِى يذكر فِيهَا الْأَحْزَاب وهى كلهَا مَدَنِيَّة آياتها ثَلَاثَة وَتسْعُونَ وكلماتها ألف ومائتان وَاثْنَانِ وَثَمَانُونَ وحروفها خَمْسَة آلَاف وَسَبْعمائة
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}(1/350)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّبِي اتَّقِ الله} يَقُول اخش الله فِي نقض الْعَهْد قبل أَجله {وَلاَ تُطِعِ الْكَافرين} من أهل مَكَّة أَبَا سُفْيَان ابْن حَرْب وَعِكْرِمَة بن أبي جهل وَأَبا الْأَعْوَر الْأَسْلَمِيّ {وَالْمُنَافِقِينَ} من أهل الْمَدِينَة عبد الله بن أَبى سلول ومعتب بن قُشَيْر وجد بن قيس فِيمَا يأمرونك من الْمعْصِيَة {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بمقالتهم وإرادتهم قَتلك {حَكِيماً} حكم الْوَفَاء بالعهد ونهاكم عَن نقض الْعَهْد(1/350)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
{وَاتبع} يَا مُحَمَّد {مَا يُوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ} اعْمَلْ بِمَا تُؤمر بِالْقُرْآنِ {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من وَفَاء الْعَهْد ونقضه {خَبِيرا}(1/350)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
{وَتَوَكَّلْ على الله وَكفى بِاللَّه وَكِيلاً} كَفِيلا بِمَا وعد لَك من النُّصْرَة والدولة وَيُقَال حفيظا مِنْهُم(1/350)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
{مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} فِي صَدره نزلت فِي أبي معمر جميل بن أَسد كَانَ يُقَال لَهُ ذُو قلبين من حفظ حَدِيثه {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ} بِالْيَمِينِ {أُمَّهَاتِكُمْ} كأمهاتكم فِي الْحَرَام نزلت فِي أَوْس بن الصَّامِت أخي عبَادَة ابْن الصَّامِت وَامْرَأَته خَوْلَة {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ} الَّذين تبنيتم فى العون والنصرة {أبناءكم} كأبناءكم من النّسَب {ذَلِكُم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ} بألسنتكم فِيمَا بَيْنكُم {وَالله يَقُولُ الْحق} يبين الْحق {وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيل} يدل إِلَى الصَّوَاب(1/350)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
{ادعوهُمْ لآبَآئِهِمْ} انسبوهم إِلَى آبَائِهِم {هُوَ أَقْسَطُ} هُوَ أفضل وأصوب وَأَعْدل {عِندَ الله} فِي النِّسْبَة {فَإِن لَّمْ تعلمُوا آبَاءَهُمْ} نِسْبَة آبَائِهِم {فَإِخوَانُكُمْ فِي الدّين} فادعوهم باسم إخْوَانكُمْ فِي الدّين عبد الله وَعبد الرَّحْمَن وَعبد الرَّحِيم وَعبد الرَّزَّاق {وَمَوَالِيكُمْ} وباسم مواليكم {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} مأثم {فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ} من النِّسْبَة {وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ} بِهِ عقدت بِهِ {قُلُوبُكُمْ} بالفرية أَن تنسبوهم إِلَى غير آبَائِهِم يُؤَاخِذكُم الله بذلك {وَكَانَ الله غَفُوراً} فِيمَا مضى {رَّحِيماً} فِيمَا يكون
نزلت هَذِه الْآيَة فِي شَأْن زيد بن حَارِثَة وَكَانَ قد تبناه النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانُوا يَقُولُونَ زيد بن مُحَمَّد فنهاهم الله عَن ذَلِك ودلهم إِلَى الصَّوَاب فَقَالَ(1/350)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
{النَّبِي أولى بِالْمُؤْمِنِينَ} أَحَق بِحِفْظ أَوْلَاد الْمُؤمنِينَ {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} من بعد مَوْتهمْ لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَاتَ وَترك كلا فالى أودينا فعلي أَو مَالا فلورثته {وَأَزْوَاجُهُ} أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أُمَّهَاتُهُمْ} كأمهاتهم فِي الْحُرْمَة {وَأُوْلُو الْأَرْحَام} ذُو الْقَرَابَة فِي النّسَب {بَعْضُهُمْ أولى} أَحَق {بِبَعْضٍ} بِالْمِيرَاثِ {فِي كِتَابِ الله} هَكَذَا مَكْتُوب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَيُقَال فِي التَّوْرَاة وَيُقَال فِي الْقُرْآن {مِنَ الْمُؤمنِينَ والمهاجرين إِلاَّ أَن تَفعلُوا إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ} فِي الدّين أَو أصدقائكم {مَّعْرُوفاً} وَصِيَّة من الثُّلُث {كَانَ ذَلِكَ} الْمِيرَاث لِلْقَرَابَةِ وَالْوَصِيَّة للأولياء {فِي الْكتاب مَسْطُوراً} فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ مَكْتُوبًا وَيُقَال فِي التَّوْرَاة مَكْتُوبًا يعْمل بِهِ بَنو إِسْرَائِيل(1/350)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيين مِيثَاقَهُمْ} إقرارهم على عهودهم أَن يبلغ بَعضهم بَعْضًا {وَمِنْكَ} أَوله أَخذنَا مِنْك أَن تبلغ قَوْمك خبر(1/350)
