بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وصل الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله أَجْمَعِينَ أخبرنَا عبد الله الثِّقَة بن الْمَأْمُون الْهَرَوِيّ قَالَ أخبرنَا أبي قَالَ أخبرنَا أَبُو عبد الله قَالَ أخبرنَا ابو عبيد الله مَحْمُود بن مُحَمَّد الرَّازِيّ قَالَ أخبرنَا عمار بن عبد الْمجِيد الْهَرَوِيّ قَالَ أخبرنَا عَليّ بن إِسْحَق السَّمرقَنْدِي عَن مُحَمَّد بن مَرْوَان عَن الْكَلْبِيّ عَن ابي صَالح عَن ابْن عَبَّاس قَالَ الْبَاء بهاء الله وبهجته وبلاؤه وبركته وَابْتِدَاء اسْمه بارىء السِّين سناؤه وسموه أَي أرتفاعه وَابْتِدَاء اسْمه سميع الْمِيم ملكه ومجده ومنته على عباده الَّذين هدَاهُم الله تَعَالَى للايمان وَابْتِدَاء اسْمه مجيد الله مَعْنَاهُ الْخلق يألهون ويتألهون إِلَيْهِ إِي يَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ عِنْد الْحَوَائِج ونزول الشدائد الرَّحْمَن العاطف على الْبر والفاجر بالرزق لَهُم وَدفع الْآيَات عَنْهُم الرَّحِيم خَاصَّة على الْمُؤمنِينَ بالمغفرة وأدخالهم الْجنَّة وَمَعْنَاهُ الَّذِي يستر عَلَيْهِم الذُّنُوب فِي الدُّنْيَا ويرحمهم فِي الْآخِرَة فيدخلهم الْجنَّة
وَمن سُورَة فَاتِحَة الْكتاب وَهِي مَدَنِيَّة وَيُقَال مَكِّيَّة
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى(1/2)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
{الْحَمد لِلَّهِ} يَقُول الشُّكْر لله وَهُوَ أَن صنع إِلَى خلقه فحمدوه وَيُقَال الشُّكْر لله بنعمه السوابغ على عباده الَّذين هدَاهُم للْإيمَان وَيُقَال الشُّكْر والوحدانية والإلهية لله الَّذِي لَا ولد لَهُ وَلَا شريك لَهُ وَلَا معِين لَهُ وَلَا وَزِير لَهُ {رَبِّ الْعَالمين} رب كل ذِي روح دب على وَجه الأَرْض وَمن أهل السَّمَاء وَيُقَال سيد الْجِنّ وَالْإِنْس وَيُقَال خَالق الْخلق ورازقهم ومحولهم من حَال إِلَى حَال(1/2)
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
{الرَّحْمَن} الرَّقِيق من الرقة وَهِي الرَّحْمَة {الرَّحِيم} الرفيق(1/2)
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
{مَالك يَوْمِ الدّين} قَاضِي يَوْم الدّين وَهُوَ يَوْم الْحساب وَالْقَضَاء فِيهِ بَين الْخَلَائق أَي يَوْم يدان فِيهِ النَّاس بأعمالهم لاقاضي غَيره(1/2)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لَك نوحد وَلَك نطيع {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} نستعين بك على عبادتك ومنك نستوثق على طَاعَتك(1/2)
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
{اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} أرشدنا للدّين الْقَائِم الَّذِي ترضاه وَهُوَ الْإِسْلَام وَيُقَال ثبتنا عَلَيْهِ وَيُقَال هُوَ كتاب الله يَقُول اهدنا إِلَى حَلَاله وَحَرَامه وَبَيَان مافيه(1/2)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
{صِرَاطَ الَّذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} دين الَّذين مننت عَلَيْهِم بِالدينِ وهم أَصْحَاب مُوسَى من قبل أَن تغير عَلَيْهِم نعم الله بِأَن ظلل عَلَيْهِم الْغَمَام وَأنزل عَلَيْهِم الْمَنّ والسلوى فِي التيه وَيُقَال هم النَّبِيُّونَ {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} غير دين الْيَهُود الَّذين غضِبت عَلَيْهِم وخذلتهم وَلم تحفظ قُلُوبهم حَتَّى تهودوا {وَلاَ الضآلين} وَلَا دين النَّصَارَى الَّذين ضلوا عَن الْإِسْلَام آمِينْ كَذَلِك تكون أمنته وَيُقَال فَلْيَكُن كَذَلِك وَيُقَال رَبنَا افْعَل بِنَا كَمَا سألناك وَالله أعلم(1/2)
وَمن السُّورَة الَّتِي تذكر فِيهَا الْبَقَرَة وَهِي كلهَا مَدَنِيَّة وَيُقَال مَكِّيَّة أَيْضا آياتها مِائَتَان وَثَمَانُونَ وكلامها ثَلَاثَة آلَاف وَمِائَة وحروفها خمس وَعِشْرُونَ ألفا وَخَمْسمِائة
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وبإسناده عَن عبد الله بن الْمُبَارك قَالَ حَدثنَا عَليّ بن إِسْحَق السَّمرقَنْدِي عَن مُحَمَّد بن مَرْوَان عَن الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى(1/3)
الم (1)
{الم} يَقُول ألف الله لَام جِبْرِيل مِيم مُحَمَّد وَيُقَال ألف آلاؤه لَام لطفه مِيم ملكه وَيُقَال ألف ابْتِدَاء اسْمه الله لَام ابْتِدَاء اسْمه لطيف مِيم ابْتِدَاء اسْمه مجيد وَيُقَال أَنا الله أعلم وَيُقَال قسم أقسم بِهِ(1/3)
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
{ذَلِكَ الْكتاب} أَي هَذَا الْكتاب الَّذِي يَقْرَؤُهُ عَلَيْكُم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لَا شكّ فِيهِ أَنه من عِنْدِي فَإِن آمنتم بِهِ هديتكم وَإِن لم تؤمنوا بِهِ عذبتكم وَيُقَال ذَلِك الْكتاب يَعْنِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَيُقَال ذَلِك الْكتاب الَّذِي وعدتك يَوْم الْمِيثَاق بِهِ أَن أوحيه إِلَيْك وَيُقَال ذَلِك الْكتاب يَعْنِي التَّوْرَاة أَو الْإِنْجِيل لَا ريب فِيهِ لَا شكّ فِيهِ أَن فيهمَا صفة مُحَمَّد ونعته {هُدَى لِّلْمُتَّقِينَ} يَعْنِي الْقُرْآن بَيَان لِلْمُتقين الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش وَيُقَال كَرَامَة للْمُؤْمِنين وَيُقَال رَحْمَة لِلْمُتقين لأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/3)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
{الَّذين يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} بِمَا غَابَ عَنْهُم من الْجنَّة وَالنَّار والصراط وَالْمِيزَان والبعث والحساب وَغير ذَلِك وَيُقَال الَّذين يُؤمنُونَ بِالْغَيْبِ بِمَا أنزل من الْقُرْآن وَبِمَا لم ينزل وَيُقَال الْغَيْب هُوَ الله {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاة} يتمون الصَّلَوَات الْخمس بوضوئها وركوعها وسجودها وَمَا يجب فِيهَا من مواقيتها {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَمِمَّا أعطيناهم من الْأَمْوَال يتصدقون وَيُقَال يؤدون زَكَاة أَمْوَالهم وَهُوَ أَبُو بكر الصّديق وَأَصْحَابه(1/3)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
{وَالَّذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} من الْقُرْآن {ومآ أنزل من قبلك} على سَائِر الْأَنْبِيَاء من الْكتب {وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} وبالبعث بعد الْمَوْت ونعيم الْجنَّة هم يصدقون وَهُوَ عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه(1/3)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
{أُولَئِكَ} أهل هَذِه الصّفة {على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} على كَرَامَة وَرَحْمَة وَبَيَان نزل من رَبهم {وَأُولَئِكَ هم المفلحون} الناجون من السخط وَالْعَذَاب وَيُقَال أُولَئِكَ الَّذين أدركوا ووجدوا مَا طلبُوا ونجوا من شَرّ مامنه هربوا وهم أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/4)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
{إِنَّ الَّذين كَفَرُواْ} وثبتوا على الْكفْر {سَوَآءٌ عَلَيْهِم} العظة {أَأَنذَرْتَهُمْ} خوفتهم بِالْقُرْآنِ {أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} لم تخوفهم لَا يُؤمنُونَ لَا يُرِيدُونَ أَن يُؤمنُوا وَيُقَال {لَا يُؤمنُونَ} فِي علم الله(1/4)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
{خَتَمَ الله على قُلُوبهِمْ} طبع الله على قُلُوبهم {وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} غطاء {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} شَدِيد فِي الْآخِرَة وهم الْيَهُود كَعْب بن الْأَشْرَف وَحي ابْن أَخطب وجدي بن أَخطب وَيُقَال هم مشركو أهل مَكَّة عتبَة وَشَيْبَة والوليد(1/4)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
{وَمِنَ النَّاس مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّه} فِي السِّرّ وصدقنا بإيماننا بِاللَّه {وباليوم الآخر} وبالبعث بعد الْمَوْت الَّذِي فِيهِ جَزَاء الْأَعْمَال {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} فِي السِّرّ وَلَا مُصدقين فِي إِيمَانهم(1/4)
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
{يُخَادِعُونَ الله} يخالفون الله ويكذبونه فِي السِّرّ وَيُقَال اجترعوا على الله حَتَّى ظنُّوا أَنهم يخادعون الله {وَالَّذين آمَنُواْ} أَبَا بكر وَسَائِر أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَمَا يَخْدَعُونَ} يكذبُون {إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} وَمَا يعلمُونَ أَن الله يطلع نبيه على سر قُلُوبهم(1/4)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
{فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شكّ ونفاق وَخلاف وظلمة {فَزَادَهُم الله مَرضا} شكا ونفاقا وحلافا وظلمة {وَلَهُم عَذَاب أَلِيم} وجيع فِي لآخر يخلص وَجَعه الى قُلُوبهم {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} فِي السِّرّ وهم المُنَافِقُونَ عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قُشَيْر(1/4)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} يَعْنِي الْيَهُود {لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْض} بتعويق النَّاس عَن دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} لَهَا بِالطَّاعَةِ(1/4)
أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
{أَلا إِنَّهُم} بل إِنَّهُم {هُمُ المفسدون} لَهَا بالتعويق {وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} لَا يعلم سفلتهم أَن رؤساءهم هم الَّذين يضلونهم(1/4)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
{وَإِذا قيل لَهُم} للْيَهُود {آمنُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {كَمَا آمن النَّاس} عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه {قَالُوا أنؤمن} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {كَمَآ آمَنَ السفهآء} الْجُهَّال الخرقى {أَلا إِنَّهُمْ} بلَى إِنَّهُم {هُمُ السفهآء} الْجُهَّال الخرقى {وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} ذَلِك(1/4)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
{وَإِذَا لَقُواْ} يَعْنِي الْمُنَافِقين {الَّذين آمَنُواْ} يَعْنِي أَبَا بكر وَأَصْحَابه {قَالُوا آمَنَّا} فِي السِّرّ وصدقنا بإيماننا كَمَا آمنتم لَهُ فِي السِّرّ وصدقتم بِهِ {وَإِذَا خَلَوْاْ} رجعُوا {إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} كهنتهم ورؤساءهم وهم خَمْسَة نفر كَعْب بن الْأَشْرَف بِالْمَدِينَةِ وَأَبُو بردة الْأَسْلَمِيّ فِي بني أسلم وَابْن السَّوْدَاء بِالشَّام وَعبد الدَّار فِي جُهَيْنَة وعَوْف بن عَامر فِي بني عَامر {قَالُوا} لرؤسائهم {إِنَّا مَعَكُمْ} على دينكُمْ فِي السِّرّ {إِنَّمَا نَحن مستهزؤون} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأَصْحَابه بِلَا إِلَه إِلَّا الله(1/4)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
{الله يستهزئ بِهِمْ} فِي الْآخِرَة يَعْنِي يفتح لَهُم بَابا إِلَى الْجنَّة ثمَّ يغلق دونهم فيستهزىء بهم الْمُؤْمِنُونَ {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} يتركهم فِي الدُّنْيَا فِي كفرهم وضلالتهم يعمهون يمضون عمهة لَا يبصرون(1/4)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
{أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى} اخْتَارُوا الْكفْر على الْإِيمَان وَبَاعُوا الْهدى بالضلالة(1/4)
{فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} لم يربحوا فِي تِجَارَتهمْ بل خسروا {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} من الضَّلَالَة(1/5)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
{مثلهم} مثل الْمُنَافِقين مَعَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {كَمَثَلِ الَّذِي استوقد نَاراً} أوقد نَارا فِي ظلمَة لكَي يَأْمَن بهَا على أَهله وَمَاله وَنَفسه {فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} استضاءت وَرَأى مَا حوله وَأمن بهَا على نَفسه وَأَهله وَمَاله طفئت ناره فَكَذَلِك المُنَافِقُونَ آمنُوا بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن فَأمنُوا بِهِ على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ وأهاليهم من السَّبي وَالْقَتْل فَلَمَّا مَاتُوا {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} بِمَنْفَعَة إِيمَانهم {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} فِي شَدَائِد الْقَبْر {لاَّ يُبْصِرُونَ} الرخَاء بعد ذَلِك وَيُقَال مثلهم أَي مثل الْيَهُود مَعَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمثل رجل أَقَامَ علما فِي هزيمَة فَاجْتمع إِلَيْهِ مهزمون فقلبوا علمهمْ فَذَهَبت منفعتهم وأمنهم بِهِ كَذَلِك الْيَهُود كَانُوا يستنصرون بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن قبل خُرُوجه فَلَمَّا خرج كفرُوا بِهِ فَذهب الله بنورهم برغبة إِيمَانهم وَمَنْفَعَة إِيمَانهم لأَنهم أَرَادوا أَن يُؤمنُوا بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَلم يُؤمنُوا وتركهم فِي ظلمات فِي ضَلَالَة الْيَهُودِيَّة لَا يبصرون الْهدى(1/5)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
{صُمٌّ} يتصاممون {بُكْمٌ} يتباكمون {عُمْيٌ} يتعامون {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} عَن كفرهم وضلالتهم(1/5)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء} وَهَذَا مثل آخر يَقُول مثل الْمُنَافِقين وَالْيَهُود مَعَ الْقُرْآن كصيب كمطر نزل من السَّمَاء لَيْلًا على قوم فِي مفازة {فِيهِ} فِي اللَّيْل {ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وبرق} وَكَذَلِكَ الْقُرْآن نزل من الله فِيهِ ظلمات بَيَان الْفِتَن ورعد زجر وتخويف وبرق بَيَان وتبصرة ووعداً {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِق} من صَوت الرَّعْد {حَذَرَ الْمَوْت} مَخَافَة البوائق وَالْمَوْت كَذَلِك المُنَافِقُونَ وَالْيَهُود كَانُوا يجْعَلُونَ أَصَابِعهم فِي آذانهم من الصَّوَاعِق من بَيَان الْقُرْآن ووعده ووعيده حذر الْمَوْت مَخَافَة ميل الْقلب إِلَيْهِ {وَالله مُحِيطٌ بالكافرين} وَالْمُنَافِقِينَ أَي عَالم بهم وجامعهم فِي النَّار(1/5)
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
{يَكَادُ الْبَرْق} النَّار {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} يذهب بأبصار الْكَافرين كَذَلِك الْبَيَان أَرَادَ أَن يذهب بأبصار ضلالتهم {كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُمْ} الْبَرْق {مَّشَوْاْ فِيهِ} فِي ضوء الْبَرْق {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} بقوا فِي الظلمَة كَذَلِك المُنَافِقُونَ لما آمنُوا مَشوا فِيمَا بَين الْمُؤمنِينَ لأَنهم تقبل إِيمَانهم فَلَمَّا مَاتُوا بقوا فِي ظلمَة الْقَبْر {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} بالرعد {وَأَبْصَارِهِمْ} بالبرق كَذَلِك لَو شَاءَ الله لذهب بسمع الْمُنَافِقين وَالْيَهُود بزجر مَا فِي الْقُرْآن ووعيد مَا فِيهِ وأبصارهم بِالْبَيَانِ {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْء} من ذهَاب السّمع وَالْبَصَر {قدير}(1/5)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
{يَا أَيهَا النَّاس} يَا أهل مَكَّة وَيُقَال هم الْيَهُود {اعبدوا رَبَّكُمُ} وحدوا ربكُم {الَّذِي خَلَقَكُمْ} نسماً من النُّطْفَة {وَالَّذين مِن قَبْلِكُمْ} وَخلق الَّذين من قبلكُمْ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكَي تتقوا السخطة وَالْعَذَاب وتطيعوا الله(1/5)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْض فِرَاشاً} بساطاً ومناماً {والسمآء بِنَآءً} سقفًا مَرْفُوعا {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} مَطَرا {فَأَخْرَجَ بِهِ} فأنبت بالمطر {مِنَ الثمرات} من ألوان الثمرات {رِزْقاً لَّكُمْ} طَعَاما لكم ولسائر الْخلق {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} فَلَا تَقولُوا لله أعدالاً وأشكالاً وأشباهاً {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَنِّي صانع هَذِه الْأَشْيَاء وَيُقَال وَأَنْتُم تعلمُونَ فِي كتابكُمْ أَنه لَيْسَ لَهُ ولد وَلَا شَبيه وَلَا ند(1/5)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
{وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} فِي شكّ {مِّمَّا نَزَّلْنَا} بِمَا نزلنَا جِبْرِيل {على عَبْدِنَا} مُحَمَّد أَنه يختلقه من تِلْقَاء نَفسه {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} فجيئوا بِسُورَة من مثل سُورَة الْبَقَرَة {وَادعوا شُهَدَآءَكُم} وَاسْتَعِينُوا بآلهتكم الَّتِي تَعْبدُونَ {مِّن دُونِ الله} وَيُقَال برؤسائكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فِي مَقَالَتَكُمْ(1/5)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} وَهَذَا مقدم ومؤخر يَقُول لن تَفعلُوا أَي لن تقدروا أَن تجيئوا بِمثلِهِ فَإِن لم تَفعلُوا فَإِن لم تقدروا أَن تجيئوا {فَاتَّقُوا النَّار} فاخشوا النَّار إِن لم تؤمنوا {الَّتِي وَقُودُهَا النَّاس} حطبها الْكفَّار {وَالْحِجَارَة} حجارةِ الكبريت(1/5)
{أُعِدَّتْ} خلقت وهيئت واعتدت وقدرت {لِلْكَافِرِينَ} ثمَّ ذكر كَرَامَة الْمُؤمنِينَ فِي الْجنَّة فَقَالَ(1/6)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
{وَبشر الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم وَيُقَال الصَّالِحَات من الْأَعْمَال {أَنَّ لَهُمْ} بِأَن لَهُم {جَنَّاتٍ} بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَاللَّبن وَالْعَسَل وَالْمَاء {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا} كلما أطعموا فِيهَا فِي الْجنَّة {مِن ثَمَرَةٍ} من ألوان الثمرات {رِّزْقاً} طَعَاما {قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} أطعمنَا من قبل هَذَا {وَأُتُواْ بِهِ} جيئوا بِهِ بِالطَّعَامِ {مُتَشَابِهاً} فِي اللَّوْن مُخْتَلفا فِي الطّعْم {وَلَهُمْ فِيهَآ} فِي الْجنَّة {أَزْوَاجٌ} جوَار {مُّطَهَّرَةٌ} مهذبة من الْحيض والأدناس {وَهُمْ فِيهَا} فِي الْجنَّة {خَالِدُونَ} دائمون لَا يموتون وَلَا يخرجُون(1/6)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
ثمَّ ذكر إِنْكَار الْيَهُود لأمثال الْقُرْآن فَقَالَ {إِن الله لَا يستحيي} لَا يتْرك وَكَيف يستحيي من ذكر شَيْء لَو اجْتمع الْخَلَائق كلهم على تخليقه مَا قدرُوا عَلَيْهِ وَلَا يمنعهُ الْحيَاء {أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} أَن يبين لِلْخلقِ مثلا {مَّا بَعُوضَةً} فِي بعوضة {فَمَا فَوْقَهَا} فَكيف مَا فَوْقهَا يَعْنِي الذُّبَاب وَالْعَنْكَبُوت وَيُقَال مَا دونهَا {فَأَمَّا الَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} يَعْنِي الْمثل {الْحق} أَي هُوَ الْحق {مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذين كَفَرُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بِهَذَا مَثَلاً} أَي بِهَذَا الْمثل قل يَا مُحَمَّد إِن الله أَرَادَ بِهَذَا الْمثل أَنه {يضل بِهِ كثيرا} من الْيَهُود عَن الدّين {وَيهْدِي بِهِ كَثِيراً} من الْمُؤمنِينَ {وَمَا يُضِلُّ بِهِ} بِالْمثلِ {إِلاَّ الْفَاسِقين} الْيَهُود(1/6)
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
{الَّذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله} فِي هَذَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} تغليظه وتشديده وتأكيده {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ} من الْإِيمَان والأرحام {أَن يُوصَلَ} بِمُحَمد {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْض} بتعويق النَّاس عَن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {أُولَئِكَ هُمُ الخاسرون} المغبونون بذهاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة(1/6)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّه} على وَجه التعجيب {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً} نطفاً فِي أصلاب آبائكم {فَأَحْيَاكُمْ} فِي أَرْحَام أُمَّهَاتكُم {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عِنْد انْقِطَاع آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} للبعث {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فِي الْآخِرَة فيجزيكم بأعمالكم(1/6)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
ثمَّ ذكر منته عَلَيْهِم فَقَالَ {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ} سخر لكم {مَّا فِي الأَرْض} من الدَّوَابّ والنبات وَغير ذَلِك {جَمِيعاً} منَّة مِنْهُ {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السمآء} أَي ثمَّ عمد إِلَى خلق السَّمَاء {فَسَوَّاهُنَّ} فجعلهن {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} مستويات على الأَرْض {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ} من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض {عَلِيمٌ}(1/6)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
ثمَّ ذكر قصَّة الْمَلَائِكَة الَّذين أمروا بِالسُّجُود لآدَم فَقَالَ {وَإِذْ قَالَ} وَقد قَالَ {رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ} الَّذين كَانُوا فِي الأَرْض {إِنِّي جَاعِلٌ} خَالق أخلق {فِي الأَرْض} من الأَرْض {خَلِيفَةً} بَدَلا مِنْكُم {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا} أتخلق فِيهَا {مَن يُفْسِدُ فِيهَا} بِالْمَعَاصِي {وَيَسْفِكُ الدمآء} بالظلم {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} نصلي لَك بِأَمْرك(1/6)
{وَنُقَدِّسُ لَكَ} ونذكرك بِالطَّهَارَةِ {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ} مَا يكون من ذَلِك الْخَلِيفَة {مَا لاَ تعلمُونَ}(1/7)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا} أَسمَاء الذُّرِّيَّة وَيُقَال أَسمَاء الدَّوَابّ وَغير ذَلِك حَتَّى الْقَصعَة والقصيعة والسكرجة {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} على مَذْهَب الشخوص {عَلَى الْمَلَائِكَة} الَّذين أمروا بِالسُّجُود {فَقَالَ أَنْبِئُونِي} أخبروني {بِأَسْمَآءِ هَؤُلَاءِ} الْخلق والذرية {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فِي مَقَالَتَكُمْ الأولى(1/7)
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
{قَالُواْ سُبْحَانَكَ} تبنا إِلَيْك من ذَلِك {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ} ألهمتنا {إِنَّكَ أَنْت الْعَلِيم} بقلوبهم {الْحَكِيم} بأمرنا وبأمرهم(1/7)
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
{قَالَ يَا آدم أَنبِئْهُمْ} أخْبرهُم {بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ} أخْبرهُم {بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} غيب مَا يكون فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} مَا تظْهرُونَ لربكم من الطَّاعَة لآدَم {وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} مِنْهُ وَيُقَال مَا ابدىء لَهُم إِبْلِيس وَمَا كُنْتُم مِنْهُم(1/7)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
{وَإِذْ قُلْنَا} وَقد قُلْنَا {لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ} سَجْدَة التَّحِيَّة {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى} عَن أَمر الله {واستكبر} تعاظم عَن السُّجُود لآدَم {وَكَانَ مِنَ الْكَافرين} بعد وَصَارَ من الْكَافرين بآبائه عَن أَمر الله وَيُقَال وَكَانَ فِي علم الله أَنه يصير من الْكَافرين وَيُقَال كَانَ من أول الْكَافرين(1/7)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
ثمَّ ذكر قصَّة آدم وحواء فَقَالَ {وَقُلْنَا يَا آدم اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجنَّة} ادخل أَنْت وحواء الْجنَّة {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} موسعاً عَلَيْكُمَا {حَيْثُ شِئْتُمَا} وَمَتى شئتما {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِه الشَّجَرَة} لَا تأكلا من هَذِه الشَّجَرَة شَجَرَة الْعلم عَلَيْهَا من كل لون وفن {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمين} فتصيرا من الضارين لأنفسكما(1/7)
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
{فَأَزَلَّهُمَا} فاستزلهما {الشَّيْطَان عَنْهَا} عَن الْجنَّة {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} من الرغد {وَقُلْنَا} لآدَم وحواء وَطَاوُس وحية وإبليس {اهبطوا} انزلوا إِلَى الأَرْض {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْض مُسْتَقَرٌّ} منزل {وَمَتَاعٌ} مَنْفَعَة ومعاش {إِلَى حِينٍ} إِلَى حِين الْمَوْت(1/7)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
{فَتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ} حفظ آدم من ربه وَيُقَال لقن فتلقن وألهم فتلهم {كَلِمَاتٍ} لكَي تكون سَببا لَهُ ولأولاده إِلَى التَّوْبَة {فَتَابَ عَلَيْهِ} فَتَجَاوز عَنهُ {إِنَّهُ هُوَ التواب} المتجاوز {الرَّحِيم} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/7)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
{قُلْنَا} لآدَم وحواء وحية وَطَاوُس وإبليس {اهبطوا مِنْهَا} من السَّمَاء {جَمِيعاً} ثمَّ ذكر ذُرِّيَّة آدم فَقَالَ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم} فَلَمَّا يَأْتينكُمْ وَحين يَأْتينكُمْ وَكلما يَأْتينكُمْ {مِّنِّي هُدًى} كتاب وَرَسُول {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} الْكتاب وَالرَّسُول {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِم} فِيمَا يستقبلهم من الْعَذَاب {وَلَا هم يَحْزَنُونَ} على مَا خلفوا من خَلفهم وَيُقَال بِلَا خوف عَلَيْهِم بالدوام وَلَا هم يَحْزَنُونَ بالدوام وَيُقَال فَلَا خوف عَلَيْهِم إِذا ذبح الْمَوْت وَلَا هم يَحْزَنُونَ إِذا أطبقت النَّار(1/7)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
{وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بآياتنآ} بِالْكتاب وَالرَّسُول(1/7)
{أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار} أهل النَّار {هم فِيهَا خَالدُونَ} فِي النَّار دائمون لَا يموتون وَلَا يخرجُون(1/8)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
ثمَّ ذكر منته على بني إِسْرَائِيل فَقَالَ {يَا بني إِسْرَائِيلَ} يَا أَوْلَاد يَعْقُوب {اذْكروا نِعْمَتِيَ} اشكروا واحفظوا منتي {الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم} منت عَلَيْكُم بِالْكتاب وَالرَّسُول والنجاة من فِرْعَوْن وَالْغَرق والمن والسلوى وَغير ذَلِك {وأوفوا بعهدي} أَتموا عهدي فِي هَذَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أدخلكم الْجنَّة {وَإِيَّايَ فارهبون} فخافوني فِي نقض الْعَهْد وَلَا تخافوا غَيْرِي(1/8)
وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
{وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ} جِبْرِيل بِهِ {مُصَدِّقاً} مُوَافقا بِالتَّوْحِيدِ وَصفَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته وَبَعض الشَّرَائِع {لِّمَا مَعَكُمْ} من الْكتاب {وَلَا تَكُونُوا أول كَافِر بِهِ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي} بكتمان صفة مُحَمَّد ونعته {ثَمَناً قَلِيلاً} عوضا يَسِيرا من المأكلة {وإياي فاتقون} فخافوني فِي هَذَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/8)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
{وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ} وَلَا تخلطوا الْبَاطِل بِالْحَقِّ صفة الدَّجَّال بِصفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَتَكْتُمُواْ الْحق} وَلَا تكتموا الْحق {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بكتمانه(1/8)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
ثمَّ ذكر لُزُوم الشَّرَائِع عَلَيْهِم بعد الْإِيمَان فَقَالَ {وَأَقِيمُواْ الصَّلَاة} أَتموا الصَّلَوَات الْخمس {وَآتُواْ الزَّكَاة} أعْطوا زَكَاة أَمْوَالكُم {واركعوا مَعَ الراكعين} صلوا الصَّلَوَات الْخمس مَعَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فِي الْجَمَاعَة(1/8)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
ثمَّ ذكر قصَّة رُؤَسَاء الْيَهُود فَقَالَ {أَتَأْمُرُونَ النَّاس} سفلَة النَّاس بِالْبرِّ بِالتَّوْحِيدِ وَاتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} تتركون أَنفسكُم فَلَا تتبعونه {وَأَنْتُمْ تتلون} تقرءون {الْكتاب} عَلَيْهِم {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فَلَيْسَ لكم ذهن الإنسانية(1/8)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
{وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ} على أَدَاء فَرَائض الله وَترك الْمعاصِي {وَالصَّلَاة} وبكثرة الصَّلَاة على تمحيص الذُّنُوب {وَإِنَّهَا} يَعْنِي الصَّلَاة {لَكَبِيرَةٌ} لثقيلة {إِلاَّ عَلَى الخاشعين} المتواضعين(1/8)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
{الَّذين يظنون} يعلمُونَ ويستيقنون {إِنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ} معاينو رَبهم {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} بعد الْمَوْت(1/8)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
ثمَّ ذكر أَيْضا منته على بني إِسْرَائِيل فَقَالَ {يَا بني إِسْرَائِيل} يَا أَوْلَاد يَعْقُوب {اذْكروا نعمتي} احْفَظُوا منتي {الَّتِي أَنْعَمت عَلَيْكُم} مننت عَلَيْكُم {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} بِالْكتاب وَالرَّسُول وَالْإِسْلَام {عَلَى الْعَالمين} على عالمي زمانكم(1/8)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
{وَاتَّقوا يَوْماً} واخشوا عَذَاب يَوْم إِن لم تؤمنوا وتتوبوا من الْيَهُودِيَّة {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} لَا تغني نفس كَافِرَة عَن نفس كَافِرَة من عَذَاب الله شَيْئا {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} لَا يشفع لَهَا شَافِع {وَلاَ يُؤْخَذُ} لَا يقبل {مِنْهَا عَدْلٌ} فدَاء {وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} يمْنَعُونَ من عَذَاب الله(1/8)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} من فِرْعَوْن وَقَومه {يسومونكم سوء الْعَذَاب} يعذبونكم بأشد الْعَذَاب ثمَّ ذكر عَذَابه عَلَيْهِم فَقَالَ {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ} صغَارًا {وَيَسْتَحْيُونَ} يستخدمون {نِسَآءَكُمْ} كبارًا {وَفِي ذَلِكُمْ بلَاء} بلية {مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} عَظِيمَة وَيُقَال نقمة من ربكُم عَظِيمَة(1/8)
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
ثمَّ ذكر منَّة النجَاة من الْغَرق وغرق فِرْعَوْن وَقَومه فَقَالَ {وَإِذْ فَرَقْنَا} فلقنا {بِكُمُ الْبَحْر فَأَنجَيْنَاكُمْ}(1/8)
من الْغَرق {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} وَقَومه {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} إِلَيْهِم بعد ثَلَاثَة أَيَّام(1/9)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
{وَإِذْ وَاعَدْنَا} وَقد واعدنا {مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} بِإِعْطَاء الْكتاب {ثُمَّ اتخذتم الْعجل} عَبدْتُمْ الْعجل {مِن بَعْدِهِ} من بعد انطلاقه إِلَى الْجَبَل {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} ضارون(1/9)
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم} تركناكم وَلم نستأصلكم {مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} من بعد عبادتكم الْعجل {لَعَلَّكُمْ تشكرون} لكَي تشكرو عفوي(1/9)
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب} أعطينا مُوسَى التَّوْرَاة {وَالْفرْقَان} يَعْنِي بَينا فِيهَا الْحَلَال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي وَغير ذَلِك وَيُقَال النُّصْرَة والدولة على فِرْعَوْن {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكَي تهتدوا من الضَّلَالَة(1/9)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
ثمَّ ذكر قصَّة مُوسَى مَعَ قومه فَقَالَ {وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم} ضررتم أَنفسكُم {باتخاذكم الْعجل} بعبادتكم الْعجل فَقَالُوا لمُوسَى فبماذا تَأْمُرنَا فَقَالَ لَهُم {فتوبوا إِلَى بَارِئِكُمْ} إِلَى خالقكم قَالُوا كَيفَ نتوب فَقَالَ لَهُم {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} فليقتل الَّذِي لم يعبد الْعجل الَّذِي عَبده {ذَلِكُمْ} التَّوْبَة وَالْقَتْل خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ خالقكم فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَتَجَاوز عَنْكُم {إِنَّهُ هُوَ التواب} المتجاوز لمن تَابَ {الرَّحِيم} على من مَاتَ على التَّوْبَة(1/9)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
{وَإِذ قُلْتُمْ} وَقد قُلْتُمْ {يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} لن نصدقك فِيمَا تَقول {حَتَّى نَرَى الله جَهْرَةً} مُعَاينَة كَمَا رَأَيْت {فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة} فأحرقتكم النَّار {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} إِلَيْهَا(1/9)
ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
{ثُمَّ بَعَثْنَاكُم} أحييناكم {مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} حرقكم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكَي تشكروا إحيائي(1/9)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَام} فِي التيه {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ والسلوى} فِي التيه {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ} حلالات {مَا رَزَقْنَاكُمْ} أعطيناكم وَلَا تَرفعُوا لغد فَرفعُوا {وَمَا ظَلَمُونَا} وَمَا نقصونا بِمَا رفعوا {وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} يضرون(1/9)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
{وَإِذْ قُلْنَا ادخُلُوا هَذِه الْقرْيَة} قَرْيَة أرِيحَا {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} وَمَتى مَا شِئْتُم {رَغَداً} موسعاً عَلَيْكُم {وادخلوا الْبَاب سُجَّداً} ركعا {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} أَن تحط عَنَّا خطايانا وَيُقَال لَا إِلَه إِلَّا الله {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} فِي حسناتهم(1/9)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
{فَبَدَّلَ الَّذين ظَلَمُواْ} أنفسهم وهم أَصْحَاب الحطة {قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} أَمر لَهُم فَقَالُوا حِنْطَة شمقاتاً يَعْنِي الْحِنْطَة الْحَمْرَاء {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذين ظَلَمُواْ} غيروا القَوْل وهم أَصْحَاب الحطة {رِجْزاً} طاعوناً {مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} يغيرون مَا أمروا بِهِ(1/9)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
{وَإِذِ استسقى مُوسَى لِقَوْمِهِ} فِي التيه {فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحجر} الَّذِي مَعَك وَكَانَ حجرا أعطَاهُ الله إِيَّاه عَلَيْهِ اثْنَا عشر ثدياً كثدي الْمَرْأَة يخرج من كل ثدي نهر إِذا ضرب عَصَاهُ عَلَيْهِ {فانفجرت مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} نَهرا {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} سبط {مَّشْرَبَهُمْ} من نهرهم قَالَ الله لَهُم {كُلُواْ} من الْمَنّ والسلوى {وَاشْرَبُوا} من الْأَنْهَار كلهَا {مِن رِّزْقِ الله} لكم {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْض مُفْسِدِينَ} وَلَا تَمْشُوا فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ وَخلاف أَمر مُوسَى(1/10)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
{وَإِذ قُلْتُمْ} وَقد قُلْتُمْ {يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ} على أكل طَعَام وَاحِد الْمَنّ والسلوى {فَادع} أَي اسْأَل {لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْض} مِمَّا تخرج الأَرْض {مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا} أَي ثومها {وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ} لَهُم مُوسَى {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أدنى} أردأ الثوم والبصل {بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} أفضل وأشرف الْمَنّ والسلوى أَي تسْأَلُون الَّذِي هُوَ الرَّدِيء وتتركون الَّذِي هُوَ الشريف {اهبطوا مِصْراً} الَّذِي خَرجْتُمْ مِنْهُ وَيُقَال مصرا من الْأَمْصَار {فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُم} فَأن ماسألتم لكم ثمَّ {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} جعلت عَلَيْهِم المذلة بالجزية {والمسكنة} زِيّ الْفقر {وباؤوا بِغَضَبٍ} استوجبوا للعنة {مِّنَ الله ذَلِكَ} اللَّعْنَة والذلة والمسكنة {ذَلِك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} يجحدون بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيين بِغَيْرِ الْحق} بِغَيْر حق وَلَا جرم {ذَلِك} الْغَضَب {بِمَا عَصَواْ} لله فِي السبت {وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} بقتل الْأَنْبِيَاء وَاسْتِحْلَال الْمعاصِي(1/10)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
ثمَّ ذكر الَّذين آمنُوا مِنْهُم فَقَالَ {إِنَّ الَّذين آمَنُواْ} بمُوسَى وَسَائِر الْأَنْبِيَاء لَهُمْ أَجْرَهُمْ وثوابهم عِنْد رَبهم فِي الْجنَّة وَلَا خوف عَلَيْهِم بالدوام وَلا هُمْ يَحْزَنُون بالدوام وَيُقَال وَلَا خوف عَلَيْهِم فِيمَا يستقبلهم من الْعَذَاب وَلَا هم يَحْزَنُونَ على مَا خلفوا من خَلفهم وَيُقَال وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إِذا ذبح الْمَوْت وَلاَ هم يَحْزَنُونَ إِذا أطبقت النَّار ثمَّ ذكر الَّذين لم يُؤمنُوا بمُوسَى وَسَائِر الْأَنْبِيَاء يُقَال {وَالَّذين هَادُواْ} مالوا عَن دين مُوسَى وهم الْيَهُود الَّذين تهودوا {وَالنَّصَارَى} الَّذين تنصرُوا {وَالصَّابِئِينَ} قوم من النَّصَارَى يحلقون وسط رؤوسهم ويقرءون الزبُور ويعبدون الْمَلَائِكَة يَقُولُونَ صَبَأت قُلُوبنَا أَي رجعت قُلُوبنَا إِلَى الله {مَنْ آمَنَ} مِنْهُم {بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً} فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} ثوابهم أَيْضا {عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(1/10)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
! ثمَّ ذكر أَخذ الْمِيثَاق عَلَيْهِم فَقَالَ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} وَقد أَخذنَا إقراركم {وَرَفَعْنَا} قلعنا وحبسنا {فَوْقَكُمُ} فَوق رؤوسكم {الطّور} الْجَبَل بِأخذ الْمِيثَاق {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم} اعْمَلُوا بِمَا أعطيناكم من الْكتاب {بِقُوَّةٍ} بجد ومواظبة النَّفس {واذْكُرُوا مَا فِيهِ} من الثَّوَاب وَالْعِقَاب واحفظوا مَا فِيهِ من الْحَلَال وَالْحرَام {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكَي تتقوا من السخط وَالْعَذَاب وتطيعوا الله(1/10)
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عَن الْمِيثَاق {مِّن بَعْدِ ذَلِك فَلَوْلاَ فَضْلُ الله} من الله {عَلَيْكُمْ} بِتَأْخِير الْعَذَاب {وَرَحمته} بارسال مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْكُم {لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين} لصرتم من المغبونين بالعقوبة(1/10)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} عَرَفْتُمْ وسمعتم عُقُوبَة {الَّذين اعتدوا مِنْكُمْ} بِأخذ الْمِيثَاق {فِي السبت} يَوْم السبت فِي زمن دَاوُد {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}(1/10)
صيروا قردة ذليلين صاغرين(1/11)
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
{فَجَعَلْنَاهَا} قردة {نَكَالاً} عُقُوبَة {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} لما قبلهَا من الذُّنُوب {وَمَا خَلْفَهَا} ولكي يَكُونُوا عِبْرَة لمن خَلفهم لكَي لَا يقتدوا بهم {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} عظة ونهياً لِلْمُتقين لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه(1/11)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
ثمَّ ذكر قصَّة الْبَقَرَة فَقَالَ {وَإِذْ قَالَ} وَقد قَالَ {مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} من البقور {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هزوا} أتستهزى بِنَا يَا مُوسَى قَالَ مُوسَى {أَعُوذُ بِاللَّه} أمتنع بِاللَّه {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلين} من الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا علمُوا أَنه صَادِق(1/11)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
{قَالُواْ ادْع لَنَا رَبَّكَ} سل لنا رَبك {يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ} صَغِيرَة أَو كَبِيرَة هِيَ قَالَ مُوسَى {إِنَّهُ يَقُولُ} أَي يَقُول الله {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ} لَا كَبِيرَة {وَلاَ بِكْرٌ} وَلَا صَغِيرَة {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِك} نصف أَي وسط بَين الصَّغِير وَالْكَبِير {فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ} وَلَا تسألوا(1/11)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
{قَالُواْ ادْع لَنَا رَبَّكَ} سل لنا رَبك {يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا} مَا لون الْبَقَرَة {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ} الظلْف والقرن سَوْدَاء الْبدن {فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} صَاف لَوْنهَا {تَسُرُّ الناظرين} تعجب الناظرين إِلَيْهَا(1/11)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)
{قَالُواْ ادْع لَنَا رَبَّكَ} سل لنا رَبك يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ عاملة هِيَ أم لَا {إِنَّ الْبَقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا} تشاكل علينا {وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ} إِلَى وصفهَا وَيُقَال إِلَى قَاتل عاميل(1/11)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ} لَا مذللة {تُثِيرُ الأَرْض} تحرث الأَرْض {وَلاَ تَسْقِي الْحَرْث} لَا يستسقى عَلَيْهَا بالسواقي الْحَرْث {مُسَلَّمَةٌ} من كل عيب {لاَّ شِيَةَ فِيهَا} لَا وضح فِيهَا وَلَا بَيَاض {قَالُواْ الْآن جِئْتَ بِالْحَقِّ} الْآن تبين لنا الصّفة فطلبوها واشتروها بملء مسكها ذَهَبا {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} فِي بَدْء الْأَمر وَيُقَال من غلاء ثمنهَا(1/11)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
ثمَّ ذكر الْمَقْتُول فَقَالَ {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} عاميل {فادارأتم فِيهَا} فاختلفتم فِي قَتلهَا {وَالله مُخْرِجٌ} مظهر {مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} من قَتلهَا(1/11)
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ} عَنى الْمَقْتُول {بِبَعْضِهَا} أَي بعضو من أعضائها وَيُقَال بذنبها وَيُقَال بلسانها {كَذَلِكَ} كَمَا أَحْيَا الله عاميل {يُحْيِي الله الْمَوْتَى} للبعث {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} إحياءه {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكَي تصدقوا بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت(1/11)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
{ثُمَّ قَسَتْ} جَفتْ ويبست {قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِك} من بعد إحْيَاء عاميل وإعلامكم قَاتله {فَهِيَ كالحجارة} فِي الشدَّة {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} بل أَشد قسوة ثمَّ عذر الْحِجَارَة وَذكر مَنْفَعَتهَا وَعَابَ على الْقُلُوب قَالَ {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَة} حِجَارَة {لَمَا يَتَفَجَّرُ} يخرج {مِنْهُ الْأَنْهَار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} يَقُول يتصدع {فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} يَقُول يتدحرج من أَعلَى الْجَبَل إِلَى أَسْفَله {مِنْ خَشْيَةِ الله} وقلوبكم لَا تتحرك من خوف الله {وَمَا الله بِغَافِلٍ} بتارك عُقُوبَة {عَمَّا تَعْمَلُونَ} من الْمعاصِي وَيُقَال مَا تكتمون من الْمعاصِي(1/11)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{أفتطمعون أَن يُؤمنُوا لكم} أَن ترجو يَا مُحَمَّد أَن تؤمن بك الْيَهُود {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} وهم السبعون الَّذين كَانُوا مَعَ مُوسَى {يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله} قِرَاءَة مُوسَى لكَلَام الله {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} يغيرونه {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} علموه وفهموه {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنهم يغيرونه(1/12)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
ثمَّ ذكر منا فِي أهل الْكتاب وَيُقَال سفلَة أهل الْكتاب فَقَالَ {وَإِذَا لَقُواْ الَّذين آمَنُواْ} يَعْنِي أَبَا بكر وَأَصْحَابه {قَالُوا آمَنَّا} بنبيكم وَصفته ونعته فِي كتَابنَا {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} إِذا رَجَعَ السفلة إِلَى رُؤَسَائِهِمْ {قَالُوا} قَالَ الرؤساء للسفلة {أَتُحَدِّثُونَهُم} أتخبرون مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه {بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} بِمَا بَين الله لكم من صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته فِي كتابكُمْ {لِيُحَآجُّوكُم} حَتَّى يخاصموكم {بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ} من عِنْد ربكُم مقدم ومؤخر {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أفليس لكم ذهن الإنسانية(1/12)
أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
قَالَ الله تَعَالَى {أَو لَا يَعْلَمُونَ} يَعْنِي الرؤساء {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} فِيمَا بَينهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} بِمُحَمد وَأَصْحَابه(1/12)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكتاب} لَا يحسنون قِرَاءَة الْكتاب وَلَا كِتَابَته {إِلاَّ أَمَانِيَّ} أَحَادِيث بِلَا أصل {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} وَمَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِالظَّنِّ بتلقين رُؤَسَائِهِمْ(1/12)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
{فَوَيْلٌ} فشدة الْعَذَاب وَيُقَال وَاد فِي جَهَنَّم {للَّذين يَكْتُبُونَ الْكتاب} يغيرون صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته فِي الْكتاب {بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا} الْكتاب الَّذِي جَاءَ {مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ} بتغييره وكتابته {ثَمَناً قَلِيلاً} عرضا يَسِيرا من المأكلة والفضول {فَوَيْلٌ لَّهُمْ} فشدة الْعَذَاب لَهُم {مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} مِمَّا غيرت أَيْديهم {وَوَيْلٌ لَّهُمْ} شدَّة الْعَذَاب لَهُم {مِّمَّا يَكْسِبُونَ} يصيبون من الْحَرَام والرشوة(1/12)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
{وَقَالُواْ} يَعْنِي الْيَهُود {لَن تَمَسَّنَا النَّار} لن تصيبنا النَّار {إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} قدر أَرْبَعِينَ يَوْمًا الَّتِي عبد فِيهَا آبَاؤُنَا الْعجل {قُلْ} يَا مُحَمَّد {أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً} على مَا تَقولُونَ {فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ} إِن كَانَ لكم عِنْد الله عهد {أَمْ تَقُولُونَ} بل أتقولون {عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فِي كتابكُمْ(1/12)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
{بلَى} رد عَلَيْهِم {مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} أَي أشرك بِاللَّه {وأحاطت بِهِ خطيئته} أوبقه شركه أَي مَاتَ عَلَيْهِ {فَأُولَئِك} أهل هَذِه الصّفة {أَصْحَابُ النَّار} أهل النَّار {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دائمون لَا يموتون فِيهَا وَلَا يخرجُون مِنْهَا(1/12)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
ثمَّ ذكر الَّذين آمنُوا فَقَالَ {وَالَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجنَّة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دائمون لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا(1/12)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
ثمَّ ذكر أَيْضا ميثاقه على بني إِسْرَائِيل فَقَالَ {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} لَا توحدون إِلَّا الله وَلَا تشركون بِهِ شَيْئا {وبالوالدين إِحْسَاناً} برا بهما {وَذِي الْقُرْبَى} وصلَة الرَّحِم لِلْقَرَابَةِ {واليتامى} وَالْإِحْسَان إِلَى الْيَتَامَى {وَالْمَسَاكِين} وَالْإِحْسَان إِلَى الْمَسَاكِين {وَقُولُوا للنَّاس حسنا} فِي شَأْن مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَقًا وَيُقَال حسنا صدقا {وَأَقِيمُواْ الصَّلَاة} أَتموا الصَّلَوَات الْخمس {وَآتُواْ الزَّكَاة} وأعطوا زَكَاة أَمْوَالكُم {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عَن الْمِيثَاق(1/12)
{إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ} من آبائكم وَيُقَال إِلَّا قَلِيلا مِنْكُم عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} مكذبون تاركون لَهُ(1/13)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} فِي الْكتاب {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ} لَا تقتلون بَعْضكُم بَعْضًا {وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ} أَي بَعْضكُم بَعْضًا {مِّن دِيَارِكُمْ} من مَنَازِلكُمْ يَعْنِي بني قُرَيْظَة وَالنضير ثُمَّ {أَقْرَرْتُمْ} قبلتم {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} تعلمُونَ ذَلِك(1/13)
ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} يَا هَؤُلَاءِ {تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} بَعْضكُم بَعْضًا {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ} من مَنَازِلهمْ {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} تعاونون بَعْضكُم بَعْضًا {بالإثم} بالظلم {وَالْعُدْوَانِ} الاعتداء {وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى} يَعْنِي أُسَارَى أهل دينكُمْ {تُفَادُوهُمْ} من الْعَدو مقدم ومؤخر {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} أَي إخراجهم وقتلهم محرم عَلَيْكُم {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكتاب} بِبَعْض مَا فِي الْكتاب تفادون أسراءكم من عَدوكُمْ {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} وتتركون أسراء أصحابكم وَلَا تفادونهم يُقَال أتؤمنون بِبَعْض الْكتاب بِمَا تهوى أَنفسكُم وتكفرون بِبَعْض بِمَا لَا تهوى أَنفسكُم {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} إِلَّا عَذَاب فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ والسبي {وَيَوْمَ الْقِيَامَة يُرَدُّونَ} يرجعُونَ {إِلَى أَشَدِّ الْعَذَاب} أَسْفَل الْعَذَاب {وَمَا الله بِغَافِلٍ} بتارك عُقُوبَة {عَمَّا تَعْمَلُونَ} من الْمعاصِي وَيُقَال مَا تكتمون(1/13)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
{أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الْحَيَاة الدُّنْيَا بِالآخِرَة} اخْتَارُوا الدُّنْيَا على الْآخِرَة وَالْكفْر على الْإِيمَان {فَلاَ يُخَفَّفُ} لَا يهون وَيُقَال لَا يرفع {عَنْهُمُ الْعَذَاب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} يمْنَعُونَ من عَذَاب الله(1/13)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا} أعطينا {مُوسَى الْكتاب} التَّوْرَاة {وَقَفَّيْنَا} أتبعنا وأردتنا {مِن بَعْدِهِ بالرسل وَآتَيْنَا} أعطينا {عِيسَى ابْن مَرْيَمَ الْبَينَات} الْأَمر وَالنَّهْي والعجائب والعلامات {وَأَيَّدْنَاهُ} قويناه وأعناه {بِرُوحِ الْقُدس} بجبرائيل المطهر {أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ} يَا معشر الْيَهُود {رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ} بِمَا لَا يُوَافق قُلُوبكُمْ ودينكم {استكبرتم} تعظمتم عَن الْإِيمَان بِهِ {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ} يَقُول كَذبْتُمْ فريقا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعِيسَى {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} وفريقاً قتلتم يحيى وزَكَرِيا(1/13)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
{وَقَالُواْ} يَعْنِي الْيَهُود {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} من قَوْلك يَا مُحَمَّد أَي قُلُوبنَا أوعية لكل علم وَهِي لَا تعي علمك وكلامك {بَل} رد عَلَيْهِم {لَّعَنَهُمُ الله} طبع الله على قُلُوبهم {بِكُفْرِهِمْ} عُقُوبَة لكفرهم {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} مَا يُؤمنُونَ قَلِيلا وَلَا كثيرا وَيُقَال مَا يُؤمنُونَ بِقَلِيل وَلَا بِكَثِير(1/13)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
{وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ} مُوَافق {لما مَعَهم} من الْكتاب بالتوحيدوصفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته وَبَعض الشَّرَائِع كفرُوا بِهِ {وَكَانُواْ مِن قبل} من قبل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {يَسْتَفْتِحُونَ} يستنصرون بِمُحَمد وَالْقُرْآن {عَلَى الَّذين كَفَرُواْ} من عدوهم أَسد وغَطَفَان وَمُزَيْنَة وجهينة {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ} صفته ونعته فِي كِتَابهمْ {كَفَرُواْ بِهِ} جَحَدُوا بِهِ {فَلَعْنَةُ الله} سخطَة الله وعذابه {عَلَى الْكَافرين} على الْيَهُود(1/13)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
{بِئْسَمَا اشْتَروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} باعوا بِهِ أنفسهم {أَن يكفروا} بِأَن كفرُوا {بِمَآ أنَزَلَ الله} من الْكتاب وَالرَّسُول {بَغْياً} حسداً {أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ} بِأَن نزل الله جِبْرِيل بفضله الْكتاب والنبوة {على من يَشَاء من عباده} يَعْنِي مُحَمَّدًا {فباؤوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ} فاستوجبوا لعنة على أثر لعنة {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يهانون بِهِ وَيُقَال شَدِيد(1/14)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} يَعْنِي الْيَهُود {آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يَعْنِي الْقُرْآن {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يَعْنِي التَّوْرَاة {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ} يَعْنِي سوى التَّوْرَاة {وَهُوَ الْحق} يَعْنِي الْقُرْآن {مُصَدِّقاً} مُوَافقا بِالتَّوْحِيدِ {لِّمَا مَعَهُمْ} من الْكتاب قَالُوا يَا مُحَمَّد آبَاؤُنَا كَانُوا مُؤمنين قَالَ الله {قُلْ} يَا مُحَمَّد {فَلِمَ تَقْتُلُونَ} قتلتم {أَنبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ} من قبل هَذَا {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إِن كُنْتُم مُصدقين فِي مَقَالَتَكُمْ(1/14)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
{وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والعلامات {ثُمَّ اتخذتم الْعجل} عَبدْتُمْ الْعجل {مِن بَعْدِهِ} من بعد انطلاقه إِلَى الْجَبَل {وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} كافرون(1/14)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} إقراركم {وَرَفَعْنَا} قلعنا ورفعنا وحبسنا {فَوْقَكُمُ} فَوق رؤوسكم {الطّور} الْجَبَل {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم} اعْمَلُوا بِمَا أعطيناكم من الْكتاب {بِقُوَّةٍ} بجد ومواظبة النَّفس {واسمعوا} أطِيعُوا مَا تؤمرون {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} كَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَوْلَا الْجَبَل لسمعنا قَوْلك وعصينا أَمرك {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعجل بِكُفْرِهِمْ} أَدخل فِي قُلُوبهم حب عبَادَة الْعجل بكفرهم عُقُوبَة لكفرهم {قُلْ} يَا مُحَمَّد إِن كَانَ حب عبَادَة الْعجل يعدل حب خالقكم {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} يَعْنِي عبَادَة الْعجل {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} مُصدقين فِي مَقَالَتَكُمْ بِأَن آبَاءَنَا كَانُوا مُؤمنين(1/14)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّار الْآخِرَة} الْجنَّة {عِندَ الله خَالِصَةً} خَاصَّة {مِّن دُونِ النَّاس} من دون الْمُؤمنِينَ بِمُحَمد وَأَصْحَابه {فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْت} فاسألوا الْمَوْت {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فِي مَقَالَتَكُمْ(1/14)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} لن يسْأَلُوا الْمَوْت {أَبَداً بِمَا قدمت أَيْديهم} بِمَا عملت أَيْديهم فِي الْيَهُودِيَّة {وَالله عَلِيمٌ بالظالمين} باليهود(1/14)
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ} يَا مُحَمَّد يَعْنِي الْيَهُود {أَحْرَصَ النَّاس على حَيَاةٍ} على بَقَاء فِي الدُّنْيَا {وَمِنَ الَّذين أَشْرَكُواْ} وأحرص من الَّذين أشركوا مُشْركي الْعَرَب {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} يتَمَنَّى أحدهم {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} أَن يعِيش ألف نيروز ومهرجان {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ} بمباعده {مِنَ الْعَذَاب أَن يُعَمَّرَ} إِن عَاشَ ألف سنة {وَالله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} من الْمعاصِي والاعتداء وَمَا يكتمون من صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته(1/14)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
ثمَّ نزل فِي قَوْلهم وَهُوَ قَول عبد الله بن صوريا إِن جِبْرِيل عدونا {قُلْ} يَا مُحَمَّد {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ} عَدو لله {نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ} نزل الله جِبْرِيل عَلَيْك بِالْقُرْآنِ {بِإِذْنِ الله} بِأَمْر الله {مُصَدِّقاً} مُوَافقا بِالتَّوْحِيدِ {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} من الْكتاب {وَهُدًى} من الضَّلَالَة {وبشرى} بِشَارَة للْمُؤْمِنين بِالْجنَّةِ(1/14)
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
{مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلَائِكَته} ولملائكته {وَرُسُلِهِ} ولرسله {وَجِبْرِيلَ} ولجبريل {وَمِيكَالَ} ولميكال {فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} للْيَهُود وَأَيْضًا رسله وَجِبْرِيل وَمِيكَائِيل وَسَائِر الْمُؤمنِينَ أَعدَاء لَهُم(1/15)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ} جِبْرِيل بآيَات {بَيِّنَاتٍ} مبينات واضحات بِالْأَمر وَالنَّهْي {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ} يجْحَد بِالْآيَاتِ {إِلَّا الْفَاسِقُونَ} الْكَافِرُونَ الْيَهُود(1/15)
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
{أَو كلما عَاهَدُواْ عَهْداً} يَعْنِي الرؤساء من الْيَهُود مَعَ مُحَمَّد {نَّبَذَهُ} طَرحه ونقضه {فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ} كلهم {لاَ يُؤْمِنُونَ}(1/15)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ} مُوَافق بِالصّفةِ والنعت {لِّمَا مَعَهُمْ} من الْكتاب {نَبَذَ} طرح {فَرِيقٌ مِّنَ الَّذين أُوتُواْ الْكتاب} أعْطوا الْكتاب {كِتَابَ الله} يَعْنِي التَّوْرَاة {وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} خلف ظُهُورهمْ لم يُؤمنُوا بِمَا فِيهِ من صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته وَلم يبينوا {كَأَنَّهُمْ} جهلاء {لاَ يَعْلَمُونَ} تركت الْيَهُود كتب الْأَنْبِيَاء كلهَا(1/15)
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
{وَاتبعُوا مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِين} عمِلُوا بِمَا كتبت الشَّيَاطِين {على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فِي ذهَاب ملك سُلَيْمَان أَرْبَعِينَ يَوْمًا من السحر والنيرنجات {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} مَا كتب سُلَيْمَان السحر والنيرنجات {وَلَكِن الشَّيَاطِين كَفَرُواْ} كتبُوا {يُعَلِّمُونَ النَّاس} يَعْنِي الشَّيَاطِين وَيُقَال الْيَهُود {السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الْملكَيْنِ} وَلم ينزل على الْملكَيْنِ السحر والنيرنجات وَيُقَال يعلمُونَ مَا ألهم الْملكَانِ أَيْضا {بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} مَا يصفان يَعْنِي الْملكَيْنِ لأحد {حَتَّى يَقُولاَ} أَولا {إِنَّمَا نَحن فتْنَة} ابتلينا بِهَذِهِ الدعْوَة تَدْعُو بهَا لكَي لَا نَشد الْعَذَاب على أَنْفُسنَا {فَلاَ تَكْفُرْ} فَلَا تتعلم وَلَا تعْمل بِهِ {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} بِغَيْر تعليمهما {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْء وَزَوْجِهِ} مَا يَأْخُذ بِهِ الرجل على الْمَرْأَة {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ} بِالسحرِ والفرقة {مِنْ أَحَدٍ} لأحد {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} إِلَّا بِإِرَادَة الله وَعلمه {وَيَتَعَلَّمُونَ} يَعْنِي الشَّيَاطِين وَالْيَهُود والسحرة بَعضهم من بعض {مَا يَضُرُّهُمْ} فِي الْآخِرَة {وَلاَ يَنفَعُهُمْ} فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة {وَلَقَدْ عَلِمُواْ} يَعْنِي الْملكَيْنِ وَيُقَال الْيَهُود فِي كِتَابهمْ وَيُقَال الشَّيَاطِين {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} لمن اخْتَار السحر والنرنجات {مَا لَهُ فِي الْآخِرَة} فِي الْجنَّة {مِنْ خَلاَقٍ} نصيب {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ} مَا اخْتَارُوا بِهِ السحر أنفسهم يَعْنِي الْيَهُود {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} وَلَكِن لَا يعلمُونَ وَيُقَال وَقد كَانُوا يعلمُونَ فِي كِتَابهمْ(1/15)
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ} يَعْنِي الْيَهُود {آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَاتَّقوا} تَابُوا من الْيَهُودِيَّة وَالسحر {لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله} ) لَكَانَ ثوابهم عِنْد الله {خَيْرٌ} من السحر واليهودية {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يصدقون بِثَوَاب الله وَلَكِن لَا يعلمُونَ وَلَا يصدقون وَيُقَال قد كَانُوا يعلمُونَ فِي كأيهم(1/15)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
ثمَّ ذكر نَهْيه للْمُؤْمِنين عَن لُغَة الْيَهُود فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {لاَ تَقُولُواْ} لمُحَمد {رَاعِنَا} سَمعك يَا نَبِي الله {وَقُولُواْ انظرنا} أَي انْظُر إِلَيْنَا واسمع منا يَا نَبِي الله وَكَانَ بلغتهم رَاعنا اسْمَع لاسمعت فَمن ذَلِك نهى الله الْمُؤمنِينَ عَن لُغَة الْيَهُود {واسمعوا} مَا تؤمرون بِهِ وَأَطيعُوا {وَلِلكَافِرِينَ} للْيَهُود {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع يخلص وَجَعه إِلَى قُلُوبهم(1/15)
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
{مَّا يَوَدُّ} مَا يتَمَنَّى {الَّذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكتاب} كَعْب بن الْأَشْرَف وَأَصْحَابه {وَلاَ الْمُشْركين} مُشْركي الْعَرَب أَبُو جهل وَأَصْحَابه(1/15)
{أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ} أَن ينزل الله جِبْرِيل على نَبِيكُم {من خير} بِخَير بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام وَالْكتاب {مِّن رَّبِّكُمْ وَالله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} يخْتَار لدينِهِ والنبوة وَالْإِسْلَام وَالْكتاب {مَن يَشَآءُ} من كَانَ أَهلا لذَلِك يَعْنِي مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} ذُو الْمَنّ الْكَبِير بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام على مُحَمَّد(1/16)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
ثمَّ ذكر مَا نسخ من الْقُرْآن وَمَا لم ينْسَخ بمقالة قُرَيْش تَأْمُرنَا يَا مُحَمَّد بِأَمْر ثمَّ تَنْهَانَا عَنهُ فَقَالَ {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} مَا نمح من آيَة قد عمل بهَا فَلَا تعْمل بهَا {أَوْ نُنسِهَا} نتركها غير مَنْسُوخَة للْعَمَل بهَا {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ} أَي نرسل جِبْرِيل بأنفع من الْمَنْسُوخ وأهون فِي الْعَمَل بهَا {أَوْ مِثْلِهَا} فِي الثَّوَاب والنفع وَالْعَمَل {أَلَمْ تَعْلَمْ} يَا مُحَمَّد {أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ} من النَّاسِخ والمنسوخ {قدير}(1/16)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
{أَلَمْ تَعْلَمْ} يَا مُحَمَّد {أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} يَعْنِي خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض يَأْمر عباده مَا يَشَاء لِأَنَّهُ عليم بصلاحهم {وَمَا لَكُمْ} يَا معشر الْيَهُود {مِّن دُونِ الله} من عَذَاب الله {مِن وَلِيٍّ} من قريب ينفعكم وَلَا حَافظ يحفظكم {وَلاَ نَصِيرٍ} مَانع يمنعكم(1/16)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
{أَمْ تُرِيدُونَ} أتريدون {أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ} رُؤْيَة الرب وَكَلَامه وَغير ذَلِك {كَمَا سُئِلَ مُوسَى} كَمَا سَأَلَ من مُوسَى بَنو إِسْرَائِيل {مِن قبل} من قبل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكفْر بِالْإِيمَان} اخْتَار الْكفْر على الْإِيمَان {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيل} ترك قصد طَرِيق الْهدى(1/16)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
{وَدَّ} تمنى {كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكتاب} كَعْب الْأَشْرَف وَأَصْحَابه وفنحاص ابْن عاز وَرَاء وَأَصْحَابه {لَوْ يَرُدُّونَكُم} أَن يردوكم يَا عمار وَيَا حُذَيْفَة وَيَا معَاذ بن جبل {مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {كُفَّاراً} حَتَّى ترجعوا كفَّارًا إِلَى دينهم {حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنفُسِهِم} حسداً مِنْهُم {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحق} فِي كِتَابهمْ أَن مُحَمَّد وَدينه ونعته وَصفته هُوَ الْحق {فاعفوا} فاتركوا {واصفحوا} أَعرضُوا {حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} بعذابه على بني قُرَيْظَة وَالنضير من الْقَتْل والسبي والإجلاء {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ} من الْقَتْل والإجلاء {قَدِيرٌ}(1/16)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
{وَأَقِيمُواْ الصَّلَاة} أَتموا الصَّلَوَات الْخمس {وَآتُواْ الزَّكَاة} أعْطوا زَكَاة أَمْوَالكُم {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم} تسلفوا لأنفسكم {مِّنْ خَيْرٍ} من عمل صَالح وَزَكَاة وَصدقَة {تَجِدُوهُ} تَجدوا ثَوَابه {عِندَ الله} من عِنْد الله {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} تنفقون من الصَّدَقَة وَالزَّكَاة {بَصِيرٌ} بنياتكم(1/16)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
{وقالواْ} يَعْنِي الْيَهُود {لَن يَدْخُلَ الْجنَّة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً} إِلَّا من مَاتَ على الْيَهُودِيَّة بزعمهم {أَوْ نَصَارَى} وَكَذَلِكَ قَالَت النَّصَارَى {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} تمنيهم أَي تمنوا على الله ماليس فِي كِتَابهمْ {قُلْ} يَا مُحَمَّد لِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ {هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} يَعْنِي حجتكم من كتابكُمْ {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فِي مَقَالَتَكُمْ(1/16)
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
{بلَى} لَيْسَ كَمَا قُلْتُمْ وَلَكِن {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} من أخْلص دينه وَعَمله لله {وَهُوَ مُحْسِنٌ} فِي القَوْل وَالْفِعْل {فَلَهُ أَجْرُهُ} ثَوَابه {عِندَ رَبِّهِ} فِي الْجنَّة {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} بخلود النَّار {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} بذهاب الْجنَّة(1/16)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
ثمَّ ذكر مقَالَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي خصومتهم فِي الدّين فَقَالَ {وَقَالَتِ الْيَهُود} يهود أهل الْمَدِينَة {لَيْسَتِ النَّصَارَى على شَيْءٍ} من دين الله وَلَا دين إِلَّا الْيَهُودِيَّة {وَقَالَتِ النَّصَارَى} نَصَارَى أهل نَجْرَان {لَيْسَتِ الْيَهُود على شَيْءٍ} من دين الله وَلَا دين إِلَّا النَّصْرَانِيَّة {وهم يَتلون الْكتاب} وكلا الْفَرِيقَيْنِ يقرونَ الْكتاب وَلَا يُؤمنُونَ وَيَقُولُونَ مَا لَيْسَ فِيهِ {كَذَلِكَ} هَكَذَا {قَالَ الَّذين لاَ يَعْلَمُونَ} تَوْحِيد الله من آبَائِهِم وَيُقَال كتاب الله من غَيرهم {مِثْلَ قَوْلِهِمْ}(1/16)
شبه قَوْلهم {فَالله يَحْكُمُ} يقْضِي {بَيْنَهُمْ} بَين الْيَهُود وَالنَّصَارَى {يَوْمَ الْقِيَامَة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ} من الدّين {يَخْتَلِفُونَ} يخالفون(1/17)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
ثمَّ ذكر قطوس بن اسبيانوس الرُّومِي ملك النَّصَارَى الَّذِي خرب بَيت الْمُقَدّس قَالَ {وَمَنْ أَظْلَمُ} فِي كفره {مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله} خرب بَيت الْمُقَدّس {أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمه} لكيلا يذكر فِيهَا اسْمه بِالتَّوْحِيدِ وَالْأَذَان {وسعى} عمل {فِي خَرَابِهَآ} فِي خراب بَيت الْمُقَدّس من إِلْقَاء لجيف فِيهَا فَكَانَ خراباً إِلَى زمَان عمر {أُولَئِكَ} أهل الرّوم {مَا كَانَ لَهُمْ} أَمن {أَن يَدْخُلُوهَآ} يَعْنِي بَيت الْمُقَدّس {إِلاَّ خَآئِفِينَ} مستخفين من الْمُؤمنِينَ مَخَافَة الْقَتْل لَو علم بِهِ الْقَتْل لقتل {لَّهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} عَذَاب خراب مدائنهم قسطنطينية وعمورية ورومية {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَة عَذَابٌ عَظِيمٌ} شَدِيد أَشد مِمَّا لَهُم فِي الدُّنْيَا(1/17)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
ثمَّ ذكر قبلته فَقَالَ {وَللَّهِ الْمشرق وَالْمغْرب} قبْلَة لمن لَا يعلم الْقبْلَة {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} تحولوا وُجُوهكُم فِي الصَّلَاة بِالتَّحَرِّي {فَثَمَّ وَجْهُ الله} فَتلك الصَّلَاة بِرِضا الله نزلت فِي نفر من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلوا فِي سفر إِلَى غير الْقبْلَة بِالتَّحَرِّي وَيُقَال وَللَّه الْمشرق وَالْمغْرب يَقُول الله لأهل الْمشرق وَالْمغْرب قبْلَة وَهُوَ الْحرم فأينما توَلّوا وُجُوهكُم فِي الصَّلَاة إِلَى الْحرم فثم وَجه الله قبْلَة الله {إِنَّ الله وَاسِعٌ} بالقبلة {عليم} بنياتهم(1/17)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
ثمَّ ذكر مقَالَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى عَزِيز ابْن الله والمسيح ابْن الله قَالَ {وَقَالُواْ} يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى {اتخذ الله وَلَداً} عَزِيزًا ومسيحاً {سُبْحَانَهُ} نزه نَفسه عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {بَل} لَيْسَ كَمَا قُلْتُمْ وَلَكِن {لَّهُ} عبيدا {مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} من الْخلق {كُلٌّ لَهُ قانتون} عقرون لَهُ بالعبودية والتوحيد(1/17)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
{بَدِيعُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} ابتدعهما وَلم يَكُونَا شَيْئا {وَإِذَا قضى أَمْراً} إِذا أَرَادَ أَن يخلق ولدا بِلَا أَب مثل الْمَسِيح {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ولدا بِلَا أَب كآدم كَانَ بِلَا أَب وَأم(1/17)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
{وَقَالَ الَّذين لاَ يَعْلَمُونَ} تَوْحِيد الله يَعْنِي الْيَهُود {لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله} مُعَاينَة {أَوْ تَأْتِينَآ آيَة} عَلامَة لنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لآمَنَّا بِهِ {كَذَلِكَ} هَكَذَا {قَالَ الَّذين مِن قَبْلِهِمْ} من آبَائِهِم {مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} شبه قَوْلهم {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} اسْتَوَت كلمتهم وتوافقت قُلُوبهم مَعَ آبَائِهِم {قَدْ بَيَّنَّا الْآيَات} العلامات الْأَمر وَالنَّهْي وصفاتك فِي التَّوْرَاة {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يصدقون(1/17)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} يَا مُحَمَّد {بِالْحَقِّ} بِالْقُرْآنِ والتوحيد {بَشِيراً} بِالْجنَّةِ لمن آمن بِاللَّه {وَنَذِيراً} من النَّار لمن كفر بِاللَّه {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَاب الْجَحِيم} لَا يَنْبَغِي أَن تسئل عَن أَصْحَاب الْجَحِيم وَيُقَال لَا تسْأَل عَن حاب الْجَحِيم عَن غفران أَصْحَاب الْجَحِيم(1/17)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
{وَلَنْ ترْضى عَنكَ الْيَهُود} يهود أهل الْمَدِينَة {وَلاَ النَّصَارَى} نَصَارَى أهل نَجْرَان {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} دينهم وقبلتهم {قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنَّ هُدَى الله هُوَ الْهدى} أَي دين الله هُوَ الْإِسْلَام وقبلة الله هِيَ الْكَعْبَة {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ} دينهم وقبلتهم {بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعلم} من الْبَيَان أَن دين الله هُوَ الْإِسْلَام وقبلة الله هِيَ الْكَعْبَة {مَا لَكَ مِنَ الله} من عَذَاب الله {مِن ولي} قريب ينفعك {وَلَا نصير} انع يمنعك(1/17)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
ثمَّ ذكر مؤمني أهل الْكتاب عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه وبحيرا الراهب وَأَصْحَابه وَالنَّجَاشِي وَأَصْحَابه فَقَالَ {الَّذين آتَيْنَاهُمُ الْكتاب} أعطيناهم علم الْكتاب يَعْنِي التَّوْرَاة {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} يصفونه حق صفته وَلَا يحرفونه أَي يبينون حَلَاله وَحَرَامه وَأمره وَنَهْيه لمن سَأَلَهُمْ ويعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {فَأُولَئِك هُمُ الخاسرون} المغبونون بذهاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة(1/17)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)
ثمَّ ذكر منته على بني إِسْرَائِيل فَقَالَ {يَا بني إِسْرَائِيل} يَا أَوْلَاد يَعْقُوب {اذْكروا نعمتي}(1/17)
احْفَظُوا منتي {الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} مننت على آبائكم بالنجاة من فِرْعَوْن وَقَومه وَغير ذَلِك {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} بِالْإِسْلَامِ {عَلَى الْعَالمين} عالمي زمانكم(1/18)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
{وَاتَّقوا يَوْماً} واخشوا عَذَاب يَوْم وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} لَا تَنْفَع نفس كَافِرَة عَن نفس كَافِرَة شَيْئا وَيُقَال نفس صَالِحَة عَن نفس صَالِحَة شَيْئا وَيُقَال وَالِد عَن وَلَده وَلَا مَوْلُود عَن وَالِده شَيْئا من عَذَاب الله {وَلاَ يقبل مِنْهَا عدل} نِدَاء {وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} وَلَا يشفع لَهَا شَافِع ملك مقرب وَلَا نَبِي مُرْسل وَلَا عبد صَالح {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} يمْنَعُونَ مِمَّا يُرَاد بهم(1/18)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
ثمَّ ذكر منته على إِبْرَاهِيم خَلِيله فَقَالَ {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} أَي أمره بِعشر خِصَال خمس فِي الرَّأْس وَخمْس فِي الْجَسَد {فأتمهن} فَعمل بِهن وَيُقَال وَإِذا ابتلى إِبْرَاهِيم ربه بِكَلِمَات بكر كلمة دَعَا ربه بهَا فِي الْقُرْآن فأتمهن وَفِي بِهن وَيُقَال دَعَا بِهن ثمَّ قَالَ لَهُ {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} خَليفَة يقْتَدى بك قَالَ إِبْرَاهِيم {وَمِن ذريتي} أَي وَاجعَل من ذريتي أَيْضا إِمَامًا يقْتَدى بِهِ قَالَ الله {لاَ يَنَالُ عَهْدِي} أَي لَا ينَال عهدي إِلَيْك ووعدي إِلَيْك وكرمتي إِلَيْك ورحمتي {الظَّالِمين} من ذريتك وَيُقَال أَي لَا أجعَل إِمَامًا ظَالِما من ذريتك وَيُقَال لَا ينَال عهدي الظَّالِمين فِي الْآخِرَة وَأما فِي الدُّنْيَا فينالهم(1/18)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
ثمَّ أَمر الْخلق أَن يقتدوا بِهِ فَقَالَ {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْت مَثَابَةً} مرجعاً {لِّلنَّاسِ} يثوبون إِلَيْهِ ويشتاقون إِلَيْهِ {وَأَمْناً} لمن دخل فِيهِ {وَاتَّخذُوا} يَا أمة مُحَمَّد {مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قبْلَة {وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} أمرنَا إِبْرَاهِيم {وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} من الْأَصْنَام {والعاكفين} المقيمين {والركع السُّجُود} لأهل الصَّلَوَات الْخمس من جملَة الْبلدَانِ(1/18)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَل هَذَا بَلَداً آمِناً} من أَن يهاج فِيهِ {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} من ألوان الثمرات {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت قَالَ الله {وَمَن كَفَرَ} أَيْضا {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} فسأرزقه لَيْلًا فِي الدُّنْيَا {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} ألجؤه {إِلَى عَذَابِ النَّار وَبِئْسَ الْمصير} صَار إِلَيْهِ(1/18)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِد مِنَ الْبَيْت} بنى إِبْرَاهِيم أساس الْبَيْت {وَإِسْمَاعِيلُ} يُعينهُ فَلَمَّا فرغا قَالَا(1/18)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
{رَبَّنَا} يَا رَبنَا {تَقَبَّلْ مِنَّآ} بناءنا بَيْتك {إِنَّك أَنْت السَّمِيع} لدعائنا {الْعَلِيم} الْإِجَابَة وَيُقَال الْعَلِيم بنياتنا لبنائنا بَيْتك {رَبَّنَا} يَا رَبنَا {واجعلنا مُسْلِمَيْنِ} مُطِيعِينَ مُخلصين {لَكَ} بِالتَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَة {وَمِن ذريتنا أمة مسلمة} مطيعة مخلصة {لَّكَ} بِالتَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَة {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} علمنَا سنَن حجنا {وَتُبْ عَلَيْنَآ} تجَاوز عَنَّا تقصيرنا {إِنَّكَ أَنتَ التواب} المتجاوز {الرَّحِيم} بِالْمُؤْمِنِينَ(1/18)
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
{رَبَّنَا} يَا رَبنَا {وَابعث فِيهِمْ} فِي ذُرِّيَّة إِسْمَاعِيل {رَسُولا مِنْهُم} من نسبهم {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} الْقُرْآن {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكتاب} الْقُرْآن {وَالْحكمَة} الْحَلَال وَالْحرَام {وَيُزَكِّيهِمْ} يطهرهم بِالتَّوْحِيدِ وَالزَّكَاة من الذُّنُوب {إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيز} بالنقمة لمن لَا يُجيب رَسُولك الَّذِي ترسله إِلَيْهِم {الْحَكِيم} فِي إرْسَال الرَّسُول فَاسْتَجَاب الله دعاءه وَبعث فيهم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهن تِلْكَ الْكَلِمَات الَّتِي ابتلاه الله بهَا {فأتمهن} فَدَعَا بِهن(1/18)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}(1/18)
من يزهد فِي دين إِبْرَاهِيم وسننه {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} إِلَّا من خسر نَفسه وَذهب عقله وسفه رَأْيه {وَلَقَدِ اصطفيناه} اخترناه يَعْنِي إِبْرَاهِيم {فِي الدُّنْيَا} بالخلة وَيُقَال اخترناه فِي الدُّنْيَا بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام والذرية الطّيبَة {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَة لَمِنَ الصَّالِحين} مَعَ آبَائِهِ الْمُرْسلين فِي الْجنَّة(1/19)
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ} حِين خرج من السرب {أَسْلِمْ} فَرد فِي مَقَالَتك وَقل لَا إِلَه الا الله {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالمين} فَردَّتْ فِي مَقَالَتي لله رب الْعَالمين وَيُقَال قَالَ لَهُ ربه حِين دَعَا قومه إِلَى التَّوْحِيد أسلم أخْلص دينك وعملك لله قَالَ أسلمت أخلصت ديني وعملي لله رب الْعَالمين وَيُقَال قَالَ لَهُ ربه حِين ألقِي فِي النَّار أسلم نَفسك إِلَى قَالَ أسلمت نَفسِي لله رب الْعَالمين(1/19)
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
{ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ} بِلَا إِلَه إِلَّا الله {بَنِيهِ} عِنْد الْمَوْت {وَيَعْقُوبُ} أبناءه أَيْضا قَالَ {يَا بني إِنَّ الله اصْطفى لَكُمُ الدّين} اخْتَار لكم دين الْإِسْلَام {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} فاثبتوا على الْإِسْلَام حَتَّى تَمُوتُوا مُسلمين مُخلصين لَهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَة(1/19)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
ثمَّ ذكر خُصُومَة الْيَهُود بدين إِبْرَاهِيم فَقَالَ {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} أَكُنْتُم يَا معشر الْيَهُود حضراء {إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْت} بِمَاذَا أوصى بنيه باليهودية أَو الْإِسْلَام {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي} من بعد موتِي {قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك} الَّذِي تعبده {وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِداً} أَي نعْبد إِلهاً وَاحِدًا {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} مقرون لله بِالْعبَادَة والتوحيد(1/19)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
{تِلْكَ أُمَّةٌ} جمَاعَة {قَدْ خَلَتْ} قد مَضَت {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من الْخَيْر {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} من الْخَيْر {وَلاَ تُسْأَلُونَ} يَوْم الْقِيَامَة {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وَيَقُولُونَ(1/19)
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
ثمَّ ذكر خُصُومَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى مَعَ الْمُؤمنِينَ فَقَالَ {وَقَالُواْ} يَعْنِي الْيَهُود للْمُؤْمِنين {كُونُواْ هُوداً} تهتدوا من الضَّلَالَة {أَوْ نَصَارَى} مقدم ومؤخر وَقَالَت النَّصَارَى كَذَلِك {تَهْتَدُواْ قُلْ} يَا مُحَمَّد لَيْسَ كَمَا قُلْتُمْ {بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} مُسلما وَلَكِن اتبعُوا دين إِبْرَاهِيم حَنِيفا مُسلما مخلصاً تهتدوا {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْركين} على دينهم(1/19)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
ثمَّ علم الْمُؤمنِينَ مجْرى التَّوْحِيد لكَي تكون للْيَهُود وَالنَّصَارَى دلَالَة إِلَى التَّوْحِيد فَقَالَ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّه وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا} يَعْنِي بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} يَعْنِي وبإبراهيم وَكتابه {وَإِسْمَاعِيل} وبإسمعيل وَكتابه {وَإِسْحَاق} وبإسحق وَكتابه {وَيَعْقُوبَ} وبيعقوب وَكتابه {والأسباط} وبأولاد يَعْقُوب وكتبهم {وَمَآ أُوتِيَ مُوسَى} يَعْنِي وبموسى والتوراة {وَعِيسَى} يَعْنِي وبعيسى وَالْإِنْجِيل {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ} يَعْنِي وبجملة النَّبِيين وكتبهم {مِن رَّبِّهِمْ لاَ نفرق بَين أحد مِنْهُم} وَبَين لله بِالنُّبُوَّةِ التَّوْحِيد وَيُقَال لَا نكفر بِأحد مِنْهُم {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} مقرون لَهُ بِالْعبَادَة والتوحيد(1/19)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
{فَإِنْ آمَنُواْ} يَعْنِي أهل الْكتاب {بِمِثْلِ مَآ آمنتم بِهِ} بجملة لأنبياء وكتبهم {فَقَدِ اهتدوا} من الضَّلَالَة بدين مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم {وَّإِن تَوَلَّوْاْ} أَعرضُوا عَن الْإِيمَان بالنبيين وكتبهم {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} فِي خلاف من الدّين {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} يَقُول سيرفع الله عَنْك مؤنتهم بِالْقَتْلِ والإجلاء {وَهُوَ السَّمِيع} لمقالتهم {الْعَلِيم} بعقوبتهم(1/19)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
{صِبْغَةَ الله} أَي اتبعُوا دين الله {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} دينا {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} وَقُولُوا نَحن موحدون لَهُ بِالْعبَادَة والتوحيد(1/19)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد للْيَهُود وَالنَّصَارَى {أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ} أتخاصموننا فِي دين الله {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} الله رَبنَا وربكم {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا} ديننَا {وَلكم أَعمالكُم}(1/19)
عَلَيْكُم أَعمالكُم دينكُمْ {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} مقرون لَهُ بِالْعبَادَة والتوحيد(1/20)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
{أَمْ تَقُولُونَ} يَا معشر الْيَهُود وَالنَّصَارَى {إِنَّ إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب والأسباط} أَوْلَاد يَعْقُوب {كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى} كَمَا تَقولُونَ {قُلْ} يَا مُحَمَّد {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ} بدينهم {أَمِ الله} وَقد أخبرنَا الله مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا {وَمَنْ أَظْلَمُ} فِي كفره وأعتى وأجرأ على الله {مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله} فِي التَّوْرَاة فِي هَذَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَمَا الله بِغَافِلٍ} بساه {َعَمَّا تَعْمَلُونَ} تكتمون من الشَّهَادَة(1/20)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
{تِلْكَ أُمَّةٌ} جمَاعَة {قَدْ خَلَتْ} قد مَضَت {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من الْخَيْر {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} من الْخَيْر {وَلاَ تُسْأَلُونَ} يَوْم الْقِيَامَة {عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فِي الدُّنْيَا(1/20)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
{سَيَقُولُ السفهآء مِنَ النَّاس} الْجُهَّال من الْيَهُود ومشركي الْعَرَب {مَا ولاهم} مَا حَولهمْ {عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا} إِلَّا ليرجعوا إِلَى دين آبَائِهِم وَيُقَال مَا ولاهم أَي شَيْء حَولهمْ عَن قبلتهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وصلوا إِلَيْهَا يَعْنِي بَيت الْمُقَدّس {قُل} يَا مُحَمَّد {لله الْمشرق} الصَّلَاة إِلَى الْكَعْبَة {وَالْمغْرب} الصَّلَاة الَّتِي صليتم إِلَى بَيت الْمُقَدّس كِلَاهُمَا بِأَمْر الله {يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يثبت من يَشَاء على دين وقبلة مُسْتَقِيمَة(1/20)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
{وَكَذَلِكَ} يَعْنِي كَمَا أكرمناكم بدين إِبْرَاهِيم الْإِسْلَام وقبلته {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} عدلا {لِّتَكُونُواْ} لكَي تَكُونُوا {شُهَدَآءَ} لِلنَّبِيِّينَ {عَلَى النَّاس وَيَكُونَ الرَّسُول} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {عَلَيْكُمْ شَهِيداً} لكم مزكياً معدلاً {وَمَا جَعَلْنَا} مَا حولنا {الْقبْلَة الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ} صليت إِلَيْهَا تِسْعَة عشر شهرا {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} لكَي نرى ونميز {مَن يَتَّبِعُ الرَّسُول} فِي الْقبْلَة {مِمَّن يَنقَلِبُ} يرجع {على عَقِبَيْهِ} إِلَى دينه وقبلته الأولى {وَإِن كَانَتْ} وَقد كَانَت صرف الْقبْلَة {لَكَبِيرَةً} لثقيلة {إِلاَّ عَلَى الَّذين هَدَى الله} حفظ الله قُلُوبهم {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ليبطل إيمَانكُمْ كقبل نسخ الشَّرَائِع وَيُقَال وَمَا كَانَ الله لِيُضيع لينسخ إيمَانكُمْ وَلَكِن نسخ شرائع إيمَانكُمْ وَيُقَال مَا نسخ إيمَانكُمْ صَلَاتكُمْ نَحْو بَيت الْمُقَدّس وَلَكِن نسخ قبلتكم بَيت الْمُقَدّس {إِنَّ الله بِالنَّاسِ} بِالْمُؤْمِنِينَ {لرؤوف رَّحِيمٌ} لَا ينْسَخ إيمَانكُمْ كقبل نسخ الشَّرَائِع(1/20)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
ثمَّ ذكر دُعَاء نبيه فِي تَحْويل الْقبْلَة إِلَى الْكَعْبَة فَقَالَ {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء} رفع بَصرك إِلَى السَّمَاء لنزول جِبْرِيل بتحويل الْقبْلَة {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} فلنحولنك فِي الصَّلَاة {قِبْلَةً} إِلَى قبْلَة {تَرْضَاهَا} تهواها قبْلَة إِبْرَاهِيم {فَوَلِّ وَجْهَكَ} فحول وَجهك فِي الصَّلَاة {شَطْرَ} نَحْو {الْمَسْجِد الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} فِي بر أَو بَحر {فَوَلوا وُجُوهكُم} فِي الصَّلَاة {شَطْرَهُ} نَحوه {وَإِنَّ الَّذين أُوتُواْ الْكتاب} أعْطوا الْكتاب {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} يَعْنِي الْحرم {الْحق مِن رَّبِّهِمْ} هُوَ قبْلَة إِبْرَاهِيم وَلَكِن يكتمونه {وَمَا الله بِغَافِلٍ} بساه {عَمَّا يَعْمَلُونَ} يكتمون(1/20)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذين أُوتُواْ الْكتاب} جِئْت الَّذين أعْطوا الْكتاب {بِكُلِّ آيَةٍ}(1/20)
عَلامَة طلبُوا مِنْك {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} مَا صلوا إِلَى قبلتك وَمَا دخلُوا فِي دينك {وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ} بمصل {قِبْلَتَهُمْ} قبْلَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ} بمصل {قِبْلَةَ بَعْضٍ} يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم} بعد مَا نهيناك فَصليت إِلَى قبلتهم {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعلم} الْبَيَان أَن الْحرم هُوَ قبْلَة إِبْرَاهِيم {إِنَّكَ إِذَاً} إِن فعلت ذَلِك حِينَئِذٍ {لَّمِنَ الظَّالِمين} الضارين لنَفسك(1/21)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
ثمَّ ذكر مؤمني أهل الْكتاب فَقَالَ {الَّذين آتَيْنَاهُمُ الْكتاب} أعطيناهم علم التَّوْرَاة عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه {يعرفونه} يعْرفُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصفتِهِ ونعته {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ} بَين الغلمان {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ} من أهل الْكتاب {لَيَكْتُمُونَ الْحق} صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فِي كِتَابهمْ(1/21)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
{الْحق مِن رَّبِّكَ} أَي أَنَّك نَبِي مُرْسل من الله {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} من الشاكين أَنهم لَا يعلمُونَ(1/21)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} لكل أهل دين قبْلَة {هُوَ مُوَلِّيهَا} مستقبلها بهوى نَفسه وَيُقَال وَلكُل وجهة لكل نَبِي قبْلَة وَهِي الْكَعْبَة هُوَ موليها أَمر أَن يستقبلها {فاستبقوا الْخيرَات} فبادروا بالطاعات يَا أمة مُحَمَّد من جَمِيع الْأُمَم {أَيْنَمَا تَكُونُواْ} فِي بر أَو بَحر {يَأْتِ بِكُمُ الله} يَجِيء بكم ويجمعكم الله {جَمِيعاً} فيجزيكم بالخيرات {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ} من جمعكم وَغَيره {قَدِيرٌ}(1/21)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ} فِي الصَّلَاة {شَطْرَ} نَحْو {الْمَسْجِد الْحَرَام وَإِنَّهُ} يَعْنِي الْحرم {لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} إِنَّه قبْلَة إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ {وَمَا الله بِغَافِلٍ} بساه {عَمَّا تَعْمَلُونَ} عَمَّا تكتمون من قبْلَة إِبْرَاهِيم وَغَيرهَا(1/21)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} كنت {فَوَلِّ وَجْهَكَ} فِي الصَّلَاة {شَطْرَ الْمَسْجِد الْحَرَام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} فِي بر أَو بَحر {فَوَلوا وُجُوهكُم} فِي الصَّلَاة {شَطْرَهُ} نَحوه {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ} لعبد الله ابْن سَلام وَأَصْحَابه {عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} فِي تَحْويل الْقبْلَة لِأَن فِي كِتَابهمْ أَن الْحرم هُوَ قبْلَة إِبْرَاهِيم فَإِذا صليتم إِلَيْهِ لَا تكون لَهُم عَلَيْكُم حجَّة {إِلاَّ الَّذين ظَلَمُواْ} وَلَا الَّذين ظلمُوا فِي الْمقَالة {مِنْهُمْ} كَعْب بن الْأَشْرَف وَأَصْحَابه ومشركو الْعَرَب {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} فِي صرف الْقبْلَة {واخشوني} فِي تَركهَا {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي} لكَي أتم منتي {عَلَيْكُمْ} بالقبلة كَمَا أتممت عَلَيْكُم بِالدينِ {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إِلَى قبْلَة إِبْرَاهِيم(1/21)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
{كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً} يَقُول اذكروني كَمَا أرسلنَا إِلَيْكُم رَسُولا {مِنْكُم} من نسبكم {يَتْلُو عَلَيْكُمْ} يقْرَأ عَلَيْكُم {آيَاتِنَا} يَعْنِي الْقُرْآن بِالْأَمر وَالنَّهْي {وَيُزَكِّيكُمْ} يطهركم بِالتَّوْحِيدِ وَالزَّكَاة وَالصَّدَََقَة من الذُّنُوب {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكتاب} يَعْنِي الْقُرْآن {وَالْحكمَة} الْحَلَال وَالْحرَام {وَيُعَلِّمُكُم} من الْأَحْكَام وَالْحُدُود وأخبار الْأُمَم الْمَاضِيَة {مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} قبل الْقُرْآن وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/21)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
{فاذكروني} بِالطَّاعَةِ {أَذْكُرْكُمْ} بِالْجنَّةِ وَيُقَال فاذكروني فِي الرخَاء أذكركم فِي الشدَّة {واشكروا لِي} نعمتي {وَلاَ تكفرون} لَا تتركوا شكرها(1/21)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ اسْتَعِينُوا بِالصبرِ} على أَدَاء فَرَائض الله وَترك الْمعاصِي وعَلى المرازي {وَالصَّلَاة} وبكثرة صَلَاة التَّطَوُّع بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار على تمحيص الذُّنُوب {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} معِين وحافظ وناصر للصابرين على المرازي(1/21)
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
ثمَّ ذكر مقَالَة الْمُنَافِقين لشهداء بدر وَأحد والمشاهد كلهَا مَاتَ فلَان وَذهب عَنهُ النَّعيم وَالسُّرُور لكَي يغتم بِهِ المخلصون فَقَالَ الله {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله} فِي طَاعَة الله يَوْم بدر والمشاهد كلهَا(1/21)
{أَمْوَاتٌ} كَسَائِر الْأَمْوَات {بَلْ أَحْيَاءٌ} بل هم كأحياء أهل الْجنَّة فِي الْجنَّة يرْزقُونَ من التحف {وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} لَا تعلمُونَ بكرامتهم وحالهم(1/22)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
ثمَّ ذكر ابتلاءه للْمُؤْمِنين فَقَالَ {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} لنختبرنكم {بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْف} خوف الْعَدو {والجوع} فِي قحط السنين {وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَال} ذهَاب الْأَمْوَال {والأنفس} وَذَهَاب الْأَنْفس بِالْقَتْلِ وَالْمَوْت والأمراض {والثمرات} وَذَهَاب الثمرات ثمَّ قَالَ {وَبَشِّرِ} يَا مُحَمَّد {الصابرين}(1/22)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
{الَّذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} مِمَّا ذكرت {قَالُواْ إِنَّا للَّهِ} نَحن عبيد الله {وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} بعد الْمَوْت وَإِن لم نرض بِقَضَائِهِ لَا يرضى عَنَّا بأعمالنا(1/22)
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
{أُولَئِكَ} أهل هَذِه الصّفة {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} مغْفرَة {مِّن رَّبِّهِمْ} فِي الدُّنْيَا {وَرَحْمَةٌ} من الْعَذَاب فِي الْآخِرَة {وَأُولَئِكَ هُمُ المهتدون} للاسترجاع(1/22)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
ثمَّ ذكر كَرَاهِيَة الْمُؤمنِينَ للطَّواف بَين الصَّفَا والمروة من قبل الصنمين اللَّذين كَانَا عَلَيْهِمَا فَقَالَ {إِنَّ الصَّفَا والمروة} يَقُول الطّواف بَين الصَّفَا والمروة {مِن شَعَآئِرِ الله} مِمَّا أَمر الله تَعَالَى من مَنَاسِك الْحَج {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْت أَوِ اعْتَمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} لَا مأتم عَلَيْهِ {أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} بَينهمَا {وَمَن تَطَوَّعَ خيرا} من زَاد على الطوف الْوَاجِب {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ} يقبله {عَلِيمٌ} بنياتكم وَيُقَال فَإِن الله شَاكر يشْكر الْيَسِير وَيجْزِي بالجزيل(1/22)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
{إِنَّ الَّذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا} بَينا {مِنَ الْبَينَات} من الْأَمر وَالنَّهْي والعلامات فِي التَّوْرَاة {وَالْهدى} صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته {مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ} لبني إِسْرَائِيل {فِي الْكتاب} فِي التَّوْرَاة {أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله} يعذبهم الله فِي الْقَبْر {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} يلعنهم الْخَلَائق غير الْجِنّ وَالْإِنْس إِذا سمعُوا أَصْوَاتهم فِي الْقَبْر(1/22)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
{إِلاَّ الَّذين تَابُواْ} من الْيَهُودِيَّة {وَأَصْلَحُواْ} وحدوا {وَبَيَّنُواْ} صفة مُحَمَّد ونعته {فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أتجاوز عَنْهُم {وَأَنَا التَّوَّابُ} المتجاوز لمن تَابَ {الرَّحِيمُ} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/22)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
{إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} بِاللَّه وَرَسُوله {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله} عَذَاب الله {وَالْمَلَائِكَة} لعنة الْمَلَائِكَة {وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} لعنة الْمُؤمنِينَ بَعضهم بَعْضًا ترجع عَلَيْهِم(1/22)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
{خَالِدِينَ فِيهَا} فِي اللَّعْنَة {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَاب} لَا يرفع وَلَا يرفعهُ وَلَا يهون عَلَيْهِم الْعَذَاب {وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ} يؤجلون من الْعَذَاب(1/22)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
ثمَّ وحد نَفسه حِين جَحَدُوا وحدانيته فَقَالَ {وإلهكم إِلَه وَاحِدٌ} بِلَا ولد وَلَا شريك {لاَّ إِلَه إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَن} العاطف {الرَّحِيم} العطوف(1/22)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
ثمَّ ذكر عَلامَة وحدانيته فَقَالَ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} يَقُول فِي تخليقهما وَيُقَال فِيمَا خلق فيهمَا {وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} فِي تقليب اللَّيْل وَالنَّهَار وزيادتهما ونقصانهما {والفلك} وَفِي السفن {الَّتِي تَجْرِي} تسير {فِي الْبَحْر بِمَا يَنفَعُ النَّاس} فِي مَعَايشهمْ {وَمَآ أَنزَلَ الله} وَفِيمَا أنزل الله {مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ} مطر {فَأَحْيَا بِهِ} بالمطر {الأَرْض بعد مَوتهَا} بعد قحطها ويبوستهما {وَبَثَّ فِيهَا} خلق فِيهَا {مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} ذكر وَأُنْثَى(1/22)
{وَتَصْرِيفِ الرِّيَاح} وَفِي تقليب الرِّيَاح يَمِينا وَشمَالًا قبولاً ودبوراً مرّة بِالْعَذَابِ وَمرَّة بِالرَّحْمَةِ {والسحاب المسخر} وَفِي السَّحَاب الْمُذَلل {بَيْنَ السمآء وَالْأَرْض} يَقُول فِي كل هَؤُلَاءِ {لآيَاتٍ} لعلامات لوحدانية الرب {لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يصدقون أَنَّهَا من الله(1/23)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
ثمَّ ذكر حب الْكفَّار لمعبودهم فِي الدُّنْيَا وتبرؤ بَعضهم من بعض فِي الْآخِرَة فَقَالَ {وَمِنَ النَّاس} يَعْنِي الْكفَّار {مَن يَتَّخِذُ} من يعبد {مِن دُونِ الله أَندَاداً} أصناماً {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} كحب الْمُؤمنِينَ المخلصين لله {وَالَّذين آمَنُواْ أَشَدُّ} أدوم {حُبّاً للَّهِ} من الْكفَّار لأصنامهم وَيُقَال نزلت هَذِه الْآيَة فِي الْمُنَافِقين الَّذين اتَّخذُوا الدِّرْهَم وَالدَّنَانِير كنزاً وكهفاً وَيُقَال اتَّخذُوا رؤساءهم آلِهَة من دون الله {وَلَوْ يَرَى الَّذين ظلمُوا} لَو يعلم الَّذين أشركوا {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَاب} يَوْم الْقِيَامَة {أَنَّ الْقُوَّة} وَالْقُدْرَة والمنعة (للَّهِ جَمِيعًا وَأَن لله شَدِيدُ الْعَذَاب) فِي الْآخِرَة لآمنوا فِي الدُّنْيَا(1/23)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذين اتبعُوا} يَعْنِي القادة {مِنَ الَّذين اتبعُوا} يَعْنِي السفلة {وَرَأَوُاْ} يَعْنِي القادة والسفلة {الْعَذَاب} فِي الْآخِرَة {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَاب} الْعَهْد والإلفة بَينهم فِي الدُّنْيَا(1/23)
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
{وَقَالَ الَّذين اتبعُوا} يَعْنِي السفلة {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} رَجْعَة إِلَى الدُّنْيَا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} من القادة فِي الدُّنْيَا {كَمَا تبرؤوا مِنَّا} فِي الْآخِرَة {كَذَلِكَ} هَكَذَا {يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ} ندامات {عَلَيْهِمْ} فِي الْآخِرَة {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ} القادة والسفلة {مِنَ النَّار(1/23)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
! ثمَّ ذكر تَحْلِيل الْحَرْث والأنعام فَقَالَ {يَا أَيهَا النَّاس} يَا أهل مَكَّة {كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْض} من الْحَرْث والأنعام {حَلاَلاً طَيِّباً} بِغَيْر تَحْرِيم من الله {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَان} تَزْيِين الشَّيْطَان ووسوسته فِي تَحْرِيم الْحَرْث والأنعام {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظَاهر الْعَدَاوَة(1/23)
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
{إِنَّمَا يَأْمُركُمْ} الشَّيْطَان {بالسوء} بالقبيح من الْفِعْل {والفحشآء} الْمعاصِي {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله} من الْكَذِب {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ذَلِك(1/23)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} لمشركي الْعَرَب {اتبعُوا مَآ أَنزَلَ الله} اتبعُوا تَحْلِيل مَا بَين الله من الْحَرْث والأنعام {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ} وجدنَا عَلَيْهِ {آبَآءَنَآ} من التَّحْرِيم قَالَ الله {أَو لَو كَانَ آبَاؤُهُمْ} أَو لَيْسَ كَانَ آباؤهم وَقد كَانَ آباؤهم {لَا يعْقلُونَ شَيْئا} من الدّين {وَلَا يَهْتَدُونَ} لسنة نَبِي فَكيف تتبعونهم وَيُقَال وَإِن كَانَ آباؤهم لَا يعْقلُونَ شَيْئا من الدُّنْيَا وَلَا يَهْتَدُونَ لسنة نَبِي فَكيف تتبعونهم وَيُقَال وَإِن كَانَ آباؤهم لَا يعْقلُونَ شَيْئا من الدّين وَلَا يَهْتَدُونَ لسنة نَبِي أَنهم يتبعونهم(1/23)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
ثمَّ ضرب مثل الْكفَّار مَعَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ {وَمثل الَّذين كفرُوا} مَعَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ} يَقُول كَمثل المنعوق وَهُوَ الْإِبِل وَالْغنم مَعَ الناعق وَهُوَ الرَّاعِي الَّذِي ينعق بِصَوْت بِمَا لَا يسمع أَي لَا يفهم كَلَامه أَي كَلَام الرَّاعِي إِذا قَالَ لَهُ كل أَو اشرب {إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ} عَن الْحق {بُكْمٌ} عَن الْحق {عمي} عَن الْهدى أَي يتصامون ويتباكمون ويتعامون عَن الْحق وَالْهدى {فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} لَا يفقهُونَ أَمر الله ودعوة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا لَا تعقل الْإِبِل وَالْغنم كَلَام الرَّاعِي(1/23)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
ثمَّ ذكر أَيْضا تَحْلِيل الْحَرْث والأنعام فَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ} من حلالات {مَا رَزَقْنَاكُمْ} أعطيناكم من الْحَرْث والأنعام {واشكروا للَّهِ} بذلك {إِن كُنْتُمْ} إِذْ كُنْتُم {إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وَيُقَال إِن كُنْتُم تُرِيدُونَ بتحريمها عِبَادَته فَلَا تحرموها فَإِن عبَادَة الله فِي تحليلها(1/23)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
ثمَّ بَين مَا حرم عَلَيْهِم فَقَالَ {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْميتَة} الَّتِي أَمر بذبحها {وَالدَّم} دم المسفوح {وَلَحْمَ الْخِنْزِير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لغير الله}(1/23)
مَا ذبح لغير اسْم الله عمدا للأصنام {فَمَنِ اضْطر} أجهد إِلَى أكل الْميتَة {غَيْرَ بَاغٍ} غير خَارج وَلَا مستحل {وَلاَ عَادٍ} يَقُول وَلَا قَاطع الطَّرِيق وَلَا متعمد لأكلها بِغَيْر الضَّرُورَة {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} فَلَا حرج عَلَيْهِ بِأَكْل الْميتَة عِنْد الضَّرُورَة شبعاً وَلَا يتزود مِنْهَا شَيْئا {إِن الله غَفُور} بِأَكْلِهِ فَوق الْقُوت {رَّحِيمٌ} حِين رخص لَهُ أكل الْميتَة(1/24)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
{إِنَّ الَّذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الْكتاب} مَا بَين الله فِي التَّوْرَاة من صفة مُحَمَّد ونعته {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} بكتمانه {ثَمَناً قَلِيلاً} عوضا يَسِيرا نزلت فِي كَعْب بن الْأَشْرَف وحيي بن أَخطب وجدي بن أَخطب {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ} مَا يدْخلُونَ {فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّار} إِلَّا الْحَرَام وَيُقَال إِلَّا مَا يكون نَار فِي بطونهم يَوْم الْقِيَامَة {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} بِكَلَام طيب {يَوْمَ الْقِيَامَة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} وَلَا يبرئهم من الذُّنُوب وَيُقَال وَلَا يثني عَلَيْهِم ثَنَاء حسنا {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع يخلص وَجَعه إِلَى قُلُوبهم(1/24)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
{أُولَئِكَ الَّذين اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى} الْكفْر بِالْإِيمَان {وَالْعَذَاب بالمغفرة} الْيَهُودِيَّة بِالْإِسْلَامِ وَيُقَال اخْتَارُوا مَا تجب بِهِ النَّار على مَا تجب بِهِ الْجنَّة {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّار} يَقُول فَمَا أجرأهم على النَّار وَيُقَال فَمَا الَّذِي أجرأهم على النَّار وَيُقَال فَمَا أعملهم بِعَمَل أهل النَّار(1/24)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
{ذَلِكَ} الْعَذَاب {بِأَنَّ الله نَزَّلَ الْكتاب} أَي نزل جِبْرَائِيل بِالْقُرْآنِ والتوراة {بِالْحَقِّ} بتبيان الْحق وَالْبَاطِل فَكَفرُوا بِهِ {وَإِنَّ الَّذين اخْتلفُوا فِي الْكتاب} خالفوا مَا فِي الْكتاب من صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته وكتموا {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} لفي خلاف بعيد عَن الْهدى(1/24)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
{لَّيْسَ الْبر} كل الْبر وَيُقَال لَيْسَ الْبر لَيْسَ الْإِيمَان {أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} فِي الصَّلَاة {قِبَلَ الْمشرق} نَحْو الْكَعْبَة {وَالْمغْرب} نَحْو بَيت الْمُقَدّس {وَلَكِن الْبر} الْإِيمَان هُوَ إِقْرَار {مَنْ آمَنَ بِاللَّه} وَيُقَال لَيْسَ الْبر الْبَار وَلَكِن الْبر الْبَار يَعْنِي الْمُؤمن من آمن بِاللَّه {وَالْيَوْم الآخر} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {وَالْمَلَائِكَة} بجملة الْمَلَائِكَة {وَالْكتاب} بجملة الْكتاب {والنبيين} بجملة النَّبِيين ثمَّ ذكر الْوَاجِبَات بعد الْإِيمَان فَقَالَ {وَآتَى المَال على حُبِّهِ} يَقُول الْبر بعد الْإِيمَان إِعْطَاء المَال على حبه على قلته وشهوته {ذَوِي الْقُرْبَى} ذَا الْقَرَابَة فِي الرَّحِم {واليتامى} يتامى الْمُؤمنِينَ {وَالْمَسَاكِين} المستغفلين {وَابْن السَّبِيل} مار الطَّرِيق الضَّعِيف النَّازِل {والسآئلين} الَّذين يسالون مَالك {وَفِي الرّقاب} المكاتبين والغزاة ثمَّ الشَّرَائِع بعد الْوَاجِبَات فَقَالَ {وَأَقَامَ الصَّلَاة} يَقُول الْبر بعد الْوَاجِبَات إتْمَام الصَّلَوَات الْخمس {وَآتَى الزَّكَاة} أعْطى الزَّكَاة وَمَا يشبه ذَلِك {والموفون بِعَهْدِهِمْ} المتمون عَهدهم فِيمَا بَينهم وَبَين الله وَفِيمَا بَينهم وَبَين النَّاس {إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي البأسآء} يَعْنِي الْخَوْف والبلايا والشدائد {وَالضَّرَّاء} الْأَمْرَاض والأوجاع والجوع {وَحِينَ الْبَأْس} عِنْد الْقِتَال {أُولَئِكَ الَّذين صَدَقُواْ} وقوا {وَأُولَئِكَ هُمُ المتقون} عَن نقض العهود(1/24)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ كُتِبَ} فرض {عَلَيْكُمُ الْقصاص} الْقود فِي الْقَتْل {الْحر بِالْحُرِّ} عمدا {وَالْعَبْد بِالْعَبدِ} عمدا {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} عمدا نزلت فِي حيين من الْعَرَب وَهِي مَنْسُوخَة بقوله النَّفس بِالنَّفسِ {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} يَقُول من ترك لَهُ من حق أَخِيه شَيْء يَعْنِي الْقَتْل أَي عُفيَ عَن الْقَتْل وَأخذ الدِّيَة {فاتباع بِالْمَعْرُوفِ} أَمر الطَّالِب أَن يطْلب مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي ثَلَاث سِنِين إِن كَانَ دِيَة تَامَّة وَإِن كَانَ ثُلثي الدِّيَة أَو نصفهَا فَفِي سنتَيْن وَإِن كَانَ ثلثهَا فَفِي عَامه ذَلِك {وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ} أَمر الْمَطْلُوب أَن يُؤَدِّي إِلَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول حَقهم {بِِإِحْسَانٍ} بِغَيْر تقاض وتعب {ذَلِك} الْعَفو {تَخْفِيفٌ} تهوين {مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} للْقَاتِل من الْقَتْل {فَمَنِ اعْتدى بَعْدَ ذَلِك} بعد أَخذ الدِّيَة واعتداؤه أَن يَأْخُذ الدِّيَة وَيقتل أَيْضا {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(1/24)
يقتل وَلَا يُعْفَى عَنهُ وَلَا يُؤْخَذ مِنْهُ الدِّيَة(1/25)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
{وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة} بَقَاء وعبرة {يَا أولي الْأَلْبَاب} ذَوي الْعُقُول من النَّاس {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكَي تتقوا قتل بَعْضكُم بَعْضًا مخلة الْقصاص(1/25)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ} فرض عَلَيْكُم {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت} عِنْد الْمَوْت {إِن تَرَكَ خَيْراً} مَالا {الْوَصِيَّة لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين} الرَّحِم {بِالْمَعْرُوفِ} للْوَالِدين أفضل وَأكْثر {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} الْمُوَحِّدين وَهَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَة الْمَوَارِيث(1/25)
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
{فَمن بدله} غير وَصِيَّة الْمَيِّت {بعد مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} وزره {عَلَى الَّذين يُبَدِّلُونَهُ} يغيرونه وَنَجَا الْمَيِّت مِنْهُ {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لوَصِيَّة الْمَيِّت ومقالته {عَلِيمٌ} إِن جَار أَو عدل وَيُقَال عليم بِفعل الْوَصِيّ فَكَانُوا ينفذون الْوَصِيَّة كَمَا كَانَت وَإِن جَار مَخَافَة الْوزر حَتَّى نزل قَوْله(1/25)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ} علم من الْمَيِّت {جَنَفاً} ميلًا وَخطأ {أَوْ إِثْماً} عمدا فِي الجنف {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} بَين الْوَرَثَة وَبَين الْمُوصى لَهُ أَي رده إِلَى الثُّلُث وَالْعدْل {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} فَلَا حرج عَلَيْهِ فِي رده {إِنَّ الله غَفُورٌ} للْمَيت إِن جَار وَأَخْطَأ {رَّحِيمٌ} بِفعل الْمُوصي وَيُقَال غَفُور للْوَصِيّ رَحِيم حِين رخص عَلَيْهِ الرَّد إِلَى الثُّلُث وَالْعدْل(1/25)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ كُتِبَ} فرض {عَلَيْكُمُ الصّيام كَمَا كُتِبَ} فرض {عَلَى الَّذين مِن قَبْلِكُمْ} بِالْعدَدِ وَيُقَال كتب عَلَيْكُم الصّيام فرض عَلَيْكُم الصّيام بترك الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع بعد صَلَاة الْعَتَمَة أَو النّوم قبل صَلَاة الْعَتَمَة {كَمَا كُتِبَ} فرض {عَلَى الَّذين مِن قَبْلِكُمْ} من أهل الْكتاب {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكَي تتقوا الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع بعد صَلَاة الْعشَاء أَو النّوم قبل صَلَاة الْعشَاء وَهَذَا مَنْسُوخ بقوله {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة الصّيام الرَّفَث} وَبِقَوْلِهِ {وَكُلُواْ وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيط الْأَبْيَض}(1/25)
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
{أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} ثَلَاثِينَ يَوْمًا مقدم ومؤخر {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فليصم من أَيَّام أخر بِقدر مَا أنظر من رَمَضَان {وَعَلَى الَّذين يُطِيقُونَهُ} يَعْنِي يُطِيقُونَ الصَّوْم {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فليطعم مَكَان كل يَوْم أفطر نصف صَاع من حِنْطَة لمسكين وَهَذِه مَنْسُوخَة بقوله {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْر فَلْيَصُمْهُ} وَيُقَال {وَعَلَى الَّذين يُطِيقُونَهُ} يَعْنِي الْفِدْيَة وَلَا يُطِيقُونَ الصَّوْم يَعْنِي الشَّيْخ الْكَبِير والعجوز الْكَبِيرَة لَا يطيقان الصَّوْم فديَة طَعَام مِسْكين فليطعمان مَكَان كل يَوْم أفطرا من رَمَضَان نصف صَاع من حِنْطَة لمسكين {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} زَاد على منوين {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} بالثواب {وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} من الْفِدْيَة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} إِذا كُنْتُم تعلمُونَ(1/25)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي} هُوَ الَّذِي {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن} جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ جملَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا فأملاه على السفرة ثمَّ نزل بِهِ بعد ذَلِك على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمًا بِيَوْم آيَة وآيتين وَثَلَاثًا وَسورَة {هُدًى لِّلنَّاسِ} الْقُرْآن بَيَان من الضَّلَالَة للنَّاس {وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهدى} واضحات من أَمر الدّين {وَالْفرْقَان} الْحَلَال وَالْحرَام وَالْأَحْكَام وَالْحُدُود وَالْخُرُوج من الشُّبُهَات {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْر} فِي الْحَضَر {فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً} فِي شهر رَمَضَان {أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} فليصم {مِّن أَيَّامٍ أُخَرَ} بِقدر مَا أفطر {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْر} أَرَادَ الله بكم رخصَة الْإِفْطَار فِي السّفر وَيَقُول اخْتَار الله لكم الْإِفْطَار فِي السّفر {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعسر} لم يرد أَن يكون لكم الْعسر فِي الصَّوْم فِي السّفر وَيُقَال لم يخْتَر لكم الصَّوْم فِي السّفر {وَلِتُكْمِلُواْ الْعدة} لكَي تَصُومُوا فِي الْحَضَر عدَّة مَا أفطرتم فِي السّفر {وَلِتُكَبِّرُواْ الله} لكَي تعظموا الله {على مَا هدَاكُمْ} كَمَا اهداكم لدينِهِ ورخصته {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكَي تشكروا رخصته(1/25)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي} أهل الْكتاب {عَنِّي} أَقَرِيب أَنا أم بعيد {فَإِني قَرِيبٌ} فأعلمهم يَا مُحَمَّد أَنِّي قريب بالإجابة {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} فليطيعوا رَسُولي {وَلْيُؤْمِنُوا بِي} وبرسولي قبل الدعْوَة {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(1/25)
لكَي يهتدوا فيستجاب لَهُم الدُّعَاء(1/26)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَآئِكُمْ} المجامعة مَعَ نِسَائِكُم {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} سكن لكم {وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} سكن لَهُنَّ {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} بِالْجِمَاعِ بعد صَلَاة الْعَتَمَة {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} تجَاوز عَنْكُم {وَعَفَا عَنْكُمْ} خيانتكم وَلم يعاقبكم {فَالْآن} حِين أحلّت لكم {بَاشِرُوهُنَّ} جامعوهن {وابتغوا} اطْلُبُوا {مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} مَا قضى الله لكم من ولد صَالح نزلت فِي عمر بن الْخطاب {وَكُلُواْ وَاشْرَبُوا} من حِين يدْخل اللَّيْل {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيط الْأَبْيَض مِنَ الْخَيط الْأسود} يَعْنِي يتَبَيَّن لكم بَيَاض النَّهَار من سَواد اللَّيْل {مِنَ الْفجْر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيام إِلَى اللَّيْل} إِلَى دُخُول اللَّيْل نزلت فِي صرمة بن مَالك بن عدي {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ} وَلَا تجامعوهن {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ} معتكفون {فِي الْمَسَاجِد} لَيْلًا وَنَهَارًا {تِلْكَ حُدُودُ الله} تِلْكَ الْمُبَاشرَة مَعْصِيّة الله {فَلا تَقْرَبُوهَا} فاتركوا مُبَاشرَة النِّسَاء لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى تفرغوا من الِاعْتِكَاف {كَذَلِك} هَكَذَا {يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ} أمره وَنَهْيه {لِلنَّاسِ} كَمَا يبين هَذَا {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} لكَي يتقوا مَعْصِيّة الله نزلت على نفر من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ بن أبي طَالب عمار بن يَاسر وَغَيرهمَا كَانُوا معتكفين فِي الْمَسْجِد فَيَأْتُونَ إِلَى أَهَالِيهمْ إِذا احتاجوا ويجامعون نِسَاءَهُمْ ويغتسلون فيرجعون إِلَى الْمَسْجِد فنهاهم الله عَن ذَلِك(1/26)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
ثمَّ نزل فِي عبدن بن الأشوع وامرىء الْقَيْس {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} بالظلم وَالسَّرِقَة وَالْغَصْب وَالْحلف الْكَاذِب وَغير ذَلِك {وَتُدْلُوا بِهَا} لَا تلجوا بهَا {إِلَى الْحُكَّام} لتأكلوا {فَرِيقاً} لكَي تَأْكُلُوا طَائِفَة {مِّنْ أَمْوَالِ النَّاس بالإثم} بِالْحلف الْكَاذِب {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ذَلِك فَأقر امْرُؤ الْقَيْس بِالْمَالِ بنزول هَذِه الْآيَة(1/26)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
{يَسْأَلُونَك عَن الْأَهِلّة} عَن زِيَادَة لأهلة ونقصانها لماذا {قُلْ} يَا مُحَمَّد {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} عَلَامَات للنَّاس لقَضَاء دينهم وعدة لنسائهم وصومهم وإنظارهم {وَالْحج} وللحج نزلت فِي معَاذ بن جبل حِين سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك {وَلَيْسَ الْبر} الطَّاعَة وَالتَّقوى {بِأَن تَأْتُواْ الْبيُوت مِن ظُهُورِهَا} بِأَن تدْخلُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا من خلفهَا فِي الْإِحْرَام {وَلَكِن الْبر} الطَّاعَة فِي الْإِحْرَام {مَنِ اتَّقى} الصَّيْد وَغير ذَلِك {وَأتوا الْبيُوت} دخلُوا الْبيُوت {مِنْ أَبْوَابِهَا} الَّتِي كُنْتُم تدخلونها وتخرجون مِنْهَا قبل ذَلِك {وَاتَّقوا الله} واخشوا الله فِي الْإِحْرَام {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكَي تنجوا من السخط وَالْعَذَاب نزلت فِي نفر من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كنَانَة وخزاعة كَانُوا يدْخلُونَ بُيُوتهم فِي الْإِحْرَام من خلفهَا أَو من سطحها كَمَا فعلوا فِي الْجَاهِلِيَّة(1/26)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
{وقاتلوا فِي سَبِيل الله} فِي طَاعَة الله فِي الْحل وَالْحرم {الَّذين يقاتلونكم} يبدءونكم بِالْقِتَالِ {وَلاَ تَعْتَدوا} لَا تبتدئوا {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} المبتدئين بِالْقِتَالِ فِي الْحل وَالْحرم(1/26)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
{واقتلوهم} إِن بدءوكم {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} وَجَدْتُمُوهُمْ فِي الْحل وَالْحرم {وَأَخْرِجُوهُم} من مَكَّة {من حَيْثُ أخرجوكم} كَمَا أخروكم {والفتنة} الشّرك بِاللَّه وَعبادَة الْأَوْثَان {أَشَدُّ} أَمر {مِنَ الْقَتْل} فِي الْحرم {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ} بِالِابْتِدَاءِ {عِنْدَ الْمَسْجِد الْحَرَام} فِي الْحرم {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فِي الْحرم بِالِابْتِدَاءِ {فَإِن} بِالِابْتِدَاءِ {فاقتلوهم كَذَلِكَ} هَكَذَا {جَزَآءُ الْكَافرين} بِالْقَتْلِ(1/26)
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
{فَإِنِ انْتَهوا} عَن الْكفْر والشرك وتابوا {فَإِنَّ الله غَفُورٌ} لمن تَابَ {رَّحِيمٌ} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/26)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
{وَقَاتِلُوهُمْ} بِالِابْتِدَاءِ مِنْهُم فِي الْحل وَالْحرم {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} الشّرك بِاللَّه فِي الْحرم {وَيَكُونَ الدّين لِلَّهِ} يكون الْإِسْلَام وَالْعِبَادَة لله فِي الْحَرَام(1/26)
{فَإِنِ انْتَهوا} عَن قتالكم فِي الْحرم {فَلاَ عُدْوَانَ} فَلَا سَبِيل لكم بِالْقَتْلِ {إِلاَّ عَلَى الظَّالِمين} المبتدئين بِالْقَتْلِ(1/27)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
{الشَّهْر الْحَرَام} الَّذِي دخلت فِيهِ لقَضَاء الْعمرَة {بالشهر الْحَرَام} الَّذِي صدوك عَنهُ {والحرمات قِصَاصٌ} بدل {فَمَنِ اعْتدى} ابْتَدَأَ {عَلَيْكُمْ} بِالْقَتْلِ فِي الْحرم {فاعتدوا} فابتدئوا {عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتدى عَلَيْكُمْ} بِالْقَتْلِ {وَاتَّقوا الله} واخشوا الله بِالِابْتِدَاءِ {وَاعْلَمُوا أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} معِين الْمُتَّقِينَ بالنصرة(1/27)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
{وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله لقَضَاء الْعمرَة {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة} يَقُول لَا تمنعوا أَيْدِيكُم عَن النَّفَقَة فِي سَبِيل الله فَتَهْلكُوا وَيُقَال لَا تلقوا أَنفسكُم بِأَيْدِيكُمْ فِي التَّهْلُكَة وَيُقَال لَا تنهكوا فَتَهْلكُوا أَي لَا تيأسوا من رَحْمَة الله تهلكوا {وأحسنوا} أَي بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيل الله وَيُقَال أَحْسنُوا الظَّن فِي الله وَيُقَال أَحْسنُوا النَّفَقَة فِي سَبِيل لله {إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيل الله نزلت من قَوْله {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} إِلَى هَهُنَا فِي المحرمين مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَضَاء الْعمرَة بعد عَام الْحُدَيْبِيَة(1/27)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
{وَأَتِمُّواْ الْحَج وَالْعمْرَة لِلَّهِ} لتقبل الله بالإخلاص وإتمام الْحَج إِلَى آخِره وإتمام الْعمرَة إِلَى الْبَيْت {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} حبستم عَن الْحَج وَالْعمْرَة من عَدو أَو مرض {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي} فَعَلَيْكُم مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي شَاة أَو بقرة أَو بعير لترك الْحرم {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ} فِي الْحَبْس {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْي} الَّذِي تبعثون بِهِ {مَحِلَّهُ} منحره {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} لَا يَسْتَطِيع أَن يقوم مقَامه فِي الْحَبْس فَيرجع إِلَى بَيته قبل أَن يبلغ هَدْيه إِلَى مَحَله {أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} أَو فِي رَأسه قمل يحلق رَأسه نزلت فِي كَعْب بن عجْرَة وَكَانَ فِي رَأسه قمل فحلق رَأسه فِي الْحرم {ففدية من صِيَام} ففدوه صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام {أَوْ صَدَقَةٍ} على سِتَّة مَسَاكِين من أهل مَكَّة {أَوْ نُسُكٍ} شَاة يبْعَث بهَا إِلَى مَحَله {فَإِذَآ أَمِنتُمْْ} من الْعَدو وبرأتم من الْمَرَض فاقضوا مَا أوجب الله عَلَيْكُم من حج أَو عمْرَة من الْعَام الْقَابِل {فَمَن تَمَتَّعَ} بالطيب وباللباس {بِالْعُمْرَةِ} بعد قَضَاء الْعمرَة {إِلَى الْحَج} إِلَى أَن يحرم بِالْحَجِّ {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي} فَعَلَيهِ دم الْمُتْعَة وَدم الْقُرْآن والمتعة سَوَاء بقرة أَو شَاة أَو بعير {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} فَمن لم يسْتَطع أَن يفعل من هَذِه الثَّلَاثَة شَيْئا {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} فليصم ثَلَاثَة أَيَّام مُتَتَابِعَات {فِي الْحَج} فِي عشر الْحَج آخرهَا يَوْم عَرَفَة {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إِلَى أهاليكم فِي الطَّرِيق أَو فِي أهاليكم {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} مَكَان الْهَدْي {ذَلِك} يَعْنِي دم الْمُتْعَة {لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَام} لمن لم يكن أَهله ومنزله فِي الْحرم لِأَنَّهُ لَيْسَ على أهل الْحرم هدي التَّمَتُّع {وَاتَّقوا الله} خَشوا الله فِي ترك مَا أمرْتُم {وَاعْلَمُوا أَنَّ الله شَدِيدُ الْعقَاب} لمن ترك مَا أَمر من هدي أَو صَوْم(1/27)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
{الْحَج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} لِلْحَجِّ أشهر معروفات يحرم فِيهَا بِالْحَجِّ شَوَّال وَذي الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَج} فَمن أحرم فِيهِنَّ بِالْحَجِّ {فَلا رَفَثَ} فَلَا جماع فِي الْإِحْرَام {وَلاَ فُسُوقَ} الْأَسْبَاب وَلَا منابز {وَلَا جِدَال} لامري مَعَ صَاحبه {فِي الْحَج} فِي إِحْرَام الْحَج وَيُقَال لَا جدل فِي فَرضِيَّة الْحَج {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} مَا تتركوا من رفث وفسوق وجدال فِي الْحرم {يَعْلَمْهُ الله وَتَزَوَّدُواْ} يَا أولي الْأَلْبَاب من زَاد الدُّنْيَا مقدم ومؤخر يَقُول تزودا من الدُّنْيَا مَا تكفون بِهِ وُجُوهكُم عَن الْمَسْأَلَة ياذوي الْعُقُول من النَّاس وَإِلَّا توكلوا على الله {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّاد التَّقْوَى} فَإِن التَّوَكُّل خير زَاد من زَاد الدُّنْيَا {واتقون} اخشوني فِي الْحرم {يَا أولي الْأَلْبَاب} نزلت هَذِه الْآيَة فِي أنَاس من أهل الْيمن كَانُوا يحجون بِغَيْر زَاد فيصيبون فِي الطَّرِيق من أهل الْمنزل ظلما نَهَاهُم الله عَن ذَلِك(1/27)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} حرج {أَن تَبْتَغُواْ} تَطْلُبُوا {فضلا من ربكُم} بالنجارة فِي الْحرم نزلت فِي أنَاس كَانُوا لَا يرَوْنَ البيع وَالشِّرَاء فِي الْحرم فَرخص الله لَهُم ذَلِك {فَإِذا أَفَضْتُم من عَرَفَات} فَإذْ رجعتم من عَرَفَات إِلَى الْمشعر الْحَرَام {اذْكروا الله} بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان {عِندَ الْمشعر الْحَرَام واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} على مَا هدَاكُمْ {وَإِن كُنتُم} وَقد كُنْتُم {مِّن قَبْلِهِ} من قبل مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن وَالْإِسْلَام {لَمِنَ الضآلين} الْكَافرين(1/27)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس}(1/27)
يَقُول ارجعو من حَيْثُ رَجَعَ أهل الْيمن {وَاسْتَغْفرُوا الله} لذنوبكم {إِنَّ الله غَفُورٌ} لمن تَابَ {رَّحِيمٌ} لمن مَاتَ على التَّوْبَة نزلت فِي أنَاس يُقَال لَهُم الحمسيون كَانُوا لَا يُرِيدُونَ الْخُرُوج من الْحرم إِلَى عَرَفَات لحجهم فنهاهم الله عَن ذَلِك وَأمرهمْ أَن يذهبوا إِلَى عَرَفَات ويرجعوا من ثمَّ(1/28)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ} فَإِذا فَرَغْتُمْ من سنَن حَجكُمْ {فاذكروا الله} فَقولُوا يَا الله {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} بيا أبه وَيُقَال اذْكروا الله بِالْإِحْسَانِ إِلَيْكُم كذكركم آبَاءَكُم كَمَا ذكرْتُمْ آبَاءَكُم فِي الْجَاهِلِيَّة بِالْإِحْسَانِ {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} بل أَكثر ذكرا من ذكر آبائكم {فَمِنَ النَّاس مَن يَقُولُ} فِي الْموقف {رَبَّنَآ آتِنَا} أعطنا فِي الدُّنْيَا إبِلا وبقراً وَغنما وعبيداً وإماءً ومالاً {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة مِنْ خَلاَقٍ} من نصيب فِي الْجنَّة بحجه(1/28)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
{وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا} أعطنا {فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} الْعلم وَالْعِبَادَة والعصمة من الذُّنُوب وَالشَّهَادَة وَالْغنيمَة {وَفِي الْآخِرَة حَسَنَةً} الْجنَّة وَنَعِيمهَا {وَقِنَا عَذَابَ النَّار} ادْفَعْ عَنَّا عَذَاب الْقَبْر وَعَذَاب النَّار(1/28)
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
{أُولَئِكَ} أهل هَذِه الصّفة {لَهُمْ نَصِيبٌ} حَظّ وافر فِي الْجنَّة {مِّمَّا كَسَبُواْ} من حجهم {وَالله سَرِيعُ الْحساب} يَقُول إِذا حاسب فحسابه سريع وَيُقَال سريع الْحِفْظ وَيُقَال شَدِيد الْعقَاب لأهل الرِّيَاء(1/28)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
{واذْكُرُوا الله} بِالتَّكْبِيرِ والتهليل والتمجيد {فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} مَعْلُومَات أَيَّام التَّشْرِيق وَهِي خَمْسَة أَيَّام يَوْم عَرَفَة وَيَوْم النَّحْر وَثَلَاثَة أَيَّام بعدهمَا {فَمَن تَعَجَّلَ} بِرُجُوعِهِ إِلَى أَهله {فِي يَوْمَيْنِ} بعد يَوْم النَّحْر {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} بتعجيله {وَمَن تَأَخَّرَ} إِلَى الْيَوْم الثَّالِث {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} بِتَأْخِيرِهِ وَيُقَال فَلَا عتب عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِهِ يخرج مغفوراً لَهُ {لِمَنِ اتَّقى} يَقُول التَّعْجِيل لمن اتَّقى الصَّيْد إِلَى الْيَوْم الثَّالِث {وَاتَّقوا الله} واخشوا الله فِي أَخذ الصَّيْد إِلَى الْيَوْم الثَّالِث {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} بعد الْمَوْت(1/28)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)
{وَمن النَّاس من يُعْجِبك قَوْله} كَلَامه وَحَدِيثه وعلانيته {فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} فِي الدُّنْيَا {وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ} يحلف بِاللَّه إِنِّي أحبك وأتابعك {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام} جدل بِالْبَاطِلِ شَدِيد الْخُصُومَة(1/28)
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
{وَإِذَا تولى} غضب {سعى} مَشى {فِي الأَرْض لِيُفْسِدَ فِيِهَا} بِالْمَعَاصِي {وَيُهْلِكَ الْحَرْث} الزَّرْع والكدس بالحرق {والنسل} بهلك الْحَيَوَان بِالْقَتْلِ {وَالله لاَ يُحِبُّ الْفساد} والمفسد(1/28)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله} فِي صنعك {أَخَذَتْهُ الْعِزَّة بالإثم} الحمية بالتكبر {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} مصيره إِلَى جَهَنَّم {وَلَبِئْسَ المهاد} الْفراش والمصير نزلت هَذِه الْآيَة فِي الْأَخْنَس بن شريق وَكَانَ حسن المنظر حُلْو الْمنطق وَكَانَ يعجب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَلَامه بِأَنِّي أحبك وأبايعك فِي السِّرّ وَيحلف بِاللَّه على ذَلِك وَكَانَ منافقاً زَعَمُوا أَنه أحرق كدس قوم وَقتل حمَار الْقَوْم(1/28)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
{وَمِنَ النَّاس مَن يَشْرِي} من يَشْتَرِي {نَفْسَهُ} بِمَالِه {ابتغآء مَرْضَاتِ الله} طلب رضَا الله نزلت فِي صُهَيْب بن سِنَان وَأَصْحَابه اشْترى نَفسه بِمَالِه من أهل مَكَّة {وَالله رَؤُوفٌ بالعباد} الَّذين قتلوا بِمَكَّة نزلت فِي أَبَوي عمار بن يَاسر وَسُميَّة وَغَيرهم قَتلهمْ مشركو أهل مَكَّة(1/28)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ ادخُلُوا فِي السّلم كَآفَّةً} فِي شرائع دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَمِيعًا {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَان} تَزْيِين الشَّيْطَان فِي تَحْرِيم السبت وَلحم الْجمل وَغير ذَلِك {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظَاهر الْعَدَاوَة(1/28)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
{فَإِن زَلَلْتُمْ} ملتم عَن شرائع دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَينَات} بَيَان مَا فِي كتابكُمْ {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ} بالنقمة لمن لَا يُتَابع رَسُوله {حَكِيمٌ} فِي نسخ شرائع الأول نزلت فِي عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه لكراهيتهم السبت وَلحم الْجمل وَغير ذَلِك(1/28)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
{هَلْ يَنظُرُونَ} هَل ينْتَظر أهل مَكَّة {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} بِلَا كَيفَ يَوْم الْقِيَامَة {فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة} مقدم ومؤخر {وَقُضِيَ الْأَمر} فرغ من الْأَمر أَدخل أهل الْجنَّة الْجنَّة وَأهل النَّار النَّار(1/28)
{وَإِلَى الله تُرْجَعُ الْأُمُور} عواقب الْأُمُور فِي الْآخِرَة(1/29)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
{سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} قل لأَوْلَاد يَعْقُوب {كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} كم من مرّة كلمناهم بِالْأَمر وَالنَّهْي وأكرمناهم بِالدينِ فِي زمَان مُوسَى فبدلوا ذَلِك بالْكفْر {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} من يُغير دين الله وَكتابه بالْكفْر {من بعد مَا جَاءَتْهُ} من بعد مَا جَاءَ مُحَمَّد بِهِ {فَإِنَّ الله شَدِيدُ الْعقَاب} لمن كفر بِهِ(1/29)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
{زُيِّنَ} حسن {لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أبي جهل وَأَصْحَابه {الْحَيَاة الدُّنْيَا} مَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا من سَعَة الْمَعيشَة {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذين} على الَّذين {آمَنُواْ} سلمَان وبلال وصهيب وَأَصْحَابه بِضيق الْمَعيشَة {وَالَّذين اتَّقوا} الْكفْر والشرك يَعْنِي سلمَان وَأَصْحَابه {فَوْقَهُمْ} فِي الْحجَّة فِي الدُّنْيَا وَالْقدر والمنزلة فِي الْجنَّة {يَوْمَ الْقِيَامَة وَالله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} يُوسع المَال على من يَشَاء {بِغَيْرِ حِسَاب} بِغَيْر حزم وتكلف وَيُقَال ويرزق من يَشَاء فِي الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب بِغَيْر فَوت وَلَا اهتداء(1/29)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
{كَانَ النَّاس} فِي زمن نوح وَإِبْرَاهِيم {أُمَّةً وَاحِدَةً} على مِلَّة وَاحِدَة الْكفْر وَيُقَال كَانُوا فِي زمن إِبْرَاهِيم مُسلمين {فَبَعَثَ الله النَّبِيين} من ذُرِّيَّة نوح وَإِبْرَاهِيم {مُبَشِّرِينَ} بِالْجنَّةِ لمن آمن بِاللَّه {وَمُنذِرِينَ} من النَّار لمن لم يُؤمن بِاللَّه {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكتاب} أنزل عَلَيْهِم جِبْرَائِيل بِالْكتاب {بِالْحَقِّ} مُبينًا الْحق وَالْبَاطِل {لِيَحْكُمَ} كل نَبِي بكتابه {بَيْنَ النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ} فِي الدّين وَيُقَال ليحكم الْكتاب وَإِن قَرَأت بِالتَّاءِ أَرَادَ بِهِ النَّبِي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَمَا اخْتلف فِيهِ} فِي الدّين وَمُحَمّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {إِلاَّ الَّذين أُوتُوهُ} أَعْطوهُ يَعْنِي الْكتاب {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَينَات} بَيِّنَات مَا فِي كِتَابهمْ {بَغْياً بَيْنَهُمْ} حسداً مِنْهُم فَكَفرُوا بِهِ {فَهَدَى الله الَّذين آمَنُواْ} بالنبيين {لِمَا اخْتلفُوا فِيهِ} من الِاخْتِلَاف فِي الدّين {من الْحق} إِلَى الْحق وَيُقَال فهدي الله الَّذين آمنُوا فحفظ الله الَّذين آمنُوا بالنبيين لما اخْتلفُوا فِيهِ من الِاخْتِلَاف فِي الدّين من الْحق إِلَى الْبَاطِل {بِإِذْنِهِ} بكرامته وإرادته {وَالله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} من كَانَ أَهلا لذَلِك وَيُقَال يثبت من يَشَاء {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} على دين قَائِم يرضيه(1/29)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
{أَمْ حَسِبْتُمْ} أظننتم يَا معشر الْمُؤمنِينَ يَعْنِي عُثْمَان وَأَصْحَابه {أَن تَدْخُلُواْ الْجنَّة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} أَي لم تبتلوا بِمثل مَا ابتلى الَّذين مضوا من قبلكُمْ من الْمُؤمنِينَ {مَّسَّتْهُمُ} أَصَابَتْهُم {البأسآء} الْخَوْف والبلايا والشدائد {والضرآء} الْأَمْرَاض والأوجاع والجوع {وَزُلْزِلُواْ} حركوا فِي الشدَّة {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُول} حَتَّى قَالَ رسولهم {وَالَّذين آمَنُواْ مَعَهُ} بِهِ {مَتى نَصْرُ الله} على الْأَعْدَاء قَالَ الله لذَلِك النَّبِي {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله} على الْأَعْدَاء بنجاتكم {قريب}(1/29)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
{يَسْأَلُونَكَ} يَا مُحَمَّد وَكَانَ هَذَا السُّؤَال قبل آيَة الْمَوَارِيث {مَاذَا يُنْفِقُونَ} على من يتصدقون {قل مَا أنفقتم من خير} من مَال {فَلِلْوَالِدَيْنِ} فعلى الْوَالِدين {والأقربين} وعَلى الْأَقْرَبين ثمَّ نسخت الصَّدَقَة بعد ذَلِك على الْوَالِدين بِآيَة الْمَوَارِيث {واليتامى} يَقُول تصدقوا على الْيَتَامَى يتامى النَّاس {وَالْمَسَاكِين} مَسَاكِين النَّاس {وَابْن السَّبِيل} الضَّيْف النَّازِل {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} مَا تنفقوا من مَال هَؤُلَاءِ {فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} أَي عَالم بِهِ وبنياتكم يجزيكم بِهِ(1/29)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
{كُتِبَ} فرض {عَلَيْكُمُ الْقِتَال} فِي أَوْقَات النفير الْعَام مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} الْجِهَاد فِي سَبِيل الله {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} تصيبون الشَّهَادَة وَالْغنيمَة {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً} الْجُلُوس عَن الْجِهَاد {وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} لَا تصيبون الشَّهَادَة وَلَا الْغَنِيمَة {وَالله يَعْلَمُ} أَن الْجِهَاد خير لكم {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أَن الْجُلُوس شَرّ لكم نزلت فِي سعد بن أبي وَقاص والمقداد بن الْأسود وأصحابهما ثمَّ نزلت فِي شَأْن عبد الله ابْن جحش وَأَصْحَابه وقتلهم عَمْرو بن الْحَضْرَمِيّ وسؤالهم عَن الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام يَعْنِي رجباً آخر عَشِيَّة جُمَادَى الْآخِرَة قبل رُؤْيَة هِلَال رَجَب وملامة الْمُشْركين لَهُم بذلك فَقَالَ(1/29)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
{يَسْأَلُونَكَ} يَا مُحَمَّد عَنِ {الشَّهْر الْحَرَام قِتَالٍ فِيهِ} يَقُول يَسْأَلُونَك عَن الْقِتَال فِي الشَّهْر الْحَرَام يَعْنِي رجباً {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} فِي رَجَب {كَبِيرٌ} فِي الْعقُوبَة {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} وَلَكِن صرف النَّاس عَن دين الله وطاعته {وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِد الْحَرَام} وَصد النَّاس عَن الْمَسْجِد الْحَرَام {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} عُقُوبَة {عِندَ الله} من قتل عَمْرو بن الْحَضْرَمِيّ {والفتنة} الشّرك بِاللَّه {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل} من قتل عَمْرو بن الْحَضْرَمِيّ {وَلاَ يَزَالُونَ} يَعْنِي أهل مَكَّة {يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ} يرجعوكم {عَن دِينِكُمْ} الْإِسْلَام {إِن اسْتَطَاعُواْ} قدرُوا {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ} الْإِسْلَام {فَيَمُتْ} وَمن يمت {وَهُوَ كَافِر فَأُولَئِك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطلت أَعْمَالهم وَردت حسناتهم {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} وَلَا يجزون بهَا فِي الْآخِرَة {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّار} أهل النَّار {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} مقيمون لَا يموتون وَلَا يخرجُون(1/30)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
ثمَّ نزل أَيْضا فِي شَأْن عبد الله بن جحش وَأَصْحَابه فَقَالَ {إِنَّ الَّذين آمَنُواْ} بِاللَّه وَرَسُوله {وَالَّذين هَاجَرُواْ} من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة {وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله} فِي قتل عَمْرو بن الْحَضْرَمِيّ الْكَافِر {أُولَئِكَ يرجون رَحْمَة الله} ينالون جنَّة الله {وَالله غَفُورٌ} لصنيعهم {رَحِيمٌ} بهم إِذْ لم يعاقبهم(1/30)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخمر وَالْميسر} نزلت فِي شَأْن عمر بن الْخطاب لقَوْله اللَّهُمَّ أرنا رَأْيك فِي الْخمر فَقَالَ الله لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يَسْأَلُونَك عَن الْخمر وَالْميسر عَن شرب الْخمر والقمار {قُلْ} يَا مُحَمَّد {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} بعد التَّحْرِيم {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} قبل التَّحْرِيم بِالتِّجَارَة بهما {وَإِثْمُهُمَآ} بعد التَّحْرِيم {أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} قبل التَّحْرِيم ثمَّ حرم بعد ذَلِك فِي كليهمَا {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} نزلت فِي شَأْن عَمْرو بن الجموح سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاذَا نتصدق من أَمْوَالنَا فَقَالَ الله لنَبيه ويسألونك مَاذَا يُنْفقُونَ مَاذَا يتصدقون من أَمْوَالهم {قُلِ الْعَفو} مَا فضل من الْقُوت وَأكل الْعِيَال ثمَّ نسخ ذَلِك بِآيَة الزَّكَاة {كَذَلِك} هَكَذَا {يبين الله لكم الْآيَات} الْأَمر وَالنَّهْي وَهُوَ أَن الدُّنْيَا {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}(1/30)
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
{فِي الدُّنْيَا} أَنَّهَا فانية {وَالْآخِرَة} أَنَّهَا بَاقِيَة {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} نزلت فِي شَأْن عبد الله ابْن رَوَاحَة سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مُخَالطَة الْيَتَامَى فِي الطَّعَام وَالشرَاب والمسكن يجوز أم لَا فَقَالَ الله لنَبيه ويسألونك عَن الْيَتَامَى عَن مُخَالطَة الْيَتَامَى بِالطَّعَامِ وَالشرَاب والمسكن {قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِصْلاَحٌ لَّهُمْ} ولمالهم {خَيْرٌ} من ترك مخالطتهم {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} فِي الطَّعَام وَالشرَاب والمسكن {فَإِخْوَانُكُمْ} فهم إخْوَانكُمْ فِي الدّين فاحفظوا أنصابهم {وَالله يَعْلَمُ الْمُفْسد} لمَال الْيَتِيم {مِنَ المصلح} لمَال الْيَتِيم {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} لحرم المخالطة عَلَيْكُم {إِنَّ الله عَزِيزٌ} بالنقمة لمفسد مَال الْيَتِيم {حَكِيمٌ} يحكم بإصلاح مَال الْيَتِيم(1/30)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
{وَلَا تنْكِحُوا المشركات} نزلت فِي مرْثَد ابْن أبي مرْثَد الغنوي الَّذِي أَرَادَ أَن يتَزَوَّج امْرَأَة مُشركَة تسمى عنَاق فنهي الله عَن ذَلِك فَقَالَ {وَلَا تنْكِحُوا المشركات} يَقُول لَا تتزوجوا المشركات بِاللَّه {حَتَّى يُؤْمِنَّ} بِاللَّه {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ} يَقُول نِكَاح أمة مُؤمنَة {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} من نِكَاح حرَّة مُشركَة {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} حسنها وجمالها وكَذَلِك {وَلَا تُنْكِحُواْ الْمُشْركين} أَي لَا تزوجوا الْمُشْركين بِاللَّه {حَتَّى يُؤْمِنُواْ} بِاللَّه {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ} يَقُول تزويجكم لعبد مُؤمن {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} من تزويجكم لحر مُشْرك {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} بدنه وقوته {أُولَئِكَ} الْمُشْركُونَ {يَدْعُونَ إِلَى النَّار} يدعونَ إِلَى الْكفْر وَعمل النَّار {وَالله يَدْعُو إِلَى الْجنَّة} بِالتَّوْحِيدِ {وَالْمَغْفِرَة} بِالتَّوْبَةِ {بِإِذْنِهِ} بأَمْره {وَيبين آيَاته}(1/30)
أمره وَنَهْيه فِي التَّزْوِيج {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لكَي يتعظوا وينتهوا عَن تَزْوِيج الْحَرَام(1/31)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيض} نزلت فِي شَأْن أبي لدحداح سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ الله لنَبيه ويسألونك عَن الْمَحِيض عَن مجامعة النِّسَاء فِي الْمَحِيض {قُلْ} يَا مُحَمَّد {هُوَ أَذًى} قذر حرَام {فاعتزلوا النسآء فِي الْمَحِيض} فاتركوا مجامعة النِّسَاء فِي الْمَحِيض {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} بِالْجِمَاعِ {حَتَّى يَطْهُرْنَ} من الْحيض {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} واغتسلن {فَأْتُوهُنَّ} جامعوهن {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} من حَيْثُ رخص لكم الله قبل ذَلِك فِي الْفروج {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين} الراجعين من الذُّنُوب {وَيُحِبُّ المتطهرين} من الذُّنُوب والأدناس(1/31)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} يَقُول فروج نِسَائِكُم مزرعة لأولادكم {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} مزرعتكم {أَنى شِئْتُمْ} كَيفَ شِئْتُم مقبلة أَو مُدبرَة إِذا كَانَ فِي صمام وَاحِد {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} من ولد صَالح {وَاتَّقوا الله} اخشوا الله فِي أدبار النِّسَاء ومجامعتهن فِي الْحيض {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ} معاينوه بعد الْمَوْت فيجزيكم بأعمالكم {وَبَشِّرِ الْمُؤمنِينَ} يَقُول وَبشر يَا مُحَمَّد الْمُؤمنِينَ الْمُتَّقِينَ عَن أدبار النِّسَاء ومجامعتهن فِي الْحيض بِالْجنَّةِ(1/31)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
{وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً} عِلّة {لأَيْمَانِكُمْ} نزلت فِي شَأْن عبد الله بن رَوَاحَة إِذْ حلف بِاللَّه أَن لَا يحسن إِلَى أُخْته وَخَتنه وَلَا يكلمهما وَلَا يصلح بَينهمَا فَنَهَاهُ الله عَن ذَلِك فَقَالَ وَلَا تجْعَلُوا الله عرضة لأيمانكم أَي عِلّة لَا تحلفُوا {أَن تَبَرُّواْ} أَن لَا تبروا {وَتَتَّقُواْ} وَأَن لَا تتقوا عَن قطيعة الرَّحِم {وَتُصْلِحُواْ} وَأَن لَا تصحلوا {بَيْنَ النَّاس} يَقُول ارْجعُوا إِلَى مَا هُوَ خير لكم وَكَفرُوا عَن يمينكم وَيُقَال أَن لَا تبروا أَي لَا تحسنوا إِلَى أحد وتتقوا أَي يَقُول اتَّقوا عَن الْحلف بِاللَّه فِي ترك الْإِحْسَان وتصلحوا أصلحوا بَين النَّاس {وَالله سَمِيعٌ} بيمينكم لترك الْإِحْسَان {عَلِيمٌ} بنياتكم وبكفارة الْيَمين(1/31)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} يَقُول بكفارة أَيْمَانكُم بقولكم لَا وَالله وبلى وَالله فِي الشِّرَاء وَالْبيع وَغير ذَلِك من اللَّغْو {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} تضمر قُلُوبكُمْ بذلك {وَالله غَفُورٌ} لأيمانكم بِاللَّغْوِ {حَلِيمٌ} إِذْ لم يعجلكم بالعقوبة وَيُقَال اللَّغْو يَمِين على الْمعْصِيَة فَإِن تَركه وَكفر عَن يَمِينه لَا يؤاخذه وَإِن فعل يؤاخذه(1/31)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} يتركون مجامعة نِسَائِهِم بِالْحلف لَا يقربهَا أَرْبَعَة أشهر أَو فَوق ذَلِك {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} يَقُول انْتِظَار أَرْبَعَة أشهر {فَإِن فاؤوا} فَإِن جامعوا قبل أَرْبَعَة أشهر {فَإِنَّ الله غَفُورٌ} ليمينهم إِن تَابُوا {رَّحِيمٌ} إِذْ بَين كفارتهم(1/31)
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
{وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاق} حققوا الطَّلَاق وبروا يمينهم {فَإِنَّ الله سَمِيعٌ} ليمينه {عَلِيمٌ} بِمَا بَانَتْ امْرَأَته مِنْهُ بتطليقة وَاحِدَة بعد أَرْبَعَة أشهر وبكفارة يَمِينه نزل ذَلِك فِي رجل يحلف بِاللَّه أَن لَا يقرب امْرَأَته بِالْجِمَاعِ أَرْبَعَة أشهر أَو فَوق ذَلِك فَإِن بر يَمِينه وَترك مجامعتها حَتَّى تجَاوز أَرْبَعَة أشهر بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَته بتطليقة وَاحِدَة وَإِن جَامعهَا قبل ذَلِك فَعَلَيهِ كَفَّارَة الْيَمين(1/31)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
{والمطلقات} وَاحِدَة أَو اثْنَتَيْنِ {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} ينتظرن بِأَنْفُسِهِنَّ فِي الْعدة {ثَلَاثَة قُرُوء} ثَلَاث حيض {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ} الْحَبل {مَا خَلَقَ الله فِي أَرْحَامِهِنَّ} من ولد {إِن كُنَّ} إِذْ كن {يُؤْمِنَّ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَبُعُولَتُهُنَّ} أَزوَاجهنَّ {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} بمراجعتهن {فِي ذَلِكَ} فِي ذَلِك الْحَبل أَو الْعدة {إِنْ أَرَادوا إِصْلاَحاً} مُرَاجعَة لِأَن فِي بَدْء الْإِسْلَام كَانَ إِذا طلق الرجل امْرَأَته تَطْلِيقَة أَو تَطْلِيقَتَيْنِ كَانَ أملك برجعتها بعد انْقِضَاء الْعدة قبل التَّزْوِيج فنسخ ملك الرّجْعَة بقوله {الطَّلَاق مَرَّتَانِ} وَكَذَلِكَ فِي الْحَبل كَانَ أَحَق برجعتها فِي ذَلِك الْحَبل وَلَو طَلقهَا ألف مرّة فنسخ الله ملك الرّجْعَة بقوله {فطلقوهن لعدتهن} {وَلَهُنَّ} من الْحق وَالْحُرْمَة على أَزوَاجهنَّ {مِثْلُ الَّذِي} للأزواج {عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فِي إِحْسَان الصُّحْبَة والمعاشرة {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة}(1/31)
فَضِيلَة فِي الْعقل وَالْمِيرَاث وَالدية وَالشَّهَادَة وَبِمَا عَلَيْهِم من النَّفَقَة والخلعة {وَالله عَزِيز} بالنقمة لمن ترك مَا بَين الْمَرْأَة وَالزَّوْج من الْحق والحرمان {حَكِيمٌ} فِيمَا حكم بَينهمَا(1/32)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
{الطَّلَاق مَرَّتَانِ} يَقُول طَلَاق الرّجْعَة مَرَّتَانِ {فَإِمْسَاكٌ} قبل التطليقة الثَّالِثَة وَقبل الِاغْتِسَال من الْحَيْضَة الثَّلَاثَة {بِمَعْرُوف} بِحَق الصُّحْبَة والمعاشرة {أَوْ تَسْرِيحٌ} أَو يطلقهَا الثَّالِثَة بِإِحْسَان يُؤَدِّي حَقّهَا {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ} أعطيتموهن من الْمهْر {شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ} يعلمَا الزَّوْج وَالْمَرْأَة عِنْد الْخلْع {أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} أَحْكَام الله فِيمَا بَين الْمَرْأَة وَالزَّوْج {فَإِن خِفْتُمْ} علمْتُم {أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} أَحْكَام الله فِيمَا بَين الْمَرْأَة وَالزَّوْج {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} على الزَّوْج خَاصَّة {فِيمَا افتدت بِهِ} أَن يَأْخُذ مَا اشترت الْمَرْأَة نَفسهَا بِهِ من الزَّوْج بِطيبَة نَفسهَا نزلت فِي ثَابت بن قيس ابْن شماس وَامْرَأَته جميلَة بنت عبد الله بن أبي سلول رَأس الْمُنَافِقين اشترت نَفسهَا من زَوجهَا بمهرها {تِلْكَ حُدُودُ الله} هَذِه أَحْكَام الله بَين الْمَرْأَة وَالزَّوْج {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} فَلَا تجاوزوها إِلَى مَا نهى الله تَعَالَى لكم {وَمَن يَتَعَدَّ} تجَاوز {حُدُودَ الله} أَحْكَام الله إِلَى مَا نهى الله عَنهُ {فَأُولَئِك هُمُ الظَّالِمُونَ} الضارون لأَنْفُسِهِمْ(1/32)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
ثمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْله الطَّلَاق مَرَّتَانِ فَقَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَة {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ} تِلْكَ الْمَرْأَة مِن بَعْدُ التطليقة الثَّالِثَة {حَتَّى تَنْكِحَ} تتَزَوَّج {زَوْجاً غَيْرَهُ} وَيدخل بهَا الثَّانِي {فَإِن طَلَّقَهَا} الزَّوْج الثَّانِي نزلت فِي عبد الرَّحْمَن ابْن الزبير {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ} على الزَّوْج الأول وَالْمَرْأَة {أَن يَتَرَاجَعَآ} بِمهْر وَنِكَاح جَدِيد {إِن ظَنَّآ} علما {أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله} أَحْكَام الله فِيمَا بَين الْمَرْأَة وَالزَّوْج {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} هَذِه أَحْكَام الله فَرَائِضه(1/32)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
{يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أَنه من الله ويصدقون بذلك {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} وَاحِدَة {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} عدتهن قبل الِاغْتِسَال من الْحَيْضَة الثَّالِثَة {فَأَمْسِكُوهُنَّ} فراجعوهن {بِمَعْرُوفٍ} بِحسن الصُّحْبَة والمعاشرة {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} اتركوهن حَتَّى يغتسلن ويخرجن من الْعدة {بِمَعْرُوفٍ} يُؤَدِّي حقهن {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} بالضرار {لِّتَعْتَدُواْ} لتظلموا عَلَيْهِنَّ ولتطيلوا عَلَيْهِنَّ الْعدة {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} الضرار {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ضرّ بِنَفسِهِ {وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ الله} أَمر الله وَنَهْيه {هُزُواً} استهزاء لَا تعلمُونَ بهَا {واذْكُرُوا نِعْمَةَ الله} احْفَظُوا منَّة الله {عَلَيْكُمْ} الْإِسْلَام {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكتاب} فِي الْكتاب من الْأَمر وَالنَّهْي {وَالْحكمَة} الْحَلَال وَالْحرَام {يَعِظُكُمْ بِهِ} يَنْهَاكُم عَن الضرار {وَاتَّقوا الله} اخشوا الله فِي الضرار {وَاعْلَمُوا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ} من الضرار وَغَيره {عَلِيمٌ}(1/32)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} تَطْلِيقَة وَاحِدَة أَو تَطْلِيقَتَيْنِ {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} فانقضت عدتهن وأردن أَن يرجعن إِلَى أَزوَاجهنَّ الأول مهر وَنِكَاح جَدِيد {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} تمنعوهن {أَن يَنكِحْنَ} أَن يتزوجن {أَزْوَاجَهُنَّ} الأول وَإِن قَرَأت بخفض الضَّاد فَهُوَ الْحَبْس {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ} إِذا اتَّفقُوا فِيمَا بَينهم {بِالْمَعْرُوفِ} بِمهْر وَنِكَاح جَدِيد {ذَلِك} الَّذِي ذكرت {يُوعَظُ بِهِ} يُؤمر بِهِ {مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِكُم} الَّذِي ذكرت {أزكى لَكُمْ} أصح لكم {وَأَطْهَرُ} لقلوبكم وقلوبهن من الرِّيبَة والعداوة {وَالله يَعْلَمُ} حب الْمَرْأَة للزَّوْج {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذَلِك نزلت هَذِه الْآيَة فِي معقل بن يسَار الْمُزنِيّ لمَنعه أُخْته جميلَة الرُّجُوع إِلَى زَوجهَا الأول عبد الله بن عَاصِم بِمهْر وَنِكَاح جَدِيد فَنَهَاهُ الله عَن ذَلِك(1/32)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
{والوالدات} المطلقات {يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} سنتَيْن كاملتين {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضَاعَة} رضَاع الْوَلَد {وَعلَى الْمَوْلُود لَهُ} يَعْنِي الْأَب {رِزْقُهُنَّ} نفقتهن على الرَّضَاع {وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} بِغَيْر إِسْرَاف وَلَا تقتير {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ} بِالنَّفَقَةِ على الرَّضَاع {إِلَّا وسعهَا} الا بِقدر مَا أَعْطَاهَا الله من المَال {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَة بِوَلَدِهَا} يُؤْخَذ وَلَدهَا بَعْدَمَا رضيت بِمَا أَعْطَتْ غَيرهَا على الرَّضَاع {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ} يَعْنِي الْأَب {بِوَلَدِهِ} بطرح الْوَلَد عَلَيْهِ بَعْدَمَا عرف أَنه وَلَا يقبل ثدي غَيرهَا {وَعَلَى الْوَارِث} وَارِث لأَب وَيُقَال وَارِث الصَّبِي {مِثْلُ ذَلِك} مثل مَا على الْأَب من النَّفَقَة وَترك الضرار إِذا لم يكن الْأَب(1/32)
{فَإِنْ أَرَادَا} يَعْنِي الزَّوْج وَالْمَرْأَة {فِصَالاً} فصَال الصَّبِي عَن اللَّبن قبل الْحَوْلَيْنِ يَعْنِي فطاماً {عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا} بتراضي الْأَب وَالأُم {وَتَشَاوُرٍ} بمشاورتهما {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} على الْأَب وَالأُم إِن لم يرضعا ولدهما سنتَيْن {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ} غير الْأُم وأرادت الْأُم أَن تتَزَوَّج {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَلَا حرج على الْأَب وَالأُم {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم} إِذا أنفقتم مَا أعطيتم {بِالْمَعْرُوفِ} بالموافقة بِغَيْر مُخَالفَة {وَاتَّقوا الله} واخشوا الله فِي الضرار والمخالفة {وَاعْلَمُوا أَنَّ الله} بِمَا تَعْمَلُونَ من الْمُوَافقَة الْمُخَالفَة الضرار {بَصِيرٌ}(1/33)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
{وَالَّذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} يموتون من رجالكم {وَيَذَرُونَ} يتركون {أَزْوَاجاً} بعد الْمَوْت {يَتَرَبَّصْنَ} ينتظرن {بِأَنْفُسِهِنَّ} فِي الْعدة {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} يَعْنِي عشرَة أَيَّام {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} فَإِذا انْقَضتْ عدتهن {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} على أَوْلِيَاء الْمَيِّت فِي تركهن {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} من الزِّينَة {بِالْمَعْرُوفِ} للتزويج {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر {خَبِير}(1/33)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} لَا حرج على الْخطاب {فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء} فِيمَا عرضتم أَنفسكُم على الْمَرْأَة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا قبل انْقِضَاء الْعدة لتزوجها بعد انْقِضَاء الْعدة وَهُوَ أَن يَقُول لَهَا إِن جمع الله بَيْننَا بالحلال يُعجبنِي ذَلِك {أَوْ أَكْنَنتُمْ} أضمرتم ذَلِك {فِي أَنْفُسِكُمْ} فِي قُلُوبكُمْ {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} تذكرُونَ نِكَاحهنَّ {وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} بِالْجِمَاعِ {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} صَحِيحا ظَاهرا وَهُوَ أَن يَقُول إِن جمع الله بَيْننَا بالحلال يُعجبنِي ذَلِك لَا يزِيد على ذَلِك {وَلاَ تَعْزِمُواْ} لَا تحققوا {عُقْدَةَ النِّكَاح حَتَّى يَبْلُغَ الْكتاب أَجَلَهُ} حَتَّى تبلغ الْعدة وَقتهَا {وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ} فِي قُلُوبكُمْ من الْوَفَاء وَالْخلاف على مَا قُلْتُمْ {فَاحْذَرُوهُ} فاحذروا مُخَالفَته {وَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ} لمن تَابَ من مُخَالفَته {حَلِيمٌ} إِذْ لم يعجله بالعقوبة(1/33)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} لَا حرج عَلَيْكُم {إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} تجامعوهن {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} أَو لم تبينوا لَهُنَّ مهْرا {وَمَتِّعُوهُنَّ} مُتْعَة الطَّلَاق {عَلَى الموسع قَدَرُهُ} على الْمُوسر قدر مَاله {وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ} قدر مَاله {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} فَوق مهر الْبَغي أدناه درع وخمار وَمِلْحَفَة {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} وَاجِبا على الْمُوَحِّدين لِأَنَّهُ بدل الْمهْر(1/33)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
ثمَّ بَين حكم من سمى مهرهَا فَقَالَ {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} تجامعوهن {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} وَقد بينتم مهورهن {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَعَلَيْكُم نصف مَا سميتم من مهرهن {إِلاَّ أَن يَعْفُونَ} إِلَّا أَن تتْرك الْمَرْأَة حَقّهَا على الزواج {أَو يعْفُو الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاح} أَو يتْرك الزَّوْج حَقه على الْمَرْأَة ليعطي مهرهَا كَامِلا {وَأَن تعفوا} تتركوا حقكم {أَقْرَبُ للتقوى} أقرب لِلْمُتقين إِلَى التَّقْوَى يَقُول للزَّوْج وَالْمَرْأَة من ترك حَقه على صَاحبه فَهُوَ أولى بالتقوى {وَلاَ تنسوا الْفضل بَيْنكُم} يَقُول للْمَرْأَة وَالزَّوْج لاتتركوا الْفضل وَالْإِحْسَان بَعْضكُم إِلَى بعض {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الْفضل وَالْإِحْسَان {بَصِيرٌ}(1/33)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
ثمَّ حث على الصَّلَوَات الْخمس فَقَالَ(1/33)
{حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَات} الْخمس بوضوئها وركوعها وسجودها وَمَا يجب فِيهَا فِي مواقيتها {وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} صَلَاة الْعَصْر خَاصَّة {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} صلوا لله قَائِمين بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود وَيُقَال مُطِيعِينَ لَهُ فِي الصَّلَاة غير عاصين بالْكلَام(1/34)
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
{فَإنْ خِفْتُمْ} من عَدو فِي المسايفة {فَرِجَالاً} فصلوا على أَرْجُلكُم بِالْإِيمَاءِ {أَوْ رُكْبَاناً} على الدَّوَابّ حَيْثُمَا توجهتم {فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله} فصلوا لله بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود {كَمَا عَلَّمَكُم} فِي الْقُرْآن للْمُسَافِر رَكْعَتَانِ وللمقيم أَربع {مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} قبل الْقُرْآن(1/34)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
{وَالَّذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} يقبضون من رجالكم {وَيَذَرُونَ} يتركون {أَزْوَاجاً} بعد الْمَوْت {وَصِيَّةً} يَقُول عَلَيْهِم وَصِيَّة وَإِن قَرَأت بِنصب الْهَاء يَقُول عَلَيْهِم أَن يوصوا وَصِيَّة {لأَزْوَاجِهِمْ} فِي أَمْوَالهم {مَّتَاعاً إِلَى الْحول} النَّفَقَة وَالسُّكْنَى إِلَى سنة {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} من غير أَن يخْرجن من مسكن زوجهن {فَإِنْ خَرَجْنَ} من قبل أَنْفسهنَّ أَو تَزَوَّجن من قبل الْحول {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} على أَوْلِيَاء الْمَيِّت فِي منع النَّفَقَة وَالسُّكْنَى مِنْهَا بعد مَا خرجت من بَيت زَوجهَا أَو تزوجت {فِي مَا فَعَلْنَ} وَلَا بِمَا فعلن {فِي أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} من تشوف وتزين للتزويج وَهِي مَنْسُوخَة بميراثها يَعْنِي نَفَقَة الْمُتَوفَّى {وَالله عَزِيزٌ} بالنقمة لمن ترك مَا أَمر بِهِ {حَكِيمٌ} بِمَا نسخ نَفَقَة الْمُتَوفَّى وَالسُّكْنَى إِلَى الْحول لقبل نصِيبهَا من الْمِيرَاث الرّبع أَو الثّمن(1/34)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} بِالْإِحْسَانِ وَالْفضل {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} وَلَيْسَ بِوَاجِب لِأَنَّهُ فضل على الْمهْر على وَجه الْإِحْسَان(1/34)
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
{كَذَلِك} هَكَذَا {يبين الله لكم آيَاته} أمره وَنَهْيه كَمَا بَين هَذَا {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} مَا أمرْتُم بِهِ(1/34)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
ثمَّ ذكر خبر عزاة بني إِسْرَائِيل فَقَالَ {أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر يَا مُحَمَّد فِي الْقُرْآن {إِلَى الَّذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} من مَنَازِلهمْ لقِتَال عدوهم {وَهُمْ أُلُوفٌ} ثَمَانِيَة آلَاف فجبنوا عَن الْقِتَال {حَذَرَ الْمَوْت} مَخَافَة الْقَتْل {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ} فأماتهم الله مكانهم {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} بعد ثَمَانِيَة أَيَّام {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} لذُو من {عَلَى النَّاس} على هَؤُلَاءِ لإحيائهم {وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاس لاَ يَشْكُرُونَ} الْحَيَاة ثمَّ قَالَ لَهُم الله بعد مَا أحياهم(1/34)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
{وقاتلوا فِي سَبِيل الله} فِي طَاعَة الله مَعَ عَدوكُمْ {وَاعْلَمُوا أَنَّ الله سَمِيعٌ} لمقالتكم {عَلِيمٌ} بنياتكم وعقوبتكم إِن لم تَفعلُوا مَا أمرْتُم بِهِ(1/34)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
ثمَّ حث الْمُؤمنِينَ على الصَّدَقَة فَقَالَ {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} فِي الصَّدَقَة محتسباً صَادِقا من قبله {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} بِوَاحِدَة ألفي ألف {وَالله يَقْبِضُ} يقتر {وَيَبْسُطُ} يُوسع المَال على من يَشَاء فِي الدُّنْيَا {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الْمَوْت فتجزون بأعمالكم نزلت هَذِه الْآيَة فِي رجل من الْأَنْصَار يكنى أَبَا الدحداح أَو أَبَا الدحداحة(1/34)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ} ألم تخبر عَن قوم {مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ} اشمويل {ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً} بَين لنا ملك الْجَيْش {نُّقَاتِلْ} بأَمْره مَعَ عدونا {فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ} أتقدرون وَإِن قَرَأت بخفض السِّين تَقول أحسبتم {إِن كُتِبَ} إِن فرض {عَلَيْكُمُ الْقِتَال} مَعَ عَدوكُمْ {أَلاَّ تُقَاتِلُواْ} عَدوكُمْ {قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ} وَلم لَا نُقَاتِل الْعَدو {فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا} من مَنَازلنَا {وَأَبْنَآئِنَا} وَسبي ذرارينا {فَلَمَّا كُتِبَ} أوجب {عَلَيْهِمُ الْقِتَال تَوَلَّوْاْ} أَعرضُوا عَن قتال عدوهم {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} ثلثمِائة وَثَلَاثَة عشر رجلا {وَالله عَلِيمٌ بالظالمين} الَّذين توَلّوا عَن قتال عدوهم(1/34)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} أشمويل {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ} بَين {لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} ملكه عَلَيْكُم {قَالُوا أَنى يَكُونُ} من أَيْن يكون {لَهُ الْملك عَلَيْنَا} وَلَيْسَ هُوَ من سبط الْملك {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْملكِ مِنْهُ} لأَنا من سبط الْملك {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَال} لَيْسَ لَهُ سَعَة المَال لينفق على الْجَيْش قَالَ أَشمويل {إِنَّ الله اصطفاه} اخْتَارَهُ بِالْملكِ وَملكه {عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً} فَضِيلَة {فِي الْعلم} علم الْحَرْب {والجسم} الطول وَالْقُوَّة {وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ} يُعْطي ملكه {مَن يَشَآءُ} فِي الدُّنْيَا وَإِن لم يكن من سبط الْملك {وَالله وَاسِعٌ} بِالْعَطِيَّةِ {عَلِيمٌ} بِمن يُعْطي قَالُوا لَيْسَ ملكه من الله بل أَنْت ملكته علينا(1/35)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
{وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ} أشمويل {إِنَّ آيَةَ} عَلامَة {مُلْكِهِ} أَنه من الله {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} هُوَ أَن يرد إِلَيْكُم التابوت الَّذِي أَخذ مِنْكُم {فِيهِ سَكِينَةٌ} رَحْمَة وطمأنينة وَيُقَال فِيهِ ريح النُّصْرَة لَهُ صفرَة كوجه إِنْسَان {مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى} مِمَّا ترك مُوسَى يَعْنِي كِتَابه وَيُقَال ألواحه وَعَصَاهُ {وَآلُ هَارُونَ} مِمَّا ترك هرون رِدَاؤُهُ وعمامته {تَحْمِلُهُ} تسوقه {الْمَلَائِكَة} إِلَيْكُم {إِنَّ فِي ذَلِكَ} فِي رد التابوت إِلَيْكُم {لآيَةً} عَلامَة {لَّكُمْ} أَن ملكه من الله {إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} مُصدقين فَلَمَّا رد إِلَيْهِم التابوت قبلوا وَخَرجُوا مَعَه(1/35)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ} خرج طالوت {بالجنود} بالجيش فَأخذ يمشي بهم فِي أَرض قفرة فَأَصَابَهُمْ حر وعطش شَدِيد فطلبوا مِنْهُ المَاء قَالَ لَهُم طالوت {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} مختبركم بنهر جَار {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ} من النَّهر {فَلَيْسَ مِنِّي} لَيْسَ معي على عدوي وَلَا يُجَاوِزهُ {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} لم يشرب مِنْهُ {فَإِنَّهُ مني} على عدوي ثمَّ اسْتثْنى فَقَالَ {إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ} وَإِن قَرَأت بِفَتْح الْغَيْن أَرَادَ بِهِ غرفَة وَاحِدَة فَكَانَت تكفيهم تِلْكَ الغرفة لشربهم ودوابهم وَحَملهمْ {فَشَرِبُواْ مِنْهُ} فَلَمَّا بلغُوا إِلَى النَّهر وقفُوا فِي النَّهر وَشَرِبُوا مِنْهُ كَيفَ شَاءُوا {إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم} ثلثمِائة وَثَلَاثَة عشر رجلا لم يشْربُوا إِلَّا كَمَا دلهم الله {فَلَمَّا جَاوَزَهُ} يَعْنِي النَّهر {هُوَ} يَعْنِي طالوت {وَالَّذين آمَنُواْ} صدقُوا {مَعَهُ قَالُواْ} فِيمَا بَينهم {لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذين يَظُنُّونَ} يعلمُونَ ويستيقنون {أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله} معاينو الله بعد الْمَوْت {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} جمَاعَة قَليلَة من الْمُؤمنِينَ {غَلَبَتْ فِئَةً} جمَاعَة {كَثِيرَةً} من الْكَافرين {بِإِذْنِ الله} بنصر الله {وَالله مَعَ الصابرين} معِين الصابرين فِي الْحَرْب بالنصرة(1/35)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
{وَلَمَّا بَرَزُواْ} تصافوا {لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ} يَعْنِي هَؤُلَاءِ المصدقين {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} أَي أكرمنا بِالصبرِ {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} فِي الْحَرْب {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافرين} على جالوت وَجُنُوده(1/35)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله} بنصرة الله {وَقَتَلَ دَاوُدُ} النَّبِي {جَالُوتَ} الْكَافِر {وَآتَاهُ الله الْملك} أعْطى الله دَاوُد ملك بني إِسْرَائِيل {وَالْحكمَة} الْفَهم والنبوة {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ} يَعْنِي الدروع {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله النَّاس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} كَمَا دفع بِدَاوُد شَرّ جالوت عَن بني إِسْرَائِيل {لَفَسَدَتِ الأَرْض} بِأَهْلِهَا يَقُول دفع الله بالنبيين عَن الْمُؤمنِينَ شَرّ أعدائهم وبالمجاهدين عَن القاعدين عَن الْجِهَاد شَرّ أعدائهم وَلَوْلَا ذَلِك لفسدت الأَرْض بِأَهْلِهَا(1/35)
{وَلَكِن الله ذُو فَضْلٍ} ذُو من {عَلَى الْعَالمين} بِالدفع(1/36)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
{تِلْكَ آيَاتُ الله} هَذِه آيَات الله يَعْنِي الْقُرْآن بأخبار الْأُمَم الْمَاضِيَة {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} ننزل عَلَيْك جِبْرَائِيل منا {بِالْحَقِّ} لبَيَان الْحق وَالْبَاطِل {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسلين} إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس كَافَّة(1/36)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
{تِلْكَ الرُّسُل} الَّذين سميناهم لَك {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} بالكرامة {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} وَهُوَ مُوسَى {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} فَضَائِل هُوَ إِبْرَاهِيم اتَّخذهُ خَلِيلًا مصافياً وَإِدْرِيس رَفعه مَكَانا عليا {وَآتَيْنَا} أعطينا {عِيسَى ابْن مَرْيَمَ الْبَينَات} الْأَمر وَالنَّهْي والعجائب {وَأَيَّدْنَاهُ} قويناه وأعناه {بِرُوحِ الْقُدس} بجبرائيل الطَّاهِر {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل} مَا اخْتلف {الَّذين مِن بَعْدِهِم} من بعد مُوسَى وَعِيسَى {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَينَات} بَيَان مَا فِي كِتَابهمْ نعت مُحَمَّد وَصفته {وَلَكِن اخْتلفُوا} فِي الدّين {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ} بِكُل كتاب وَرَسُول {وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ} بالكتب وَالرسل {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقْتَتَلُوا} مَا اخْتلفُوا فِي الدّين {وَلَكِن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} كَمَا يُرِيد بعباده(1/36)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
ثمَّ حثهم على الصَّدَقَة فَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفقُوا من مَا رَزَقْنَاكُم} تصدقوا مِمَّا أعطيناكم من الْأَمْوَال فِي سَبِيل الله {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ} لَا فدَاء فِيهِ {وَلاَ خُلَّةٌ} وَلَا مخالة {وَلاَ شَفَاعَةٌ} للْكَافِرِينَ {والكافرون} بِاللَّه {هُمُ الظَّالِمُونَ} الْمُشْركُونَ بِاللَّه(1/36)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
ثمَّ مدح نَفسه فَقَالَ {الله لَا إِلَه إِلاَّ هُوَ الْحَيّ} الَّذِي لَا يَمُوت {القيوم} الْقَائِم الَّذِي لَا بَدْء لَهُ {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} نُعَاس {وَلاَ نَوْمٌ} ثقيل فيشغله عَن تَدْبيره وَأمره {لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات} من الْمَلَائِكَة {وَمَا فِي الأَرْض} من الْخلق {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} من أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض يَوْم الْقِيَامَة {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} بأَمْره {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} بَين أَيدي الْمَلَائِكَة من أَمر الْآخِرَة لمن تكون الشَّفَاعَة {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أَمر الدُّنْيَا {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} يَقُول لاتعلم الْمَلَائِكَة شَيْئا من أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة إِلَّا مَا علمهمْ الله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} يَقُول كرسيه أوسع من السَّمَوَات وَالْأَرْض {وَلاَ يؤوده حِفْظُهُمَا} لَا يثقل عَلَيْهِ حفظ الْعَرْش والكرسي بِغَيْر الْمَلَائِكَة {وَهُوَ الْعلي} أَعلَى من كل شَيْء {الْعَظِيم} أعظم من كل شَيْء(1/36)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّين} لَا يكره أحد على التَّوْحِيد من أهل الْكتاب وَالْمَجُوس بعد إِسْلَام الْعَرَب {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} الْإِيمَان من الْكفْر وَالْحق من الْبَاطِل ثمَّ نزلت فِي مُنْذر بن ساوي التَّمِيمِي {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت} بِأَمْر الشَّيْطَان وَعبادَة الْأَصْنَام {وَيْؤْمِن بِاللَّه} وَبِمَا جَاءَ مِنْهُ {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} فقد أَخذ بالثقة بِلَا إِلَه إِلَّا الله {لَا انفصام لَهَا} لَا انْقِطَاع لَهَا وَلَا زَوَال وَلَا هَلَاك وَيُقَال لَا انْقِطَاع لصَاحِبهَا عَن نعيم الْجنَّة وَلَا زَوَال عَن الْجنَّة وَلَا هَلَاك بِالْبَقَاءِ فِي النَّار {وَالله سَمِيعٌ} لهَذِهِ الْمقَالة {عَلِيمٌ} بثوابها وَنَعِيمهَا(1/36)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
{الله وَلِيُّ الَّذين آمَنُواْ} حَافظ وناصر الَّذين آمنُوا يَعْنِي عبد الله ابْن سَلام وَأَصْحَابه {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَات إِلَى النُّور} فقد أخرجهم ووفقهم حَتَّى خَرجُوا من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان {وَالَّذين كفرُوا} يَعْنِي كَعْب بن الْأَشْرَف وَأَصْحَابه {أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} الشَّيْطَان(1/36)
{يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النُّور إِلَى الظُّلُمَات} يَدعُونَهُمْ من الْإِيمَان إِلَى الْكفْر {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّار} أهل النَّار {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا أبدا(1/37)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر {إِلَى الَّذِي} عَن الَّذِي {حَآجَّ} خَاصم {إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} فِي دين ربه {أَنْ آتَاهُ الله الْملك} أعطَاهُ وَهُوَ نمْرُود بن كنعان {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} يحيي الْبَعْث وَيُمِيت الدُّنْيَا {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} لَهُ ائْتِنِي بِبَيَان ذَلِك قَالَ فَأتي برجلَيْن من السجْن قتل وَاحِدَة وَترك وَاحِدًا وَقَالَ هَذَا بَيَان ذَلِك قَالَ إِبْرَاهِيم {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ الْمشرق} من نَحْو الْمشرق {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمغرب} من نَحْو الْمغرب {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} خصم وقصم الَّذِي كفر أَي سكت بِغَيْر الْحجَّة {وَالله لاَ يَهْدِي} إِلَى الْحجَّة {الْقَوْم الظَّالِمين} الْكَافرين يَعْنِي نمْرُود(1/37)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
{أَوْ كَالَّذي مَرَّ على قَرْيَةٍ} يَقُول وَإِلَى الَّذِي مر على قَرْيَة تسمى دير هِرقل وَهُوَ عَزِيز بن شرحيل مر على قَرْيَة {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} سَاقِطَة {على عروشها} على سقوفها {قَالَ أَنى يحيي هَذِه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} يَقُول كَيفَ يحيي الله أهل هَذِه الْقرْيَة بعد مَوْتهمْ {فَأَمَاتَهُ الله} مَكَانَهُ فَكَانَ مَيتا {مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} أَحْيَاهُ فِي آخر النَّهَار قَالَ الله {كم لَبِثت} مكثت يَا عَزِيز {قَالَ لَبِثْتُ} مكثت {يَوْماً} ثمَّ نظر إِلَى الشَّمْس وَقد بَقِي مِنْهَا شَيْء فَقَالَ {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ} الله {بَل لَّبِثْتَ} مكثت مَيتا {ماِْئَةَ عَامٍ فَانْظُر إِلَى طَعَامِكَ} التِّين وَالْعِنَب {وَشَرَابِكَ} الْعصير {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لم يتَغَيَّر {وَانْظُر إِلَى حِمَارِكَ} إِلَى عِظَام حِمَارك كَيفَ تلوح بَيْضَاء {وَلِنَجْعَلَكَ} لكَي نجعلك {آيَةً} عَلامَة {لِلنَّاسِ} فِي إِحياء الْمَوْتَى أَنهم يحيون على مَا يموتون لِأَنَّهُ مَاتَ شَابًّا وَبعث شَابًّا فَيُقَال جعله عِبْرَة للنَّاس لِأَنَّهُ كَانَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة وَابْنه ابْن مائَة وَعشْرين سنة {وَانْظُر إِلَى الْعِظَام} عِظَام الْحمار {كَيْفَ نُنْشِزُهَا} نرفع بَعْضهَا على بعض وَإِن قَرَأَ بالراء يَقُول كَيفَ نخلقها {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} بعد ذَلِك يَقُول ننبت عَلَيْهَا العصب وَالْعُرُوق وَاللَّحم وَالْجَلد وَالشعر ونجعل فِيهِ الرّوح بعد ذَلِك {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} كَيفَ يجمع الله عِظَام الْمَوْتَى {قَالَ أَعْلَمُ} قد علمت {أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ} من الْحَيَاة وَالْمَوْت {قدير}(1/37)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
{وَإِذْ قَالَ} وَقد قَالَ {إِبْرَاهِيمُ} أَيْضا {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} كَيفَ تجمع عِظَام الْمَوْتَى {قَالَ أَو لم تُؤْمِن} توقن بذلك {قَالَ بلَى} أَنا موقن {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} لتسكن حرارة قلبِي وَأعلم بِأَنِّي خَلِيلك مستجاب الدعْوَة {قَالَ فَخُذْ} إِلَيْك مقدم ومؤخر {أَرْبَعَةً مِّنَ الطير} أشتاتاً أَي مُخْتَلفا ديكا وغرابا وبطا وطاوسا {فصرهن} فقطعنه {إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَل} ثمَّ ضع {على كُلِّ جَبَلٍ} من أَرْبَعَة أجبل {مِّنْهُنَّ جُزْءًا} بَعْضًا {ثُمَّ ادعهن} بأسمائهن {يَأْتِينَكَ سَعْياً} مشياً {وَاعْلَم} يَا إِبْرَاهِيم {أَنَّ الله عَزِيزٌ} بالنقمة لمن لم يقر بإحياء الْمَوْتَى {حَكِيمٌ} يجمع عِظَام الْمَوْتَى وإحيائهم كَمَا جمع وَأَحْيَا هَذِه الطُّيُور(1/37)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
ثمَّ ذكر نَفَقَة الْمُؤمنِينَ فِي سَبِيل الله فَقَالَ {مَّثَلُ الَّذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} يَقُول مثل أَمْوَال الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ} أخرجت {سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ} مِنْهَا {مِّاْئَةُ حَبَّةٍ} كَذَلِك يُضَاعف نَفَقَة الْمُؤمنِينَ فِي سَبِيل الله من وَاحِد إِلَى سَبْعمِائة {وَالله يُضَاعِفُ} فَوق ذَلِك {لِمَن يَشَآءُ} لمن كَانَ أَهلا لذَلِك وَيُقَال لمن قبل مِنْهُ {وَالله وَاسِعٌ} بالتضعيف {عَلِيمٌ} بِنَفَقَة الْمُؤمنِينَ وبنياتهم(1/37)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
{الَّذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} نزلت هَذِه الْآيَة فِي عُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ} بعد النَّفَقَة {مَنّاً} على الله {وَلاَ أَذًى} لصَاحِبهَا {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ} ثوابهم {عِنْدَ رَبِّهِمْ} فِي الْجنَّة {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فِيمَا يستقبلهم من الْعَذَاب {وَلَا هم يَحْزَنُونَ} عل مَا خلفوا من خَلفهم(1/38)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} كَلَام حسن لأخيك فِي المغيب بِالدُّعَاءِ وَالثنَاء {وَمَغْفِرَةٌ} تجَاوز عَن مظْلمَة {خَيْرٌ} لَك وَله {مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذىً} تمن بهَا عَلَيْهِ وتؤذيه بذلك {وَالله غَنِيٌّ} عَن صَدَقَة المنان {حَلِيمٌ} إِذْ لم يعجل بعقوبة الْمِنَّة(1/38)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم} أجر صَدقَاتكُمْ {بالمن} على الله مَعْنَاهُ الْعجب {والأذى} لصَاحِبهَا {كَالَّذي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاس} سمعة النَّاس {وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {فَمَثَلُهُ} مثل صَدَقَة المنان وَصدقَة الْمُشرك {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} حجر (عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ) مطر شَدِيد {فَتَرَكَهُ صَلْداً} أجرد نقياً بِلَا تُرَاب {لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ} على ثَوَاب شَيْء فِي الْآخِرَة {مِّمَّا كَسَبُواْ} أَنْفقُوا فِي الدُّنْيَا بقول لَا يجد المنان والمؤذي ثَوَاب صدقته كَمَا لَا يُوجد عل الصفوان التُّرَاب بعد مَا أَصَابَهُ الْمَطَر الشَّديد {وَالله لاَ يَهْدِي} لَا يثيب {الْقَوْم الْكَافرين} والمرائين بنفقتهم فِي الشّرك والرياء كَذَلِك المنان لَا يثيبه الله بِنَفَقَتِهِ(1/38)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
{وَمَثَلُ الَّذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ} مثل أَمْوَال الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم {ابتغآء مَرْضَاتِ الله} طلب رضَا الله {وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} تَصْدِيقًا وَحَقِيقَة ويقيناً من قُلُوبهم بالثواب {كَمَثَلِ جَنَّةٍ} بُسْتَان {بِرَبْوَةٍ} بمَكَان مُرْتَفع مستو {أَصَابَهَا وَابِلٌ} مطر شَدِيد كثير {فَآتَتْ أُكُلَهَا} أخرجت ثَمَرهَا {ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ} مطر كثير {فَطَلٌّ} فرش مثل الرذاذ يَعْنِي الندى وَهَذَا مثل نَفَقَة الْمُؤمن إِذا كَانَ بالإخلاص والخشية قَليلَة أَو كَثِيرَة يُضَاعف ثَوَابهَا كَمَا يُضَاعف ثَمَرَة الْبُسْتَان {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ} تنفقون {بَصِير}(1/38)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} يتَمَنَّى أحدكُم {أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} بُسْتَان {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} كروم {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَار} تطرد الْأَنْهَار من تَحت شَجَرهَا ومساكنها وغرفها {لَهُ فِيهَا} فِي الْجنَّة {مِن كُلِّ الثمرات} من ألوان الثمرات {وَأَصَابَهُ الْكبر وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ} عجزة عَن الْحِيلَة {فَأَصَابَهَآ} يَعْنِي تِلْكَ الْجنَّة {إِعْصَارٌ} يَعْنِي ريح حَار أَو بَارِد {فِيهِ نَارٌ فاحترقت كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الْآيَات} العلامات بِالْأَمر وَالنَّهْي {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} لكَي تَتَفَكَّرُوا فِي أَمْثَال الْقُرْآن وَهَذَا مثل الْكَافرين فِي الْآخِرَة يكونُونَ بِلَا حِيلَة وَلَا رُجُوع إِلَى الدُّنْيَا كَمَا أَن هَذَا الْكَبِير بَقِي بِلَا حِيلَة وَلَا رُجُوع إِلَى قوته وشبابه(1/38)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ} من حلالات {مَا كَسَبْتُمْ} مَا جمعتم من الذَّهَب وَالْفِضَّة {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْض} من النَّبَات يَعْنِي الْحُبُوب وَالثِّمَار {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبيث} لَا تعمدوا إِلَى الرَّدِيء من أَمْوَالكُم {مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} بقابلية يَعْنِي الرَّدِيء إِذا كَانَ لكم حق على صَاحبكُم(1/38)
{إِلَّا أَن تغمضوا فِيهِ} تتغمضوا فِيهِ وتتركوا بعض حقكم كَذَلِك لَا يقبل الله الرَّدِيء مِنْكُم {وَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَنِيٌّ} عَن نفقاتكم {حَمِيدٌ} مَحْمُود فِي فعاله وَيُقَال يشْكر الْيَسِير وَيجْزِي الجزيل نزلت هَذِه الْآيَة فِي رجل بِالْمَدِينَةِ صَاحب الحشف(1/39)
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
{الشَّيْطَان يَعِدُكُمُ الْفقر} يخوفكم الْفقر عِنْد الصَّدَقَة {وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} بِمَنْع الزَّكَاة {وَالله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِنْهُ} لذنوبكم بأعطاء الزَّكَاة {وفضلا} خلفا وثوبا فِي الْآخِرَة {وَالله وَاسِعٌ} بالخلف وَالْمَغْفِرَة للذنوب {عَلِيمٌ} بنياتكم وصدقاتكم(1/39)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
ثمَّ ذكر كرامته فَقَالَ {يُؤْتِي الْحِكْمَة مَن يَشَاء} يَعْنِي النُّبُوَّة لمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَيُقَال تَفْسِير الْقُرْآن وَيُقَال إِصَابَة القَوْل وَالْفِعْل والرأي {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة} إِصَابَة القَوْل وَالْفِعْل والرأي {فَقَدْ أُوتِيَ} أعطي {خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ} يتعظ بأمثال الْقُرْآن وَالْحكمَة {إِلاَّ أُوْلُواْ الْأَلْبَاب} ذَوُو الْعُقُول من النَّاس(1/39)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
{وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ} فِي سَبِيل الله {أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ} فِي طَاعَة الله فوفيتم بِهِ {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} يقبله إِذا كَانَ لله ويثيب عَلَيْهَا {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} للْمُشْرِكين {مِنْ أَنْصَارٍ} من مَانع من عَذَاب الله(1/39)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
ثمَّ ذكر صَدَقَة السِّرّ وَالْعَلَانِيَة لقَولهم أَيهمَا أفضل فَقَالَ {إِن تُبْدُواْ} إِن تظهروا {الصَّدقَات} الْوَاجِبَة {فَنِعِمَّا هِيَ} فَنعم شَيْئا هِيَ {وَإِن تُخْفُوهَا} تسروها يَعْنِي التَّطَوُّع {وَتُؤْتُوهَا} تعطوها {الفقرآء} أَصْحَاب الصّفة {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} من الْعَلَانِيَة وَكِلَاهُمَا مَقْبُول مِنْكُم {وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} ذنوبكم بِقدر صَدقَاتكُمْ {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ} تعطون من الصَّدَقَة {خَبِيرٌ(1/39)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
! ثمَّ رخص الصَّدَقَة على فُقَرَاء أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين لقَولهم أَيجوزُ لنا يَا رَسُول الله أَن نصدق على ذَوي قرابتنا من غير أهل ديننَا سَأَلت عَن ذَلِك أَسمَاء بنت أبي بكر وَيُقَال بنت أبي النَّضر فَقَالَ الله لنَبيه {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} فِي الدّين هدى فُقَرَاء أهل الْكتاب {وَلَكِن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} لدينِهِ {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} من مَال على الْفُقَرَاء {فَلأَنفُسِكُمْ} ثَوَاب ذَلِك {وَمَا تُنفِقُونَ} على الْفُقَرَاء فَلَا تنفقون {إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله} طلب مرضاة الله {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} من مَال على فُقَرَاء أَصْحَاب الصّفة {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} يوفر إِلَيْكُم ثَوَاب ذَلِك فِي الْآخِرَة {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} لَا ينقص من حسناتكم وَلَا يُزَاد على سَيِّئَاتكُمْ(1/39)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
{لِلْفُقَرَآءِ الَّذين أُحصِرُواْ} يَقُول إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء الَّذين حبسوا أنفسهم {فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله فِي مَسْجِد الرَّسُول وهم أَصْحَاب الصّفة {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً} سيراً {فِي الأَرْض} بِالتِّجَارَة {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِل} لَا يعرفهُمْ {أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} من التجمل {تَعْرِفُهُم} يَا مُحَمَّد {بِسِيمَاهُمْ} بحليتهم {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاس إِلْحَافاً} يَقُول إلحاحاً وَلَا غير إلحاح {وَمَا تُنفِقُواْ} على فُقَرَاء أَصْحَاب الصّفة {مِنْ خَيْرٍ} من مَال {فَإِنَّ الله بِهِ} بِالْمَالِ وبنياتكم {عَلِيمٌ}(1/39)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
{الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم} فِي الصَّدَقَة {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار سِرّاً} فِي السِّرّ {وَعَلاَنِيَةً} فِي الْعَلَانِيَة {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} ثوابهم {عِندَ رَبِّهِمْ} فِي الْجنَّة {وَلَا خوف عَلَيْهِم} بالدوام {وَلَا هم يَحْزَنُونَ} إِذا حزن غَيرهم نزلت هَذِه الْآيَة فِي عَليّ بن أبي طَالب(1/39)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
ثمَّ ذكر عُقُوبَة آكل الرِّبَا فَقَالَ {الَّذين يَأْكُلُونَ الرِّبَا} استحلالاً {لاَ يَقُومُونَ} من قُبُورهم يَوْم الْقِيَامَة {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ} فِي الدُّنْيَا(1/39)
{الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ} يتخبله {الشَّيْطَان مِنَ الْمس} من الْجُنُون {ذَلِكَ} التخبل عَلامَة آكل الرِّبَا فِي الْآخِرَة {بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الرِّبَا} الزِّيَادَة فِي آخر البيع بَعْدَمَا حل الْأَجَل كالزيادة فِي أول البيع إِذا بعث بِالنَّسِيئَةِ {وَأَحَلَّ الله البيع} الزِّيَادَة الأولى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} الزِّيَادَة الْأَخِيرَة {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ} نهي من ربه عَن الرِّبَا {فَانْتهى} عَن الرِّبَا {فَلَهُ مَا سَلَفَ} فَلَيْسَ عَلَيْهِ مَا مضى قبل التَّحْرِيم {وَأَمْرُهُ} فِيمَا بَقِي من عمره {إِلَى الله} إِن شَاءَ عصمه وَإِن شَاءَ خذله {وَمَنْ عَادَ} بعد التَّحْرِيم إِلَى قَوْله إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا {فَأُولَئِك أَصْحَاب النَّار} أهل النَّار {هم فِيهَا خَالدُونَ} دائمون إِلَى مَا شَاءَ الله إِذا كَانُوا مُخلصين(1/40)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
{يَمْحَقُ الله الرِّبَا} يهْلك وَيذْهب ببركته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة {وَيُرْبِي} يقبل ويضاعف {الصَّدقَات} الْوَاجِبَة والتطوع إِذا كَانَ لله {وَالله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ} كَافِر جَاحد بِتَحْرِيم الرِّبَا {أَثِيمٍ} فَاجر بِأَكْلِهِ(1/40)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
{إِنَّ الَّذين آمَنُواْ} بِاللَّه وَرُسُله وَكتبه وبتحريم الرِّبَا {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم وَتركُوا الرِّبَا {وَأَقَامُواْ الصَّلَاة} أَتموا الصَّلَوَات الْخمس بِمَا يجب فِيهَا {وَآتَوُاْ الزَّكَاة} أعْطوا زَكَاة أَمْوَالهم {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} ثوابهم {عِندَ رَبِّهِمْ} فِي الْجنَّة {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} إِذا ذبح الْمَوْت {وَلَا هم يَحْزَنُونَ} إِذا أطبقت النَّار(1/40)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} يَعْنِي ثقيفا ومسعودا وخبيبا وَعبد يَا ليل وَرَبِيعَة {اتَّقوا الله} اخشوا الله فِي الرِّبَا {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} اتْرُكُوا مَا بَقِي لكم من الرِّبَا على بني مَخْزُوم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} إِذا كُنْتُم مُصدقين بِتَحْرِيم الرِّبَا(1/40)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} لم تتركوا الرِّبَا {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} فَاسْتَعدوا للعذاب من الله فِي الْآخِرَة بالنَّار وَالْعَذَاب من رَسُوله فِي الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ {وَإِنْ تُبْتُمْ} من الرِّبَا {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} الَّتِي لكم على بني مَخْزُوم {لاَ تَظْلِمُونَ} على أحد إِذا لم تَطْلُبُوا الزِّيَادَة {وَلاَ تُظْلَمُونَ} لَا يظلمكم أحد إِذا أعطوكم رُءُوس أَمْوَالكُم وَيُقَال لَا تظْلمُونَ لَا تنقصون وَلَا تظْلمُونَ لَا تنقصون بديونكم(1/40)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
{وَإِن كَانَ} بديونكم بني مَخْزُوم {ذُو عُسْرَةٍ} شدَّة {فَنَظِرَةٌ} فأجلوهم {إِلَى مَيْسَرَةٍ} إِلَى أَن يتيسروا {وَأَن تَصَدَّقُواْ} عَلَيْهِم برؤوس أَمْوَالكُم فَهُوَ {خَيْرٌ لَّكُمْ} من الْأَخْذ وَالتَّأْخِير {إِن كُنْتُمْ} إِذْ كُنْتُم {تَعْلَمُونَ} ذَلِك(1/40)
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
{وَاتَّقوا يَوْماً} اخشوا عَذَاب يَوْم {تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى} توفر {كُلُّ نَفْسٍ} برة وفاجرة {مَّا كَسَبَتْ} مَا عملت من خير أَو شَرّ {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لَا ينقص من حسناتهم وَلَا يُزَاد على سيئاتهم(1/40)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
ثمَّ علمهمْ مَا يَنْبَغِي لَهُم فِي معاملتهم فَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} بِاللَّه وَالرَّسُول {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إِلَى وَقت مَعْلُوم {فاكتبوه} يَعْنِي الدّين {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ} بَين الدَّائِن والمديون {كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} بِالْقِسْطِ {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} بَين الدَّائِن والمديون (كَمَا عَلَّمَهُ الله) الْكِتَابَة (فَلْيَكْتُبْ) بِلَا زِيَادَة وَلَا نُقْصَان الْكتاب {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق} وليملل أَي ليبين الْمَدْيُون على الْكَاتِب مَا عَلَيْهِ من الدّين {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} وليخش الْمَدْيُون ربه {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} وَلَا ينقص مِمَّا عَلَيْهِ من الدّين شَيْئا فِي الْإِمْلَاء {فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق} يَعْنِي الْمَدْيُون(1/40)
سَفِيهاً) جَاهِلا بالإملاء {أَوْ ضَعِيفاً} عَاجِزا بالإملاء {أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ} لَا يحسن {أَن يُمِلَّ هُوَ} على الْكَاتِب {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} ولي المَال وَهُوَ الدَّائِن {بِالْعَدْلِ} بِلَا زِيَادَة {واستشهدوا} على حقوقكم {شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ} من أحراركم حُرَّيْنِ مُسلمين مرضين {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء} من أهل الثِّقَة بِالشَّهَادَةِ {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} أَن تنسى إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا} الَّتِي لم تنس الشَّهَادَة {الْأُخْرَى} الَّتِي نسيت {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء} عَن إِقَامَة الشَّهَادَة {إِذَا مَا دُعُواْ} إِلَى الْحُكَّام {وَلاَ تسأموا} لَا تملوا {أَن تَكْتُبُوهُ} أَن لَا تكتبوه يَعْنِي الدّين {صَغِيراً أَو كَبِيراً} قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا {إِلَى أَجَلِهِ} إِلَى وقته {ذَلِكُمْ} الَّذِي ذكرت لكم من الْكِتَابَة للدّين {أقسط عِنْد الله} اصوب وَأَعْدل عِنْد لله {وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ} أبين للشَّاهِد بِالشَّهَادَةِ إِذا نسي {وَأدنى} أَحْرَى لكم {أَلاَّ ترتابوا} تَشكوا بِالدينِ وَالْأَجَل {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً} حَالَة {تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} يدا بيد {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} حرج {أَن تكتبوه} يَعْنِي التِّجَارَة {وَأشْهدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} بالأجل {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ} بِالْكِتَابَةِ {وَلاَ شَهِيدٌ} بِالشَّهَادَةِ أَي لَا تجبروهما على ذَلِك {وَإِن تَفْعَلُواْ} الضرار {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} مَعْصِيّة مِنْكُم {وَاتَّقوا الله} أَي اخشوا الله فِي الضرار {وَيُعَلِّمُكُمُ الله} مَا يصلح لكم فِي الْمُعَامَلَة {وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ} من صلاحكم وَغَيره {عَلِيمٌ}(1/41)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
{وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} أَو آلَة الْكِتَابَة {فرهان مَقْبُوضَة} فليقرض الدَّائِن من الْمَدْيُون رهنا بِدِينِهِ {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} بِالدينِ بِلَا رهن {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤتمن} بِالدينِ {أَمَانَتَهُ} حق صَاحبه {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} وليخش الْمَدْيُون فِي أَدَاء الدّين {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة} عِنْد الْحُكَّام {وَمَن يَكْتُمْهَا} يَعْنِي الشَّهَادَة {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} فَاجر قلبه {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ} من كتمان الشَّهَادَة وإقامتها {عَلِيمٌ}(1/41)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
{للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض} من الْخلق والعجائب يَأْمر عباده بِمَا يَشَاء {وَإِن تُبْدُواْ} تظهروا {مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} مَا فِي قُلُوبكُمْ وَهُوَ حَدِيث النَّفس بعد الوسوسة قبل الإبداء {أَوْ تُخْفُوهُ} تسروه {يُحَاسِبْكُمْ} يجازِكم {بِهِ الله} وَكَذَلِكَ النسْيَان بعد الذّكر وَالْخَطَأ بعد الصَّوَاب والاستكراه بعد الِاجْتِهَاد {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} لمن تَابَ من سَائِر الذُّنُوب {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} من لم يتب {وَالله على كُلِّ شَيْءٍ} من الْمَغْفِرَة وَالْعَذَاب {قَدِيرٌ} فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة اشْتَدَّ على الْمُؤمنِينَ مَا فِي هَذِه الْآيَة(1/41)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
فَلَمَّا عرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى السَّمَاء سجد لرَبه فَقَالَ الله مدحاً لنَبيه {آمن الرَّسُول} صدق الرَّسُول مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} يَعْنِي الْقُرْآن وَمَا فِيهِ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبارَة عَن الله {والمؤمنون كُلٌّ} أَي كل وَاحِد مِنْهُم (آمَنَ بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ(1/41)
{لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} يَقُولُونَ لَا نكفر بِأحد من رسله {وَقَالُوا} أَيْضا {سَمِعْنَا} قَول رَبنَا {وَأَطَعْنَا} أَمر رَبنَا أَي سمعا وَطَاعَة لربنا فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {غُفْرَانَكَ} نَسْأَلك الْمَغْفِرَة عَن حَدِيث النَّفس {رَبَّنَا} يَا رَبنَا {وَإِلَيْكَ الْمصير} الْمرجع بعد الْمَوْت(1/42)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
فَقَالَ الله {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً} من الطَّاعَة {إِلاَّ وُسْعَهَا} إِلَّا طاقتها {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من الْخَيْر وَترك حَدِيث النَّفس وَالنِّسْيَان وَالْخَطَأ والاستكراه {وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} من الشَّرّ وَحَدِيث النَّفس وَالنِّسْيَان وَالْخَطَأ والاستكراه ثمَّ علمهمْ كَيفَ يدعونَ رَبهم حَتَّى يرفع عَنْهُم حَدِيث النَّفس وَالْخَطَأ وَالنِّسْيَان والاستكراه فَقَالَ لَهُم قُولُوا {رَبَّنَا} يَا رَبنَا {لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ} طَاعَتك {أَوْ أَخْطَأْنَا} فِي أَمرك {رَبَّنَا} يَا رَبنَا {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً} عهد تحرم علينا الطَّيِّبَات بتركنا ذَلِك {كَمَا حَمَلْتَهُ} حرمته {عَلَى الَّذين مِن قَبْلِنَا} من بني إِسْرَائِيل بنقضهم عَهْدك فِي الطَّيِّبَات لُحُوم الْإِبِل وشحوم الْبَقر وَغير ذَلِك {رَبَّنَا} يَا رَبنَا {وَلاَ تُحَمِّلْنَا} أَي لَا تحمل علينا أَيْضا {مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} مَا لَا رَاحَة لنا فِيهِ وَلَا مَنْفَعَة وَهُوَ الاستكراه {واعف عَنَّا} ذَلِك {واغفر لَنَا} ذَلِك {وارحمنآ} بذلك {أَنتَ مَوْلاَنَا} أولى بِنَا {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافرين} وَيُقَال واعف عَنَّا من المسخ كَمَا مسخت قوم عِيسَى واغفر لنا من الْخَسْف كَمَا خسفت بقارون وارحمنا من الْقَذْف كَمَا قذفت قوم لوط فَلَمَّا دعوا بِهَذَا الدُّعَاء رفع الله عَنْهُم حَدِيث النَّفس وَالنِّسْيَان وَالْخَطَأ والاستكراه وَعَفا عَنْهُم من الْخَسْف وَالْمَسْخ وَالْقَذْف وَلمن اتبعهم بذلك
وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا آل عمرَان وَهِي كلهَا مَدَنِيَّة آياتها مِائَتَا آيَة وكلماتها ثَلَاث آلَاف وَأَرْبَعمِائَة وَسِتُّونَ وحروفها أَرْبَعَة عشر ألفا وَخَمْسمِائة وَخمْس وَعِشْرُونَ
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى(1/42)
الم (1)
{الم} يَقُول أَنا الله أعلم بِخَبَر وَفد بني نَجْرَان وَيُقَال قسم أقسم بِهِ أَن الله وَاحِد لَا ولد لَهُ وَلَا شريك لَهُ(1/42)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
{الله لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ} الَّذِي لَا يَمُوت وَلَا يَزُول {القيوم} الْقَائِم الَّذِي لَا بَدْء لَهُ(1/42)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكتاب} جِبْرِيل بِالْكتاب {بِالْحَقِّ} لتبيان الْحق وَالْبَاطِل {مُصَدِّقاً} مُوَافقا بِالتَّوْحِيدِ {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما قبله من الْكتب {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاة} جملَة على مُوسَى بن عمرَان {وَالْإِنْجِيل} جملَة على عِيسَى بن مَرْيَم(1/42)
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
{مِن قَبْلُ} من قبل مُحَمَّد وَالْقُرْآن {هُدًى لِّلنَّاسِ} لبني إِسْرَائِيل من الضَّلَالَة {وَأَنْزَلَ الْفرْقَان} على مُحَمَّد مُتَفَرقًا بالحلال وَالْحرَام {إِنَّ الَّذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} بِمُحَمد وَالْقُرْآن وهم وَفد بني نَجْرَان {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة {وَالله عَزِيزٌ} منيع بالنقمة {ذُو انتقام} ذُو نقمة مِنْهُم(1/42)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
{إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْض} من خبر وَفد بني نَجْرَان {وَلاَ فِي السمآء} من خبر الْمَلَائِكَة(1/42)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ} يخلقكم (فِي الْأَرْحَام كَيْفَ يَشَآءُ) قَصِيرا أَو طَويلا حسنا أَو قبيحاً ذكرا أَو انثى شقيا أَو سعيد {لَا إِلَه} لَا مُصَور وَلَا خَالِي {إِلاَّ هُوَ الْعَزِيز} بالنقمة لمن لَا يُؤمن بِهِ {الْحَكِيم} بتصوير مَا فِي الْأَرْحَام(1/42)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكتاب} جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ(1/42)
{مِنْهُ} من الْقُرْآن {آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} مبينات بالحلال وَالْحرَام لم تنسخ يعْمل بهَا {هُنَّ أُمُّ الْكتاب} أصل الْكتاب وَإِمَام فِي كل كتاب يعْمل بهَا نَحْو قَوْله تَعَالَى {قُل تَعَالَوْا أتل مَا حرم ربكُم} الْآيَة {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} مَا اشتبهت على الْيَهُود من نَحْو حِسَاب الْجمل مثل آلم المص ق المر والر وَيُقَال منسوخات لَا يعْمل بهَا {فَأَمَّا الَّذِينَ} وهم الْيَهُود كَعْب بن الْأَشْرَف وحيي بن أَخطب وجدي بن أَخطب {فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} شكّ وَخلاف وميل عَن الْهدى {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} من الْقُرْآن {ابْتِغَاء الْفِتْنَة} طلب الْكفْر والشرك والاستقامة على مَا هم عَلَيْهِ من الضَّلَالَة {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} طلب عَاقِبَة هَذِه الْأمة لكَي يرجع الْملك إِلَيْهِم {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} عَاقِبَة هَذِه الْأمة {إِلاَّ الله} انْقَطع الْكَلَام ثمَّ اسْتَأْنف فَقَالَ {والراسخون فِي الْعلم} البالغون بِعلم التَّوْرَاة عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه (يَقُولُونَ) آمنا بِهِ الْقُرْآن {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} نزل الْمُحكم والمتشابه {وَمَا يَذَّكَّرُ} يتعظ بأمثال الْقُرْآن {إِلاَّ أُوْلُواْ الْأَلْبَاب} ذَوُو الْعُقُول من النَّاس عبد الله ابْن سَلام وَأَصْحَابه(1/43)
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
{رَبَّنَا} وَيَقُولُونَ أَيْضا يَا رَبنَا {لاَ تُزِغْ قُلُوبنَا} لَا تمحي قُلُوبنَا عَن دينك {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} لدينك {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً} ثبتنا على دينك {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب} للْمُؤْمِنين الَّذين قبلنَا وَيُقَال الْوَهَّاب النُّبُوَّة وَالْإِسْلَام لمُحَمد(1/43)
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
{رَبَّنَآ} وَيَقُولُونَ يَا رَبنَا {إِنَّكَ جَامِعُ النَّاس} بعد الْمَوْت {لِيَوْمٍ} فِي يَوْم {لاَّ رَيْبَ فِيهِ} لَا شكّ فِيهِ {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} الْبَعْث بعد الْمَوْت والحساب والصراط وَالْمِيزَان وَالْجنَّة وَالنَّار(1/43)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
{إِن الَّذين كفرُوا} يَعْنِي كَعْب ابْن الْأَشْرَف وَأَصْحَابه وَيُقَال أَبُو جهل وَأَصْحَابه {لَن تغني عَنْهُم أَمْوَالهم} كَثْرَة أَمْوَالهم {وَلَا أَوْلَادهم} كَثْرَة أَوْلَادهم {مِّنَ الله} من عَذَاب الله {شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّار} حطب النَّار(1/43)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} كصنع آل فِرْعَوْن وَيَقُول صنع بك قَوْمك كَذبُوك وشتموك كَمَا صنع قوم مُوسَى بمُوسَى كذبوه وشتموه ونصنع بهم يَوْم بدر كَمَا صنعنَا بِقوم مُوسَى يَوْم الْغَرق {وَالَّذين مِن قَبْلِهِمْ} من قبل قوم مُوسَى {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بِالْكتاب وَالرَّسُول الَّذِي بعثنَا إِلَيْهِم {فَأَخَذَهُمُ الله} أهلكهم الله {بِذُنُوبِهِمْ} بتكذيبهم {وَالله شَدِيدُ الْعقَاب} إِذا عاقب(1/43)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} كفار مَكَّة {سَتُغْلَبُونَ} تقتلون يَوْم بدر {وَتُحْشَرُونَ} يَوْم الْقِيَامَة {إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد} الْفراش والمصير(1/43)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
{قَدْ كَانَ لَكُمْ} يَا أهل مَكَّة {آيَةٌ} عَلامَة لنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فِي فِئَتَيْنِ} جمعين جمع مُحَمَّد وَجمع أبي سُفْيَان {التقتا} يَوْم بدر {فِئَةٌ} جمَاعَة {تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله مُحَمَّد وَأَصْحَابه وَكَانُوا ثلثمِائة وَثَلَاثَة عشر رجلا {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} وَجَمَاعَة أُخْرَى كَافِرَة بِاللَّه وَالرَّسُول أَبُو سُفْيَان وَأَصْحَابه وَكَانُوا تِسْعمائَة وَخمسين رجلا {يَرَوْنَهُمْ} يرَوْنَ أنفسهم {مِّثْلَيْهِمْ} مثل أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {رَأْيَ الْعين} عيَانًا ظَاهرا بِالْعينِ وَيُقَال لَهَا وَجه آخر يَقُول قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ بني قُرَيْظَة وَالنضير ستغلبون بِالْقَتْلِ والإجلاء وَتُحْشَرُونَ بعد الْمَوْت إِلَى جَهَنَّمْ وَبِئْسَ المِهَاد الْفراش والمصير أخْبرهُم بذلك قبل يَوْم بدر بِسنتَيْنِ ثمَّ نزل قَدْ كَانَ لَكُمْ يَا معشر الْيَهُود آيةٌ عَلامَة لنبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي فِئَتَيْنِ جمعين جمع مُحَمَّد وَجمع أبي سُفْيَان الْتَقَتَا يَوْم بدر فِئَةٌ جمَاعَة مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأَصْحَابه تقَاتل فِي سَبِيل الله فِي طَاعَة وَأُخْرَى كَافِرَة وَجَمَاعَة أُخْرَى كَافِرَة بِاللَّه وَالرَّسُول أَبُو سُفْيَان وَأَصْحَابه ترونهم رأيتموهم يَا معشر الْيَهُود مِّثْلَيْهِمْ مثل أَصْحَاب مُحَمَّد رَأْيَ الْعَيْنِ عيَانًا ظَاهرا {وَالله يُؤَيِّدُ} يُقَوي {بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} يَعْنِي مُحَمَّدًا {إِنَّ فِي ذَلِك} فِي نصْرَة الله لمُحَمد يَوْم بدر {لَعِبْرَةً لأُوْلِي الْأَبْصَار} فِي الدّين يَعْنِي الْمُؤمنِينَ وَيُقَال لمن أبْصر بِالْعينِ(1/43)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
ثمَّ ذكر مَا زين للْكفَّار من نعيم الدُّنْيَا فَقَالَ(1/43)
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ} حسن للنَّاس فِي قُلُوبهم {حُبُّ الشَّهَوَات} اللَّذَّات {مِنَ النِّسَاء} يَعْنِي من الْإِمَاء وَالنِّسَاء {والبنين} يَعْنِي العبيد والبنين {والقناطير المقنطرة} يَعْنِي الْأَمْوَال الْمَجْمُوعَة {مِنَ الذَّهَب وَالْفِضَّة} وَيُقَال يَعْنِي الْأَمْوَال المضروبة المنقشة من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْقِنْطَار وَاحِد وَهُوَ ملْء مسك ثَوْر ذَهَبا أَو فضَّة وَيُقَال ألف وَمِائَتَا مِثْقَال والقناطير ثَلَاثَة والمقنطرة تِسْعَة {وَالْخَيْل المسومة} يَعْنِي الْخَيل الرواتع الحسان المعلمة {والأنعام} يَعْنِي الْغنم وَالْبَقر وَالْإِبِل {والحرث} يَعْنِي الزَّرْع والمزرعة {ذَلِك} الَّذِي ذكرت {مَتَاعُ الْحَيَاة الدُّنْيَا} مَنْفَعَة للنَّاس فِي الدُّنْيَا ثمَّ تفنى وَيُقَال ذَلِك هَذَا للَّذي ذكرت مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا يَقُول بَقَاؤُهُ كبقاء مَتَاع الْبَيْت مثل الْقدح والسكرجة وَغير ذَلِك {وَالله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} الْمرجع فِي الْآخِرَة يَعْنِي الْجنَّة لمن ترك ذَلِك(1/44)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
ثمَّ بيَّن نعيم الْآخِرَة وبقاءها وفضلها كَمَا بَين نعيم الدُّنْيَا فَقَالَ {قُلْ} يَا مُحَمَّد للْكفَّار {أَؤُنَبِّئُكُم} أخْبركُم {بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُم} مِمَّا ذكرت لكم من زِينَة الدُّنْيَا {لِلَّذِينَ اتَّقوا} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش يَعْنِي أَبَا بكر وَأَصْحَابه {عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} بساتين {تجْرِي} تطرد {من تحتهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أنهارالخمر وَالْعَسَل وَاللَّبن وَالْمَاء {خَالِدِينَ فِيهَا} مقيمين فِي الْجنَّة لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا {وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} وَلَهُم أَزوَاج مهذبة من الْحيض والأدناس {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله} ورضا رَبهم أكبر مِمَّا هم فِيهِ من النَّعيم {وَالله بَصِيرٌ بالعباد} بِالْمُؤْمِنِينَ وبمكانهم فِي الْجنَّة وبأعمالهم فِي الدُّنْيَا(1/44)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)
ثمَّ وَصفهم فَقَالَ {الَّذين يَقُولُونَ} فِي الدُّنْيَا {رَبَّنَآ} يَا رَبنَا {إِنَّنَآ آمَنَّا} بك وبرسولك {فَاغْفِر لَنَا ذُنُوبَنَا} فِي الْجَاهِلِيَّة وَمَا بعد الْجَاهِلِيَّة {وقنا عَذَاب النَّار} دفع عَنَّا عَذَاب النَّار(1/44)
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
{الصابرين} على أَدَاء فَرَائض الله وَاجْتنَاب مَعَاصيه وَيُقَال الصابرين على المرازي {والصادقين} فِي إِيمَانهم {والقانتين} لمطيعين لله وَلِلرَّسُولِ (والمنفقين) أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله {والمستغفرين} الْمُصَلِّين (بالأسحار) التَّطَوُّع(1/44)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
ثمَّ وحد نَفسه فَقَالَ {شَهِدَ الله} وَإِن لم يشْهد أحد غَيره {أَنَّهُ لاَ إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة} يشْهدُونَ بذلك {وأولو الْعلم} والنبيون والمؤمنون يشْهدُونَ بذلك {قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} بِالْعَدْلِ {لاَ إِلَه إِلاَّ هُوَ الْعَزِيز} بالنقمة لمن لَا يُؤمن بِهِ {الْحَكِيم} أَمر أَن لَا يعبد غَيره(1/44)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
{إِنَّ الدِّينَ} المرضي {عِندَ الله الْإِسْلَام} وَيُقَال شهد الله أَن الدّين عِنْد الله الْإِسْلَام مقدم ومؤخر وَشهد بذلك الْمَلَائِكَة والنبيون والمؤمنون نزلت هَذِه الْآيَة فِي رجلَيْنِ من أهل الشَّام طلبا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي شَهَادَة أكبر فِي كتاب الله فَبين الله ذَلِك فَأَسْلمَا {وَمَا اخْتلف الَّذين أُوتُواْ الْكتاب} أعْطوا الْكتاب يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي الْإِسْلَام وَمُحَمّد {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعلم} بَيَان مَا فِي كِتَابهمْ {بَغْياً بَيْنَهُمْ} حسداً بَينهم {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {فَإِنَّ الله سَرِيعُ الْحساب} شَدِيد الْعقَاب(1/44)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
ثمَّ ذكر خصومتهم مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي دين الْإِسْلَام يُقَال {فَإنْ حَآجُّوكَ} خاصموك يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي الدّين {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ} أخلصت ديني وعملي {للَّهِ وَمَنِ اتبعن} أَيْضا {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكتاب} أعْطوا الْكتاب يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى {والأميين} يَعْنِي الْعَرَب {أَأَسْلَمْتُمْ} أتسلمون كَمَا أسلمنَا فَقَالَ الله {فَإِنْ أَسْلَمُواْ} كَمَا أسلمتم {فَقَدِ اهتدوا} من الضَّلَالَة {وَّإِن تَوَلَّوْاْ} عَن ذَلِك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغ} التَّبْلِيغ عَن الله {وَالله بَصِيرٌ بالعباد} بِمن يُؤمن وبمن لَا يُؤمن(1/44)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
{إِنَّ الَّذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيين} يَعْنِي يتولون الَّذين كَانُوا يقتلُون النَّبِيين من آبَائِهِم {بِغَيْرِ حَقٍّ} بِلَا جرم {وَيَقْتُلُونَ الَّذين يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ} بِالتَّوْحِيدِ {مِنَ النَّاس} من الَّذين آمنُوا بالنبيين {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وجيع يخلص وَجَعه إِلَى قُلُوبهم(1/44)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
{أُولَئِكَ الَّذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطلت حسناتهم(1/44)
{فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} يَعْنِي لَا يثابون بهَا فِي الْآخِرَة {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} من مانعين من عَذَاب الله(1/45)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
ثمَّ ذكر إِعْرَاض بني قُرَيْظَة وَالنضير من أهل خَيْبَر عَن الرَّجْم فَقَالَ {أَلَمْ تَرَ} ألم تنظر يَا مُحَمَّد {إِلَى الَّذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكتاب} أعْطوا علما بِمَا فِي التَّوْرَاة من الرَّجْم وَغَيره {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ الله} الْقُرْآن {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} بِالرَّجمِ كَمَا فِي كِتَابهمْ على الْمُحصن والمحصنة اللَّذين زَنَيَا فِي خَيْبَر {ثُمَّ يتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} يعرض طَائِفَة مِنْهُم بَنو قُرَيْظَة وَأهل خَيْبَر عَن الحكم {وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} مكذبون بذلك(1/45)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{ذَلِك} الْإِعْرَاض والتكذيب وَالْعَذَاب {بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّار} لن تصيبنا النَّار فِي الْآخِرَة {إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} قدر أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَالَ قوم من الْيَهُود لن تمسنا النَّار إِلَّا أَيَّامًا معدودات وَهِي سَبْعَة أَيَّام من أَيَّام الْآخِرَة كل يَوْم ألف سنة الَّتِي عبد آباؤهم الْعجل فِيهَا {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ} يَعْنِي ثباتهم على دين الْيَهُودِيَّة {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} الترؤهم هَذَا وَيُقَال تَأْخِير الْعَذَاب(1/45)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
{فَكَيْفَ} يصنعون يَا مُحَمَّد {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} بعد الْمَوْت {لِيَوْمٍ} فِي يَوْم {لاَّ رَيْبَ فِيهِ} لَا شكّ فِيهِ {وَوُفِّيَتْ} وفرت {كُلُّ نَفْسٍ} برة وفاجرة {مَّا كَسَبَتْ} مَا عملت من خير أَو شَرّ {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لَا ينقص من حسناتهم وَلَا يزدْ على سيئاتهم(1/45)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
{قُلِ اللَّهُمَّ} قل يَا الله أم بِنَا أَي اقصد بِنَا إِلَى الْخَيْر {مَالِكَ الْملك} يَا مَالك الْمُلُوك وَالْملك {تُؤْتِي الْملك مَن تَشَآءُ} تُعْطِي الْملك من تشَاء يَعْنِي مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه {وَتَنزِعُ الْملك مِمَّنْ تَشَآءُ} تَأْخُذ الْملك مِمَّن تشَاء من أهل فَارس وَالروم {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} يَعْنِي مُحَمَّدًا {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} يَعْنِي عبد الله بن أبي ابْن سلول وَأَصْحَابه وَأهل فَارس وَالروم {بِيَدِكَ الْخَيْر} الْعِزّ والذل وَالْملك وَالْغنيمَة والنصرة والدولة {إِنَّكَ على كُلِّ شَيْء} من الْعِزّ والذل وَالْملك وَالْغنيمَة والنصرة والدولة {قَدِيرٌ} نزلت هَذِه الْآيَة فِي عبد الله ابْن أبي ابْن سلول الْمُنَافِق فِي قَوْله بعد فتح مَكَّة من أَيْن يكون لَهُم ملك فَارس وَالروم وَيُقَال نزلت فِي قُرَيْش لقَولهم كسْرَى ينَام على فرش الديباج فَإِن كنت نَبيا فَأَيْنَ ملكك(1/45)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
ثمَّ بَين قدرته فَقَالَ {تولج اللَّيْل فِي النَّهَار} يَقُول تزيد النَّهَار على اللَّيْل فَيكون النَّهَار أطول من اللَّيْل {وَتُولِجُ النَّهَار فِي اللَّيْل} يَقُول تزيد اللَّيْل على النَّهَار فَيكون اللَّيْل أطول من النَّهَار {وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيِّت} يَقُول تخرج النَّسمَة من النُّطْفَة {وَتخرج الْمَيِّت من الْحَيّ} النُّطْفَة من الْإِنْسَان وَيُقَال تخرج الْحَيّ الدَّجَاجَة من الْمَيِّت من الْبَيْضَة وَتخرج الْمَيِّت الْبَيْضَة من الْحَيّ من الدَّجَاجَة وَيَقُول وَتخرج الْحَيّ السنبلة من الْمَيِّت من الْحبَّة وَتخرج الْمَيِّت الْحبَّة من الْحَيّ من السنبلة {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} بِلَا قُوَّة وَلَا هنداز وَلَا منَّة وَيُقَال توسع المَال على من تشَاء بِلَا حرج وتكليف(1/45)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
{لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ} يَقُول لَا يَنْبَغِي أَن تتَّخذ الْمُؤْمِنُونَ عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {الْكَافرين} الْيَهُود {أَوْلِيَآءَ} فِي التعزز والكرامة {مِن دُونِ الْمُؤمنِينَ} المخلصين {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِك} للولاية والكرامة {فَلَيْسَ مِنَ الله} من كَرَامَة الله وَرَحمته وذمته {فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ} تُرِيدُونَ أَن تنجوا {مِنْهُمْ تُقَاةً} نجاة بِاللِّسَانِ دون الْقلب {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} فِي تقية من دم الْحَرَام وَفرج الْحَرَام وَمَال الْحَرَام وَشرب الْخمر وَشَهَادَة الزُّور والشرك بِاللَّه {وَإِلَى الله الْمصير} الْمرجع بعد الْمَوْت(1/45)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِن تُخْفُوا} تسروا {مَا فِي صُدُورِكُمْ} مَا فِي قُلُوبكُمْ من البغض والعداوة لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أَوْ تُبْدُوهُ} تظهروه بالشتم والطعن وَالْحَرب {يَعْلَمْهُ الله} يحفظه الله عَلَيْكُم ويجزكم بذلك {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض} من الْخَيْر وَالشَّر والسرر وَالْعَلَانِيَة {وَالله على كُلِّ شَيْءٍ} من أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض وثوابهم وعقابهم {قَدِيرٌ} نزلت هَذِه الْآيَة فِي الْمُنَافِقين وَالْيَهُود(1/45)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
{يَوْمَ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} مَكْتُوبًا فِي ديوانها {وَمَا عملت من سوء}(1/45)
من قَبِيح أَيْضا تَجدهُ مَكْتُوبًا فِي ديوانها {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا} بَين النَّفس {وَبَيْنَهُ} بَين الْفِعْل الْقَبِيح {أَمَدَاً بَعِيداً} أَََجَلًا طَويلا من مطلع الشَّمْس إِلَى مغْرِبهَا {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} عِنْد الْمعْصِيَة {وَالله رَؤُوفُ بالعباد} بِالْمُؤْمِنِينَ(1/46)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله} وَدينه {فَاتبعُوني} فاتبعوا ديني {يُحْبِبْكُمُ الله} يزدكم الله حبا إِلَى حبكم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} فِي الْيَهُودِيَّة {وَالله غَفُورٌ} لمن تَابَ {رَّحِيمٌ} لمن مَاتَ على التَّوْبَة نزلت هَذِه الْآيَة فِي الْيَهُود لقَولهم نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه على دينه فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة قَالَ عبد الله بن أبي يَأْمُرنَا مُحَمَّد أَن نحبه كَمَا أحبت النَّصَارَى الْمَسِيح وَقَالَت الْيَهُود يُرِيد مُحَمَّد أَن نتخذه رَبًّا حناناً كَمَا اتَّخذت النَّصَارَى عِيسَى حناناً فَأنْزل الله فِي قَوْلهم(1/46)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
{قُلْ أَطِيعُواْ الله} فِي الْفَرَائِض {وَالرَّسُول} فِي السّنَن {فإِن تَوَلَّوْا} أَعرضُوا عَن طاعتهما {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الْكَافرين} الْيَهُود وَالْمُنَافِقِينَ فَلَمَّا(1/46)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
نزلت هَذِه الْآيَة قَالَت الْيَهُود نَحن على دين آدم مُسلمين فَأنْزل الله {إِنَّ الله اصْطفى آدَمَ} اخْتَار آدم بِالْإِسْلَامِ {وَنُوحاً} بِالْإِسْلَامِ {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ} أَوْلَاد إِبْرَاهِيم بِالْإِسْلَامِ {وَآل عمرَان} مُوسَى وهرون بِالْإِسْلَامِ {عَلَى الْعَالمين} عالمي زمانهم وَيُقَال لَيْسَ عمرَان أَبَا مُوسَى وهرون(1/46)
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
{ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} بَعْضهَا على دين بعض وَولد بَعْضهَا من بعض {وَالله سَمِيعٌ} لمقالة الْيَهُود نَحن أَبنَاء الله وأحباؤه على دينه {عَلِيمٌ} بعقوبتهم وبمن هُوَ على دينه(1/46)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
وَاذْكُر يَا مُحَمَّد {إِذْ قَالَتِ امْرَأَة عِمْرَانَ} حنة أم مَرْيَم {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ} جعلت لَك {مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} خَادِمًا لمَسْجِد بَيت الْمُقَدّس {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيع} للدُّعَاء {الْعَلِيم} بالإجابة وَبِمَا فِي بَطْني(1/46)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} ولدتها فَإِذا هِيَ جَارِيَة {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَى} ولدتها جَارِيَة {وَالله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} بِمَا ولدت {وَلَيْسَ الذّكر} فِي الْخدمَة والعورة {كالأنثى} كالجارية {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} أعتصمها بك وأمنعها بك {وَذُرِّيَّتَهَا} إِن كَانَ لَهَا ذُرِّيَّة {مِنَ الشَّيْطَان الرَّجِيم} اللعين(1/46)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} أَي أحسن إِلَيْهَا حَتَّى قبلهَا مَكَان الْغُلَام {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} غذاها فِي الْعِبَادَة بِالسِّنِينَ والشهور وَالْأَيَّام والساعات غذَاء حسنا {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ضمهَا إِلَيْهِ للتربية {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب} يَعْنِي بَيتهَا الَّذِي كَانَت تعبد فِيهِ {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} فَاكِهَة الشتَاء فِي الصَّيف مثل الْقصب وَفَاكِهَة الصَّيف فِي الشتَاء مثل الْعِنَب {قَالَ يَا مَرْيَم أَنى لَكِ هَذَا} من أَيْن لَك هَذَا فِي غير حِينه {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} أَتَانِي بِهِ جِبْرِيل {إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} يُعْطي من يَشَاء فِي حِينه وَفِي غير حِينه {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بِلَا تَقْدِير وَلَا هدز(1/46)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
{هُنَالِكَ} عِنْد ذَلِك {دَعَا} وطمع {زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي} أَعْطِنِي {مِن لَّدُنْكَ} من عنْدك {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} ولدا صَالحا {إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء} مُجيب الدُّعَاء(1/46)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَة} يَعْنِي جِبْرِيل {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَاب} فِي الْمَسْجِد {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} بِولد يُسمى بِيَحْيَى {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله} بِعِيسَى ابْن مَرْيَم أَن يكون بِكَلِمَة من الله مخلوقاً بِلَا أَب {وَسَيِّداً} حَلِيمًا عَن الْجَهْل {وَحَصُوراً} لم يكن لَهُ شَهْوَة إِلَى النِّسَاء {وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحين} من الْمُرْسلين(1/46)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
{قَالَ رَبِّ} قَالَ زَكَرِيَّا لجبريل يَا سَيِّدي {أَنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} من أَيْن يكون لي ولد {وَقَدْ بَلَغَنِي الْكبر} وَقد أدركني الْكبر {وامرأتي عَاقِرٌ} عقيم لَا تَلد {قَالَ} جِبْرِيل {كَذَلِكَ} كَمَا قلت لَك {الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} كَمَا يَشَاء(1/46)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
{قَالَ} زَكَرِيَّا {رَبِّ} أَي يَا رب {اجْعَل لي آيَةً} عَلامَة فِي حَبل امْرَأَتي {قَالَ آيَتُكَ} علامتك فِي حَبل امْرَأَتك {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاس} لَا تقدر أَن تكلم النَّاس(1/46)
{ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} من غير خرس {إِلاَّ رَمْزاً} إِلَّا تحريكاً بالشفتين والحاجبين والعينين وَالْيَدَيْنِ وَيُقَال إِلَّا كِتَابَة على الأَرْض {وَاذْكُر رَّبَّكَ} بِاللِّسَانِ وَالْقلب {كَثِيراً} على كل حَال {وَسَبِّحْ بالْعَشي وَالْإِبْكَار} صلى غدْوَة وعشياً كَمَا كنت تصلي(1/47)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
{وَإِذ قَالَت الْمَلَائِكَة} يَعْنِي جِبْرِيل {يَا مَرْيَم إِنَّ الله اصطفاك} يُقَال اختارك بِالْإِسْلَامِ وَالْعِبَادَة {وَطَهَّرَكِ} من الْكفْر والشرك والأدناس وَيُقَال أنجاك من الْقَتْل {واصطفاك} اختارك {على نِسَآءِ الْعَالمين} عالمي زَمَانك بِوِلَادَة عِيسَى(1/47)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{يَا مَرْيَم اقنتي لِرَبِّكِ} أطيعي لِرَبِّك شكرا لذَلِك وَيُقَال أطيلي الْقيام فِي الصَّلَاة شكرا لِرَبِّك {واسجدي واركعي} مَعْنَاهُ واركعي واسجدي بامركوع وَالسُّجُود {مَعَ الراكعين} مَعَ أهل الصَّلَاة(1/47)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
{ذَلِك} هَذَا الَّذِي ذكرت من خبر مَرْيَم وزَكَرِيا {مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْب} من أَخْبَار الْغَائِب عَنْك يَا مُحَمَّد {نُوحِيهِ إِلَيكَ} يَقُول نرسل جِبْرِيل بِهِ إِلَيْك {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} يَعْنِي عِنْد الْأَحْبَار {إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ} فِي جري المَاء {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ} يَأْخُذ {مَرْيَمَ} للتربية {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} عِنْدهم {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} يَتَكَلَّمُونَ بِالْحجَّةِ لتربية مَرْيَم(1/47)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
{إِذْ قَالَت الْمَلَائِكَة} يَعْنِي جِبْرِيل {يَا مَرْيَم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} بِولد يكون بِكَلِمَة من الله مخلوقاً {اسْمه الْمَسِيح} يُسمى الْمَسِيح لِأَنَّهُ يسيح فِي الْبلدَانِ وَيُقَال الْمَسِيح الْملك {عِيسَى ابْن مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا} لَهُ الْقدر والمنزلة فِي الدُّنْيَا عِنْد النَّاس {وَالْآخِرَة} وَفِي الْآخِرَة عِنْد الله لَهُ الْقدر والمنزلة {وَمِنَ المقربين} إِلَى الله فِي جنَّة عدن(1/47)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
{وَيُكَلِّمُ النَّاس فِي المهد} فِي الْحجر ابْن أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِنِّي عبد الله ومسيحه {وَكَهْلاً} بعد ثَلَاثِينَ سنة بِالنُّبُوَّةِ {وَمِنَ الصَّالِحين} من الْمُرْسلين(1/47)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
{قَالَتْ رَبِّ} قَالَت مَرْيَم لجبريل يَا سَيِّدي {أَنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} من أَيْن يكون لي غُلَام ولد {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} بالحلال وَلَا بالحرام {قَالَ} جِبْرِيل {كَذَلِكَ} كَمَا قلت لَك {الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} كَمَا يَشَاء {إِذَا قضى أَمْراً} إِذا أَرَادَ أَن يخلق ولدا مِنْك بِلَا أَب {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ولدا بِلَا أَب(1/47)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
{وَيُعَلِّمُهُ الْكتاب} كتب الْأَنْبِيَاء وَيُقَال الْكِتَابَة {وَالْحكمَة} الْحَلَال وَالْحرَام وَيُقَال حِكْمَة الْأَنْبِيَاء قبله {والتوراة} فِي بطن أمه {وَالْإِنْجِيل} بعد خُرُوجه من بطن أمه(1/47)
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
{وَرَسُولاً} بعد ثَلَاثِينَ سنة {إِلَى بني إِسْرَائِيلَ} فَلَمَّا جَاءَهُم قَالَ {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} بعلامة {مِّن رَّبِّكُمْ} لنبوتي قَالُوا وَمَا الْعَلامَة قَالَ {أَنِّي أَخْلُقُ} إِنِّي أصور {لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} كشبه الطير {فَأَنفُخُ فِيهِ} كنفخ النَّائِم {فَيَكُونُ طَيْراً} فَيصير طيراً يطير بَين السَّمَاء وَالْأَرْض {بِإِذْنِ الله} بِأَمْر الله فصور لَهُم خفاشاً فَقَالُوا هَذَا سحر فَهَل عنْدك غَيره قَالَ نعم {وأبرئ} أصحح {الأكمه} الَّذِي لم يزل أعمى {والأبرص} أَيْضا {وأحيي الْمَوْتَى بِإِذْنِ الله} باسم الله الْأَعْظَم يَا حَيّ يَا قيوم فَلَمَّا فعل ذَلِك قَالُوا هَذَا سحر فَهَل عنْدك غَيره قَالَ نعم {وَأُنَبِّئُكُمْ} أخْبركُم {بِمَا تَأْكُلُونَ} غدْوَة وَعَشِيَّة {وَمَا تَدَّخِرُونَ} ترفعون من غداء لعشاء وَمن عشَاء لغداء {فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِك} فِيمَا قلت لكم {لآيَةً} لعلامة {لَّكُمْ} لنبوتي {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} مُصدقين(1/47)
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)
{وَمُصَدِّقاً} وجئتكم مُوَافقا بِالتَّوْحِيدِ بِالدينِ {لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاة} قبلي من التَّوْرَاة وَسَائِر الْكتب {وَلأُحِلَّ لَكُم} أرخص وَأبين لكم {بَعْضَ الَّذِي} تَحْلِيل بعض الَّذِي {حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} مثل لحم الْإِبِل وشحوم الْبَقر وَالْغنم والسبت وَغير ذَلِك(1/47)
{وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} بعلامة {مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا الله} فاخشوا الله فِيمَا أَمركُم بِهِ وتوبوا إِلَيْهِ {وَأَطِيعُونِ} وَاتبعُوا أَمْرِي وديني(1/48)
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
{إِنَّ الله رَبِّي} هُوَ رَبِّي {وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} فوحدوه {هَذَا} التَّوْحِيد {صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} دين قَائِم يرضاه وَهُوَ الْإِسْلَام(1/48)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
{فَلَمَّآ أَحَسَّ} علم {عِيسَى مِنْهُمُ الْكفْر} وَرَأى مِنْهُم الْقَتْل حِين أَرَادوا قَتله وَيُقَال أَحَسَّ سمع مِنْهُم تكْرَار الْكفْر {قَالَ} عِيسَى {مَنْ أَنْصَارِي} من أعواني {إِلَى الله} مَعَ الله على أعدائه {قَالَ الحواريون} أصفياؤه القصارون وهم اثْنَا عشر رجلا {نَحْنُ أَنْصَارُ الله} أعوانك مَعَ الله على أعدائه {آمَنَّا بِاللَّه واشهد} اعْلَم أَنْت يَا عِيسَى {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} مقرون لله بِالْعبَادَة والتوحيد(1/48)
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
{رَبَّنَآ} يَا رَبنَا {آمَنَّا بِمَآ أَنزَلْتَ} من الْكتاب يَعْنِي الْإِنْجِيل {وَاتَّبَعنَا الرَّسُول} دين الرَّسُول عِيسَى {فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين} فاجعلنا مَعَ السَّابِقين الْأَوَّلين الَّذين شهدُوا قبلنَا وَيُقَال فاجعلنا من أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/48)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
{وَمَكَرُواْ} أَرَادوا يَعْنِي الْيَهُود قتل عِيسَى {وَمَكَرَ الله} أَرَادَ الله قتل صَاحبهمْ قطيانوس {وَالله خَيْرُ الماكرين} أقوى المريدين وَيُقَال أفضل الصانعين(1/48)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
{إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} مقدم ومؤخر يَقُول إِنِّي رافعك {إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ} منجيك {مِنَ الَّذين كَفَرُواْ} بك {وَجَاعِلُ الَّذين اتبعوك} اتبعُوا دينك {فَوْقَ الَّذين كَفَرُواْ} بِالْحجَّةِ والنصرة {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة} ثمَّ متوفيك قابضك بعد النُّزُول وَيُقَال متوفي قَلْبك من حب الدُّنْيَا {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} بعد الْمَوْت {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} فأقضي بَيْنكُم {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ} فِي الدّين {تَخْتَلِفُونَ} تخاصمون(1/48)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
{فَأَمَّا الَّذين كَفَرُواْ} بِاللَّه وَرَسُوله مُحَمَّد وَعِيسَى {فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا} بِالسَّيْفِ والجزية {وَالْآخِرَة} بالنَّار {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} من مانعين من عَذَاب الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة(1/48)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
{وَأَمَّا الَّذين آمَنُوا} بِاللَّه وَالْكتاب وَالرَّسُول مُحَمَّد وَعِيسَى {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم خَالِصا {فَيُوَفِّيهِمْ} يوفرهم {أُجُورَهُمْ} ثوابهم فِي الْجنَّة يَوْم الْقِيَامَة {وَالله لاَ يُحِبُّ الظَّالِمين} الْمُشْركين بظلمهم بظلمهم وشركهم(1/48)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
{ذَلِك} الَّذِي ذكرت يَا مُحَمَّد من خبر عِيسَى {نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} ننزل عَلَيْك جِبْرِيل بِهِ {مِنَ الآيَاتِ} يَقُول من آيَات الْقُرْآن بِالْأَمر وَالنَّهْي {وَالذكر الْحَكِيم} الْمُحكم بالحلال وَالْحرَام وَيُقَال مُوَافقا للتوراة وَالْإِنْجِيل وَيُقَال اللَّوْح الْمَحْفُوظ(1/48)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
ثمَّ بَين تخليق عِيسَى بِلَا أَب لقَوْل وَفد بني نَجْرَان ائتنا بِحجَّة من الْقُرْآن على قَوْلك إِن عِيسَى لَيْسَ ولد الله فَقَالَ الله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى} مثل تخلق عِيسَى {عِندَ الله} بِلَا أَب {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} بِلَا أَب وَأم {ثُمَّ قَالَ لَهُ} لعيسى {كُن فَيَكُونُ} ولدا بِلَا أَب(1/48)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
{الْحق} هُوَ الْخَبَر الْحق {مِن رَّبِّكَ} أَن عِيسَى لم يكن الله وَلَا وَلَده وَلَا شَرِيكه {فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين} من الشاكين فِيمَا بيّنت لَك من تخليق عِيسَى بِلَا أَب(1/48)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
ثمَّ ذكر خُصُومَة وَفد بني نَجْرَان مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مَا بَين لَهُم أَن مثله عِنْد الله كَمثل آدم فَقَالُوا لَيْسَ كماتقول أَن عِيسَى لم يكن الله وَلَا وَلَده وَلَا شَرِيكه فَقَالَ الله {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ} فَمن خاصمك فِيهِ فِي عِيسَى {مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعلم} من الْبَيَان بِأَن عِيسَى لم يكن الله وَلَا وَلَده وَلَا شَرِيكه {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا} نخرج أبناءنا {وَأَبْنَآءَكُمْ} أخرجُوا أَنْتُم أبناءكم {وَنِسَآءَنَا} نخرج نِسَاءَنَا {وَنِسَآءَكُمْ} أخرجُوا أَنْتُم نساءكم {وَأَنْفُسَنَا} نخرج بِأَنْفُسِنَا {وأَنْفُسَكُمْ} اخْرُجُوا أَنْتُم بِأَنْفُسِكُمْ {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} نَتَضَرَّع ونجتهد فِي الدُّعَاء(1/48)
{فَنَجْعَل} فَنقل {لَّعْنَةُ الله} فِيمَا بَيْننَا {عَلَى الْكَاذِبين} على الله فِي عِيسَى(1/49)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)
{إِنَّ هَذَا} الَّذِي ذكرت يَا مُحَمَّد من خبر عِيسَى ووفد بني نَجْرَان {لَهُوَ الْقَصَص الْحق} الْخَبَر الْحق بِأَن عِيسَى لم يكن الله وَلَا وَلَده وَلَا شَرِيكه {وَمَا مِنْ إِلَه إِلاَّ الله} بِلَا ولد وَلَا شريك {وَإِنَّ الله لَهُوَ الْعَزِيز} بالنقمة لمن لَا يُؤمن بِهِ {الْحَكِيم} أَمر الله أَن لَا يعبد غَيره وَيُقَال الحكم حكم عَلَيْهِم الْمُلَاعنَة فتولوا عَن ذَلِك وَلم يخرجُوا فِي الْمُلَاعنَة مَعَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لأَنهم علمُوا أَنهم كاذبون وَأَن مُحَمَّدًا نَبِي صَادِق مُرْسل وَصفته ونعته فِي كِتَابهمْ(1/49)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
فَقَالَ الله {فَإِن تَوَلَّوْاْ} عَن دعوتكم إِلَى الْمُلَاعنَة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين} بنصارى بني نَجْرَان(1/49)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
ثمَّ دعاهم إِلَى التَّوْحِيد فَقَالَ {قل يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ} لَا إِلَه إِلَّا الله {سَوَآءٍ} عدل {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله} أَن لَا نوحد إِلَّا الله {وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} من المخلوقين {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً} لَا يُطِيع أحد منا أحدا من الرؤساء فِي مَعْصِيّة الله {مِّن دُونِ الله} فَأَبَوا عَن ذَلِك أَيْضا فَقَالَ الله {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أَعرضُوا ونأوا عَن التَّوْحِيد {فَقُولُواْ اشْهَدُوا} اعلموا أَنْتُم {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} مقرون لَهُ بِالْعبَادَة والتوحيد(1/49)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
ثمَّ ذكر خصومتهم مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقَوْلهمْ إِنَّا مُسلمُونَ على دين إِبْرَاهِيم وَادعوا ذَلِك فِي التَّوْرَاة فَقَالَ الله {يَا أهل الْكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ} تخاصمون {فِي إِبْرَاهِيمَ} فِي دين إِبْرَاهِيم {وَمَآ أُنزِلَتِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} بعد إِبْرَاهِيم {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أَنه لَيْسَ فيهمَا أَن إِبْرَاهِيم كَانَ يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا(1/49)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
{هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ} أَنْتُم هَؤُلَاءِ الْيَهُود وَالنَّصَارَى {حَاجَجْتُمْ} خاصمتم {فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} فِي كتابكُمْ أَن مُحَمَّدًا نَبِي مُرْسل وَأَن إِبْرَاهِيم لم يكن يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا فجحدتم ذَلِك {فَلِمَ تُحَآجُّونَ} فَلم تخاصمون {فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} فِي كتابكُمْ فتقولون إِن إِبْرَاهِيم كَانَ يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا {وَالله يَعْلَمُ} أَن إِبْرَاهِيم لم يكن يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أَنه كَانَ يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا(1/49)
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
ثمَّ بَين الله تَكْذِيب قَوْلهم فَقَالَ {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً} على دين الْيَهُود {وَلاَ نَصْرَانِيّاً} على دين النَّصَارَى {وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً} حَاجا {مُّسْلِماً} مخلصاً {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْركين} على دينهم(1/49)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
ثمَّ بَين من هُوَ على دين إِبْرَاهِيم فَقَالَ {إِنَّ أَوْلَى النَّاس} أَحَق النَّاس {بِإِبْرَاهِيمَ} بدين إبراهيهم {لَلَّذِينَ اتَّبعُوهُ} فِي زَمَانه {وَهَذَا النَّبِي} مُحَمَّد على دينه {وَالَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن أَيْضا على دين إِبْرَاهِيم {وَالله وَلِيُّ الْمُؤمنِينَ} حافظهم وناصرهم(1/49)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
ثمَّ ذكر دَعْوَة كَعْب بن الْأَشْرَف وَأَصْحَابه أَصْحَاب رَسُول الله معَاذًا وَحُذَيْفَة وَعمَّارًا بعد يَوْم أحد إِلَى دينهم الْيَهُودِيَّة عَن دينهم الْإِسْلَام فَقَالَ {وَدَّت} تمنت {طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} أَن يضلوكم عَن دينكُمْ الْإِسْلَام {وَمَا يُضِلُّونَ} عَن دين الله {إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} بذلك وَيُقَال لَا يعلمُونَ أَن الله يخبر نبيه بذلك(1/49)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
{يَا أهل الْكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} تعلمُونَ فِي كتابكُمْ أَن مُحَمَّدًا نَبِي مُرْسل(1/49)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
{يَا أهل الْكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الْحق بِالْبَاطِلِ} لم تخلطون الْبَاطِل مَعَ الْحق فِي كتابكُمْ صفة مُحَمَّد {وَتَكْتُمُونَ الْحق} وَلم تكتمون صفة مُحَمَّد ونعته {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ذَلِك فِي كتابكُمْ(1/49)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
ثمَّ ذكر مقَالَة كَعْب وَأَصْحَابه فِي تَحْويل الْقبْلَة فَقَالَ {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكتاب} كَعْب وَأَصْحَابه من الرؤساء لسفلتهم {آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَجْهَ النَّهَار} أول النَّهَار وَهُوَ صَلَاة الْفجْر {واكفروا آخِره}(1/49)
يَعْنِي صَلَاة الظّهْر يَقُولُونَ آمنُوا بالقبلة الَّتِي صلى إِلَيْهَا مُحَمَّد وَأَصْحَابه صَلَاة الْفجْر وانفروا آخِره بالقبلة لأخرى الَّتِي صلوا إِلَيْهَا صَلَاة الظّهْر {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لكَي يرجع عامتهم إِلَى دينكُمْ وقبلتكم(1/50)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
{وَلاَ تؤمنوا} لَا تصدقوا أحدا بِالنُّبُوَّةِ {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} الْيَهُودِيَّة وقبلتكم بَيت الْمُقَدّس {قل} لَهُم يَا مُحَمَّد معنى الْيَهُود {إِنَّ الْهدى هُدَى الله} إِن دين الله هُوَ الْإِسْلَام وقبلة الله هِيَ الْكَعْبَة {أَن يُؤْتى} أَن يعْطى {أَحَدٌ} من الدّين والقبلة {مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ} أعطيتم يَا أَصْحَاب مُحَمَّد {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ} أَو أَن يخاصموكم الْيَهُود بِهَذَا الدّين والقبلة {عِندَ رَبِّكُمْ} يَوْم الْقِيَامَة {قُلْ} أَيْضا يَا مُحَمَّد {إِنَّ الْفضل} بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام وقبلة إِبْرَاهِيم {بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} يُعْطِيهِ من يَشَاء يَعْنِي مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه {وَالله وَاسِعٌ} لعطيته {عَلِيمٌ} بِمن يُعْطي(1/50)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} يخْتَار لدينِهِ {مَن يَشَآءُ} مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه {وَالله ذُو الْفضل} ذُو الْمَنّ {الْعَظِيم} بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام على مُحَمَّد(1/50)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
ثمَّ ذكر أَمَانَة أهل الْكتاب وخيانتهم فَقَالَ {وَمِنْ أَهْلِ الْكتاب} يَعْنِي الْيَهُود {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ} تبايعه بملء مسك ثَوْر ذَهَبا {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} بِغَيْر عناء وَلَا تَعب وَلَا يستحله وَهُوَ عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ} تبايعه {بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} لَا يردهُ إِلَيْك ويستحله {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} ملحاً متقاضياً وَهُوَ كَعْب وَأَصْحَابه {ذَلِك} الاستحلال والخيانة {بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيين سَبِيلٌ} فِي أَخذ أَمْوَال الْعَرَب حرج {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَنهم كاذبون بذلك(1/50)
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
{بلَى} رد عَلَيْهِم {مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ} يَقُول وَلَكِن من أوفى بعهده فِيمَا بَينه وَبَين الله أَو بَينه وَبَين النَّاس {وَاتَّقَى} عَن نقض الْعَهْد بالخيانة وَترك الْأَمَانَة {فَإِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} عَن نقض الْعَهْد والخيانة وَترك الْأَمَانَة وَهُوَ عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه(1/50)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
ثمَّ ذكر عقوبتهم يَعْنِي عُقُوبَة الْيَهُود فَقَالَ {إِنَّ الَّذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله} بِنَقْض عهد الله {وَأَيْمَانِهِمْ} عهودهم مَعَ الْأَنْبِيَاء {ثَمَناً قَلِيلاً} عرضا يَسِيرا من المأكلة {أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ} لَا نصيب لَهُم {فِي الْآخِرَة} فِي الْجنَّة {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} يَوْم الْقِيَامَة بِكَلَام طيب {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة} بِالرَّحْمَةِ {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} لَا يبرئهم من الْيَهُودِيَّة وَلَا يصلح بالهم وَلَهُمْ {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع يخلص وَجَعه إِلَى قُلُوبهم وَيُقَال نزلت فِي عَبْدَانِ بن الأشوع وامرىء الْقَيْس لخصومة كَانَت بَينهمَا وَنزلت فِي الْيَهُود أَيْضا(1/50)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
{وَإِنَّ مِنْهُمْ} من الْيَهُود {لَفَرِيقاً} طَائِفَة كَعْبًا وَأَصْحَابه {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} يحرفُونَ ألسنتهم {بِالْكتاب} بِقِرَاءَة صفة الرِّجَال فِي الْكتاب {لِتَحْسَبُوهُ} لكَي تظنه السفلة أَنه {مِنَ الْكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكتاب وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ} فِي التَّوْرَاة {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} فِي التَّوْرَاة {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أَن لَيْسَ ذَلِك فِي كِتَابهمْ وَيُقَال نزلت فِي الحبرين الفقيرين اللَّذين غيرا صفة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّوْرَاة(1/50)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
ثمَّ نزل فِي مقالتهم نَحن على دين إِبْرَاهِيم وأمرنا إِبْرَاهِيم بِهَذَا الدّين فَقَالَ الله {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} من الْأَنْبِيَاء {أَن يُؤْتِيهُ الله} يُعْطِيهِ الله {الْكتاب وَالْحكم} الْفَهم {والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي} عبيدا لي {مِن دُونِ الله وَلَكِن كُونُواْ} وَلَكِن أَمرهم أَن يَكُونُوا {رَبَّانِيِّينَ} عُلَمَاء فُقَهَاء عاملين {بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ} النَّاس {الْكتاب} من الْكتاب وَيُقَال تعلمُونَ الْكتاب {وَبِمَا كُنْتُم تدرسون} تقرءون من الْكتاب(1/50)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
{وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} يَا معشر قُرَيْش وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى {أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَة} بَنَات الله {والنبيين أَرْبَاباً أيأمركم بالْكفْر} كَيفَ أَمركُم إِبْرَاهِيم بالْكفْر {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} بعد إِذْ أَمركُم بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ إِن الله اصْطفى لكم الدّين فَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ يَقُول مَا بعث الله رَسُولا إِلَّا أَمر ذَلِك الرَّسُول بِالْإِسْلَامِ لَا باليهودية والنصرانية وَعبادَة الْأَصْنَام كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ الْكفَّار وَيُقَال نزلت هَذِه الْآيَة فِي مقَالَة الْيَهُود لمُحَمد تَأْمُرنَا أَن نحبك ونعبدك كَمَا عبدت النَّصَارَى الْمَسِيح وَكَذَلِكَ قَالَت النَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ(1/51)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
ثمَّ بَين الله ميثاقه يَوْم تلى على النَّبِيين فِي مُحَمَّد ونعته وَصفته فَقَالَ {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيين} يَقُول أَخذ الْمِيثَاق على النَّبِيين أَن يبين بَعضهم لبَعض صفة مُحَمَّد ونعته وفضله {لَمَآ آتَيْتُكُم} يَقُول حِين أَعطيتكُم {مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} فِيهِ الْحَلَال وَالْحرَام {ثُمَّ} تأخذون أَيْضا على أمتكُم أَن إِذا {جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ} مُوَافق بِالتَّوْحِيدِ {لِّمَا مَعَكُمْ} من الْكتاب {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} يَقُول لتقرن بِهِ وبفضله {وَلَتَنصُرُنَّهُ} بِالسَّيْفِ على أعدائه وببيان صفته {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} قَالَ الله لَهُم أقبلتم {وَأَخَذْتُمْ على ذَلِكُم} مَا قلت {إِصْرِي} عهدي {قَالُوا} أَي النَّبِيُّونَ {أَقْرَرْنَا} قبلنَا {قَالَ} الله {فَاشْهَدُوا} على ذَلِكُم {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدين} على ذَلِك فَأشْهد الله بَعضهم على بعض بذلك وَشهد هُوَ بِنَفسِهِ على ذَلِك فَبين كل نَبِي لأمته ذَلِك وَأشْهد كل نَبِي أمته بَعضهم على بعض بذلك وَشهد كل نَبِي بِنَفسِهِ على ذَلِك(1/51)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
{فَمَنْ تولى} من الْأُمَم {بَعْدَ ذَلِك} عَن الْمِيثَاق {فَأُولَئِك هُمُ الْفَاسِقُونَ} الناقضون الْكَافِرُونَ(1/51)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
ثمَّ ذكر خُصُومَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى وسؤالهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اينا على دين إِبْرَاهِيم فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كلا الْفَرِيقَيْنِ بريئان من دين إِبْرَاهِيم فَقَالُوا لَا نرضى بذلك فَقَالَ الله {أَفَغَيْرَ دِينِ الله} الْإِسْلَام {يَبْغُونَ} يطْلبُونَ عنْدك {وَلَهُ أَسْلَمَ} أقرّ بِالْإِسْلَامِ والتوحيد {مَن فِي السَّمَاوَات} من الْمَلَائِكَة {وَالْأَرْض} من الْمُؤمنِينَ {طَوْعاً} أهل السَّمَوَات بالطوع {وَكَرْهاً} أهل الأَرْض بالكره وَيُقَال المخلصون بالطوع والمنافقون بالكره وَيُقَال الَّذين ولدُوا فِي الْإِسْلَام بالطوع وَالَّذين أدخلُوا فِي الْإِسْلَام بِالسَّيْفِ بالكره {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} بعد الْمَوْت(1/51)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
ثمَّ بَين حكم الْإِيمَان لكَي يكون دلَالَة لَهُم إِلَى الْإِيمَان فَقَالَ {قُلْ} يَا مُحَمَّد {آمَنَّا بِاللَّه} وَحده لَا شريك لَهُ {وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا} وَبِمَا أنزل علينا الْقُرْآن {وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ} بإبراهيم وَكتابه {وَإِسْمَاعِيلَ} وَكتابه {وَإِسْحَاقَ} وَكتابه {وَيَعْقُوبَ} وَكتابه {والأسباط} أَوْلَاد يَعْقُوب وكتابهم {وَمَا أُوتِيَ} أعطي {مُوسَى} بمُوسَى وَكتابه {وَعِيسَى} بِعِيسَى وَكتابه {والنبيون} بجملة النَّبِيين وكتابهم {مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} لَا نكفر بِأحد من الْأَنْبِيَاء وَيُقَال لَا نفرق بَينهم وَبَين الله بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} مقرون لَهُ بِالْعبَادَة والتوحيد مخلصون لَهُ بِالدينِ(1/51)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
{وَمَن يَبْتَغِ} يطْلب {غَيْرَ الْإِسْلَام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة مِنَ الخاسرين} من المغبونين بذهاب الْجنَّة وَمَا فِيهَا وَلُزُوم النَّار وَمَا فِيهَا(1/51)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)
{كَيْفَ يَهْدِي الله} لدينِهِ {قَوْماً كَفَرُواْ} بِاللَّه {بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} بِاللَّه {وشهدوا أَنَّ الرَّسُول} مُحَمَّدًا {حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَينَات} الْبَيَان وَالْكتاب {وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمين} الْمُشْركين بِدِينِهِ من لم يكن أَهلا لذَلِك(1/51)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)
{أُولَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله} عَذَاب الله {وَالْمَلَائِكَة} ولعنة الْمَلَائِكَة {وَالنَّاس أَجْمَعِينَ} ولعنة الْمُؤمنِينَ(1/51)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)
{خَالِدِينَ فِيهَا} فِي اللَّعْنَة {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يؤجلون من الْعَذَاب(1/51)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
{إِلاَّ الَّذين تَابُواْ} من الْكفْر والشرك {مِن بَعْدِ ذَلِك} من بعد الارتداد {وَأَصْلَحُواْ} وحدوا الله بالإخلاص {فَإِنَّ الله غَفُورٌ}(1/51)
لمن تَابَ مِنْهُم {رَّحِيمٌ} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/52)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
{إِنَّ الَّذين كَفَرُواْ} بِاللَّه {بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} بِاللَّه {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} ثمَّ استقاموا على الْكفْر {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} مَا أَقَامُوا على ذَلِك {وَأُولَئِكَ هُمُ الضآلون} عَن الْهدى وَالْإِسْلَام(1/52)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} بِاللَّه وَالرَّسُول {وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} بِاللَّه وَالرَّسُول {فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْض} وزن الأَرْض {ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ} يَقُول لَو نادوا بِهِ لتبقية أنفسهم لَا يقبل مِنْهُم {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع يخلص وَجَعه إِلَى قُلُوبهم {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} من مانعين من عَذَاب الله نزلت من قَوْله وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا إِلَى هَهُنَا فِي عشرَة نفر من الْمُنَافِقين طعمة وَأَصْحَابه رجعُوا من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة مرتدين عَن دينهم الْإِسْلَام فَمَاتَ بَعضهم على ذَلِك وَقتل بَعضهم على ذَلِك وَأسلم بَعضهم بعد ذَلِك(1/52)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
ثمَّ حث الْمُؤمنِينَ على النَّفَقَة فِي سَبِيل الله فَقَالَ {لَن تَنَالُواْ الْبر} يَعْنِي مَا عِنْد الله من الثَّوَاب والكرامة وَالْجنَّة حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون من المَال وَيُقَال لن تنالوا الْبر لن تبلغوا إِلَى التَّوَكُّل وَالتَّقوى {حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ} شَيْئا من المَال {فَإِنَّ الله بِهِ} وبنياتكم {عَلِيمٌ} يَقُول أَي شَيْء تُرِيدُونَ بِهِ وَجه الله أَو مِدْحَة النَّاس(1/52)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
{كُلُّ الطَّعَام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} كل طَعَام حَلَال الْيَوْم على مُحَمَّد وَأمته كَانَ حَلَالا على بني إِسْرَائِيل أَوْلَاد يَعْقُوب {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ} يَعْقُوب {على نَفْسِهِ} بِالنذرِ {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاة} من قبل نزُول التَّوْرَاة على مُوسَى حرم يَعْقُوب لحم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا على نَفسه فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْيَهُود فَقَالَ مَا الَّذِي حرم إِسْرَائِيل على نَفسه من الطَّعَام فَقَالُوا مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه شَيْئا من الطَّعَام وكل مَا هُوَ الْيَوْم حرَام علينا من نَحْو لحم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا وشحوم الْبَقر وَالْغنم وَغير ذَلِك كَانَ حَرَامًا على كل نَبِي من آدم إِلَى مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِم وتستحلونه أَنْتُم وَادعوا تَحْرِيم ذَلِك فِي التَّوْرَاة فَقَالَ الله لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {قل} لَهُم {فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها} فاقرءوا تَحْرِيم مَا ادعيتم فِيهَا {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فِيمَا تدعون فَلم يَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ وَعَلمُوا أَنهم كَانُوا كاذبين لَيْسَ فِيهَا مَا يَقُولُونَ(1/52)
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
فَقَالَ الله {فَمَنِ افترى} اختلق {عَلَى الله الْكَذِب مِن بَعْدِ ذَلِكَ} من بعد الْبَيَان فِي التَّوْرَاة أَنهم كاذبون {فَأُولَئِك هُمُ الظَّالِمُونَ} الْكَافِرُونَ الْكَاذِبُونَ على الله(1/52)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {صَدَقَ الله} فِي قَوْله مَا كَانَ إبْرَاهِيم يَهُودِياً وَلاَ نصْرَانِياً وَيُقَال قل يَا مُحَمَّد صدق الله فِيمَا قَالَ من التَّحْرِيم والتحليل {فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} دين إِبْرَاهِيم {حَنِيفاً} يَعْنِي مُسلما {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْركين} على دينهم(1/52)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ} مَسْجِد {وُضِعَ لِلنَّاسِ} بني للْمُؤْمِنين {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} يَقُول الَّذِي هُوَ ببكة وبكة هُوَ مَوضِع الْكَعْبَة وَإِنَّمَا سمي بكة لِأَن النَّاس يَبْكُونَ بَعضهم على بعض من الزحام فِي الطوف {مُبَارَكاً} يَعْنِي مَوضِع الْكَعْبَة فِيهِ الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة {وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} قبْلَة لكل نَبِي وَرَسُول وصديق وَمُؤمن(1/52)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} عَلَامَات مبينات وَله {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} وحطيم إِسْمَاعِيل وَالْحجر الْأسود {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} من أَن يهاج فِيهِ {وَللَّهِ على النَّاس} عل الْمُؤمنِينَ {حِجُّ الْبَيْت} الذّهاب إِلَى الْبَيْت {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} بلاغاً وسيراً بالزاد وَالرَّاحِلَة وَترك الفقة لِعِيَالِهِ إِلَى أَن يرجع {وَمَن كَفَرَ} بِاللَّه وَبِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآن وبفريضة الْحَج {فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَن الْعَالمين} عَن إِيمَانهم وحجهم(1/52)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)
{قل يَا أهل الْكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَالله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} فِي الْكفْر من الكتمان والمعاصي(1/52)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
{قل يَا أهل الْكتاب لِمَ تَصُدُّونَ} تصرفون {عَن سَبِيلِ الله} عَن دين الله وطاعته {مَنْ آمَنَ} بِاللَّه وَبِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآن {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} تطلبونها غياً وزيفاً {وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ} تعلمُونَ ذَلِك فِي الْكتاب(1/52)
{وَمَا الله بِغَافِلٍ} بساه {عَمَّا تَعْمَلُونَ} فِي الْكفْر من الكتمان والمعاصي نزلت هَذِه الْآيَة فِي الَّذين دعوا عماراً وَأَصْحَابه إِلَى دينهم الْيَهُودِيَّة(1/53)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً} طَائِفَة {مِّنَ الَّذين أُوتُواْ الْكتاب} أعْطوا التَّوْرَاة {يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمَانكُمْ} بِاللَّه وَبِمُحَمَّدٍ {كَافِرين} حَتَّى تَكُونُوا كَافِرين بِاللَّه وَبِمُحَمَّدٍ(1/53)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} بِاللَّه على وَجه التَّعَجُّب {وَأَنْتُمْ تتلى} تقْرَأ {عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله} الْقُرْآن بِالْأَمر وَالنَّهْي {وَفِيكُمْ} مَعكُمْ {رَسُولُهُ} مُحَمَّد {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّه} وَمن يتَمَسَّك بدين الله وَكتابه {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فقد أرشد إِلَى طَرِيق قَائِم بَيْضَاء وَهُوَ الْإِسْلَام وَيُقَال فقد ثَبت عَلَيْهِ نزلت هَذِه الْآيَة فِي معَاذ وَأَصْحَابه(1/53)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
ثمَّ نزل فِي أَوْس وخزرج الْخُصُومَة كَانَت بَينهم فِي الْإِسْلَام افتخر فيهم ثَعْلَبَة بن غنم وَسعد بن أبي زِيَادَة بِالْقَتْلِ والغارة فِي الْجَاهِلِيَّة فَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ اتَّقوا الله} أطِيعُوا الله {حَقَّ تُقَاتِهِ} وَحقّ تُقَاته أَن يطاع فَلَا يعْصى وَأَن يشْكر فَلَا يكفر وَأَن يذكر فَلَا ينسى وَيُقَال أطِيعُوا الله كَمَا يَنْبَغِي {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} مقرون لَهُ بِالْعبَادَة والتوحيد مخلصون بهما(1/53)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
{واعتصموا بِحَبْلِ الله} تمسكوا بدين الله وَكتابه {جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا} فِي الدّين {واذْكُرُوا نعْمَة الله} منَّة الله {عَلَيْكُمْ} بِالْإِسْلَامِ {إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً} فِي الْجَاهِلِيَّة {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} بِالْإِسْلَامِ {فأصبحتم} نصرتم {بِنِعْمَتِهِ} بدين الْإِسْلَام {إِخْوَاناً} فِي الدّين {وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّار} على طرف هوة من النَّار يَعْنِي الشط وَهُوَ الْكفْر {فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} فأنجاكم مِنْهَا بِالْإِيمَان {كَذَلِك} هَكَذَا {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ} أمره وَنَهْيه ومنته {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكَي تهتدوا من الضَّلَالَة(1/53)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
ثمَّ أَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالصُّلْح فَقَالَ {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ} لَا تزل مِنْكُم {أُمَّةٌ} جمَاعَة {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْر} إِلَى الصُّلْح وَالْإِحْسَان {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بِالتَّوْحِيدِ وَاتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكر} عَن الْكفْر والشرك وَترك اتِّبَاع الرَّسُول {وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون} الناجون من السخطة وَالْعَذَاب(1/53)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
{وَلاَ تَكُونُواْ} مُتَفَرّقين فِي الدّين {كَالَّذِين تَفَرَّقُواْ وَاخْتلفُوا} فِي الدّين كتفرق الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي الدّين {مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَينَات} بَيِّنَات مَا فِي كِتَابهمْ من الْإِسْلَام {وَأُولَئِكَ لَهُمْ} يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى {عَذَابٌ عَظِيمٌ} أعظم مَا يكون(1/53)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} فِي يَوْم تبيض وُجُوه قوم {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} فِي يَوْم تسود وُجُوه قوم {فَأَمَّا الَّذين اسودت وُجُوهُهُمْ} تَقول لَهُم الزَّبَانِيَة {أَكْفَرْتُمْ} بِاللَّه {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} بِاللَّه {فَذُوقُواْ الْعَذَاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} بِاللَّه(1/53)
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
{وَأَمَّا الَّذين ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله} فِي جنَّة الله {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لَا يموتون وَلَا يخرجُون(1/53)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
{تِلْكَ آيَاتُ الله} هَذِه آيَات الله الْقُرْآن {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} ننزل جِبْرِيل بهَا عَلَيْك {بِالْحَقِّ} لبَيَان الْحق وَالْبَاطِل {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} أَن يكون مِنْهُ ظلما على الْعَالمين على الْجِنّ وَالْإِنْس(1/53)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
{وَللَّه مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض}(1/53)
من الْخلق والعجائب {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الْأُمُور} فِي الْآخِرَة(1/54)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} أَنْتُم خير أمة {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} كَانَت للنَّاس ثمَّ بَين خَيرهمْ فَقَالَ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بِالتَّوْحِيدِ وَاتِّبَاع مُحَمَّد {وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكر} عَن الْكفْر والشرك وَمُخَالفَة الرَّسُول {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} وبجملة الْكتب وَالرسل {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكتاب} يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} مِمَّا هم عَلَيْهِ {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ} عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} الْكَافِرُونَ الناقضون الْعَهْد(1/54)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
{لَن يَضُرُّوكُمْ} لن ينقصوكم الْيَهُود {إِلاَّ أَذًى} بِاللِّسَانِ بالشتم والطعن {وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ} فِي الدّين {يُوَلُّوكُمُ الأدبار} منهزمين {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} لَا يمْنَعُونَ من سيفكم وسبيكم إيَّاهُم(1/54)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} جعلت عَلَيْهِم مذلة الْجِزْيَة {أَيْنَ مَا ثقفوا} وجدوا لَا يقدرُونَ أَن يقومُوا مَعَ الْمُؤمنِينَ {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله} إلاَّ بِالْإِيمَان بِاللَّه {وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاس} عهد من الْأُمَرَاء بالجزية {وباؤوا بِغَضَبٍ} استوجبوا بلعنة {مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة} جعل عَلَيْهِم زِيّ الْفقر {ذَلِك} المذلة بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله) بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ} بِلَا جرم {ذَلِك} الْغَضَب والمسكنة {بِمَا عَصَوْاْ} الله فِي السبت {وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} بقتل الْأَنْبِيَاء وَاسْتِحْلَال الْمَحَارِم(1/54)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
{لَيْسُواْ سَوَآءً} أَي لَيْسَ من آمن من أهل الْكتاب كمن لم يُؤمن {مِّنْ أَهْلِ الْكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} يَقُول مِنْهُم أمة جمَاعَة عدُول مهتدية بتوحيد الله وَهُوَ عبد الله ابْن سَلام وَأَصْحَابه {يَتلون} يقرءُون {آيَاتِ الله} الْقُرْآن {آنَآءَ اللَّيْل} سَاعَات اللَّيْل فِي الصَّلَاة {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} يصلونَ لله(1/54)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
{يُؤْمِنُونَ بِاللَّه} وبجملة الْكتب وَالرسل {وَالْيَوْم الآخر} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت ونعيم الْجنَّة {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بِالتَّوْحِيدِ وَاتِّبَاع مُحَمَّد {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكر} عَن الْكفْر والشرك وَاتِّبَاع الجبت والطاغوت {وَيُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات} يبادرون فِي الطَّاعَات {وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحين} من صالحي أمة مُحَمَّد وَيُقَال مَعَ صالحي أمة مُحَمَّد فِي الْجنَّة مثل أبي بكر وَأَصْحَابه(1/54)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
{وَمَا يَفْعَلُواْ} يَعْنِي عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه {مِنْ خَيْرٍ} مِمَّا ذكرت وَيُقَال من إِحْسَان إِلَى مُحَمَّد وَأَصْحَابه {فَلَنْ يُكْفَروهُ} لن ينسى ثَوَابه بل يثابوا {وَالله عَلِيمٌ بالمتقين} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه(1/54)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
{إِنَّ الَّذين كَفَرُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن كَعْب وَأَصْحَابه {لن تغني عَنْهُم أَمْوَالهم} كَثْرَة أَمْوَالهم {وَلَا أَوْلَادهم} كَثْرَة أَوْلَادهم {من الله} من عَذَاب الله {شَيْئاً وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّار} أهل النَّار {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دائمون(1/54)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِه الْحَيَاة الدُّنْيَا} يَقُول مثل نَفَقَة الْيَهُود فِي الْيَهُودِيَّة {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} حر أَو برد {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ} زرع قوم {ظلمُوا أَنْفُسَهُمْ} بِمَنْع حق الله مِنْهُ {فَأَهْلَكَتْهُ} أحرقته كَذَلِك الشّرك يهْلك النَّفَقَة كَمَا أهلكت الرّيح الزَّرْع {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} بذهاب مَنْفَعَة زرعهم ونفقتهم {وَلَكِن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(1/54)
بالْكفْر وَمنع حق الله من الزَّرْع(1/55)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
ثمَّ نهى الله الْمُؤمنِينَ الْأَنْصَار وَغَيرهم عَن محادثة الْيَهُود وإفشاء السِّرّ إِلَيْهِم فَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ} يَعْنِي الْيَهُود {بِطَانَةً} وليجة {مِّن دُونِكُمْ} من دون الْمُؤمنِينَ المخلصين {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} لَا يتركون الْجهد فِي فسادكم {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} تمنوا أَن أثمتم وأشركتم كَمَا أشركوا {قَدْ بَدَتِ} ظَهرت {البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} على ألسنتهم بالشتم والطعن {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ} مَا يضمرون فِي قُلُوبهم من البغض والعداوة {أَكْبَرُ} من ذَلِك {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} أَي عَلامَة الْحَسَد {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} مَا يقْرَأ عَلَيْكُم وَيُقَال قد بَينا لكم الْآيَات يَعْنِي الْأَمر وَالنَّهْي إِنْ كُنْتُمْ تعقلون لكَي تعلمُوا مَا آمركُم بِهِ(1/55)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
{هَا أَنْتُم أولاء} أَنْتُم يَا معشر الْمُؤمنِينَ {تُحِبُّونَهُمْ} يَعْنِي الْيَهُود لقبل الْمُصَاهَرَة وَالرضَاعَة {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} لقبل الدّين {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكتاب كُلِّهِ} تقرون بجملة الْكتاب وَالرسل وهم لَا يقرونَ بذلك {وَإِذَا لَقُوكُمْ} يَعْنِي مُنَافِق الْيَهُود {قَالُوا آمَنَّا} بِمُحَمد وَالْقُرْآن وَأَن صفته ونعته فِي كتَابنَا {وَإِذَا خَلَوْاْ} رَجَعَ بَعضهم إِلَى بعض {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل} أَطْرَاف الْأَصَابِع {مِنَ الغيظ} من الحنق {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} بحنقكم {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} بِمَا فِي الْقُلُوب من البغض والعداوة(1/55)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
{إِن تَمْسَسْكُمْ} تصبكم {حَسَنَةٌ} الْفَتْح وَالْغنيمَة {تَسُؤْهُمْ} ساءهم ذَلِك يَعْنِي الْيَهُود وَالْمُنَافِقِينَ {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} الْقَحْط والجدوبة وَالْقَتْل والهزيمة {يَفْرَحُواْ بِهَا} يعجبوا بهَا {وَإِن تَصْبِرُواْ} على أذاهم {وَتَتَّقُواْ} مَعْصِيّة الله {لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} عداوتهم وصنيعتهم شَيْئا {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ} من الْمُخَالفَة والعداوة {مُحِيطٌ} عَالم(1/55)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} خرجت من الْمَدِينَة يَوْم أحد {تبوئ الْمُؤمنِينَ} تتَّخذ للْمُؤْمِنين بِأحد {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أمكنة لقِتَال عدوهم {وَالله سَمِيعٌ} لمقالتكم {عَلِيمٌ} بِمَا يُصِيبكُم وبترككم المركز(1/55)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
{إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ} أضمرت قبيلتان من الْمُؤمنِينَ بَنو سَلمَة وَبَنُو حَارِثَة {أَن تَفْشَلاَ} أَن تجبنا عَن قتال الْعَدو يَوْم أحدٌ {وَالله وليهما} حفاظهما ولاهما عَن ذَلِك {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وعَلى الْمُؤمنِينَ أَن يتوكلوا على الله فِي النُّصْرَة وَالْفَتْح(1/55)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} يَوْم بدر {وَأَنْتُمْ أَذِلَّة} قَليلَة ثلثمِائة وَثَلَاث عشر رجلا {فَاتَّقُوا الله} فاخشوا الله فِي أَمر الْحَرْب وَلَا تخالفوا السُّلْطَان الَّذِي مَعكُمْ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكَي تشكروا نصرته وَنعمته(1/55)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} يَوْم أحد {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} مَعَ عَدوكُمْ {أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} أَن ينصركم ربكُم {بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَة مُنزَلِينَ} من السَّمَاء لنصرتكم(1/55)
بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
{بلَى} يكفيكم {إِن تَصْبِرُواْ} مَعَ نَبِيكُم فِي الْحَرْب {وَتَتَّقُواْ} مَعْصِيَته ومخالفته {وَيَأْتُوكُمْ} يَعْنِي أهل مَكَّة {مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا} من وَجه مَكَّة {يُمْدِدْكُمْ} ينصركم {رَبُّكُمْ} على عَدوكُمْ {بِخَمْسَةِ آلَاف مِّنَ الْمَلَائِكَة مُسَوِّمِينَ} معلمين وَيُقَال متعممين بعمائم الصُّوف(1/55)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)
{وَمَا جَعَلَهُ الله} مَا ذكر الله المدد {إِلاَّ بشرى لَكُمْ} بالنصرة {وَلِتَطْمَئِنَّ} لتسكن {قُلُوبُكُمْ بِهِ} بالمدد {وَمَا النَّصْر} بِالْمَلَائِكَةِ {إِلاَّ مِنْ عِنْد الله}(1/55)
من الله {الْعَزِيز} بالنقمة لمن لَا يُؤمن بِهِ {الْحَكِيم} بالنصرة والدولة لمن يَشَاء وَيُقَال الْحَكِيم بِمَا أَصَابَكُم يَوْم أحد(1/56)
لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
{لِيَقْطَعَ طَرَفاً} يَقُول لَو نزل المدد لم ينزل إِلَّا ليقْتل جمعا {مِّنَ الَّذين كفرُوا} كفار مَكَّة {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} يهزمهم {فَيَنقَلِبُواْ} يرجِعوا {خَآئِبِينَ} من الدولة وَالْغنيمَة(1/56)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمر شَيْءٌ} لَيْسَ بِيَدِك التَّوْبَة وَالْعَذَاب إِن تدع على المنهزمين يَوْم أحد من الرُّمَاة وَغَيرهم {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} يَقُول إِن شَاءَ الله أَن يَتُوب عَلَيْهِم فَتَجَاوز عَنْهُم {أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} بترك المركز {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} بترك المركز وَيُقَال نزلت فِي الجبين عصية وذكوان دَعَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِم حِين قتلوا أَصْحَابه(1/56)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
{وَللَّه مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض} من الْخلق {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} لمن كَانَ أَهلا لذَلِك {ويعذب من يشآء} من كَانَ أَهلا لذَلِك {وَالله غَفُورٌ} لمن تَابَ {رَّحِيمٌ} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/56)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
{يَآ أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ} يَعْنِي ثقيفاً {لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً} على الدِّرْهَم {مُّضَاعَفَةً} فِي الْأَجَل {وَاتَّقوا الله} واخشوا الله فِي أكل الرِّبَا {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكَي تنجوا من السخطة وَالْعَذَاب(1/56)
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
{وَاتَّقوا النَّار} اخشوا النَّار فِي أكل الرِّبَا {الَّتِي أُعِدَّتْ} خلقت {لِلْكَافِرِينَ} بِاللَّه وبتحريم الرِّبَا(1/56)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
{وَأَطِيعُواْ الله وَالرَّسُول} فِي تَحْرِيم الرِّبَا وَفِي تَركه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لكَي ترحموا وتنجوا فَلَا تعذبوا(1/56)
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)
{وسارعوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} بَادرُوا بِالتَّوْبَةِ من الرِّبَا وَسَائِر الذُّنُوب إِلَى تجَاوز من ربكُم {وَجَنَّةٍ} وَإِلَى جنَّة بِعَمَل صَالح وَترك الرِّبَا {عَرْضُهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْض} لَو وصل بَعْضهَا إِلَى بعض {أُعِدَّتْ} خلقت {لِلْمُتَّقِينَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش وَأكل الرِّبَا(1/56)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
ثمَّ بَينهم فَقَالَ {الَّذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء} يَقُول يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي سَبِيل الله فِي الْيُسْر والعسر {والكاظمين الغيظ} الكاظمين غيظهم المرددين حدتهم فِي أَجْوَافهم {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس} عَن المملوكين {وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} إِلَى المملوكين والأحرار(1/56)
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
ثمَّ نزل فِي رجل من الْأَنْصَار لأجل نظرة ولمسة وقبلة أَصَابَهَا من امْرَأَة الرجل الثَّقَفِيّ فَقَالَ {وَالَّذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} مَعْصِيّة {أَوْ ظلمُوا أَنْفُسَهُمْ} بالنظرة واللمسة والقبلة {ذَكَرُواْ الله} خَافُوا الله {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} تَابُوا من ذنوبهم {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوب} ذنُوب التائب {إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ} من الْمعْصِيَة {وَهُمْ يعلمُونَ} أَنَّهَا مَعْصِيّة الله(1/56)
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
{أُولَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} لذنوبهم {وَجَنَّاتٌ} بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {خَالِدين فِيهَا} دائمين فِي الْجنَّة لايموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} ثَوَاب التائبين الْجنَّة وَمَا ذكر(1/56)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
{قَدْ خَلَتْ} قد مَضَت فِي الْأُمَم الَّذين مضوا {مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} بالثواب وَالْمَغْفِرَة لمن تَابَ وَالْعَذَاب والهلاك لمن لم يتب {فَسِيرُواْ فِي الأَرْض فانظروا} وتفكروا {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} كَيفَ صَار آخر أَمر {المكذبين} بالرسل الَّذين لم يتوبوا من تكذيبهم(1/56)
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
{هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} هَذَا الْقُرْآن بَيَان بالحلال وَالْحرَام للنَّاس {وَهُدًى} من الضَّلَالَة {وَمَوْعِظَةٌ} عظة وَنهي {لِّلْمُتَّقِينَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش(1/56)
وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
ثمَّ عزاهم فِيمَا أَصَابَهُم يَوْم أحد فَقَالَ {وَلاَ تَهِنُوا} لَا تضعفوا مَعَ عَدوكُمْ {وَلاَ تَحْزَنُوا} على مَا فاتكم من الْغَنَائِم يَوْم أحد يثبكم فِي الْآخِرَة وَلَا على مَا أَصَابَكُم من الْقَتْل والجراحة {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} آخر الْأَمر لكم بالنصرة والدولة(1/56)
{إِنْ كُنْتُمْ} إِذْ كُنْتُم {مُّؤْمِنِينَ} أَن النُّصْرَة والدولة من الله(1/57)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
{إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} إِن أَصَابَكُم جرح يَوْم أحد {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْم} فقد أصَاب أهل مَكَّة يَوْم بدر {قَرْحٌ} جرح {مِّثْلُهُ} مثل مَا أَصَابَكُم يَوْم أحد {وَتِلْكَ الْأَيَّام} أَيَّام الدُّنْيَا {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس} بالدولة نديل الْمُؤمنِينَ على الْكَافرين والكافرين على الْمُؤمنِينَ {وَلِيَعْلَمَ الله} لكَي يرى الله {الَّذين آمَنُواْ} فِي زمن الْجِهَاد {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} يكرم من يَشَاء مِنْكُم بِالشَّهَادَةِ {وَالله لاَ يُحِبُّ الظَّالِمين} الْمُشْركين وَدينهمْ ودولتهم(1/57)
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
{وَلِيُمَحِّصَ الله} لكَي يغْفر الله {الَّذين آمَنُواْ} بِمَا يصيبهم فِي الْجِهَاد {وَيَمْحَقَ الْكَافرين} يهْلك الْكَافرين فِي الْحَرْب(1/57)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
{أَمْ حَسِبْتُمْ} أظننتم يَا معشر الْمُؤمنِينَ {أَن تَدْخُلُواْ الْجنَّة} بِلَا قتال {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} لم ير الله {الَّذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ} يَوْم أحد فِي سَبِيل الله {وَيَعْلَمَ الصابرين} وَلم ير الصابرين على قتال عدوهم مَعَ نَبِيّهم يَوْم أحد(1/57)
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْت} فِي الْحَرْب {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} يَوْم أحد {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} الْقِتَال وَالْحَرب يَوْم أحد {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} إِلَى سيوف الْكفَّار فانهزمتم مِنْهُم وَلم تثبتوا مَعَ نَبِيكُم(1/57)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
ثمَّ نزل فِي مقالتهم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بلغنَا يَا نَبِي الله أَنَّك قد قتلت فَلذَلِك انهزمنا فَقَالَ الله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ} قد مَضَت من قبل مُحَمَّد {الرُّسُل أَفإِنْ مَّاتَ} مُحَمَّد {أَوْ قُتِلَ} فِي سَبِيل الله {انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} أترجعون أَنْتُم إِلَى دينكُمْ الأول {وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} يرجع إِلَى دينه الأول {فَلَن يَضُرَّ الله} فَلَنْ ينقص الله رُجُوعه {شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ} الْمُؤمنِينَ بإيمَانهمْ وجهادهم(1/57)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} يَقُول لَا تَمُوت نفس {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} بِإِرَادَة الله وقضائه {كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} مؤقتاً كِتَابَة أَجله ورزقه سَوَاء لَا يسْبق أَحدهمَا صَاحبه {وَمَن يُرِدْ} بِعَمَلِهِ وجهاده {ثَوَابَ الدُّنْيَا} مَنْفَعَة الدُّنْيَا {نُؤْتِهِ مِنْهَا} نعطه من الدُّنْيَا مَا يُرِيد وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من نصيب {وَمَن يُرِدْ} بِعَمَلِهِ وجهاده {ثَوَابَ الْآخِرَة} مَنْفَعَة الْآخِرَة {نُؤْتِهِ مِنْهَا} نعطه من الْآخِرَة مَا يُرِيد {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} الْمُؤمنِينَ بإيمَانهمْ وجهادهم(1/57)