الرُّسُل والكتب قبلك وتأمرهم أَن يُؤمنُوا بِهِ {وَمِن نُّوحٍ} وأخذنا من نوح {وَإِبْرَاهِيمَ} وأخذنا من إِبْرَاهِيم {ومُوسَى} وأخذنا من مُوسَى {وَعِيسَى ابْن مَرْيَمَ} وأخذنا من عِيسَى بن مَرْيَم {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} وثيقاً أَن يبلغ الرسَالَة الأول الآخر وَأَن يصدق الآخر الأول وَأَن يأمروا قَومهمْ أَن يُؤمنُوا بِهِ(1/351)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
{لِّيَسْأَلَ الصَّادِقين عَن صِدْقِهِمْ} المبلغين عَن تبليغهم الوافين عَن وفائهم وَالْمُؤمنِينَ عَن إِيمَانهم {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} بالكتب وَالرسل {عَذَاباً أَلِيماً} وجيعاً فِي النَّار يخلص وَجَعه إِلَى قُلُوبهم(1/351)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ اذْكروا نِعْمَةَ الله} احْفَظُوا نعْمَة الله منَّة الله {عَلَيْكُمْ} بِدفع الْعَدو عَنْكُم بِالرِّيحِ ريح الصِّبَا وَالْمَلَائِكَة(1/351)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
{إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ} جموع الْكفَّار {فَأَرْسَلْنَا} فسلطنا {عَلَيْهِمْ رِيحاً} ريح الصِّبَا {وَجُنُوداً} صفا من الْمَلَائِكَة {لَّمْ تَرَوْهَا} يَعْنِي الْمَلَائِكَة {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الخَنْدَق وَغَيره {بَصِيراً إِذْ جاؤوكم} كفار مَكَّة {مِّن فَوْقِكُمْ} من فَوق الْوَادي طَلْحَة بن خويلد الْأَسدي وَأَصْحَابه {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} من أَسْفَل الْوَادي أَبُو الْأَعْوَر الْأَسْلَمِيّ وَأَصْحَابه وَأَبُو سُفْيَان وَأَصْحَابه {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَار} مَالَتْ أبصار الْمُنَافِقين فِي الخَنْدَق عَن موضعهَا {وَبَلَغَتِ الْقُلُوب} قُلُوب الْمُنَافِقين {الْحَنَاجِر} انتفخت عِنْد الْحَنَاجِر من الْخَوْف الرئة {وَتَظُنُّونَ بِاللَّه الظنونا} وظننتم بِاللَّه يَا معشر الْمُنَافِقين أَن الله لَا ينصر نبيه(1/351)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
{هُنَالِكَ} عِنْد ذَلِك الْخَوْف {ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} اختبر الْمُؤْمِنُونَ بالبلاء {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} أجهدوا جهداً شَدِيدا وحركوا تحريكاً شَدِيدا(1/351)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)
{وَإِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ} عبد الله بن أبي ابْن سلول وَأَصْحَابه {وَالَّذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شكّ ونفاق معتب بن قُشَيْر وَأَصْحَابه {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} من فتح الْمَدَائِن ومجيء الْكفَّار {إِلاَّ غُرُوراً} بَاطِلا(1/351)
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
{وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ} من بني حَارِثَة بن الْحَرْث لأصحابهم فى الخَنْدَق {يَا أهل يَثْرِبَ} يعنون يَا أهل الْمَدِينَة {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} لَا مَكَان لكم فِي الخَنْدَق عِنْد الْقِتَال {فَارْجِعُوا} إِلَى الْمَدِينَة {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ} من الْمُنَافِقين بنى حَارِثَة {النَّبِي} صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَة {وَيَقُولُونَ} ائْذَنْ لنا يَا نَبِي الله بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَة {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} خَالِيَة من الرِّجَال نَخَاف عَلَيْهَا سرق السراق {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} بخالية {إِن يُرِيدُونَ} مَا يُرِيدُونَ بذلك {إِلاَّ فِرَاراً} من الْقَتْل(1/351)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} على الْمُنَافِقين بِالْمَدِينَةِ {مِّنْ أَقْطَارِهَا} من نَوَاحِيهَا {ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَة} دعوا إِلَى الشّرك {لآتَوْهَا} لأجابوها سَرِيعا {وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ} وَمَا مَكَثُوا بإجابتها وَيُقَال بِالْمَدِينَةِ بعد إجابتهم إِلاَّ يَسِيراً {قَلِيلا}(1/351)
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
{وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ} من قبل الخَنْدَق يَوْم الْأَحْزَاب {لاَ يُوَلُّونَ الأدبار} منهزمين من الْمُشْركين {وَكَانَ عَهْدُ الله} نَاقض عهد الله {مسؤولا} يَوْم الْقِيَامَة عَن نقضه(1/351)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
{قُل} يَا مُحَمَّد لبني حَارِثَة {لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْت أَوِ الْقَتْل وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ} لَا تعيشون فِي الدُّنْيَا {إِلاَّ قَلِيلاً} يَسِيرا(1/351)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لبني حَارِثَة {مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ} يمنعكم {مِّنَ الله} من عَذَاب الله {إِن أَرَادَ بكم سوءا} عذَابا بِالْقَتْلِ {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} عَافِيَة من الْقَتْل {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ} لبني حَارِثَة {من دون الله} من عَذَاب الله {وليا} حَافِظًا يحفظهم من عَذَاب الله {وَلاَ نَصِيراً} مَانِعا يمنعهُم من عَذَاب الله(1/351)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)
{قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين} المانعين بِالرُّجُوعِ إِلَى الخَنْدَق {مِنكُمْ} يَعْنِي الْمُنَافِقين {والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ} لأصحابهم الْمُنَافِقين {هَلُمَّ إِلَيْنَا} بِالْمَدِينَةِ وَكَانَ هَؤُلَاءِ عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قُشَيْر {وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْس} الْقِتَال عَن عبد الله بن أبي وصاحباه {إِلاَّ قَلِيلاً} رِيَاء وَسُمْعَة(1/351)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أشفقة عَلَيْكُم قَالُوا ذَلِك وَيُقَال بخلا بِالنَّفَقَةِ عَلَيْكُم(1/351)
{فَإِذَا جَآءَ الْخَوْف} خوف الْعَدو {رَأَيْتَهُمْ} يَا مُحَمَّد الْمُنَافِقين فِي الخَنْدَق {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} تتقلب أَعينهم فِي الجفون {كَالَّذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْت} كمن هُوَ فِي غشيان الْمَوْت ونزعاته {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْف} خوف الْعَدو {سَلَقُوكُمْ} طعنوكم وعابوكم {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} ذُرِّيَّة سليطة أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْر بخيلة بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيل الله {أُولَئِكَ} أهل هَذِه الصّفة {لَمْ يُؤْمِنُواْ} لم يصدقُوا فِي إِيمَانهم {فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالهم} فَأبْطل الله بسيآتهم حسناتهم {وَكَانَ ذَلِكَ} إبِْطَال حسناتهم {عَلَى الله يَسِيرا} هينا(1/352)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَاب} يظنّ عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه أَن كفار مَكَّة {لَمْ يَذْهَبُواْ} بعد مَا ذَهَبُوا من الْخَوْف والجبن وَيُقَال ظنُّوا أَن لَا يذهبوا حَتَّى يقتلُوا مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام {وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَاب} كفار مَكَّة {يَوَدُّواْ} يتَمَنَّى عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَاب} خارجون من الْمَدِينَة من خوفهم وجبنهم {يَسْأَلُونَ} فِي الْمَدِينَة {عَنْ أَنبَآئِكُمْ} عَن أخباركم فِي الخَنْدَق {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ} مَعكُمْ فِي الخَنْدَق {مَّا قَاتلُوا إِلاَّ قَلِيلاً} رِيَاء وَسُمْعَة(1/352)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} سنة حَسَنَة واقتداء صَالح بِالْجُلُوسِ مَعَه فِي الخَنْدَق {لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله} يَرْجُو كَرَامَة الله وثوابه وَيُقَال يخَاف الله {وَالْيَوْم الآخر} وَيخَاف عَذَاب الْآخِرَة {وَذكروا الله كَثِيراً} بِاللِّسَانِ وَالْقلب(1/352)
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
ثمَّ ذكر نعت الْمُؤمنِينَ المخلصين فَقَالَ {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ} المخلصون {الْأَحْزَاب} كفار مَكَّة أَبَا سُفْيَان وَأَصْحَابه {قَالُواْ هَذَا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} لعدة الْأَيَّام {وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} فِي الميعاد وَكَانَ قد وعدهم النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يأتى الْأَحْزَاب تسعا أَو عشر يَعْنِي إِلَى عشرَة أَيَّام {وَمَا زَادَهُمْ} بِرُؤْيَة الْكفَّار {إِلاَّ إِيمَاناً} يَقِينا بقول الله تَعَالَى وَبقول رَسُوله {وَتَسْلِيماً} خضوعاً لأمر الله وَأمر الرَّسُول(1/352)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