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ} وَكم من نَبِي {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} جموع كَثِيرَة من الْكفَّار {فَمَا وَهَنُواْ} مَا ضعف الْمُؤْمِنُونَ {لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} من الْقَتْل والجراحة وَيُقَال وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيْ قتل مَعَه ربيون كثير يَقُول كم من نَبِي قتل وَكَانَ مَعَه جموع كَثِيرَة من الْمُؤمنِينَ فَمَا وهنوا فَمَا ضعف الْمُؤْمِنُونَ لمآ أَصَابَهُم فِي سَبِيل الله من قتل نَبِيّهم فِي طَاعَة الله {وَمَا ضَعُفُواْ} عجزوا عَن قتال عدوهم {وَمَا اسْتَكَانُوا} مَا ذلوا لعدوهم وَيُقَال مَا تضعفوا وَمَا خضعوا لعدوهم {وَالله يُحِبُّ الصابرين} على قتال عدوهم مَعَ نَبِيّهم(1/57)
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)
{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} قَول الْمُؤمنِينَ بعد مَا قتل نَبِيّهم {إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا} يَا رَبنَا {اغْفِر لَنَا ذُنُوبَنَا} دون الْكَبَائِر {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} بالعظائم من ذنوبنا يَعْنِي الْكَبَائِر {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} فِي الْحَرْب {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْم الْكَافرين}(1/57)
فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
{فَآتَاهُمُ الله} أَعْطَاهُم الله {ثَوَابَ الدُّنْيَا} بِالْفَتْح وَالْغنيمَة {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَة} فِي الْجنَّة {وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الْمُؤمنِينَ فِي الْجِهَاد(1/57)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149)
{يَا أَيُّهَا الَّذين آمنُوا} يَعْنِي حُذَيْفَة وَعمَّارًا {إِن تُطِيعُواْ الَّذين كَفَرُواْ}(1/57)
يَعْنِي كَعْبًا وَأَصْحَابه {يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ} يرجعوكم إِلَى دينكُمْ الأول الْكفْر {فَتَنقَلِبُواْ} فترجعوا {خَاسِرِينَ} مغبونين بذهاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة والعقوبة من الله(1/58)
بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
{بَلِ الله مَوْلاَكُمْ} حافظكم ولاكم على ذَلِك وينصركم عَلَيْهِم {وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} أقوى الناصرين بالنصرة(1/58)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
ثمَّ ذكر هزيمَة الْكفَّار يَوْم أحد قَالَ {سَنُلْقِي} سنقذف {فِي قُلُوبِ الَّذين كَفَرُواْ} كفار مَكَّة {الرعب} المخافة مِنْكُم حَتَّى انْهَزمُوا {بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّه مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} كتابا وَلَا رَسُول {وَمَأْوَاهُمُ} منزلهم {النَّار وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمين} منزل الْكَافرين بالنَّار(1/58)
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
ثمَّ ذكر وعده الْمُؤمنِينَ يَوْم أحد فَقَالَ {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} يَوْم أحد {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} تقتلونهم فِي أول الْحَرْب {بِإِذْنِهِ} بأَمْره ونصرته {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} جبنتم عَن قتال الْعَدو {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمر} اختلفتم فِي أَمر الْحَرْب {وَعَصَيْتُمْ} الرَّسُول بترك المركز {مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ} النُّصْرَة وَالْغنيمَة {مِنكُم} من الرُّمَاة {مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} بجهاده ووقوفه وهم الَّذين تركُوا المركز لقبل الْغَنِيمَة {وَمِنْكُمْ} من الرُّمَاة {مَّن يُرِيدُ الْآخِرَة} بجهاده ووقوفه وَهُوَ عبد الله ابْن جُبَير وَأَصْحَابه الَّذين ثبتوا مكانهم حَتَّى قتلوا {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} بالهزيمة وقلبهم عَلَيْكُم {لِيَبْتَلِيَكُمْ} ليختبركم بِمَعْصِيَة الرُّمَاة {وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} لم يستأصلكم {وَالله ذُو فَضْلٍ} ذُو من {عَلَى الْمُؤمنِينَ} إِذْ يَسْتَأْصِلهُمْ على الرُّمَاة(1/58)
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
ثمَّ ذكر إعراضهم عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَخَافَة عدوهم فَقَالَ {إِذْ تُصْعِدُونَ} أَي تبعدون فِي الأَرْض وَيُقَال تصعدون الْجَبَل بعد الْهَزِيمَة {وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} لَا تلتفتون إِلَى مُحَمَّد وَلَا تقفون لَهُ {وَالرَّسُول} مُحَمَّد {يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} من خلفكم يَا معشر الْمُؤمنِينَ أَنا رَسُول الله قفوا فَلم تقفوا {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} زادكم الله غماً على غم غم إشراف خَالِد بن الْوَلِيد بغم الْقَتْل والهزيمة {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ} من الْغَنِيمَة {وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ} ولكي لَا تحزنوا على مَا أَصَابَكُم من الْقَتْل والجراحة {وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فِي الْجِهَاد والهزيمة(1/58)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
ثمَّ ذكر منته عَلَيْهِم فقالَ {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغم أَمَنَةً} من الْعَدو {نُّعَاساً يغشى طَآئِفَةً} أَخذ طَائِفَة {مِّنْكُمْ} النعاس فَنَامَ من كَانَ مِنْكُم أهل الصدْق وَالْيَقِين {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} قد أخذتهم همة أنفسهم معتب ابْن قُشَيْر الْمُنَافِق وَأَصْحَابه لم يَأْخُذهُمْ النّوم {يَظُنُّونَ بِاللَّه غَيْرَ الْحق} أَن لَا ينصر الله رَسُوله وَأَصْحَابه {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة} كظنهم فِي الْجَاهِلِيَّة {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمر} من النُّصْرَة والدولة {مِن شَيْءٍ قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنَّ الْأَمر} الدولة والنصرة {كُلَّهُ للَّهِ} بيد الله {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم} يسرون فِيمَا بَينهم {مَّا لَا يبدون لَك} مَالا يظهرون لَك مَخَافَة الْقَتْل {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمر} من الدولة والنصرة {شَيْءٌ مَا قتلنَا هَا هُنَا} يَا مُحَمَّد لِلْمُنَافِقين {لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} فِي الْمَدِينَة {لَبَرَزَ} لخرج {الَّذين كُتِبَ} قضي {عَلَيْهِمُ الْقَتْل إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} إِلَى مقتلهم ومصارعهم بِأحد {وَلِيَبْتَلِيَ الله} ليختبر الله {مَا فِي صُدُورِكُمْ} بِمَا فِي قُلُوب الْمُنَافِقين(1/58)
{وَلِيُمَحِّصَ} ليبين {مَا فِي قُلُوبِكُمْ} من النِّفَاق {وَالله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} بِمَا فِي الْقُلُوب من الْخَيْر وَالشَّر يَعْنِي الْمُنَافِقين وَيُقَال الرُّمَاة(1/59)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
ثمَّ ذكر المنهزمين يَوْم أحد فَقَالَ {إِنَّ الَّذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ} بالهزيمة عُثْمَان بن عَفَّان وَأَصْحَابه {يَوْمَ التقى الْجَمْعَانِ} جمع مُحَمَّد وَجمع أبي سُفْيَان {إِنَّمَا استزلهم الشَّيْطَان} زين لَهُم الشَّيْطَان أَن مُحَمَّدًا قتل فَانْهَزَمُوا سِتَّة فراسخ وَكَانُوا سِتَّة نفر {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} بتركهم المركز {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} إِذْ لم يَسْتَأْصِلهُمْ {إِنَّ الله غَفُورٌ} لمن تَابَ مِنْهُم {حَلِيم} إِذْ لم يعجل لَهُم الْعقُوبَة(1/59)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)
ثمَّ قَالَ لأَصْحَاب مُحَمَّد {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {لاَ تَكُونُواْ} فِي الْحَرْب {كَالَّذِين كَفَرُواْ} فِي السِّرّ يَعْنِي عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه فِي الطَّرِيق إِلَى الْمَدِينَة {وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ} الْمُنَافِقين {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْض} إِذا خَرجُوا مَعَ أَصْحَاب مُحَمَّد فِي سفر {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} أَو خَرجُوا فِي غزَاة مَعَ نَبِيّهم {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا} فِي الْمَدِينَة {مَا مَاتُواْ} فِي سفرهم {وَمَا قُتِلُواْ} فِي غزاتهم {لِيَجْعَلَ الله ذَلِك} يَقُول ليجعل الله ذَلِك الظَّن {حَسْرَةً} حزنا {فِي قُلُوبِهِمْ وَالله يُحْيِي} فِي السّفر {وَيُمِيتُ} فِي الْحَضَر {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ} تَقولُونَ {بَصِيرٌ}(1/59)
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله} يَا معشر الْمُنَافِقين {أَوْ مُتُّمْ} فِي بُيُوتكُمْ وكنتم مُخلصين {لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله} لذنوبكم {وَرَحْمَةٌ} من الْعَذَاب {خَيْرٌ} لكم {مِّمَّا يَجْمَعُونَ} فِي الدُّنْيَا من الْأَمْوَال(1/59)
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
{وَلَئِنْ مُّتُّمْ} فِي حضر أَو سفر {أَوْ قُتِلْتُمْ} فِي غزَاة {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} بعد الْمَوْت(1/59)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
{فَبِمَا رَحْمَةٍ} فبرحمة {مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} جَانِبك وجناحك {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً} بِاللِّسَانِ {غَلِيظَ الْقلب} غليظاً بِالْقَلْبِ {لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} لتفرقوا من عنْدك {فَاعْفُ عَنْهُمْ} عَن أَصْحَابك فِي شَيْء يكون مِنْهُم {واستغفر لَهُمْ} من ذَلِك الذَّنب {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمر} فِي أَمر الْحَرْب {فَإِذَا عَزَمْتَ} صرفت على شَيْء {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} بالنصر والدولة {إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} عَلَيْهِ(1/59)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
{إِن يَنصُرْكُمُ الله} مثل يَوْم بدر {فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} فَلَا يغلب عَلَيْكُم أحد من عَدوكُمْ {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} مثل يَوْم أحد {فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم} على عَدوكُمْ {مِّنْ بَعْدِهِ} من بعد خذلانه {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وعَلى الْمُؤمنِينَ أَن يتوكلوا على الله بالنصرة والدولة(1/59)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
ثمَّ ذكر ظنهم بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا يقسم لنا من الْغَنَائِم شَيْئا ولقبل ذَلِك تركُوا المركز فَقَالَ {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ} مَا جَازَ لنَبِيّ {أَنْ يَغُلَّ} أَن يخون أمته فِي الْغَنَائِم وَإِن قَرَأت أَن يغل يَقُول أَن تخونه أمته {وَمَن يَغْلُلْ} من الْغَنَائِم شَيْئا {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَة} حَامِلا لَهُ على عُنُقه {ثُمَّ توفى} توفر {كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} بِمَا عملت من الْغلُول وَغَيره {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لَا ينقص من حسناتهم وَلَا يُزَاد على سيئاتهم(1/59)
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
{أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} فِي أَخذ الْخمس وَترك الْغلُول {كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله} كمن اسْتوْجبَ عَلَيْهِم سخط الله بالغلول {وَمَأْوَاهُ} مصير الغال {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمصير} صَارُوا إِلَيْهِ(1/59)
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)
{هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله}(1/59)
يَقُول لَهُم دَرَجَات عِنْد الله فِي الْجنَّة لمن ترك الْغلُول ودركات لمن غل {وَالله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} من الْغلُول وَغَيره(1/60)
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
ثمَّ ذكر منته عَلَيْهِم فَقَالَ {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤمنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ} إِلَيْهِم {رَسُولاً} آدَمِيًّا مَعْرُوف النّسَب {مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} قرشياً عَرَبيا مثلهم {يَتْلُو} يقْرَأ {عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} الْقُرْآن بِالْأَمر وَالنَّهْي {ويزكيهم} يطهرهم بِالتَّوْحِيدِ من الشّرك وَيَأْخُذ الزَّكَاة من الذُّنُوب {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكتاب} الْقُرْآن {وَالْحكمَة} الْحَلَال وَالْحرَام {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ} وَقد كَانُوا من قبل مَجِيء مُحَمَّد وَالْقُرْآن {لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} لفي كفر بيِّن(1/60)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
ثمَّ ذكر مصيبتهم يَوْم أحد فَقَالَ {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ} يَقُول حِين أَصَابَتْكُم مُصِيبَة يَوْم أحد {قَدْ أَصَبْتُمْ} أهل مَكَّة يَوْم بدر {مثلهَا} مثل مَا أَصَابَكُم يَوْم أحد {قُلْتُمْ أَنى هَذَا} من أَيْن أَصَابَنَا هَذَا وَنحن لَهُ مُسلمُونَ {قُلْ} يَا مُحَمَّد {هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} بذنب أَنفسكُم بترككم المركز {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ} من الْعقُوبَة وَغَيرهَا {قَدِيرٌ}(1/60)
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
{وَمَآ أَصَابَكُمْ} الَّذِي أَصَابَكُم من الْقَتْل والجراحة {يَوْمَ التقى الْجَمْعَانِ} جمع مُحَمَّد وَجمع أبي سُفْيَان {فَبِإِذْنِ الله} فبإرادته وقضائه {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤمنِينَ} لكَي يرى الْمُؤمنِينَ فِي الْجِهَاد(1/60)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
{وَلِيَعْلَمَ الَّذين نَافَقُواْ} لكَي يرى الْمُنَافِقين عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه فِي رجوعهم إِلَى الْمَدِينَة {وَقِيلَ لَهُمْ} قَالَ لَهُم عبد الله بن جُبَير {تَعَالَوْاْ} إِلَى أحد {قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا} الْعَدو عَن حريمكم وذريتكم أَو كَثُرُوا الْمُؤمنِينَ {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ} ثمَّ {قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} إِلَى أحد {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} وَالْمُؤمنِينَ وَيُقَال رجوعهم إِلَى الْكفْر وَالْكفَّار يؤمئذ أقرب من رجوعهم إِلَى الْإِيمَان وَالْمُؤمنِينَ {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} بألسنتهم {مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} صدق ذَلِك {وَالله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} من الْكفْر والنفاق هم(1/60)
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
{الَّذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ} الْمُنَافِقين بِالْمَدِينَةِ {وَقَعَدُواْ} عَن الْجِهَاد {لَوْ أَطَاعُونَا} يعنون مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه بالقعود فِي الْمَدِينَة {مَا قُتِلُوا} فِي غزاتهم {قُلْ} يَا مُحَمَّد لِلْمُنَافِقين {فادرؤوا} ادفعوا {عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فِي مَقَالَتَكُمْ(1/60)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ} لَا تَظنن {الَّذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} يَوْم بدر وَيَوْم أحد {أَمْوَاتاً} كَسَائِر الْأَمْوَات {بَلْ أَحْيَاءٌ} بل هم كالأحياء {عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} التحف(1/60)
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
{فَرِحِينَ} معجبين {بِمَآ آتَاهُمُ الله} بِمَا أَعْطَاهُم الله {مِن فَضْلِهِ} من كرامته {وَيَسْتَبْشِرُونَ} بَعضهم بِبَعْض {بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} من إخْوَانهمْ الَّذين فِي الدُّنْيَا أَن يلْحقُوا بهم لِأَن الله بشرهم بذلك {أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} إِذا خَافَ غَيرهم {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} إِذا حزن غَيرهم(1/60)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله} بِثَوَاب من الله {وَفَضْلٍ} وكرامة {وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ} لَا يبطل {أَجْرَ الْمُؤمنِينَ} فِي الْجِهَاد بِمَا يصيبهم فِي الْجِهَاد(1/60)
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
ثمَّ ذكر موافاتهم مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بدر الصُّغْرَى فَقَالَ {الَّذين اسْتَجَابُوا للَّهِ} أجابوا لله بِالطَّاعَةِ {وَالرَّسُول} بالموافاة إِلَى بدر الصُّغْرَى {مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقرح} الْجرْح يَوْم أحد {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} وافوا(1/60)
مِنْهُم) مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بدر الصُّغْرَى {وَاتَّقوا} مَعْصِيّة الله وَمُخَالفَة الرَّسُول {أَجْرٌ عَظِيمٌ} ثَوَاب وافر فِي الْجنَّة وَنزل فيهم أَيْضا(1/61)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
{الَّذين قَالَ لَهُمُ النَّاس} نعيم بن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ {إِنَّ النَّاس} أَبَا سُفْيَان وَأَصْحَابه {قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} باللطيمة واللطيمة سوق فِي قرب مَكَّة {فَاخْشَوْهُمْ} بِالْخرُوجِ إِلَيْهِم {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} جَرَاءَة بِالْخرُوجِ إِلَيْهِم {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} ثقتنا بِاللَّه {وَنِعْمَ الْوَكِيل} الْكَفِيل بالنصرة(1/61)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
{فانقلبوا} رجعُوا {بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله} بِثَوَاب من الله {وَفَضْلٍ} ربح مِمَّا تسوقوا بِهِ من السُّوق وَيُقَال غنيمَة {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ} لم يصبهم فِي الذّهاب والمجيء {سوء} قتال وهزيمة {وَاتبعُوا رِضْوَانَ الله} فِي الموافاة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بدر الصُّغْرَى {وَالله ذُو فَضْلٍ} ذُو منّ {عَظِيمٍ} بِدفع الْعَدو عَنْهُم(1/61)
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
{إِنَّمَا ذَلِكُم الشَّيْطَان} الَّذِي خوفكم الشَّيْطَان يَعْنِي نعيم بن مَسْعُود سَمَّاهُ الله شَيْطَانا لِأَنَّهُ كَانَ تَابعا للشَّيْطَان ولوسوسته {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} يَقُول يخوفكم بأوليائه الْكفَّار {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} بِالْخرُوجِ {وَخَافُونِ} بِالْجُلُوسِ {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} إِذْ كُنْتُم مُصدقين بأحيائه(1/61)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
ثمَّ ذكر مسارعة الْمُنَافِقين فِي الْولَايَة مَعَ الْيَهُود فَقَالَ {وَلاَ يَحْزُنكَ} يَا مُحَمَّد وَلَا يغمك {الَّذين يُسَارِعُونَ} يبادرون {فِي الْكفْر} أَي مسارعة الْمُنَافِقين فِي الْولَايَة مَعَ الْيَهُود {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله} لن ينقصوا الله بمسارعتهم فِي الْولَايَة مَعَ الْيَهُود {شَيْئاً يُرِيدُ الله} أَرَادَ الله {أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ} للْيَهُود الْمُنَافِقين {حَظّاً} نَصِيبا {فِي الْآخِرَة} فِي الْجنَّة {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} شَدِيد أَشد مَا يكون(1/61)
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
{إِنَّ الَّذين اشْتَروا الْكفْر بِالْإِيمَان} اخْتَارُوا الْكفْر على الْإِيمَان هم المُنَافِقُونَ {لَن يَضُرُّواْ الله} لن ينقصوا الله باختيارهم الْكفْر {شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع يخلص وَجَعه إِلَى قُلُوبهم(1/61)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
ثمَّ ذكر إمهاله لَهُم فِي الْكفْر فَقَالَ {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذين كَفَرُواْ} لَا يظنن الْيَهُود {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} نمهلهم ونعطيهم من الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد {خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} ونعطيهم من الْأَمْوَال ولأولاد {ليزدادوا إِثْمَاً} ذَنبا فِي الدُّنْيَا ودركات فِي الْآخِرَة {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يهانون بِهِ يَوْمًا فيوماً وَسَاعَة بعد سَاعَة وَيُقَال شَدِيد وَيُقَال نزلت من قَوْله وَلاَ يَحْزنكَ إِلَى هَهُنَا فِي مُشْركي أهل مَكَّة يَوْم أحد(1/61)
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
ثمَّ ذكر مقَالَة الْمُشْركين لمُحَمد أَنْت تَقول لنا مِنْكُم كَافِر ومنكم مُؤمن فَبين لنا يَا مُحَمَّد من يُؤمن منا وَمن لَا يُؤمن فَقَالَ {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ الْمُؤمنِينَ} والكافرين {على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ} من الدّين حَتَّى يصير الْمُؤمن كَافِرًا وَالْكَافِر مُؤمنا إِن كَانَ فِي قَضَائِهِ كَذَلِك {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبيث مِنَ الطّيب} الشقي من السعيد وَالْكَافِر من الْمُؤمن وَالْمُنَافِق من المخلص {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ} يَا أهل مَكَّة {عَلَى الْغَيْب} على ذَلِك حَتَّى تعلمُوا من يُؤمن وَمن لَا يُؤمن {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي} يصطفي {من رسله من يَشَاء} يَعْنِي مُحَمَّد فيطلعه على بعض ذَلِك بِالْوَحْي {فَآمِنُواْ بِاللَّه وَرُسُلِهِ} وبجملة الرُّسُل والكتب {وَإِن تُؤْمِنُواْ} بِاللَّه وبجملة الْكتب وَالرسل {وَتَتَّقُواْ} الْكفْر والشرك {فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ثَوَاب وافر فِي الْجنَّة(1/61)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
ثمَّ ذكر بخلهم يَعْنِي الْيَهُود وَالْمُنَافِقِينَ بِمَا أَعْطَاهُم الله فَقَالَ {وَلاَ يَحْسَبَنَّ} لَا يظنن {الَّذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله} أَعْطَاهُم الله {مِن فَضْلِهِ} من المَال {هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ} سَيجْعَلُ {مَا بَخِلُواْ بِهِ} من المَال يَعْنِي الذَّهَب وَالْفِضَّة طوقامن النَّار فِي عنقهم {يَوْمَ الْقِيَامَة وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} خَزَائِن السَّمَوَات الْمَطَر وَالْأَرْض النَّبَات وَيُقَال يَمُوت أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض وَيبقى الْملك لله الْوَاحِد القهار {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الْبُخْل والسخاء {خَبِيرٌ}(1/61)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
ثمَّ ذكر مقَالَة الْيَهُود فنحَاص بن عازوراء وَأَصْحَابه حِين قَالُوا يَا مُحَمَّد إِن الله فَقير يطْلب منا الْقَرْض فَقَالَ {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذين قَالُوا}(1/61)
يَعْنِي فنحَاص بن عازوراء وَأَصْحَابه {إِنَّ الله فَقِيرٌ} مُحْتَاج يطْلب منا الْقَرْض {وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} وَلَا نحتاج إِلَى قرضه {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} سنحفظ عَلَيْهِم مَا قَالُوا فِي الْآخِرَة {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاء} ونحفظ عَلَيْهِم قَتلهمْ الْأَنْبِيَاء {بِغَيْرِ حَقٍّ} بِلَا جرم {وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق} الشَّديد(1/62)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
{ذَلِك} الْعَذَاب {بِمَا قَدَّمَتْ} عملت {أَيْدِيكُمْ} فِي الْيَهُودِيَّة {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أَن يأخذكم بِلَا جرم(1/62)
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
{الَّذين قَالُوا} هم الَّذين قَالُوا يَعْنِي الْيَهُود {إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} أمرنَا فِي الْكتاب {أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ} أَن لَا نصدق أحدا بالرسالة {حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّار} يعنون حَتَّى يأتينا بِنَار تَأْكُل القربان كَمَا كَانَت فِي زمن الْأَنْبِيَاء {قُلْ} يَا مُحَمَّد {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والعلامات {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} من القربان زَكَرِيَّا وَيحيى وَعِيسَى {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} يحيى وزَكَرِيا وَقد كَانَ القربان فِي زمانهم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فِي مَقَالَتَكُمْ فَقَالُوا مَا قتل آبَاؤُنَا الْأَنْبِيَاء زوراً(1/62)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
فَقَالَ الله {فَإِن كَذَّبُوكَ} يَا مُحَمَّد بِمَا قلت لَهُم فَلَا تحزن بذلك {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ من قبلك} كذبهمْ قَومهمْ {جاؤوا بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْأَمر وَالنَّهْي وعلامات النُّبُوَّة {والزبر} وبخبر كتب الْأَوَّلين {وَالْكتاب الْمُنِير} الْمُبين للْحَلَال وَالْحرَام(1/62)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
ثمَّ ذكر مَوْتهمْ وَمَا بعد الْمَوْت فَقَالَ {كُلُّ نَفْسٍ} منفوسة {ذَآئِقَةُ الْمَوْت} تذوق الْمَوْت {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ} توفون {أُجُورَكُمْ} ثَوَاب أَعمالكُم {يَوْمَ الْقِيَامَة فَمَن زُحْزِحَ} عزل ونحي وَأبْعد {عَنِ النَّار} بِالتَّوْحِيدِ وَالْعَمَل الصَّالح {وَأُدْخِلَ الْجنَّة فَقَدْ فَازَ} بِالْجنَّةِ وَمَا فِيهَا وَنَجَا من النَّار وَمَا فِيهَا {وَما الْحَيَاة الدُّنْيَا} لَيْسَ مَا فِي الدُّنْيَا من النَّعيم {إِلاَّ مَتَاعُ الْغرُور} إِلَّا كمتاع الْبَيْت فِي بَقَائِهِ مثل الخزف والزجاجة وَغير ذَلِك(1/62)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
ثمَّ ذكر أَذَى الْكفَّار لنَبيه ولأصحابه فَقَالَ {لَتُبْلَوُنَّ} لتختبرن {فِي أَمْوَالِكُمْ} فِي ذهَاب أَمْوَالكُم {وَأَنْفُسِكُمْ} وَفِيمَا يُصِيب أَنفسكُم من الْأَمْرَاض والأوجاع وَالْقَتْل وَالضَّرْب وَسَائِر البلايا {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذين أُوتُواْ الْكتاب} أعْطوا الْكتاب {مِن قَبْلِكُمْ} يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى الشتم والطعن وَالْكذب والزور على الله {وَمِنَ الَّذين أشركوا} يَعْنِي مُشْركي الْعَرَب أَيْضا {أَذًى كَثِيراً} بالشتم وَالضَّرْب واللعن وَالْقَتْل وَالْكذب والزور على الله {وَإِن تَصْبِرُواْ} على أذهم {وَتَتَّقُواْ} مَعْصِيّة الله فِي الْأَذَى {فَإِنَّ ذَلِك} الصَّبْر وَالِاحْتِمَال {مِنْ عَزْمِ الْأُمُور} من خير الْأُمُور وحزم أُمُورهم يَعْنِي الْمُؤمنِينَ(1/62)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
ثمَّ ذكر ميثاقه على أهل الْكتاب فِي الْكتاب بِبَيَان صفة نبيه ونعته فَقَالَ {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الَّذين أُوتُواْ الْكتاب} أعْطوا الْكتاب يَعْنِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل {لَتُبَيِّنُنَّهُ} صفة مُحَمَّد ونعته {لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} لَا تكتمون صفة مُحَمَّد ونعته فِي الْكتاب {فَنَبَذُوهُ} فطرحوا كتاب الله وَعَهده {وَرَاء} خلف {ظُهُورهمْ} وَلم يعلمُوا بِهِ {واشتروا بِهِ} بكتمان صفة مُحَمَّد ونعته فِي الْكتاب {ثَمَناً قَلِيلاً} عرضا يَسِيرا من المأكلة {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} يختارون لأَنْفُسِهِمْ الْيَهُودِيَّة وكتمان صفة مُحَمَّد ونعته(1/62)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
ثمَّ ذكر طَلَبهمْ الثَّنَاء والمحمدة بِمَا لم يكن فيهم يَعْنِي الْيَهُود فَقَالَ {لاَ تَحْسَبَنَّ} لَا تَظنن يَا مُحَمَّد {الَّذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوا} بِمَا غير واصفة مُحَمَّد ونعته فِي الْكتاب {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} يحبونَ أَن يُقَال فيهم الْخَيْر وَلَا خير فيهم أَن يَقُولُوا هم على دين إِبْرَاهِيم ويحسنون إِلَى الْفُقَرَاء {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ} يَا مُحَمَّد {بِمَفَازَةٍ} بمباعدة {مِّنَ الْعَذَاب وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} وجيع(1/62)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
{وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض}(1/62)
خَزَائِن السَّمَوَات بالمطر وَالْأَرْض بالنبات {وَالله على كُلِّ شَيْءٍ} من أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض وخزائنهما {قَدِيرٌ} ثمَّ بَين عَلامَة قدرته لكفار مَكَّة لقَولهم ائتنا بِآيَة يَا مُحَمَّد على مَا تَقول فَقَالَ(1/63)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَات} إِن فِيمَا خلق فِي السَّمَوَات من الْمَلَائِكَة وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم والسحاب {وَالْأَرْض} وَفِي خلق الأَرْض وَمَا فِي الأَرْض من الْجبَال والبحور وَالشَّجر وَالدَّوَاب {وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} وَفِي تقلب اللَّيْل وَالنَّهَار {لآيَاتٍ} لعلامات لوحدانيته {لأُوْلِي الْأَلْبَاب} لِذَوي الْعُقُول من النَّاس(1/63)
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
ثمَّ نعتهم فَقَالَ {الَّذين يَذْكُرُونَ الله} يصلونَ لله {قِيَاماً} إِذا اسْتَطَاعُوا {وَقُعُوداً} إِذا لم يستطيعوا قيَاما {وعَلى جُنُوبِهِمْ} إِذا لم يستطيعوا قيَاما وقعوداً {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} من الْعَجَائِب {رَبَّنَآ} يَقُولُونَ يَا رَبنَا {مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} جزَافا {سُبْحَانَكَ} نزهوا الله {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ادْفَعْ عَنَّا عَذَاب النَّار(1/63)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
{رَبَّنَآ} يَقُولُونَ يَا رَبنَا {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} أهنته {وَمَا لِلظَّالِمِينَ} للْمُشْرِكين {من أنصار} من مَانع مِمَّا يُرَاد بهم فِي الْآخِرَة وَالدُّنْيَا(1/63)
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
{رَّبَّنَآ} وَيَقُولُونَ يَا رَبنَا {إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً} يعنون مُحَمَّدًا {يُنَادِي لِلإِيمَانِ} يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيد {أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا} بك وبكتابك وَرَسُولك {فَاغْفِر لَنَا ذُنُوبَنَا} الْكَبَائِر {وَكَفِّرْ} تجَاوز {عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} دون الْكَبَائِر {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَار} اقبض أَرْوَاحنَا على الْإِيمَان واجمعنا مَعَ أَرْوَاح النبييين وَالصَّالِحِينَ(1/63)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
{رَبَّنَا} وَيَقُولُونَ يَا رَبنَا {وَآتِنَا} أعطنا {مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} يَعْنِي مُحَمَّدًا {وَلاَ تُخْزِنَا} لَا تعذبنا {يَوْمَ الْقِيَامَة} كَمَا تعذب الْكفَّار {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} الْبَعْث بعد الْمَوْت وَمَا وعدت الْمُؤمنِينَ(1/63)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
{فَاسْتَجَاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} فِيمَا سَأَلُوهُ فَقَالَ {أَنِّي لاَ أُضِيعُ} لَا أبطل {عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ} ثَوَاب عمل عَامل مِنْكُم (مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) إِذْ كَانَ بَعْضكُم على دين بعض وأوليائه بعض ثمَّ بَين كرامته للمهاجرين فَقَالَ {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ} من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة مَعَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَبعد النَّبِي {وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} أخرجوهم كفار مَكَّة من مَنَازِلهمْ بِمَكَّة {وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي} فِي طَاعَتي {وَقَاتَلُواْ} الْعَدو فِي سَبِيل الله {وَقُتِلُواْ} حَتَّى قتلوا فِي الْجِهَاد مَعَ نَبِي الله {لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} ذنوبهم فِي الْجِهَاد {وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ} بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {ثَوَاباً مِّن عِندِ الله} جَزَاء لَهُم من الله {وَالله عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَاب} الْمرجع الصَّالح أحسن من جزائهم(1/63)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
ثمَّ ذكرهم فنَاء الدُّنْيَا ورغبهم عَنْهَا وَبَقَاء الْآخِرَة وحثهم على طلبَهَا فَقَالَ {لاَ يَغُرَّنَّكَ} يَا مُحَمَّد خَاطب بِهِ مُحَمَّدًا وعنى أَصْحَابه {تَقَلُّبُ الَّذين كَفَرُواْ فِي الْبِلَاد} ذهَاب الْيَهُود وَالْمُشْرِكين ومجيئهم فِي التِّجَارَة(1/63)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
{مَتَاعٌ قَلِيلٌ} مَنْفَعَة يسيرَة فِي الدُّنْيَا {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ} مصيرهم {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد} الْفراش والمصير(1/63)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
{لَكِنِ الَّذين اتَّقوا رَبَّهُمْ} يَقُول وَالَّذين وحدوا رَبهم بِالتَّوْبَةِ من الْكفْر {لَهُمْ جَنَّاتٌ} بساتين {تجْرِي من تحتهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {خَالِدِينَ فِيهَا} مقيمين فِي الْجنَّة لَا يموتون وَلَا يخرجُون {نُزُلاً} ثَوابًا {مِّنْ عِندِ الله وَمَا عِنْد الله}(1/63)
من الثَّوَاب {خَيْرٌ لِّلأَبْرَار} للموحدين مِمَّا أعطي الْكفَّار فِي الدُّنْيَا(1/64)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
ثمَّ نعت من آمن من أهل الْكتاب عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه فَقَالَ {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّه وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} الْقُرْآن {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} من الْكتاب التَّوْرَاة (خَاشِعِينَ للَّهِ) متواضعين ذليلين لله فِي الطَّاعَة {لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله} بكتمان صفة مُحَمَّد ونعته فِي الْكتاب {ثَمَناً قَلِيلاً} عرضا يَسِيرا من المأكلة {أُولَئِكَ لَهُم أجرهم} ثوابهم {عِنْد رَبهم} فِي الْجنَّة {إِنَّ الله سَرِيعُ الْحساب} إِذا حاسب فحسابه سريع(1/64)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
ثمَّ حثهم على الصَّبْر فِي الْجِهَاد والمرازي فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {اصْبِرُوا} على الْجِهَاد مَعَ نَبِيكُم {وَصَابِرُواْ} كاثروا وغالبوا على عَدوكُمْ {وَرَابِطُواْ} أَنفسكُم على عَدوكُمْ مَعَ نَبِيكُم مَا أَقَامُوا وَيُقَال اصْبِرُوا على أَدَاء الْفَرَائِض وَاجْتنَاب الْمعاصِي وَصَابِرُوا غالبوا وكاثروا أهل الْأَهْوَاء والبدع وَرَابطُوا الْخُيُول فِي سَبِيل الله {وَاتَّقوا الله} أطِيعُوا الله فِيمَا أَمركُم فَلَا تتركوه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكَي تنجوا من السخطة وَالْعَذَاب
السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا النِّسَاء وَهِي كلهَا مَدَنِيَّة وكلماتها ثَلَاثَة آلَاف وَتِسْعمِائَة وَأَرْبَعُونَ وحروفها سِتَّة عشر ألفا وَثَلَاثُونَ حرفا
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {(1/64)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس} عَام وَقد يكون خَاصّا {اتَّقوا رَبَّكُمُ} أطِيعُوا ربكُم {الَّذِي خَلَقَكُمْ} بالتناسل {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} من نفس آدم وَحدهَا وَكَانَت نفس حَوَّاء فِيهَا {وَخَلَقَ مِنْهَا} من نفس آدم {زَوْجَهَا} حَوَّاء {وَبَثَّ مِنْهُمَا} خلق بالتوالد من آدم وحواء {رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} خلقا كثيرا ذكرا وَأُنْثَى {وَاتَّقوا الله} أطِيعُوا الله {الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ} بِحَق الله الْحَوَائِج والحقوق بَعْضكُم من بعض {والأرحام} بِحَق الْقرْبَة والأرحام إِن قُرِئت بِنصب الْمِيم يَقُول وصلوا الْأَرْحَام وَلَا تقطعوها معطوفة إِلَى قَوْله وَاتَّقوا الله {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} حفيظاً يسألكم عَمَّا أَمركُم من الطَّاعَة وصلَة الْأَرْحَام(1/64)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
{وَآتُواْ الْيَتَامَى} أعْطوا الْيَتَامَى {أَمْوَالَهُمْ} الَّتِي عنْدكُمْ بعد الرشد والبلاغ {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبيث بالطيب} يَعْنِي لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم الْحَرَام وتتركوا أَمْوَالكُم الْحَلَال {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} أَي مَعَ أَمْوَالكُم بالتخليط {إِنَّهُ كَانَ} يَعْنِي أكل مَال الْيَتِيم ظلما {حُوباً كَبِيراً} ذَنبا عَظِيما عِنْد الله بالعقوبة نزلت فِي رجل من غطفان كَانَ عِنْده مَال كثير لِابْنِ أَخ لَهُ يَتِيم فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة قَالُوا نعزل الْيَتَامَى مَخَافَة الْإِثْم فَنزل الله(1/64)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى} أَن لَا تعدلوا بَين الْيَتَامَى فِي حفظ الْأَمْوَال فَكَذَلِك خَافُوا أَن لَا تعدلوا بَين النِّسَاء فِي النَّفَقَة وَالْقِسْمَة وَكَانُوا يَتَزَوَّجُونَ من النِّسَاء مَا شَاءُوا تسعا أَو عشرا وَكَانَ تَحت قيس ابْن الْحَرْث ثَمَان نسْوَة فنهاهم الله عَن ذَلِك وَحرم مَا فَوق الْأَرْبَعَة فَقَالَ {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} فتزوجوا مَا أحل الله لكم {مِّنَ النسآء مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} يَقُول وَاحِدَة أَو اثْنَتَيْنِ أَو ثَلَاثًا أَو أَرْبعا لَا يُزَاد على ذَلِك {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ} بَين أَربع نسْوَة فِي الْقِسْمَة وَالنَّفقَة {فَوَاحِدَةً} فتزوجوا امْرَأَة وَاحِدَة حرَّة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} من الْإِمَاء لَا قسْمَة لَهُنَّ عَلَيْكُم وَلَا عدَّة لكم عَلَيْهِنَّ {ذَلِك} تَزْوِيج الْوَاحِدَة {أدنى} أَحْرَى {أَلاَّ تَعُولُواْ} لَا تميلوا وَلَا تَجُورُوا بَين أَربع من النِّسَاء فِي الْقِسْمَة وَالنَّفقَة(1/64)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
{وَآتُواْ} أعْطوا {النسآء صَدُقَاتِهِنَّ} مهورهن {نِحْلَةً} هبة لَهُنَّ من الله فَرِيضَة عَلَيْكُم {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ} فَإِن أحللن لكم من الْمهْر شَيْئا {نَفْساً} بِطيبَة النَّفس {فَكُلُوهُ هَنِيئًا}(1/64)
بِلَا إِثْم {مَّرِيئاً} بِلَا ملامة وَكَانُوا يَتَزَوَّجُونَ بِلَا مهر(1/65)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
{وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء} لَا تعطوا الْجُهَّال بِموضع الْحق من النِّسَاء وَالْأَوْلَاد {أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً} معاشاً {وارزقوهم فِيهَا} أطعموهم فِيهَا {وَاكْسُوهُمْ} وَكُونُوا أَنْتُم القوامون على ذَلِك فَإِنَّكُم أعلم مِنْهُم فِي النَّفَقَة وَالصَّدَََقَة بِموضع الْحق {وَقُولُواْ لَهُمْ} إِن لم يكن لكم شَيْء {قَوْلاً مَّعْرُوفاً} عدَّة حَسَنَة أَي سأكسو وسأعطى(1/65)
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
{وابتلوا الْيَتَامَى} اختبروا عقول الْيَتَامَى {حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} الْحلم {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ} فَإِن رَأَيْتُمْ مِنْهُم {رُشْداً} صلاحاً فِي الدّين وحفظاً فِي المَال {فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} الَّتِي عنْدكُمْ {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً} فِي الْمعْصِيَة حَرَامًا {وَبِدَاراً} مبادرة كبر الْيَتِيم إِلَى أكلهَا الأول فَالْأول {أَن يَكْبَرُواْ} مَخَافَة أَن يكبروا فيمنعوكم من ذَلِك {وَمَن كَانَ غَنِيّاً} عَن مَال الْيَتِيم {فَلْيَسْتَعْفِفْ} بغناه عَن مَال الْيَتِيم وَلَا يرزأ أَي لَا ينقص مِنْهُ شَيْئا {وَمَن كَانَ فَقِيراً} مُحْتَاجا {فَلْيَأْكُلْ} من الَّذِي لَهُ {بِالْمَعْرُوفِ} بالتقدير لكَي لَا يحْتَاج إِلَى مَال الْيَتِيم وَيُقَال فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ بِقدر مَا يعْمل فِي مَال الْيَتِيم وَيُقَال فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ بالقرض ليرد عَلَيْهِ {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} بعد الرشد وَالْبُلُوغ {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} عِنْد الدّفع {وَكفى بِاللَّه حَسِيباً} شَهِيدا نزلت فِي ثَابت بن رِفَاعَة الْأنْصَارِيّ(1/65)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
ثمَّ ذكر نصيب الرِّجَال وَالنِّسَاء من الْمِيرَاث لأَنهم كَانُوا لَا يُعْطون النِّسَاء وَالصبيان من الْمِيرَاث شَيْئا فَقَالَ {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ} حَظّ {مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَان وَالْأَقْرَبُونَ} فِي الرَّحِم {وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَان وَالْأَقْرَبُونَ} فِي الرَّحِم {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} يَقُول إِن كَانَ الْمِيرَاث قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} حظاً مَعْلُوما قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا وَلم يبين كم هُوَ تمّ بَين بعد ذَلِك نزلت فِي أم كحة وبناتها كَانَ لَهُنَّ عَم لَا يعطيهن شَيْئا(1/65)
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة} عِنْد قسْمَة الْمِيرَاث {أُوْلُواْ الْقُرْبَى} قرَابَة الْمَيِّت الَّذِي لَيْسَ بوارث {واليتامى} يتامى الْمُؤمنِينَ قبل الْقِسْمَة {وَالْمَسَاكِين} مَسَاكِين الْمُؤمنِينَ {فارزقوهم مِّنْهُ} أعطوهم من الْمِيرَاث شَيْئا قبل الْقِسْمَة {وَقُولُواْ لَهُمْ} إِن لم يكن الْوَارِث بَالغا {قَوْلاً مَّعْرُوفاً} عدَّة حَسَنَة أَي سأوصيه حَتَّى يعطيك شَيْئا(1/65)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
{وليخش الَّذين} يحْضرُون لمريض ويأمرون أَن يُوصي أَكثر من الثُّلُث على أَوْلَاد الْمَرِيض الضَّيْعَة بعد مَوته {لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ} بعد مَوْتهمْ {ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} عجزة عَن الْحِيلَة {خَافُواْ عَلَيْهِمْ} الضَّيْعَة وَكَذَلِكَ خَافُوا على أَوْلَاد الْمَيِّت وَيُقَال مر الْمَيِّت مَا كنت آمُر لنَفسك ولتخش على ضَيْعَة أَوْلَادهم كَمَا تخشى على ضَيْعَة أولادك وَكَانُوا يحْضرُون الْمَرِيض وَيَقُولُونَ لَهُ أعْط مَالك لفُلَان وَفُلَان حَتَّى يسْتَغْرق مَاله كُله وَلَا يتْرك لأولاده شَيْئا فنهاهم الله عَن ذَلِك ثمَّ قَالَ {فَلْيَتَّقُواّ الله} فليخشوا الله فِيمَا يأمرونه فَوق الثُّلُث {وَلْيَقُولُواْ} للْمَرِيض {قَوْلاً سَدِيداً} عدلا فِي الْوَصِيَّة(1/65)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
{إِنَّ الَّذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} غصبا {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} يَعْنِي حَرَامًا وَيُقَال يَجْعَل فِي بطونهم نَارا يَوْم الْقِيَامَة {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} نَارا وقوداً فِي الْآخِرَة نزلت فِي حَنْظَلَة بن شمردل(1/65)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
ثمَّ بَين نصيب الذّكر وَالْأُنْثَى فِي الْمِيرَاث فَقَالَ {يُوصِيكُمُ الله} يبين الله لكم {فِي أَوْلاَدِكُمْ} فِي مِيرَاث أَوْلَادكُم بعد موتكم {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} نصيب الْأُنْثَيَيْنِ {فَإِن كُنَّ نِسَآءً} بَنَات ولد الصلب {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} ابْنَتَيْن أَو أَكثر من بعد ذَلِك (فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ) من المَال {وَإِن كَانَتْ} ابْنة {وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْف} من المَال {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدس مِمَّا تَرَكَ} من المَال {إِن كَانَ لَهُ} للْمَيت {وَلَدٌ} ذكر أَو أُنْثَى {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ} للْمَيت {وَلَدٌ} ذكر أَو أُنْثَى(1/65)
{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُث} وَمَا بَقِي فللأب {فَإِن كَانَ لَهُ} للْمَيت {إِخْوَةٌ} من الْأَب وَالأُم أَو من الْأَب أَو من الْأُم {فَلأُمِّهِ السُّدس مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} من بعد قَضَاء دين على الْمَيِّت واستخراج وَصِيَّة يُوصي بهَا إِلَى الثُّلُث {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ} أَنْتُم فِي الدُّنْيَا {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} فِي الْآخِرَة فِي الدَّرَجَات وَيُقَال فِي الدُّنْيَا فِي الْمِيرَاث {فَرِيضَةً مِّنَ الله} عَلَيْكُم قسْمَة الْمَوَارِيث {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بقسمة الْمَوَارِيث {حَكِيماً} فِيمَا بَين نصيب الذّكر وَالْأُنْثَى(1/66)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} من المَال {إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ} ذكر أَو أُنْثَى مِنْكُم أَو من غَيْركُمْ {فَإِن كَانَ لَهُنَّ ولد} ذكر أَو أُنْثَى مِنْكُم أَو من غَيْركُمْ {فَلَكُمُ الرّبع مِمَّا تَرَكْنَ} من المَال {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} من بعد قَضَاء الدّين عَلَيْهِنَّ واستخراج وَصِيَّة يوصين بهَا إِلَى الثُّلُث {وَلَهُنَّ الرّبع مِمَّا تَرَكْتُمْ} من المَال {إِن لَّمْ يَكُنْ لكم ولد} ذكر أَو أُنْثَى مِنْهُنَّ أَو من غَيْرهنَّ {فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ} ذكر أَو أُنْثَى مِنْهُنَّ أَو من غَيْرهنَّ {فَلَهُنَّ الثّمن مِمَّا تَرَكْتُم} من المَال {مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} من بعد قَضَاء دين عَلَيْكُم من المَال واستخراج وَصِيَّة توصون بهَا إِلَى الثُّلُث {وَإِن كَانَ رَجُلٌ} لَا ولد لَهُ وَلَا وَالِد لَهُ وَلَا قرَابَة لَهُ من الْوَلَد أَو الْوَالِد {يُورَثُ كَلاَلَةً} يُورث مَاله إِلَى كَلَالَة والكلالة هِيَ الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات من الْأُم {أَو امْرَأَة} أَو كَانَت امْرَأَة مثل ذَلِك وَيُقَال الْكَلَالَة مَا خلا الْوَلَد وَالْوَالِد وَيُقَال الْكَلَالَة هِيَ المَال الَّذِي لَا يَرِثهُ وَالِد وَلَا ولد {وَلَهُ} للْمَيت {أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} من أمه {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدس فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِك فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثُّلُث} الذّكر وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاء {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} من بعد قَضَاء الدّين عَلَيْهِ واستخراج وَصِيَّة يُوصي بهَا إِلَى الثُّلُث {غَيْرَ مُضَآرٍّ} للْوَرَثَة وَهُوَ أَن يُوصي فَوق الثُّلُث {وَصِيَّةً مِّنَ الله} فَرِيضَة من الله عَلَيْكُم قسْمَة الْمَوَارِيث {وَالله عَلِيمٌ} بقسمة الْمَوَارِيث {حَلِيمٌ} فِيمَا يكون بَيْنكُم من الْجَهْل والخيانة فِي قسْمَة الْمَوَارِيث لَا يعجلكم بالعقوبة(1/66)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
{تِلْكَ حُدُودُ الله} هَذِه أَحْكَام الله وفرائضه {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} فِي قسْمَة الْمَوَارِيث {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {خَالِدِينَ فِيهَا} يَقُول خَالِدا فِي الْجنَّة لَا يَمُوت وَلَا يخرج مِنْهَا {وَذَلِكَ الْفَوْز الْعَظِيم} النجَاة الوافرة بِالْجنَّةِ(1/66)
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
{وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} فِي قسْمَة الْمَوَارِيث {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} يتَجَاوَز أَحْكَامه وفرائضه بالميل والجور {يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} دَائِما فِي النَّار إِلَى مَا شَاءَ الله {وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يهان بِهِ وَيُقَال شَدِيد(1/66)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
{واللاتي يَأْتِينَ الْفَاحِشَة} يَعْنِي الزِّنَا {مِن نِّسَآئِكُمْ} من حرائركم الْمُحْصنَات {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ} على العورتين {أَرْبَعَة مِنْكُم} من أحراركم {فَإِن شهدُوا} كماينبغي {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبيُوت} فاحبسوهن فِي السجْن {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْت} يمتن فِي السجْن {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} مخرجا بِالرَّجمِ فنسخ حبس المحصنة بِالرَّجمِ(1/66)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
{واللذان يأتيانها}(1/66)
يَعْنِي الْفَاحِشَة {مِنكُمْ} من أحراركم وَهُوَ الْفَتى والفتاة زَنَيَا {فَآذُوهُمَا} بالسب والتعيير {فَإِن تَابَا} من بعد ذَلِك {وَأَصْلَحَا} فِيمَا بَينهمَا وَبَين الله {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ} عَن السب والتعيير {إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً} متجاوزاً {رَّحِيماً} وَقد نسخ السب والتعيير للفتى والفتاة بجلد مائَة(1/67)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
{إِنَّمَا التَّوْبَة} التجاوز {عَلَى الله} من الله {للَّذين يعْملُونَ السوء بِجَهَالَةٍ} بتعمد وَإِن كَانَ جَاهِلا لعقوبته {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} من قبل السُّوق والنزع {فَأُولَئِك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} يتَجَاوَز الله عَنْهُم {وَكَانَ الله عَلِيماً} بتوبتكم {حَكِيماً} بِقبُول التَّوْبَة قبل المعاينة وَلَا يقبل عِنْد المعاينة وَبعدهَا(1/67)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَة} التجاوز على الله {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَات حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْت} عِنْد النزع {قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآن وَلاَ الَّذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} يَقُول وَلَا يقبل تَوْبَة الْكفَّار عِنْد المعاينة {أُولَئِكَ} الْكفَّار {أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وجيعاً نزلت فِي طعمة وَأَصْحَابه الَّذين ارْتَدُّوا(1/67)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
{يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء} نسَاء آبائكم {كَرْهاً} جبرا {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} لَا تحبسوهن من التَّزْوِيج نزلت هَذِه الْآيَة فِي كَبْشَة بنت معن الْأَنْصَارِيَّة ومحصن بن أبي قيس الْأنْصَارِيّ وَكَانُوا يَرِثُونَ قبل ذَلِك {ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} مِمَّا أعطاهن آباؤكم {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} بزنا {مُّبَيِّنَةٍ} بالشهود فاحبسوهن فِي السجْن وَقد نسخ الْحَبْس الْآن بِآيَة الرَّجْم وَقد كَانُوا يَرِثُونَ نسَاء آبَائِهِم كَمَا يَرِثُونَ المَال يَرِثهَا الابْن الْأَكْبَر فَإِن كَانَت امْرَأَة جميلَة غنية دخل بهَا بِلَا مهر وَإِن لم تكن غنية أَو شَابة جميلَة تَركهَا وَلم يدْخل بهَا حَتَّى تفدي نَفسهَا بِمَا لَهَا فنهاهم الله عَن ذَلِك ثمَّ بَين الصُّحْبَة مَعَ النِّسَاء فَقَالَ {وَعَاشِرُوهُنَّ} صاحبوهن {بِالْمَعْرُوفِ} بِالْإِحْسَانِ والجميل {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} يَعْنِي كرهتم الصُّحْبَة مَعَهُنَّ {فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} يَعْنِي الصُّحْبَة مَعَهُنَّ {وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} يرزقكم الله مِنْهُنَّ ولدا صَالحا(1/67)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
{وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} يَقُول إِن أردتم أَن تتزوجوا وَاحِدَة وتطلقوا وَاحِدَة أَو تتزوجوا عَلَيْهَا أُخْرَى {وَآتَيْتُمْ} أعطيتم {إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} مهْرا {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ} من الْمهْر {شَيْئاً} غصبا {أَتَأْخُذُونَهُ} يَعْنِي الْمهْر {بُهْتَاناً} حَرَامًا {وَإِثْماً مُّبِيناً} ظلما بيِّناً(1/67)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} تستحلونه يَعْنِي الْمهْر على وَجه التَّعَجُّب {وَقَدْ أفْضى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} يَقُول وَقد اجْتَمَعْتُمْ فِي لِحَاف وَاحِد بِالْمهْرِ وَالنِّكَاح {وَأَخَذْنَ مِنكُم} يَقُول أَخذ الله مِنْكُم عِنْد النِّكَاح للنِّسَاء {مِّيثَاقاً غَلِيظاً} وثيقاً إمْسَاك بِمَعْرُوف أَو تَسْرِيح بِإِحْسَان(1/67)
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
ثمَّ حرم عَلَيْهِم نِكَاح نسَاء آبَائِهِم وَقد كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة نسَاء آبَائِهِم فنهاهم الله عَن ذَلِك فَقَالَ {وَلاَ تَنكِحُواْ} لَا تتزوجوا {مَا نَكَحَ} مَا تزوج {آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} سوى مَا قد مضى فِي الْجَاهِلِيَّة {إِنَّهُ} يَعْنِي تزوجَ نسَاء الْآبَاء {كَانَ فَاحِشَةً} مَعْصِيّة {وَمَقْتاً} بغضاً {وَسَآءَ سَبِيلاً} بئس مسلكاً نزلت فِي مُحصن بن أبي قيس الْأنْصَارِيّ(1/67)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
ثمَّ بيَّن مَا حرم عَلَيْهِم من النِّسَاء بالتزوج فَقَالَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} من النّسَب {وَبَنَاتُكُمْ} من النّسَب {وَأَخَوَاتُكُمْ} من النّسَب من أَي وَجه يكون {وَعَمَّاتُكُمْ} أَخَوَات آبائكم {وَخَالاَتُكُمْ} أَخَوَات أُمَّهَاتكُم {وَبَنَاتُ الْأَخ} من النّسَب من أَي وَجه يكن {وَبَنَاتُ الْأُخْت} من النّسَب من أَي وَجه يكن {وَأُمَّهَاتُكُمُ} وَحرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم أَيْضا {اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} فِي الْحَوْلَيْنِ {وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضَاعَة وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ}(1/67)
اللَّاتِي دَخَلْتُم ببناتهن أَو لم تدْخلُوا بِهن سَوَاء حرَام عَلَيْكُم {وَرَبَائِبُكُمُ} بَنَات نِسَائِكُم {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} ربيتم فِي بُيُوتكُمْ {مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} بأمهاتهن {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} بأمهاتهن {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أَن تتزوجوا بناتهن بعد طَلَاق أمهاتهن {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ} نسَاء أَبْنَائِكُم {الَّذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} وهم ولد فراشكم {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} بِالنِّكَاحِ حرتين أَو أمتين {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} سوى مَا قد مضى فِي الْجَاهِلِيَّة {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً} فِيمَا كَانَ مِنْكُم فِي الْجَاهِلِيَّة {رَّحِيماً} فِيمَا يكون مِنْكُم فِي الْإِسْلَام إِذا تبتم(1/68)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
{وَالْمُحصنَات} ذَوَات الْأزْوَاج {مِنَ النسآء} حرَام عَلَيْكُم {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} من السبايا فَإِنَّهُنَّ حَلَال لكم وَإِن كَانَ أَزوَاجهنَّ فِي دَار الْحَرْب بعد مَا استبرأتم أرحامهن بِحَيْضَة {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} فِي كتاب الله عَلَيْكُم حرَام الَّذِي سميت لكم {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} سوى مَا قد بيّنت لكم تَحْرِيمه {أَن تَبْتَغُواْ} تتزوجوا {بِأَمْوَالِكُمْ} إِلَى الْأَرْبَع وَيُقَال أَن تشتروا بأموالكم من الْإِمَاء وَيُقَال أَن تَبْتَغُوا بأموالكم أَن تَطْلُبُوا بأموالكم فزوجهن وَهِي الْمُتْعَة وَقد نسخت الْآن {مُّحْصِنِينَ} يَقُول كونُوا مَعَهُنَّ متزوجين {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} غير زانين بِلَا نِكَاح {فَمَا استمتعتم} استنفعتم {بِهِ مِنْهُنَّ} بعد النِّكَاح {فَآتُوهُنَّ} فأعطوهن {أُجُورَهُنَّ} مهورهن كَامِلَة {فَرِيضَةً} من الله عَلَيْكُم أَن تعطوا الْمهْر تَاما {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وَلَا حرج عَلَيْكُم {فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ} فِيمَا تنقصون وتزيدون فِي الْمهْر بِالتَّرَاضِي {مِن بَعْدِ الْفَرِيضَة} الأولى الَّتِي سميتم لَهَا {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} فِيمَا أحل لكم الْمُتْعَة {حَكِيماً} فِيمَا حرم عَلَيْكُم الْمُتْعَة وَيُقَال عليماً باضطراركم إِلَى الْمُتْعَة حكيماً فِيمَا حرم عَلَيْكُم الْمُتْعَة(1/68)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} من لم يجد مِنْكُم مَالا {أَن يَنكِحَ الْمُحْصنَات} الْحَرَائِر {الْمُؤْمِنَات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} فتزوجوا مِمَّا ملكت أَيْمَانكُم {مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات} من الولائد اللَّاتِي فِي أَيدي الْمُؤمنِينَ {وَالله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} بمستقر قُلُوبكُمْ على الْإِيمَان {بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ} أَي كلكُمْ أَوْلَاد آدم وَيُقَال بَعْضكُم على دين بعض وَقيل بَعْضكُم بِبَعْض {فانكحوهن} فتزوجوا الولائد {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} مالكيهن {وَآتُوهُنَّ} أعطوهن يَعْنِي الولائد {أُجُورَهُنَّ} مهورهن {بِالْمَعْرُوفِ} فَوق مهر الْبَغي {مُحْصَنَاتٍ} يَقُول تزوجوا الولائد المتعففات {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} غير معلنات بِالزِّنَا {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} فَلَا يكون لَهَا خَلِيل يَزْنِي بهَا فِي السِّرّ {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} تَزَوَّجن الولائد {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} بزنا {فَعَلَيْهِنَّ} على الولائد {نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصنَات} الْحَرَائِر {مِنَ الْعَذَاب} الْجلد {ذَلِكَ} تزوج الولائد حَلَال {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَت مِنْكُمْ} الزِّنَا والفجور مِنْكُم {وَأَن تَصْبِرُواْ} عَن نِكَاح الولائد {خَيْرٌ لَّكُمْ} تكون أَوْلَادكُم أحراراً {وَالله غَفُورٌ} فِيمَا يكون مِنْكُم من الزِّنَا {رَّحِيمٌ} حِين رخص لكم تزوج الولائد عِنْد الضَّرُورَة(1/68)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
{يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} مَا أحل لكم وَيُقَال إِن الصَّبْر عَن تزوج الولائد خير لكم من التَّزَوُّج {وَيَهْدِيَكُمْ} يبين لكم {سُنَنَ الَّذين مِن قَبْلِكُمْ} من أهل الْكتاب وَكَانَ عَلَيْهِم حرَام تزوج الولائد {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يتَجَاوَز عَنْكُم مَا كَانَ مِنْكُم فِي الْجَاهِلِيَّة {وَالله عَلِيمٌ} باضطراركم إِلَى نِكَاح الولائد {حَكِيمٌ} حِين حرم عَلَيْكُم نِكَاحهنَّ إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة(1/68)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
{وَالله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} أَن يتَجَاوَز عَنْكُم حِين حرم عَلَيْكُم الزِّنَا وَنِكَاح الْأَخَوَات من الْأَب {وَيُرِيدُ الَّذين يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَات}(1/68)
الزِّنَا وَنِكَاح الْأَخَوَات من الْأَب وهم الْيَهُود {أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} أَن تخطئوا خطأ عَظِيما بِنِكَاح الْأَخَوَات من الْأَب لقَولهم إِنَّه حَلَال فِي كتَابنَا(1/69)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
{يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} أَن يهون عَلَيْكُم فِي تزوج الولائد عِنْد الضَّرُورَة {وَخُلِقَ الْإِنْسَان ضَعِيفاً} لَا يصبر عَن أَمر النِّسَاء(1/69)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
{يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ} بالظلم وَالْغَضَب وَشَهَادَة الزُّور وَالْحلف الْكَاذِب وَغير ذَلِك {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} إِلَّا أَن يتْرك بَعْضكُم على بعض فِي الشِّرَاء وَالْبيع والمحاباة {عَن تَرَاضٍ} بتراض {مِّنْكُمْ وَلاَ تقتلُوا أَنْفُسَكُمْ} بَعْضكُم بَعْضًا بِغَيْر حق {إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} حِين حرم عَلَيْكُم قتل بَعْضكُم بَعْضًا(1/69)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{وَمَن يَفْعَلْ ذَلِك} الْقَتْل وَاسْتِحْلَال المَال {عُدْوَاناً} اعتداء {وَظُلْماً} وجوراً {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ} ندخله {نَاراً} فِي الْآخِرَة وَهَذَا وَعِيد لَهُ {وَكَانَ ذَلِك} الدُّخُول وَالْعَذَاب {عَلَى الله يَسِيراً} هيناً(1/69)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
{إِن تَجْتَنِبُواْ} إِن تتركوا {كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنهُ} فِي هَذ السُّورَة {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ذنوبكم دون الْكَبَائِر من جمَاعَة إِلَى جمَاعَة وَمن جُمُعَة إِلَى جُمُعَة وَمن شهر رَمَضَان إِلَى شهر رَمَضَان {وَنُدْخِلْكُمْ} فِي الْآخِرَة {مُّدْخَلاً كَرِيماً} حسنا وَهِي الْجنَّة(1/69)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
{وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} يَقُول لَا يتَمَنَّى الرجل مَال أَخِيه ودابته وَامْرَأَته وَلَا شَيْئا من الَّذِي لَهُ واسألوا الله من فَضله وَقُولُوا اللَّهُمَّ ارزقنا مثله أَو خيرا مِنْهُ مَعَ التَّفْوِيض وَيُقَال نزلت هَذِه الْآيَة فِي أم سَلمَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقولها للنَّبِي لَيْت الله كتب علينا مَا كتب على الرِّجَال لكَي نؤجر كَمَا تؤجر الرِّجَال فَنهى الله عَن ذَلِك فَقَالَ وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فضل الله بِهِ من الْجَمَاعَة وَالْجُمُعَة والغزو وَالْجهَاد وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر بَعْضكُم يَعْنِي الرِّجَال على بعض يَعْنِي النِّسَاء ثمَّ بَين ثَوَاب الرِّجَال وَالنِّسَاء باكتسابهم فَقَالَ {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ} ثَوَاب {مِّمَّا اكتسبوا} من الْخَيْر {وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ} ثَوَاب {مِّمَّا اكتسبن} من الْخَيْر فِي بُيُوتهنَّ {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} من توفيقه وعصمته {إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ} من الْخَيْر وَالشَّر وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب والتوفيق والخذلان {عليما}(1/69)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
{وَلِكُلٍّ} يَقُول وَلكُل وَاحِد {جَعَلْنَا} مِنْكُم {مَوَالِيَ} يَعْنِي الْوَرَثَة لكَي يَرث {مِمَّا تَرَكَ} مَا ترك {الْوَالِدَان} من المَال {وَالْأَقْرَبُونَ} فِي الرَّحِم {وَالَّذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} شروطكم {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أعطوهم شروطهم وَقد نسخت الْآن وَقد كَانُوا يتبنون رجَالًا وغلمانا يجْعَلُونَ لَهُم فِي مَالهم كَمَا لبَعض ولدهم فنسخ الله ذَلِك وَلَيْسَ بمنسوخ إِن أَعْطَاهُم من الثُّلُث نصِيبهم {إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ} من أَعمالكُم {شَهِيداً} عَالما(1/69)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
{الرِّجَال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} مسلطون على أدب النِّسَاء {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ} الرِّجَال بِالْعقلِ وَالْقِسْمَة فِي الْغَنَائِم وَالْمِيرَاث {على بَعْضٍ} يَعْنِي النِّسَاء {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} يَعْنِي بِالْمهْرِ وَالنَّفقَة الَّتِي عَلَيْهِم دونهن {فالصالحات} يَقُول المحسنات إِلَى أَزوَاجهنَّ {قَانِتَاتٌ} مطيعات لله فِي أَزوَاجهنَّ {حَافِظَاتٌ} لأنفسهن وَمَال أَزوَاجهنَّ {لِّلْغَيْبِ} لغيب أَزوَاجهنَّ {بِمَا حفظ الله} بِحِفْظ لله إياهن بالتوفيق {واللاتي تَخَافُونَ} تعلمُونَ {نُشُوزَهُنَّ} عصيانهن فِي الْمضَاجِع مَعكُمْ {فَعِظُوهُنَّ} بِالْعلمِ وَالْقُرْآن {واهجروهن فِي الْمضَاجِع} حولوا عَنْهُن وُجُوهكُم فِي الْفراش {واضربوهن} ضربا غير مبرح وَلَا شائن {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} فِي الْمضَاجِع {فَلاَ تَبْغُواْ} فَلَا تَطْلُبُوا {عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} فِي الْحبّ {إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً} أَعلَى كل شَيْء {كَبِيراً} أكبر كل شَيْء لم يكلفهم ذَلِك فَلَا تكلفوا النِّسَاء مَالا طَاقَة لَهُنَّ بِهِ من الْمحبَّة(1/69)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
{وَإِنْ خِفْتُمْ} علمْتُم {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} مُخَالفَة بَين الرجل وَالْمَرْأَة وَلم تدروا من أَيهمَا {فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ} من أهل الرجل إِلَى الرجل حَتَّى يسمع كَلَامه وَيعلم ظَالِما هُوَ أَو مَظْلُوما(1/69)
{وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ} من أهل الْمَرْأَة إِلَى الْمَرْأَة حَتَّى يسمع كَلَامهَا وَيعلم ظالمة هِيَ أَو مظلومة {إِن يُرِيدَآ} الحكمان {إِصْلاَحاً} بَين الْمَرْأَة وَالرجل {يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ} بَين الْحكمَيْنِ الْمَرْأَة وَالرجل {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بموافقة الْحكمَيْنِ ومخالفتهما {خَبِيراً} بِفعل الْمَرْأَة وَالرجل نزلت من قَوْله الرِّجَال قوامون على النِّسَاء إِلَى هَهُنَا فِي بنت مُحَمَّد بن سَلمَة بلطمة لطمها زَوجهَا أسعد بن الرّبيع لقبل عصيانها فِي الْمضَاجِع فطلبت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصاصها من زَوجهَا فَنَهَاهَا الله عَن ذَلِك(1/70)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
{واعبدوا الله} وحدوا الله {وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئا} من الْأَوْثَان {وبالوالدين إحسانا} برا بهما {وَبِذِي الْقُرْبَى} أَمر بصلَة الْقَرَابَة {واليتامى} أَمر بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى وَحفظ أَمْوَالهم وَغير ذَلِك {وَالْمَسَاكِين} وحث على صَدَقَة الْمَسَاكِين {وَالْجَار ذِي الْقُرْبَى} جَار بَيْنك وَبَين قرَابَة لَهُ ثَلَاثَة حُقُوق حق الْقَرَابَة وَحقّ الْإِسْلَام وَحقّ الْجوَار {وَالْجَار الْجنب} الْجَار الْأَجْنَبِيّ من قوم آخَرين لَهُ حقان حق الْإِسْلَام وَحقّ الْجوَار {والصاحب بالجنب} الرفيق فِي السّفر لَهُ حقان حق الْإِسْلَام وَحقّ الصُّحْبَة وَيُقَال الصاحب بالجنب الْمَرْأَة فِي الْبَيْت أَمر بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا {وَابْن السَّبِيل} أَمر بإكرام الضَّيْف وللضيف ثَلَاثَة أَيَّام حق وَمَا فَوق ذَلِك فَهُوَ صَدَقَة {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أَمر بِالْإِحْسَانِ إِلَى الخدم من العبيد وَالْإِمَاء {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً} فِي مشيته {فَخُوراً} بنعم الله بطراً متكبراً على عباده(1/70)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
{الَّذين يَبْخَلُونَ} هم الَّذين يَبْخلُونَ بكتمان صفة مُحَمَّد ونعته كَعْب وَأَصْحَابه {وَيَأْمُرُونَ النَّاس بالبخل} بِالْكِتْمَانِ {وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله} مَا بيَّن الله لَهُم فِي الْكتاب {مِن فَضْلِهِ} من صفة مُحَمَّد ونعته {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} للْيَهُود {عَذَاباً مُّهِيناً} يهانون بِهِ(1/70)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
{وَالَّذين} وهم رُؤَسَاء الْيَهُود {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاس} سمعة للنَّاس حَتَّى يَقُولُوا إِنَّهُم على سنة إِبْرَاهِيم ويتفضلون بِأَمْوَالِهِمْ ويعطون {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّه} وَبِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآن {وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت وبنعيم الْجنَّة {وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَان لَهُ قَرِيناً} معينا فِي الدُّنْيَا {فَسَآءَ قِرِيناً} بئس القرين لَهُ فِي النَّار(1/70)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} على الْيَهُود وَلم يكن عَلَيْهِم شَيْء {لَوْ آمَنُواْ بِاللَّه} وَبِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآن {وَالْيَوْم الآخر} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت ونعيم الْجنَّة {وَأَنْفَقُواْ من مَا رَزَقَهُمُ الله} أَعْطَاهُم الله من المَال فِي سَبِيل الله {وَكَانَ الله بِهِم} باليهود وبمن يُؤمن وبمن لَا يُؤمن مِنْهُم {عَلِيماً}(1/70)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
{إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} لَا يتْرك من عمل الْكَافِر مِثْقَال ذرة لينفعه فِي الْآخِرَة ويرضي بِهِ خصماءه {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} لِلْمُؤمنِ المخلص بعد رضَا الخصماء {يُضَاعِفْهَا} من وَاحِدَة إِلَى عشرَة {وَيُؤْتِ} ويعط {مِن لَّدُنْهُ} من عِنْده {أَجْراً عَظِيماً} ثَوابًا وافراً فِي الْجنَّة(1/70)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
{فَكَيْفَ} يصنع الْكفَّار {إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ} قوم {بِشَهِيدٍ} بِنَبِي يشْهد عَلَيْهِم بالبلاغ {وَجِئْنَا بِكَ} يَا مُحَمَّد {على هَؤُلَاءِ شَهِيداً} وَيُقَال لأمتك شَهِيدا مزكياً معدلاً مُصدقا لَهُم لِأَن أمته يشْهدُونَ للأنبياء على قَومهمْ إِذا جَحَدُوا(1/70)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
{يَوْمَئِذٍ} يَوْم الْقِيَامَة {يَوَدُّ} يتَمَنَّى {الَّذين كَفَرُواْ} بِاللَّه {وَعَصَوُاْ الرَّسُول} بالإجابة {لَوْ تسوى بِهِمُ الأَرْض} أَي يصيرون تُرَابا مَعَ الْبَهَائِم {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} لم يَقُولُوا وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين(1/70)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
وَنزل فِي أَصْحَاب مُحَمَّد قبل تَحْرِيم الْخمر قَوْله {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {لَا تقربُوا الصَّلَاة} فِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {وَأَنْتُمْ سكارى} نشاوى {حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} مَا يقْرَأ إمامكم فِي الصَّلَاة {وَلاَ جُنُباً} لَا تَأْتُوا الْمَسْجِد جنبا {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} إِلَّا ماري الطَّرِيق فِيمَا لَا بُد لكم {حَتَّى تَغْتَسِلُواْ} من الْجَنَابَة {وَإِنْ كُنتُم مرضى} جرحى {أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الغآئط} من مَكَان حدث {أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء} أَو جامعتم النِّسَاء.(1/70)
{فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} فتعمدوا إِلَى تُرَاب نظيف {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ} بالضربة الأولى {وَأَيْدِيَكُمْ} بالضربة الثَّانِيَة {إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً} متفضلاً فِيمَا وسع عَلَيْكُم {غَفُوراً} فِيمَا يكون مِنْكُم من التَّقْصِير(1/71)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر فِي الْكتاب {إِلَى} عَن {الَّذين أُوتُواْ} أعْطوا {نَصِيباً مِّنَ الْكتاب} علما بِالتَّوْرَاةِ {يَشْتَرُونَ الضَّلَالَة} يختارون الْيَهُودِيَّة {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيل} أَن تتركوا دين الْإِسْلَام نزلت فِي اليسع وَرَافِع بن حَرْمَلَة حبرين من الْيَهُود دعوا عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه إِلَى دينهما(1/71)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
{وَالله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} من الْمُنَافِقين وَالْيَهُود {وَكفى بِاللَّه وَلِيّاً} حَافِظًا {وَكفى بِاللَّه نَصِيراً} مَانِعا(1/71)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
{مِّنَ الَّذين هَادُواْ} يَعْنِي الْيَهُود مَالك بن الصَّيف وَأَصْحَابه {يُحَرِّفُونَ الْكَلم عَن مَّوَاضِعِهِ} يغيرون صفة مُحَمَّد ونعته بعد بَيَانه فِي التَّوْرَاة ويأتون مُحَمَّدًا {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا} قَوْلك يَا مُحَمَّد {وَعَصَيْنَا} أَمرك فِي السِّرّ عَنهُ {واسمع} منا يَا مُحَمَّد {غَيْرَ مُسْمَعٍ} غير مُطَاع ومسمع مِنْك فِي السِّرّ {وَرَاعِنَا} اسْمَع منا يَا مُحَمَّد وَكَانَ بلغتهم رَاعنا اسْمَع لاسمعت {ليا بألسنتهم} يحرفُونَ ألسنتهم بالشتم وَالتَّعْبِير {وَطَعْناً فِي الدّين} عَيْبا فِي الْإِسْلَام {وَلَوْ أَنَّهُمْ} يَعْنِي الْيَهُود {قَالُواْ سَمِعْنَا} قَوْلك يَا مُحَمَّد {وَأَطَعْنَا} أَمرك {واسمع} منا {وانظرنا} انْظُر إِلَيْنَا {لَكَانَ خيرا لَهُم} من السب والتعيير {وَأَقْوَمَ} أصوب {وَلَكِن} وَلَكنهُمْ {لَّعَنَهُمُ الله} عذبهم الله بالجزية {بِكُفْرِهِمْ} عُقُوبَة لكفرهم {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} وَهُوَ من أسلم مِنْهُم عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه(1/71)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
{يَا أَيُّهَآ الَّذين أُوتُواْ الْكتاب} أعْطوا علم التَّوْرَاة بِصفة مُحَمَّد ونعته {آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا} يَعْنِي الْقُرْآن {مُصَدِّقاً} مُوَافقا {لِّمَا مَعَكُمْ} بِالتَّوْحِيدِ وَصفَة مُحَمَّد ونعته {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} أَن نغير قُلُوبكُمْ {فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} فنردها عَن بصائر الْهدى ويحول وُجُوههم إِلَى الأقفية {أَوْ نَلْعَنَهُمْ} أَو نمسخهم {كَمَا لَعَنَّآ} مسخنا {أَصْحَابَ السبت} قردة {وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا} كَائِنا بأسم بعد نزُول هَذِه الْآيَة عبد الله ابْن سَلام وَأَصْحَابه(1/71)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} إِن مَاتَ عَلَيْهِ {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} لمن تَابَ {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّه فَقَدِ افترى} اختلق على الله {إِثْماً} كذبا {عَظِيماً} نزلت فِي وَحشِي قَاتل حَمْزَة عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/71)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر فِي الْكتاب {إِلَى الَّذين} عَن الَّذين {يُزَكُّونَ} يبرئون {أَنْفُسَهُمْ} من الذُّنُوب يَعْنِي الْيَهُود بحير بن عَمْرو ومرحب بن زيد {بل الله يُزكي} يبرىء من الذُّنُوب {مَن يَشَآءُ} من كَانَ أهل لذَلِك {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} لَا ينقص من ذنوبهم قدر فتيل وَهُوَ الشَّيْء الَّذِي يكون فِي وسط النواة وَيُقَال هُوَ الْوَسخ الَّذِي تفتل بَين إصبعك(1/71)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
{انظُرْ} يَا مُحَمَّد {كَيفَ يَفْتَرُونَ} يختلقون {عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} لقَولهم مَا نعمل بِالنَّهَارِ من الذُّنُوب يغفره الله لنا بِاللَّيْلِ وَمَا نعمل بِاللَّيْلِ يغفره بِالنَّهَارِ {وَكفى بِهِ} بزعمهم هَذَا بِاللَّه بِمَا قَالُوا {إِثْماً مُّبِيناً} كذبا بَينا(1/71)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر يَا مُحَمَّد {إِلَى الَّذين} عَن الَّذين {أُوتُواْ} أعْطوا {نَصِيباً مِّنَ الْكتاب} علما بِالتَّوْرَاةِ بنعتك وصفتك وَآيَة الرَّجْم وَمَا يشبهها مَالك بن الصَّيف وَأَصْحَابه وَكَانُوا سبعين رجلا {يُؤْمِنُونَ بالجبت} حييّ بن أَخطب {والطاغوت} كَعْب بن الْأَشْرَف {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} كفار مَكَّة {هَؤُلاءِ} كفار مَكَّة {أهْدى} أصوب {مِنَ الَّذين آمَنُواْ}(1/71)
بِمُحَمد وَالْقُرْآن وَدينه {سَبِيلاً} أصوب دينا مقدم ومؤخر(1/72)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
{أُولَئِكَ الَّذين لَعَنَهُمُ الله} عذبهم الله بالجزية {وَمَن يَلْعَنِ الله} يعذبه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة {فَلَن تَجِدَ لَهُ} يَا مُحَمَّد {نَصِيراً} مَانِعا من عَذَابه(1/72)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ} لَو كَانَ للْيَهُود نصيب {مِّنَ الْملك فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ} لَا يُعْطون {النَّاس} يَعْنِي مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه {نَقِيراً} قدر النقير وَهُوَ النقرة الَّتِي على ظهر النواة(1/72)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
{أَمْ يَحْسُدُونَ} بل يحسدون {النَّاس} يَعْنِي مُحَمَّدًا {على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} على مَا أعطَاهُ الله من الْكتاب والنبوة وَكَثْرَة النِّسَاء {فَقَدْ آتَيْنَآ} أعطينا {آلَ إِبْرَاهِيمَ} دَاوُد وَسليمَان {الْكتاب وَالْحكمَة} الْعلم والفهم والنبوة {وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} أكرمناهم بِالنُّبُوَّةِ والإٍسلام وأعطيناهم ملك بني إِسْرَائِيل فَكَانَ لداود مائَة امْرَأَة مهرية ولسليمان سَبْعمِائة سَرِيَّة وثلثمائة امْرَأَة مهرية(1/72)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
{فَمِنْهُمْ} من الْيَهُود {مَّنْ آمَنَ بِهِ} بِكِتَاب دَاوُد وَسليمَان {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} كفر بِهِ {وَكفى} لكعب وَأَصْحَابه {بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} نَارا وقودا(1/72)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
{إِنَّ الَّذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {سَوْفَ} وَهَذَا وَعِيد لَهُم {نُصْلِيهِمْ} ندخلهم {نَاراً} فِي الْآخِرَة {كُلَّمَا نَضِجَتْ} احترقت {جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} جددنا جُلُودهمْ {لِيَذُوقُواْ الْعَذَاب} لكَي يَجدوا ألم الْعَذَاب {إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً} بالنقمة مِنْهُم {حَكِيماً} حكم عَلَيْهِم بتبديل الْجُلُود(1/72)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
ثمَّ نزل فِي الْمُؤمنِينَ فَقَالَ {وَالَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن وَجُمْلَة الْكتب وَالرسل {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم بالإخلاص {سَنُدْخِلُهُمْ} فِي الْآخِرَة {جَنَّاتٍ} بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} من تَحت شَجَرهَا وسورها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَاللَّبن وَالْعَسَل وَالْمَاء {خَالِدِينَ فِيهَآ} مقيمين فِي الْجنَّة لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا {أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ} فِي الْجنَّة {أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} من الْحيض والأدناس {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} كُنَّا كنيناً وَيُقَال ظلاً ظليلاً ممدوداً(1/72)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
ثمَّ نزل فِي شَأْن الْمِفْتَاح الَّذِي أَخذه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عُثْمَان بن طَلْحَة بأمانة الله فَأمر الله رَسُوله برد الْأَمَانَة إِلَى أَهلهَا فَقَالَ {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الْأَمَانَات} أَن تردوا الْمِفْتَاح {إِلَى أَهلهَا} إِلَى عُثْمَان ابْن طَلْحَة {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاس} بَين عُثْمَان ابْن طَلْحَة وعباس بن عبد الْمطلب {أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} أَن تردوا الْمِفْتَاح إِلَى عُثْمَان والسقاية إِلَى الْعَبَّاس {إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ} نعم مَا يَأْمُركُمْ {بِهِ} من رد الْأَمَانَات وَالْعدْل {إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً} بمقالة الْعَبَّاس أَعْطِنِي الْمِفْتَاح مَعَ السِّقَايَة يَا رَسُول الله {بَصِيراً} بصنع عُثْمَان بن طَلْحَة حَيْثُ منع الْمِفْتَاح ثمَّ قَالَ خُذ بأمانة الله حَقي يَا رَسُول الله(1/72)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
{يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ} عُثْمَان بن طَلْحَة وَأَصْحَابه {أَطِيعُواْ الله} فِيمَا أَمركُم {وَأَطِيعُواْ الرَّسُول} فِيمَا يَأْمُركُمْ {وَأُوْلِي الْأَمر مِنْكُمْ} أُمَرَاء السَّرَايَا وَيُقَال الْعلمَاء {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} اختلفتم {فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله} إِلَى كتاب الله {وَالرَّسُول} وَسنة الرَّسُول {إِن كُنتُمْ} إِذْ كُنْتُم {تُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} الْبَعْث بعد الْمَوْت {ذَلِك} الرَّد إِلَى كتاب الله وَسنة الرَّسُول {خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} عَاقِبَة(1/72)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
{أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر يَا مُحَمَّد {إِلَى الَّذين} عَن الَّذين {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يَعْنِي الْقُرْآن(1/72)
{وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} يَعْنِي التَّوْرَاة {يُرِيدُونَ} عِنْد الْخُصُومَة {أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت} إِلَى كَعْب بن الْأَشْرَف {وَقَدْ أمروا} فِي الْقُرْآن {أَن يكفروا بِهِ} ان يتبرءوا مِنْهُ {وَيُرِيدُ الشَّيْطَان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} عَن الْحق وَالْهدى نزلت فِي رجل من الْمُنَافِقين يُسمى بشرا الَّذِي قَتله عمر بن الْخطاب كَانَ لَهُ خُصُومَة مَعَ رجل من الْيَهُود(1/73)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} لحاطب بن أبي بلتعة الْمُنَافِق الَّذِي كَانَ لَهُ خُصُومَة مَعَ الزبير بن الْعَوام ابْن عمَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ الله} إِلَى حكم مَا أنزل الله فِي الْقُرْآن {وَإِلَى الرَّسُول} إِلَى حكم الرَّسُول {رَأَيْتَ الْمُنَافِقين} يَعْنِي حَاطِب بن أبي بلتعة {يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} يعرضون عَن حكمك إعْرَاضًا مَعَه إِلَى الشدق(1/73)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
فَقَالَ {فَكَيْفَ} يصنعون على وَجه التَّعَجُّب {إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ} عُقُوبَة {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بلي الشدق {ثمَّ جاؤوك} بعد ذَلِك {يحلفُونَ بِاللَّه} يَعْنِي حَاطِبًا حلف بِاللَّه {إِنْ أَرَدْنَآ} مَا أردنَا بلي الشدق {إِلاَّ إِحْسَاناً} فِي الْكَلَام {وَتَوْفِيقاً} صَوَابا(1/73)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
{أُولَئِكَ الَّذين} يَعْنِي الَّذِي لوى شدقه على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ} يَعْنِي مَا فِي قلبه من النِّفَاق وَهُوَ حَاطِب بن أبي بلتعة وَيُقَال فَكيف يصنعون أَي أهل مَسْجِد الضرار إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة عُقُوبَة بِمَا قدمت أَيْديهم ببنائهم مَسْجِد الضرار ثُمَّ جَآءُوكَ بعد ذَلِك يَحْلِفُونَ بِاللَّه يَعْنِي ثَعْلَبَة وحاطباً حلفا بِاللَّه إِن أردنَا بِبِنَاء الْمَسْجِد إِلَّا إحساناً إِلَى الْمُؤمنِينَ وتوفيقاً مُوَافقَة فِي الدّين أَن تبْعَث إِلَيْنَا فَقِيها أُولَئِكَ الَّذين بنوا مَسْجِد الضرار يعلم الله مَا فِي قُلُوبهم من النِّفَاق وَالْخلاف {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} اتركهم وَلَا تعاقبهم فِي هَذِه الْمرة {وَعِظْهُمْ} بلسانك لكَي لَا يَفْعَلُوا مرّة أُخْرَى {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} تقدم إِلَيْهِم تقدماً وثيقاً فِي الْوَعيد إِن فَعلْتُمْ كَذَا أفعل بكم كَذَا(1/73)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ} ذَلِك الرَّسُول {بِإِذْنِ الله} بِأَمْر الله لَا ليعْمَل بِخِلَاف أمره ويلوى عَلَيْهِ الشدق برد حكمه {وَلَوْ أَنَّهُمْ} يَعْنِي أهل مَسْجِد الضرار وحاطباً {إِذ ظلمُوا أَنْفُسَهُمْ} بلي الشدق وَبِنَاء مَسْجِد الضرار {جاؤوك} للتَّوْبَة {فاستغفروا الله} فتابوا إِلَى الله من صنيعهم {واستغفر لَهُمُ الرَّسُول} دَعَا لَهُم الرَّسُول {لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً} متجاوزاً {رَّحِيماً} بهم بعد التَّوْبَة(1/73)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
{فَلاَ وَرَبِّكَ} أقسم بِنَفسِهِ وبعمر مُحَمَّد {لاَ يُؤْمِنُونَ} فِي السِّرّ وَلَا يسْتَحقُّونَ اسْم الْإِيمَان فِي السِّرّ {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} حَتَّى يجعلوك حَاكما {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فِيمَا الْتبس بَينهم وَيُقَال فِيمَا اخْتلف بَينهم من الحكم {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ} فِي قُلُوبهم {حَرَجاً} شكا {مِّمَّا قَضَيْتَ} بَينهم {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} يخضعوا لَك خضوعا(1/73)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} أَوجَبْنَا عَلَيْهِم كَمَا أَوجَبْنَا على بني إِسْرَائِيل {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَو اخْرُجُوا من دِيَاركُمْ} من مَنَازِلكُمْ صفرا {مَّا فَعَلُوهُ} بِطيبَة النَّفس {إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} من المخلصين رئيسهم ثَابت بن قيس بن شماس الْأنْصَارِيّ {وَلَوْ أَنَّهُمْ} يَعْنِي الْمُنَافِقين {فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ} يؤمرون {بِهِ} من التَّوْبَة وَالْإِخْلَاص {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} فِي الْآخِرَة مِمَّا هم عَلَيْهِ فِي السِّرّ {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} حَقِيقَة فِي الدُّنْيَا(1/73)
وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)
{وَإِذاً} لَو فعلوا مَا أمروا بِهِ {لآتَيْنَاهُمْ} لأعطيناهم {مِّن لَّدُنَّآ} من عندنَا {أَجْراً عَظِيماً} ثَوابًا وافراً فِي الْجنَّة(1/73)
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
{وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} لثبتناهم فِي الدُّنْيَا على دين قَائِم نرضاه وَهُوَ الْإِسْلَام(1/73)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
{وَمَن يُطِعِ الله وَالرَّسُول} نزلت هَذِه الْآيَة فِي ثَوْبَان مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْله أَخَاف أَن لَا أَلْقَاك فِي الْآخِرَة يَا رَسُول الله وَرَآهُ رَسُول الله متغيراً لَونه وَكَانَ يُحِبهُ حبا شَدِيدا لَا يكَاد يصبر عَنهُ فَذكر الله كرامته فَقَالَ {وَمن يطع الله} فِي الْفَرَائِض وَالرَّسُول فِي السّنَن {فَأُولَئِك} فِي الْجنَّة {مَعَ الَّذين أَنْعَمَ الله} من الله {عَلَيْهِم من النَّبِيين} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيره {وَالصديقين} أفاضل أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/73)
{والشهدآء} الَّذين اسْتشْهدُوا فِي سَبِيل الله {وَالصَّالِحِينَ} صالحي أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} مرافقة فِي الْجنَّة(1/74)
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
{ذَلِك} المرافقة مَعَ النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ {الْفضل مِنَ الله} الْمَنّ من الله {وَكفى بِاللَّه عَلِيماً} بحب ثَوْبَان وكرامته فِي الْجنَّة وثوابه(1/74)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
ثمَّ علم خُرُوجهمْ فِي سَبِيل الله فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} من عَدوكُمْ وَلَا تخْرجُوا مُتَفَرّقين {فانفروا} وَلَكِن اخْرُجُوا {ثبات} جماعات سَرِيَّة سَرِيَّة {أَوِ انفروا جَمِيعاً} أَو اخْرُجُوا كلكُمْ مَعَ نَبِيكُم(1/74)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
{وَإِنَّ مِنْكُمْ} يَا معشر الْمُؤمنِينَ {لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} يَقُول ليتثاقلن عَن الْخُرُوج فِي سَبِيل الله عبد الله بن أبي وينتظر مَا يُصِيبكُم فِي السّريَّة {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ} فِي السّريَّة {مُّصِيبَةٌ} الْقَتْل والهزيمة والشدة {قَالَ} عبد الله بن أبي {قَدْ أَنْعَمَ الله} من الله {عَلَيَّ} بِالْجُلُوسِ {إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ} فِي تِلْكَ السّريَّة {شَهِيداً} حَاضرا(1/74)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ} فِي تِلْكَ السّريَّة {فَضْلٌ} فتح وغنيمة {من الله ليَقُولن} عبد الله ابْن أبي {كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} صلَة فِي الدّين وَمَعْرِفَة فِي الصُّحْبَة مقدم ومؤخر {يَا لَيْتَني كُنتُ} فِي الْغُزَاة {مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} فأصيب غَنَائِم كَثِيرَة وحظا وافر(1/74)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
ثمَّ أَمرهم بِالْقِتَالِ فِي سَبِيل الله وَإِن كَانُوا منافقين فَقَالَ {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله {الَّذين يشرون الْحَيَاة الدُّنْيَا بِالآخِرَة} يختارون الدُّنْيَا على الْآخِرَة وَيُقَال نزلت هَذِه الْآيَة فِي المخلصين فليقاتل فِي سَبِيل الله فِي طَاعَة الله الَّذين يشرون الْحَيَاة الدُّنْيَا بِالآخِرَة يبيعون الدُّنْيَا بِالآخِرَة ويختارون الْآخِرَة على الدُّنْيَا ثمَّ ذكر ثوابهم فَقَالَ {وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله {فَيُقْتَلْ} يستشهد {أَو يَغْلِبْ} يظفر على الْعَدو {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} نُعْطِيه فِي كلا الْوَجْهَيْنِ {أَجْراً عَظِيماً} ثَوابًا وافراً فِي الْجنَّة(1/74)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
ثمَّ ذكر كراهيتهم الْقِتَال فِي سَبِيل الله فَقَالَ {وَمَا لَكُمْ} يَا معشر الْمُؤمنِينَ {لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل الله} فِي طَاعَة الله مَعَ أهل مَكَّة {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال والنسآء والولدان} الصّبيان {الَّذين يَقُولُونَ} بِمَكَّة {رَبَّنَآ} يَا رَبنَا {أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِه الْقرْيَة} يَعْنِي مَكَّة {الظَّالِم أَهْلُهَا} الْمُشرك أَهلهَا {وَاجعَل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ} من عنْدك {وَلِيّاً} حَافِظًا يعنون عتاب بن أسيد {وَاجعَل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ} من عنْدك {نَصِيراً} مَانِعا فَاسْتَجَاب الله دعاءهم وَجعل لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ناصراً وعتاباً وليا(1/74)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
ثمَّ ذكر قِتَالهمْ فِي سَبِيل الله فَقَالَ {الَّذين آمَنُواْ} مُحَمَّد وَأَصْحَابه {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذين كَفَرُواْ} أَبُو سُفْيَان وَأَصْحَابه {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت} فِي طَاعَة الشَّيْطَان {فَقَاتلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَان} جند الشَّيْطَان {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَان} صنع الشَّيْطَان ومكره {كَانَ ضَعِيفاً} بالخذلان لَا يخذلهم كَمَا خذلهم يَوْم بدر(1/74)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
ثمَّ ذكر كراهيتهم لِلْخُرُوجِ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالموافاة إِلَى بدر الصُّغْرَى فَقَالَ {أَلَمْ تَرَ} ألم تخبر يَا مُحَمَّد {إِلَى الَّذين} عَن الَّذين {قِيلَ لَهُمْ} قلت لَهُم بِمَكَّة لعبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ وَسعد بن أبي وَقاص الزُّهْرِيّ وَقُدَامَة بن مَظْعُون الجُمَحِي ومقداد بن الْأسود الْكِنْدِيّ وَطَلْحَة بن عبد الله التَّيْمِيّ {كفوا أَيْدِيَكُمْ} عَن الْقَتْل وَالضَّرْب فَإِنِّي لم أومر بِالْقِتَالِ {وَأَقِيمُواْ الصَّلَاة} أَتموا الصَّلَوَات الْخمس بوضوئها وركوعها وسجودها وَمَا يجب فِيهَا من مواقيتها {وَآتُواْ الزَّكَاة} أعْطوا زَكَاة أَمْوَالكُم {فَلَمَّا كُتِبَ} فرض {عَلَيْهِمُ} بِالْمَدِينَةِ {الْقِتَال} الْجِهَاد فِي سَبِيل الله {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} طَائِفَة مِنْهُم طَلْحَة بن عبد الله {يَخْشَوْنَ النَّاس} يخَافُونَ أهل مَكَّة {كَخَشْيَةِ الله} كخوفهم من الله {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} بل أَكثر خوفًا(1/74)
{وَقَالُواْ رَبَّنَا} يَا رَبنَا {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَال} قد أوجبت علينا الْجِهَاد فِي سَبِيلك {لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} هلا عافيتنا {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} إِلَى الْمَوْت {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {مَتَاعُ الدُّنْيَا} مَنْفَعَة الدُّنْيَا {قَلِيلٌ} فِي الْآخِرَة {وَالْآخِرَة} ثَوَاب الْآخِرَة {خَيْرٌ} أفضل {لِّمَنِ اتَّقى} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} لَا ينقص من حسناتهم قدر فتيل وَهُوَ الشَّيْء الَّذِي يكون فِي شقّ النواة وَيُقَال هُوَ الْوَسخ الَّذِي يكون بَين أصابعك إِذا قتلت(1/75)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
{أَيْنَمَا تَكُونُواْ} يَا معشر الْمُؤمنِينَ المخلصين وَالْمُنَافِقِينَ فِي بر أَو بَحر سفر أَو حضر {يُدْرِككُّمُ الْمَوْت} فتموتوا {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} فِي قُصُور حَصِينَة ثمَّ ذكر مقَالَة الْيَهُود وَالْمُنَافِقِينَ مَا زلنا نَعْرِف النَّقْص فِي ثمارنا ومزارعنا مُنْذُ قدم علينا مُحَمَّد وَأَصْحَابه فَقَالَ {وَإِن تُصِبْهُمْ} يَعْنِي الْمُنَافِقين وَالْيَهُود {حَسَنَةٌ} الخصب وَرخّص السّعر وتتابع السّنة بالأمطار {يَقُولُواْ هَذِه مِنْ عِندِ الله} لما علم فِينَا الْخَيْر {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} الْقَحْط والجدوبة والشدة وَغَلَاء السّعر {يَقُولُواْ هَذِه مِنْ عِندِكَ} يعنون من شُؤْم مُحَمَّد وَأَصْحَابه {قُلْ} يَا مُحَمَّد لِلْمُنَافِقين وَالْيَهُود {كُلٌّ} فِي الشدَّة وَالنعْمَة {مِّنْ عِنْد الله فَمَا لهَؤُلَاء الْقَوْم} يَعْنِي الْمُنَافِقين وَالْيَهُود {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} قولا إِن النِّعْمَة والشدة من الله(1/75)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
ثمَّ ذكر بِمَاذَا تصيبهم النِّعْمَة والشدة فَقَالَ {مَّآ أَصَابَكَ} يَا مُحَمَّد {مِنْ حَسَنَةٍ} من خصب وَرخّص السّعر وتتابع السّنة بالأمطار {فَمِنَ الله} فَمن نعْمَة الله عَلَيْك خَاطب بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعنى بِهِ قومه {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ} من قحط وجدوبة وَغَلَاء السّعر {فَمِن نَّفْسِكَ} فلقبل طَهَارَة نَفسك بطهرك بذلك وَيُقَال مَا أَصَابَك من حَسَنَة من فتح وغنيمة فَمن الله فَمن كَرَامَة الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة من قتل وهزيمة مثل يَوْم أحد فَمن نَفسك فبذنب أَصْحَابك بتركهم المركز وَيُقَال مَا أَصَابَك من حَسَنَة مَا عملت من خير فَمن الله توفيقه وعونه وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة مَا عملت من شَرّ فَمن نَفسك فَمن قبل جِنَايَة نَفسك خذلانه {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ} إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس {رَسُولاً} بالبلاغ {وَكفى بِاللَّه شَهِيداً} على مقالتهم إِن الْحَسَنَة من الله والسيئة من شُؤْم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَيُقَال وَكفى بِاللَّه شَهِيدا على قَوْلهم ائتنا بِشَهِيد يشْهد بأنك رَسُول الله(1/75)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
فَلَمَّا نزل {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا ليطاع بِإِذن الله} قَالَ عبد الله بن أبي يَأْمُرنَا مُحَمَّد أَن نطيعه دون الله فَنزل فِيهِ {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُول} فِيمَا يَأْمُرهُ {فَقَدْ أَطَاعَ الله} لِأَن الرَّسُول لَا يَأْمر إِلَّا بِمَا أَمر الله {وَمَن تولى} عَن طَاعَة الرَّسُول {فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِم حفيظا} كَفِيلا(1/75)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
{وَيَقُولُونَ} يَعْنِي الْمُنَافِقين عبد الله ابْن أبي وَأَصْحَابه {طَاعَةٌ} أَمرك طَاعَة يَا مُحَمَّد مر بِمَا شِئْت نفعله {فَإِذَا بَرَزُواْ} خَرجُوا {مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ} غيرت {طَآئِفَةٌ} فريق {مِّنْهُمْ} من الْمُنَافِقين {غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} تَأمر {وَالله يَكْتُبُ} يحفظ عَلَيْهِم {مَا يُبَيِّتُونَ} مَا يغيرون من أَمرك {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} وَلَا تعاقبهم {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} ثق بِاللَّه فِيمَا يصلحون {وَكفى بِاللَّه وَكِيلاً} كَفِيلا بالنصرة والدولة لَك عَلَيْهِم(1/75)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن} أَفلا يتفكرون فِي الْقُرْآن أَنه يشبه بعضه بَعْضًا وَيصدق بعضه بَعْضًا وَفِيه مَا أَمرهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله} وَلَو كَانَ هَذَا الْقُرْآن من أحد غير الله {لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافا كَثِيراً} تناقضاً كثيرا لَا يشبه بعضه بَعْضًا(1/75)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
ثمَّ ذكر خِيَانَة الْمُنَافِقين فَقَالَ {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْن} خبر من أَمر الْعَسْكَر أَو الْفَتْح أَو الْغَنِيمَة أصروا عَلَيْهِ حسداً مِنْهُم {أَوِ الْخَوْف} وَإِن جَاءَ خبر خوف من الْعَسْكَر أَو الْقَتْل أَو الْهَزِيمَة {أَذَاعُواْ بِهِ} فثوا بِهِ {وَلَوْ رَدُّوهُ} لَو تركُوا خبر الْعَسْكَر {إِلَى الرَّسُول} حَتَّى يُخْبِرهُمْ الرَّسُول {وَإِلَى أُوْلِي الْأَمر مِنْهُمْ} إِلَى ذَوي الْعقل واللب(1/75)
مِنْهُم من الْمُؤمنِينَ يَعْنِي أَبَا بكر وَأَصْحَابه {لَعَلِمَهُ} يَعْنِي الْخَبَر الْحق {الَّذين يَسْتَنْبِطُونَهُ} يبتغونه أَي يطْلبُونَ الْخَبَر {مِنْهُمْ} من أبي بكر وَأَصْحَابه {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله} منّ الله {عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بالتوفيق والعصمة {لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَان} كلكُمْ {إِلاَّ قَلِيلاً} مِنْهُم لَا يفشون إِلَّا بِالْخَيرِ(1/76)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
ثمَّ أَمر نبيه بِالْجِهَادِ فِي سَبِيل الله إِلَى بدر الصُّغْرَى فَقَالَ {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله {لاَ تُكَلَّفُ} لَا تُؤمر بذلك {إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ} حضّض {الْمُؤمنِينَ} على الْخُرُوج مَعَك {عَسَى الله} وَعَسَى من الله وَاجِب {أَن يَكُفَّ} يمْنَع {بَأْسَ} قتال {الَّذين كَفَرُواْ} كفار مَكَّة {وَالله أَشَدُّ بَأْساً} عذَابا {وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} عُقُوبَة(1/76)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
ثمَّ ذكر ثَوَاب من آمن وعقوبة من كفر يَعْنِي أَبَا بكر وَأَبا جهل فَقَالَ {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} يوحد أَو يصلح بَين اثْنَيْنِ {يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} أجر من الْحَسَنَة {وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} يُشْرك أَو ينم {يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} وزر مِنْهَا من السَّيئَة {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ} من الْحَسَنَة والسيئة {مُّقِيتاً} مقتدراً مجازياً وَيُقَال على قوت كل شَيْء مقتدراً(1/76)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ} إِذا سلم عَلَيْكُم بِسَلام {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} فردوها بِأَفْضَل مِنْهَا فِي الزِّيَادَة على أهل دينكُمْ وملتكم {أَوْ رُدُّوهَآ} مثل مَا سلم عَلَيْكُم على غير أهل دينكُمْ {إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ} من السَّلَام وَالرَّدّ {حَسِيباً} مجازياً وشهيداً نزلت فِي قوم بخلوا بِالسَّلَامِ(1/76)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
ثمَّ وحد نَفسه فَقَالَ {الله لَا إِلَه إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} وَالله ليجمعنكم {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة} ليَوْم الْقِيَامَة فِي الْبَعْث {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لَا شكّ فِيهِ {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثا} قولا(1/76)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
ثمَّ نزلت فِي عشر نفر من الْمُنَافِقين الَّذين ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام وَرَجَعُوا من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة فَقَالَ {فَمَا لَكُمْ} يَا معشر الْمُؤمنِينَ صرتم {فِي الْمُنَافِقين} الَّذين ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام {فِئَتَيْنِ} فرْقَتَيْن فرقة تحل أَمْوَالهم ودماءهم وَفرْقَة تحرم {وَالله أَرْكَسَهُمْ} ردهم إِلَى الشّرك {بِمَا كسبوا} بنفاقهم وخبث نياتهم {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ} أَن ترشدوا إِلَى دين الله {مَنْ أَضَلَّ الله} عَن دينه {وَمَن يُضْلِلِ الله} عَن دينه {فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} دينا وَلَا حجَّة(1/76)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
{وَدُّواْ} تمنوا {لَوْ تَكْفُرُونَ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ} مَعَهم {سَوَآءً} شرعا فِي دين الشّرك {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ} فِي الدّين والعون والنصرة {حَتَّى يُهَاجِرُواْ} حَتَّى يُؤمنُوا مرّة أُخْرَى ويهاجروا {فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله {فَإِنْ تَوَلَّوْاْ} عَن الْإِيمَان وَالْهجْرَة {فَخُذُوهُمْ} فأسروهم {واقتلوهم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فِي الْحل وَالْحرَام {وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً} فِي الدّين والعون والنصرة {وَلاَ نَصِيراً} مَانِعا(1/76)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
ثمَّ اسْتثْنى فَقَالَ {إِلاَّ الَّذين يَصِلُونَ} يرجعُونَ يَعْنِي من الْعشْرَة {إِلَى قَوْمٍ} يَعْنِي قوم هِلَال بن عُوَيْمِر الْأَسْلَمِيّ {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} عهد وَصلح {أَو جاؤوكم} وَقد جاءوكم يَعْنِي قوم هِلَال {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ضَاقَتْ قُلُوبهم من شدَّة النَّفَقَة بِسَبَب الْعَهْد {أَن يُقَاتِلُوكُمْ} لقبل الْعَهْد {أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} لقبل الْقَرَابَة {وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ} يَعْنِي قوم هِلَال بن عُوَيْمِر {عَلَيْكُمْ} يَوْم فتح مَكَّة {فَلَقَاتَلُوكُمْ} مَعَ قَومهمْ {فَإِنِ اعتزلوكم} تركوكم {فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} مَعَ قَومهمْ يَوْم فتح مَكَّة {وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السّلم} خضعوا لكم بِالصُّلْحِ وَالْوَفَاء {فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} حجَّة بِالْقَتْلِ(1/76)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} من غَيرهم من غير قوم هِلَال أَسد أَو غطفان {يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ} أَن يأمنوا مِنْكُم على أنفسهم وَأَمْوَالهمْ وأهاليهم بِلَا إِلَه إِلَّا الله {وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ} من قَومهمْ بالْكفْر {كُلَّ مَا ردوا إِلَى الْفِتْنَة} دعوا إِلَى الشّرك {أُرْكِسُواْ فِيِهَا} رجعُوا إِلَيْهِ {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} فَإِن لم يتركوكم يَوْم فتح مَكَّة {ويلقوا إِلَيْكُمُ السّلم}(1/76)
وَلم يخضعوا لكم بِالصُّلْحِ {ويكفوا أَيْدِيَهُمْ} وَلم يكفوا أَيْديهم عَن قتالكم يَوْم فتح مَكَّة {فَخُذُوهُمْ} وَأسرُوهُمْ {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} وَجَدْتُمُوهُمْ فِي الْحل وَالْحرم {وأولئكم} يَعْنِي أسداً وغَطَفَان {جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} حجَّة بَيِّنَة بِالْقَتْلِ(1/77)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} مَا جَازَ لمُؤْمِن عَيَّاش بن أبي ربيعَة {أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً} حَارِث بن زيد {إِلَّا خطأ} وَلَا خطأ {وَمن قتل مُؤمنا خطأ} بخطأ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} فَعَلَيهِ عتق رَقَبَة مُؤمنَة بِاللَّه وَرَسُوله {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} كَامِلَة {إِلَى أَهْلِهِ} تُؤَدّى إِلَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} إِلَّا أَن يصدق أَوْلِيَاء الْمَقْتُول بِالدِّيَةِ على الْقَاتِل {فَإِن كَانَ} الْمَقْتُول {مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ} حَرْب لكم {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} يَعْنِي الْمَقْتُول {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} فعلى الْقَاتِل عتق رَقَبَة مُؤمنَة بِاللَّه وَرَسُوله وَلَيْسَ عَلَيْهِ الدِّيَة وَكَانَ الْحَارِث من قوم كَانُوا حَربًا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَإِن كَانَ} الْمَقْتُول {مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} عهد وَصلح {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} كَامِلَة {إِلَى أَهْلِهِ} تُؤَدّى إِلَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} وَعَلِيهِ عتق رَقَبَة مُوَحدَة مصدقة بتوحيد الله {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} التَّحْرِير {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابعين} فَعَلَيهِ صِيَام شَهْرَيْن متواصلين لَا يفرق فِي صِيَامه بَين يَوْمَيْنِ {تَوْبَةً مِّنَ الله} تجاوزاً من الله لقَاتل الْخَطَأ إِن فعل ذَلِك {وَكَانَ الله عَلِيماً} بِقَاتِل الْخَطَأ {حَكِيماً} فِيمَا حكم عَلَيْهِ(1/77)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
ثمَّ نزل فِي شَأْن مقيس ابْن حبابة قَاتل رَسُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الفِهري بعد أَخذه دِيَة أَخِيه هِشَام بن ضَبَابَة وارتد بعد ذَلِك عَن دينه وَرجع إِلَى مَكَّة كَافِرًا فَنزل فِيهِ {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} بقتْله {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} بقتْله {خَالِداً فِيهَا} بشركه {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ} بِأَخْذِهِ الدِّيَة {وَلَعَنَهُ} بقتْله غير قَاتل أَخِيه {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} شَدِيدا بجرأته على الله(1/77)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
ثمَّ نزل فِي شَأْن أُسَامَة بن زيد قَاتل مرداس بن نهيك الْفَزارِيّ وَكَانَ مُؤمنا فَنزل فِيهِ {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ} خَرجْتُمْ {فِي سَبِيلِ الله} فِي الْجِهَاد {فَتَبَيَّنُواْ} تحققوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْمُؤمن من الْكَافِر {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألْقى إِلَيْكُمُ السَّلَام} لمن أسمعكم لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله مَعَ السَّلَام {لَسْتَ مُؤْمِناً} فَتَقْتُلُونَهُ {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} تطلبون بذلك مَا كَانَ مَعَه من الْغَنَائِم {فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} ثَوَاب كثير لمن ترك قتل الْمُؤمن {كَذَلِك كُنتُم} فِي قومكم تأمنون من الْمُؤمنِينَ من مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه بِلَا إِلَه إِلَّا الله {مِّن قَبْلُ} من قبل الْهِجْرَة {فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} بِالْهِجْرَةِ من بَين الْكَافرين {فَتَبَيَّنُواْ} فتثبتوا يَقُول قفوا حَتَّى لَا تقتلُوا مُؤمنا {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الْقَتْل وَغَيره {خَبِيراً}(1/77)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
ثمَّ بيّن ثَوَاب الْمُجَاهدين فَقَالَ {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤمنِينَ} عَن الْجِهَاد {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَر} الشدَّة والضعف بِالْبدنِ وَالْبَصَر مثل عبد الله بن أم مَكْتُوم وَعبد الله بن جحش الْأَسدي بِخُرُوج أنفسهم {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ} بِنَفَقَة أَمْوَالهم {وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ الله الْمُجَاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين} بِغَيْر الضَّرَر {دَرَجَةً} فَضِيلَة {وَكُلاًّ} كلا الْفَرِيقَيْنِ الْمُجَاهدين والقاعدين {وَعَدَ الله الْحسنى} الْجنَّة بِالْإِيمَان {وَفَضَّلَ الله الْمُجَاهدين} بِالْجِهَادِ(1/77)
{عَلَى القاعدين} بِغَيْر عذر {أَجْراً عَظِيماً} ثَوابًا وافراً فِي الْجنَّة(1/78)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
{دَرَجَاتٍ مِّنْهُ} فَضَائِل من الله فِي الدَّرَجَات {وَمَغْفِرَةً} للذنوب {وَرَحْمَةً} من الْعَذَاب {وَكَانَ الله غَفُوراً} لمن تَابَ عَن الْقعُود وَخرج إِلَى الْجِهَاد {رَّحِيماً} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/78)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
ثمَّ نزل فِي شَأْن النَّفر الَّذين قعدوا يَوْم بدر وَكَانُوا خمسين رجلا ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام فَقتل عامتهم فَقَالَ {إِنَّ الَّذين تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة} قبضتهم الْمَلَائِكَة يَوْم بدر {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} بالشرك {قَالُواْ} قَالَت لَهُم الْمَلَائِكَة حِين الْقَبْض {فِيمَ كُنتُمْ} مَاذَا كُنْتُم تَصْنَعُونَ بِمَكَّة {قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ} مقهورين ذليلين {فِي الأَرْض} فِي أَرض مَكَّة فِي أَيدي الْكفَّار {قَالُوا} قَالَت لَهُم الْمَلَائِكَة {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله} أَرض الْمَدِينَة {وَاسِعَةً} آمِنَة {فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} إِلَيْهَا {فَأُولَئِك} النَّفر {مَأْوَاهُمْ} مصيرهم {جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً} صَار إِلَيْهِ(1/78)
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
ثمَّ بَين أهل الْعذر فَقَالَ {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال} الشُّيُوخ الضُّعَفَاء {والنسآء والولدان} الصّبيان {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} حِيلَة الْخُرُوج {وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} لَا يعْرفُونَ طَرِيقا(1/78)
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
{فَأُولَئِك عَسَى الله} وَعَسَى من الله وَاجِب {أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} فِيمَا كَانَ مِنْهُم {وَكَانَ الله عَفُوّاً} لما كَانَ مِنْهُم {غَفُوراً} لمن تَابَ مِنْهُم(1/78)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فِي طَاعَة الله {يَجِدْ فِي الأَرْض} فِي أَرض الْمَدِينَة {مُرَاغَماً} محولاً وملجأ {كَثِيراً وَسَعَةً} فِي الْمَعيشَة وأمنانزلت هَذِه الْآيَة فِي أَكْثَم بن صَيْفِي ثمَّ نزلت فِي جُنْدُب بن ضَمرَة شيخ كَانَ بِمَكَّة هَاجر من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة فأدركه الْمَوْت بِالتَّنْعِيمِ ثَوَابه مثل ثَوَاب الْمُهَاجِرين فَمَاتَ حميدا فَنزلت فِيهِ {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ} بِمَكَّة {مُهَاجِراً إِلَى الله} إِلَى طَاعَة الله {وَرَسُولِهِ} إِلَى رَسُوله بِالْمَدِينَةِ {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْت} بِالتَّنْعِيمِ {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ} وَجب ثَوَاب هجرته {عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً} لما كَانَ مِنْهُ فِي الشّرك {رَّحِيماً} بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْإِسْلَام(1/78)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} سافرتم {فِي الأَرْض} فِي سَبِيل الله {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} مأثم {أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاة} من صَلَاة الْمُقِيم {إِنْ خِفْتُمْ} علمْتُم {أَن يَفْتِنَكُمُ} أَن يقتلكم {الَّذين كفرُوا} فِي الصَّلَاة {إِنَّ الْكَافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} ظَاهر الْعَدَاوَة وَهِي صَلَاة الْخَوْف(1/78)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
ثمَّ بَين كَيفَ يصلونَ فَقَالَ {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} مَعَهم شَهِيدا {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاة} فأقمت لَهُم فِي الصَّلَاة فَكبر وليكبروا مَعَك {فَلْتَقُمْ} فلتكن {طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ} فِي الصَّلَاة {وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ} ركعوا رَكْعَة وَاحِدَة {فَلْيَكُونُواْ} فليرجعوا {مِن وَرَآئِكُمْ} إِلَى مصَاف أَصْحَابهم بِإِزَاءِ الْعَدو {وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى} الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدو {لَمْ يُصَلُّواْ} مَعَك الرَّكْعَة الأولى {فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} الرَّكْعَة الثَّانِيَة {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ} من عدوهم {وَأَسْلِحَتَهُمْ} وليأخذوا سِلَاحهمْ مَعَهم {وَدَّ} تمنى {الَّذين كَفَرُواْ} يَعْنِي بني أَنْمَار {لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ} فتنسونها {وَأَمْتِعَتِكُمْ} تخلون مَتَاع الْحَرْب(1/78)
{فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ} يحملون عَلَيْكُم {مَّيْلَةً وَاحِدَةً} حَملَة وَاحِدَة فِي الصَّلَاة ثمَّ رخص لَهُم فِي وضع السِّلَاح فَقَالَ {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} لَا حرج عَلَيْكُم {إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ} شدَّة من مطر {أَوْ كُنتُم مرضى} جرحى {أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ} سلاحكم {وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} من عَدوكُمْ {إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ} بني أَنهَار {عَذَاباً مُّهِيناً} يهانون بِهِ وَيُقَال شَدِيدا(1/79)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاة} فَإِذا فَرَغْتُمْ من صَلَاة الْخَوْف {فاذكروا الله} فصلوا لله {قِيَاماً} للصحيح {وَقُعُوداً} للْمَرِيض {وعَلى جُنُوبِكُمْ} للجريح وَالْمَرِيض {فَإِذَا اطمأننتم} رجعتم إِلَى مَنَازِلكُمْ وَذهب عَنْكُم الْخَوْف {فَأَقِيمُواْ الصَّلَاة} فَأتمُّوا الصَّلَاة أَرْبعا {إِنَّ الصَّلَاة كَانَتْ} صَارَت {عَلَى الْمُؤمنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} مَفْرُوضًا مَعْلُوما فِي السّفر والحضر للْمُسَافِر رَكْعَتَانِ وللمقيم أَربع(1/79)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
ثمَّ حثهم على طلب أبي سُفْيَان وَأَصْحَابه بعد يَوْم أحد فَقَالَ {وَلاَ تَهِنُواْ} لَا تعجزوا وَلَا تضعفوا {فِي ابتغآء الْقَوْم} فِي طلب أبي سُفْيَان وَأَصْحَابه {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ} تتوجعون بالجراحة {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} يتوجعون بالجراحة {كَمَا تَأْلَمونَ} تتوجعون بالجراحة {وَتَرْجُونَ مِنَ الله} ثَوَابه وتخافون عَذَابه {مَا لاَ يَرْجُونَ} ذَلِك {وَكَانَ الله عَلِيماً} بجراحتكم {حَكِيماً} حكم عَلَيْكُم بابتغاء الْقَوْم(1/79)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
ثمَّ بيَّن قصَّة طعمة بن أُبَيْرِق سَارِق الدرْع واليهودي زيد بن سمين الَّذِي رمي بِالسَّرقَةِ فَقَالَ {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكتاب} جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {بِالْحَقِّ} لتبيان الْحق وَالْبَاطِل {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاس} بِالْحَقِّ بَين طعمة وَزيد بن سمين {بِمَآ أَرَاكَ الله} بِمَا علمك الله فِي الْقُرْآن وَبَين {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ} بِالسَّرقَةِ يَعْنِي طعمة {خَصِيماً} معينا(1/79)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
{واستغفر الله} تب إِلَى الله من همك بِضَرْب الْيَهُودِيّ زيد بن سمين {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} لمن مَاتَ على التَّوْبَة وَيُقَال غَفُورًا لذنبك الَّذِي هَمَمْت بِهِ رحِيما بك(1/79)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
{وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} بِالسَّرقَةِ {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً} خائناً بِالسَّرقَةِ {أَثِيماً} فَاجِرًا بِالْحلف الْكَاذِب والبهتان على البرىء(1/79)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
{يَسْتَخْفُونَ} يستحون {مِنَ النَّاس} بِالسَّرقَةِ {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله} لَا يستحون من الله {وَهُوَ مَعَهُمْ} عَالم بهم {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القَوْل} يَقُول يؤلفون وَيَقُولُونَ من القَوْل مَا لَا يُرْضِي الله وَلَا يرضونه مقدم ومؤخر {وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ} وَيَقُولُونَ {محيطا} عَالما(1/79)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} أَنْتُم يَا قوم طعمة يَعْنِي بني ظفر {جَادَلْتُمْ} خاصمتم {عَنْهُمْ} عَن طعمة {فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ الله} يُخَاصم الله {عَنْهُمْ} عَن طعمة يَوْمَ الْقِيَامَة {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ} على طعمة {وَكِيلاً} كَفِيلا من عَذَاب الله(1/79)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
{وَمن يعْمل سوءا} سَرقَة {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بِالْحلف الْبَاطِل والبهتان على البريء {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} يتب إِلَى الله {يَجِدِ الله غَفُوراً} لذنوبه {رَّحِيماً} حَيْثُ قبل تَوْبَته(1/79)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
{وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً} سَرقَة وَيحلف بِاللَّه كَاذِبًا {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ} عُقُوبَته {على نَفْسِهِ وَكَانَ الله عليما}(1/79)
يَعْنِي بسارق الدرْع {حَكِيماً} حكم عَلَيْهِ بِالْقطعِ(1/80)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
{وَمن يكْسب خَطِيئَة} سَرقَة {أَوْ إِثْماً} أَو يحلف بِاللَّه كَاذِبًا {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} بِمَا سرق {بَرِيئاً} زيد بن سمين {فَقَدِ احْتمل} فقد أوجب على نَفسه {بُهْتَاناً} عُقُوبَة بهتان عَظِيم {وَإِثْماً مُّبِيناً} وعقوبة ذَنْب بيِّن(1/80)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ} منّ الله عَلَيْك بِالنُّبُوَّةِ {وَرَحْمَتُهُ} بإرسال جِبْرِيل إِلَيْك {لَهَمَّتْ} أضمرت وأرادت {طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ} من قوم طعمة {أَن يُضِلُّوكَ} أَن يخطئوك عَن الحكم {وَمَا يُضِلُّونَ} عَن الحكم {إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} بِشَيْء لِأَن مضرته على من شهد بالزور {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الْكتاب} جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {وَالْحكمَة} بيَّن فِيهِ الْحَلَال وَالْحرَام وَالْقَضَاء {وَعَلَّمَكَ} بِالْقُرْآنِ من الْأَحْكَام وَالْحُدُود {مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} قبل الْقُرْآن {وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيما} بِالنُّبُوَّةِ(1/80)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ} من نجوى قوم طعمة {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} حث على صَدَقَة الْمَسَاكِين {أَوْ مَعْرُوفٍ} أَو قرض لإِنْسَان {أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاس} بَين طعمة وَزيد ابْن سمين الْيَهُودِيّ {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِك} الصَّدَقَة وَالْقَرْض والإصلاح {ابتغآء مَرْضَاتِ الله} طلب رضَا الله {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} نُعْطِيه {أَجْراً عَظِيماً} ثَوابًا وافراً فِي الْجنَّة(1/80)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
{وَمَن يُشَاقِقِ} يُخَالف {الرَّسُول} فِي التَّوْحِيد وَالْحكم وَهُوَ طعمة {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهدى} التَّوْحِيد وَالْحكم وَهُوَ طعمة {وَيَتَّبِعْ} يتَّخذ {غَيْرَ سَبِيلِ} دين {الْمُؤمنِينَ} يخْتَر على دين الْمُؤمنِينَ دين أهل مَكَّة الشّرك {نُوَلِّهِ مَا تولى} نتركه إِلَى مَا اخْتَار فِي الدُّنْيَا {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} فِي الْآخِرَة {وَسَآءَتْ مَصِيراً} صَار إِلَيْهِ(1/80)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} إِن مَاتَ عَلَيْهِ مثل طعمة {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِك} دون الشّرك {لِمَن يَشَآءُ} لمن كَانَ أَهلا لذَلِك {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّه فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} عَن الْهدى(1/80)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} مَا يعبد أهل مَكَّة من دون الله {إِلاَّ إِنَاثاً} أصناماً بِلَا روح اللات والعزى وَمَنَاة {وَإِن يَدْعُونَ} مَا يعْبدُونَ {إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} متمرداً شَدِيدا(1/80)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
{لَّعَنَهُ الله} طرده الله من كل خير {وَقَالَ} إِبْلِيس {لأَتَّخِذَنَّ} لأستولين ولأستزلن {مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} حظاً مَعْلُوما فَمَا أطيع فِيهِ فَهُوَ مفروضه مأموره وَيُقَال من كل ألف تِسْعمائَة وتسع وَتسْعُونَ فِي النَّار(1/80)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
{وَلأُضِلَّنَّهُمْ} عَن الْهدى {وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ} لأرجينهم أَن لَا جنَّة وَلَا نَار {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ} فليشققن {آذَانَ الْأَنْعَام} وَهِي الْبحيرَة {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} دين الله {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَان} يعبد الشَّيْطَان {وَلِيّاً} رَبًّا {مِّن دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ} غبن {خُسْرَاناً مُّبِيناً} غبناً بَينا بذهاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة(1/80)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)
{يَعِدُهُمْ} الشَّيْطَان أَن لَا جنَّة وَلَا نَار {وَيُمَنِّيهِمْ} يرجيهم أَن الدُّنْيَا لَا تفنى {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَان إِلاَّ غُرُوراً}(1/80)
بَاطِلا وكذبا(1/81)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
{أُولَئِكَ} الْكفَّار {مَأْوَاهُمْ} مصيرهم {جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} مفراً وملجأ(1/81)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
{وَالَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} من تَحت غرفها ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَاللَّبن وَالْعَسَل {خَالِدِينَ فِيهَا} مقيمين فِي الْجنَّة لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا {أَبَداً وَعْدَ الله} فِي جَهَنَّم وَالْجنَّة {حَقّاً} كَائِنا صدقا) {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} وَعدا(1/81)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} لَيْسَ كَمَا تمنيتم يَا معشر الْمُؤمنِينَ أَن لَا تؤاخذوا بِسوء بعد الْإِيمَان {وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكتاب} وَلَا كَمَا تمنى أهل الْكتاب لقَولهم مَا نعمل بِالنَّهَارِ من الذُّنُوب يغْفر بِاللَّيْلِ وَمَا نعمل بِاللَّيْلِ يغْفر بِالنَّهَارِ {من يعْمل سوءا} شرا {يُجْزَ بِهِ} الْمُؤمن فِي الدُّنْيَا أَو بعد الْمَوْت قبل دُخُول الْجنَّة وَالْكَافِر فِي الْآخِرَة قبل دُخُول النَّار أَو بعد دُخُول النَّار {وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله} من عَذَاب الله {وَلِيّاً} قَرِيبا يَنْفَعهُ {وَلاَ نَصِيراً} مَانِعا يمنعهُ(1/81)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينه وَبَين ربه {مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} من رجال أَو نسَاء {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وَهُوَ مَعَ ذَلِك مُؤمن مُصدق بإيمانه {فَأُولَئِك يَدْخُلُونَ الْجنَّة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} لَا ينقص من حسناتهم قدر نقير وَهُوَ النقرة الَّتِي على ظهر النواة(1/81)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً} أحكم دينا وَأحسن قولا {مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أخْلص دينه وَعَمله لله {وَهُوَ مُحْسِنٌ} موحد محسن بالْقَوْل وَالْفِعْل {واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} مُسلما {وَاتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} مصافياً(1/81)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
{وَللَّه مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض} من الْخلق والعجائب كلهم عبيده وإماؤه {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ} من أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض {محيطا} عَالما(1/81)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء} يَسْأَلُونَك فِي مِيرَاث النِّسَاء سَأَلَهُ ذَلِك عُيَيْنَة {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ} يبين لكم {فِيهِنَّ} فِي ميراثهن {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} وَيبين مَا قرىء عَلَيْكُم {فِي الْكتاب} فِي أول هَذِه السُّورَة {فِي يتامى النِّسَاء} فِي بَنَات أم كحة {اللَّاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ} لَا تعطونهن {مَا كُتِبَ لَهُنَّ} ماوجب لَهُنَّ من الْمِيرَاث وَقد بيَّن الله هَذِه الْآيَة فِي أول هَذِه السُّورَة {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} يَعْنِي ترغبون عَن نِكَاحهنَّ لقبل دمامتهن فأعطوهن أموالهن لكَي ترغبوا فِي نِكَاحهنَّ لقبل مالهن {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْولدَان} وَيبين لكم مِيرَاث الصّبيان {وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} وَيبين لكم أَن تقوموا بِحِفْظ مَال الْيَتَامَى بِالْقِسْطِ بِالْعَدْلِ {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} من إِحْسَان إِلَى هَؤُلَاءِ {فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ} وبنياتكم {عَلِيماً}(1/81)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
{وَإِنِ امْرَأَة} يَعْنِي عميرَة {خَافَتْ مِن بَعْلِهَا} علمت من زَوجهَا أسعد بن الرّبيع {نُشُوزاً} ترك مجامعتها {أَوْ إِعْرَاضاً} ترك محادثتها ومجالستها {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ} على الزَّوْج وَالْمَرْأَة {أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا} يَعْنِي بَين الْمَرْأَة وَالزَّوْج {صُلْحاً} مَعْلُوما ترْضى بِهِ الْمَرْأَة عَن الزَّوْج {وَالصُّلْح} على رضَا الْمَرْأَة {خَيْرٌ} من الْجور والميل {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفس الشُّح} جبلت الْأَنْفس على الشُّح وَالْبخل فتبخل بِنَصِيب زَوجهَا وَيُقَال طمعها يجرها إِلَى أَن ترْضى {وَإِن تُحْسِنُواْ} تسووا بَين الشَّابَّة والعجوز فِي الْقِسْمَة وَالنَّفقَة {وَتَتَّقُواْ} الْجور والميل {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الْجور والميل {خَبِيراً}(1/81)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
{وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء}(1/81)
فِي الْحبّ {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} جهدتم {فَلاَ تَمِيلُواْ} بِالْبدنِ {كُلَّ الْميل} إِلَى الشَّابَّة {فَتَذَرُوهَا} الْأُخْرَى يَعْنِي الْمَرْأَة الْعَجُوز {كالمعلقة} كالمسجونة لَا أيم وَلَا ذَات بعل {وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ} تسووا وتتقوا الْميل والجور {فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً} لمن تَابَ من الْميل والجور {رَّحِيماً} على من مَاتَ على التَّوْبَة(1/82)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
{وَإِن يَتَفَرَّقَا} يَعْنِي الْمَرْأَة وَالزَّوْج بِالطَّلَاق {يُغْنِ الله كُلاًّ} يَعْنِي الزَّوْج وَالْمَرْأَة {مِّن سَعَتِهِ} من رزقه الزَّوْج بِامْرَأَة أُخْرَى وَالْمَرْأَة بِزَوْج آخر {وَكَانَ الله وَاسِعاً} لَهما فِي النِّكَاح {حَكِيماً} فِيمَا حكم عَلَيْهِمَا من الْعدْل وَكَانَ لأسعد بن ربيع امْرَأَة أُخْرَى شَابة يمِيل إِلَيْهَا فَنَهَاهُ الله عَن ذَلِك وَأمره بالتسوية بَين الْعَجُوز والشابة(1/82)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات} من الخزائن {وَمَا فِي الأَرْض} من الخزائن وَغير ذَلِك {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذين أُوتُواْ الْكتاب} أعْطوا الْكتاب {مِن قَبْلِكُمْ} يَعْنِي أهل التَّوْرَاة فِي التَّوْرَاة وَأهل الْإِنْجِيل فِي الْإِنْجِيل وَأهل كل كتاب فِي كِتَابهمْ {وَإِيَّاكُمْ} يَا أمة مُحَمَّد فِي كتابكُمْ {أَنِ اتَّقوا الله} أطِيعُوا الله {وَإِن تَكْفُرُواْ} بِاللَّه {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات} من الْمَلَائِكَة جنود {وَمَا فِي الأَرْض} من الْجِنّ وَالْإِنْس وَغير ذَلِك جنود {وَكَانَ الله غَنِيّاً} عَن إيمَانكُمْ {حَمِيداً} لمن وحد وَيُقَال مَحْمُودًا فِي أَفعاله يشْكر الْيَسِير وَيجْزِي الجزيل(1/82)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
{وَللَّه مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض} من الْخلق {وَكفى بِاللَّه وَكِيلاً} رَبًّا(1/82)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} يهلككم {أَيُّهَا النَّاس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} يخلق خلقا خيرا مِنْكُم وأطوع لله {وَكَانَ الله على ذَلِك} على إهلاككم وتخليق غَيْركُمْ {قَدِيرًا}(1/82)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} مَنْفَعَة الدُّنْيَا بِعَمَلِهِ الَّذِي افترضه الله عَلَيْهِ {فَعِندَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا} فليعمل لله فَإِن ثَوَاب الدُّنْيَا {وَالْآخِرَة} بيد الله {وَكَانَ الله سَمِيعاً} لمقالكم {بَصيرًا} بأعمالكم(1/82)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
{يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لله} يَقُول كونُوا قَوْلَيْنِ بِالْعَدْلِ فِي الشَّهَادَة {وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدين والأقربين} فِي الرَّحِم {إِن يَكُنْ} الْوَالِدَان {غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَالله أولى بِهِمَا} أَحَق بحقيهما {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهوى أَن تَعْدِلُواْ} أَن لَا تعالو سوى الشَّهَادَة {وَإِن تَلْوُواْ} تلجلجوا {أَوْ تُعْرِضُواْ} لَا تُقِيمُوا الشَّهَادَة عِنْد الْحُكَّام {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من كتمان الشَّهَادَة وإقامتها {خَبِيرا} نزلت فِي مقيس ابْن حبابة كَانَت عِنْده شَهَادَة على أَبِيه(1/82)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
{يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ} يَوْم الْمِيثَاق وَكَفرُوا بعد ذَلِك {آمِنُواْ} الْيَوْم {بِاللَّه وَرَسُولِهِ} وَيُقَال سماهم بأسماء آبَائِهِم يَعْنِي يَا أَبنَاء الَّذين آمنُوا نزلت هَذِه الْآيَة فِي عبد الله بن سَلام وَأسد وَأسيد ابْني كَعْب وثعلبة بن قيس وَسَلام ابْن أُخْت عبد الله بن سَلام وَسَلَمَة ابْن أَخِيه ويامين ابْن يَامِين فَهَؤُلَاءِ مؤمنو أهل التَّوْرَاة نزل فيهم يأيها الَّذين آمَنُواْ بمُوسَى والتوراة آمَنُواْ بِاللَّه وَرَسُولِهِ مُحَمَّد {وَالْكتاب الَّذِي نَزَّلَ على رَسُولِهِ} مُحَمَّد يَعْنِي الْقُرْآن {وَالْكتاب الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ} من قبل مُحَمَّد وَالْقُرْآن على سَائِر الْأَنْبِيَاء {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّه وَمَلآئِكَتِهِ} أَو بملائكته {وَكُتُبِهِ} أَو بكتبه {وَرُسُلِهِ} أَو برسله {وَالْيَوْم الآخر} أَو بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} فَلَمَّا نزلت هَذِه الْآيَة دخلُوا فِي الْإِسْلَام(1/82)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
ثمَّ نزل فِي الَّذين لم يُؤمنُوا بِمُحَمد وَالْقُرْآن فَقَالَ(1/82)
{إِنَّ الَّذين آمَنُوا} بمُوسَى {ثُمَّ كَفَرُواْ} بعد مُوسَى {ثمَّ آمنُوا} بعزيز {ثمَّ كفرُوا} بعد عَزِيز بالمسيح {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} ثمَّ استقاموا على الْكفْر بِمُحَمد وَالْقُرْآن {لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُم} مَا اقاموا على ذَلِك {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} دينا وصواباً وَطَرِيق هدى(1/83)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
ثمَّ نزل فِي الْمُنَافِقين قَوْله {بَشِّرِ الْمُنَافِقين} عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه وَمن يكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة مِنْهُم {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وجيعاً يخلص وَجَعه إِلَى قُلُوبهم(1/83)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
ثمَّ بيَّن صفتهمْ فَقَالَ {الَّذين يَتَّخِذُونَ الْكَافرين} يَعْنِي الْيَهُود {أَوْلِيَآءَ} فِي العون والنصرة {مِن دُونِ الْمُؤمنِينَ} المخلصين {أَيَبْتَغُونَ} أيطلبون {عِندَهُمُ} عِنْد الْيَهُود {الْعِزَّة} الْقُدْرَة والمنعة {فَإِنَّ الْعِزَّة} المنعة وَالْقُدْرَة {لِلَّهِ جَمِيعاً}(1/83)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكتاب} أَمر لكم فِي الْقُرْآن إِذْ أَنْتُم بِمَكَّة {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله} ذكر مُحَمَّد وَالْقُرْآن {يُكَفَرُ بِهَا} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {فَلاَ تَقْعُدُواْ} فَلَا تجلسوا {مَعَهُمْ} فِي الْخَوْض {حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} حَتَّى يكون خوضهم وحديثهم فِي غير مُحَمَّد وَالْقُرْآن {إِنَّكُمْ إِذاً} إِذا جلستم مَعَهم بِغَيْر كره {مِّثْلُهُمْ} فِي الْخَوْض والاستهزاء {إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقين} مُنَافِق أهل الْمَدِينَة عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {والكافرين} كفار أهل مَكَّة أبي جهل وَأَصْحَابه وكفار أهل الْمَدِينَة كَعْب وَأَصْحَابه {فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا(1/83)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
! ثمَّ بيَّن من هم فَقَالَ {الَّذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} ينتظرون بكم يَعْنِي الدَّوَائِر والشدة {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ} نصْرَة وغنيمة {مِّنَ الله قَالُوا} يَعْنِي الْمُنَافِقين للمخلصين {أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ} على دينكُمْ أعطونا من الْغَنِيمَة {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ} للْيَهُود {نَصِيبٌ} دولة {قَالُوا} للْيَهُود {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم نفش سر مُحَمَّد إِلَيْكُم ونخبركم بِهِ {وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤمنِينَ} من قتال الْمُؤمنِينَ ونخبر عَنْكُم الْمُؤمنِينَ {فَالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يَا معشر الْمُنَافِقين وَالْيَهُود {يَوْمَ الْقِيَامَة وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ} للْيَهُود {عَلَى الْمُؤمنِينَ سَبِيلاً} دولة دَائِما(1/83)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
{إِنَّ الْمُنَافِقين} عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {يُخَادِعُونَ الله} يكذبُون الله فِي السِّرّ ويخالفونه يظنون أَنهم يخادعون الله {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} يَوْم الْقِيَامَة على الصِّرَاط حِين يَقُول الْمُؤْمِنُونَ فِي السّير ارْجعُوا وراءكم فالتمسوا نورا وَقد علمُوا أَنهم لَا يرجعُونَ {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة} أَتَوا إِلَى الصَّلَاة {قَامُواْ كسَالَى} أَتَوا متثاقلين {يراؤون النَّاس} إِذا رَأَوْا النَّاس أَتَوا وصلوا وَإِذا لم يرَوا لم يَأْتُوا وَلم يصلوا {وَلاَ يَذْكُرُونَ الله} لَا يصلونَ لله {إِلاَّ قَلِيلاً} رِيَاء وَسُمْعَة(1/83)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِك} مترددين بَين الْكفْر وَالْإِيمَان كفر السِّرّ وإيمان الْعَلَانِيَة {لاَ إِلَى هَؤُلَاءِ} لَيْسُوا مَعَ الْمُؤمنِينَ فِي السِّرّ فَيجب لَهُم مَا يجب للْمُؤْمِنين {وَلاَ إِلَى هَؤُلَاءِ} وَلَيْسوا مَعَ الْيَهُود فِي الْعَلَانِيَة فَيجب عَلَيْهِم مَا يجب على الْيَهُود {وَمَن يُضْلِلِ الله} عَن دينه وحجته فِي السِّرّ {فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} دينا وَلَا حجَّة فِي السِّرّ(1/83)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
{يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ} بالعلانية يَعْنِي عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافرين} يَعْنِي الْيَهُود {أَوْلِيَآءَ} فِي التعزز {مِن دُونِ الْمُؤمنِينَ} المخلصين {أَتُرِيدُونَ} يَا معشر الْمُنَافِقين {أَن تَجْعَلُواْ لِلَّهِ} لرَسُول الله {عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} حجَّة بَيِّنَة وعذراً بَينا بِالْقَتْلِ(1/83)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
{إِنَّ الْمُنَافِقين} عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {فِي الدَّرك الْأَسْفَل مِنَ النَّار}(1/83)
فِي النَّار لقبل شرورهم ومكرهم وخيانتهم مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} مَانِعا(1/84)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
{إِلاَّ الَّذين تَابُواْ} من النِّفَاق وَكفر السِّرّ {وَأَصْلَحُواْ} فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم من الْمَكْر والخيانة {واعتصموا بِاللَّه} تمسكوا بتوحيد الله فِي السِّرّ {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ} توحيدهم {لِلَّهِ فَأُولَئِك مَعَ الْمُؤمنِينَ} فِي السِّرّ وَيُقَال فِي الْوَعْد وَيُقَال مَعَ الْمُؤمنِينَ فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَيُقَال مَعَ الْمُؤمنِينَ فِي الْجنَّة {وَسَوْفَ يُؤْتِ الله} يُعْطي الله {الْمُؤمنِينَ} المخلصين {أَجْراً عَظِيماً} ثَوابًا وافراً فِي الْجنَّة(1/84)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
{مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ} مَا يصنع الله بعذابكم {إِن شَكَرْتُمْ} إِن وحدتم فِي السِّرّ {وَآمَنْتُمْ} صدقتكم بإيمانكم فِي السِّرّ {وَكَانَ الله شَاكِراً} يشْكر الْيَسِير وَيجْزِي الجزيل {عَلِيماً} لمن يشْكر وَلمن لَا يشْكر(1/84)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
{لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء} بالشتم {مِنَ القَوْل إِلاَّ مَن ظُلِمَ} فقد أذن لَهُ بِالدُّعَاءِ وَيُقَال وَلَا من ظلم {وَكَانَ الله سَمِيعاً} لدعاء الْمَظْلُوم {عَلِيماً} بعقوبة الظَّالِم نزلت فِي أبي بكر شَتمه رجل(1/84)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
{إِن تُبْدُواْ خَيْراً} إِن تردوا جَوَابا حسنا {أَوْ تُخْفُوهُ} وَلَا تحتقروا {أَوْ تَعْفُواْ} تتجاوزوا {عَن سوء} عَن مظْلمَة {فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً} متجاوزاً للمظلوم {قَدِيراً} بعقوبة الظَّالِم(1/84)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)
{إِنَّ الَّذين يَكْفُرُونَ بِاللَّه وَرُسُلِهِ} يَعْنِي كَعْبًا وَأَصْحَابه {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ} بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ} بِبَعْض الْكتب وَالرسل {وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} بِبَعْض الْكتب وَالرسل {وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِك} بَين الْكفْر وَالْإِيمَان {سَبِيلا} دينا(1/84)
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} الْبَتَّةَ {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} للْيَهُود وَغَيرهم {عَذَاباً مُّهِيناً} يهانون بِهِ وَيُقَال شَدِيدا(1/84)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
{وَالَّذين آمَنُواْ بِاللَّه وَرُسُلِهِ} وَهُوَ عبد الله ابْن سَلام وَأَصْحَابه {وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} بَين النبييين وَبَين الله بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ} نعطيهم {أُجُورَهُمْ} ثوابهم فِي الْآخِرَة {وَكَانَ الله غَفُوراً} لمن تَابَ مِنْهُم {رَّحِيماً} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/84)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكتاب} كَعْب وَأَصْحَابه {أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء} جملَة كالتوراة وَيُقَال أَن تنزل عَلَيْهِم كتابا فِيهِ خَيرهمْ وشرهم وثوابهم وعقابهم {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِك} مِمَّا سألوك {فَقَالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً} مُعَاينَة {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} فَأَحْرَقَتْهُمْ النَّار {بِظُلْمِهِمْ} بتكذيبهم مُوسَى وجراءتهم على الله {ثُمَّ اتَّخذُوا الْعجل} عبدُوا الْعجل {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَينَات} الْأَمر وَالنَّهْي {فَعَفَوْنَا عَن ذَلِك} تركناهم وَلم نَسْتَأْصِلهُمْ {وَآتَيْنَا} أعطينا {مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً} حجَّة بَيِّنَة الْيَد والعصا(1/84)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
{ورفعنا فَوْقهم} قلعنا ورفعنا وحبسنا فَوق رُءُوسهم {الطّور} الْجَبَل {بِمِيثَاقِهِمْ} بِأخذ ميثاقهم {وَقُلْنَا لَهُمُ ادخُلُوا الْبَاب} بَاب أرِيحَا {سُجَّداً} ركعا {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت} يَوْم السبت بِأخذ الْحيتَان(1/84)
{وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} وثيقاً فِي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/85)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ} فبنقضهم {مِّيثَاقَهُمْ} فعلنَا بهم مَا فعلنَا {وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله} وبكفرهم بِمُحَمد وَالْقُرْآن ضربت عَلَيْهِم الْجِزْيَة {وَقَتْلِهِمُ} وبقتلهم {الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ} بِغَيْر جرم أهلكناهم {وَقَوْلِهِمْ} وبقولهم {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أوعية لكل علم وَهِي لَا تعي كلامك وعلمك {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا} بل لَيْسَ كَمَا قَالُوا وَلَكِن ختم الله على قُلُوبهم {بِكُفْرِهِمْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {فَلاَ يُؤْمِنُونَ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {إِلاَّ قَلِيلاً} عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه(1/85)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
{وَبِكُفْرِهِمْ} بِعِيسَى وَالْإِنْجِيل {وَقَوْلِهِمْ} وبقولهم {على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيما} وَهِي الْقرْيَة جعلناهم خنازير(1/85)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
{وَقَوْلِهِمْ} وبقولهم {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَمَ رَسُولَ الله} أهلك الله صَاحبهمْ تطيانوس {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} ألقِي شبه عِيسَى على تطيانوس فَقَتَلُوهُ بدل عِيسَى {وَإِنَّ الَّذين اخْتلفُوا فِيهِ} فِي قَتله {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} من قَتله {مَا لَهُمْ بِهِ} بقتْله {مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاع الظَّن} وَلَا الظَّن {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أَي يَقِينا مَا قَتَلُوهُ(1/85)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
{بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} إِلَى السَّمَاء {وَكَانَ الله عَزِيزاً} بالنقمة من أعدائه {حَكِيماً} بالنصرة لأوليائه نجى نبيه وَأهْلك صَاحبهمْ(1/85)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
{وَإِن مِّنْ} وَمَا من {أَهْلِ الْكتاب} الْيَهُود وَالنَّصَارَى أحد {إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} بِعِيسَى أَنه لم يكن ساحراً وَلَا الله وَلَا ابْنه وَلَا شَرِيكه {قَبْلَ مَوْتِهِ} قبل خُرُوج نَفسه بعد نزُول عِيسَى ثمَّ يَمُوت بعد كل يَهُودِيّ يكون فِي زمنهم {وَيَوْمَ الْقِيَامَة يَكُونُ} عِيسَى {عَلَيْهِمْ شَهِيداً} بالبلاغ(1/85)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
{فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} يَقُول فبظلمهم {وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله} عَن ذكر دين الله {كَثِيراً}(1/85)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا} وباستحلال الرِّبَا {وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} فِي التَّوْرَاة {وَأَكْلِهِمْ} وبأكلهم {أَمْوَالَ النَّاس بِالْبَاطِلِ} بالظلم والرشوة حرمنا عَلَيْهِم طَيّبَات الثروب من الشحوم وَلحم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا أحلّت لَهُم كَانَت عَلَيْهِم حَلَالا {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ} من الْيَهُود {عَذَاباً أَلِيماً} وجيعاً يخلص وَجَعه إِلَى قُلُوبهم(1/85)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
{لَكِن الراسخون} البالغون {فِي الْعلم} فِي علم التَّوْرَاة {مِنْهُمْ} من أهل الْكتاب عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه يقرونَ بِالْقُرْآنِ وَسَائِر الْكتب وَإِن لم تقر بِهِ الْيَهُود {والمؤمنون} وَجُمْلَة الْمُؤمنِينَ {يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ} من الْقُرْآن {ومآ أنزل من قبلك} على سَائِر الْأَنْبِيَاء {والمقيمين الصَّلَاة} المتمين الصَّلَوَات الْخمس {والمؤتون الزَّكَاة} المؤدون زَكَاة أَمْوَالهم أَيْضا يقرونَ بِالْقُرْآنِ وَسَائِر الْكتب {والمؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت أَيْضا يقرونَ بِالْقُرْآنِ وَسَائِر الْكتب وكل هَؤُلَاءِ يقرونَ بِالْقُرْآنِ وَسَائِر الْكتب إِن لم يقربهَا الْيَهُود ثمَّ بيَّن ثوابهم فَقَالَ {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ} سنعطيهم {أَجْراً عَظِيماً} ثَوابًا وافراً فِي الْجنَّة(1/85)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
{إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} أرسلنَا إِلَيْك جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ} من بعد نوح {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} أرسلنَا جِبْرِيل أَيْضا إِلَى إِبْرَاهِيم {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} أَوْلَاد يَعْقُوب {وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسليمَان وآتينا}(1/85)
أعطينا {دَاوُد زبورا}(1/86)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} سميناهم لَك {مِن قَبْلُ} من قبل هَذِه السُّورَة {وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} لم نسمهم لَك {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تكليما}(1/86)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
{رسلًا} كلا هَؤُلَاءِ الرُّسُل أرسلناهم {مُّبَشِّرِينَ} بِالْجنَّةِ لمن آمن بِاللَّه {وَمُنذِرِينَ} من النَّار لمن لَا يُؤمن بِاللَّه {لِئَلاَّ} لكَي لَا {يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ} يَوْم الْقِيَامَة {بَعْدَ الرُّسُل} بعد إرْسَال الرُّسُل إِلَيْهِم لكَي لَا يَقُولُوا لم ترسل إِلَيْنَا الرُّسُل {وَكَانَ الله عَزِيزاً} بالنقمة لمن لَا يُجيب رسله {حَكِيماً} حكم عَلَيْهِم بإجابة الرُّسُل(1/86)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
ثمَّ نزل فِي أهل مَكَّة لقَولهم سَأَلنَا أهل الْكتاب عَنْك فَلم يشْهد أحد مِنْهُم أَنَّك نَبِي مُرْسل {لَكِن الله يَشْهَدُ} وَإِن لم يشْهد غَيره {بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ} يَعْنِي جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} بأَمْره {وَالْمَلَائِكَة يَشْهَدُونَ} على ذَلِك {وَكفى بِاللَّه شَهِيداً} وَإِن لم يشْهد غَيره(1/86)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
{إِنَّ الَّذين كَفَرُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَصَدُّواْ} النَّاس {عَن سَبِيلِ الله} عَن دين الله وطاعته {قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً} عَن الْهدى(1/86)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)
{إِنَّ الَّذين كَفَرُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَظَلَمُواْ} هم الَّذين أشركوا بِاللَّه {لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُم} ماقاموا على ذَلِك {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً} طَرِيق الْهدى(1/86)
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
{إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ} مقيمين فِي النَّار لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا {أَبَداً وَكَانَ ذَلِك} الخلود وَالْعَذَاب {عَلَى الله يَسِيراً} هينا(1/86)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
{يَا أَيُّهَا النَّاس} يَا أهل مَكَّة {قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُول} مُحَمَّد {بِالْحَقِّ} بِالتَّوْحِيدِ وَالْقُرْآن {مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {خَيْراً لَّكُمْ} مِمَّا أَنْتُم عَلَيْهِ {وَإِن تَكْفُرُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} كلهم عبيده وإماؤه {وَكَانَ الله عَلِيماً} بِمن يُؤمن وبمن لَا يُؤمن {حَكِيماً} حكم عَلَيْهِم أَن لَا يعبدوا غَيره(1/86)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
ثمَّ نزل فِي نَصَارَى أهل نَجْرَان النسطورية وهم الَّذين قَالُوا عِيسَى ابْن الله والمار يعقوبية وهم الَّذين قَالُوا عِيسَى هُوَ الله والمرقوسية وهم الَّذين قَالُوا ثَالِث ثَلَاثَة والملكانية وهم الَّذين قَالُوا عِيسَى والرب شريكان فَأنْزل الله فيهم {يَا أهل الْكتاب لاَ تَغْلُواْ} لَا تشددوا {فِي دِينِكُمْ} فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَق {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحق} الصدْق {إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} وَصَارَ بِكَلِمَة من الله مخلوقاً {وَرُوحٌ مِّنْهُ} وبأمر مِنْهُ صَار ولدا بِلَا أَب {فَآمِنُواْ بِاللَّه وَرُسُلِهِ} جملَة الرُّسُل عِيسَى وَغَيره {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ} ولد ووالد وَزَوْجَة {انْتَهوا} عَن مَقَالَتَكُمْ وتوبوا {خَيْراً لَّكُمْ} من مَقَالَتَكُمْ {إِنَّمَا الله إِلَه وَاحِدٌ} بِلَا ولد وَلَا شريك {سُبْحَانَهُ} نزه نَفسه {أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض} عبيدا {وَكفى بِاللَّه وَكِيلاً} رَبًّا لِلْخلقِ وشهيداً على مَا قَالَ من خبر عِيسَى(1/86)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيح} لن يأنف الْمَسِيح {أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ} أَن يقر بالعبودية لله نزلت هَذِه الْآيَة فِي قَوْلهم إِنَّه عَار على صاحبنا مَا تَقول يَا مُحَمَّد فَأنْزل الله إِنَّه لَيْسَ بِعَارٍ أَن يكون عِيسَى عبد الله {وَلاَ الْمَلَائِكَة المقربون} يَقُول وَلَا تأنف الْمَلَائِكَة المقربون حَملَة الْعَرْش أَن يقرُّوا بالعبودية لله {وَمَن يَسْتَنْكِفْ} يأنف {عَنْ عِبَادَتِهِ} عَن الْإِقْرَار بعبوديته {وَيَسْتَكْبِرْ} عَن الْإِيمَان بِاللَّه {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ}(1/86)
يَوْم الْقِيَامَة {جَمِيعاً} الْكَافِر وَالْمُؤمن(1/87)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
{فَأَمَّا الَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {فَيُوَفِّيهِمْ} فيوفرهم {أُجُورهم} ثوابهم فِي الْجنَّة {ويزيدهم من فَضله} كرامته {وَأَمَّا الَّذين استنكفوا} أنفوا {واستكبروا} عَن الْإِيمَان بِمُحَمد وَالْقُرْآن {فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وجيعاً {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله} من عَذَاب الله {وَلِيّاً} قَرِيبا يَنْفَعهُمْ {وَلاَ نَصِيراً} مَانِعا يمنعهُم من عَذَاب الله(1/87)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
{يَا أَيُّهَا النَّاس} يَا أهل مَكَّة {قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} رَسُول من ربكُم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وأنزلنا إِلَيْكُم} إِلَى نَبِيكُم {كتابا مُّبِيناً} الْحَلَال وَالْحرَام(1/87)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
{فَأَمَّا الَّذين آمَنُواْ بِاللَّه} وَبِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآن {واعتصموا بِهِ} تمسكوا بتوحيد الله {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ} فِي جنَّة {وَفَضْلٍ} كَرَامَة مِنْهُ مقدم ومؤخر {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} يثبتهم على طَرِيق مُسْتَقِيم فِي الدُّنْيَا مقدم ومؤخر يَقُول يثبتهم فِي الدِّينَا على الْإِيمَان ويدخلهم فِي الْآخِرَة الْجنَّة(1/87)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
{يَسْتَفْتُونَكَ} يَسْأَلُونَك يَا مُحَمَّد نزلت هَذِه الْآيَة فِي جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لي أُخْتا مَالِي مِنْهَا إِن مَاتَت فَقَالَ الله يَسْأَلُونَك يَا مُحَمَّد عَن مِيرَاث الْكَلَالَة {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ} يبين لكم {فِي الْكَلَالَة} فِي مِيرَاث الْكَلَالَة والكلالة مَا خلا الْوَالِد وَالْولد ثمَّ بَين فَقَالَ {إِن امْرُؤ هَلَكَ} مَاتَ (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) وَلَا وَالِد {وَلَهُ أُخْتٌ} من أَبِيه وَأمه أَو من أَبِيه {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} الْمَيِّت من المَال {وَهُوَ يَرِثُهَآ} إِن مَاتَت {إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ} ذكر أَو أُنْثَى {فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} أُخْتَيْنِ من أَب وَأم أَو أَب {فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} مَا ترك الْمَيِّت من المَال {وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً} ذكرا أَو أُنْثَى من أَب وَأم أَو من أَب {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ} نصيب {الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ} قسْمَة الْمَوَارِيث {أَن تَضِلُّواْ} لكَي لَا تخطئوا فِي قسْمَة الْمَوَارِيث {وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ} من قسْمَة الْمَوَارِيث وَغَيرهَا {عليم {
(وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا الْمَائِدَة وَهِي كلهَا مَدَنِيَّة)
tit/2 {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {/tit(1/87)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} أَتموا الْعُقُود الَّتِي بَيْنكُم وَبَين الله أَو بَين النَّاس وَيُقَال أَتموا الْفَرَائِض الَّتِي فرضت عَلَيْكُم مَعَ الْقبُول يَوْم الْمِيثَاق وَفِي هَذَا الْكتاب {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَام} رخصت عَلَيْكُم صيد الْبَريَّة مثل بقر الْوَحْش وحمر الْوَحْش والظباء {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} إِلَّا مَا حرم عَلَيْكُم فِي هَذِه السُّورَة {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْد} غير مستحلي الصَّيْد {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أَو فِي الْحرم {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} يَقُول يحل وَيحرم مَا يُرِيد فِي الْحل وَالْحرم(1/87)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
{يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} لَا تستحلوا ترك الْمَنَاسِك كلهَا {وَلاَ الشَّهْر الْحَرَام} يَقُول وَلَا الْغَارة فِي الشَّهْر الْحَرَام {وَلاَ الْهَدْي} يَقُول وَلَا أَخذ الْهَدْي الَّذِي يهدى إِلَى الْبَيْت {وَلاَ القلائد} يَقُول وَلَا أَخذ القلائد الَّتِي تقلد بمجيء الشَّهْر الْحَرَام {وَلَا آمِّينَ الْبَيْت الْحَرَام} يَقُول وَلَا الْغَارة على المتوجهين إِلَى بَيت الله الْحَرَام وهم حجاج الْيَمَامَة قوم بكر بن وَائِل الْمُشرك وتجار شُرَيْح بن ضبيعة الْمُشرك {يَبْتَغُونَ فَضْلاً} يطْلبُونَ رزقا {مِّن رَّبِّهِمْ} بِالتِّجَارَة {وَرِضْوَاناً} من رَبهم بِالْحَجِّ وَيُقَال يَبْتَغُونَ يطْلبُونَ فضلا رزقا بِالتِّجَارَة ورضواناً من رَبهم مقدم ومؤخر {وَإِذَا حَلَلْتُمْ} خَرجْتُمْ من الْحرم بعد أَيَّام التَّشْرِيق {فاصطادوا} صيد الْبَريَّة إِن شِئْتُم {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} وَلَا يحملنكم {شَنَآنُ قَوْمٍ} بغض أهل مَكَّة {أَن صَدُّوكُمْ} بِأَن صرفوكم {عَنِ الْمَسْجِد الْحَرَام} عَام الْحُدَيْبِيَة {أَن تَعْتَدُواْ} تظلموا على حجاج قوم بكر بن وَائِل {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبر} على الطَّاعَة {وَالتَّقوى} ترك الْمعاصِي {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْم} على الْمعْصِيَة {والعدوان} الاعتداء وَالظُّلم على حجاج بكر بن وَائِل {وَاتَّقوا الله} اخشوا الله فِيمَا أَمركُم ونهاكم {إِنَّ الله شَدِيدُ الْعقَاب} إِذا عاقب لمن ترك مَا أَمر بِهِ(1/88)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
ثمَّ بيَّن مَا حرم عَلَيْهِم فَقَالَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْميتَة} يَقُول حرمت عَلَيْكُم أكل الْميتَة الَّتِي أَمر بذبحها {وَالدَّم} الدَّم المسفوح {وَلَحْمُ الْخِنْزِير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} يَقُول وَمَا ذبح بِغَيْر اسْم الله مُتَعَمدا {والمنخنقة} وَهِي الَّتِي اختنقت بالحبل حَتَّى تَمُوت {والموقوذة} وَهِي الَّتِي تضرب بالخشب حَتَّى تَمُوت {والمتردية} وَهِي الَّتِي تتردى من جبل أَو من بِئْر فتموت {والنطيحة} وَهِي الَّتِي نطحت صاحبتها فتموت {وَمَآ أَكَلَ السَّبع} وَهِي فريسته {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} إِلَّا مَا أدركتم وَفِيه الرّوح فذبحتم {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} الصَّنَم {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} وَهِي القداح الَّتِي كَانُوا يقتسمون بهَا السِّهَام النَّاقِصَة وَيُقَال حرم عَلَيْكُم الِاشْتِغَال بالأزلام وَهِي القداح الَّتِي كَانَت مَكْتُوبَة على جَانب أَمرنِي رَبِّي وعَلى جَانب آخر نهاني رَبِّي يعْملُونَ بهَا فِي أُمُورهم فنهاهم الله عَن ذَلِك {ذَلِكُم} الَّذِي ذكرت لكم من الْمعاصِي وَالْحرَام {فِسْقٌ} اسْتِعْمَاله فسق واستحلاله كفر {الْيَوْم} يَوْم الْحَج الْأَكْبَر حجَّة الْوَدَاع {يَئِسَ الَّذين كَفَرُواْ} كفار مَكَّة {مِن دِينِكُمْ} من رُجُوع دينكُمْ إِلَى دينهم بعد مَا تركْتُم دينهم وَشَرَائِع دينهم {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} فِي اتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومخالفتهم {واخشون} فِي ترك اتِّبَاع مُحَمَّد وَدينه وموافقتهم {الْيَوْم} يَوْم الْحَج {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بيّنت لكم شرائع دينكُمْ من الْحَلَال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} منتي أَن لَا يجْتَمع مَعكُمْ بعد هَذَا الْيَوْم مُشْرك بِعَرَفَات وَمنى وَالطّواف وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة {وَرَضِيتُ لَكُمُ} اخْتَرْت لكم {الْإِسْلَام دِيناً فَمَنِ اضْطر} أجهد إِلَى أكل الْميتَة عِنْد الضَّرُورَة {فِي مَخْمَصَةٍ} فِي مجاعَة {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} غير متعمد للمعصية وَيُقَال غير متعمد للْأَكْل بِغَيْر ضَرُورَة {فَإِنَّ الله غَفُورٌ} إِن أكل شبعاً {رَّحِيمٌ} حِين رخص عَلَيْهِ أكل الْميتَة من الضَّرُورَة قوتاً وَيكرهُ شبعاً(1/88)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
{يَسْأَلُونَكَ} يَا مُحَمَّد يَعْنِي بذلك زيد بن مهلهل الطَّائِي وعدي بن حَاتِم وَكَانَا صيادين {مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} من الصَّيْد {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَات} المذبوحات من الْحَلَال {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِح} من الكواسب {مُكَلِّبِينَ} معلمين وَإِن قَرَأت بخفض اللَّام فهم أَصْحَاب الْكلاب {تُعَلِّمُونَهُنَّ} تؤدبونهن إِذا أكلن الصَّيْد حَتَّى لَا يأكلن {مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} كَمَا أدبكم الله {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} لكم الْكلاب المعلمة {واذْكُرُوا اسْم الله عَلَيْهِ} على ذبح الصَّيْد وَيُقَال على إرْسَال الْكَلْب عَلَيْهِ {وَاتَّقوا الله} اخشوا الله فِي أكل الْميتَة {إِنَّ الله سَرِيعُ الْحساب}(1/88)
الْحساب شَدِيد الْعقَاب وَيُقَال إِذا حاسب فحسابه سريع(1/89)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
{الْيَوْم} يَوْم الْحَج {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَات} المذبوحات من الْحَلَال {وَطَعَامُ الَّذين} ذَبَائِح الَّذين {أُوتُواْ الْكتاب} أعْطوا الْكتاب {حِلٌّ لَّكُمْ} مَا كَانَ حَلَال لكم حَلَالا لَهُم {وَطَعَامُكُمْ} ذبائحكم {حِلٌّ لَّهُمْ} حَلَال لَهُم تَأْكُل الْيَهُود وتأكل النَّصَارَى ذَبِيحَة الْمُسلمين {وَالْمُحصنَات} تَزْوِيج الْحَرَائِر العفائف {مِنَ الْمُؤْمِنَات} حل لكم حَلَال لكم {وَالْمُحصنَات مِنَ الَّذين أُوتُواْ الْكتاب مِن قَبْلِكُمْ} يَقُول تَزْوِيج الْحَرَائِر العفائف من أهل الْكتاب حَلَال لكم {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} بينتم لَهُنَّ {أُجُورَهُنَّ} مهورهن فَوق مهر بغي {مُحْصِنِينَ} كونُوا مَعَهُنَّ متزوجين {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} غير معلنين بِالزِّنَا {وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ} يَقُول وَلَا يكون لَهَا خَلِيل يَزْنِي بهَا فِي السِّرّ ثمَّ نزلت فِي نسَاء أهل مَكَّة افتخرن على نسَاء الْمُؤمنِينَ فَقَالَ {وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَان} بِالتَّوْحِيدِ {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} فِي الدُّنْيَا {وَهُوَ فِي الْآخِرَة مِنَ الخاسرين} من المغبونين بذهاب الْجنَّة وَدخُول النَّار(1/89)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
{يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاة} وَأَنْتُم على غير وضوء فعلمكم كَيفَ تَصْنَعُونَ فَقَالَ {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمرَافِق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} كَيفَ شِئْتُم {وَأَرْجُلَكُمْ} فَوق الْخُفَّيْنِ {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وَإِن قَرَأت بِنصب اللَّام يرجع إِلَى الْغسْل {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} بِالْمَاءِ أَي فَاغْسِلُوا بِالْمَاءِ {وَإِن كُنتُم مرضى} من الجدري أَو الْجراحَة نزلت فِي عبد الرَّحْمَن بن عَوْف {أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِط} أَو تغوطتم أَو بلتم {أَوْ لاَمَسْتُمُ} جامعتم {النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً} فَلم تقدروا على المَاء {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} فتعمدوا إِلَى تُرَاب نظيف {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ} بالضربة الأولى {وَأَيْدِيكُمْ} بالضربة الثَّانِيَة {مِّنْهُ} من التُّرَاب {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} من ضيق {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} بِالتَّيَمُّمِ من الْأَحْدَاث والجنابة {وَلِيُتِمَّ} ولكي يتم {نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} بِالتَّيَمُّمِ والرخصة {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكَي تشكروا نعْمَته ورخصته(1/89)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
{واذْكُرُوا نِعْمَةَ الله} احْفَظُوا منَّة الله {عَلَيْكُمْ} بِالْإِيمَان {وَمِيثَاقَهُ} عَهده {الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ} أَمركُم بِهِ يَوْم الْمِيثَاق {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا} قَوْلك يَا رَبنَا {وَأَطَعْنَا} أَمرك {وَاتَّقوا الله} اخشوا الله فِيمَا أَمركُم ونهاكم {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} بِمَا فِي الْقُلُوب من الْوَفَاء والنقض(1/89)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
{يَا أَيُّهَآ الَّذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ} قوالين {لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ} بِالْعَدْلِ {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} لَا يحملنكم {شَنَآنُ قَوْمٍ} بعض شُرَيْح بن شُرَحْبِيل {على أَلاَّ تَعْدِلُواْ} بَين حجاج قوم بكر بن وَائِل {اعدلوا} بَينهم {هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} الْعدْل أقرب لِلْمُتقين إِلَى التَّقْوَى {وَاتَّقوا الله} اخشوا الله فِي الْعدْل والجور {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الْعدْل والجور(1/89)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
{وَعَدَ الله الَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم فِي الدُّنْيَا {وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} يَعْنِي ثَوَاب وافر فِي الْجنَّة(1/89)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
{وَالَّذين كَفَرُواْ} بِاللَّه {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيم} أهل النَّار(1/89)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
{يَا أَيُّهَآ الَّذين آمَنُواْ} يَعْنِي مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه {اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُمْ} احْفَظُوا منّة الله عَلَيْكُم بِدفع بَأْس الْعَدو عَنْكُم(1/89)
{إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} أَرَادَ قوم يَعْنِي بني قُرَيْظَة {أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بِالْقَتْلِ {فَكَفَّ} فَمنع {أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} بِالْقَتْلِ {وَاتَّقوا الله} اخشوا الله فِيمَا أَمركُم {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} على الْمُؤمنِينَ أَن يتوكلوا على الله(1/90)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
{وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ} قَرَار بني إِسْرَائِيل فِي التَّوْرَاة فِي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا يعبدوا إِلَّا الله وَلَا يشركوا بِهِ شَيْئا {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَي عَشَرَ نَقِيباً} رَسُولا وَيُقَال ملكا لكل سبط ملك {وَقَالَ الله} لهَؤُلَاء الْمُلُوك {إِنِّي مَعَكُمْ} معينكم {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاة} أتممتم الصَّلَاة الَّتِي فرضت عَلَيْكُم {وَآتَيْتُمُ الزَّكَاة} أعطيتم زَكَاة أَمْوَالكُم {وَآمَنتُمْ} أقررتم وصدقتم {بِرُسُلِي} الَّذين يجيئون إِلَيْكُم {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أعنتموهم ونصرتموهم بِالسَّيْفِ على الْأَعْدَاء {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} صَادِقا من قُلُوبكُمْ {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} لأمحصن عَلَيْكُم ذنوبكم دون الْكَبَائِر {وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ} بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} تطرد من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار المَاء وَاللَّبن وَالْخمر وَالْعَسَل {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِك} بعد أَخذ الْمِيثَاق وَالْإِقْرَار بِهِ {مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيل} فقد ترك قصد طَرِيق الْهدى(1/90)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
وَكَفرُوا إِلَّا خَمْسَة مِنْهُم فَبين عُقُوبَة الَّذين كفرُوا فَقَالَ {فَبِمَا نَقْضِهِم} يَقُول بنقضهم يَعْنِي الْمُلُوك {مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} عذبناهم بالجزية {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} يابسة بِلَا نور {يُحَرِّفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه} يغيرون صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته وَبَيَان الرَّجْم بعد بَيَانه فِي التَّوْرَاة {وَنَسُواْ حَظَّا} تركُوا بَعْضًا {مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} أمروا بِهِ فِي التَّوْرَاة من اتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِظْهَار صفته ونعته ثمَّ ذكر خيانتهم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ {وَلاَ تَزَالُ} يَا مُحَمَّد {تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ} تعلم خَائِنَة ومعصية {مِّنْهُمْ} يَعْنِي من بني قُرَيْظَة {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} عبد الله ابْن سَلام وَأَصْحَابه {فَاعْفُ عَنْهُمْ} وَلَا تعاقبهم {وَاصْفَحْ} اترك {إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} إِلَى النَّاس(1/90)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
{وَمِنَ الَّذين قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى} يَعْنِي نَصَارَى نَجْرَان {أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} فِي الْإِنْجِيل بِاتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَيَان صفته وَأَن لَا يعبدوا إِلَّا الله وَلَا يشركوا بِهِ شَيْئا {فَنَسُواْ حَظّاً} فتركوا بَعْضًا {مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} أمروا بِهِ {فَأَغْرَيْنَا} ألقينا {بَيْنَهُمُ} بَين الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَيُقَال بَين نَصَارَى أهل نَجْرَان النسطورية والمار يعقوبية والمرقوسية والملكانية {الْعَدَاوَة} بِالْقَتْلِ والهلاك {والبغضآء} فِي الْقلب {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله} يُخْبِرهُمْ الله {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} من الْمُخَالفَة والخيانة والكتمان والعداوة والبغضاء(1/90)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
{يَا أَهْلَ الْكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكتاب} من صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته وَالرَّجم وَغير ذَلِك {وَيَعْفُو عَن كثير} بترك كثيرا فَلَا يبين لكم {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ} رَسُول يَعْنِي مُحَمَّدًا {وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} بالحلال وَالْحرَام(1/90)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
{يَهْدِي بِهِ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} توحيده {سُبُلَ السَّلَام} دين الْإِسْلَام وَالسَّلَام هُوَ الله {وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَات إِلَى النُّور} من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان {بِإِذْنِهِ} بأَمْره وَيُقَال بتوفيقه وكرامته {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(1/90)
يثبتهم على ذَلِك الدّين بعد الْإِجَابَة(1/91)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
{لَّقَدْ كفر الَّذين قآلوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَم} وَهِي مقَالَة الْمَار يعقوبية {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد لِلنَّصَارَى {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله} يقدر أَن يمْنَع من عَذَاب الله {شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ} أَن يعذب {الْمَسِيح ابْن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْض جَمِيعاً} جَمِيع من عَبدهَا {وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض {وَمَا بَيْنَهُمَا} من الْخلق والعجائب {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} كَمَا يَشَاء بأب أَو بِغَيْر أَب {وَالله على كُلِّ شَيْءٍ} من خلق الْخلق وَالثَّوَاب لأوليائه وَالْعِقَاب لأعدائه {قَدِيرٌ}(1/91)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
{وَقَالَتِ الْيَهُود} يَعْنِي يهود أهل الْمَدِينَة {وَالنَّصَارَى} نَصَارَى أهل نَجْرَان {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله} أَبنَاء أَنْبيَاء الله {وَأَحِبَّاؤُهُ} على دينه وَيُقَال نَحن على دين الله كأبنائه وأحبائه وَيُقَال قَالُوا نَحن على الله كأبنائه وَنحن على دينه {قُلْ} يَا مُحَمَّد للْيَهُود {فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} بعبادتكم الْعجل أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِن كُنْتُم عَلَيْهِ كأبنائه هَل رَأَيْتُمْ أَبَا يعذب ابْنه بالنَّار {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ} خلق عبيد {مِمَّنْ} كمن {خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} لمن تَابَ من الْيَهُودِيَّة والنصرانية {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} من مَاتَ على الْيَهُودِيَّة والنصرانية {وَلِلَّهِ مُلْكُ} خَزَائِن {السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا بَيْنَهُمَا} من الْخلق والعجائب {وَإِلَيْهِ الْمصير} الْمرجع مصير من آمن وَمن لم يُؤمن(1/91)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
{يَا أَهْلَ الْكتاب} يَا أهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل {قد جَاءَكُم رَسُولنَا} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {يُبَيِّنُ لَكُمْ} مَا أمرْتُم بِهِ وَمَا نهيتم عَنهُ {على فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُل} على انْقِطَاع من الرُّسُل {أَن تَقُولُواْ} لكَي لَا تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة {مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ} بِالْجنَّةِ {وَلاَ نَذِيرٍ} من النَّار {فَقَدْ جَاءَكُمْ} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {بَشِيرٌ} بِالْجنَّةِ {وَنَذِيرٌ} من النَّار {وَالله على كُلِّ شَيْءٍ} من إرْسَال الرُّسُل وَالثَّوَاب لمن أجَاب الرُّسُل وَالْعِقَاب لمن لم يجب الرُّسُل {قدير}(1/91)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
{وَإِذ قَالَ} وَقد قَالَ {مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم اذْكروا نِعْمَةَ الله} منَّة الله {عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ} مِنْكُم {أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} بعد ماكنتم مماليك يرعون {وَآتَاكُمْ} أَعْطَاكُم {مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالمين} عالمي زمانكم فِي التيه من الْمَنّ والسلوى(1/91)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
{يَا قوم ادخُلُوا الأَرْض المقدسة} وَهِي دمشق وفلسطين وَبَعض الْأُرْدُن المطهرة {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} وهب الله لكم وَجعلهَا مِيرَاثا لأبيكم إِبْرَاهِيم {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ} لَا ترجعوا إِلَى خلفكم {فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} فترجعوا مغبونين بالعقوبة بِأخذ الله الْمَنّ والسلوى مِنْكُم(1/91)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} قتالين {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا} أَرض الجبارين {حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} فِيهَا(1/91)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
{قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذين يَخَافُونَ} اثْنَي عشر رجلا خَافُوا من الجبارين {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} بِيَقِين الخطوات وهما يُوشَع بن نون وكالب بن يوحنا {ادخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَاب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} عَلَيْهِم {وَعَلَى الله فتوكلوا}(1/91)
بالنصرة {إِن كُنتُم} إِذْ كُنْتُم {مُّؤْمِنِينَ} وَيُقَال وَقَالَ رجلَانِ من الَّذين يخَافُونَ مُوسَى خَافُوا من مُوسَى وهما من الجبارين أنعم الله عَلَيْهِمَا بِالتَّوْحِيدِ الْآيَة(1/92)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ} أَرض الجبارين {أَبَداً مَّا داموا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْت وَرَبك} سيدك هرون {فَقَاتلا} فَإِن رَبكُمَا يعينكما كَمَا أعانكما على فِرْعَوْن وَقَومه {إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} منتظرون(1/92)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
{قَالَ رَبِّ} قَالَ مُوسَى يَا رب {إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} يَقُول لَا أقدر إِلَّا على نَفسِي وَأخي هَارُون {فافرق بَيْنَنَا} فَاقْض بَيْننَا {وَبَيْنَ الْقَوْم الْفَاسِقين} العاصين(1/92)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
{قَالَ} الله يَا مُوسَى {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} الدُّخُول فِيهَا بعد مَا سميتهم فاسقين {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْض} يتحيرون فِي أَرض التيه وَهِي سبع فراسخ لَا يقدرُونَ أَن يخرجُوا وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلا {فَلاَ تَأْسَ} فَلَا تحزن {عَلَى الْقَوْم الْفَاسِقين}(1/92)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
{واتل عَلَيْهِمْ} اقْرَأ عَلَيْهِم يَا مُحَمَّد {نَبَأَ} خبر {ابْني آدَمَ بِالْحَقِّ} بِالْقُرْآنِ {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا} من هابيل {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} من قابيل {قَالَ} قابيل لهابيل {لأَقْتُلَنَّكَ} يَا هابيل {قَالَ} لم قَالَ لِأَن الله تقبل قربانك وَلم يتَقَبَّل قرباني قَالَ هابيل {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ} من الصَّادِقين بالْقَوْل وَالْفِعْل الزاكية الْقُلُوب وَلم تكن زاكي الْقلب(1/92)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
{لَئِن بَسَطتَ} مددت {إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} ظلما {مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ} بماد {يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} ظلما {إِنِّي أَخَافُ الله رَبَّ الْعَالمين} بقتلك ظلما(1/92)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
{إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي} أَن تُؤْخَذ بذنبي {وَإِثْمِكَ} ذَنْبك الَّذِي لقبل دمي {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار} فَتَصِير من أهل النَّار {وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمين} النَّار جَزَاء الْمُعْتَدِينَ بالظلم(1/92)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} فتابعت لَهُ نَفسه {قَتْلَ أَخِيهِ} على قتل أَخِيه {فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} فَصَارَ من المغبونين بالعقوبة(1/92)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
{فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْض} يثير التُّرَاب من الأَرْض ليواري غراباً مَيتا {لِيُرِيَهُ} ليرى قابيل {كَيفَ يواري} يُغطي {سوأة أَخِيه} عَورَة أَخِيه فِي التُّرَاب {قَالَ يَا ويلتى أَعَجَزْتُ} أضعفت عَن الْحِيلَة {أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَاب} فِي الْحِيلَة {فأواري} فأغطى {سوأة أَخِي} عَورَة أخي بِالتُّرَابِ {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} فَصَارَ نَادِما على مَا لم يوار عَورَة أَخِيه وَلم يكن نَادِما على قَتله(1/92)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
{مِنْ أَجْلِ ذَلِك} من أجل قتل قابيل هابيل ظلما {كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ} أَوجَبْنَا على بني إِسْرَائِيل فِي التَّوْرَاة {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} قتل نفسا مُتَعَمدا {أَوْ فَسَادٍ} شرك {فِي الأَرْض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاس جَمِيعاً} يَقُول وَجَبت عَلَيْهِ النَّار بقتل نفس وَاحِدَة ظلما كَمَا لَو قتل النَّاس جَمِيعًا {وَمَنْ أَحْيَاهَا} كف عَن قَتلهَا {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} يَقُول وَجَبت لَهُ الْجنَّة بِعَفْو نفس وَاحِدَة كَمَا لَو عَفا النَّاس جَمِيعًا {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ} يَعْنِي إِلَى بني إِسْرَائِيل {رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والعلامات {ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ} من بني إِسْرَائِيل {بَعْدَ ذَلِك} بعد الرُّسُل(1/92)
{فِي الأَرْض لَمُسْرِفُونَ} لمشركون(1/93)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
ثمَّ نزلت فِي قوم هِلَال ابْن عُوَيْمِر لأَنهم قتلوا قوما من بني كنَانَة أَرَادوا الْهِجْرَة إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليسلموا فَقَتَلُوهُمْ وَأخذُوا مَا كَانَ مَعَهم من السَّلب فبيَّن الله عقوبتهم يَعْنِي قوم هِلَال وَكَانُوا مُشْرِكين فَقَالَ {إِنَّمَا جَزَآءُ} مُكَافَأَة {الَّذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} يكفرون بِاللَّه وَرَسُوله {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْض فَسَاداً} يعْملُونَ فِي الأَرْض بِالْمَعَاصِي وهوالقتل وَأخذ المَال ظلما {أَن يقتلُوا} يَقُول جَزَاء من قتل وَلم يَأْخُذ المَال الْقَتْل {أَوْ يصلبوا} يَقُول جَزَاء من قتل وَأخذ المَال ظلما الصلب {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ} الْيَد الْيُمْنَى وَالرجل الْيُسْرَى يَقُول جَزَاء من أَخذ المَال وَلم يقتل قطع الْيَد وَالرجل {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْض} أَو يحبسوا فِي السجْن حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهمْ وَتظهر تَوْبَتهمْ يَقُول جَزَاء من يخوف النَّاس على الطَّرِيق وَلم يَأْخُذ المَال وَلم يقتل السجْن {ذَلِك} الَّذِي ذكرت {لَهُمْ خِزْيٌ} عَذَاب {فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَة عَذَابٌ عَظِيمٌ} شَدِيد أَشد مِمَّا يكون فِي الدُّنْيَا لمن لم يتب(1/93)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
ثمَّ بَين عَفوه لمن تَابَ فَقَالَ {إِلاَّ الَّذين تَابُواْ} من الْكفْر والشرك {مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} بِالْأَخْذِ {فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} لمن تَابَ(1/93)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
{يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {اتَّقوا الله} فِيمَا أَمركُم {وابتغوا إِلَيهِ الْوَسِيلَة} الدرجَة الرفيعة وَيُقَال اطْلُبُوا إِلَيْهِ الْقرب فِي الدَّرَجَات بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة {وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ} فِي طَاعَته {لَعَلَّكُمْ تفلحون} لكَي تنجوا من السخطة وَالْعَذَاب وتأمنوا(1/93)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
{إِنَّ الَّذين كَفَرُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْض} من الْأَمْوَال {جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ} ضعفه مَعَه {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} ليفادوا بِهِ أنفسهم {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} الْفِدَاء {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع(1/93)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
{يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّار} بتحويل حَال إِلَى حَال {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} من النَّار {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دَائِم لَا يَنْقَطِع(1/93)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
{وَالسَّارِق} من الرِّجَال يَعْنِي طعمة {والسارقة} من النِّسَاء {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أيمانهما {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا} عُقُوبَة بِمَا سرقا {نَكَالاً مِّنَ الله} شَيْئا من الله لَهُم {وَالله عَزِيزٌ} بالنقمة من السَّارِق {حَكِيمٌ} حكم عَلَيْهِم بِالْقطعِ(1/93)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
{فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} سَرقته وقطعه {وَأَصْلَحَ} فِيمَا بَينه وَبَين ربه بِالتَّوْبَةِ {فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ} يتَجَاوَز عَنهُ {إِنَّ الله غَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} لمن تَابَ(1/93)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
{أَلَمْ تَعْلَمْ} ألم تخبر يَا مُحَمَّد فِي الْقُرْآن {أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ} خَزَائِن {السَّمَاوَات وَالْأَرْض يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} من كَانَ أَهلا لذَلِك {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} من كَانَ أَهلا لذَلِك {وَالله على كُلِّ شَيْءٍ} من الغفران وَغَيره {قدير}(1/93)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
{يَا أَيهَا الرَّسُول} يَا مُحَمَّد {لاَ يَحْزُنكَ الَّذين يُسَارِعُونَ} يبادرون {فِي الْكفْر} فِي الْولَايَة مَعَ الْكفَّار فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة {مِنَ الَّذين قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} بألسنتهم قَالُوا صدقنا {وَلَمْ تُؤْمِن} لم تصدق {قُلُوبُهُمْ} قُلُوب الْمُنَافِقين يَعْنِي عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {وَمِنَ الَّذين هِادُواْ} يهود بني قُرَيْظَة كَعْب وَأَصْحَابه {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ}(1/93)
قَول الزُّور {لِقَوْمٍ آخَرِينَ} لأهل خَيْبَر {لَمْ يَأْتُوكَ} يَعْنِي أهل خَيْبَر فِيمَا حدث فيهم وَلَكِن سَأَلَ عَنْهُم بَنو قُرَيْظَة {يُحَرِّفُونَ الْكَلم} يغيرون صفة مُحَمَّد ونعته وَالرَّجم على الْمُحصن والمحصنة إِذا زَنَيَا {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} من بعد بَيَانه فِي التَّوْرَاة {يَقُولُونَ} يَعْنِي الرؤساء للسفلة وَيُقَال المُنَافِقُونَ عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} إِن أَمركُم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْجلدِ {فَخُذُوهُ} فاقبلوا مِنْهُ وَاعْمَلُوا بِهِ {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} إِن لم يَأْمُركُمْ بِالْجلدِ مُحَمَّد وأمركم بِالرَّجمِ {فاحذروا} يَعْنِي إِن لم يكن يوافقكم على مَا تطلبون ويأمركم بِغَيْرِهِ فاحذروا وَلَا تقبلُوا مِنْهُ قَالَ الله عز وَجل {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} يَعْنِي كفره وشركه وَيُقَال فضيحته وَيُقَال اختباره {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ من الله} من عَذَاب الله {شَيْئا أُولَئِكَ} يَعْنِي الْيَهُود وَالْمُنَافِقِينَ {الَّذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} من الْمَكْر والخيانة والإصرار على الْكفْر {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} عَذَاب بِالْقَتْلِ والإجلاء {وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب عَظِيم} أعظم مِمَّا يكون لَهُم فِي الدُّنْيَا(1/94)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
{سَمَّاعُونَ} قوالون {لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} للرشوة وَالْحرَام بتغيير حكم الله {فَإِن جاؤوك} يَا مُحَمَّد يَعْنِي بني قُرَيْظَة والنظير وَيُقَال أهل خَيْبَر {فاحكم بَيْنَهُمْ} بَين بني قُرَيْظَة وَالنضير بِالرَّجمِ وَيُقَال بَين أهل خَيْبَر {أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} أَنْت بِالْخِيَارِ {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ} وَلَا تحكم بَينهم {فَلَن يَضُرُّوكَ} لن ينقصوك {شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ} بَين بني قُرَيْظَة وَالنضير وَيُقَال بَيت أهل خَيْبَر {بِالْقِسْطِ} بِالرَّجمِ {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} العادلين بِكِتَاب الله العاملين بالزجم(1/94)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} على وَجه التَّعَجُّب فِي الرَّجْم {وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاة فِيهَا} فِي التَّوْرَاة {حُكْمُ الله} يَعْنِي الرَّجْم {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِك} من بعد الْبَيَان فِي التَّوْرَاة وَالْقُرْآن {وَمَآ أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} بِالتَّوْرَاةِ(1/94)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
{إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاة} على مُوسَى {فِيهَا} فِي التَّوْرَاة {هُدًى} من الضَّلَالَة {وَنُورٌ} بَيَان الرَّجْم {يَحْكُمُ بِهَا} بِالتَّوْرَاةِ {النَّبِيُّونَ الَّذين أَسْلَمُواْ} الَّذين كَانُوا مُسلمين من لدن مُوسَى إِلَى عِيسَى وَبَينهمَا ألف نَبِي بَين الَّذين أَسْلمُوا {لِلَّذِينَ هَادُواْ} الْآبَاء الَّذين هادوا {والربانيون} يَقُول وَكَانَ يحكم بهَا الربانيون وَالْعُلَمَاء وَأَصْحَاب الصوامع دون الْأَنْبِيَاء {والأحبار} سَائِر الْعلمَاء {بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله} بِمَا عمِلُوا ودعوا من كتاب الله {وَكَانُواْ عَلَيْهِ} على الرَّجْم شُهَدَآءَ {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاس} فِي إِظْهَار صفة مُحَمَّد ونعته وَالرَّجم {واخشون} فِي كتمانها {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي} بكتمان صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته وَآيَة الرَّجْم {ثَمَناً قَلِيلاً} عرضا يَسِيرا من المأكلة {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله} يَقُول وَمن لم يبين مَا بيَّن الله فِي التَّوْرَاة من صفة مُحَمَّد ونعته وَآيَة الرَّجْم {فَأُولَئِك هُمُ الْكَافِرُونَ} بِاللَّه وَالرَّسُول وَالْكتاب(1/94)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} فَرضنَا على بني إِسْرَائِيل {فِيهَآ} فِي التَّوْرَاة {أَنَّ النَّفس بِالنَّفسِ} عمدا وَفَاء {وَالْعين بِالْعينِ} عمدا وَفَاء {وَالْأنف بالأنف} عمدا وَفَاء {وَالْأُذن بالأذن} عمدا وَفَاء {وَالسّن بِالسِّنِّ} عمدا وَفَاء {والجروح قِصَاصٌ} حُكُومَة عدل {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} بالجراحة على الْجَارِح {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} للجريح وَيُقَال للجارح {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بمآ أنزل الله} يَقُول وَمن لم يبين مَا بيَّن الله فِي الْقُرْآن وَلم يعْمل {فَأُولَئِك هُمُ الظَّالِمُونَ} الضارون لأَنْفُسِهِمْ فِي الْعقُوبَة(1/94)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