{مِّنَ الْمُؤمنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ} وفوا {مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} نَذره وَيُقَال قضى أَجله وَهُوَ حَمْزَة بن عبد الْمطلب عَم النبى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} الْوَفَاء إِلَى الْمَوْت {وَمَا بدلُوا} غيروا الْعَهْد {تبديلا} تغيرا بِالنَّقْضِ(1/352)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
{لِّيَجْزِيَ الله الصَّادِقين بِصِدْقِهِمْ} الوافين بوفائهم {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقين إِن شَآءَ} إِن مَاتُوا على النِّفَاق {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} قبل الْمَوْت {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً} لمن تَابَ {رَّحِيماً} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/352)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
{وَرَدَّ الله} صرف الله {الَّذين كَفَرُواْ} كفار مَكَّة أَبَا سُفْيَان وَأَصْحَابه {بغيظهم} بحتفهم {لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} لم يُصِيبُوا سُرُورًا وَلَا غنيمَة وَلَا دولة {وَكَفَى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال} رفع الله مُؤنَة الْقِتَال عَن الْمُؤمنِينَ بِالرِّيحِ وَالْمَلَائِكَة {وَكَانَ الله قَوِيّاً} بنصر الْمُؤمنِينَ {عَزِيزاً} بنقمة الْكَافرين(1/352)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
{وَأَنزَلَ الَّذين ظَاهَرُوهُم} أعانوا كفار مَكَّة {مِّنْ أَهْلِ الْكتاب} وهم بَنو قُرَيْظَة وَالنضير كَعْب بن الْأَشْرَف حيى بن أَخطب وأصحابهما {مِن صَيَاصِيهِمْ} من قصورهم وحصونهم {وَقَذَفَ} وَجعل {فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} الْخَوْف من مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَكَانُوا قبل ذَلِك لَا يخَافُونَ ويقاتلون {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ} يَقُول تقتلون فريقاً مِنْهُم وهم الْمُقَاتلَة {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} مِنْهُم وهم الذَّرَارِي وَالنِّسَاء(1/352)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
{وأورثكم} أنزلكم(1/352)
{أَرْضَهُمْ} قصورهم {وَدِيَارَهُمْ} مَنَازِلهمْ {وَأَمْوَالَهُمْ} جعل أَمْوَالهم غنيمَة لكم {وأرضا} أَرض خَيْبَر {لم تطؤوها} تملوكها بعد سَتَكُون لكم {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْء} من الْفَتْح والنصرة {قَدِيرًا}(1/353)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)
{يَا أَيهَا النَّبِي} يعْنى مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {قُل لأَزْوَاجِكَ} لنسائك {إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} مَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا {وَزِينَتَهَا} زهرتها {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} مُتْعَة الطَّلَاق {وَأُسَرِّحْكُنَّ} أطلقكن {سَرَاحاً جَمِيلاً} طَلَاقا حسنا بِالسنةِ(1/353)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ} طَاعَة الله وَطَاعَة رَسُوله {وَالدَّار الْآخِرَة} يَعْنِي الْجنَّة {فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ} الصَّالِحَات {مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} ثَوابًا وافرا فى الْجنَّة(1/353)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{يَا نسَاء النَّبِي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} بزنا ظَاهِرَة بالشهود {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَاب ضِعْفَيْنِ} بِالْجلدِ وَالرَّجم و {كَانَ ذَلِكَ} الْعَذَاب {عَلَى الله يَسِيراً} هيناً(1/353)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
{وَمَن يَقْنُتْ} يطع {مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً} خَالِصا فِيمَا بَينهَا وَبَين رَبهَا {نُؤْتِهَآ} نعطها {أَجْرَهَا} ثَوَابهَا {مَرَّتَيْنِ} ضعفين {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رزقا كَرِيمًا} ثَوابًا حسنا فى الْجنَّة(1/353)