{وَقَفَّيْنَا} أتبعنا وأردفنا {على آثَارِهِم بِعَيسَى ابْن مَرْيَمَ مُصَدِّقاً} مُوَافقا {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاة} بِالتَّوْحِيدِ وَبَعض الشَّرَائِع {وَآتَيْنَاهُ} أعطيناه {الْإِنْجِيل فِيهِ} فِي الْإِنْجِيل {هُدًى} من الضَّلَالَة {وَنُورٌ} بَيَان الرَّجْم {وَمُصَدِّقاً} مُوَافقا {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاة} بِالتَّوْحِيدِ وَالرَّجم {وَهُدًى} من الضَّلَالَة {وَمَوْعِظَةً} نهيا {لِّلْمُتَّقِينَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش(1/95)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيل} ولكي يبين أهل الْإِنْجِيل {بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ} بِمَا بيَّن الله فِي الْإِنْجِيل من صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته وَالرَّجم {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله} يَقُول وَمن لم يبين مَا بيَّن الله فِي الْإِنْجِيل {فَأُولَئِك هُمُ الْفَاسِقُونَ} هم العاصون الْكَافِرُونَ(1/95)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
{وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكتاب} جِبْرِيل بِالْكتاب يَعْنِي الْقُرْآن {بِالْحَقِّ} لبَيَان الْحق وَالْبَاطِل {مُصَدِّقاً} مُوَافقا بِالتَّوْحِيدِ وَبَعض الشَّرَائِع {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} لما قبله {مِنَ الْكتاب} يَعْنِي الْكتب {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} شَهِيدا على الْكتب كلهَا وَيُقَال على الرَّجْم وَيُقَال أَمينا على الْكتب {فاحكم بَيْنَهُم} بَين بني قُرَيْظَة وَالنضير وَأهل خَيْبَر {بِمَآ أَنزَلَ الله} بِمَا بيَّن الله لَك فِي الْقُرْآن {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} فِي الْجلد وَترك الرَّجْم {عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحق} بعد مَا جَاءَك من الْبَيَان {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً} لكل نَبِي مِنْكُم بيَّنا لَهُ شرعة {وَمِنْهَاجاً} فَرَائض وسنناً {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} لجمعكم على شَرِيعَة وَاحِدَة {وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم {فِي مَآ آتَاكُم} أَعْطَاكُم من الْكتاب وَالسّنَن والفرائض فَيَقُول أَنا فرضته عَلَيْكُم وَلَا يدْخل فِي قُلُوبكُمْ شَيْء من التَّوَهُّم {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} فسابقوا يَا أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأُمَم فِي السّنَن والفرائض والصالحات وَيُقَال بَادرُوا بالطاعات يَا أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} جَمِيع الْأُمَم {فَيُنَبِّئُكُم} فيخبركم {بِمَا كُنتُمْ فِيهِ} فِي الدّين والشرائع {تختلفون} تخالفون(1/95)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
{وَأَنِ احكم} واحكم {بَيْنَهُمْ} بَين بني قُرَيْظَة وَالنضير وَأهل خَيْبَر {بِمَآ أَنزَلَ الله} بِمَا بيَّن الله فِي الْقُرْآن {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} بِالْجلدِ وَترك الرَّجْم {واحذرهم} وَلَا تَأْمَنهُمْ {أَن يَفْتِنُوكَ} لكَي لَا يصرفوك {عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} فِي الْقُرْآن من الرَّجْم {فَإِن تَوَلَّوْاْ} عَن الرَّجْم وَعَما حكمت بَينهم من الْقصاص {فَاعْلَم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم} أَن يعذبهم {بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} بِكُل ذنوبهم {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاس} من أهل الْكتاب {لَفَاسِقُونَ} لناقضون كافرون(1/95)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ} أفحكمهم فِي الْجَاهِلِيَّة يطْلبُونَ عنْدك فِي الْقُرْآن يَا مُحَمَّد {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً} قَضَاء {لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يصدقون بِالْقُرْآنِ(1/95)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
{يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ} فِي العون والنصرة {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} يَقُول بَعضهم على دين بعض فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَولي بعض {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ} فِي العون والنصرة {مِّنكُمْ} يَا معشر الْمُؤمنِينَ {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} فِي الْولَايَة وَلَيْسَ فِي أَمَانَة الله وَحفظه {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي} لَا يرشد إِلَى دينه وحجته {الْقَوْم الظَّالِمين} الْيَهُود وَالنَّصَارَى(1/95)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
{فَتَرَى} يَا مُحَمَّد {الَّذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شكّ ونفاق يَعْنِي عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه(1/95)
{يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} يبادرون فيهم فِي ولايتهم {يَقُولُونَ} يَقُول بَعضهم لبَعض {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} شدَّة فَلذَلِك نتخذهم أَوْلِيَاء {فَعَسَى الله} وَعَسَى من الله وَاجِب {أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْح} فتح مَكَّة والنصرة لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} أَو عَذَاب على بني قُرَيْظَة وَالنضير بِالْقَتْلِ والإجلاء من عِنْده {فَيُصْبِحُواْ} فيصيروا يَعْنِي الْمُنَافِقين {على مَآ أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ} من ولَايَة الْيَهُود {نَادِمِينَ} بعد مَا افتضحوا(1/96)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
{وَيَقُولُ الَّذين آمَنُواْ} المخلصون لِلْمُنَافِقين عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {أَهَؤُلَاءِ} يَعْنِي الْمُنَافِقين {الَّذين أَقْسَمُواْ بِاللَّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} شدَّة أَيْمَانهم إِذا حلف الرجل بِاللَّه فقد جهد يَمِينه {إِنَّهُمْ} يَعْنِي الْمُنَافِقين {لَمَعَكُمْ} مَعَ المخلصين على دينكُمْ فِي السِّرّ {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بِطَلَب حسناتهم فِي الدُّنْيَا {فَأَصْبحُوا خاسرين} فصاروا مغبونين بالعقوبة(1/96)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ} أَسد وغَطَفَان وأناس من كِنْدَة ومرار {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} بعد موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - {فَسَوْفَ يَأْتِي} يَجِيء {الله بِقَوْمٍ} يَعْنِي أهل الْيمن {يُحِبُّهُمْ} الله {وَيُحِبُّونَهُ} أَي يحبونَ الله {أَذِلَّةٍ} رحيمة مشفقة {عَلَى الْمُؤمنِينَ} مَعَ الْمُؤمنِينَ {أَعِزَّةٍ} أشدة {عَلَى الْكَافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله} أَي عاطفين فِي طَاعَة الله {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} {ذَلِك} الَّذِي ذكرت من الْحبّ وَالْأَمر وَغير ذَلِك {فَضْلُ الله} من الله تَعَالَى {يُؤْتِيهِ} يُعْطِيهِ {مَن يَشَآءُ} من كَانَ أَهلا لذَلِك {وَالله وَاسِعٌ} جواد بعطيته {عَلِيمٌ} لمن يُعْطي(1/96)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
ثمَّ نزلت فِي عبد الله ابْن سَلام وَأَصْحَابه أَسد وَأسيد أَو ثَعْلَبَة بن قيس وَغَيرهم بعد مَا جفاهم الْيَهُود فَقَالَ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله} حافظكم وناصركم ومؤنسكم الله {وَرَسُولُهُ وَالَّذين آمَنُواْ} أَبُو بكر وَأَصْحَابه {الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة} الصَّلَوَات الْخمس {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة} يُعْطون زَكَاة أَمْوَالهم {وَهُمْ رَاكِعُونَ} يصلونَ الصَّلَوَات الْخمس فِي الْجَمَاعَة مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/96)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
{وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذين آمَنُواْ} أَبَا بكر وَأَصْحَابه فِي العون والنصرة {فَإِنَّ حِزْبَ الله} جند الله {هُمُ الغالبون} على أعدائهم يَعْنِي مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه(1/96)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذين اتَّخذُوا دِينَكُمْ هُزُواً} سخرية {وَلَعِباً} ضحكة وباطلاً {مِّنَ الَّذين أُوتُواْ} أعْطوا {الْكتاب مِن قَبْلِكُمْ} يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى {وَالْكفَّار} وَسَائِر الْكفَّار {أَوْلِيَآءَ} فِي العون والنصرة {وَاتَّقوا الله} واخشوا الله فِي ولايتهم {إِن كُنتُم} إِذا كُنْتُم {مُّؤْمِنِينَ}(1/96)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاة} بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَة {اتَّخَذُوهَا هُزُواً} سخرية {وَلَعِباً} ضحكة وباطلاً {ذَلِك} الِاسْتِهْزَاء {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أَمر الله وَلَا يعلمُونَ تَوْحِيد الله وَلَا دين الله نزلت هَذِه الْآيَة فِي رجل من الْيَهُود كَانَ يسخر بِأَذَان بِلَال فأحرقه الله بالنَّار(1/96)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
{قل} يَا مُحَمَّد للْيَهُود {يَا أهل الْكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ} تطعنون علينا وتعيبوننا {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّه} إِلَّا لقبل إيمَاننَا بِاللَّه وَحده لَا شريك لَهُ {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} يَعْنِي الْقُرْآن {وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ} وَبِمَا أنزل من مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن من جملَة الْكتب وَالرسل {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ} كلكُمْ {فَاسِقُونَ} كافرون(1/96)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
ثمَّ نزلت فِي مقالتهم وَمَا نعلم أهل دين من الْأَدْيَان أقل حظاً من مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فَقَالَ الله {قُلْ} يَا مُحَمَّد للْيَهُود {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} أخْبركُم {بِشَرٍّ مِّن ذَلِك} مِمَّا قُلْتُمْ لمُحَمد وَأَصْحَابه {مَثُوبَةً عِندَ الله}(1/96)
من لَهُ عُقُوبَة عِنْد الله {مَن لَّعَنَهُ الله} عذبه الله بالجزية {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} سخط عَلَيْهِ {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة} فِي زمن دَاوُد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {والخنازير} فِي زمن عِيسَى بعد أكلهم من الْمَائِدَة {وَعَبَدَ الطاغوت} الْكُهَّان وَالشَّيَاطِين وَإِن قَرَأت وَعبد الطاغوت بِضَم الْبَاء يَقُول وجعلهم عباد الشَّيْطَان والأصنام والكهان {أُولَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً} صنيعاً فِي الدُّنْيَا ومنزلاً فِي الْآخِرَة {وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيل} عَن قصد طَرِيق الْهدى(1/97)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
{وَإِذا جاؤوكم} يَعْنِي سفلَة الْيَهُود وَيُقَال المُنَافِقُونَ {قَالُوا آمَنَّا} بك وبصفتك ونعتك إِنَّه فِي كتَابنَا {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالْكفْر} بِكفْر السِّرّ {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} بِكفْر السِّرّ {وَالله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} من الْكفْر(1/97)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
{وَترى كَثِيراً مِّنْهُمْ} يَا مُحَمَّد يَعْنِي من الْيَهُود {يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْم} يبادرون فِي الْمعْصِيَة والشرك {والعدوان} الظُّلم والاعتداء على النَّاس {وَأَكْلِهِمُ السُّحت} الرِّشْوَة الْحَرَام وَفِي تَغْيِير الحكم {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الْمعْصِيَة والاعتداء(1/97)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
{لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ} هلا ينهاهم {الربانيون} أَصْحَاب الصوامع {والأحبار} الْعلمَاء {عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْم} الشّرك {وَأَكْلِهِمُ السُّحت} الرِّشْوَة وَالْحرَام {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} فِي تَركهم ذَلِك(1/97)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
{وَقَالَتِ الْيَهُود} يَعْنِي فنحَاص بن عازوراء الْيَهُودِيّ {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} محبوسة عَن الْبسط {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} أَمْسَكت أَيْديهم عَن الْخَيْر وَالنَّفقَة فِي الْخَيْر {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} عذبُوا بالجزية بِمَا قَالُوا {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} مفتوحتان على الْبر والفاجر {يُنفِقُ} يُعْطي {كَيْفَ يَشَآءُ} إِن شَاءَ وسع وَإِن شَاءَ قتر {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم} وَالله ليزيدن كثيرا مِنْهُم كفارهم {مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} بِمَا أنزل إِلَيْك {مِن رَّبِّكَ} يَعْنِي الْقُرْآن {طغيانا} تماديا {وَكفرا} ثباتا على الْكفْر {وَأَلْقَيْنَا} أشلينا وأغرينا {بَيْنَهُمُ} بَين الْيَهُود وَالنَّصَارَى {الْعَدَاوَة} فِي الْقَتْل والهلاك {والبغضآء} فِي الْقلب {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ} كلما اجْتَمعُوا على قتل مُحَمَّد تمرداً {أَطْفَأَهَا الله} فرق الله جمعهم وَخَالف كلمتهم {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْض فَسَاداً} يَمْشُونَ فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ بتعويق النَّاس عَن مُحَمَّد والدعوة إِلَى غير الله {وَالله لاَ يُحِبُّ المفسدين} الْيَهُود وَدينهمْ(1/97)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكتاب} الْيَهُود وَالنَّصَارَى {آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَاتَّقوا} تَابُوا من الْيَهُودِيَّة والنصرانية {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} ذنوبهم فِي الْيَهُودِيَّة والنصرانية {وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعيم} فِي الْآخِرَة(1/97)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل} أقرُّوا بِمَا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وبيّنوا ذَلِك يَعْنِي صفة مُحَمَّد ونعته {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ} وبيّنوا مَا بيَّن لَهُم رَبهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَيُقَال أقرُّوا بجملة الْكتب وَالرسل من رَبهم {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ} بالمطر {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} بالنبات وَالثِّمَار {مِّنْهُمْ} من أهل الْكتاب {أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} جمَاعَة عادلة مُسْتَقِيمَة يَعْنِي عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه وبحيرا الراهب وَأَصْحَابه وَالنَّجَاشِي وَأَصْحَابه وسلمان الْفَارِسِي وَأَصْحَابه {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} بئس مَا يصنعون من كتمان صفة مُحَمَّد ونعته مِنْهُم كَعْب بن الْأَشْرَف وَكَعب بن أَسد وَمَالك بن الصَّيف وَسَعِيد بن عَمْرو وَأَبُو يَاسر وجدي بن أَخطب(1/97)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
{يَا أَيهَا الرَّسُول} يَعْنِي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(1/97)
من سبّ آلِهَتهم وعيب دينهم والقتال مَعَهم والدعوة إِلَى الْإِسْلَام {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} مَا أمرت {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} كَمَا يَنْبَغِي {وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس} من الْيَهُود وَغَيرهم {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْم الْكَافرين} لَا يرشد إِلَى دينه من لم يكن أَهلا لدينِهِ(1/98)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
{قل} يَا مُحَمَّد {يَا أهل الْكتاب} يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى {لَسْتُمْ على شَيْءٍ} من دين الله {حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل} حَتَّى تقروا بِمَا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} من جملَة الْكتب وَالرسل {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ} كفارهم {مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} بِمَا أنزل إِلَيْك {مِن رَّبِّكَ} يَعْنِي الْقُرْآن {طغيانا} تماديا {وَكفرا} ثباتا عل الْكفْر {فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْم الْكَافرين} فَلَا تحزن على هلاكهم فِي الْكفْر إِن لم يُؤمنُوا(1/98)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
{إِنَّ الَّذين آمَنُواْ} بمُوسَى وبجملة الْأَنْبِيَاء والكتب وماتوا على ذَلِك فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ {وَالَّذين هَادُواْ} تهودوا {والصابئون} يَعْنِي قوما من النَّصَارَى هم أَلين قولا من النَّصَارَى {وَالنَّصَارَى} نَصَارَى أهل نَجْرَان وَغَيرهم {مَنْ آمَنَ} يَعْنِي من الْيَهُود وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى {بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت وَتَابَ الْيَهُودِيّ من الْيَهُودِيَّة والصابىء من الصابئة وَالنَّصَارَى من النَّصْرَانِيَّة {وعَمِلَ صَالِحاً} خَالِصا فِيمَا بَينه وَبَين ربه {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فِيمَا يستقبلهم من الْعَذَاب {وَلَا هم يَحْزَنُونَ} على مَا خلفوا من خَلفهم وَيُقَال فَلَا خوف عَلَيْهِم إِذا خَافَ النَّاس وَلَا هم يَحْزَنُونَ إِذا حزن النَّاس وَيُقَال فَلَا خوف عَلَيْهِم إِذا ذبح الْمَوْت وَلَا هم يَحْزَنُونَ إِذا أطبقت النَّار(1/98)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ} إِقْرَار {بني إِسْرَائِيلَ} فِي التَّوْرَاة فِي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن لَا يشركوا بِاللَّه {وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ} بِمَا لَا يُوَافق قُلُوبهم وَدينهمْ الْيَهُودِيَّة {فَرِيقاً كَذَّبُواْ} يَقُول كذبُوا فريقاً عِيسَى ومحمداً صلوَات الله عَلَيْهِمَا {وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} يَقُول وفريقاً قتلوا زَكَرِيَّا وَيحيى(1/98)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
{وَحَسبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} بلية وَيُقَال أَن لَا تفْسد قُلُوبهم بقتل الْأَنْبِيَاء وتكذيبهم {عموا} عَن الْهدى {وَصَمُّواْ} عَن الْحق فِي الْقلب وَكَفرُوا بِاللَّه ثمَّ آمنُوا وتابوا من الْكفْر {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ} تجَاوز الله عَنْهُم) {ثُمَّ عَمُواْ} عَن الْهدى {وَصَمُّواْ} عَن الْحق وَكَفرُوا {كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} وماتوا على ذَلِك {وَالله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فِي الْكفْر من قتل الْأَنْبِيَاء وتكذيبهم(1/98)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
{لقد كفر الَّذين قآلوا إِن الله هُوَ الْمَسِيح ابْن مَرْيَمَ} وَهُوَ مقَالَة النسطورية {وَقَالَ الْمَسِيح} ابْن مَرْيَم {يَا بني إِسْرَائِيلَ اعبدوا الله} وحدوا الله {رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّه} ويمت عَلَيْهِ {فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الْجنَّة} أَن يدخلهَا {وَمَأْوَاهُ} مصيره {النَّار وَمَا للظالمين} للْمُشْرِكين {من أنصار} من مَانع مِمَّا يُرَاد بهم(1/98)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذين قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} وَهِي مقَالَة المرقوسية يَقُول أَب وَابْن وروح قدس {وَمَا مِنْ إِلَه} لأهل السَّمَوَات وَالْأَرْض {إِلاَّ إِلَه وَاحِدٌ} لَا ولد لَهُ وَلَا شريك لَهُ {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ} يَقُول وَإِن لم يتوبوا من مقالتهم يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى {لَيَمَسَّنَّ} ليصيبن {الَّذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع يخلص وَجَعه إِلَى قُلُوبهم(1/98)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
{أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى الله} من مقالتهم {وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} يوحدونه {وَالله غَفُورٌ} لمن تَابَ وآمن {رَّحِيمٌ} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/98)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
{مَّا الْمَسِيح ابْن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ} مُرْسل {قَدْ خَلَتْ} قد مَضَت {مِن قَبْلِهِ الرُّسُل وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} شبه نَبِي {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَام} كَانَا عَبْدَيْنِ يأكلان الطَّعَام {انْظُر} يَا مُحَمَّد {كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَات} العلامات بِأَن عِيسَى وَمَرْيَم لم يَكُونَا بإلهين {ثُمَّ انْظُر} يَا مُحَمَّد {أَنى يُؤْفَكُونَ} كَيفَ يصرفون بِالْكَذِبِ(1/99)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} الْأَصْنَام {مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً} مَا لَا يقدر لكم على دفع الضَّرَر فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة {وَلاَ نَفْعاً} يَقُول وَلَا جر النَّفْع فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة {وَالله هُوَ السَّمِيع} لمقالتكم فِي عِيسَى وَأمه {الْعَلِيم} بعقوبتكم(1/99)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
{قل يَا أهل الْكتاب} يعْنى أهل نَجْرَان {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} لَا تشددوا فِي دينكُمْ {غَيْرَ الْحق} فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَق {وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ} دين قوم ومقالة قوم {قَدْ ضَلُّواْ} عَن الْهدى {مِن قَبْلُ} من قبلكُمْ وهم الرؤساء السَّيِّد وَالْعَاقِب {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} عَن الْحق وَالْهدى {وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيل} عَن قصد طَرِيق الْهدى(1/99)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
{لُعِنَ} مسخ {الَّذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَان دَاوُد} بِدُعَاء دَاوُد صَارُوا قردة {وَعِيسَى ابْن مَرْيَمَ} وبدعاء عِيسَى ابْن مَرْيَم صَارُوا خنازير {ذَلِك} اللَّعْنَة {بِمَا عَصَوْا} فِي السبت وَأكل الْمَائِدَة {وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} بقتل الْأَنْبِيَاء وَاسْتِحْلَال الْمعاصِي(1/99)
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
{كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ} لَا يتوبون {عَن مُّنكَرٍ} عَن قَبِيح {فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أَي مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ من الْمعْصِيَة والاعتداء(1/99)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
{ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ} من الْمُنَافِقين {يَتَوَلَّوْنَ} فِي العون والنصرة {الَّذين كَفَرُواْ} كَعْبًا وَأَصْحَابه وَيُقَال ترى كثيرا مِنْهُم من الْيَهُودِيَّة كَعْبًا وَأَصْحَابه يتولون الَّذين كفرُوا كفار أهل مَكَّة أَبَا سُفْيَان وَأَصْحَابه {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} فِي الْيَهُودِيَّة والنفاق {أَن سَخِطَ} بِأَن سخط {الله عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَاب هُمْ خَالِدُونَ} لَا يموتون وَلَا يخرجُون(1/99)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
{وَلَوْ كَانُوا} يَعْنِي الْمُنَافِقين {يُؤْمِنُونَ بِاللَّه} يصدقون بإيمَانهمْ بِاللَّه {وَالنَّبِيّ} مُحَمَّد {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} يَعْنِي الْقُرْآن {مَا اتخذوهم} يَعْنِي الْيَهُود {أَوْلِيَآءَ} فِي العون والنصرة {وَلَكِن كثيرا مِنْهُم} من أهل الْكتاب {فَاسِقُونَ} مُنَافِقُونَ وَيُقَال وَلَو كَانُوا يَعْنِي الْيَهُود يُؤمنُونَ بِاللَّه يقرونَ بتوحيد الله وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا أنزل إِلَيْهِ يَعْنِي الْقُرْآن مَا اتخذوهم يَعْنِي أَبَا سُفْيَان وَأَصْحَابه أَوْلِيَاء فِي العون والنصرة وَلَكِن كثيرا مِنْهُم من أهل الْكتاب فَاسِقُونَ كافرون(1/99)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
ثمَّ بَين عداوتهم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فَقَالَ {لَتَجِدَنَّ} يَا مُحَمَّد {أَشَدَّ النَّاس عَدَاوَةً} وأقبح قولا {لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} مُحَمَّد وَأَصْحَابه {الْيَهُود} يَعْنِي يهود بني قُرَيْظَة وَالنضير وفدك وخيبر {وَالَّذين أَشْرَكُواْ} وَأَشد الَّذين أشركوا مشركو أهل مَكَّة {وَلَتَجِدَنَّ} يَا مُحَمَّد {أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً} صلَة وألين قولا {لِّلَّذِينَ آمَنُواْ} مُحَمَّد وَأَصْحَابه {الَّذين قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} يَعْنِي النَّجَاشِيّ أَصْحَابه وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ رجلا وَيُقَال أَرْبَعُونَ رجلا اثْنَان وَثَلَاثُونَ رجلا من الْحَبَشَة وَثَمَانِية نفر من رُهْبَان الشَّام بحيرا الراهب وَأَصْحَابه أَبْرَهَة وأشرف وَإِدْرِيس وَتَمِيم وَتَمام ودريد وأيمن {ذَلِك} الْمَوَدَّة {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ} متعبدين محلقة أوساط رؤوسهم {وَرُهْبَانًا} أَصْحَاب الصوامع علماءهم {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عَن الْإِيمَان بِمُحَمد وَالْقُرْآن(1/99)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُول} قِرَاءَة مَا أنزل إِلَى الرَّسُول من جَعْفَر بن أبي طَالب {ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ} تسيل {مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحق} من صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته فِي كِتَابهمْ {يَقُولُونَ رَبَّنَآ} يَا رَبنَا {آمَنَّا} بك وبكتابك وبرسولك مُحَمَّدًا {فاكتبنا مَعَ الشَّاهِدين}(1/99)
فاجعلنا من أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذين آمنُوا(1/100)
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
فَلَامَهُمْ قَومهمْ بذلك فَقَالُوا {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّه وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحق} يَقُول وَبِمَا جَاءَنَا من الْحق من الْكتاب وَالرَّسُول {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا} فِي الْآخِرَة الْجنَّة {مَعَ الْقَوْم الصَّالِحين} مَعَ صالحي أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/100)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
{فَأَثَابَهُمُ الله} فَأوجب الله لَهُم {بِمَا قَالُواْ} بتوحيدهم بالطوع {جَنَّاتٍ} بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار المَاء وَاللَّبن وَالْخمر وَالْعَسَل {خَالِدين فِيهَا} مقيمين فِي الْجنَّة لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا {وَذَلِكَ} الَّذِي ذكرت {جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ} الْمُوَحِّدين وَيُقَال الْمُحْسِنِينَ بالْقَوْل وَالْفِعْل(1/100)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
{وَالَّذين كَفَرُواْ} بِاللَّه {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيم} أهل النَّار(1/100)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ} نزلت هَذِه الْآيَة فِي عشرَة نفر من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم أَبُو بكر الصّديق وَعمر وَعلي وَعبد الله بن مَسْعُود وَعُثْمَان بن مَظْعُون الجُمَحِي ومقداد بن الْأسود الْكِنْدِيّ وَسَالم مولى أبي حُذَيْفَة بن عتبَة وسلمان الْفَارِسِي وَأَبُو ذَر وعمار بن يَاسر توافقوا فِي بَيت عُثْمَان بن مَظْعُون أَن لَا يَأْكُلُوا وَلَا يشْربُوا إِلَّا قوتاً وَلَا يأووا بَيْتا وَلَا يَأْتُوا النِّسَاء وَلَا يَأْكُلُون لَحْمًا وَلَا دسماً وَأَن يجبوا أنفسهم فنهاهم الله عَن ذَلِك وَنزلت فيهم هَذِه الْآيَة {يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ} من الطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع {وَلاَ تَعْتَدوا} بِقطع المذاكير {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} من الْحَلَال إِلَى الْحَرَام فِي الْمثلَة(1/100)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
{وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً} من الطَّعَام وَالشرَاب {وَاتَّقوا الله الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} فِي الْمثلَة وَتَحْرِيم مَا أحل الله لكم(1/100)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
{لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} بكفارة أَيْمَانكُم بِاللَّغْوِ {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَان} بضمير قُلُوبكُمْ بالأيمان {فَكَفَّارَتُهُ} كَفَّارَة الْيَمين الَّتِي لَيست بلغُوا {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ} من أعدل {مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} من الْخبز والأدم تغدونهم وتعشونهم {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} أَو كسْوَة عشرَة مَسَاكِين بِقدر مَا يواري بِهِ عورتهم ملحفة أَو قَمِيصًا أَو إزاراً {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} كَيْفَمَا يكون {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} من هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة شَيْئا {فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} تتابعاً {ذَلِك} الَّذِي ذكرت {كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} ثمَّ حنثتم {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} لفظ أَيْمَانكُم وَكَفَّارَة أَيْمَانكُم {كَذَلِك} هَكَذَا {يبين الله لكم آيَاته} أمره وَنَهْيه كَمَا بيَّن كَفَّارَة الْيَمين {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكَي تشكروا بَيَانه فِي الْأَمر وَالنَّهْي(1/100)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ إِنَّمَا الْخمر} الشَّرَاب الَّذِي خامر الْعقل {وَالْميسر} الْقمَار كُله {والأنصاب} عبَادَة الْأَوْثَان {والأزلام} اسْتِعْمَال الْقدح {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَان} حرَام بِأَمْر الشَّيْطَان ووسوسته {فَاجْتَنبُوهُ} فاتركوه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكَي تنجوا من السخطة وَالْعَذَاب وتأمنوا فِي الْآخِرَة(1/100)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر} إِذا صرتم نشاوى {وَالْميسر} وَهُوَ الْقمَار إِذا ذهب مالكم {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله} يَقُول ويصرفكم الْخمر عَن طَاعَة الله {وَعَنِ الصَّلَاة} يَقُول يصدكم عَن الصَّلَوَات الْخمس {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} أَفلا تنتهون(1/100)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
{وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُول} فِي تَحْرِيم الْخمر {واحذروا} فِي تحليلها أَو شربهَا(1/100)
{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عَن طاعتهما فِي تَحْرِيم الْخمر {فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا} مُحَمَّد {الْبَلَاغ} التَّبْلِيغ عَن الله {الْمُبين} بلغَة تعلمونها(1/101)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
ثمَّ نزل فِي رجال من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار لقَولهم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ حَال الَّذين مَاتُوا منا على شرب الْخمر قبل التَّحْرِيم فَأنْزل الله فيهم {لَيْسَ عَلَى الَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {جُنَاحٌ} مأثم {فِيمَا طعموا} شربوا وَهَذَا فِيمَن شرب من الْأَحْيَاء والأموات قبل التَّحْرِيم {إِذَا مَا اتَّقوا} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش {وَآمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ} يَعْنِي الْأَحْيَاء تَحْلِيل الْخمر بعد تَحْرِيمهَا وآمنوا بتحريمها {ثُمَّ اتَّقَواْ} شربهَا {وَّأَحْسَنُواْ} تركُوا شربهَا {وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فِي ترك شربهَا وَهَذَا فِيمَن شرب من الْأَحْيَاء قبل الْبَيَان(1/101)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
ثمَّ نزل فِي تَحْرِيم الصَّيْد عَام الْحُدَيْبِيَة فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْد} يَقُول ليختبرنكم بصيد الْبر {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} إِلَى فِرَاخه وبيضه {وَرِمَاحُكُمْ} إِلَى الْوَحْش عَام الْحُدَيْبِيَة {لِيَعْلَمَ الله} لكَي يرى الله {مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} فَيتْرك الصَّيْد {فَمَنِ اعْتدى} مُتَعَمدا {بَعْدَ ذَلِك} بعد مَا حكم عَلَيْهِ بالجزاء وَبَين {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ضرب وجيع يمْلَأ ظَهره وبطنه ضربا وجيعا(1/101)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أَو فِي الْحرم {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً} نزلت هَذِه الْآيَة فِي ابي الْيُسْر ابْن عَمْرو قتل صيدا مُتَعَمدا بقتْله نَاسِيا لإحرامه فَأنْزل الله فِيهِ وَمن قَتله مِنْكُم مُتَعَمدا بقتْله نَاسِيا لإحرامه {فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} يقومه عَلَيْهِ حكمان {هَدْياً} فيشتري بِهِ هَديا {بَالِغَ الْكَعْبَة} يبلغ بِهِ الْكَعْبَة {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} يَقُول أَو يقوم عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّرَاهِم بِالطَّعَامِ فيطعم بِهِ مَسَاكِين أهل مَكَّة {أَو عَدْلُ ذَلِك صِيَاماً} يَقُول إِن لم يجد الطَّعَام يقوم عَلَيْهِ مَكَان نصف صَاع صَوْم يَوْم {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} عُقُوبَة أمره {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} قبل التَّحْرِيم {وَمَنْ عَادَ} بعد مَا حكم عَلَيْهِ وَضرب ضربا وجيعاً فِي الدُّنْيَا {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} فَيتْرك حَتَّى ينْتَقم الله مِنْهُ {وَالله عَزِيزٌ} بالنقمة {ذُو انتقام} ذُو عُقُوبَة(1/101)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْر} نزلت فِي قوم من بني مُدْلِج كَانُوا أهل صيد الْبَحْر سَأَلُوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن طَعَام الْبَحْر وَعَما حسر الْبَحْر عَنهُ فَأنْزل الله أحل لكم صيد الْبَحْر {وَطَعَامُهُ} يَعْنِي مَا حسر عَنهُ المَاء وألقاه {مَتَاعاً لَّكُمْ} مَنْفَعَة لكم {وَلِلسَّيَّارَةِ} مارّي طَرِيق المالح {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبر مَا دُمْتُمْ حُرُماً} أَو فِي الْحرم {وَاتَّقوا الله} اخشوا الله {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فِيمَا حرم عَلَيْكُم من الصَّيْد فِي الْإِحْرَام وَالْحرم(1/101)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
{جَعَلَ الله الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام قِيَاماً} أمنا وقواماً {لِّلنَّاسِ} فِي الْعِبَادَة {والشهر الْحَرَام} أمنا {وَالْهَدْي} وَهُوَ الَّذِي يهدى إِلَى الْبَيْت أمنا للرفقة الَّتِي الْهَدْي فِيهَا {والقلائد} أمنا وَهِي الَّتِي عَلَيْهَا قلادة من لحى شجر الْحرم جعلهَا الله أمنا للرفقة الَّتِي هِيَ فِيهَا {ذَلِك} الَّذِي ذكرت {لِتَعْلَمُوا} لكَي تعلمُوا {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَات} بصلاح مَا فِي السَّمَوَات {وَمَا فِي الأَرْض وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ} من صَلَاحهَا وَصَلَاح أَهلهَا {عَلِيمٌ}(1/101)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
{اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ الْعقَاب} لمن اسْتحلَّ مَا حرم الله {وَأَنَّ الله غَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} لمن تَابَ(1/101)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
{مَّا عَلَى الرَّسُول إِلاَّ الْبَلَاغ} عَن الله(1/101)
{وَالله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} تظْهرُونَ من الْخَيْر وَالشَّر {وَمَا تَكْتُمُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر وَيُقَال وَالله يعلم مَا تبدون تظْهرُونَ فِيمَا بَيْنكُم وَمَا تكتمون تسرون بَعْضكُم عَن بعض بِأخذ مَال شُرَيْح {قُل} يَا مُحَمَّد لأهل السَّرْح الَّذِي سَاق شُرَيْح(1/102)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
{لاَّ يَسْتَوِي الْخَبيث} الْحَرَام مَال شُرَيْح {وَالطّيب} الْحَلَال الَّذِي سَاق شُرَيْح {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبيث} الْحَرَام {فَاتَّقُوا الله} فاخشوا الله فِي أَخذ الْحَرَام {يَا أولي الْأَلْبَاب} يَا أهل اللب وَالْعقل {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكَي تنجوا من السخطة وَالْعَذَاب(1/102)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ} نزلت فِي حَارِث بن يزِيد سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين نزل {ولِلَّهِ عَلَى النَّاس حَجُّ الْبَيْت} فَقَالَ أَفِي كل عَام يَا رَسُول الله فَنَهَاهُ الله عَن ذَلِك وَقَالَ يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ {لاَ تَسْأَلُواْ} نَبِيكُم {عَنْ أَشْيَآءَ} قد عَفا الله عَنْهَا {إِن تُبْدَ لَكُمْ} تُؤمر لكم {تَسُؤْكُمْ} ساءكم ذَلِك {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا} عَن الْأَشْيَاء الَّتِي قد عَفا الله عَنْهَا {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآن} جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {تُبْدَ لَكُمْ} تُؤمر لكم {عَفَا الله عَنْهَا} عَن مسئلتكم {وَالله غَفُورٌ} لمن تَابَ {حَلِيمٌ} عَن جهلكم(1/102)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ} نَبِيّهم أَشْيَاء {ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ} فَلَمَّا بيَّن لَهُم نَبِيّهم صَارُوا بهَا كَافِرين(1/102)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
{مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} يَقُول مَا حرم الله بحيرة وَلَا سائبة وَلَا وصيلة وَلَا حامياً فَأَما الْبحيرَة فَمن الْإِبِل كَانُوا إِذا نتجت النَّاقة خَمْسَة أبطن نظرُوا فِي الْبَطن الْخَامِس فَإِن كَانَت سقباً والسقب الذّكر نحروه فَأَكله الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا وَإِن كَانَت أُنْثَى شَقوا أذنها فَتلك الْبحيرَة وَكَانَ لَبنهَا ومنافعها للرِّجَال خَاصَّة دون النِّسَاء حَتَّى تَمُوت فَإِذا مَاتَت اشْترك فِي أكلهَا الرِّجَال وَالنِّسَاء وَأما السائبة فَكَانَ الرجل يسيب من مَاله مَا يَشَاء من الْحَيَوَان وَغَيره فَيَجِيء بِهِ إِلَى السَّدَنَة والسدنة خَزَنَة آلِهَتهم فيدفعه إِلَيْهِم فيقبضونه مِنْهُ فيطعمون مِنْهُ أَبنَاء السَّبِيل الرِّجَال دون النِّسَاء ويطعمون مِنْهُ لآلهتهم الذُّكُور دون الْإِنَاث حَتَّى يَمُوت إِن كَانَ حَيَوَانا فَإِذا مَاتَ اشْترك فِيهِ الرِّجَال وَالنِّسَاء وَأما الوصيلة فَهِيَ الشَّاة كَانَت إِذا ولدت سَبْعَة أبطن عَمدُوا إِلَى الْبَطن السَّابِع فَإِذا كَانَ ذكرا ذبحوه فَأَكله الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا وَإِن كَانَ أُنْثَى لم تنْتَفع النِّسَاء مِنْهَا بِشَيْء حَتَّى تَمُوت فَإِذا مَاتَت كَانَ الرِّجَال وَالنِّسَاء يأكلونها جَمِيعًا وَإِن كَانَ ذكرا وَأُنْثَى بِبَطن وَاحِد قيل وصلت أخاها فيتركان مَعَ إخوتها فَلَا يذبحان وَكَانَا للرِّجَال دون النِّسَاء حَتَّى يموتا فَإِذا مَاتَا اشْترك فِي أكلهما الرِّجَال وَالنِّسَاء وَأما الحام فَهُوَ الْفَحْل إِذا ركب ولد وَلَده قيل حمى ظَهره فَيتْرك وَلَا يحمل عَلَيْهِ شَيْء وَلَا يركب وَلَا يمْنَع من مَاء وَلَا رعي وَأَيّمَا إبل أَتَاهَا يضْرب فِيهَا لم يخل بَينه وَبَينهَا فَإِذا أدْركهُ الْهَرم أَو مَاتَ أكله الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا فَذَاك قَوْله تَعَالَى {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} {وَلَكِن الَّذين كَفَرُواْ} يَعْنِي عَمْرو بن لحي وَأَصْحَابه {يَفْتَرُونَ} يختلقون {على الله الْكَذِب} فِي تَحْرِيمهَا {وَأَكْثَرُهُمْ} كلهم {لاَ يَعْقِلُونَ} أَمر الله وتحليله وتحريمه(1/102)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
{وَإِذا قيل لَهُم} قَالَ لَهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمشركى أهل مَكَّة {تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ الله} إِلَى تَحْلِيل مَا بيَّن الله فِي الْقُرْآن {وَإِلَى الرَّسُول} وَإِلَى مَا بيَّن لكم الرَّسُول من التَّحْلِيل {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} من التَّحْرِيم {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} وَقد كَانَ آباؤهم {لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً} من التَّوْحِيد وَالدين {وَلاَ يَهْتَدُونَ} لسنة نَبِي وَيُقَال أَو لَيْسَ كَانَ آباؤهم لَا يعلمُونَ شَيْئا من(1/102)
الدّين وَلَا يَهْتَدُونَ لسنة النَّبِي فَكيف هم يقتدون بهم(1/103)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أَقبلُوا على أَنفسكُم {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ} ضَلَالَة من ضل {إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} إِلَى الْإِيمَان وبينتم ضلالتهم {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ} بعد الْمَوْت {جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ} يُخْبِركُمْ {بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وتقولون من الْخَيْر وَالشَّر نزلت هَذِه الْآيَة من قَوْله عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ إِلَى هَهُنَا فِي مُشْركي أهل مَكَّة حِين قبل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أهل الْكتاب الْجِزْيَة وَلم يقبل مِنْهُم وَقد بيّنت قصَّة هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة(1/103)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
{يِا أَيُّهَا الَّذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} عَلَيْكُم بِالشَّهَادَةِ فِيمَا يكون بَيْنكُم فِي السّفر والحضر {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت حِينَ الْوَصِيَّة} عِنْد وَصِيَّة الْمَيِّت {اثْنَان} فليشهد شَاهِدَانِ {ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} من أحراركم حران وَيُقَال من قومكم {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير أهل دينكُمْ وَيُقَال من غير قومكم ثمَّ ذكر السّفر وَترك الْحَضَر فَقَالَ {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ} سِرْتُمْ وسافرتم {فِي الأَرْض فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْت} نزلت هَذِه الْآيَة فِي ثَلَاث نفر اصطحبوا فِي التِّجَارَة إِلَى الْبَلَد بلد الشَّام فَمَاتَ أحدهم بِالْبَلَدِ يُقَال لَهُ بديل بن أبي مَارِيَة مولى عَمْرو بن الْعَاصِ وَكَانَ مُسلما فأوصى صَاحِبيهِ عدي بن بداء وَتَمِيم ابْن أَوْس الدَّارِيّ وَكَانَا نَصْرَانِيين فخانا فِي الْوَصِيَّة فَقَالَ الله لأولياء الْمَيِّت {تَحْبِسُونَهُمَا} يَعْنِي النصرانيين {مِن بَعْدِ الصَّلَاة} صَلَاة الْعَصْر {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّه} فيحلفان بِهِ {إِنِ ارتبتم} إِن شَكَكْتُمْ يَا أَوْلِيَاء الْمَيِّت إِن المَال أَكثر مِمَّا أَتَيَا بِهِ {لاَ نَشْتَرِي بِهِ} وليقولا لَا نشتري بِالْيَمِينِ {ثَمَناً} عوضا يَسِيرا من الدُّنْيَا {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} وَلَو كَانَ الْمَيِّت ذَا قرَابَة منا فِي الرَّحِم {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله} وليقولا لَا نكتم شَهَادَة الله عندنَا إِذا سئلنا {إِنَّآ} إِن كتمنا {إِذَاً} حِينَئِذٍ {لَّمِنَ الآثمين} العاصين فَتبين بعد مَا حلفا خيانتهما وَعلم بذلك أَوْلِيَاء الْمَيِّت فَقَالَ الله(1/103)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
{فَإِنْ عُثِرَ} فَإِن اطلع {على أَنَّهُمَا} يَعْنِي النصرانيين {استحقآ} استوجبا {إِثْماً} خِيَانَة {فَآخَرَانِ} وليان من أَوْلِيَاء الْمَيِّت وهما عَمْرو بن الْعَاصِ ومطلب بن أبي ودَاعَة {يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا} مقَام النصرانيين {مِنَ الَّذين اسْتحق عَلَيْهِمُ} الْخِيَانَة يَعْنِي النصرانيين وَيُقَال من الَّذين استكتم المَال مِنْهُمَا يَعْنِي من أَوْلِيَاء الْمَيِّت {الأوليان} بِالْمَالِ مقدم ومؤخر {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّه} فيحلفان بِاللَّه أَي أَوْلِيَاء الْمَيِّت إِن المَال أَكثر مِمَّا أَتَيَا بِهِ {لَشَهَادَتُنَا} شَهَادَة الْمُسلمين {أَحَقُّ} اصدق (مِن شَهَادَتِهِمَا) شَهَادَة النصرانيين {وَمَا اعتدينآ} وليقولا وَمَا اعتدينا فِيمَا أدعينا {إِنَّا إِذاً} إِن اعتدينا فِيمَا أدعينا {لَّمِنَ الظَّالِمين} الضارين الْكَاذِبين(1/103)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
{ذَلِك أدنى} أَحْرَى وأجدر {أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ} يَعْنِي النصرانيين {على وَجْهِهَآ} كَمَا كَانَت {أَوْ يخَافُوا} أَو يخافا النصرانيان {أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ} أيمانهما {بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} بعد شَهَادَة الرجلَيْن الْمُسلمين فَلَا يكتمان {وَاتَّقوا الله} اخشوا الله فِي أَمَانَته {واسمعوا} مَا تؤمرون بِهِ وَأَطيعُوا الله {وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْم الْفَاسِقين} لَا يرشد العاصين الْكَاذِبين الْكَافرين إِلَى دينه وحجته من لم يكن أَهلا لذَلِك(1/103)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
{يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرُّسُل} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {فَيَقُولُ} لَهُم فِي بعض المواطن فِي وَقت الدهشة {مَاذَآ أُجِبْتُمْ} مَاذَا أجابكم الْقَوْم {قَالُواْ} من شدَّة الْمَسْأَلَة وهول ذَلِك الموطن {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} بِمَا غَابَ عَنَّا من إِجَابَة الْقَوْم ثمَّ يجيبون بعد ذَلِك فَيَشْهَدُونَ على قَومهمْ بالبلاغ(1/103)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
{إِذْ قَالَ الله} قد قَالَ الله {يَا عِيسَى ابْن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي}(1/103)
احفظ منتي {عَلَيْكَ} بِالنُّبُوَّةِ {وعَلى وَالِدَتِكَ} بِالْإِسْلَامِ وَالْعِبَادَة {إِذْ أَيَّدتُّكَ} أعنتك {بِرُوحِ الْقُدس} بِجِبْرِيل المطهر لقنك وأعانك فِي تكليم النَّاس {تُكَلِّمُ النَّاس فِي المهد} فِي الْحجر والسرير بِأبي عبد الله ومسيحه {وَكَهْلاً} وأعانك بعد ثَلَاثِينَ سنة بِأَنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكتاب} كتب الْأَنْبِيَاء وَيُقَال الْخط بالقلم {وَالْحكمَة} حِكْمَة الْحُكَمَاء وَيُقَال الْحَلَال وَالْحرَام {والتوراة} وعلمتك التَّوْرَاة فِي بطن أمك {وَالْإِنْجِيل} بعد خُرُوجك {وَإِذْ تَخْلُقُ} تصور {مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} شبه الطير وَهُوَ الخفاش {بِإِذْنِي} بأَمْري {فَتَنفُخُ فِيهَا} كنفخ النَّائِم {فَتَكُونُ طَيْراً} فَتَصِير طيراً تطير بَين السَّمَاء وَالْأَرْض {بِإِذْنِي} بأَمْري وإرادتي {وَتُبْرِئُ} تصحح {الأكمه} الَّذِي يُولد أعمى {والأبرص بِإِذْنِي} بأَمْري وإرادتي وقدرتي {وَإِذْ تُخْرِجُ} تحيي {الْمَوْتَى بِإِذْنِيِ} بإرادتي وإحيائي {وَإِذْ كَفَفْتُ} منعت {بني إِسْرَائِيل عَنْك} إِذْ هُوَ اتقبلك {إِذْ جِئْتَهُمْ} حَيْثُ جئتهم {بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والعجائب الَّتِي أريتهم {فَقَالَ الَّذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} من بني إِسْرَائِيل {إِنْ هَذَا} مَا هَذَا الَّذِي يرينا عِيسَى {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظَاهر وَإِن قَرَأت سَاحر مُبين أَرَادوا بِهِ عِيسَى(1/104)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} ألهمت الحواريين القصارين وهم اثْنَا عشر رجلا {أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي} عِيسَى {قَالُوا آمَنَّا} بك وبرسولك عِيسَى {واشهد} أَنْت يَا عِيسَى وَشهد بَعضهم على بعض {بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} مخلصون بِالْعبَادَة والتوحيد(1/104)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
{إِذْ قَالَ الحواريون} الأصفياء يَعْنِي شَمْعُون الصفي {يَا عِيسَى ابْن مَرْيَمَ} يَقُول لَك قَوْمك {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} هَل يفعل رَبك وَإِن قَرَأت بِالتَّاءِ وَنصب الْيَاء تَقول هَل تَسْتَطِيع أَن تَدْعُو رَبك {أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً} طَعَاما {مِّنَ السمآء قَالَ} عِيسَى لشمعون قل لَهُم {اتَّقوا الله} اخشوا الله {إِن كُنتُم} إِذْ كُنْتُم {مُّؤْمِنِينَ} موقنين فلعلكم تتركون شكرها فيعذبكم فَقَالَ لَهُم ذَلِك شَمْعُون(1/104)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
{قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} بِمَا ترينا من الْعَجَائِب {وَنَعْلَمَ} ونستيقن {أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} مَا تَقول {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدين} إِذا رَجعْنَا إِلَى قَومنَا(1/104)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
{قَالَ عِيسَى ابْن مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} طَعَاما من السَّمَاء وَيُقَال بركَة الطَّعَام وَكَانَ مَعَهم شَيْء من الطَّعَام {تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا} لأهل زَمَاننَا {وآخرنا} لمن خلفنا لكَي نعبدك فِيهَا وَكَانَ يَوْم الْأَحَد {وَآيَةً مِّنْكَ} لمن آمن وَحجَّة على من كفر {وارزقنا} أعطنا مَا سألناك {وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين} أفضل المطعمين(1/104)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
{قَالَ الله} لعيسى قل لَهُم {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} مَا سَأَلْتُم {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ} بعد النُّزُول وَالْأكل {مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالمين} عالمي زمانهم أمسخه خنزيراً قَالُوا بعد النُّزُول وَالْأكل هَذَا سحر مُبين كذب بيِّن قَالَ عِيسَى إِن تُعَذبهُمْ على هَذِه الْمقَالة الَّتِي استحقوا عَلَيْهَا الْهَلَاك فَإِنَّهُم عِبَادك وَإِن تغْفر لَهُم تتب عَلَيْهِم وتتجاوز عَنْهُم فَإنَّك أَنْت الْعَزِيز بالنقمة لمن لم يتب الْحَكِيم بالمغفرة لمن تَابَ مقدم ومؤخر(1/104)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
{وَإِذْ قَالَ الله} يَقُول الله يَوْم الْقِيَامَة {يَا عِيسَى ابْن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} فِي الدُّنْيَا {اتخذوني وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ الله قَالَ} يَقُول عِيسَى {سُبْحَانَكَ} نزه ربه {مَا يَكُونُ} يَقُول مَا كَانَ يَنْبَغِي وَمَا يجوز {لي أَنْ أَقُولَ} لَهُم {مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} بجائز {إِن كُنتُ قُلْتُهُ} لَهُم {فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي}(1/104)
مَا كَانَ مني لَهُم من الْأَمر وَالنَّهْي {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} مَا كَانَ مِنْك لَهُم من الخذلان والتوفيق {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} مَا غَابَ عَن الْعباد(1/105)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
{مَا قُلْتُ لَهُمْ} فِي الدُّنْيَا {إِلاَّ مَآ أَمرتنِي بِهِ أَن اعبدوا الله} وحادوا الله وأطيعوه {رَبِّي وَرَبَّكُمْ} هُوَ رَبِّي وربكم {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} بالبلاغ {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} مَا كنت فيهم {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} رفعته من بَينهم {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} الحفيظ والشهيد عَلَيْهِم {وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ} من مَقَالَتي ومقالتهم {شَهِيدٌ} عليم قَالَ عِيسَى(1/105)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيز الْحَكِيم} قد فسرتها فِي التَّقْدِيم(1/105)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
{قَالَ الله} سَيَقُولُ الله {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقين صِدْقُهُمْ} وَالْمُؤمنِينَ إِيمَانهم والمبلغين تبليغهم والموفين وفاؤهم {لَهُمْ جَنَّاتٌ} بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} من تَحت شَجَرهَا وسررها {الْأَنْهَار} أَنهَار المَاء وَاللَّبن وَالْخمر وَالْعَسَل {خَالِدين فِيهَا} مقيمين فِي الْجنَّة لَا يموتون فِيهَا وَلَا يخرجُون مِنْهَا {أَبَداً رَّضِيَ الله عَنْهُمْ} بإيمَانهمْ وعملهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} بالثواب والكرامة {ذَلِك} الَّذِي ذكرت من الخلود والرضوان {الْفَوْز الْعَظِيم} النجَاة الوافرة فازوا بِالْجنَّةِ ونجوا من عَذَاب النَّار(1/105)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض خَزَائِن السَّمَوَات الْمَطَر وَالْأَرْض النَّبَات وَالثِّمَار وَغير ذَلِك {وَمَا فِيهِنَّ} من الْخلق والعجائب {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ} من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب {قَدِيرٌ} فاحمدوا الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض
وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا الْأَنْعَام وَهِي مَكِّيَّة نزلت جملَة وَاحِدَة غير خمس آيَات مِنْهَا مدنيات {قل تَعَالَوْا أتل مَا حرم ربكُم} إِلَى آخر الثَّلَاثَة وَقَوله {وَمَا قدرُوا الله} إِلَى آخِره وَقَوله {وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا} إِلَى آخر الْآيَة هَؤُلَاءِ خمس آيَات نزلت بِالْمَدِينَةِ آياتها مائَة وست وَعِشْرُونَ وكلماتها ثَلَاثَة آلَاف وَخَمْسُونَ وحروفها اثْنَا عشر ألفا وَأَرْبَعمِائَة وَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم(1/105)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
! وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {الْحَمد للَّهِ} يَقُول الشُّكْر والألوهية لله {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات} فِي يَوْمَيْنِ يَوْم الْأَحَد وَيَوْم الِاثْنَيْنِ {وَالْأَرْض} فِي يَوْمَيْنِ يَوْم الثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء {وَجَعَلَ الظُّلُمَات والنور} خلق الْكفْر وَالْإِيمَان أَو اللَّيْل وَالنَّهَار {ثْمَّ الَّذين كَفَرُواْ} كفار مَكَّة {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} بِهِ الْأَصْنَام(1/105)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ} من آدم وآدَم من طين {ثُمَّ قضى أَجَلاً} خلق الدُّنْيَا وَجعل أجلهَا إِلَى الفناء وَخلق الْخلق وَجعل آجالهم إِلَى الْمَوْت {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} أجل الْآخِرَة مَعْلُوم عِنْد الله بِلَا موت وَلَا فنَاء {ثُمَّ أَنتُمْ} يَا أهل مَكَّة {تمترون} تشكون بِاللَّه وبالبعث بعد الْمَوْت(1/105)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
{وَهُوَ الله فِي السَّمَاوَات} وَهُوَ إِلَه من فِي السَّمَوَات {وَفِي الأَرْض} وإله من فِي الأَرْض {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} يَقُول يعلم السِّرّ وَالْعَلَانِيَة مِنْكُم {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} مَا تَعْمَلُونَ من الْخَيْر وَالشَّر(1/105)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
{وَمَا تَأْتِيهِم} يَعْنِي أهل مَكَّة {مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} مثل انكساف الشَّمْس وانشقاق الْقَمَر والنجوم {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا} عَن الْآيَة {مُعْرِضِينَ} مكذبين بهَا(1/105)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
{فَقَدْ كَذَّبُواْ} يَعْنِي(1/105)
أهل مَكَّة {بِالْحَقِّ} بِالْقُرْآنِ وَالْآيَة {لَمَّا جَآءَهُمْ} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهما {فَسَوْفَ} وَهَذَا وَعِيد لَهُم {يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يستهزؤون} خبر استهزائهم وعقوبة استهزائهم يَوْم بدر وَيَوْم أحد وَيَوْم الْأَحْزَاب(1/106)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
{أَلَمْ يَرَوْاْ} ألم يخبر أهل مَكَّة فِي الْقُرْآن {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} من الْأُمَم الخالية {مَّكَّنَّاهُمْ} ملكناهم وأمهلناهم {فِي الأَرْض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} مَا لم نملككم ونمهلكم يَا أهل مَكَّة {وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً} مَطَرا دَائِما دريراً كلما احتاجوا إِلَيْهِ {وَجَعَلْنَا الْأَنْهَار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} من تَحت بساتينهم وزروعهم وشجرهم {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} بتكذيبهم الْأَنْبِيَاء {وَأَنْشَأْنَا} خلقنَا {مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً} قوما {آخَرِينَ} خيرا مِنْهُم(1/106)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً} لَو نزلنَا جِبْرِيل عَلَيْك بِالْقُرْآنِ جملَة {فِي قِرْطَاسٍ} فِي صحيفَة كَمَا سَأَلَك عبد الله بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي وَأَصْحَابه {فلمسوه بِأَيْدِيهِم} فَأَخَذُوهُ وقرءوه {لَقَالَ الَّذين كَفَرُواْ} يَعْنِي عبد الله بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي {إِن هَذَا} مَا هَذَا {إِلَّا سحر مُبين} كذب بَين(1/106)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
{وَقَالُواْ} يَعْنِي عبد الله بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي {لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} هلا أنزل عَلَيْهِ ملك فَيشْهد لَهُ بِمَا يَقُول {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً} كَمَا سألوك {لَّقُضِيَ الْأَمر} نزل بعذابهم وَقبض أَرْوَاحهم وَيُقَال فرغ من هلاكهم {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} لَا يؤجلون(1/106)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ} يَعْنِي الرَّسُول {مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} فِي صُورَة رجل آدَمِيّ حَتَّى يقدروا أَن ينْظرُوا إِلَيْهِ {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم} على الْمَلَائِكَة {مَّا يَلْبِسُونَ} مثل مَا يلبسُونَ من الثِّيَاب وَيُقَال وللبسنا عَلَيْهِم خلطنا عَلَيْهِم صُورَة الْملك مَا يلبسُونَ كَمَا يخلطون على أنفسهم صفة مُحَمَّد ونعته(1/106)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} اسْتَهْزَأَ بهم قَومهمْ كَمَا اسْتَهْزَأَ بك قَوْمك {فَحَاقَ} فَوَجَبَ وَنزل وَدَار {بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ} من الْكفَّار {مَا كَانُوا بِهِ يستهزؤون} عُقُوبَة استهزائهم(1/106)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {سِيرُواْ} سافروا {فِي الأَرْض ثُمَّ انْظُرُوا} وتفكروا {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} كَيفَ صَار آخر أَمر المكذبين بِاللَّه وَالرسل(1/106)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
{قُل} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} من الْخلق فَإِن أجابوك وَإِلَّا {قُل لِلَّهِ} خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرَّحْمَة} أوجب على نَفسه الرَّحْمَة لأمة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِتَأْخِير الْعَذَاب {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} وَالله ليجمعنكم {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة} ليَوْم الْقِيَامَة {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لَا شكّ فِيهِ {الَّذين خسروا} غبنوا {أَنفُسَهُمْ} ومنازلهم وخدمهم وأزواجهم فِي الْجنَّة {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن وَنزل فِي مقالتهم فِي مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ارْجع إِلَى ديننَا حَتَّى نغنيك ونزوجك ونعزك ونملكك على أَنْفُسنَا(1/106)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْل وَالنَّهَار} مَا اسْتَقر فِي وَطنه فِي اللَّيْل وَالنَّهَار {وَهُوَ السَّمِيع} لمقالتهم {الْعَلِيم} بعقوبتهم وبأرزاق الْخلق(1/106)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لَهُم {أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} أعبد رَبًّا {فَاطِرِ السَّمَاوَات} خَالق السَّمَوَات {وَالْأَرْض وَهُوَ يُطْعِمُ} يرْزق الْعباد {وَلاَ يُطْعَمُ} لَا يرْزق وَيُقَال لَا يعان على الترزيق {قُلْ} يَا مُحَمَّد لكفار مَكَّة {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أول من يكون على الْإِسْلَام وَيُقَال أول من أخْلص بِالْعبَادَة والتوحيد لله من أهل زَمَانه {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْركين} مَعَ الْمُشْركين على دينهم(1/106)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنِّي أَخَافُ} أعلم {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} وعبدت غَيره وَرجعت إِلَى دينكُمْ {عَذَاب يَوْم عَظِيم} عذَابا عَظِيما(1/106)
افي يَوْم عَظِيم وَيُقَال عذَابا فِي يَوْم عَظِيم(1/107)
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ} الْعَذَاب {يَوْمَئِذٍ} يَوْم الْقِيَامَة {فَقَدْ رَحِمَهُ} عصمه وَغفر لَهُ {وَذَلِكَ} الغفران {الْفَوْز الْمُبين} النجَاة الوافرة(1/107)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
{وَإِن يَمْسَسْكَ الله} يصبك الله {بِضُرٍّ} بِشدَّة وفقر {فَلاَ كَاشِفَ لَهُ} فَلَا رَافع لَهُ {إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ} يصبك {بِخَيْرٍ} بِنِعْمَة وغنى {فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ} من الشدَّة والفقر وَالنعْمَة والغنى {قَدُيرٌ}(1/107)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
{وَهُوَ القاهر} الْغَالِب {فَوْقَ عِبَادِهِ} على عباده {وَهُوَ الْحَكِيم} فِي أمره وقضائه {الْخَبِير} بخلقه وبأعمالهم(1/107)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
ثمَّ نزلت فِي مقالتهم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ائتنا بِشَهِيد يشْهد أَنَّك نَبِي {قُلْ} يَا مُحَمَّد لَهُم {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ} أعدل وأرضى {شَهَادةً} فَإِن أجابوك وَإِلَّا {قُلِ الله شَهِيدٌ بيني وَبَيْنكُم} بِأَنِّي رَسُوله وَهَذَا الْقُرْآن كَلَامه {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآن} أنزل إِلَى جِبْرِيل بِهَذَا الْقُرْآن {لأُنذِرَكُمْ بِهِ} لأخوفكم بِالْقُرْآنِ {وَمَن بَلَغَ} إِلَيْهِ خبر الْقُرْآن فَأَنا نَذِير لَهُ {أَئِنَّكُمْ} يَا أهل مَكَّة {لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أُخْرَى} يَعْنِي الْأَصْنَام تَقولُونَ إِنَّهَا بِنَا الله فَإِن شهدُوا على ذَلِك {قُل لاَّ أَشْهَدُ} مَعكُمْ {قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِدٌ} إِنَّمَا الله إِلَه وَاحِد {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} بِهِ من الْأَصْنَام فِي الْعِبَادَة(1/107)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
{الَّذين آتَيْنَاهُمُ الْكتاب} أعطيناهم علم التَّوْرَاة يَعْنِي عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه {يَعْرِفُونَهُ} يعْرفُونَ مُحَمَّد بِصفتِهِ ونعته {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ} يَعْنِي الغلمان {الَّذين خسروا أنفسهم} غبنوا أنفسهم بذهاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة يَعْنِي كَعْب بن الْأَشْرَف وَأَصْحَابه {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن(1/107)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أجرا {مِمَّنِ افترى} اختلق {عَلَى الله كَذِباً} فأشركه بآلهة شَتَّى {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} لَا ينجو وَلَا يَأْمَن {الظَّالِمُونَ} الْكَافِرُونَ وَالْمُشْرِكُونَ من عَذَاب الله(1/107)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} كَافَّة النَّاس يَوْم الْقِيَامَة {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} بِاللَّه الْآلهَة {أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ} آلِهَتكُم {الَّذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} تَعْبدُونَ وتقولون إِنَّهُم شفعاؤكم(1/107)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} عذرهمْ وجوابهم {إِلاَّ أَن قَالُواْ} إِلَّا قَوْلهم {وَالله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين(1/107)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{انْظُر} يَا مُحَمَّد وَيُقَال يَقُول للْمَلَائكَة {كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} كَيفَ أوجبوا عُقُوبَة كذبهمْ على أنفسهم {وَضَلَّ عَنْهُمْ} اشْتغل عَنْهُم بأنفهسم {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يعْبدُونَ بِالْكَذِبِ وَيُقَال بَطل افتراؤهم(1/107)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} يَقُول من أهل مَكَّة من يستمع إِلَى كلامك وحديثك مِنْهُم أَبُو سُفْيَان بن حَرْب والوليد بن الْمُغيرَة وَالنضْر بن الْحَارِث وَعتبَة وَشَيْبَة ابْنا ربيعَة وَأُميَّة وَأبي ابْنا خلف والحرث بن عَامر {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطية {أَن يَفْقَهُوهُ} لكَي لَا يفقهوا كلامك وحديثك {وَفِي آذانهم وقرا} صمما لكَي لَا يسمعوا الْحق وَالْهدى وَيُقَال ثقلاً عَن الْهدى أَن يعقلوه {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ} طلبوها مِنْك {لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} طلب مِنْهُ حَارِث بن عَامر {حَتَّى إِذا جاؤوك} جَاءُوا إِلَيْك {يُجَادِلُونَكَ} يَسْأَلُونَك مَاذَا أنزل من الْقُرْآن فَإِذا أَخْبَرتهم {يَقُولُ الَّذين كفرُوا} يَعْنِي النَّضر بن الْحَارِث {إِنْ هَذَا} مَا هَذَا الَّذِي يَقُول مُحَمَّد {إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلين} كذب الْأَوَّلين وأحاديثهم(1/107)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} وَهُوَ أَبُو جهل وَأَصْحَابه ينهون عَنهُ عَن مُحَمَّد وَالْقُرْآن {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} يمْنَعُونَ عَنهُ ويتباعدون وَيُقَال هُوَ أَبُو طَالب كَانَ ينْهَى النَّاس عَن أَذَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يُتَابِعه {وَإِن يُهْلِكُونَ} مَا يهْلكُونَ(1/107)
{إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} مَا يعلمُونَ أَن أوزار الَّذين يصدونهم عَنهُ هِيَ عَلَيْهِم(1/108)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
{وَلَوْ ترى} يَا مُحَمَّد {إِذْ وُقِفُواْ} حبسوا {على النَّار فَقَالُوا يَا ليتنا نُرَدُّ} إِلَى الدُّنْيَا {وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} بالكتب وَالرسل {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤمنِينَ} مَعَ الْمُؤمنِينَ فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة(1/108)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
{بَلْ بَدَا لَهُمْ} ظهر لَهُم عُقُوبَة {مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ} يسرون من الْكفْر والشرك {مِن قبل} فِي الدِّينَا {وَلَوْ رُدُّواْ} إِلَى الدُّنْيَا كَمَا سَأَلُوا {لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} من الْكفْر والشرك {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} لأَنهم لَو ردوا لم يُؤمنُوا بِهِ(1/108)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
{وَقَالُوا} يَعْنِي كفار مَكَّة {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} أَي مَا حياتنا إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعد الْمَوْت(1/108)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
{وَلَوْ ترى} يَا مُحَمَّد {إِذْ وُقِفُواْ} يَقُول حبسوا {على رَبِّهِمْ} عِنْد رَبهم {قَالَ} الله لَهُم وَيُقَال تَقول لَهُم الْمَلَائِكَة {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} أَلَيْسَ هَذَا الْعَذَاب والبعث بعد الْمَوْت حق {قَالُواْ بلَى وَرَبِّنَا} إِنَّه لحق كَمَا قَالَت الرُّسُل {قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} تجحدون بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت(1/108)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
{قَدْ خَسِرَ} قد غبن {الَّذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت يَقُول أنظرهم {حَتَّى إِذا جَاءَتْهُم السَّاعَة بَغْتَة} فَجْأَة {قَالُوا يَا حسرتنا} يَا حزناه أَو يَا ندامتاه {على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} تركنَا فِي الدُّنْيَا يَعْنِي الْإِيمَان وَالتَّوْبَة {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ} آثامهم {على ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} بئس مَا يحملون من الذُّنُوب(1/108)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
{وَمَا الْحَيَاة الدنيآ} مَا فِي الدُّنْيَا من الزهرة وَالنَّعِيم {إِلاَّ لَعِبٌ} فَرح {وَلَهْوٌ} بَاطِل {وَلَلدَّارُ الْآخِرَة} يَعْنِي الْجنَّة {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أَن الدُّنْيَا فانية وَالْآخِرَة بَاقِيَة(1/108)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} يَا مُحَمَّد {الَّذِي يَقُولُونَ} من الطعْن والتكذيب وَطلب الْآيَة {فَإِنَّهُمْ} يَعْنِي حَارِث بن عَامر وَأَصْحَابه {لاَ يُكَذِّبُونَكَ} فِي السِّرّ {وَلَكِن الظَّالِمين} الْمُشْركين {بِآيَاتِ الله} فِي الْعَلَانِيَة {يَجْحَدُونَ}(1/108)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
{وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} كذبهمْ قَومهمْ كَمَا كَذبك قَوْمك {فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ} على مَا كذبهمْ قَومهمْ {وَأُوذُواْ} وصبروا على أَذَى قَومهمْ {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} بِهَلَاك قَومهمْ {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله} لَا مغير لكلمات الله بالنصرة لأوليائه على أعدائه {وَلَقدْ جَآءَكَ} يَا مُحَمَّد {مِن نَّبَإِ} خبر {الْمُرْسلين} كَيفَ كذبهمْ قَومهمْ كَمَا كَذبك قَوْمك فصبروا على ذَلِك(1/108)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
{وَإِن كَانَ كَبُر} عظم {عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} تكذيبهم {فَإِن اسْتَطَعْت} قدرت (أَن تَبْتَغِيَ) أَن تطلب {نَفَقاً} سرباً {فِي الأَرْض} فَتدخل فِيهِ {أَوْ سُلَّماً فِي السمآء} أَو سَببا وطريقاً تصعد فِيهِ إِلَى السَّمَاء {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} يَقُول تنزل بِالْآيَةِ الَّتِي طلبوها فلتفعل {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهدى} على التَّوْحِيد {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلين} بمقدوري عَلَيْهِم بالْكفْر(1/108)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} يُؤمن ويطيع {الَّذين يَسْمَعُونَ} يصدقون وَيُقَال يعْقلُونَ الموعظة {والموتى} يَعْنِي موتى يَوْم بدر وَيَوْم أحد وَيَوْم الْأَحْزَاب وَيُقَال الْمَوْتَى الْقُلُوب {يَبْعَثُهُمُ الله} بعد الْمَوْت {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} فِي الْمَحْشَر فيجزيهم بأعمالهم(1/108)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
{وَقَالُوا} يَعْنِي كفار مَكَّة حَارِث بن عمامر وَأَصْحَابه وَأَبُو جهل بن هِشَام والوليد بن الْمُغيرَة وَأُميَّة وَأبي ابْنا خلف وَالنضْر بن الْحَارِث {لَوْلاَ} هلا {نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} عَلامَة {مِّن رَّبِّهِ} لنبوته {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً} كَمَا طلبُوا {وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} مَا لَهُم علم فنزولها(1/108)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْض وَلاَ طَائِرٍ يطير بجناحيه}(1/108)
بَين السَّمَاء وَالْأَرْض {إِلاَّ أُمَمٌ} خلق عبيد {أَمْثَالُكُمْ} أَي مَخْلُوق أشباهكم فِي الْأكل وَالْجِمَاع يفقه بَعْضهَا عَن بعض كَمَا يفقه بَعْضكُم عَن بعض آيَة لكم {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكتاب} مَا تركنَا من الَّذِي كتبنَا فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ {مِن شَيْءٍ} شَيْئا إِلَّا ذَكرْنَاهُ فِي الْقُرْآن {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ} يَعْنِي الطُّيُور وَالدَّوَاب {يُحْشَرُونَ} مَعَ سَائِر الْخلق يَوْم الْقِيَامَة(1/109)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
{وَالَّذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {صُمٌّ} بالقلوب وَيُقَال يتصاممون عَن الْحق {وَبُكْمٌ} يتباكمون عَن الْحق وَالْهدى {فِي الظُّلُمَات} أَي هم على الْكفْر {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} يمته على الْكفْر {وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ} يمته {على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} على طَرِيق قَائِم يرضيه وَيُقَال من يَشَأْ الله يضلله يتْركهُ مخذولاً وَمن يَشَأْ يَجعله يهده ويوفقه ويثبته على صِرَاط مُسْتَقِيم على طَرِيق قَائِم يرضاه وَهُوَ الْإِسْلَام(1/109)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} مَا تَقولُونَ يَا أهل مَكَّة {إِن أَتَاكُم عَذَاب الله} يَوْم بَدْرًا أَو يَوْم أحد أَو يَوْم الْأَحْزَاب {أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَة} أَو يأتيكم الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة {أغير الله تدعون} بكشف العذبا {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أجِيبُوا إِن كُنْتُم صَادِقين أَن الْأَصْنَام شركاؤه(1/109)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} إِلَيْهِ الَّذِي تدعون أَي أَنهم لَا يدعونَ غير الله وَإِنَّمَا يدعونَ الله عز وَجل ليكشف عَنْهُم الْعَذَاب {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ} تتركون {مَا تُشْرِكُونَ} بِهِ من الْأَصْنَام فَلَا تدعونهم(1/109)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
{وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ} كَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَى قَوْمك {فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء} بالخوف بَعضهم من بعض والبلايا والشدائد إِذْ لم يُؤمنُوا {والضرآء} الْأَمْرَاض والأوجاع والجوع {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} لكَي يَدْعُو ويؤمنوا فأكشف عَنْهُم الْعَذَاب(1/109)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
{فلولا} فَهَلا {إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا} عذابنا {تَضَرَّعُواْ} آمنُوا {وَلَكِن قَسَتْ} جَفتْ ويبست {قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} فِي كفرهم أَن حَال الدُّنْيَا هَكَذَا تكون شدَّة ثمَّ نعْمَة(1/109)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
{فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ} تركُوا مَا أمروا بِهِ فِي الْكتاب {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} من الزهرة وَالْخصب وَالنَّعِيم {حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ} أعجبوا {بِمَآ أُوتُوا} أعْطوا من الزهرة وَالْخصب وَالنَّعِيم {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} فَجْأَة بِالْعَذَابِ {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} آيسون من كل خير(1/109)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
{فَقُطِعَ دَابِرُ} غَايَة {الْقَوْم الَّذين ظَلَمُواْ} أشركوا أَي استؤصلوا بِالْهَلَاكِ {وَالْحَمْد للَّهِ} قل الْحَمد لله وَالشُّكْر لله {رَبِّ الْعَالمين} على استئصالهم(1/109)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ} مَا تَقولُونَ يَا أهل مَكَّة {إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ} فَلم تسمعوا موعظة وَلَا هدى {وَأَبْصَارَكُمْ} فَلم تبصروا الْحق {وَخَتَمَ} طبع {على قُلُوبِكُمْ} فَلم تعقلوا الْحق وَالْهدى {مَّنْ إِلَه غَيْرُ الله} يَعْنِي الْأَصْنَام {يَأْتِيكُمْ بِهِ} بِمَا أَخذ الله مِنْكُم {انْظُر} يَا مُحَمَّد {كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَات} نبين الْقُرْآن لَهُم {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} يعرضون يكذبُون الْآيَات(1/109)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} يَا أهل مَكَّة {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً} فَجْأَة {أَوْ جَهْرَةً} مُعَاينَة {هَلْ يُهْلَكُ} بِالْعَذَابِ {إِلاَّ الْقَوْم الظَّالِمُونَ} العاصون لما أمروا بِهِ وَيُقَال الْمُشْركُونَ(1/109)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ} بِالْجنَّةِ لمن آمن بِهِ {ومنذرين} من النَّار لم كفر {فَمَنْ آمَنَ} بالرسل والكتب {وَأَصْلَحَ} فِيمَا بَينه وَبَين ربه {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} إِذا خَافَ أهل النَّار {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} إِذا حزنوا(1/109)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
{وَالَّذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {يَمَسُّهُمُ الْعَذَاب} يصيبهم الْعَذَاب {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} يكفرون بِمُحَمد وَالْقُرْآن(1/109)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
{قُل} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ} مَفَاتِيح خَزَائِن {الله} من النَّبَات وَالثِّمَار والأمطار وَالْعَذَاب {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْب} من نزُول الْعَذَاب(1/109)
{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} من السَّمَاء {إِنْ أَتَّبِعُ} مَا أعمل شَيْئا وَلَا أَقُول {إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ} إِلَّا مَا أمرت فِي الْقُرْآن {قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير} الْكَافِر وَالْمُؤمن فِي الطَّاعَات وَالثَّوَاب {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} فِي أَمْثَال الْقُرْآن نزلت هَذِه الْآيَة من قَوْله {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ} إِلَى هَهُنَا فِي أبي جهل وَأَصْحَابه الْحَارِث وعيينة(1/110)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
ثمَّ نزل فِي الموَالِي {وَأَنذِرْ بِهِ} خوف بِالْقُرْآنِ وَيُقَال بِاللَّه {الَّذين يَخَافُونَ} يعلمُونَ ويستيقنون مِنْهُم بِلَال ابْن رَبَاح وصهيب بن سِنَان وَمهجع بن صَالح وعمار بن يَاسر وسلمان الْفَارِسِي وعامر بن فهَيْرَة وخباب بن الْأَرَت وَسَالم مولى أبي حُذَيْفَة {أَن يحْشرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} بعد الْمَوْت {لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ} حَافظ يحفظهم {وَلاَ شَفِيعٌ} يشفع لَهُم وينجيهم من الْعَذَاب غير الله {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} لكَي يتقوا الْمعاصِي وَيكون عوناً لَهُم فِي الطَّاعَة(1/110)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
{وَلاَ تَطْرُدِ} يَا مُحَمَّد بقول عُيَيْنَة بن حصن الْفَزارِيّ حَيْثُ قَالَ اطرد هَؤُلَاءِ عَنْك حَتَّى يَجِيء إِلَيْك أَشْرَاف قَوْمك ويسمعوا كلامك ويؤمنوا بك وطلبوا أَيْضا من عمر أَن يَقُول للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْعَل مجلسك يَوْمًا لنا وَيَوْما لَهُم فَلم يرض الله بذلك ونهاهم عَن ذَلِك فَقَالَ وَلَا تطرد {الَّذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} يَعْنِي سلمَان وَأَصْحَابه من الموَالِي يعْبدُونَ رَبهم {بِالْغَدَاةِ والعشي} غدْوَة وَعَشِيَّة بالصلوات الْخمس {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} يُرِيدُونَ بذلك وَجه الله وَرضَاهُ {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم} من مؤنتهم {مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ} من مؤنتك {عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ} لَا تطردهم {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمين} من الضارين بِنَفْسِك(1/110)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
{وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {فَتَنَّا} ابتلينا {بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} الْعَرَبِيّ بالمولى والشريف بالوضيع نزلت هَذِه الْآيَة فِي عُيَيْنَة بن حصن الْفَزارِيّ وَعتبَة وَشَيْبَة ابْني ربيعَة وَأُميَّة بن خلف الجُمَحِي والوليد بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي وَأبي جهل بن هِشَام وَسُهيْل بن عَمْرو وأشباههم من الرؤساء ابتلوا بِالْمَوَالِي {لِيَقُولُوا} لكَي يَقُول يَعْنِي عُيَيْنَة بن حصن الْفَزارِيّ وَأَصْحَابه {أَهَؤُلَاءِ} لسلمان وَأَصْحَابه {مَنَّ الله عَلَيْهِم} بِالْإِيمَان {مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} بِالْمُؤْمِنِينَ لمن كَانَ أَهلا لذَلِك(1/110)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
{وَإِذَا جَآءَكَ الَّذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} بكتابنا ورسولنا عمر بن الْخطاب {فَقُلْ} يَا مُحَمَّد {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} قبل ربكُم توبتكم وعذركم {كَتَبَ رَبُّكُمْ} أوجب ربكُم {على نَفْسِهِ الرَّحْمَة} لمن تَابَ {أَنه من عمل مِنْكُم سوءا} ذَنبا {بِجَهَالَةٍ} بتعمد وَإِن كَانَ جَاهِلا بعقوبته {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} من بعد السوء {وَأَصْلَحَ} فِيمَا بَينه وَبَين ربه {فَأَنَّهُ غَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} لمن تَابَ(1/110)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
{وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {نفَصِّلُ الْآيَات} نبين الْقُرْآن بِالْأَمر وَالنَّهْي وخبرهم {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرمين} طَرِيق الْمُشْركين عُيَيْنَة وَأَصْحَابه لم لَا يُؤمنُونَ(1/110)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لعيينة وَأَصْحَابه {إِنِّي نُهِيتُ} فِي الْقُرْآن {أَنْ أَعْبُدَ الَّذين تَدْعُونَ} تَعْبدُونَ {مِن دُونِ الله} من الْأَوْثَان {قُلْ} يَا مُحَمَّد لعيينة وَأَصْحَابه {لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ} فِي عبَادَة الْأَصْنَام وطرد سلمَان وَأَصْحَابه عني {قَدْ ضَلَلْتُ} عَن الْهدى {إِذاً} إِن فعلت ذَلِك {وَمَآ أَنَاْ مِنَ المهتدين} للصَّوَاب بعملي إِن طردتهم(1/110)
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد للنضر بن الْحَارِث وَأَصْحَابه {إِنِّي على بَيِّنَة من رَبِّي} على بَيَان من رَبِّي وبصيرة من أَمْرِي وديني {وَكَذَّبْتُم بِهِ} بِالْقُرْآنِ والتوحيد {مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من الْعَذَاب {إِن الحكم} مَا الحكم بنزول الْعَذَاب {إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحق} يحكم بِالْعَدْلِ وَيَأْمُر بِالْحَقِّ {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} أفضل(1/110)
القاضين {قُل} يَا مُحَمَّد(1/111)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
{لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من الْعَذَاب {لَقُضِيَ الْأَمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} لفرغ من هلاككم {وَالله أَعْلَمُ بالظالمين} بعقوبة الْمُشْركين النَّضر وَأَصْحَابه فَوَقع بالنضر بن الْحَارِث الْعَذَاب الَّذِي سَأَلَ فَقتل صبرا يَوْم بدر(1/111)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْب} خَزَائِن الْغَيْب الْمَطَر والنبات وَالثِّمَار ونزول الْعَذَاب الَّذِي تَسْتَعْجِلُون بِهِ يَوْم بدر {لاَ يَعْلَمُهَآ} لَا يعلم مفاتح الْغَيْب بنزول الْعَذَاب الَّذِي تَسْتَعْجِلُون بِهِ {إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبر وَالْبَحْر} من الْخلق والعجائب وَيُقَال وَيعلم مَا يهْلك فِي الْبر وَالْبَحْر {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ} من الشّجر {إِلاَّ يَعْلَمُهَا} كم دوران تَدور {وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْض} تَحت الصَّخْرَة الَّتِي أَسْفَل الْأَرْضين إِلَّا يعلمهَا {وَلاَ رَطْبٍ} يَعْنِي المَاء {وَلاَ يَابِسٍ} يَعْنِي الْبَادِيَة {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} مَكْتُوب {مُّبِينٍ} كل ذَلِك فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ مُبين مقدارها ووقتها(1/111)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ} يقبض أرواحكم فِي الْمَنَام {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم} مَا كسبتم {بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ} يرد إِلَيْكُم أرواحكم {فِيهِ} فِي النَّهَار {ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى} لكَي يتم أجلهَا وَرِزْقهَا {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} بعد الْمَوْت {ثُمَّ يُنَبِّئُكُم} يُخْبِركُمْ {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر(1/111)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
{وَهُوَ القاهر} الْغَالِب {فَوْقَ عِبَادِهِ} على عباده {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} من الْمَلَائِكَة ملكَيْنِ بِالنَّهَارِ وملكين بِاللَّيْلِ يَكْتُبُونَ حسناتكم وسيئاتكم {حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْت} حَضَره الْمَوْت {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} قَبضه ملك الْمَوْت وأعوانه {وَهُمْ} يَعْنِي ملك الْمَوْت وأعوانه {لاَ يُفَرِّطُونَ} لَا يؤخرون الْمَيِّت طرفَة عين(1/111)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
{ثُمَّ ردوا إِلَى الله} يَوْم الْقِيَامَة {مَوْلاَهُمُ الْحق} وليهم بالثواب وَالْعِقَاب بِالْحَقِّ وَالْعدْل وَيُقَال مَوْلَاهُم الْحق معبودهم بِالْحَقِّ وَلَكِن لم يعبدوه بِالْحَقِّ غَايَة عِبَادَته وكل معبود غير الله بَاطِل {أَلاَ لَهُ الحكم} الْقَضَاء بَين الْعباد وَيَوْم الْقِيَامَة {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} إِذا حاسب فحسابه سريع(1/111)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لكفار مَكَّة {مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبر وَالْبَحْر} من شَدَائِد الْبر وَالْبَحْر وأهوالهما {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} سرا وَعَلَانِيَة وَإِن قَرَأت بجر الْخَاء وَتَقْدِيم الْيَاء من الْفَاء يَقُول مستكيناً وخوفاً {لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِه} الْأَهْوَال والشدائد {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} من الْمُؤمنِينَ(1/111)
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
{قُلِ} يَا مُحَمَّد لَهُم {الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا} من شَدَائِد الْبر وَالْبَحْر {وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} غم وهول {ثُمَّ أَنتُمْ} يَا أهل مَكَّة {تُشْرِكُونَ} بِهِ الْأَصْنَام(1/111)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لَهُم {هُوَ الْقَادِر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} كَمَا بعث على قوم نوح وَقوم لوط {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يخسف بكم الأَرْض كَمَا خسف بقارون {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أهواء مُخْتَلفَة كَمَا كَانَت فِي بني إِسْرَائِيل بعد النَّبِيين {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} بِالسَّيْفِ {انْظُر} يَا مُحَمَّد {كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَات} نبين الْقُرْآن بأخبار الْأُمَم الْمَاضِيَة وَمَا فعلنَا بهم {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} لكَي يفقهوا أَمر الله وتوحيده(1/111)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
{وَكَذَّبَ بِهِ} بِالْقُرْآنِ {قَوْمُكَ} قُرَيْش {وَهُوَ الْحق} يعين الْقُرْآن {قُل} يَا مُحَمَّد {لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بكفيل أَن أؤديكم إِلَى الله مُؤمنين(1/111)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
{لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} لكل قَول من الله ومني من الْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد والبشرى بالنصرة وَالْعَذَاب مُسْتَقر فعل وَحَقِيقَة مِنْهُ مَا يكون فِي الدُّنْيَا وَمِنْه مَا يكون فِي الْآخِرَة {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ذَلِك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَيُقَال لكل نبأ مُسْتَقر لكل قَول وَفعل مِنْكُم حَقِيقَة وَحَقِيقَة ذَلِك فِي الْقلب وسوف تعلمُونَ مَاذَا يفعل بكم(1/111)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
{وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا} يستهزؤن بك وَبِالْقُرْآنِ {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} فاترك مجَالِسهمْ {حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره} كي يكون خوفهم وحديثهم فِي غير الْقُرْآن والاستهزاء بك {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَان} بعد النَّهْي {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى} بعد مَا ذكرت {مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين} الْمُشْركين أَمر الله نبيه بذلك إِذْ كَانَ بِمَكَّة فشق على أَصْحَابه ذَلِك(1/112)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
فَرخص لَهُم بعد ذَلِك بِالْجُلُوسِ مَعَهم للعظة وَالنَّهْي فَقَالَ {وَمَا عَلَى الَّذين يَتَّقُونَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش والاستهزاء {مِنْ حِسَابِهِم} من مأثمهم وَالْكفْر والاستهزاء بهم {مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذكرى} ذكروهم بِالْقُرْآنِ {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش والاستهزاء بِالْقُرْآنِ وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/112)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{وَذَرِ الَّذين اتَّخذُوا دِينَهُمْ} يَعْنِي الْيَهُود) وَالنَّصَارَى ومشركي الْعَرَب اتَّخذُوا دين آبَائِهِم الْمُؤمنِينَ {لَعِباً} ضحكة {وَلَهْواً} استهزاء وَيُقَال دينهم عِنْدهم لعباً ولهواً فَرحا وباطلاً {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاة الدُّنْيَا} مَا فِي الدُّنْيَا من الزهرة وَالنَّعِيم {وَذَكِّرْ بِهِ} عظ بِالْقُرْآنِ وَيُقَال بِاللَّه {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ} لكَي لَا تهْلك وَلَا توهن وَلَا تعذب نفس {بِمَا كسبت} من للذنوب {لَيْسَ لَهَا} للنَّفس {مِن دُونِ الله} من عَذَاب الله {وَلِيٌّ} قريب يدْفع عَنْهَا {وَلاَ شَفِيعٌ} يشفع لَهَا {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} أَن تَجِيء بِكُل من على وَجه الأَرْض {لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} لَا يقبل من النَّفس {أُولَئِكَ} المستهزئون {الَّذين أُبْسِلُواْ} أهلكوا وأوهنوا وعذبوا وهم عُيَيْنَة وَالنضْر وأصحابهما {بِمَا كَسَبُواْ} من الذُّنُوب {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} مَاء حَار يغلي قد انْتهى حره {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن(1/112)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
{قل} يَا مُحَمَّد لعيينة وَأَصْحَابه {أندعو} تأمروننا أَن تعبد {مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا} أَن عبدناه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة {وَلاَ يَضُرُّنَا} إِن لم نعبده فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة {وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا} نرْجِع وَرَاءَنَا إِلَى الشّرك {بَعْدَ إِذْ هدَانَا الله} يدينه أكرامنا بِدِينِهِ {كَالَّذي} فَيكون مثلنَا كَالَّذي {استهوته} استزلته {الشَّيَاطِين فِي الأَرْض حَيْرَانَ} ضَالًّا عَن الْهدى {لَهُ أَصْحَابٌ} لعيينة أَصْحَاب وهم أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهدى} إِلَى الْإِسْلَام {ائتنا} أَطعْنَا وَهُوَ يَدعُوهُم يَعْنِي عُيَيْنَة إِلَى الشّرك وَيُقَال نزلت هَذِه الْآيَة فِي أبي بكر الصّديق وَابْنه عبد الرَّحْمَن وَكَانَ يَدْعُو أَبَوَيْهِ إِلَى دينه قبل أَن يسلم فَقَالَ الله لنَبيه قُلْ يَا مُحَمَّد لأبي بكر حَتَّى يَقُول لِابْنِهِ عبد الرَّحْمَن أتدعو تَأْمُرنَا يَا عبد الرَّحْمَن أَن نعْبد من دون الله مَا لَا ينفعنا فِي الدُّنْيَا فِي الرزق والمعاش وَلَا فِي الْآخِرَة إِن عبدناه وَلَا يضرنا إِن لم نعبده ونرد على أعقابنا نرْجِع إِلَى ديننَا الأول بعد إِذا هدَانَا الله لدين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَالَّذي فَيكون مثلناكمثل عبد الرَّحْمَن استهوته استزلته الشَّيَاطِين عَن دين الله فِي الأَرْض حيران ضَالًّا عَن الْهدى لَهُ لعبد الرَّحْمَن أَصْحَاب أَبَوَاهُ أَبُو بكر وَأمه يَدعُونَهُ إِلَى الْهدى أَي يَدعُونَهُ إِلَى الْإِسْلَام وَالتَّوْبَة وَهُوَ يَعْنِي عبد الرَّحْمَن يدعوهما إِلَى الشّرك ويقولان لَهُ أَي أَبَوَاهُ ائتنا أَطعْنَا بِالْإِسْلَامِ {قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنَّ هُدَى الله هُوَ الْهدى} إِن دين الله هُوَ الْإِسْلَام وقبلتنا هِيَ الْكَعْبَة {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} لنخلص بِالْعبَادَة والتوحيد {لِرَبِّ الْعَالمين} لله رب الْعَالمين(1/112)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
{وَأَن أقِيمُوا الصَّلَاة} أَتموا الصلوة الْخمس {واتقوه} وأطيعوه {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} بعد الْمَوْت فيجزيكم بأعمالكم(1/112)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ} لتبيان الْحق(1/112)
وَالْبَاطِل وَيُقَال الفناء والزوال {وَيَوْمَ يَقُولُ} للصور {كُن فَيَكُونُ} يَعْنِي تصير السَّمَوَات صوراً ينْفخ فِيهِ مثل الْقرن وتبدل سَمَاء أُخْرَى وَيُقَال يَوْم كن يَعْنِي ليَوْم الْقِيَامَة فَتكون السَّاعَة قَوْلُهُ فِي الْبَعْث {الْحق} الصدْق {وَلَهُ الْملك} الْقَضَاء بَين الْعباد {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّور عَالِمُ الْغَيْب} مَا يكون {وَالشَّهَادَة} مَا كَانَ وَيُقَال عَالم الْغَيْب مَا غَابَ عَن الْعباد وَالشَّهَادَة مَا علمه الْعباد {وَهُوَ الْحَكِيم} فِي أمره وقضائه {الْخَبِير} بخلقه وبأعمالهم(1/113)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
{وَإِذْ قَالَ} وَقد قَالَ {إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} وَهُوَ تارح بن ناحور {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً} أَتَعبد أصناماً {آلِهَةً} شَتَّى صَغِيرا وكبيراً ذكرا وَأُنْثَى {إِنِّي أَرَاكَ} يَا أَبَت {وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} فِي كفر بَين وَخطأ بَين فِي عبَادَة الْأَصْنَام(1/113)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
{وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض} مَا بَين السَّمَوَات وَالْأَرْض من الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم حِين خرج من السرب {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} لكَي يكون من المقربين بِأَن الله وَاحِد خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا فِيهِنَّ وَيُقَال أرَاهُ الله لَيْلَة أسرِي بِهِ إِلَى إِلَى السَّمَاء حَتَّى أبْصر من السَّمَاء السَّابِعَة الأَرْض السَّابِعَة وليكون من الموقنين لكَي يكون لَهُ يَقِين الخطوات(1/113)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْل} فِي السرب {رَأَى كَوْكَباً} وَهِي الزهرة {قَالَ هَذَا رَبِّي} أَتَرَى هَذَا رَبِّي {فَلَمَّآ أَفَلَ} غَابَ وَتغَير عَن حَاله إِلَى الْحمرَة {قَالَ لَا أُحِبُّ الآفلين} ربّاً لَيْسَ بدائم(1/113)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
{فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَر بَازِغاً} طالعاً {قَالَ هَذَا رَبِّي} أَتَرَى هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ من الأول {فَلَمَّآ أَفَلَ} غَابَ وَتغَير {قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي} لم يثبتني ربّي على الْهَدْي {لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْم الضَّالّين} عَن الْهدى(1/113)
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
{فَلَماَّ رَأَى الشَّمْس بَازِغَةً} طالعة قد مَلَأت كلّ شيءٍ {قَالَ هَذَا رَبِّي} أَتَرَى هَذَا رَبِّي {هَذَا أَكْبَرُ} من الأول وَالثَّانِي {فَلَمَّآ أَفَلَتْ} غَابَتْ وتغيرت قَالَ إِبْرَاهِيم إِنِّي لَا أحب الآفلين رَبًّا لَيْسَ بدائم لَئِن لم يهدني رَبِّي لم يثبتني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين عَن الْهدى مقدم ومؤخر وَيُقَال قَالَ هَذَا رَبِّي على معنى الِاسْتِهْزَاء لِقَوْمِهِ لِأَن قومه كَانُوا يعْبدُونَ الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم فَأنْكر عَلَيْهِم فاستهزأ بهم وَقَالَ لَهُم أمثل هَذَا يكون الرب فَلَمَّا خرج من السرب وَجَاء إِلَى قومه وَهُوَ يؤمئذ ابْن سبع عشرَة سنة نظر إِلَى السَّمَاء وَالْأَرْض فَقَالَ رَبِّي الَّذِي خلق هَذَا ثمَّ مضى حَتَّى أَتَى قومه فَرَآهُمْ عاكفين على أصنام لَهُم {قَالَ يَا قوم إِنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون} بِاللَّه من الْأَصْنَام(1/113)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
قَالُوا يَا إِبْرَاهِيم فَمن تعبد أَنْت قَالَ {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أخلصت ديني وعملي {لِلَّذِي فَطَرَ} خلق {السَّمَاوَات وَالْأَرْض حَنِيفاً} مُسلما {وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْركين} على دينهم(1/113)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} خاصمه قومه فِي آلِهَتهم وخوفوه بهَا لكَي يتْرك دين الله {قَالَ} إِبْرَاهِيم {أتحاجوني فِي الله} أتخاصموني فِي دين الله لقبل آلِهَتكُم وتخوفوني بهَا لكَي أترك دين رَبِّي {وَقَدْ هَدَانِ} رَبِّي لدينِهِ {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} من الْأَصْنَام {إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً} نزوع الْمعرفَة من قلبِي فَأَخَاف مِمَّا تخافون {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} علم رَبِّي أَنكُمْ على غير الْحق {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} تتعظون فِيمَا أَقُول لكم من النَّهْي(1/113)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ} بِاللَّه من الْأَصْنَام {وَلاَ تَخَافُونَ} أَنْتُم من الله {أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّه مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} كتابا وَلَا حجَّة وَكَانُوا يخوفونه بآلهتهم فَيَقُولُونَ نَخَاف عَلَيْك إِن شتمتهم أَن يخبلوك فَلذَلِك قَالَ لَا أَخَاف {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ} أهل دينين أَنا وَأَنْتُم {أَحَقُّ} أولى {بالأمن} من معبوده وأجيبوا {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ذَلِك فَلم(1/113)
يجيبوا(1/114)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
فَأجَاب الله مَا سَأَلَ عَنْهُم إِبْرَاهِيم فَقَالَ {الَّذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} لم يخلطوا إِيمَانهم بشرك وَلم ينافقوا بإيمَانهمْ {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْن} من معبودهم {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} للصَّوَاب وَيُقَال أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن من الْعَذَاب وهم مهتدون إِلَى الْحجَّة(1/114)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ} هَذِه حجتنا {آتَيْنَاهَآ} ألهمناها {إِبْرَاهِيمَ} حَتَّى احْتج بهَا {على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ} فَضَائِل بِالْقُدْرَةِ والمنزلة وَالْحجّة وبعلم التَّوْحِيد {مَّن نَّشَآءُ} من كَانَ أَهلا لذَلِك {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} بإلهام الْحجَّة لأوليائه {عَلِيمٌ} بِحجَّة أوليائه وعقوبة أعدائه(1/114)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
{وَوَهَبْنَا لَهُ} لإِبْرَاهِيم {إِسْحَاق} ولدا {وَيَعْقُوب} ولد الْوَلَد {كلا} يَعْنِي إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق وَيَعْقُوب {هَدَيْنَا} أكرمنا بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {وَنُوحاً هَدَيْنَا} أكرمنا أَيْضا بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {مِن قَبْلُ} أَي من قبل إِبْرَاهِيم {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ} وَمن ذُرِّيَّة نوح وَيُقَال من ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم {دَاوُد وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ ومُوسَى وَهَارُونَ} كَلاًّ هديناهم بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} بالْقَوْل وَالْفِعْل وَيُقَال الْمُوَحِّدين(1/114)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
{وَزَكَرِيَّا وَيحيى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ} كل هَؤُلَاءِ هديناهم بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام وَكلهمْ من ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم {مِّنَ الصَّالِحين} يَعْنِي كَانُوا من الْمُرْسلين(1/114)
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
{وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسع وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ} كل هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء {فَضَّلْنَا} بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {عَلَى الْعَالمين} عالمي زمانهم من الْكَافرين وَالْمُؤمنِينَ(1/114)
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
{وَمِنْ آبَائِهِمْ} آدم وشيث وَإِدْرِيس ونوح وَهود وَصَالح هديناهم بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {وَذُرِّيَّاتِهِمْ} يَعْنِي أَوْلَاد يَعْقُوب {وَإِخْوَانِهِمْ} يَعْنِي إخْوَة يُوسُف هديناهم بِالنُّبُوَّةِ وَالْإِسْلَام {واجتبيناهم} اصطفيناهم {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يَعْنِي ثبتناهم على طَرِيق مُسْتَقِيم(1/114)
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)
{ذَلِك} الصِّرَاط الْمُسْتَقيم {هدى الله} دين الله {يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} من كَانَ أَهلا لذَلِك {وَلَوْ أَشْرَكُواْ} لَو أشرك هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء {لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الطَّاعَات(1/114)
أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
{أُولَئِكَ الَّذين} قَصَصنَا من النَّبِيين {آتَيْنَاهُمُ} أعطيناهم {الْكتاب} الَّذين نزل بِهِ جِبْرِيل من السَّمَاء {وَالْحكم} الْعلم والفهم {والنبوة فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} بسبيلهم وَدينهمْ {هَؤُلَاءِ} أهل مَكَّة {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} وقفنا بهَا بدين الْأَنْبِيَاء وسبيلهم {قَوْماً} بِالْمَدِينَةِ {لَّيْسُواْ بهَا} بدين الْأَنْبِيَاء وبسبيلهم {بكافرين} بجاحدين(1/114)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
{أُولَئِكَ الَّذين} قصصناهم من النَّبِيين {هَدَى الله} هدَاهُم الله بالأخلاق الْحسنى {فَبِهُدَاهُمُ} فبأخلاقهم الْحسنى من الصَّبْر وَالِاحْتِمَال وَالرِّضَا والقناعة وَغير ذَلِك {اقتده قُل} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على التَّوْحِيد وَالْقُرْآن {أَجْراً} جعلا {إِنْ هُوَ} مَا هُوَ يَعْنِي الْقُرْآن {إِلاَّ ذكرى} عظة {لِلْعَالَمِينَ} الْجِنّ وَالْإِنْس(1/114)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
{وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} مَا عظموا الله حق عَظمته {إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ} من النَّبِيين {مِّن شَيْءٍ} من كتاب نزلت هَذِه الْآيَة فِي مَالك بن الصَّيف الْيَهُودِيّ قَالَ مَا أنزل الله على بشر من شَيْء {قُلْ} يَا مُحَمَّد لمَالِك {مَنْ أَنزَلَ الْكتاب الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً} بَيَانا وضياء {وَهُدًى لِّلنَّاسِ} من الضَّلَالَة {تَجْعَلُونَهُ} تكتبونه {قَرَاطِيسَ} فِي قَرَاطِيس أَي فِي الصُّحُف {تُبْدُونَهَا} تظْهرُونَ كثيرا مَا لَيْسَ فِيهِ صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته {وَتُخْفُونَ كَثِيراً} يَعْنِي تكتمون كثيرا مَا فِيهِ صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته {وعلمتم} من الْأَحْكَام وَالْحُدُود وَالْحرَام وَصفَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته فِي الْكتاب(1/114)
{مَّا لَمْ تعلمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ} من قبل من الْأَحْكَام وَالْحُدُود فَإِن أجابوك وَقَالُوا الله أنزل وَإِلَّا {قُلِ الله} أنزل {ثُمَّ ذَرْهُمْ} اتركهم {فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} فِي باطلهم يعمهون يَخُوضُونَ ويكذبون(1/115)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
{وَهَذَا كِتَابٌ} يَعْنِي الْقُرْآن {أَنزَلْنَاهُ} جِبْرِيل بِهِ {مبارك} فِيهِ الْمَغْفِرَة وَالرَّحْمَة لن آمن بِهِ {مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} مُوَافق للتوراة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَسَائِر الْكتب بِالتَّوْحِيدِ وَصفَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته {وَلِتُنذِرَ} تخوف بِالْقُرْآنِ {أُمَّ الْقرى} يَعْنِي أهل مَكَّة وَيُقَال أم الْقرى عَظِيمَة الْقرى وَيُقَال إِنَّمَا سميت أم الْقرى لِأَن الأَرْض دحيت من تحتهَا {وَمَنْ حَوْلَهَا} من سَائِر الْبلدَانِ {وَالَّذين يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت ونعيم الْجنَّة {يُؤْمِنُونَ بِهِ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ} على أَوْقَات صلواتهم الْخمس {يُحَافِظُونَ}(1/115)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
{وَمَنْ أَظْلَمُ} أَعْتَى وأجرأ {مِمَّنِ افترى} اختلق {عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ} مَا أنزل الله على بشر من شَيْء وَهُوَ مَالك بن الصَّيف أَو قَالَ يَعْنِي وَمن قَالَ {أُوْحِيَ إِلَيَّ} كتاب {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} من الْكتاب وَهُوَ مُسَيْلمَة الْكذَّاب {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله} سأقول مثل مَا يَقُول مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ عبد الله ابْن سعد بن أبي سرح {وَلَوْ ترى} يَا مُحَمَّد {إِذِ الظَّالِمُونَ} الْمُشْركُونَ والمنافقون يَوْم بدر {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْت} فِي نزعات الْمَوْت وغشيانه {وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم} ضاربوا أَيْديهم إِلَى أَرْوَاحهم {أخرجُوا} أَي يَقُولُونَ أخرجُوا {أَنفُسَكُمُ} أرواحكم {الْيَوْم} يَوْم بدر وَيُقَال يَوْم الْقِيَامَة {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهون} الشَّديد {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الْحق} مَا لَيْسَ بِحَق {وكنتم عَن آيَاته} عَن مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {تَسْتَكْبِرُونَ} أَي تتعظمون عَن الْإِيمَان بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن فِي الدُّنْيَا(1/115)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} صفر بِلَا مَال وَلَا ولد {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فِي الدُّنْيَا بِلَا مَال وَلَا ولد {وَتَرَكْتُمْ} خَلفْتُمْ {مَّا خَوَّلْنَاكُمْ} أعطيناكم {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} خلف ظهوركم فِي الدُّنْيَا {وَمَا نرى مَعَكُمْ} لكم {شُفَعَآءَكُمُ} آلِهَتكُم {الَّذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ} لكم {شُرَكَآءُ} شُفَعَاء {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} وصلكم يَعْنِي مَا كَانَ بَيْنكُم من الْوَصْل والود {وَضَلَّ عَنكُم} اشْتغل عَنْكُم بأنفسها {مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} تَعْبدُونَ وتقولون إِنَّهَا شفعاؤكم يَعْنِي الْأَصْنَام(1/115)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
{إِن الله فالق الْحبّ} يعين خَالق الْحُبُوب كلهَا وَيُقَال خَالق مَا كَانَ فِي الْحبّ {والنوى} يَعْنِي مَا كَانَ فِيهِ النواة {يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيِّت} النَّسمَة وَالدَّوَاب من النُّطْفَة وَيُقَال الطير من الْبَيْضَة وَيُقَال السنبلة وَالثِّمَار من الْحبَّة والنواة {وَمُخْرِجُ الْمَيِّت مِنَ الْحَيّ} النُّطْفَة من النَّسمَة وَالدَّوَاب وَيُقَال الْبَيْضَة من الطير وَيُقَال الْحبَّة والنواة من السنبلة وَالثِّمَار {ذَلِكُم} الَّذِي يفعل هَذَا هُوَ {الله} لَا الْآلهَة تَفْعَلهُ {فَأنى تُؤْفَكُونَ} من أَيْن تكذبون(1/115)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
{فَالِقُ الإصباح} خَالق صبح النَّهَار {وَجَعَلَ اللَّيْل سَكَناً} مسكنا لِلْخلقِ {وَالشَّمْس وَالْقَمَر} يَعْنِي خلق الشَّمْس وَالْقَمَر {حُسْبَاناً} منازلهما بِالْحِسَابِ وَيُقَال معلقان بَين السَّمَاء وَالْأَرْض يدوران بالدوران {ذَلِك تَقْدِيرُ الْعَزِيز} يَعْنِي تَدْبِير الْعَزِيز بالنقمة لمن لَا يُؤمن بِهِ {الْعَلِيم} بتدبيره وبمن آمن بِهِ وبمن لَا يُؤمن بِهِ(1/115)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُوم لِتَهْتَدُواْ} لِتَعْلَمُوا {بِهَا} الطَّرِيق {فِي ظُلُمَاتِ الْبر وَالْبَحْر} وأهوالهما إِذا سافرتم فِي بر أَو بَحر {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَات} قد بَينا(1/115)
الْقُرْآن وعلامات الوحدانية {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أَنه من الله يَعْنِي الْمُؤمنِينَ المصدقين(1/116)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم} خَلقكُم {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} من نفس آدم {فَمُسْتَقَرٌّ} فِي الْأَرْحَام {وَمُسْتَوْدَعٌ} فِي الأصلاب وَيُقَال فمستقر فِي الأصلاب ومستودع فِي الْأَرْحَام {قَدْ فَصَّلْنَا} بَينا {الْآيَات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} أَمر الله وتوحيده(1/116)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
{وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} مَطَرا {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} فَأَنْبَتْنَا بالمطر {نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} من الْحُبُوب وَغَيرهَا {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} أَي بالمطر من الأَرْض {خَضِراً} النَّبَات الْأَخْضَر {نُّخْرِجُ مِنْهُ} من النَّبَات الْأَخْضَر {حَبّاً مُّتَرَاكِباً} متراكباً فِي السنبل وَغَيره الزَّيْتُون {وَمِنَ النّخل مِن طَلْعِهَا} كُفُرَاها {قِنْوَانٌ} عذوق {دَانِيَةٌ} قريبَة يَنَالهُ الْقَاعِد والقائم {وَجَنَّاتٍ} بساتين {مِّنْ أَعْنَابٍ} من كروم {وَالزَّيْتُون} شجر الزَّيْتُون {وَالرُّمَّان} شجر الرُّمَّان {مُشْتَبِهاً} فِي اللَّوْن يَعْنِي الرُّمَّان {وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} أَي مُخْتَلف فِي الطّعْم {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ} انْعَقَد {وَيَنْعِهِ} نضجه {إِنَّ فِي ذَلِكُم} فِي اخْتِلَاف ألوانه {لآيَاتٍ} لعلامات {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون أَنه من الله(1/116)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنّ} قَالُوا إِن الله تَعَالَى وإبليس أَخَوان شريكان الله خَالق النَّاس وَالدَّوَاب والأنعام وإبليس خَالق الْحَيَّات والعقارب وَالسِّبَاع وَهِي مقَالَة الْمَجُوس {وَخَلَقَهُمْ} خلقهمْ الله وَأمرهمْ بِالتَّوْحِيدِ {وَخَرَقُواْ لَهُ} وصفوا لَهُ {بَنِينَ} من الْبَنِينَ وَهِي مقَالَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى {وَبَنَاتٍ} من الْمَلَائِكَة والأصنام وَهِي مقَالَة مُشْركي الْعَرَب {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بِلَا علم وَحجَّة وَبَيَان {سُبْحَانَهُ} نزه نَفسه عَن الْوَلَد الشَّرِيك {وَتَعَالَى} تَبرأ {عَمَّا يَصِفُونَ} من الْبَنِينَ وَالْبَنَات(1/116)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
{بَدِيعُ} خَالق {السَّمَاوَات وَالْأَرْض} ابتدعهما وَلم يَكُونَا شَيْئا {أَنى يَكُونُ} من أَيْن يكون {لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ} زَوْجَة {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} بَائِن مِنْهُ {وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ} من الْخلق {عَلِيمٌ}(1/116)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
{ذَلِكُم الله رَبُّكُمْ} الَّذِي يفعل هَذَا هُوَ ربكُم {لَا إِلَه إِلاَّ هُوَ} وَحده لَا شريك لَهُ {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} بَائِن مِنْهُ {فاعبدوه} فوحدوه لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ} من الْخلق {وَكِيلٌ} شَهِيد وَيُقَال كَفِيل بأرزاقهم(1/116)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
{لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَار} فِي الدُّنْيَا وَلَا يرى الْخلق مَا يرى هُوَ وتنقطع دونه الْأَبْصَار بالكيفية فِي الْآخِرَة وبالرؤية فِي الدُّنْيَا {وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَار} فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَيرى مَا لم ير الْخلق وَلَا يخفى عَلَيْهِ شَيْء وَلَا يفوتهُ {وَهُوَ اللَّطِيف} فِي أَفعاله نَافِذ علمه بخلقه {الْخَبِير} بخلقه وبأعمالهم(1/116)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
{قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ} بَيَان {مِن رَّبِّكُمْ} يَعْنِي الْقُرْآن {فَمَنْ أَبْصَرَ} أقرّ بِالْقُرْآنِ {فَلِنَفْسِهِ} الثَّوَاب {وَمَنْ عَمِيَ} كفر {فَعَلَيْهَا} عُقُوبَة ذَلِك {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظكم(1/116)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
{وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {نُصَرِّفُ الْآيَات} نبين الْقُرْآن فِي شَأْنهمْ {وَلِيَقُولُواْ} لكَي يَقُولُوا {دَرَسْتَ} قَرَأت وتخلقت وَيُقَال لكَي لَا يَقُولُوا تخلقت وَإِن قَرَأت دارست يَقُول لكَي لَا يَقُولُوا تعلمت من أبي فكيهة مولى لقريش وَيُقَال لكَي لَا يَقُولُوا تعلمت من جبر ويسار موليين لقريش وَإِن قَرَأت درست بِسُكُون التَّاء فَمَعْنَاه قَالُوا هَذِه أَخْبَار درست أَي تقادمت {وَلِنُبَيِّنَهُ} لكَي نبينه {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يصدقون أَنه من الله(1/116)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)
{اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} اعْمَلْ بِمَا أنزل إِلَيْك من رَبك يَعْنِي الْقُرْآن من حَلَاله وَحَرَامه {لَا إِلَه إِلاَّ هُوَ} لَا خَالق وَلَا رَازِق إِلَّا هُوَ(1/116)
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْركين} يَعْنِي الْمُسْتَهْزِئِينَ مِنْهُم الْوَلِيد بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي وَالْعَاص بن وَائِل السَّهْمِي وَالْأسود بن عبد يَغُوث الزُّهْرِيّ وَالْأسود بن الْحَارِث ابْن عبد الْمطلب والْحَارث بن قيس بن حَنْظَلَة(1/117)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
{وَلَوْ شَآءَ الله} أَن لَا يشركوا {مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} تحفظهم {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} بكفيل(1/117)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
{وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذين يَدْعُونَ} يعْبدُونَ {مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً} اعتداء {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بِلَا علم وَلَا حجَّة وَهَذَا بعد مَا قَالَ لَهُم إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم ثمَّ نسخته آيَة الْقِتَال {كَذَلِكَ} كَمَا زينا دينهم وعملهم إِلَيْهِم {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ} لكل أهل دين {عَمَلَهُمْ} وَدينهمْ {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ} بعد الْمَوْت {فَيُنَبِّئُهُمْ} يُخْبِرهُمْ {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فِي دينهم(1/117)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
{وَأَقْسَمُواْ بِاللَّه جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} شدَّة أَيْمَانهم إِذا حلف الرجل بِاللَّه فقد حلف جهد يَمِينه {لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ} كَمَا طلبُوا {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} بِالْآيَةِ {قُلْ} يَا مُحَمَّد للمستهزئين وأصحابهم {إِنَّمَا الْآيَات عِندَ الله} تَجِيء الْآيَات من عِنْد الله {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} يدريكم أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ {أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ} يَعْنِي الْآيَة {لاَ يُؤْمِنُونَ} وَالله إِنَّهُم لَا يُؤمنُونَ بِالْآيَةِ(1/117)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} قُلُوبهم {وَأَبْصَارَهُمْ} عِنْد نزُول الْآيَة حَتَّى لَا يُؤمنُوا بهَا {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ} بِمَا أخْبرهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْآيَة {أَوَّلَ مَرَّةٍ} قبل هَذَا {وَنَذَرُهُمْ} نتركهم {فِي طُغْيَانِهِمْ} كفرهم وضلالتهم {يَعْمَهُونَ} عمهة لَا يبصرون(1/117)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ} إِلَى الْمُسْتَهْزِئِينَ {الْمَلَائِكَة} كَمَا طلبُوا فَشَهِدُوا على مَا أَنْكَرُوا {وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} من الْقُبُور كَمَا طلبُوا بِأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَالْقُرْآن كَلَام الله {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} من الطُّيُور وَالدَّوَاب {قُبُلاً} معانة وَإِن قَرَأت قبلا يَقُول قَبيلَة قَبيلَة وَإِن قَرَأت قبيلاً يَقُول كَفِيلا على مَا تَقول انه الْحق وَيشْهدُونَ على مَا أَنْكَرُوا {مَّا كَانُواْ ليؤمنوا} بِمُحَمد وَالْقُرْآن {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} أَن يُؤمنُوا {وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أَنه الْحق من الله(1/117)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
{وَكَذَلِكَ} كَمَا جعلنَا أَبَا جهل والْمُسْتَهْزِئِين عدوا لَك هَكَذَا {جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً} فرعوناً {شَيَاطِينَ الْإِنْس وَالْجِنّ} يَقُول جعلنَا شياطين الْجِنّ وَالْإِنْس {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} يملي بَعضهم على بعض {زُخْرُفَ القَوْل} تَزْيِين القَوْل {غُرُوراً} لكَي يغروا بِهِ بني آدم {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} يَعْنِي التزيين والغرور {فَذَرْهُمْ} اتركهم يَا مُحَمَّد الْمُسْتَهْزِئِينَ وأصحابهم {وَمَا يَفْتَرُونَ} من تَزْيِين القَوْل والغرور(1/117)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
{ولتصغى إِلَيْهِ} لكَي تميل إِلَى هَذَا الزخرف والغرور {أَفْئِدَةُ} قُلُوب {الَّذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {وَلِيَرْضَوْهُ} وليقبلوا من الشَّيَاطِين الزِّينَة والغرور {وَلِيَقْتَرِفُواْ} ليكتسبوا {مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} مكتسبون من الْإِثْم قل يَا مُحَمَّد لَهُم(1/117)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
{أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً} أعبد رَبًّا {وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ} إِلَى نَبِيكُم {الْكتاب} جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ {مُفَصَّلاً} مُبينًا بالحلال وَالْحرَام وَيُقَال مُتَفَرقًا آيَة وآيتين {وَالَّذين آتَيْنَاهُمُ الْكتاب} أعطيناهم علم التَّوْرَاة يَعْنِي عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه {يَعْلَمُونَ} يستيقنون فِي كِتَابهمْ {أَنَّهُ} يَعْنِي الْقُرْآن {مُنَزَّلٌ} أنزل {مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} بِالْأَمر وَالنَّهْي وَيُقَال إِنَّه يَعْنِي جِبْرِيل منزل من رَبك بِالْحَقِّ بِالْقُرْآنِ {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} من الشاكين أَنهم لَا يعلمُونَ ذَلِك(1/117)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
{وتمت كلمة رَبِّكَ} بِالْقُرْآنِ بِالْأَمر وَالنَّهْي {صِدْقاً} فِي قَوْله {وَعَدْلاً} مِنْهُ {لاَّ مُبَدِّلِ} لَا مغير {لِكَلِمَاتِهِ} الْقُرْآن وَيُقَال وتمت وَجَبت كلمة رَبك بالنصرة لأوليائه صِدْقاً فِي قَوْله وَعَدْلاً فِيمَا يكون لاَّ مُبَدِّلِ لَا مغير لِكَلِمَاتِهِ بالنصرة لأوليائه وَيُقَال تمت كلمة رَبك ظهر دين(1/117)
رَبك صدقا من الْعباد أَنه دين الله وعدلاً من الله من أمره لَا مبدل لَا مغير لكلماته لدينِهِ {وَهُوَ السَّمِيع} لمقالتهم {الْعَلِيم} بهم وبأعمالهم(1/118)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
{وَإِن تُطِعْ} يَا مُحَمَّد {أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْض} وهم رُؤَسَاء أهل مَكَّة مِنْهُم أَبُو الْأَحْوَص مَالك بن عَوْف الْجُشَمِي وَبُدَيْل بن وَرْقَاء الْخُزَاعِيّ وجليس بن وَرْقَاء الْخُزَاعِيّ {يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} يخطئوك عَن طَرِيق الله فِي الْحرم {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّن} مَا يَقُولُونَ إِلَّا بِالظَّنِّ {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يكذبُون فِي قَوْلهم للْمُؤْمِنين أَن مَا ذبح الله خير مَا تذبحون أَنْتُم بسكاكينكم(1/118)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} عَن دينه وطاعته {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} لدينِهِ يَعْنِي مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأَصْحَابه(1/118)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْم الله عَلَيْهِ} من الذَّبَائِح {إِن كُنتُمْ} إِذْ كُنْتُم {بِآيَاتِهِ} الْقُرْآن {مُؤمنين}(1/118)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْم الله عَلَيْهِ} من الذَّبَائِح {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ} بَين لكم {مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} من الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير {إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} أجهدتم إِلَى أكل الْميتَة {وَإِنَّ كَثِيراً} أَبَا الْأَحْوَص وَأَصْحَابه {لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم} ليدعون إِلَى أكل الْميتَة {بِغَيْرِ عِلْمٍ} وَلَا حجَّة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين} الْحَلَال إِلَى الْحَرَام(1/118)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
{وَذَرُواْ ظَاهِرَ الْإِثْم} اتْرُكُوا زنا الظَّاهِر {وَبَاطِنَهُ} زنا السِّرّ وَهِي المخالّة {إِنَّ الَّذين يَكْسِبُونَ الْإِثْم} يعْملُونَ الزِّنَا {سَيُجْزَوْنَ} الْجلد فِي الدُّنْيَا والعقوبة فِي الْآخِرَة {بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} يَكْسِبُونَ من الزِّنَا(1/118)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
{وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْم الله عَلَيْهِ} من الذَّبَائِح عمدا {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} يَعْنِي أكله بِغَيْر الضَّرُورَة مَعْصِيّة واستحلاله على إِنْكَار التَّنْزِيل كفر {وَإِنَّ الشَّيَاطِين لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ} يوسوسون أولياءهم أَبَا الْأَحْوَص وَأَصْحَابه {لِيُجَادِلُوكُمْ} يخاصموكم فِي أكل الْميتَة والشرك وَأَن الْمَلَائِكَة بَنَات الله {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} فِي الشّرك وَأكل الْميتَة فأحللتموها غير مضطرين إِلَيْهَا {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} مثلهم(1/118)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً} نزلت فِي عمار بن يَاسر وَأبي جهل بن هِشَام هَذِه الْآيَة أَو من كَانَ مَيتا كَافِرًا {فَأَحْيَيْنَاهُ} أكرمناه بِالْإِيمَان وَهُوَ عمار بن يَاسر {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً} معرفَة {يَمْشِي بِهِ} يَهْتَدِي بِهِ {فِي النَّاس} بَين النَّاس وَيُقَال ونجعل لَهُ نورا على الصِّرَاط فِي النَّاس بَين النَّاس {كَمَن مَّثَلُهُ} كمن هُوَ {فِي الظُّلُمَات} فِي ضَلَالَة الْكفْر فِي الدُّنْيَا وظلمات جَهَنَّم يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ أَبُو جهل {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} من الْكفْر الضَّلَالَة فِي الدُّنْيَا والظلمات فِي جَهَنَّم {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يَقُول كَمَا زينا لأبي جهل عمله الَّذِي كَانَ يعْمل(1/118)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} بَلْدَة {أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} أَي رؤساءها وجبابرتها وأغنياءها كَمَا جعلنَا فِي أهل مَكَّة الْمُسْتَهْزِئِينَ وأصحابهم أَبَا جهل وَغَيره {لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} ليعملوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي وَالْفساد وَيُقَال ليكذبوا فِيهَا الْأَنْبِيَاء {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ} يَقُول مَا يصنعون من الْمعاصِي وَالْفساد عُقُوبَة ذَلِك ودماره على أنفسهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} ذَلِك(1/118)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
{وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ} أَي الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وَعبد يَا ليل وَأَبا مَسْعُود الثَّقَفِيّ آيَة من السَّمَاء تخبرهم بصنيعهم {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ} يَعْنِي بِالْآيَةِ {حَتَّى نؤتى} نعطى الْكتاب {مِثْلَ مَآ أُوتِيَ} أعطي {رسل الله} يعنون مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} إِلَى من يُرْسل جِبْرِيل بالرسالة {سَيُصِيبُ الَّذين أَجْرَمُواْ} أشركوا يَعْنِي وليداً وَأَصْحَابه {صَغَارٌ} ذل وهوان {عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} عَن الله مقدم ومؤخر {بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ}(1/118)
يكذبُون الرُّسُل(1/119)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
{فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ} يرشده لدينِهِ {يَشْرَحْ صَدْرَهُ} قلبه {لِلإِسْلاَمِ} لقبُول الْإِسْلَام حَتَّى يسلم {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} يتْركهُ ضَالًّا كَافِرًا {يَجْعَلْ صَدْرَهُ} يتْرك قلبه {ضَيِّقاً} كضيق الزج فِي الرمْح {حَرَجاً} شكّاً وَإِن قَرَأت حرجاً يَقُول لَا يجد النُّور فِي قلبه منفذاً وَلَا مجَازًا {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء} كالمكلف الصعُود إِلَى السَّمَاء هَكَذَا قلبه لَا يَهْتَدِي إِلَى الْإِسْلَام {كَذَلِك} هَكَذَا {يَجْعَلُ الله الرجس} يتْرك الله التَّكْذِيب {عَلَى الَّذين} فِي قُلُوب الَّذين {لَا يُؤمنُونَ} بِمُحَمد وَالْقُرْآن عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ثمَّ يعذبهم إِن لم يُؤمنُوا(1/119)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ} صَنِيع رَبك {مُسْتَقِيماً} عدلا وَيُقَال وَهَذَا يَعْنِي الْإِسْلَام صِرَاط رَبك دين رَبك مُسْتَقِيمًا قَائِما يرتضيه وَهُوَ الْإِسْلَام {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَات} بَينا الْقُرْآن بِالْأَمر وَالنَّهْي والإهانة والكرامة {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} يتعظون فيؤمنون وَيُقَال نزل فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ الْآيَة فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي جهل وَيُقَال نزلت فِي عمار وَأبي جهل(1/119)
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
{لَهُمْ} للْمُؤْمِنين {دَارُ السَّلَام عِندَ رَبِّهِمْ} السَّلَام هُوَ الله وَالْجنَّة دَاره {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} بالثواب والكرامة {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وَيَقُولُونَ فِي الدُّنْيَا من الْخيرَات(1/119)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
{وَيَوْم يحشرهم جَمِيعًا} الْجِنّ وَالْإِنْس فَنَقُول {يَا معشر الْجِنّ قَدِ استكثرتم مِّنَ الْإِنْس} من ضلالات الْإِنْس أَي أضللتم كثيرا من الْإِنْس بالتعوذ {وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم} أَوْلِيَاء الْجِنّ {مِّنَ الْإِنْس} الَّذين كَانُوا يتعوذون برؤساء الْجِنّ إِذا نزلُوا وَاديا واصطادوا من دوابهم صيدا كَانُوا يَقُولُونَ نَعُوذ بِسَيِّد هَذَا الْوَادي من سُفَهَاء قومه فيأمنون بذلك {رَبَّنَا} يَا رَبنَا {استمتع} انْتفع {بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} وَكَانَ مَنْفَعَة الْإِنْس الْأَمْن مِنْهُم وَمَنْفَعَة الْجِنّ الشّرف وَالْعَظَمَة على قَومهمْ (وَبَلَغْنَآ) أدركنا {أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} وَقت لنا يَعْنِي الْمَوْت {قَالَ} الله لَهُم {النَّار مَثْوَاكُمْ} منزلكم يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس {خَالِدِينَ فِيهَآ} مقيمين فِي النَّار {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} وَقد شَاءَ الله لَهُم الخلود {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} حكم عَلَيْهِم بالخلود {عَليمٌ} بهم وبعقوبتهم(1/119)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
{وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {نُوَلِّي} نَتْرُك {بَعْضَ الظَّالِمين} الْمُشْركين {بَعْضاً} إِلَى بعض فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَيُقَال نولي نملك بعض الظَّالِمين الْمُشْركين على بعض {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يَقُولُونَ ويعملون من الشَّرّ(1/119)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
{يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} من الْإِنْس مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَسَائِر الرُّسُل وَمن الْجِنّ تِسْعَة نفر الَّذين أَتَوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتولوا إِلَى قَومهمْ منذرين وَيُقَال كَانَ لَهُم نَبِي يُسمى يُوسُف {يقصون عَلَيْكُم} يقرءُون عَلَيْكُم {آيَاتِي} بِالْأَمر وَالنَّهْي {وَيُنذِرُونَكُمْ} يخافونكم {لِقَآءَ يَوْمِكُمْ} عَذَاب يومكم {هَذَا قَالُواْ} يَعْنِي الْجِنّ وَالْإِنْس {شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا} أَنهم قد بلغُوا الرسَالَة وكفرنا بهم قَالَ الله {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاة الدنيآ} مَا فِي الدُّنْيَا من الزهرة وَالنَّعِيم {وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ} فِي الْآخِرَة {أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} فِي الدُّنْيَا(1/119)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
{ذَلِك} إرْسَال الرُّسُل {أَن لَّمْ يَكُنْ} بِأَن لم يكن {رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقرى} أهل الْقرى {بِظُلْمٍ} بشرك وذنب وَيُقَال بظُلْم مِنْهُ {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} عَن الْأَمر وَالنَّهْي وتبليغ الرُّسُل(1/119)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
{وَلِكُلٍّ} لكل وَاحِد من الْجِنّ وَالْإِنْس {دَرَجَاتٌ} للْمُؤْمِنين فِي الْجنَّة من الْإِنْس وَالْجِنّ ودركات للْكَافِرِينَ فِي النَّار {مِمَّا عمِلُوا} بماعملوا من الْخَيْر وَالشَّر {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ} بساه {عَمَّا يَعْمَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر وَيُقَال بتارك عُقُوبَة مَا يعْملُونَ من الْمعاصِي(1/119)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
{وَرَبُّكَ الْغَنِيّ} عَن إِيمَانهم(1/119)
{ذُو الرَّحْمَة} بِتَأْخِيرِهِ الْعَذَاب لمن آمن بِهِ {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} يهلككم يَا أهل مَكَّة {وَيَسْتَخْلِفْ} يخلف {مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} قرنا بعد قرن(1/120)
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ} من الْعَذَاب {لآتٍ} لكائن {وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بفائتين من الْعَذَاب يدرككم حَيْثُمَا كُنْتُم(1/120)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
{قل} يَا مُحَمَّد لكفار أهل مَكَّة {يَا قوم اعْمَلُوا على مَكَانَتِكُمْ} على دينكُمْ فِي مَنَازِلكُمْ بهلاكي {إِنَّي عَامِلٌ} بِهَلَاكِكُمْ {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّار} يَعْنِي الْجنَّة {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} لَا يَأْمَن وَلَا ينجو {الظَّالِمُونَ} الْمُشْركُونَ من عَذَاب الله(1/120)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
{وَجَعَلُواْ لِلَّهِ} وصفوا لله {مِمَّا ذَرَأَ} خلق {مِنَ الْحَرْث والأنعام} الْإِبِل وَالْبَقر والسائمة {نَصِيباً} حظا فَقَالَ {هَذَا لِلَّهِ} بِزَعْمِهِمْ {وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} لِآلِهَتِنَا {فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ} لآلهتهم {فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله} فَلَا يرجع إِلَى الَّذِي جَعَلُوهُ لله {وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ} يرجع {إِلَى شُرَكَآئِهِمْ} إِلَى الَّذِي جعلُوا لآلهتهم {سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} بئس مَا يقضون لأَنْفُسِهِمْ(1/120)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
{وَكَذَلِكَ} كَمَا زينا قَوْلهم وعملهم {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ} بناتهم {شُرَكَآؤُهُمْ} من الشَّيَاطِين {لِيُرْدُوهُمْ} ليهلكوهم {وَلِيَلْبِسُواْ} يخلطوا {عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} دين إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل {وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ} يَعْنِي التزيين وَدفن بناتهم أَحيَاء {فَذَرْهُمْ} اتركهم (وَمَا يَفْتَرُونَ) يكذبُون على الله فَيَقُولُونَ إِن الله أَمرهم بذلك يَعْنِي بدفن الْبَنَات(1/120)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
{وَقَالُوا هَذِه أنعام} يَعْنِي الْبحيرَة والسائبة والوصيلة والحام {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} حرَام {لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ} يعنون الرِّجَال دون النِّسَاء {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} وَهِي الحام {وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا} إِذا حملت وَلَا إِذا ركبت وَهِي الْبحيرَة {افترآء عَلَيْهِ} كذبا على الله أَنه أَمرهم بذلك {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يكذبُون على الله(1/120)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
{وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِه الْأَنْعَام} يَعْنِي الْبحيرَة والوصيلة {خَالِصَةٌ} حَلَال {لِّذُكُورِنَا} يعنون الرِّجَال {وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا} يعنون النِّسَاء {وَإِن يَكُن ميتَة} تلو ميتَة أَو مَاتَ بعد ذَلِك {فَهُمْ فِيهِ} فِي أكله {شُرَكَآءُ} شرع الرِّجَال وَالنِّسَاء {سَيَجْزِيهِمْ} وَهَذَا وَعِيد لَهُم {وَصْفَهُمْ} وَيُقَال مَا وَصفهم عَمْرو بن لحي رَآهُ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي جَهَنَّم يجر قصبه من دبره وَكَانَ يعلمهُمْ تَحْرِيم الْأَنْعَام {إِنَّهُ حِكِيمٌ} أحل لَهُم الْحَلَال {عَلِيمٌ} بوصفهم الْحَرَام(1/120)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
{قَدْ خَسِرَ} قد غبن {الَّذين قتلوا أَوْلاَدَهُمْ} دفنُوا بناتهم أَحيَاء {سَفَهاً} جهلا {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بِلَا علم نزلت فِي ربيعَة وَمُضر رُؤَسَاء أَحيَاء الْعَرَب الَّذين كَانُوا يدفنون بناتهم فِي الْجَاهِلِيَّة إِلَّا مَا كَانَ من بني كنَانَة فَإِنَّهُم لم يَفْعَلُوا ذَلِك {وَحَرَّمُواْ} على النِّسَاء {مَا رَزَقَهُمُ الله} مَا أحل الله لَهُم من الْحَرْث والأنعام {افتراء على الله} اختلاقا على الله الْكَذِب {قد ضلوا} أخطئوا فِيمَا قَالُوا {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} للهدى وَالصَّوَاب بِمَا وصفوا(1/120)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
{وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ} خلق {جَنَّاتٍ} بساتين {مَّعْرُوشَاتٍ} مبسوطات مَا لَا يقوم على سَاق مثل الكروم وَغَيرهَا {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} غير مبسوطات مَا يقوم على سَاق مثل الْجَوْز واللوز وَغَيرهمَا وَيُقَال معروشات مغروسات {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} أَي وَغير مغروسات {وَالنَّخْل وَالزَّرْع مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ} فِي الْحَلَاوَة والحموضة {وَالزَّيْتُون} وَخلق شجر الزَّيْتُون {وَالرُّمَّان} شجر الرُّمَّان {مُتَشَابِهاً} فِي اللَّوْن والمنظر {وَغَيْرَ مُتَشَابِه} مُخْتَلف فِي الطّعْم {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} من ثَمَر النّخل {إِذَآ أَثْمَرَ} انْعَقَد {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} يَوْم كَيْله وَإِن قَرَأت بِنصب الْحَاء يَقُول يَوْم يحصد {وَلاَ تسرفوا} وَلَا تنفقوا فِي مَعْصِيّة الله وَلَا تمنعوا طَاعَة الله(1/120)
وَيُقَال وَلَا تسرفوا لَا تحرموا الْبحيرَة والسائبة والوصيلة والحام {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} المنفقين فِي مَعْصِيّة الله وَالْمُشْرِكين وَيُقَال نزلت هَذِه الْآيَة فِي ثَابت ابْن قيس صرم بيدَيْهِ خَمْسمِائَة نَخْلَة وَقسمهَا وَلم يتْرك لأَهله شَيْئا(1/121)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
{وَمِنَ الْأَنْعَام} وَخلق من الْأَنْعَام {حَمُولَةً} مَا يحمل عَلَيْهَا مثل الْإِبِل وَالْبَقر {وفرشا} مَالا يحمل عَلَيْهَا مثل الْغنم وصغار الْإِبِل {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} من الْحَرْث والأنعام {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَان} تَزْيِين الشَّيْطَان بِتَحْرِيم الْحَرْث والأنعام {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظَاهر الْعَدَاوَة يَأْمُركُمْ بِتَحْرِيم الْحَرْث والأنعام(1/121)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} خلق ثَمَانِيَة أَصْنَاف {مَّنَ الضَّأْن} من الشَّاة {اثْنَيْنِ} ذكرا وَأُنْثَى {وَمِنَ الْمعز اثْنَيْنِ} ذكرا وَأُنْثَى {قُلْ} يَا مُحَمَّد لمَالِك {آلذكرين حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} أجاء تَحْرِيم الْبحيرَة والوصيلة من قبل مَاء الذكرين أَو من قبل مَاء الْأُنْثَيَيْنِ {أَمَّا اشْتَمَلت عَلَيْهِ} أَو من قبل الِاجْتِمَاع على الْوَلَد {أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي} خبروني {بِعِلْمٍ} بِبَيَان مَا تَقولُونَ {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَن الله حرم مَا تَقولُونَ(1/121)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
{وَمِنَ الْإِبِل} وَخلق من الْإِبِل {اثْنَيْنِ} ذكر وَأُنْثَى {وَمِنَ الْبَقر اثْنَيْنِ} ذكرا وَأُنْثَى {قُلْ} يَا مُحَمَّد لمَالِك {آلذكرين حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} أجاء تَحْرِيم الْبحيرَة والوصيلة من قبل مَاء الذكرين أَو من قبل مَاء الْأُنْثَيَيْنِ {أَمَّا اشْتَمَلت عَلَيْهِ} أَو من قبل الِاجْتِمَاع على الْوَلَد {أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ} وَلها وَجه آخر يَقُول أجاء تَحْرِيم هَذَا من قبل أَنه ولد ذكرا أَو من قبل أَنَّهَا ولدت أُنْثَى {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} حضراء {إِذْ وَصَّاكُمُ الله} أَمركُم الله {بِهَذَا} بِمَا تَقولُونَ {فَمَنْ أَظْلَمُ} أَعْتَى وَأَجرا على الله {مِمَّنِ افترى} اختلق {عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاس} عَن دين الله وطاعته {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بِلَا علم آتَاهُ الله {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي} لَا يرشد إِلَى دينه وحجته {الْقَوْم الظَّالِمين} الْمُشْركين يَعْنِي مَالك بن عَوْف(1/121)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
فَسكت مَالك وَعلم مَا يُرَاد مِنْهُ فَقَالَ تكلم أَنْت فَأَسْمع مِنْك يَا مُحَمَّد فَلم حرم آبَاؤُنَا فَقَالَ الله {قُل} يَا مُحَمَّد {لَا أجد فِيمَا أُوْحِيَ إِلَيَّ} يَعْنِي الْقُرْآن {مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} على آكل يَأْكُلهُ {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} جَارِيا {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} حرَام مقدم ومؤخر {أَوْ فِسْقاً} ذَبِيحَة {أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} ذبح لغير اسْم الله عمدا {فَمَنِ اضْطر} أجهد إِلَى أكل الْميتَة {غَيْرَ بَاغٍ} على الْمُسلمين وَلَا مستحل لأكل الْميتَة بِغَيْر الضَّرُورَة {وَلاَ عَادٍ} قَاطع الطَّرِيق وَلَا متعمد لأكل الْميتَة بِغَيْر ضَرُورَة {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ} لأكله شبعاً {رَّحِيمٌ} فِيمَا رخص عَلَيْهِ وَلَا يَنْبَغِي أَن يَأْكُل شبعاً وَإِن أكل يعف الله عَنهُ(1/121)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
{وَعَلَى الَّذين هَادُواْ} يَعْنِي الْيَهُود {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} كل ذِي مخلب من الطير وكل ذِي نَاب من السبَاع وَمَا يكون لَهُ ظفر مثل الْإِبِل والبط والأوز ابْن المَاء والأرنب كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِم {وَمِنَ الْبَقر وَالْغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ} يَعْنِي الثروب وشحم الكليتين {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ} المباعر {أَوْ مَا اخْتَلَط بِعَظْمٍ} مثل الألية فَهَذَا مَا كَانَ حَلَالا عَلَيْهِم {ذَلِك} الَّذِي حرمنا عَلَيْهِم {جَزَيْنَاهُم} عاقبناهم {بِبَغْيِهِمْ} بذنبهم حرمنا عَلَيْهِم {وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} فِيمَا قُلْنَا(1/121)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
{فَإِن كَذَّبُوكَ} يَا مُحَمَّد بِمَا وصفت لَك من التَّحْرِيم {فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} على الْبر والفاجر بِتَأْخِير الْعَذَاب {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ} عَذَابه {عَنِ الْقَوْم الْمُجْرمين} الْمُشْركين(1/121)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
{سَيَقُولُ الَّذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} من الْحَرْث والأنعام وَلَكِن أَمر وَحرم عَلَيْهِمَا {كَذَلِك} كَمَا كَذبك قَوْمك {كَذَّبَ الَّذين مِن قَبْلِهِم} رسلهم {حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} عذابنا {قُلْ} يَا مُحَمَّد {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ} من بَيَان على مَا تَقولُونَ من التَّحْرِيم(1/121)
{فَتُخْرِجُوهُ} فتظهروه {لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّن} مَا تَقولُونَ فِي تَحْرِيم الْحَرْث والأنعام إِلَّا بِالظَّنِّ {وَإِنْ أَنتُمْ} مَا أَنْتُم {إَلاَّ تَخْرُصُونَ} تكذبون(1/122)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد إِن لم تكن لكم حجَّة على مَا تَقولُونَ {فَلِلَّهِ الْحجَّة الْبَالِغَة} الْوَثِيقَة {فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ} لدينِهِ {أَجْمَعِينَ}(1/122)
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لَهُم {هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هَذَا} يَعْنِي مَا تَقولُونَ من الْحَرْث والأنعام {فَإِن شَهِدُواْ} بالزور على تَحْرِيمهَا {فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} الْقُرْآن {وَالَّذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} يشركُونَ بِهِ الْأَصْنَام(1/122)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لمَالِك بن عَوْف وَأَصْحَابه {تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} فِي الْكتاب الَّذِي أنزل عليّ {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} أَوله أَن لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا من الْأَوْثَان {وبالوالدين إِحْسَاناً} بَرّاً بهما {وَلاَ تقتلُوا أَوْلاَدَكُمْ} بناتكم {مِّنْ إمْلاَقٍ} مَخَافَة الذل والفقر {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} يَعْنِي أَوْلَادكُم {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِش} الزِّنَا {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يَعْنِي زنا الظَّاهِر {وَمَا بَطَنَ} يَعْنِي زنا السِّرّ وَهِي المخالة {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفس الَّتِي حَرَّمَ الله} قَتلهَا {إِلاَّ بِالْحَقِّ} بِالْعَدْلِ يَعْنِي بالقود وَالرَّجم والارتداد {ذَلِكُم وَصَّاكُمْ بِهِ} بِمَا أَمركُم فِي الْكتاب {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أمره وتوحيده(1/122)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيم إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} بِالْحِفْظِ والأرباح {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} الْحلم والرشد وَالصَّلَاح {وَأَوْفُواْ الْكَيْل وَالْمِيزَان} أَتموا الْكَيْل وَالْوَزْن {بِالْقِسْطِ} بِالْعَدْلِ {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً} عِنْد الْكَيْل وَالْوَزْن {إِلاَّ وُسْعَهَا} إِلَّا جهدها بِالْعَدْلِ {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} فاصدقوا {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} لَو كَانَ على ذِي قرَابَة مِنْكُم فِي الرَّحِم فَقولُوا عَلَيْهِ الْحق والصدق {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} يَعْنِي أَتموا الْعَهْد بِاللَّه {ذَلِكُم وَصَّاكُمْ بِهِ} أَمركُم بِهِ فِي الْكتاب {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لكَي تتعظوا(1/122)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
{وَأَنَّ هَذَا} يَعْنِي الْإِسْلَام {صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} قَائِما أرضاه {فَاتَّبعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} يَعْنِي الْيَهُودِيَّة والنصرانية والمجوسية {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} عَن دينه {ذَلِكُم وَصَّاكُمْ بِهِ} أَمركُم بِهِ فِي الْكتاب {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكَي تتقوا السبل(1/122)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
(ثُمَّ آتَيْنَا) أعطينا {مُوسَى الْكتاب} يَعْنِي التَّوْرَاة {تَمَاماً} بِالْأَمر وَالنَّهْي والوعد والوعيد وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب {عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} يَقُول على أحسن حَال وَيُقَال على إِحْسَان مُوسَى وتبليغ رِسَالَة ربه {وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} يَقُول وبياناً لكل شَيْء من الْحَلَال وَالْحرَام {وَهُدًى} من الضَّلَالَة {وَرَحْمَةً} من الْعَذَاب لمن آمن بِهِ {لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {يُؤْمِنُونَ} يصدقون(1/122)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
{وَهَذَا كِتَابٌ} يَعْنِي الْقُرْآن {أَنزَلْنَاهُ} أنزلنَا بِهِ جِبْرِيل {مُبَارَكٌ} فِيهِ الرَّحْمَة وَالْمَغْفِرَة لمن آمن بِهِ {فَاتَّبعُوهُ} فاتبعوا حَلَاله وَحَرَامه وَأمره وَنَهْيه {وَاتَّقوا} غَيره {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لكَي ترحموا فَلَا تعذبوا(1/122)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
{أَن تَقولُوا} لكَي لَا تَقولُوا يَا أهل مَكَّة يَوْم الْقِيَامَة {إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكتاب على طَآئِفَتَيْنِ} على أهل دينين {مِن قَبْلِنَا} يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى {وَإِن كُنَّا} وَقد كُنَّا {عَن دِرَاسَتِهِمْ} عَن قراءتهم التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل {لَغَافِلِينَ} لجاهلين(1/122)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
{أَوْ تَقُولُواْ} لكَي لَا تَقولُوا يَوْم الْقِيَامَة {لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكتاب} كَمَا أنزل على الْيَهُود وَالنَّصَارَى {لَكُنَّآ أهْدى مِنْهُمْ} أسْرع مِنْهُم إِجَابَة للرسول وأصوب دينا {فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ} بَيَان {مِّن رَّبِّكُمْ} يَعْنِي الْكتاب وَالرَّسُول {وَهدى} من الضَّلَالَة {وَرَحْمَة} لمن آمن بِهِ {فَمن أظلم} أَعْتَى وَأَجرا على الله {مِمَّن كذب بآيَات الله} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {وصدف عَنْهَا} أعرض عَنَّا {سَنَجْزِي الَّذين يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا} يعرضون عَن مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {سوء الْعَذَاب}(1/122)
شدَّة الْعَذَاب {بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} يعرضون عَن مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام وَالْقُرْآن(1/123)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
{هَلْ يَنظُرُونَ} هَل ينتظروا أهل مَكَّة {إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَة} عِنْد الْمَوْت لقبض أَرْوَاحهم {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} يَوْم الْقِيَامَة بِلَا كَيفَ {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} يَعْنِي طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} قبل طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا {لاَ يَنفَعُ نَفْساً} كَافِرَة {إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} من قبل طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} وَلم تخلص بإيمانها وَلم تعْمل خيرا قبل طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا لِأَنَّهُ لَا يقبل مِمَّن كَانَ كَافِر إِيمَان وَلَا عمل وَلَا تَوْبَة إِذا أسلم حِين يَرَاهَا إِلَّا من كَانَ صَغِيرا يؤمئذ أَو مَوْلُود بعد ذَلِك فَإِنَّهُ إِن ارْتَدَّ بعد مَا تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا ثمَّ أسلم قبل مِنْهُ وَمن كَانَ يَوْمئِذٍ مُؤمنا مذنباً فَتَابَ من الذُّنُوب قبل مِنْهُ يَقُول من كَانَ يؤمئد مُؤمنا مذنباً فَتَابَ أَو صَغِيرا أَو مولوداً بعد ذَلِك فَإِنَّهُ ينفع إِيمَانهم وتوبتهم وعملهم {قُلِ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {انتظروا} يَوْم الْقِيَامَة {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} بكم الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة أوقبل يَوْم الْقِيَامَة وَيُقَال قُلِ يَا مُحَمَّد انتظروا هلاكي إِنَّا منتظرون لهلاككم(1/123)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
{إِنَّ الَّذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} تركُوا دينهم وَدين آبَائِهِم وَيُقَال إقرارهم يَوْم الْمِيثَاق وَإِن قَرَأت فرقوا بتَشْديد الرَّاء يَعْنِي شتتوا دينهم أَي اخْتلفُوا فِي دينهم {وَكَانُواْ شِيَعاً} صَارُوا فرقا الْيَهُودِيَّة والنصرانية والمجوسية {لَّسْتَ مِنْهُمْ} من قِتَالهمْ {فِي شَيْءٍ} ثمَّ أمره بعد ذَلِك بقتالهم وَيُقَال لَيْسَ بِيَدِك تَوْبَتهمْ وَلَا عَذَابهمْ {إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ} بذلك {إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُم} يُخْبِرهُمْ {بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر(1/123)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
{مَن جَآءَ بِالْحَسَنَة} مَعَ التَّوْحِيد {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ} بالشرك بِاللَّه {فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} يَعْنِي النَّار {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لَا ينقص من حسناتهم وَلَا يُزَاد على سيئاتهم(1/123)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى {إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي} أكرمني رَبِّي بِدِينِهِ وَأَمرَنِي أَن أَدْعُو الْخلق وَيُقَال بَين لي رَبِّي كَيفَ أَدْعُو الْخلق {إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً} صدقا {مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} دين إِبْرَاهِيم {حَنِيفاً} مُسلما {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْركين} مَعَ الْمُشْركين على دينهم(1/123)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنَّ صَلاَتِي} الصَّلَوَات الْخمس {وَنُسُكِي} ديني وحجتي وذبيحتي وعبادتي {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} فِي الدُّنْيَا فِي طَاعَة الله وَرضَاهُ {رب الْعَالمين} سيد الْجِنّ وَالْإِنْس(1/123)
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
{لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسلمين} المخلصين بِالْعبَادَة والتوحيد(1/123)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً} أعبد ربّاً {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} بَائِن مِنْهُ {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} من الذُّنُوب {إِلاَّ عَلَيْهَا} عُقُوبَة ذَلِك {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لَا تحمل حاملة حمل أُخْرَى من الذُّنُوب وَيُقَال لَا تُؤْخَذ نفس بذنب نفس أُخْرَى وَيُقَال لَا تعذب نفس بِغَيْر ذَنْب وَيُقَال لَا تحمل حمالَة ذَنْب أُخْرَى بِطيبَة النَّفس وَلَكِن يحمل عَلَيْهَا بالكره {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ} بعد الْمَوْت {فَيُنَبِّئُكُمْ} يُخْبِركُمْ {بِمَا كُنتُمْ فِيهِ} فِي الدّين {تَخْتَلِفُونَ} تخالفون(1/123)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْض} خلف الْأُمَم الْمَاضِيَة فِي الأَرْض {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} فَضَائِل بِالْمَالِ والخدم {لِّيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم {فِي مَآ آتَاكُمْ} أَعْطَاكُم من المَال والخدم {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعقَاب} لمن كفر بِهِ وَلَا يشكره {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} لمن آمن بِهِ(1/123)
وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا الْأَعْرَاف وَهِي كلهَا مَكِّيَّة وآياتها مِائَتَان وست وكلماتها ثَلَاثَة آلَاف وسِتمِائَة وَخمْس وَعِشْرُونَ وحروفها أَرْبَعَة عشر ألفا وثلثمائة وَعشرَة أحرف
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {(1/124)
المص (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {المص} يَقُول أَنا الله أعلم وَأفضل وَيُقَال قسم أقسم بِهِ(1/124)
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
{كِتَابٌ} إِن هَذَا الْكتاب يَعْنِي الْقُرْآن {أُنزِلَ إِلَيْكَ} جِبْرِيل بِهِ {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} فَلَا يَقع فِي قَلْبك شكّ {مِّنْهُ} من الْقُرْآن أَنه لَيْسَ من الله وَيُقَال ضيق {لِتُنذِرَ بِهِ} بِالْقُرْآنِ أهل مَكَّة لكَي يُؤمنُوا {وذكرى} عظة {لِلْمُؤْمِنِينَ}(1/124)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
{اتبعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} يَعْنِي الْقُرْآن أحلُّوا حَلَاله وحرموا حرَامه {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ} لَا تعبدوا من دون الله {أَوْلِيَآءَ} أَرْبَابًا من الْأَصْنَام {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} مَا تتعظون بِقَلِيل وَلَا بِكَثِير(1/124)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
{وَكَم مِّن قَرْيَةٍ} من أهل قَرْيَة {أَهْلَكْنَاهَا} عذبناها {فَجَآءَهَا بَأْسُنَا} عذابنا {بَيَاتاً} لَيْلًا أَو نَهَارا {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} نائمون عِنْد القيلولة(1/124)
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} قَوْلهم {إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ} عذابنا بهلاكهم {إِلاَّ أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظالمين} مُشْرِكين(1/124)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} الرُّسُل يَعْنِي الْقَوْم عَن إِجَابَة الرُّسُل {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسلين} عَن تبليغهم(1/124)
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم} فلنخبرنهم {بِعِلْمٍ} بِبَيَان {وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} عَن تَبْلِيغ الرُّسُل وَإجَابَة الْقَوْم(1/124)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
{وَالْوَزْن} وزن الْأَعْمَال {يَوْمَئِذٍ} يَوْم الْقِيَامَة {الْحق} الْعدْل {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} حَسَنَاته فِي الْمِيزَان {فَأُولَئِك هُمُ المفلحون} الناجون من السخط وَالْعَذَاب(1/124)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} حَسَنَاته فِي الْمِيزَان {فَأُولَئِك الَّذين خسروا أَنْفُسَهُم} بالعقوبة {بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {يِظْلِمُونَ} يكفرون(1/124)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ} ملكناكم {فِي الأَرْض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا} فِي الأَرْض {مَعَايِشَ} مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تشربون وَمَا تلبسُونَ {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} مَا تشكرون بِقَلِيل وَلَا بِكَثِير وَيُقَال شكركم فِيمَا صنع إِلَيْكُم قَلِيل(1/124)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} من آدم وآدَم من تُرَاب {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} فِي الْأَرْحَام وصورنا آدم بَين مَكَّة والطائف {ثُمَّ قُلْنَا للْمَلَائكَة} الَّذين كَانُوا فِي الأَرْض {اسجدوا لآدَم} سَجْدَة التَّحِيَّة {فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ} رئيسهم {لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين} مَعَ الساجدين بِالسُّجُود لآدَم(1/124)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
{قَالَ مَا مَنَعَكَ} قَالَ الله يَا إِبْلِيس مَا مَنعك {أَلاَّ تَسْجُدَ} لآدَم (إِذْ أَمَرْتُكَ) بِالسُّجُود {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} أَنا نَارِي وآدَم طيني وَالنَّار تَأْكُل الطين(1/124)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
{قَالَ} الله لَهُ {فاهبط مِنْهَا} فَانْزِل من السَّمَاء وَيُقَال فَاخْرُج مِنْهَا من صُورَة الْمَلَائِكَة {فَمَا يَكُونُ لَكَ} مَا يَنْبَغِي لَك {أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} أَن تتعظم فِي صُورَة الْمَلَائِكَة على بني آدم {فَاخْرُج} من صُورَة الْمَلَائِكَة وَيُقَال فَاخْرُج مِنْهَا من الأَرْض {إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} من الذليلين بالعقوبة(1/124)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
{قَالَ أَنظِرْنِي} أجلني {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} من الْقُبُور أَرَادَ الملعون أَن لَا يَمُوت(1/124)
قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
{قَالَ} الله لَهُ {إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} من المؤجلين إِلَى نفخة الصُّور(1/124)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
{قَالَ}(1/124)
إِبْلِيس {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي} فَكَمَا أضللتني عَن الْهدى {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} لبني آدم {صِرَاطَكَ الْمُسْتَقيم} دين الْإِسْلَام(1/125)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
{ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من قبل الْآخِرَة أَن لاجنة وَلَا نَار وَلَا بعث وَلَا حِسَاب {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أَن الدُّنْيَا لَا تفنى وَآمرهُمْ بِالْجمعِ وَالْمَنْع وَالْبخل وَالْفساد {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} من قبل الدّين فَمن كَانَ على الْهدى أشبه عَلَيْهِ حَتَّى يخرج مِنْهُ وَمن كَانَ على الضَّلَالَة أزين لَهُ حَتَّى يثبت عَلَيْهَا {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} من قبل اللَّذَّات والشهوات {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ} كلهم {شَاكِرِينَ} مُؤمنين(1/125)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
{قَالَ اخْرُج مِنْهَا} من صُورَة الْمَلَائِكَة {مذؤوما} ملوماً {مَّدْحُوراً} مقصى بَعيدا من كل خير {لَّمَن تَبِعَكَ} أطاعك {مِنْهُمْ} من الْجِنّ وَالْإِنْس {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ} من كفار الْجِنّ وَالْإِنْس {أَجْمَعِينَ}(1/125)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
{وَيَا آدَمُ اسكن} انْزِلْ {أَنتَ وَزَوْجُكَ} حَوَّاء {الْجنَّة فَكُلاَ} من الْجنَّة {مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} وَمَتى شئتما {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِه الشَّجَرَة} لَا تأكلا من هَذِه الشَّجَرَة شَجَرَة الْعلم {فَتَكُونَا من الظَّالِمين} فَتَصِير من الضارين لأنفسكما(1/125)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَان} إِبْلِيس بِأَكْل الشَّجَرَة {لِيُبْدِيَ لَهُمَا} ليظْهر لَهما {مَا وُورِيَ عَنْهُمَا} مَا غطى عَنْهُمَا بلباس النُّور {من سوآتهما} من عوراتهما {وَقَالَ} لَهما إِبْلِيس {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا} يَا آدم وَيَا حَوَّاء {عَنْ هَذِه الشَّجَرَة} عَن أكل هَذِه الشَّجَرَة {إِلاَّ أَن تَكُونَا} تصيرا {مَلَكَيْنِ} تعلمان الْخَيْر وَالشَّر فِي الْجنَّة {أَوْ تَكُونَا} تصيرا {مِنَ الخالدين} فِي الْجنَّة فَلذَلِك منعكما عَن أكل الشَّجَرَة(1/125)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
{وَقَاسَمَهُمَآ} حلف لَهما {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} فِي حلفي لَكمَا إِنَّهَا شَجَرَة الْخلد(1/125)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
{فَدَلاَّهُمَا} إِلَى أكل الشَّجَرَة {بِغُرُورٍ} بَاطِل وَكذب حَتَّى أكلا {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة} فَلَمَّا أكلا من الشَّجَرَة {بَدَت لَهما} ظَهرت لَهما {سوآتهما} عوراتهما {وَطَفِقَا} عمدا من الاستحياء {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا} يلزقان على عوراتهما {مِن وَرَقِ الْجنَّة} من ورق التِّين {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ} يَا آدم وَيَا حَوَّاء {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَة} عَن أكل هَذِه الشَّجَرَة {وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشيطآن} إِبْلِيس {لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ} ظَاهر الْعَدَاوَة(1/125)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
{قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} ضررنا أَنْفُسنَا بمعصيتنا {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} تتجاوز عَنَّا {وَتَرْحَمْنَا} فَلَا تعذبنا {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} لنصيرن من المغبونين بالعقوبة(1/125)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
{قَالَ اهبطوا} انزلوا من الْجنَّة {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدو} يَعْنِي آدم وحواء والحية والطاوس {وَلَكُمْ فِي الأَرْض مُسْتَقَرٌّ} مأوى ومنزل {وَمَتَاعٌ} معاش {إِلَى حِينٍ} حِين الْمَوْت(1/125)
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
{قَالَ فِيهَا} فِي الأَرْض الأَرْض {تَحْيَوْنَ} تعيشون {وَفِيهَا} فِي الأَرْض {تَمُوتُونَ وَمِنْهَا} من الأَرْض {تُخْرَجُونَ} يَوْم الْقِيَامَة(1/125)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
{يَا بني آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ} خلقنَا لكم وأعطيناكم {لِبَاساً} يَعْنِي ثِيَاب الْقطن وَغَيره من الصُّوف وَالشعر {يواري} يغطى {سوآتكم} عوراتكم من العري {وَرِيشاً} مَالا ومتاعاً يَعْنِي آلَة الْبَيْت {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} لِبَاس التَّوْحِيد والعفة {ذَلِك} يَعْنِي لِبَاس الْعِفَّة {خَيْرٌ} من لِبَاس الْقطن {ذَلِك} يَعْنِي لِبَاس الْقطن {مِنْ آيَاتِ الله} من عجائب الله {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} لكَي يتعظوا(1/125)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
{يَا بني آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ} لَا يستزلنكم {الشَّيْطَان} إِبْلِيس عَن طَاعَتي {كَمَا أخرج} استزل {أَبَوَيْكُمْ} آدم وحواء {مِّنَ الْجنَّة يَنزِعُ عَنْهُمَا} يخلع عَنْهُمَا {لِبَاسَهُمَا} لِبَاس النُّور {لِيُرِيَهُمَا} ليظْهر لَهما {سوآتهما} عوراتهما {إِنَّهُ} يَعْنِي إِبْلِيس {يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} جُنُوده {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} لِأَن صدوركم مسكنهم {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِين أَوْلِيَآءَ} أعواناً {لِلَّذِينَ لَا يُؤمنُونَ} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن(1/125)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
{وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} حرمُوا الْبحيرَة والسائبة والوصيلة والحام {قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ} على تَحْرِيمهَا {آبَاءَنَا} وأجدادنا {وَالله أَمَرَنَا بِهَا} بِتَحْرِيم الْبحيرَة والسائبة والوصيلة والحام {قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنَّ الله لَا يَأْمر بالفحشاء} بِالْمَعَاصِي وبتحريم الْحَرْث والأنعام {أَتَقُولُونَ} بل تَقولُونَ {عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ذَلِك(1/126)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} بِالتَّوْحِيدِ بِلَا إِلَه إِلَّا الله {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ} واستقبلوا بوجوهكم {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} عِنْد كل صَلَاة {وادعوه} واعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدّين} مُخلصين لَهُ بِالْعبَادَة والتوحيد {كَمَا بَدَأَكُمْ} يَوْم الْمِيثَاق سعيداً وشقياً عَارِفًا ومنكراً مُصدقا ومكذباً {تَعُودُونَ} إِلَى ذَلِك(1/126)
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
{فَرِيقاً هدى} أكْرمهم الله بالمعرفة والسعادة وهم أهل الْيَمين {وَفَرِيقاً حَقَّ} وَجب {عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة} أَهَانَهُمْ الله بالنكرة والشقاوة وهم أهل الشمَال {إِنَّهُمُ اتَّخذُوا} يَقُول قد علم الله أَنهم يتخذون {الشَّيَاطِين أَوْلِيَآءَ} أَرْبَابًا {مِن دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ} يظنّ أهل الضَّلَالَة {أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} بدين الله(1/126)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
{يَا بني آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ} البسوا ثيابكم {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} عِنْد وَقت كل صَلَاة وَطواف {وكُلُواْ} من اللَّحْم وَالدَّسم {وَاشْرَبُوا} من اللَّبن {وَلاَ تسرفوا} لَا تحرموا الطَّيِّبَات من الرزق وَاللَّحم وَالدَّسم {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} الْمُعْتَدِينَ من الْحَلَال إِلَى الْحَرَام(1/126)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله} لبس الثِّيَاب فِي أَيَّام الْمَوْسِم وَالْحرم وَالطّواف {الَّتِي أَخْرَجَ} يَعْنِي الزِّينَة خلق {لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} من اللَّحْم وَالدَّسم وَقد كَانُوا يحرمُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة على أنفسهم فِي أَيَّام الْمَوْسِم اللَّحْم وَالدَّسم ويدخلون الْحرم الرِّجَال بِالنَّهَارِ وَالنِّسَاء بِاللَّيْلِ عُرَاة فيطوفون عُرَاة فنهاهم الله عَن ذَلِك {قُلْ} يَا مُحَمَّد {هِي} يَعْنِي الطَّيِّبَات {لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {خَالِصَةً} خَاصَّة {يَوْمَ الْقِيَامَة} واشترك فِيهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا الْبر والفاجر مقدم ومؤخر {كَذَلِكَ} هَكَذَا {نُفَصِّلُ الْآيَات} نبين الْقُرْآن بالحلال وَالْحرَام {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ويصدقون أَنه من الله(1/126)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لَهُم {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِش} الزِّنَا {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يَعْنِي زنا الظَّاهِر {وَمَا بَطَنَ} مِنْهَا يَعْنِي زنا السِّرّ وَهِي المخالة {وَالْإِثْم} الْخمر كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(شربت الْإِثْم حَتَّى ضل عَقْلِي ... كَذَا الْإِثْم تذْهب بالعقول) وَقَالَ أَيْضا
(شربت الْإِثْم بالصواع جهارا ... وَترى آلهتك بَيْننَا مستفادا)
{وَالْبَغي} الاستطالة {بِغَيْرِ الْحق} بِلَا حق {وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّه مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} كتابا وَلَا حجَّة {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ذَلِك من تَحْرِيم الْحَرْث والأنعام والطيبات واللباس(1/126)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} لكل أهل دين {أَجَلٌ} وَقت لهلاكها {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} وَقت هلاكهم {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} لَا يتركون بعد الْأَجَل طرفَة عين {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} لَا يهْلكُونَ قبل الْأَجَل طرفَة عين(1/126)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
{يَا بني آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} حِين يَأْتينكُمْ {رسل مِنْكُم} آدميون مثلكُمْ {يقصون عَلَيْكُم} يقرءُون عَلَيْكُم {آيَاتِي} بِالْأَمر وَالنَّهْي {فَمَنِ اتَّقى} آمن بِالْكتاب وَالرسل {وَأَصْلَحَ} فِيمَا بَينه وَبَين ربه {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من الْعَذَاب {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} من ذهَاب الْجنَّة(1/126)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
{وَالَّذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بكتابنا وبرسولنا {واستكبروا عَنْهَآ} عَن الْإِيمَان بهَا {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّار} أهل النَّار {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دائمون لَا يموتون وَلَا يخرجُون(1/126)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
{فَمن أظلم} أَعْتَى وَأَجرا على الله {مِمَّن افترى} اختلق(1/126)
{عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكتاب} مَا وعدهم فِي الْكتاب من سَواد الْوُجُوه وزرقة الْأَعْين أنظرهم يَا مُحَمَّد {حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا} يَعْنِي ملك الْمَوْت وأعوانه {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} يقبضون أَرْوَاحهم {قَالُوا} عِنْد قبض أَرْوَاحهم {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ} تَعْبدُونَ {مِن دُونِ الله} فيمنعونكم عَنَّا {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} اشتغلوا عَنَّا بِأَنْفسِهِم {وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} بِاللَّه وبالرسل فِي الدُّنْيَا(1/128)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
{قَالَ} الله لَهُم {ادخُلُوا} النَّار {فِي أُمَمٍ} مَعَ أُمَم {قَدْ خَلَتْ} قد مَضَت {مِن قَبْلِكُمْ مِّن الْجِنّ وَالْإِنْس} من كفار الْجِنّ وَالْإِنْس {فِي النَّار كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} أهل دين {لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} دعت على الَّتِي دخلت قبلهَا {حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا} اجْتَمعُوا فِي النَّار {جَمِيعاً} الأول فَالْأول {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} أُخْرَى الْأُمَم {لأُولاَهُمْ} لأولى الْأُمَم {رَبَّنَا هَؤُلَاءِ} يَعْنِي الرؤساء {أَضَلُّونَا} عَن دينك وطاعتك {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّار} عذبهم مثل عذابنا مرَّتَيْنِ {قَالَ} الله لَهُم {لِكُلٍّ} لكل وَاحِد مِنْهُم {ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ} ذَلِك من شدَّة عذابكم(1/128)
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
{وَقَالَتْ أُولاَهُمْ} أولى الْأُمَم {لأُخْرَاهُمْ} لأخرى الْأُمَم {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} أَن يكون عذابنا ضعفا كَفرْتُمْ كَمَا كفرنا وعبدتم من دون الله كَمَا عَبدنَا فَيَقُول الله لَهُم {فَذُوقُواْ الْعَذَاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} تَقولُونَ وتعملون من الشّرك فِي الدُّنْيَا(1/128)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
{إِن الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {واستكبروا} عَنْهَا عَن الْإِيمَان بهَا {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء} لرفع أَعْمَالهم وَلَا لرفع أَرْوَاحهم {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجنَّة حَتَّى يَلِجَ الْجمل فِي سَمِّ الْخياط} كَمَا لَا يدْخل الْجمل فِي سم الْخياط فِي ثقب الإبرة وَيُقَال حَتَّى يدْخل الْجمل فِي خرق الإبرة وَيُقَال حَتَّى يدْخل القلس الْحَبل الَّذِي تشد بِهِ السَّفِينَة فِي خرق الإبرة {وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {نَجْزِي الْمُجْرمين} الْمُشْركين(1/128)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
{لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَاد} فرَاش من نَار {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} غاشية من نَار {وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {نَجْزِي الظَّالِمين} الْمُشْركين(1/128)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
{وَالَّذين آمنُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً} من الْجهد {إِلاَّ وُسْعَهَا} إِلَّا طاقتها {أُولَئِكَ} يَعْنِي الْمُؤمنِينَ {أَصْحَابُ الْجنَّة} أهل الْجنَّة {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دائمون لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا(1/128)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
{وَنَزَعْنَا} أَخرجنا {مَا فِي صُدُورِهِم} قُلُوبهم {مِّنْ غِلٍّ} بغض وحسد وعداوة فِي الدُّنْيَا {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ} فِي الْآخِرَة من تَحت مساكنها وسررهم {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {وَقَالُواْ} إِذا بلغُوا إِلَى مَنَازِلهمْ وَيُقَال إِلَى عين الْحَيَوَان {الْحَمد لِلَّهِ} الشُّكْر والْمنَّة لله {الَّذِي هَدَانَا لهَذَا} الْمنزل وَالْعين {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا الله} إِلَيْهِ وَيُقَال لما رَأَوْا كَرَامَة الله بِإِيمَان قَالُوا الْحَمد لِلَّهِ الشُّكْر والْمنَّة لله الَّذِي هَدَانَا لهَذَا الدّين دين الْإِسْلَام وَمَا كُنَّا لنهتدي لدين الْإِسْلَام لَوْلَا أَن هدَانَا الله لدينِهِ {لَقَدْ جَاءَت رسل رَبنَا بِالْحَقِّ} والبشرى بالثواب والكرامة {ونودوا أَن تِلْكُمُ الْجنَّة أورثتموها}(1/128)
أعطيتموها {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وتقولون فِي الدُّنْيَا من الْخيرَات(1/128)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
{ونادى أَصْحَابُ الْجنَّة أَصْحَابَ النَّار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} من الثَّوَاب والكرامة {حَقّاً} صدقا كَائِنا {فَهَلْ وَجَدتُّم} يَا أهل النَّار {مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ} من الْعَذَاب والهوان {حَقّاً} صدقا كَائِنا {قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} فَنَادَى مُنَاد بَين أهل الْجنَّة وَالنَّار {أَن لَّعْنَةُ الله} عَذَاب الله {عَلَى الظَّالِمين} الْكَافرين(1/128)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
{الَّذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} يصرفون النَّاس عَن دين الله وطاعته {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} يطلبونها مُغيرَة {وَهُمْ بِالآخِرَة} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {كَافِرُونَ} جاحدون(1/128)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
{وَبَيْنَهُمَا} بَين الْجنَّة وَالنَّار {حِجَابٌ} سور {وَعَلَى الْأَعْرَاف رِجَالٌ} وعَلى السُّور رجال وهم قوم اسْتَوَت حسناتهم بسيئاتهم وَيُقَال هم قوم كَانُوا عُلَمَاء فُقَهَاء شاكين فِي الرزق {يَعْرِفُونَ كُلاًّ} كلا الْفَرِيقَيْنِ من دخل النَّار وَمن دخل الْجنَّة {بِسِيمَاهُمْ} يعْرفُونَ من دخل النَّار بسواد وَجهه وزرقة عَيْنَيْهِ وَمن دخل الْجنَّة ببياض وَجهه أغر محجل {وَنَادَوْاْ} يَعْنِي أهل السُّور {أَصْحَابَ الْجنَّة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} يَا أَهل الْجنَّة {لَمْ يَدْخُلُوهَا} {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} فِي الدُّخُول يَعْنِي أَصْحَاب الْأَعْرَاف(1/128)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} إِذا نظرُوا {تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّار} نَحْو أَهل النَّار {قَالُواْ رَبَّنَا} يَا رَبنَا {لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين} الْكَافرين فِي النَّار(1/128)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
{ونادى أَصْحَابُ الْأَعْرَاف رِجَالاٍ} من الْكفَّار {يَعْرِفُونَهُمْ} قبل دُخُولهمْ النَّار {بِسِيمَاهُمْ} بسواد وُجُوههم وزرقة أَعينهم {قَالُواْ} يَا وليد بن الْمُغيرَة وَيَا أَبا جهل بن هِشَام وَيَا أُميَّة بن خلف وَيَا أبي بن خلف الجُمَحِي وَيَا أسود ابْن عبد الْمطلب وَيَا سَائِر الرؤساء {مَآ أغْنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} من المَال والخدم {وَمَا كُنْتُمْ تستكبرون} تتعظمون عَن الْإِيمَان بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن(1/128)
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
ثمَّ نظرُوا إِلَى أَصْحَاب الْجنَّة فَرَأَوْا فِي الْجنَّة سلمَان الْفَارِسِي وصهيباً وَعمَّارًا وَسَائِر الضُّعَفَاء والفقراء قَالُوا {أَهَؤُلَاءِ} الضُّعَفَاء {الَّذين أَقْسَمْتُمْ} حلفتم فِي الدُّنْيَا يَا معشر الْكفَّار {لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ} لَا يدخلهم الله الْجنَّة وَقد دخلُوا الْجنَّة على رغم أنوفكم ثمَّ يَقُول الله لأَصْحَاب الْأَعْرَاف {ادخُلُوا الْجنَّة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ} من الْعَذَاب {وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ}(1/128)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
{ونادى أَصْحَابُ النَّار أَصْحَابَ الْجنَّة أَنْ أَفِيضُواْ} صبوا {عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} من ثمار الْجنَّة {قَالُوا} يَعْنِي أهل الْجنَّة {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا} يَعْنِي ثمار الْجنَّة وَالْمَاء {عَلَى الْكَافرين}(1/128)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
{الَّذين اتَّخذُوا دِينَهُمْ لَهْواً} بَاطِلا {وَلَعِباً} فَرحا وَيُقَال ضحكة وسخرية {وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا} مافي الدُّنْيَا من الزهرة وَالنَّعِيم {فاليوم} يَوْم الْقِيَامَة {نَنسَاهُمْ} نتركهم فِي النَّار {كَمَا نَسُواْ} كَمَا تركُوا {لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} الْإِقْرَار بيومهم هَذَا {وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا} بكتابنا ورسولنا {يَجْحَدُونَ} يكفرون(1/128)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
{وَلَقَد جئناهم بِكِتَاب} يَقُول أرسلنَا إِلَيْهِم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْقُرْآنِ {فَصَّلْنَاهُ} بَيناهُ {على عِلْمٍ} بِعلم منا وَيُقَال علمناه {هُدًى} من الضَّلَالَة(1/128)
{وَرَحْمَة} من الْعَذَاب {لقوم يُؤمنُونَ} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن(1/129)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
{هَل ينظرُونَ} مَا ينتظرون أهل مَكَّة إِذْ لَا يُؤمنُونَ {إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} عَاقِبَة مَا وعد لَهُم فِي الْقُرْآن {يَوْمَ} وَهُوَ يَوْم الْقِيَامَة {يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} عَاقِبَة مَا وعد لَهُم فِي الْقُرْآن {يَقُولُ الَّذين نَسُوهُ} تركُوا الْإِقْرَار بِهِ {مِن قَبْلُ} من قبل ذَلِك فِي الدُّنْيَا {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} بِبَيَان الْبَعْث وَالْجنَّة وَالنَّار وَلَكِن كذبناهم {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ} من الْعَذَاب {أَوْ نُرَدُّ} إِلَى الدُّنْيَا {فَنَعْمَلَ} فنؤمن ونعمل {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فِي الشّرك {قَدْ خسروا} غبنوا {أَنفُسَهُمْ} بذهاب الْجنَّة وَلُزُوم النَّار {وَضَلَّ عَنْهُمْ} اشْتغل عَنْهُم {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يعْبدُونَ بِالْكَذِبِ(1/129)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
{إِنَّ رَبَّكُمُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} من أَيَّام الدُّنْيَا طول كل يَوْم ألف سنة {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} عمد إِلَى خلق الْعَرْش وَيُقَال اسْتَقر {يُغْشِي اللَّيْل النَّهَار} يُغطي اللَّيْل بِالنَّهَارِ وَالنَّهَار بِاللَّيْلِ {يَطْلُبُهُ} يَعْنِي اللَّيْل النَّهَار وَالنَّهَار اللَّيْل {حَثِيثاً} سَرِيعا يَجِيء وَيذْهب {وَالشَّمْس} وَخلق الشَّمْس {وَالْقَمَر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ} مذللات {بِأَمْرِهِ} بإِذنه {أَلاَ لَهُ الْخلق} خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض {وَالْأَمر} يَعْنِي الْقَضَاء بَين الْعباد يَوْم الْقِيَامَة {تَبَارَكَ الله} ذُو بركَة وَيُقَال تَعَالَى الله وَيُقَال تَبرأ {رَبُّ الْعَالمين} سيد الْعَالمين ومدبرهم(1/129)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
{ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً} عَلَانيَة {وَخُفْيَةً} سرا وَيُقَال تضرعاً أَي مستكيناً وخفية أَي خوفًا {إِنَّهُ لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} بِالدُّعَاءِ مَا لايحق لَهُم على الصَّالِحين(1/129)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْض} بِالْمَعَاصِي وَالدَّعْوَى إِلَى غير الله {بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} بِالطَّاعَةِ والدعوة إِلَى الله تَعَالَى {وادعوه} اعبدوه {خَوْفاً} مِنْهُ وَمن عَذَابه {وَطَمَعاً} إِلَيْهِ أَن تصيروا إِلَى جنته {إِن رَحْمَة الله} جنَّة الله {قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} من الْمُؤمنِينَ الْمُحْسِنِينَ بالْقَوْل وَالْفِعْل(1/129)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاح بُشْراً} طيبا {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} قُدَّام الْمَطَر {حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ} رفعت {سَحَاباً ثِقَالاً} ثقيلاً بِالْمَاءِ {سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ} إِلَى مَكَان {مَّيِّتٍ} لَا نَبَات فِيهِ {فَأَنْزَلْنَا بِهِ} بِالْمَكَانِ الْمَيِّت {المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بالمطر {مِن كُلِّ الثمرات} من ألوان الثمرات {كَذَلِك} كَمَا نحيي الأَرْض بالنبات {نُخْرِجُ الْمَوْتَى} نحيي وَنخرج الْمَوْتَى من الْقُبُور {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لكَي تتعظوا(1/129)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
{والبلد الطّيب} الْمَكَان الزاكي الَّذِي لَيْسَ بسبخة {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} بِإِرَادَة ربه بِلَا كد وَلَا عناء كَذَلِك الْمُؤمن المخلص يُؤَدِّي مَا أَمر الله طَوْعًا بِطيبَة النَّفس {وَالَّذِي خَبُثَ} الْمَكَان الْخَبيث السبخة {لاَ يَخْرُجُ} نَبَاته {إِلَّا نكدا} إِلَّا بتعب وعناء {ذَلِك} الْمُنَافِق لَا يُؤَدِّي مَا أَمر الله إِلَّا كرها بِغَيْر طيبَة النَّفس {نُصَرِّفُ الْآيَات} نبين الْقُرْآن فِي مثل الْمُؤمن وَالْكَافِر {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} يُؤمنُونَ(1/129)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
{لقد أرسلنَا نوحًا إِلَى قومه فَقَالَ يَا قوم اعبدوا الله} وحدوا الله {مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَه غَيْرُهُ} غير الَّذِي أدعوكم إِلَيْهِ {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} أعلم أَن يكون عَلَيْكُم {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} إِن لم تؤمنوا(1/129)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
{قَالَ الْمَلأ} الرؤساء {مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ} يَا نوح {فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} فِي خطأ بَين فِيمَا تَقول(1/130)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)
{قَالَ يَا قوم لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ} سفاهة {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رب الْعَالمين} إِلَيْكُم(1/130)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} بِالْأَمر وَالنَّهْي {وَأَنصَحُ لَكُمْ} أحذركم من الْعَذَاب وأدعوكم إِلَى التَّوْبَة وَالْإِيمَان {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من الْعَذَاب إِن لم تؤمنوا(1/130)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
{أوعجبتم} بل عجبتم {أَن جَاءَكُم} {ذِكْرٌ} نبوة {مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ} آدَمِيّ مثلكُمْ {لِيُنذِرَكُمْ} ليخوفكم {وَلِتَتَّقُواْ} لكَي تطيعوا الله فتتقوا عبَادَة غير الله {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لكَي ترحموا فَلَا تعذبوا(1/130)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
{فَكَذَّبُوهُ} يَعْنِي نوحًا {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذين مَعَهُ فِي الْفلك} فِي السَّفِينَة من الْغَرق وَالْعَذَاب {وَأَغْرَقْنَا الَّذين كذبُوا بآياتنآ} بكتابنا ورسولنا نوح {إِنَّهُم كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ} عَن الْهدى كَافِرين بِاللَّه(1/130)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
{وَإِلَى عَادٍ} وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَاد {أَخَاهُمْ} نَبِيّهم {هودا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله} وحدوا الله {مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَه غَيْرُهُ} غير الَّذِي أدعوكم إِلَيْهِ {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} عبَادَة غير الله(1/130)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
{قَالَ الْمَلأ} الرؤساء {الَّذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ} يَا هود {فِي سَفَاهَةٍ} فِي جَهَالَة {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبين} فِيمَا تَقول(1/130)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)
{قَالَ يَا قوم لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} جَهَالَة {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رب الْعَالمين} إِلَيْكُم(1/130)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} بِالْأَمر وَالنَّهْي {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ} أحذركم من عَذَاب الله وأدعوكم إِلَى التَّوْبَة وَالْإِيمَان {أَمِينٌ} على رِسَالَة رَبِّي وَيُقَال قد كنت أَمينا فِيكُم قبل هَذَا فَكيف تتهموني الْيَوْم(1/130)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
{أوعجبتم} بل عجبتم {أَن جَآءَكُمْ} بِأَن جَاءَكُم {ذِكْرٌ} نبوة {من ربكُم على رجل مِنْكُم} آدَمِيّ مثلكُمْ {لِيُنذِرَكُمْ} ليخوفكم من عَذَاب الله {واذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} من بعد هَلَاك قوم نوح {وَزَادَكُمْ فِي الْخلق} فِي الطول والجسم {بسطة} فَضِيلَة {فاذكروا آلآءَ الله} نعماء الله وآمنوا بِهِ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكَي تنجوا من السخط وَالْعَذَاب(1/130)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ} نَتْرُك {مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من آلِهَة شَتَّى {فأتنا بِمَا تعدنآ} من الْعَذَاب {إِن كنت من الصَّادِقين}(1/130)
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
{قَالَ قَدْ وَقَعَ} وَجب {عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ} عَذَاب {وَغَضَبٌ} سخط من ربكُم {أَتُجَادِلُونَنِي} أتخاصمونني {فِي أَسْمَآءٍ} فِي أصنام {سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ} آلِهَة {مَّا نَزَّلَ الله بِهَا} بعبادتها(1/130)
{مِن سُلْطَانٍ} من كتاب وَلَا حجَّة {فانتظروا} لهلاكي {إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} لهلاككم(1/131)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
{فَأَنجَيْنَاهُ} يَعْنِي هوداً {وَالَّذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} عَلَيْهِم {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أَي استأصلنا الَّذين كذبُوا بكتابنا ورسولنا هود {وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} وَكلهمْ كَانُوا كَافِرين الَّذين أهلكوا(1/131)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{وَإِلَى ثَمُودَ} وَأَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُود {أَخَاهُمْ} نَبِيّهم وَيُقَال كَانَ أَخَاهُم فِي النّسَب وَلم يكن أَخَاهُم فِي الدّين {صَالحا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله} وحدوا الله {مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَه غَيره} غير الَّذِي أَمركُم أَن تؤمنوا بِهِ {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} بَيَان من ربكُم {هَذِه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} عَلامَة على رِسَالَة الله {فَذَرُوهَا} اتركوها {تَأْكُلْ فِي أَرْضِ الله} الْحجر من عشبها {وَلاَ تمسوها بِسوء} بعقر {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بعد عقرهَا(1/131)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
{واذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ} مستخلفين فِي الأَرْض {مِن بَعْدِ عَادٍ} من بعد هَلَاك عَاد {وَبَوَّأَكُمْ} أنزلكم {فِي الأَرْض تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا} تبنون من طينها {قُصُوراً} للصيف {وَتَنْحِتُونَ الْجبَال} فِي الْجبَال {بُيُوتاً} للشتاء {فاذكروا آلآءَ الله} نعماء الله وآمنوا بِهِ {وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْض مُفْسِدِينَ} لَا تعملوا فِي الأَرْض بِالْمَعَاصِي وَالدُّعَاء إِلَى غير الله(1/131)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
{قَالَ الْمَلأ} الرؤساء {الَّذين استكبروا} عَن الْإِيمَان {مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا} قهروا {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} من الضُّعَفَاء {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ} إِلَيْكُم {قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ} صَالح {مُؤْمِنُونَ} مصدقون(1/131)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)
{قَالَ الَّذين استكبروا} عَن الْإِيمَان {إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} جاحدون(1/131)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
{فَعَقَرُواْ النَّاقة} قتلوها {وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أَبَوا عَن قبُول أَمر رَبهم الَّذِي أَمرهم صَالح {وَقَالُوا يَا صَالح ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ} من الْعَذَاب {إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسلين} استهزاء بِهِ(1/131)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
{فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} الزلزلة والصيحة بِالْعَذَابِ {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} فصاروا فِي مدينتهم {جَاثِمِينَ} ميتين لَا يتحركون(1/131)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
{فَتَوَلّى عَنْهُمْ} خرج من بَينهم صَالح قبل أَن يهْلكُوا {وَقَالَ يَا قوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} بِالْأَمر وَالنَّهْي {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} حذرتكم من عَذَاب الله ودعوتكم إِلَى التَّوْبَة وَالْإِيمَان {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين} لم تطيعوا الناصحين(1/131)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
{وَلُوطاً} وَأَرْسَلْنَا لوطاً إِلَى قومه {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة} يَعْنِي اللواطة {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا} بِهَذَا الْعَمَل {مِنْ أَحَدٍ} أحد {مِّن الْعَالمين} قبلكُمْ(1/131)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَال}(1/131)
أدبار الرِّجَال {شَهْوَةً} أشهى لكم {مِّن دُونِ النسآء} من فروج النِّسَاء {بل أَنْتُم قوم مُّسْرِفُونَ} فِي الشّرك معتدون الْحَلَال إِلَى الْحَرَام(1/132)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} لم يكن جَوَاب قومه {إِلاَّ أَن قَالُوا} قَالَ بَعضهم لبَعض {أخرجوهم} يَعْنِي لوطا وابنتيه زعورا وريشا {مِّن قَرْيَتِكُمْ} من مدينتكم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} يتنزهون عَن أدبار الرِّجَال وَالنِّسَاء(1/132)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
{فَأَنجَيْنَاهُ} يَعْنِي لوطاً {وَأَهْلَهُ} وابنتيه زعورا وريثا {إِلاَّ امْرَأَته كَانَتْ مِنَ الغابرين} صَارَت من المتخلفين بِالْهَلَاكِ(1/132)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ} أنزلنَا على مسافريهم وشذاذهم {مَّطَراً} حِجَارَة من السَّمَاء {فَانْظُر} يَا مُحَمَّد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرمين} صَار آخر أَمر الْمُشْركين بِالْهَلَاكِ(1/132)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
{وَإِلَى مَدْيَنَ} وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدين {أَخَاهُمْ} نَبِيّهم {شعيبا قَالَ يَا قوم اعبدوا الله} وحدوا الله {مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَه غَيره} غير الَّذِي أَمركُم أَن تؤمنوا بِهِ {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ} بَيَان {مِّن رَّبِّكُمْ} على رِسَالَة الله {فَأَوْفُواْ الْكَيْل وَالْمِيزَان} أَتموا الْكَيْل وَالْمِيزَان {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاس أَشْيَاءَهُمْ} وَلَا تنقصوا حُقُوق النَّاس فِي الْكَيْل وَالْوَزْن {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْض} بِالْمَعَاصِي وَالدُّعَاء إِلَى غير الله وَالنَّقْص فِي الْكَيْل وَالْوَزْن {بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} بِالطَّاعَةِ وَالدُّعَاء إِلَى الله وَالْوَفَاء بِالْكَيْلِ وَالْوَزْن {ذَلِكُم} التَّوْحِيد وَالْوَفَاء بِالْكَيْلِ وَالْوَزْن {خَيْرٌ لَّكُمْ} مِمَّا أَنْتُم فِيهِ {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} مقرين بِمَا أَقُول لكم(1/132)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
{وَلاَ تَقْعُدُواْ} وَلَا تجلسوا {بِكُلِّ صِرَاطٍ} طَرِيق على كل طَرِيق فِيهِ ممر النَّاس {تُوعِدُونَ} تضربون وتخوفون وتأخذون ثِيَاب من مر بكم من الغرباء {وَتَصُدُّونَ} تصرفون {عَن سَبِيلِ الله} عَن دين الله وطاعته {مَنْ آمَنَ بِهِ} بشعيب {وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً} تطلبونها غيراً {واذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً} بِالْعدَدِ {فَكَثَّرَكُمْ} بِالْعدَدِ {وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} كَيفَ صَار آخر أَمر الْمُشْركين قبلكُمْ بِالْهَلَاكِ(1/132)
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
{وَإِن كَانَ} وَقد كَانَ {طَآئِفَةٌ مَّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا} وَبَيْنكُم بِالْعَذَابِ {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمين} القاضين(1/132)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
{قَالَ الْمَلأ} الرؤساء {الَّذين استكبروا} عَن الْإِيمَان {من قومه لنخرجنك يَا شُعَيْب وَالَّذين آمَنُواْ مَعَكَ} بك {مِن قَرْيَتِنَآ} من مدينتنا {أَوْ لَتَعُودُنَّ} تدخلن {فِي مِلَّتِنَا} فِي ديننَا {قَالَ} شُعَيْب {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} أتجبروننا على ذَلِك وَإِن كُنَّا كارهين(1/132)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
{قَدِ افترينا} اختلقنا {عَلَى الله كَذِباً} بَاطِلا {إِنْ عُدْنَا} إِن دَخَلنَا {فِي مِلَّتِكُمْ} فِي دينكُمْ {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} من دينكُمْ {وَمَا يَكُونُ لَنَآ} مَا يجوز لنا {أَن نَّعُودَ فِيهَآ} أَن ندخل فِي دينكُمْ الشّرك بِاللَّه {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا} نزع الْمعرفَة من قلبنا {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء علما}(1/132)
علم منا بِكُل شَيْء {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا} يَا رَبنَا {افْتَحْ} اقْضِ {بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} بِالْعَدْلِ {وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} القاضين(1/133)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
{وَقَالَ الْمَلأ} الرؤساء {الَّذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} للسفلة {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً} فِي دينه {إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} لجاهلون مغبونون(1/133)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)
{فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} الزلزلة والصيحة بِالْعَذَابِ {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} فصاروا فِي مدينتهم وعساكرهم {جَاثِمِينَ} ميتين (الَّذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً) هَلَكُوا {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} كَأَن لم يَكُونُوا فِي الأَرْض(1/133)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
{الَّذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين} صَارُوا هم المغبونين فِي الْعقُوبَة(1/133)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
{فَتَوَلّى عَنْهُمْ} خرج من بَينهم قبل الْهَلَاك {وَقَالَ يَا قوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} بِالْأَمر وَالنَّهْي {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} حذرتكم من عَذَاب الله ودعوتكم إِلَى التَّوْبَة وَالْإِيمَان {فَكَيْفَ آسى} أَحْزَن {على قَوْمٍ كَافِرِينَ} بِاللَّه أهلكوا(1/133)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
{وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} الَّتِي أهلكنا أَهلهَا {مِّن نَّبِيٍّ} مُرْسل {إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا} قبل الْهَلَاك {بالبأسآء} بالخوف وَالْبَلَاء والشدائد {والضرآء} الْأَمْرَاض والأوجاع والجوع {لَعَلَّهُمْ يَضَّرِّعُونَ} لكَي يُؤمنُوا فَلم يُؤمنُوا(1/133)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيئَة الْحَسَنَة} مَكَان الْقَحْط والجدوبة والشدة الخصب والرخاء وَالنَّعِيم {حَتَّى عَفَوْاْ} جمعُوا وَكَثُرت أَمْوَالهم {وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ} قد أصَاب {آبَاءَنَا الضرآء والسرآء} الشدَّة والرخاء كَمَا أَصَابَنَا فصبروا على دينهم فَنحْن مثلهم نقتدي بهم {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} فَجْأَة بِالْعَذَابِ {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} وهم لَا يعلمُونَ بنزول الْعَذَاب(1/133)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقرى} الَّتِي أهلكنا أَهلهَا {آمَنُواْ} بِالْكتاب وَالرسل {وَاتَّقوا} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش وتابوا {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء} بالمطر {وَالْأَرْض} بالنبات وَالثِّمَار {وَلَكِن كذبُوا} رسل وكتبي {فَأَخَذْنَاهُمْ} بِالْقَحْطِ والجدوبة وَالْعَذَاب {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يكذبُون الْأَنْبِيَاء والكتب(1/133)
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقرى} أهل مَكَّة {أَن يَأْتِيَهُمْ} أَن لَا يَأْتِيهم {بَأْسُنَا} عذابنا {بَيَاتاً} لَيْلًا {وَهُمْ نَآئِمُونَ} غافلون عَن ذَلِك(1/133)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
{أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقرى} أهل مَكَّة {أَن يَأْتِيَهُمْ} أَن لَا يَأْتِيهم {بَأْسُنَا} عذابنا {ضُحًى} نَهَارا {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} يَخُوضُونَ فِي الْبَاطِل(1/133)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
{أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله} عَذَاب الله {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله} عَذَاب الله {إِلاَّ الْقَوْم الخاسرون} المغبونون الْكَافِرُونَ(1/133)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
{أَوَلَمْ يَهْدِ} أَو لم يتَبَيَّن {لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْض} أَرض مَكَّة {مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ} من بعد هَلَاك أَهلهَا {أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ} عذبناهم {بِذُنُوبِهِمْ} كَمَا عذبنا الَّذين من قبلهم {وَنَطْبَعُ} لكَي نختم {على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يسمعُونَ} الْهدى وَلَا يصدقون بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن(1/133)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
{تِلْكَ الْقرى} الَّتِي أهلكنا أَهلهَا {نَقُصُّ عَلَيْكَ} ننزل عَلَيْك جِبْرِيل {مِنْ أَنبَآئِهَا} بِخَبَر هلاكها {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والعلامات {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بالكتب وَالرسل {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} من قبل يَوْم الْمِيثَاق وَيُقَال لم يُؤمن آخر الْأُمَم بِمَا كذبت أول الْأُمَم {كَذَلِكَ} هَكَذَا {يَطْبَعُ الله} يخْتم الله {على قُلُوبِ الْكَافرين} بِاللَّه فِي علم الله(1/134)
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
{وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم} أَكْثَرهم {مِّنْ عَهْدٍ} على عهد الأول {وَإِن وَجَدْنَآ} وَقد وجدنَا {أَكْثَرَهُمْ} كلهم {لَفَاسِقِينَ} لناقضين الْعَهْد(1/134)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
{ثُمَّ بَعَثْنَا} أرسلنَا {مِن بَعْدِهِم} من بعد هَؤُلَاءِ الرُّسُل {مُوسَى بِآيَاتِنَآ} التسع {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} قومه {فَظَلَمُواْ بِهَا} فجحدوا بِالْآيَاتِ {فَانْظُر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} كَيفَ صَار آخر أَمر الْمُشْركين بِالْهَلَاكِ(1/134)
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)
{وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْن إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالمين} إِلَيْك قَالَ فِرْعَوْن كذبت(1/134)
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
قَالَ مُوسَى {حَقِيقٌ عَلَى} جدير على {أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الْحق} الصدْق {قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة} بَيَان {مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ} مَعَ أَمْوَالهم قليلهم وكثيرهم(1/134)
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
{قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ} بعلامة {فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقين} بأنك رَسُول(1/134)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)
{فَألْقى عَصَاهُ} أول آيَة {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} حَيَّة صفراء ذكر أعظم الْحَيَّات(1/134)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
{وَنَزَعَ يَدَهُ} من إبطه {فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ} تضىء {للناظرين} إِلَيْهَا(1/134)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
{وَقَالَ الْمَلأ} الرؤساء {مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} حاذق بِالسحرِ(1/134)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ} أَرض مصر {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} فَقَالَ فِرْعَوْن لَهُم بِمَاذَا تشيرون فِي أمره(1/134)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
{قَالُوا أرجه} قفه {وأخاه} هرون وَلَا تقتلهما {وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ} الشَّرْط(1/134)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} حاذق بِالسحرِ(1/134)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)
{وَجَآءَ السَّحَرَة فِرْعَوْن} سَبْعُونَ ساحرا {وَقَالُوا} لفرعون {إِنَّ لَنَا لأَجْراً} هَدِيَّة تُعْطِينَا {إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} لمُوسَى(1/134)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
{قَالَ نَعَمْ} لكم عِنْدِي ذَلِك {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} إِلَى بالمنزلة(1/134)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} أَولا {وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} أَولا(1/134)
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
{قَالَ} مُوسَى {أَلْقَوْاْ مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} أَولا {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ} سبعين عَصا وَسبعين حبلا {سحروا أَعْيُنَ النَّاس} أخذُوا أعين النَّاس بِالسحرِ {واسترهبوهم} استفزعوهم {وجاؤوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} كذب بَين وَيُقَال برقية عَظِيمَة(1/134)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} فَألْقى {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} تلقم {مَا يَأْفِكُونَ} مأفوكهم من العصي والحبال(1/135)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
{فَوَقَعَ الْحق} فاستبان أَن الْحق مَعَ مُوسَى {وَبَطَلَ} اضمحل {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من السحر(1/135)
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
{فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ} فَغَلَبَهُمْ مُوسَى عِنْد ذَلِك {وانقلبوا} رجعُوا {صَاغِرِينَ} ذليلين(1/135)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
{وَأُلْقِيَ السَّحَرَة} خر السَّحَرَة {سَاجِدِينَ} لله وَيُقَال سجدوا من سرعَة سجودهم كَأَنَّهُمْ ألقوا(1/135)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)
{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالمين} قَالَ فِرْعَوْن إيَّايَ تعنون(1/135)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
قَالُوا {رب مُوسَى وَهَارُون قَالَ فِرْعَوْن آمنتم بِهِ} صَدقْتُمْ بِرَبّ مُوسَى وهرون {قَبْلَ أَن آذَنَ} أَن آمُر {لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَة} فِيمَا بَيْنكُم وَبَين مُوسَى {لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا} بالمكر {فَسَوْفَ تعلمُونَ}(1/135)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
{لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} الْيَد الْيُمْنَى وَالرجل الْيُسْرَى {ثمَّ لأصلبنكم أَجْمَعِينَ} على شاطىء النَّهر(1/135)
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
{قَالُوا} يَعْنِي السَّحَرَة {إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} رَاجِعُون(1/135)
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
{وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ} مَا تطعن علينا وتعاقبنا {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا} بِأَن آمنا {بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا} حِين جاءتنا {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} أكرمنا بِالصبرِ عِنْد الصلب وَالْقطع لكَي لَا نرْجِع كفَّارًا {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} مُخلصين على دين مُوسَى(1/135)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
{وَقَالَ الْمَلأ} الرؤساء {مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى} تتْرك مُوسَى {وَقَوْمَهُ} لَا تقتلهم {لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْض} بتغيير الدّين وَالْعِبَادَة {وَيَذَرَكَ} يتركك {وَآلِهَتَكَ} وَعبادَة آلهتك إِن قَرَأت بِكَسْر اللَّام وَنصب التَّاء وَيُقَال عبادتك بالإلهية إِن قَرَأت بِنصب اللَّام وَالتَّاء {قَالَ} فِرْعَوْن {سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ} صغَارًا كَمَا قتلناهم أول مرّة {وَنَسْتَحْيِي} نستخدم {نِسَآءَهُمْ} كبارًا {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ} عَلَيْهِم {قَاهِرُونَ} مسلطون(1/135)
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
{قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّه واصبروا} على الْبلَاء {إِنَّ الأَرْض} أَرض مصر {لِلَّهِ يُورِثُهَا} ينزلها {مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقبَة} الْجنَّة {لِلْمُتَّقِينَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش(1/135)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
{قَالُوا} يَا مُوسَى {أُوذِينَا} عذبنا بقتل الْأَبْنَاء واستخدم النِّسَاء وَالْعَمَل {مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} بالرسالة {قَالَ} مُوسَى {عَسى رَبُّكُمْ} وَعَسَى من الله وَاجِب {أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} فِرْعَوْن وَقَومه بِالسِّنِينَ بِالْقَحْطِ والجوع {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْض} يجعلكم سكان الأَرْض أَرض مصر {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فِي طَاعَته(1/135)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
{وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ} قومه {بِالسِّنِينَ} بِالْقَحْطِ والجوع عَاما بعد عَام {وَنَقْصٍ مِّن الثمرات} من ذهَاب الثمرات {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} لكَي يتعظوا(1/135)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
{فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَة} الخصب والرخاء وَالنَّعِيم {قَالُواْ لَنَا} يَنْبَغِي لنا(1/135)
{هَذِه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} الْقَحْط والجدوبة والشدة {يَطَّيَّرُواْ} يتشاءموا {بمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} قَالَ الله {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ} شدتهم ورخاؤهم {عِندَ الله} من الله {وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ} كلهم {لاَ يَعْلَمُونَ} ذَلِك وَلَا يصدقون(1/136)
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
{وَقَالُوا} يَا مُوسَى {مهما} كلما {تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ} من عَلامَة {لِّتَسْحَرَنَا بِهَا} لتأْخذ أَعيننَا بهَا {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين بالرسالة فَدَعَا عَلَيْهِم مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام(1/136)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} سلط الله عَلَيْهِم {الطوفان} الْمَطَر من السَّمَاء دَائِما من سبت إِلَى سبت لَا يَنْقَطِع لَيْلًا وَلَا نَهَارا {وَالْجَرَاد} وسلط عَلَيْهِم بعد ذَلِك الْجَرَاد حَتَّى أكل مَا أنبتت الأَرْض من النَّبَات وَالثِّمَار {وَالْقمل} وسلط الله عَلَيْهِم بعد ذَلِك الْقمل حَتَّى أكل مَا بَقِي من الْجَرَاد الصَّغِير وَهِي الدبى بِلَا أَجْنِحَة {والضفادع} وسلط عَلَيْهِم بعد ذَلِك الضفادع حَتَّى آذاهم {وَالدَّم} وسلط عَلَيْهِم بعد ذَلِك الدَّم حَتَّى صَار قليبهم وأنهارهم دَمًا {آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ} مبينات بَين كل آيَتَيْنِ شهرا {فاستكبروا} عَن الْإِيمَان وَلم يُؤمنُوا {وَكَانُواْ قَوْماً مجرمين} مُشْرِكين(1/136)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز} كلما نزل عَلَيْهِم الْعَذَاب مثل الطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم {قَالُوا يَا مُوسَى ادْع لنا رَبك} سل لنا رَبك {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} بِمَا أَمر رَبك {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز} رفعت عَنَّا الْعَذَاب {لَنُؤْمِنَنَّ} لنصدقن {لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بني إِسْرَآئِيلَ} مَعَ أَمْوَالهم قليلهم وكثيرهم(1/136)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
{فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز} فَلَمَّا رفعنَا عَنْهُم الْعَذَاب {إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ} يَعْنِي الْغَرق {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} ينقضون عَهدهم مَعَ مُوسَى(1/136)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
{فانتقمنا مِنْهُمْ} بِمرَّة وَاحِدَة {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم} فِي الْبَحْر {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} التسع {وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} جاحدين بهَا(1/136)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْم الَّذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} يستذلون {مَشَارِقَ الأَرْض} أَرض بَيت الْمُقَدّس وفلسطين وأردن ومصر {وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} فِي بَعْضهَا بِالْمَاءِ وَالشَّجر {وَتَمَّتْ} وَجَبت {كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحسنى} بِالْجنَّةِ وَيُقَال بالنصرة {على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ} على الْبلَاء وَيُقَال على دينهم {وَدَمَّرْنَا} أهلكنا {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} من الْقُصُور والمدائن {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} من الشّجر والكروم وَيُقَال يبنون(1/136)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
{وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ الْبَحْر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ} يُقَال لَهُم الرقم بَقِيَّة من قوم إِبْرَاهِيم {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} يُقِيمُونَ على عبَادَة أصنام لَهُم {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَآ إِلَهًا} بَين إِلَهًا نعبده {كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} يعبدونها {قَالَ} مُوسَى {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} أَمر الله(1/136)
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
{إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ} مهلك {مَّا هُمْ فِيهِ} من الشّرك {وَبَاطِلٌ} ضلال {مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فِي الشّرك(1/136)
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
{قَالَ} مُوسَى {أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إِلَهًا}(1/136)
آمركُم أَن تعبدوا رَبًّا {وَهُوَ} وَقد {فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالمين} عالمي زمانكم بِالْإِسْلَامِ(1/137)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ} من فِرْعَوْن وَقَومه {يسومونكم سوء الْعَذَاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ} صغَارًا {وَيَسْتَحْيُونَ} يستخدمون {نِسَآءَكُمْ} كبارًا {وَفِي ذَلِكُم} فِيمَا نجاكم {بلَاء} نعْمَة {مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} عَظِيمَة وَيُقَال وَفِي ذَلِكُم فِي عَذَابه بلَاء بلية من ربكُم عَظِيم عَظِيمَة(1/137)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
{وَوَاعَدْنَا مُوسَى} الْإِتْيَان إِلَى الْجَبَل {ثَلاَثِينَ لَيْلَةً} شهر ذِي الْقعدَة {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} من ذِي الْحجَّة {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} ميعاد ربِّهِ {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} كَمَا وعده {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني} كن خليفتي {فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} مرهم بالصلاح {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} طَرِيق المفسدين بِالْمَعَاصِي(1/137)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
{وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} لميعادنا بمدين {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} طمع فِي الرُّؤْيَة {قَالَ} الله {لَن تَرَانِي} لن تقدر أَن تراني فِي الدُّنْيَا يَا مُوسَى {وَلَكِن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} أعظم جبل بمدين {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} فَإِن اسْتَقر الْجَبَل لرؤيتي {فَسَوْفَ تَرَانِي} فلعلك تراني {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} ظهر لجبل زبير {جَعَلَهُ دَكّاً} كسراً {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} مغشياً عَلَيْهِ {فَلَمَّآ أَفَاقَ} من غَشيته {قَالَ سُبْحَانَكَ} نزه ربه {تُبْتُ إِلَيْك} من مسئلتي الرُّؤْيَة {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤمنِينَ} المقرين بأنك لن ترى فِي الدُّنْيَا(1/137)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصطفيتك عَلَى النَّاس} على بني إِسْرَائِيل {بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} وبتكلمي مَعَك {فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ} فاعمل بِمَا أَعطيتك {وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ} بتكليمي مَعَك من بَين النَّاس(1/137)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً} نهيا {وَتَفْصِيلاً} تبياناً {لِّكُلِّ شَيْءٍ} من الْحَلَال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} فاعمل بهَا بجد ومواظبة النَّفس {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بأحسنها} يعملوا بمحكمها ويؤمنوا بمتشابهها {سأريكم دَارَ الْفَاسِقين} يَعْنِي دَار العاصين وَهِي جَهَنَّم وَيُقَال الْعرَاق وَيُقَال مصر(1/137)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي} عَن الْإِقْرَار بآياتي {الَّذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْض بِغَيْرِ الْحق} بِلَا حقّ وَيُقَال سأريكم يَا مُحَمَّد دَار الْفَاسِقين دَار بدر وَيُقَال مَكَّة {وَإِن يَرَوْاْ} يَعْنِي فِرْعَوْن وَقَومه وَيُقَال أَبُو جهل وَأَصْحَابه {كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد} طَرِيق الْإِسْلَام وَالْخَيْر {لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} لَا يحسبوه طَرِيقا {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي} طَرِيق الْكفْر والشرك {يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} يحسبوه طَرِيقا {ذَلِك} الَّذِي ذكرت {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بكتابنا ورسولنا(1/137)
{وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} جاحدين بهَا(1/138)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
{وَالَّذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بكتابنا ورسولنا {وَلِقَآءِ الْآخِرَة} الْبَعْث بعد الْمَوْت {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطلت حسناتهم فِي الشّرك {هَلْ يُجْزَوْنَ} مَا يجزون فِي الْآخِرَة {إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فِي الدُّنْيَا وَيَقُولُونَ من الشّرك(1/138)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
{وَاتخذ} صاغ {قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ} من بعد انطلاق مُوسَى إِلَى الْجَبَل {مِنْ حُلِيِّهِمْ} من ذهبهم {عِجْلاً جَسَداً} مجسداً صَغِيرا {لَّهُ خُوَارٌ} صَوت صاغ لَهُم السامري {أَلَمْ يَرَوْاْ} ألم يعلم قوم مُوسَى {أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ} يَعْنِي الْعجل بِشَيْء {وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} طَرِيقا {اتخذوه} عبدوه بِالْجَهْلِ {وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} صَارُوا ضارين لأَنْفُسِهِمْ بعبادتهم إِيَّاه(1/138)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} ندموا على عِبَادَتهم الْعجل {وَرَأَوْاْ} علمُوا وأيقنوا {أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} عَن الْحق وَالْهدى {قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} فيعذبنا {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} بالعقوبة(1/138)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} حَزينًا حِين سمع صَوت الْفِتْنَة {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بعدِي} بئس مَا صَنَعْتُم بِعبَادة الْعجل من بعد انطلاقي إِلَى الْجَبَل {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} أسبقتم بِعبَادة الْعجل وعد ربكُم {وَأَلْقَى الألواح} من يَده فانكسر مِنْهَا لوحان {وَأخذ بِرَأْس أَخِيه} أَي بِشعر هرون {يجره إِلَيْهِ} إِلَى نَفسه {قَالَ} هرون {ابْن أُمَّ} وَقد كَانَ أَخَاهُ من أَبِيه وَأمه وَإِنَّمَا ذكر الْأُم لكَي يرفق بِهِ {إِنَّ الْقَوْم استضعفوني} استذلوني {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} بخلافهم إيَّايَ {فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء} فَلَا تفرح بِي الْأَعْدَاء أَصْحَاب الْعجل {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين} لَا تعذبني فِي أَصْحَاب الْعجل(1/138)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
{قَالَ} مُوسَى {رَبِّ اغْفِر لِي} لما صنعت بأخي هرون {ولأخي} هرون بِمَا لم يناجزهم بِالْقِتَالِ {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} فِي جنتك {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} بِنَا(1/138)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
{إِنَّ الَّذين اتَّخذُوا} عبدُوا {الْعجل} وَمن اقْتدى بهم {سَيَنَالُهُمْ} سَيُصِيبُهُمْ {غَضَبٌ} سخط {مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ} مذلة بالجزية {فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {نَجْزِي المفترين} الْكَاذِبين على الله(1/138)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
{وَالَّذين عَمِلُواْ السَّيِّئَات} فِي الشّرك بِاللَّه {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا} بعد الشّرك وَيُقَال بعد السَّيِّئَات {وآمنوا} وحدوا وأقروا بِاللَّه {إِنَّ رَبَّكَ} يَا مُوسَى وَيُقَال يَا مُحَمَّد {مِن بَعْدِهَا} من بعد التَّوْبَة وَالْإِيمَان {لَغَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ}(1/138)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
{وَلَماَّ سَكَتَ} سكن {عَن مُّوسَى الْغَضَب أَخَذَ الألواح وَفِي نُسْخَتِهَا} فِيمَا بَقِي مِنْهَا وَيُقَال فِيمَا أُعِيد لَهُ فِي اللَّوْحَيْنِ {هُدًى} من الضَّلَالَة {وَرَحْمَةٌ} من الْعَذَاب {لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يرهبون} يخَافُونَ(1/138)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} من قومه {سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} لميعادنا(1/138)
{فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة} الزلزلة بِالْهَلَاكِ يَعْنِي الْمَوْت {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ} من قبل هَذَا الْيَوْم {وَإِيَّايَ} بقتلي القبطي {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء} الْجُهَّال {مِنَّآ} بِعبَادة الْعجل ظن مُوسَى أَنما أهلكهم بِعبَادة قَومهمْ الْعجل {إِنْ هِيَ} مَا هِيَ {إِلاَّ فِتْنَتُكَ} بليتك {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ} من الْفِتْنَة {أَنتَ وَلِيُّنَا} أولى بِنَا {فَاغْفِر لَنَا وارحمنا} وَلَا تعذبنا {وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين} المتجاوزين(1/139)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
{واكتب لَنَا} أوجب لنا {فِي هَذِه الدُّنْيَا حَسَنَةً} الْعلم وَالْعِبَادَة والعصمة من الذُّنُوب {وَفِي الْآخِرَة} حَسَنَة الْجنَّة وَنَعِيمهَا {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} تبنا إِلَيْك وَيُقَال أَقبلنَا إِلَيْك {قَالَ} الله {عَذَابي أُصِيبُ بِهِ} أخص بِهِ {مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} من الْبر والفاجر فتطاول لَهَا إِبْلِيس فَقَالَ أَنا من الْأَشْيَاء فَأخْرجهُ الله مِنْهَا فَقَالَ {فسأكتبها} سأوجبها {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة} يُعْطون زَكَاة أَمْوَالهم {وَالَّذين هُم بِآيَاتِنَا} بكتابنا ورسولنا {يُؤْمِنُونَ} فتطاول لَهَا أهل الْكتاب فَقَالُوا نَحن أهل التَّقْوَى وَالْكتاب فَأخْرجهُمْ الله مِنْهَا(1/139)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
وَبَين لمن الرَّحْمَة فَقَالَ {الَّذين يَتَّبِعُونَ الرَّسُول} {النَّبِي الْأُمِّي} يَعْنِي مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {الَّذِي يَجِدُونَهُ} بنعته وَصفته {مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ} بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِحْسَان {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكر} عَن الْكفْر أَو الْإِسَاءَة {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَات} يبين لَهُم تَحْلِيل مَا فِي الْكتاب من لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا وشحوم الْبَقر وَالْغنم وَغَيرهَا {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} يبين لَهُم تَحْرِيم مَا فِي الْكتاب من الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَغير ذَلِك {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} عهودهم الَّتِي كَانَ يحرم عَلَيْهِم بنقضها الطَّيِّبَات {والأغلال} الشدائد {الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} من قطع الثِّيَاب وَغَيرهَا {فَالَّذِينَ آمنُوا بِهِ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه {وَعَزَّرُوهُ} أعانوه {وَنَصَرُوهُ} بِالسَّيْفِ {وَاتبعُوا النُّور} الْقُرْآن {الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ} أنزل جِبْرِيل بِهِ عَلَيْهِ أحلُّوا حَلَاله وحرموا حرَامه {أُولَئِكَ هُمُ المفلحون} الناجون من السخط وَالْعَذَاب(1/139)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
{قل} يَا مُحَمَّد {يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} كَافَّة {الَّذِي لَهُ مُلْكُ} خَزَائِن {السَّمَاوَات وَالْأَرْض لَا إِلَه} لَا رَازِق {إِلاَّ هُوَ يُحْيِي} للبعث {وَيُمِيتُ} فِي الدُّنْيَا {فَآمِنُواْ بِاللَّه وَرَسُولِهِ النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّه} الَّذِي هُوَ يُؤمن بِاللَّه {وَكَلِمَاتِهِ} بكتابه الْقُرْآن وَإِن قَرَأت وكلمته يَقُول وبعيسى أَنه صَار بِكَلِمَة من الله مخلوقاً يَعْنِي كن فَكَانَ {واتبعوه} اتبعُوا دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكَي تهتدوا من الضَّلَالَة بِالْإِيمَان(1/139)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} جمَاعَة {يَهْدُونَ} يأمرون {بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} وبالحق يعْملُونَ وهم الَّذين وَرَاء نهر الرمل(1/139)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
{وَقَطَّعْنَاهُمُ} فرقناهم {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} سبطاً سبطاً تِسْعَة أَسْبَاط وَنصف سبط من قبل الْمشرق عِنْد مطلع الشَّمْس خلف الصين على نهر رمل يُسمى أردن وسبطين وَنصفا فِي جَمِيع الْعَالم(1/139)
{وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى} أمرنَا مُوسَى {إِذِ استسقاه قَوْمُهُ} فِي التيه {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحجر} الَّذِي مَعَك {فانبجست} فانخرجت {مِنْهُ} من الْحجر {اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} نَهرا {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} سبط {مَّشْرَبَهُمْ} من النَّهر {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَام} فِي التيه كَانَ يظلهم بِالنَّهَارِ من الشَّمْس ويضيء لَهُم بِاللَّيْلِ مثل السراج {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنّ والسلوى} فِي التيه {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أعطيناكم من الْمَنّ والسلوى {وَمَا ظَلَمُونَا} مَا نقصونا وَمَا ضرونا بِمَا رفعوا {وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ينقصُونَ ويضرون(1/140)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا} انزلوا {هَذِه الْقرْيَة} قَرْيَة أرِيحَا {وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} وَمَتى شِئْتُم {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} لَا إِلَه إِلَّا الله وَيُقَال حط عَنَّا الْخَطَايَا {وادخلوا الْبَاب} بَاب أريحاء {سُجَّداً} ركعا {نغفر لكم خطيئاتكم سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} فِي إحسانهم(1/140)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
{فَبَدَّلَ} فَغير {الَّذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} وهم أَصْحَاب الْخَطِيئَة وَقَالُوا {قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} آمُر لَهُم أمروا بالحطة فَقَالُوا حِنْطَة سمقاتا {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السمآء} طاعوناً من السَّمَاء {بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} يغيرون(1/140)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
{واسألهم} يَا مُحَمَّد يَعْنِي الْيَهُود {عَنِ الْقرْيَة} عَن خبر الْقرْيَة وَهِي تسمى أَيْلَة {الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْر إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت} يعتدون يَوْم السبت بِأخذ الْحيتَان {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} جماعات جماعات من غمر المَاء إِلَى شاطئه {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ} هَكَذَا {نَبْلُوهُم} نختبرهم {بِمَا كَانُوا يفسقون} يعصون(1/140)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
{وَإِذ قَالَتْ أُمَّةٌ} جمَاعَة {مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ} بالمسخ {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} بالنَّار {قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} حجَّة لنا عِنْد ربكُم {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} عَن أَخذ الْحيتَان يَوْم السبت وَكَانُوا ثَلَاثَة نفر نفر كَانُوا يصطادون ويأمرون بذلك وَنَفر كَانُوا لَا يصطادون وَلَا ينهون عَن ذَلِك وَنَفر كَانُوا لَا يصطادون وَينْهَوْنَ عَن ذَلِك فمسخ النَّفر الَّذين كَانُوا يصطادون ويأمرون بذلك وَنَجَا الْآخرَانِ(1/140)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
{فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ} تركُوا مَا أمروا بِهِ {أنجينا الَّذين ينهون عَن السوء} عَن أَخذ الْحيتَان يَوْم السبت {وَأَخَذْنَا الَّذين ظَلَمُواْ} بِأخذ الْحيتَان يَوْم السبت {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} شَدِيد {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} يعصون(1/140)
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
{فَلَماَّ عَتَوْاْ} أَبَوا عَن مَا نهوا عَنهُ {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ} صيروا {قِرَدَةً خَاسِئِينَ} صاغرين ذليلين(1/140)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} قَالَ لَهُم رَبك {لَيَبْعَثَنَّ} ليسلطن {عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة مَن يَسُومُهُمْ سوء الْعَذَاب}(1/140)
من يعذبهم بأشد الْعَذَاب بالجزية وَغَيرهَا وَهُوَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأمته {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعقَاب} لشديد الْعقَاب لمن لَا يُؤمن بِهِ {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ} متجاوز {رَحِيم} لمن آمن بِهِ(1/141)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
{وَقَطَّعْنَاهُمْ} فرقناهم {فِي الأَرْض أُمَماً} سبطاً سبطاً {مِّنْهُمُ الصالحون} وهم تِسْعَة أَسْبَاط وَنصف الَّذين وَرَاء نهر الرمل {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِك} يَعْنِي دون ذَلِك الْقَوْم سَائِر الْمُؤمنِينَ من بني إِسْرَائِيل وَيُقَال دون ذَلِك الْقَوْم يَعْنِي كفار بني إِسْرَائِيل {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ} اختبرناهم بِالْخصْبِ والرخاء وَالنَّعِيم {والسيئات} بِالْقَحْطِ والجدوبة والشدة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لكَي يرجِعوا عَن معصيتهم وكفرهم(1/141)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ} فَبَقيَ من بعد الصَّالِحين {خَلْفٌ} خلف سوء وهم الْيَهُود {وَرِثُواْ الْكتاب} أخذُوا التَّوْرَاة وكتموا مَا فِيهَا من صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} يَأْخُذُونَ على كتمان صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته حرَام الدُّنْيَا من الرِّشْوَة وَغَيرهَا {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} مَا نَفْعل بِاللَّيْلِ من الذُّنُوب يغْفر لنا بِالنَّهَارِ وَمَا نعمل بِالنَّهَارِ يغْفر لنا بِاللَّيْلِ {وَإِن يَأْتِهِمْ} الْيَوْم {عَرَضٌ مِّثْلُهُ} حرَام مثله مثل مَا أَتَاهُم أمس {يَأْخُذُوهُ} يستحلوه {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكتاب} الْمِيثَاق فِي الْكتاب {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلَّا الْحق} إِلَّا الصدْق {ودرسوا} قرءوا {مَا فِيهِ} من صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته وَيُقَال قرءوا مَا فِيهِ من الْحَلَال وَالْحرَام وَلم يعملوا بِهِ {وَالدَّار الْآخِرَة} يَعْنِي الْجنَّة {خَيْرٌ} أفضل {لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش والرشوة وتغيير صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته فِي التَّوْرَاة من دَار الدُّنْيَا {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أَن الدُّنْيَا فانية وَالْآخِرَة بَاقِيَة(1/141)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
{وَالَّذين يُمَسِّكُونَ بِالْكتاب} يعْملُونَ بِمَا فِي الْكتاب يحلونَ حَلَاله ويحرمون حرَامه ويبينون صفة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته {وَأَقَامُواْ الصَّلَاة} أَتموا الصَّلَوَات الْخمس {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} لَا نبطل {أَجْرَ المصلحين} ثَوَاب الْمُحْسِنِينَ بالْقَوْل وَالْفِعْل يَعْنِي عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه(1/141)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
{وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَل} قلعنا ورفعنا وحبسنا الْجَبَل {فَوْقهم} فَوق رُءُوسهم {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} علالي {وظنوا} علمُوا وأيقنوا {أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} نَازل عَلَيْهِم إِن لم يقبلُوا الْكتاب {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم} اعْمَلُوا بِمَا أعطيناكم {بِقُوَّةٍ} بجد ومواظبة النَّفس {واذْكُرُوا مَا فِيهِ} من الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَيُقَال احْفَظُوا مَا فِيهِ من الْأَمر وَالنَّهْي وَيُقَال اعْمَلُوا بِمَا فِيهِ من الْحَلَال وَالْحرَام {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكَي تتقوا السخط وَالْعَذَاب وتطيعوا الله(1/141)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
{وَإِذْ} وَقد {أَخَذَ رَبُّكَ} يَا مُحَمَّد يَوْم الْمِيثَاق {مِن بني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} يَقُول ذُرِّيتهمْ من ظُهُورهمْ مقدم ومؤخر {وَأَشْهَدَهُمْ} استنطقهم {على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلَى شَهِدْنَآ} علمنَا وأقررنا بأنك رَبنَا فَقَالَ الله للْمَلَائكَة اشْهَدُوا عَلَيْهِم وَقَالَ لَهُم ليشهد بَعْضكُم على بعض {أَن تَقُولُواْ} لكَي لَا تَقولُوا {يَوْمَ الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا} الْمِيثَاق {غَافِلِينَ} لم يُؤْخَذ علينا(1/141)
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
{أَوْ تَقولُوا} لكَي لَا تَقولُوا {إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ} من قبلنَا وَنَقَضُوا الْمِيثَاق والعهد قبلنَا {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً} صغَارًا ضعفاء {مِّن بَعْدِهِمْ} اقتدينا بهم {أَفَتُهْلِكُنَا} أفتعذبنا {بِمَا فَعَلَ المبطلون} الْمُشْركُونَ قبلنَا فِي نقض الْعَهْد(1/141)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
{وَكَذَلِكَ} هَكَذَا {نُفَصِّلُ الْآيَات} نبين الْقُرْآن بِخَبَر الْمِيثَاق {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لكَي يرجِعوا من الْكفْر والشرك إِلَى الْمِيثَاق الأول(1/141)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
{واتل عَلَيْهِمْ} اقْرَأ عَلَيْهِم يَا مُحَمَّد {نَبَأَ} خبر {الَّذِي آتَيْنَاهُ} أعطيناه {آيَاتِنَا} الِاسْم الْأَعْظَم {فانسلخ مِنْهَا} فَخرج مِنْهَا وَهُوَ بلعم بن باعوراء أكْرمه الله بِالِاسْمِ الْأَعْظَم فَدَعَا بِهِ على مُوسَى فَأخذ الله مِنْهُ حفظ ذَلِك وَيُقَال أُميَّة بن أبي الصَّلْت أكْرمه الله تَعَالَى بِعلم حسن وَكَلَام حسن وَلما لم يُؤمن أَخذ الله مِنْهُ ذَلِك {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَان} فغره الشَّيْطَان {فَكَانَ مِنَ الغاوين} فَصَارَ من الضَّالّين الْكَافرين(1/141)
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}(1/141)
بِالِاسْمِ الْأَعْظَم إِلَى السَّمَاء فملكناه بهَا على أهل الدُّنْيَا {وَلكنه أَخْلَدَ إِلَى الأَرْض} مَال إِلَى الأَرْض {وَاتبع هَوَاهُ} هوى الْملك وَيُقَال هوى نَفسه بمساوى الْأُمُور {فَمَثَلُهُ} مثل بلعم وَيُقَال مثل أُميَّة بن أبي الصَّلْت {كَمَثَلِ الْكَلْب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ} إِن تشدد عَلَيْهِ فتطرده {يَلْهَثْ} يدلع لِسَانه {أَوْ تَتْرُكْهُ} فَلَا تطرده {يَلْهَث} يدلع لِسَانه كَذَلِك مثل بلعم وَأُميَّة إِن وعظ لم يتعظ وَإِن سكت عَنهُ لم يعقل {ذَّلِكَ} هَكَذَا {مَثَلُ الْقَوْم الَّذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن وهم الْيَهُود {فاقصص الْقَصَص} فاقرأ عَلَيْهِم الْقُرْآن {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} لكَي يتفكروا فِي أَمْثَال الْقُرْآن(1/142)
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
{سَآءَ مَثَلاً} بئس مثلا {الْقَوْم الَّذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن إِذا كَانَ مثلهم كَمثل الْكَلْب {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} يضرون بالعقوبة(1/142)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
{مَن يَهْدِ الله} لدينِهِ {فَهُوَ الْمُهْتَدي} لدينِهِ {وَمَن يُضْلِلْ} عَن دينه {فَأُولَئِك هُمُ الخاسرون} المغبونون بالعقوبة(1/142)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} خلقنَا {لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنّ وَالْإِنْس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} الْحق {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الْحق {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ} الْحق {أُولَئِكَ كالأنعام} فِي فهم الْحق {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} لأَنهم كفار {أُولَئِكَ هُمُ الغافلون} عَن أَمر الْآخِرَة جاحدون بهَا(1/142)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
{وَلِلَّهِ الأسمآء الْحسنى} الصِّفَات الْعليا الْعلم وَالْقُدْرَة والسمع وَالْبَصَر وَغير ذَلِك {فَادعوهُ بهَا} فاقرءوا بهَا {وَذَرُواْ الَّذين يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} يَقُول يجحدون بأسمائه وَصِفَاته وَإِن قَرَأت يلحدون يميلون عَن الْإِقْرَار بأسمائه وَصِفَاته وَيُقَال يلحدون فِي أَسْمَائِهِ يشبهون بأسمائه اللات والعزى وَمَنَاة {سَيُجْزَوْنَ} فِي الْآخِرَة {مَا كَانُواْ} بِمَا كَانُوا {يَعْمَلُونَ} وَيَقُولُونَ فِي الدُّنْيَا من الشَّرّ(1/142)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ} جمَاعَة {يَهْدُونَ بِالْحَقِّ} يأمرون بِالْحَقِّ {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} وبالحق يعْملُونَ وهم أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/142)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
{وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن وَهُوَ أَبُو جهل وَأَصْحَابه المستهزئون بنزول الْعَذَاب {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} سنأخذهم بِالْعَذَابِ {مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} بنزول الْعَذَاب فأهلكهم الله فِي يَوْم وَاحِد كل وَاحِد بِهَلَاك غير هَلَاك صَاحبه(1/142)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
{وَأُمْلِي لَهُمْ} أمهلهم {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} عَذَابي وأخذي شَدِيد(1/142)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
{أَو لم يتفكروا} فِيمَا بَينهم أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن ساحراً وَلَا كَاهِنًا وَلَا مَجْنُونا ثمَّ قَالَ الله تَعَالَى {مَا بِصَاحِبِهِمْ} مَا بِنَبِيِّهِمْ {من جنَّة} مامسه من جُنُون أَي جُنُون {إِنْ هُوَ} مَا هُوَ {إِلاَّ نَذِيرٌ} وَرَسُول مخوف {مُّبِينٌ} يبين لَهُم بلغَة يعلمونها(1/142)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
{أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ} يَعْنِي أهل مَكَّة {فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَات} من الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم والسحاب {وَالْأَرْض} وَفِي ملكوت الأَرْض وَمَا فِي الأَرْض من الشّجر وَالْجِبَال والبحار وَالدَّوَاب {وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} وَفِيمَا خلق الله من سَائِر الْأَشْيَاء {وَأَنْ عَسى} وَعَسَى من الله وَاجِب {أَن يَكُونَ قَدِ اقْترب أَجَلُهُمْ} دنا هلاكهم {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} فَبِأَي كتاب بعد كتاب الله {يُؤْمِنُونَ} إِن لم يُؤمنُوا بِهَذَا الْكتاب(1/142)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
{مَن يُضْلِلِ الله} عَن دينه {فَلاَ هَادِيَ لَهُ} فَلَا مرشد لَهُ إِلَى دينه {وَيَذَرُهُمْ} يتركهم {فِي طُغْيَانِهِمْ} فِي كفرهم وضلالهم(1/142)
{يَعْمَهُونَ} يمضون عمهة لَا يبصرون(1/143)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
{يَسْأَلُونَكَ} يَا مُحَمَّد أهل مَكَّة {عَنِ السَّاعَة} عَن قيام السَّاعَة وحينها {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} مَتى قِيَامهَا وحينها {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا} علم قِيَامهَا وحينها {عِنْدَ رَبِّي} من رَبِّي {لاَ يُجَلِّيهَا لوَقْتهَا} لايبين وَقتهَا وحينها {إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} ثقل علم قِيَامهَا وحينها على أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} فَجْأَة {يَسْأَلُونَكَ} يَا مُحَمَّد عَن قيام السَّاعَة {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} عَالم بهَا وَيُقَال جَاهِل بهَا وَيُقَال غافل عَنْهَا {قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنَّمَا عِلْمُهَا} علم قِيَامهَا وحينها {عِندَ الله} من الله {وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاس} أهل مَكَّة {لاَ يَعْلَمُونَ} وَلَا يصدقون ذَلِك(1/143)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
{قُل} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً} جر النَّفْع {وَلاَ ضَرّاً} دفع الضّر {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} أَن يفعل بِي من الضّر والنفع {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْب} النَّفْع والضر {لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْر} من النَّفْع {وَمَا مسني السوء} الضّر وَيُقَال وَلَو كنت أعلم مَتى ينزل الْعَذَاب عَلَيْكُم لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْر شكرا لذَلِك وَمَا مسني السوء مَا أصابني الْغم والحزن لقبلكم وَيُقَال وَلَو كنت أعلم الْغَيْب مَتى أَمُوت {لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْر} من الْعَمَل الصَّالح {وَمَا مسني السوء} مَا اصابني الشدَّة وَيُقَال لَو كنت أعلم الْغَيْب مَتى الْقَحْط والجدوبة وَغَلَاء السّعر لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْر النَّعيم وَمَا مَسَّنِيَ السوء مَا أصابني الشدَّة {إِنْ أَنَاْ} مَا أَنا {إِلاَّ نَذِيرٌ} من النَّار {وَبَشِيرٌ} بِالْجنَّةِ {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بِالْجنَّةِ وَالنَّار(1/143)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} من نفس آدم وَحدهَا {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} خلق من نفس آدم زَوجته حَوَّاء {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} مَعهَا فَلَماَّ {تَغَشَّاهَا} أَتَاهَا {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً} هيناً {فَمَرَّتْ بِهِ} قَامَت وَقَعَدت تألماً {فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ} ثقل الْوَلَد فِي بَطنهَا ظنا بوسوسة إِبْلِيس أَنه بَهِيمَة من الْبَهَائِم {دَّعَوَا الله ربهما لَئِن آتيتنا صَالحا} آدَمِيًّا سويا {لَّنَكُونَنَّ} لنصيرن {مِنَ الشَّاكِرِينَ} لذَلِك(1/143)
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
{فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً} آدَمِيًّا سوياً {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ} جعلا لَهُ إِبْلِيس شَرِيكا {فِيمَآ آتَاهُمَا} فِي تَسْمِيَة مَا آتاهما من الْوَلَد سمياه عبد الله وَعبد الْحَارِث {فَتَعَالَى الله} تَبرأ الله {عَمَّا يُشْرِكُونَ} بِهِ من الْأَصْنَام(1/143)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
{أَيُشْرِكُونَ} بِاللَّه {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً} وَلَا يحيي {وَهُمْ} يَعْنِي الْآلهَة {يُخْلَقُونَ} ينحتون أَي مخلوقة منحوتة(1/143)
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} نفعا وَلَا منعا {وَلاَ أَنْفُسَهُمْ} يَعْنِي الْآلهَة {يَنصُرُونَ} لَا يمْنَعُونَ مِمَّا يُرَاد بهم(1/143)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
{وَإِن تَدْعُوهُمْ} يَا مُحَمَّد يَعْنِي الْكفَّار {إِلَى الْهدى} إِلَى التَّوْحِيد {لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} لَا يجيبوكم {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} إِلَى التَّوْحِيد {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} ساكتون فَإِنَّهُم لَا يجيبونكم بِالتَّوْحِيدِ يَعْنِي الْكفَّار وَيُقَال وَإِن تدعوهم يَا معشر الْكفَّار الْأَصْنَام إِلَى الْهدى إِلَى الْحق لاَ يَتَّبِعُوكُمْ لَا يجيبوكم سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ يَعْنِي الْأَصْنَام أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ساكتون لَا يجيبونكم وَلَا يسمعُونَ دعاءكم لأَنهم أموات غير أَحيَاء(1/143)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
{إِنَّ الَّذين تَدْعُونَ} تَعْبدُونَ {مِن دُونِ الله} من الْأَصْنَام {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} مخلوقون أمثالكم {فادعوهم} يَعْنِي الْآلهَة {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} فليسمعوا دعاءكم وليجيبوكم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَنهم ينفعوكم(1/143)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ} إِلَى الْخَيْر {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ} يَأْخُذُونَ بهَا ويعطون {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ} عبادتكم {أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} دعوتكم(1/143)
{قُلِ} يَا مُحَمَّد لمشركي أهل مَكَّة {ادعوا شُرَكَآءَكُمْ} اسْتَعِينُوا بآلهتكم {ثُمَّ كِيدُونِ} اعْمَلُوا أَنْتُم وهم فِي هلاكي {فَلاَ تُنظِرُونِ} فَلَا تؤجلون(1/144)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
{إِنَّ وَلِيِّيَ الله} حافظي وناصري الله {الَّذِي نَزَّلَ الْكتاب} نزل جِبْرَائِيل عَليّ بِالْكتاب {وَهُوَ يَتَوَلَّى} يحفظ {الصَّالِحين}(1/144)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
{وَالَّذين تَدْعُونَ} تَعْبدُونَ {مِن دُونِهِ} من دون الله من الْأَوْثَان {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} نفعكم وَلَا منعكم {وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} يمْنَعُونَ مِمَّا يُرَاد بهم(1/144)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهدى} إِلَى الْحق {لاَ يَسْمَعُواْ} وَلَا يجيبوا لأَنهم أموات غير أَحيَاء {وَتَرَاهُمْ} يَا مُحَمَّد يَعْنِي الْأَصْنَام {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} كَأَنَّهُمْ ينظرُونَ إِلَيْك مفتحة أَعينهم {وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} لأَنهم أموات غير أَحيَاء(1/144)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
{خُذِ الْعَفو} خُذ مَا فضل من الْكل والعيال وَهَذَا مَنْسُوخ وَيُقَال خُذ الْعَفو اعْفُ عَمَّن ظلمك وَأعْطِ من حَرمك وصل من قَطعك {وَأْمُرْ بِالْعرْفِ} بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَان {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلين} عَن أبي جهل وَأَصْحَابه الْمُسْتَهْزِئِينَ ثمَّ نسخ الْأَعْرَاض(1/144)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
{وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ} يصيبنك {مِنَ الشَّيْطَان نَزْغٌ} وَسْوَسَة وريب {فاستعذ بِاللَّه} فَامْتنعَ بِاللَّه من وسوسته {إِنَّهُ سَمِيعٌ} باستعاذتك {عَلِيمٌ} بوسوسته(1/144)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
{إِنَّ الَّذين اتَّقوا} وَسْوَسَة الشَّيْطَان {إِذَا مَسَّهُمْ} إِذا أَصَابَهُم {طَائِفٌ} ريب ووسوسة {مِّنَ الشَّيْطَان تَذَكَّرُواْ} عرفُوا {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} مُنْتَهُونَ عَن الْمعْصِيَة(1/144)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
{وَإِخْوَانُهُمْ} إخْوَان الْمُشْركين يَعْنِي الشَّيَاطِين {يَمُدُّونَهُمْ} يجرونهم ويوسوسونهم {فِي الغي} فِي الْكفْر والضلالة وَالْمَعْصِيَة {ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} لَا ينتهون عَن ذَلِك(1/144)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ} يَعْنِي أهل مَكَّة {بِآيَةٍ} كَمَا طلبُوا {قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها} هلا تكلفتها من الله وَيُقَال تخلقتها من تِلْقَاء نَفسك {قُلْ} يَا مُحَمَّد لَهُم {إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} أعمل وَأَقُول بِمَا ينزل عَليّ من رَبِّي {هَذَا} يَعْنِي الْقُرْآن {بَصَآئِرُ} بَيَان {مِن رَّبِّكُمْ} بِالْأَمر وَالنَّهْي {وَهُدًى} من الضَّلَالَة {وَرَحْمَةً} من الْعَذَاب {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بِالْقُرْآنِ(1/144)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
{وَإِذا قرئَ الْقُرْآن} فِي الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة {فَاسْتَمعُوا لَهُ} إِلَى قِرَاءَته {وَأَنصِتُواْ} لقرَاءَته {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لكَي ترحموا فَلَا تعذبوا(1/144)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} اقْرَأ أَنْت يَا مُحَمَّد وَحدك إِن كنت إِمَامًا {تَضَرُّعاً} مستكيناً {وَخِيفَةً} خوفًا {وَدُونَ الْجَهْر مِنَ القَوْل} دون الرّفْع من الْقِرَاءَة والصمت {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} بكرَة وَعَشِيَّة فِي الصَّلَاة أَي صَلَاة الْغَدَاة وَصَلَاة الْمغرب وَالْعشَاء {وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين} عَن الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة إِذا كنت إِمَامًا أَو وَحدك(1/144)
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
{إِنَّ الَّذين عِندَ رَبِّكَ} يَعْنِي الْمَلَائِكَة {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} لايتعظمون {عَنْ عِبَادَتِهِ} عَن طَاعَته وَالْإِقْرَار لَهُ بالعبودية {وَيُسَبِّحُونَهُ} يطيعونه {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} يصلونَ وَالله أعلم بِالصَّوَابِ(1/144)
وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا الْأَنْفَال وَهِي كلهَا مَدَنِيَّة غير قَوْله {يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ} فَأَنَّهَا نزلت بِالْبَيْدَاءِ فِي غَزْوَة بدر قبل الْقِتَال آياتها سِتّ وَتسْعُونَ وكلماتها ألف وَمِائَة وَثَلَاثُونَ وحروفها خَمْسَة آلَاف ومائتان وَأَرْبع وَتسْعُونَ حرفا
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم {(1/145)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال} يَقُول يَسْأَلك أَصْحَابك الْغَنَائِم يَوْم بدر وَعَن صلَة {قُلِ} يَا مُحَمَّد لَهُم {الْأَنْفَال لِلَّهِ وَالرَّسُول} الْغَنَائِم يَوْم بدر لله وَلِلرَّسُولِ لَيْسَ لكم فِيهِ شَيْء وَيُقَال لله وَأمر الرَّسُول فِيهِ جَائِز {فَاتَّقُوا الله} فِي أَخذ الْغَنَائِم {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} مَا بَيْنكُم من الْمُخَالفَة فليؤد الْغَنِيّ إِلَى الْفَقِير وَالْقَوِي إِلَى الضَّعِيف والشاب إِلَى الشَّيْخ {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} فِي أَمر الصُّلْح {إِن كُنتُم} إِذْ كُنْتُم {مُّؤْمِنِينَ} بِاللَّه وَالرَّسُول(1/145)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذَا ذُكِرَ الله} إِذا أمروا بِأَمْر من قبل الله مثل أَمر الصُّلْح وَغَيره {وَجِلَتْ} خَافت {قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ} قُرِئت {عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} فِي الصُّلْح {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} يَقِينا بقول الله وَيُقَال صدقا وَيُقَال تكريراً {وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} لَا على الْغَنَائِم(1/145)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
{الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة} يتمون الصَّلَوَات الْخمس بوضوئها وركوعها وسجودها وَمَا يجب فِيهَا فِي مواقيتها {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} أعطيناهم من الْأَمْوَال {يُنفِقُونَ} يتصدقون فِي طَاعَة الله وَيُقَال يؤدون زَكَاة أَمْوَالهم(1/145)
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} صدقا يَقِينا {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ} فَضَائِل {عِندَ رَبِّهِمْ} فِي الْآخِرَة {وَمَغْفِرَةٌ} للذنوب فِي الدُّنْيَا {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ثَوَاب حسن فِي الْجنَّة(1/145)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
{كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} امْضِ يَا مُحَمَّد على مَا أخرجك رَبك {مِن بَيْتِكَ} من الْمَدِينَة (بِالْحَقِّ) بِالْقُرْآنِ وَيُقَال بِالْحَرْبِ {وَإِنَّ فَرِيقاً} طَائِفَة {مِّنَ الْمُؤمنِينَ لَكَارِهُونَ} لِلْقِتَالِ(1/145)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
{يجادلونك} يخاصمونك {فِي الْحق} فِي الْحَرْب {بعد مَا تَبَيَّنَ} لَهُم أَنَّك لَا تصنع وَلَا تَأمر إِلَّا مَا أَمرك رَبك {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْت وَهُمْ يَنظُرُونَ} إِلَيْهِ(1/145)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} الفئتين العير أَو الْعَسْكَر {أَنَّهَا لَكُمْ} غنيمَة {وَتَوَدُّونَ} تتمنون {أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَة} الشدَّة وَالْحَرب {تَكُونُ لَكُمْ} غنيمَة يَعْنِي غنيمَة العير {وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أَن يظْهر دينه الْإِسْلَام بنصرته وتحقيقه {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافرين} أصل الْكَافرين وأثرهم(1/145)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
{لِيُحِقَّ الْحق} ليظْهر دينه الْإِسْلَام بِمَكَّة {وَيُبْطِلَ الْبَاطِل} يهْلك الشّرك وَأَهله {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} وَإِن كره الْمُشْركُونَ أَن يكون ذَلِك(1/145)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} تدعون {رَبَّكُمْ} يَوْم بدر بالنصرة {فَاسْتَجَاب لَكُمْ} الدُّعَاء {أَنِّي مُمِدُّكُمْ} معينكم {بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَة مُرْدِفِينَ} مُتَتَابعين بالنصرة لكم(1/145)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
{وَمَا جَعَلَهُ الله} يَعْنِي المدد {إِلاَّ بشرى} لكم بالنصرة {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ} بالمدد {قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْر} بِالْمَلَائِكَةِ {إِلاَّ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ} بالنقمة من أعدائه {حَكِيمٌ} حكم عَلَيْهِم بِالْقَتْلِ والهزيمة وَحكم لكم بالنصرة وَالْغنيمَة(1/145)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس} ألْقى عَلَيْكُم النّوم {أَمَنَةً} لكم {مِّنْهُ} من الله من الْعَدو وَهِي منَّة من الله لكم {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء}(1/145)
مَطَرا {لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} بالمطر من الْأَحْدَاث والجنابة {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَان} وَسْوَسَة الشَّيْطَان {وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ} وليحفظ قُلُوبكُمْ بِالصبرِ {وَيُثَبِّتَ بِهِ} بالمطر {الْأَقْدَام} على الرمل أَي يشد الرمل حَتَّى يثبت عَلَيْهِ الْأَقْدَام(1/146)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَة} ألهم رَبك وَيُقَال أَمر رَبك {أَنِّي مَعَكُمْ} معينكم {فَثَبِّتُواْ الَّذين آمَنُواْ} فِي الْحَرْب وَيُقَال فبشروا الَّذين آمنُوا بالنصر {سَأُلْقِي} سأقذف {فِي قُلُوبِ الَّذين كفرُوا الرعب} المخافة من مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه {فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق} رُءُوسهم {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} مفصل(1/146)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
{ذَلِك} الْقِتَال لَهُم {بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله} خالفوا الله {وَرَسُولَهُ} فِي الدّين {وَمَن يُشَاقِقِ الله} يُخَالف الله {وَرَسُولَهُ} فِي الدّين {فَإِنَّ الله شَدِيدُ الْعقَاب} إِذا عاقب(1/146)
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
{ذَلِكُم} الْعَذَاب لكم {فَذُوقُوهُ} فِي الدُّنْيَا {وَأَنَّ للْكَافِرِينَ} فِي الْآخِرَة {عَذَاب النَّار}(1/146)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذين كَفَرُواْ} يَوْم بدر {زَحْفاً} مزاحفة {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ} أَي فَلَا توَلّوا مِنْهُم {الأدبار} منهزمين(1/146)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
{وَمَن يُوَلِّهِمْ} يتول عَنْهُم {يَوْمَئِذٍ} يَوْم بدر {دُبُرَهُ} ظَهره مُنْهَزِمًا {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ} مستطرداً لِلْقِتَالِ وَيُقَال للكرة {أَوْ مُتَحَيِّزاً} أَو ينحاز {إِلَى فِئَةٍ} ينصرونه ويمنعونه {فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله} فقد رَجَعَ واستوجب بسخط من الله {وَمَأْوَاهُ} مصيره {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمصير} صَار إِلَيْهِ(1/146)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} يَوْم بدر {وَلَكِن الله قَتَلَهُمْ} بجبرائيل وَالْمَلَائِكَة {وَمَا رَمَيْتَ} مَا بلغت التُّرَاب إِلَى وُجُوه الْمُشْركين {إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِن الله رمى} بلغ {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤمنِينَ} ليصنع بِالْمُؤْمِنِينَ {مِنْهُ} من رمي التُّرَاب {بلَاء} صنيعاً {حَسَناً} بالنصرة وَالْغنيمَة {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لدعائكم {عَلِيمٌ} بنصرتكم(1/146)
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
{ذَلِكُم} النُّصْرَة وَالْغنيمَة لكم {وَأَنَّ الله} بِأَن الله {مُوهِنُ} مضعف {كَيْدِ الْكَافرين} صَنِيع الْكَافرين(1/146)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
{إِن تَسْتَفْتِحُواْ} تستنصروا {فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْح} النُّصْرَة لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه عَلَيْكُم حَيْثُ دَعَا أَبُو جهل قبل الْقِتَال والهزيمة فَقَالَ اللَّهُمَّ انصر أفضل الدينَيْنِ وَأكْرم الدينَيْنِ وأحبهما إِلَيْك فَاسْتَجَاب الله دعاءه وَنصر مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه عَلَيْهِم {وَإِن تَنتَهُواْ} عَن الْكفْر والقتال {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} من الْكفْر والقتال {وَإِن تعودوا} إِلَى قتال مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {نَعُدْ} إِلَى قتلكم وهزيمتكم مثل يَوْم بدر {وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ} جماعتكم {شَيْئاً} من عَذَاب الله {وَلَوْ كَثُرَتْ} فِي الْعدَد {وَأَنَّ الله مَعَ الْمُؤمنِينَ} معِين الْمُؤمنِينَ بالنصرة(1/146)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} فِي أَمر الصُّلْح {وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ} عَن أَمر الله وَرَسُوله {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} مواعظ الْقُرْآن وَأمر الصُّلْح(1/146)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
{وَلاَ تَكُونُواْ} فِي الْمعْصِيَة وَيُقَال فِي الطَّاعَة {كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا} أَطعْنَا وهم بَنو عبد الدَّار وَالنضْر بن الْحَارِث وَأَصْحَابه(1/146)
{وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} لَا يطيعون وَنزل فيهم أَيْضا(1/147)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ} الْخلق والخليقة {عِندَ الله الصم} عَن الْحق {الْبكم} عَن الْحق {الَّذين لاَ يَعْقِلُونَ} لَا يفقهُونَ أَمر الله وتوحيده(1/147)
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ} فِي بني عبد الدَّار {خَيْراً} سَعَادَة {لأَسْمَعَهُمْ} لأكرمهم بِالْإِيمَان {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} أكْرمهم بِالْإِيمَان {لَتَوَلَّواْ} عَنهُ عَن الْإِيمَان لعلم الله فيهم {وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} مكذبون بِهِ(1/147)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} يَعْنِي أَصْحَاب مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {اسْتجِيبُوا لِلَّهِ} أجِيبُوا لله {وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} إِلَى مَا يكرمكم ويعزكم ويصلحكم من الْقِتَال وَغَيره {وَاعْلَمُواْ} يَا معشر الْمُؤمنِينَ {أَنَّ الله يَحُولُ} يحفظ {بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ} بَين الْمُؤمن بِأَن يحفظ قلب الْمُؤمن على الْإِيمَان حَتَّى لَا يكفر ويحفظ قلب الْكَافِر على الْكفْر حَتَّى لَا يُؤمن {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ} إِلَى الله فِي الْآخِرَة {تُحْشَرُونَ} فيجزيكم بأعمالكم(1/147)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
{وَاتَّقوا فِتْنَةً} كل فتْنَة تكون {لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} وَلَكِن تصيب الظَّالِم والمظلوم {وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب} إِذْ عاقب(1/147)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
{واذْكُرُوا} يَا معشر الْمُهَاجِرين {إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} فِي الْعدَد {مُّسْتَضْعَفُونَ} مقهورون {فِي الأَرْض} أَرض مَكَّة {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاس} أَن يطردكم أهل مَكَّة أَو يأسروكم {فَآوَاكُمْ} بِالْمَدِينَةِ {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} يَعْنِي أعانكم وقواكم بنصرته يَوْم بدر {وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَات} من الْغَنَائِم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكَي تشكروا نعْمَته بالنصرة وَالْغنيمَة يَوْم بدر(1/147)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ} يَعْنِي مَرْوَان وَأَبا لبَابَة بن عبد الْمُنْذر {لاَ تَخُونُواْ الله} فِي الدّين {وَالرَّسُول} فِي الْإِشَارَة إِلَى بني قُرَيْظَة أَن لَا تنزلوا على حكم سعد بن معَاذ {وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} وَلَا تخونوا فِي فَرَائض الله وَهِي أَمَانَة عَلَيْكُم {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تِلْكَ الْخِيَانَة(1/147)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
{وَاعْلَمُوا} يَعْنِي بِهِ أَبَا لبَابَة {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ} الَّتِي فِي بني قُرَيْظَة {فِتْنَةٌ} بلية لكم {وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ثَوَاب وافر فِي الْجنَّة بِالْجِهَادِ(1/147)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{يِا أَيُّهَا الَّذين آمنُوا إَن تَتَّقُواْ الله} فِيمَا أَمركُم ونهاكم {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} نصْرَة وَنَجَاة {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} دون الْكَبَائِر {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} سَائِر الذُّنُوب {وَالله ذُو الْفضل} ذُو الْمَنّ {الْعَظِيم} على عباده بالمغفرة وَالْجنَّة(1/147)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ} فِي دَار الندوة {الَّذين كَفَرُواْ} أَبُو جهل وَأَصْحَابه {لِيُثْبِتُوكَ} ليحبسوك سجناً وَهُوَ مَا قَالَ عَمْرو بن هِشَام {أَوْ يَقْتُلُوكَ} جَمِيعًا وَهُوَ مَا قَالَ أَبُو جهل بن هِشَام {أَوْ يُخْرِجُوكَ} طرداً وَهُوَ مَا قَالَ أَبُو البحتري بن هِشَام {وَيَمْكُرُونَ} يُرِيدُونَ قَتلك وهلاكك يَا مُحَمَّد {وَيَمْكُرُ الله} يُرِيد الله قَتلهمْ وهلاكهم يَوْم بدر {وَالله خَيْرُ الماكرين} أقوى المهلكين(1/147)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
{وَإِذَا تتلى} تقْرَأ {عَلَيْهِمْ} على النَّضر بن الْحَارِث وَأَصْحَابه {آيَاتُنَا} بِالْأَمر وَالنَّهْي {قَالُواْ قَدْ سمعنَا} مَا قَالَ مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} مثل مَا يَقُول مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {إِنْ هَذَا} مَا هَذَا الَّذِي يَقُول مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {إِلاَّ أَسَاطِيرُ} أَحَادِيث {الْأَوَّلين} وأخبارهم(1/147)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
{وَإِذْ قَالُواْ} قَالَ ذَلِك النَّضر {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا}(1/147)
الَّذِي يَقُول مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {هُوَ الْحق مِنْ عِندِكَ} أَن لَيْسَ لَك ولد وَلَا شريك {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا} على النَّضر {حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وجيع فَقتل يَوْم بدر صبرا(1/148)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
{وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ} ليهلكهم أَبَا جهل وَأَصْحَابه {وَأَنتَ فِيهِمْ} مُقيم {وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ} مهلكهم {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} يُرِيدُونَ أَن يُؤمنُوا(1/148)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
{وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله} أَن لَا يُهْلِكهُمْ الله بعد مَا خرجت من بَين أظهرهم {وهم يصدون} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه {عَنِ الْمَسْجِد الْحَرَام} ويطوفون حوله عَام الْحُدَيْبِيَة {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ} أَوْلِيَاء الْمَسْجِد {إِنْ أولياؤه} مَا أولياؤه {إِلَّا المتقون} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأَصْحَابه {وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ} كلهم {لاَ يَعْلَمُونَ} ذَلِك وَلَا يصدقون بِهِ(1/148)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ} لم تكن عِبَادَتهم {عِندَ الْبَيْت إِلاَّ مُكَآءً} صفيراً كصفير المكاء {وَتَصْدِيَةً} تصفيقاً {فَذُوقُواْ الْعَذَاب} يَوْم بدر {بِمَا كُنتُمْ تكفرون} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن(1/148)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
{إِنَّ الَّذين كَفَرُواْ} وهم المطعمون يَوْم بدر أَبُو جهل وَأَصْحَابه وَكَانُوا ثَلَاثَة عشر رجلا {يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ} ليصرفوا النَّاس {عَن سَبِيلِ الله} عَن دين الله وطاعته {فَسَيُنفِقُونَهَا} فِي الدُّنْيَا {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} ندامة فِي الْآخِرَة {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} يقتلُون ويهزمون يَوْم بدر {وَالَّذين كفرُوا} أَبُو جهل وَأَصْحَابه {إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} يَوْم الْقِيَامَة(1/148)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
{لِيَمِيزَ الله الْخَبيث مِنَ الطّيب} الْكَافِر من الْمُؤمن وَالْمُنَافِق من المخلص والطالح من الصَّالح {وَيَجْعَلَ الْخَبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ} إِلَى بعض (فَيَرْكُمَهُ) فيجمعه {جَمِيعاً} الْخَبيث {فَيَجْعَلَهُ} فيطرحه {فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الخاسرون} المغبونون بالعقوبة(1/148)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
{قُل} يَا مُحَمَّد {لِلَّذِينَ كفرُوا} أبي سُفْيَان وَأَصْحَابه {إِن يَنتَهُواْ} عَن الْكفْر والشرك وَعبادَة الْأَوْثَان وقتال مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} من الْكفْر والشرك وَعبادَة الْأَوْثَان وقتال مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَإِن يعودوا} إِلَى قتال مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} خلت سيرة الْأَوَّلين بالنصرة لأوليائه على أعدائه مثل يَوْم بدر(1/148)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
{وَقَاتِلُوهُمْ} يَعْنِي كفار أهل مَكَّة {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} الْكفْر والشرك وَعبادَة الْأَوْثَان وقتال مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الْحرم {وَيَكُونَ الدِّينُ} فِي الْحرم وَالْعِبَادَة {كُلُّهُ لله} حَتَّى لَا يبْقى إِلَّا دين الْإِسْلَام {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عَن الْكفْر والشرك وَعبادَة الْأَوْثَان وقتال مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر {بَصِير}(1/148)
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
{وَإِن تَوَلَّوْاْ} عَن الْإِيمَان {فاعلموا} يَا معشر الْمُؤمنِينَ {أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ} حافظكم وناصركم عَلَيْهِم {نِعْمَ الْمولى} الْوَلِيّ بِالْحِفْظِ والنصرة {وَنِعْمَ النصير} الْمَانِع(1/148)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
{وَاعْلَمُوا} يَا معشر الْمُؤمنِينَ {أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} من الْأَمْوَال {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} يخرج خمس الْغَنِيمَة لقبل الله {وَلِلرَّسُولِ} لقبل الرَّسُول {وَلِذِي الْقُرْبَى} ولقبل قرَابَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {واليتامى} ولقبل الْيَتَامَى غير يتامى بني عبد الْمطلب {وَالْمَسَاكِين} ولقبل الْمَسَاكِين غير مَسَاكِين بني عبد الْمطلب(1/148)
{وَابْن السَّبِيل} ولقبل الضَّيْف والمحتاج كَائِنا من كَانَ وَكَانَ يقسم الْخمس فِي زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على خَمْسَة أسْهم سهم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ سهم الله وَسَهْم لِلْقَرَابَةِ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُعْطي قرَابَته لقبل الله وَسَهْم لِلْيَتَامَى وَسَهْم للْمَسَاكِين وَسَهْم لِابْنِ السَّبِيل فَلَمَّا مَاتَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سقط سهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالَّذِي كَانَ يعْطى لِلْقَرَابَةِ لقَوْل أبي بكر سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لكل نَبِي طعمة فِي حَيَاته فَإِذا مَاتَ سَقَطت فَلم يكن بعده لأحد وَكَانَ يقسم أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي فِي خلافتهم الْخمس على ثَلَاثَة أسْهم سهم لِلْيَتَامَى غير يتامى بني عبد الْمطلب وَسَهْم للْمَسَاكِين غير مَسَاكِين بني عبد الْمطلب وَسَهْم لِابْنِ السَّبِيل للضيف والمحتاج {إِن كُنتُمْ} إِذْ كُنْتُم {آمَنْتُمْ بِاللَّه وَمَآ أَنزَلْنَا} وَبِمَا أنزلنَا {على عَبدنَا} مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {يَوْمَ الْفرْقَان} يَوْم الدولة والنصرة لمُحَمد وَأَصْحَابه وَيُقَال يَوْمَ الْفرْقَان يَوْم فرق بَين الْحق وَالْبَاطِل وَهُوَ يَوْم بدر حكم بالنصرة وَالْغنيمَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَالْقَتْل والهزيمة لأبي جهل وَأَصْحَابه {يَوْمَ التقى الْجَمْعَانِ} جمع مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَجمع أبي سُفْيَان {وَالله على كُلِّ شَيْءٍ} من النُّصْرَة وَالْغنيمَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَالْقَتْل والهزيمة لأبي جهل وَأَصْحَابه {قَدِيرٌ}(1/149)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
{إِذْ أَنتُمْ} يَا معشر الْمُؤمنِينَ {بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} الْقُرْبَى إِلَى الْمَدِينَة دون الْوَادي {وَهُم} يَعْنِي أَبَا جهل وَأَصْحَابه {بالعدوة القصوى} البعدى من الْمَدِينَة من خلف الْوَادي {والركب} العير أَبُو سُفْيَان وَأَصْحَابه {أَسْفَلَ مِنكُمْ} على شط الْبَحْر بِثَلَاثَة أَمْيَال {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ} فِي الْمَدِينَة لِلْقِتَالِ {لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} فِي الْمَدِينَة بذلك {وَلَكِن لِّيَقْضِيَ الله} ليمضي الله {أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} كَائِنا بالنصرة وَالْغنيمَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه وَالْقَتْل والهزيمة لأبي جهل وَأَصْحَابه {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ} يَقُول ليهلك على الْكفْر من أَرَادَ الله أَن يهْلك {عَن بَيِّنَةٍ} بعد الْبَيَان بالنصرة لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَيحيى} وَيثبت على الْإِيمَان {مَنْ حَيَّ} من أَرَادَ الله أَن يثبت {عَن بَيِّنَةٍ} بعد الْبَيَان بالنصرة لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيُقَال ليهلك ليكفر من هلك من أَرَادَ الله أَن يكفر عَن بَيِّنَة بعد الْبَيَان بالنصرة لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويؤمن من أَرَادَ الله أَن يُؤمن من بعد الْبَيَان {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ} لدعائكم {عَلِيمٌ} بإجابتكم ونصرتكم(1/149)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
{إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ} يَا مُحَمَّد قبل بدر {قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} لجبنتم {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمر} لاختلفتم فِي أَمر الْحَرْب {وَلَكِن الله سَلَّمَ} قضى {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} بِمَا فِي الْقُلُوب(1/149)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ} يَوْم بدر {إِذِ التقيتم} لَقِيتُم {فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} حَتَّى أجرأكم عَلَيْهِم {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعينهم} حَتَّى اجترءوا عَلَيْكُم {لِيَقْضِيَ الله أَمْراً} ليمضي الله أمرا بالنصرة وَالْغنيمَة لمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأَصْحَابه وَالْقَتْل والهزيمة لأبي جهل وَأَصْحَابه {كَانَ مَفْعُولاً} كَائِنا {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الْأُمُور} عواقب الْأُمُور فِي الْآخِرَة(1/149)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} يَعْنِي أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} جمَاعَة من الْكفَّار يَوْم بدر {فاثبتوا} مَعَ نَبِيكُم فِي الْحَرْب {واذْكُرُوا الله كَثِيراً} بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان بالتهليل وَالتَّكْبِير {لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} لكَي تنجوا من السخطة وَالْعَذَاب وَتنصرُوا(1/149)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
{وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} فِي أَمر الْحَرْب {وَلاَ تَنَازَعُواْ} لَا تختلفوا فِي أَمر الْحَرْب {فَتَفْشَلُواْ} فتجبنوا {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} شدتكم وَالرِّيح النُّصْرَة {واصبروا} فِي الْقِتَال مَعَ نَبِيكُم {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} معِين الصابرين فِي الْحَرْب(1/149)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
{وَلاَ تَكُونُواْ} فِي الْمعْصِيَة {كَالَّذِين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم} مَكَّة {بَطَراً} أشراً {وَرِئَآءَ النَّاس} سمعة النَّاس {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} عَن دين الله وطاعته {وَالله بِمَا يَعْمَلُونَ} فِي الْخُرُوج على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْحَرب {مُحِيطٌ} عَالم(1/149)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَان أَعْمَالَهُمْ} إِبْلِيس خُرُوجهمْ {وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ} عَلَيْكُم {الْيَوْم مِنَ النَّاس} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} معِين لكم {فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان} الْجَمْعَانِ جمع الْمُؤمنِينَ وَجمع الْكَافرين وَرَأى إِبْلِيس جِبْرِيل مَعَ الْمَلَائِكَة {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ} رَجَعَ إِلَى خَلفه(1/149)
{وَقَالَ} لَهُم {إِنِّي بَرِيء مِّنْكُمْ} وَمن قتالكم {إِنِّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ} أرى جِبْرِيل وَلم تروه {إِنِّي أَخَافُ الله وَالله شَدِيدُ الْعقَاب} إِذا عاقب خَافَ أَن يَأْخُذهُ جِبْرِيل فيعرفه إِلَيْهِم فَلَا يطيعوه بعد ذَلِك(1/150)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
{إِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ} الَّذين ارْتَدُّوا ببدر {وَالَّذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شكّ وَخلاف وَسَائِر الْكفَّار {غر هَؤُلَاءِ} مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأَصْحَابه {دِينُهُمْ} توحيدهم {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله} فِي النُّصْرَة {فَإِنَّ الله عَزِيزٌ} بالنقمة من أعدائه {حَكِيمٌ} بالنصرة لمن توكل عَلَيْهِ كَمَا نصر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم بدر(1/150)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
{وَلَوْ ترى} لَو رَأَيْت يَا مُحَمَّد {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذين كَفَرُواْ} يقبض أَرْوَاحهم {الْمَلَائِكَة} يَوْم بدر {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ} على وُجُوههم {وَأَدْبَارَهُمْ} على ظُهُورهمْ {وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق} الشَّديد(1/150)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
{ذَلِك} الْعَذَاب {بِمَا قَدَّمَتْ} عملت {أَيْدِيكُمْ} فِي الشّرك {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أَن يَأْخُذهُمْ بِلَا جرم(1/150)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} كصنيع آل فِرْعَوْن {وَالَّذين مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} بِكِتَاب الله وَرَسُوله يُقَال كفار مَكَّة كفرُوا بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن كَمَا كفر فِرْعَوْن وَقَومه وَالَّذين من قبلهم بالكتب وَالرسل {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} بتكذيبهم {إِنَّ الله قَوِيٌّ} بِالْأَخْذِ {شَدِيدُ الْعقَاب} إِذا عاقب(1/150)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
{ذَلِك} الْعقُوبَة {بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ} بِالْكتاب وَالرَّسُول والأمن {حَتَّى يُغيرُوا مَا بِأَنْفسِهِم} بترك الشّرك {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ} لدعائكم {عَلِيمٌ} بإجابتكم(1/150)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} كصنيع آل فِرْعَوْن {وَالَّذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ} بالكتب وَالرسل كَمَا كذب أهل مَكَّة {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} بتكذيبهم {وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ} وَقَومه {وَكُلٌّ} كل هَؤُلَاءِ {كَانُواْ ظَالِمِينَ} كَافِرين(1/150)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ} الْخلق والخليقة {عِندَ الله الَّذين كَفَرُواْ} بَنو قُرَيْظَة وَغَيرهم {فَهُمْ لاَ يُؤمنُونَ} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن(1/150)
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
ثمَّ بيَّنهم فَقَالَ {الَّذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ} مَعَهم مَعَ بني قُرَيْظَة {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} حِين {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} عَن نقض الْعَهْد(1/150)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} تأسرنهم {فِي الْحَرْب فَشَرِّدْ بِهِم} فنكل بهم {مَّنْ خَلْفَهُمْ} لكَي يَكُونُوا عِبْرَة لمن خَلفهم {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتعظون فيجتنبون نقض الْعَهْد(1/150)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ} تعلمن {مِن قَوْمٍ} من بني قُرَيْظَة {خِيَانَةً} بِنَقْض الْعَهْد {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} فنابذهم على بَيَان {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} بِنَقْض الْعَهْد وَغَيره من بني قُرَيْظَة وَغَيرهم(1/150)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
{وَلَا تحسبن} لَا تَظنن يَا مُحَمَّد(1/150)
{الَّذين كَفَرُوا} بني قُرَيْظَة وَغَيرهم {سبقوا} فاتوا من عذابنا بِمَا قَالُوا وصنعوا {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} لَا يفوتون من عذابنا(1/151)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ} لبني قُرَيْظَة وَغَيرهم {مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} من سلَاح {وَمِن رِّبَاطِ الْخَيل} من الْخَيل الروابط الْإِنَاث {تُرْهِبُونَ بِهِ} تخوفون بِالْخَيْلِ {عَدْوَّ الله} فِي الدّين {وَعَدُوَّكُمْ} بِالْقَتْلِ {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ} من دون بني قُرَيْظَة وَسَائِر الْعَرَب وَيُقَال كفار الْجِنّ {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} لَا تعلمُونَ عدتهمْ {الله يَعْلَمُهُمْ} يعلم عدتهمْ {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ} من مَال {فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله على السِّلَاح وَالْخَيْل {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} يوف لكم ثَوَابه لَا ينقص {وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} لَا تنقصون من ثوابكم(1/151)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ} إِن مَال بَنو قُرَيْظَة إِلَى الصُّلْح فأرادوا الصُّلْح {فاجنح لَهَا} مل إِلَيْهَا أَو ردهَا {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} فِي نقضهم ووفائهم {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيع} لمقالتهم {الْعَلِيم} بنقضهم ووفائهم(1/151)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
{وَإِن يُرِيدُوا} بَنو قُرَيْظَة {أَن يَخْدَعُوكَ} بِالصُّلْحِ {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} الله حَسبك وكافيك {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ} قواك وأعانك {بِنَصْرِهِ} يَوْم بدر {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} بالأوس والخزرج(1/151)
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} جمع بَين قُلُوبهم وكلمتهم بِالْإِسْلَامِ {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْض جَمِيعاً} من الذَّهَب وَالْفِضَّة {مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} وكلمتهم {وَلَكِن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} بَين قُلُوبهم بِالْإِيمَان {إِنَّهُ عَزِيزٌ} فِي ملكه وسلطانه {حَكِيمٌ} فِي أمره وقضائه(1/151)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
{يَا أَيهَا النَّبِي حَسْبُكَ الله} الله حَسبك {وَمَنِ اتبعك من الْمُؤمنِينَ} الْأَوْس والخزرج(1/151)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
{يَا أَيهَا النَّبِي حَرِّضِ الْمُؤمنِينَ} حض وحث الْمُؤمنِينَ {عَلَى الْقِتَال} يَوْم بدر {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} فِي الْحَرْب محتسبون {يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} يقاتلوا مِائَتَيْنِ من الْمُشْركين {وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ يغلبوا} يقاتلوا {أَلْفاً مِّنَ الَّذين كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أَمر الله وتوحيده(1/151)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
{الْآن} بعد يَوْم بدر {خَفَّفَ الله عَنكُمْ} هون الله عَلَيْكُم {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} بِالْقِتَالِ {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ} محتسبة {يَغْلِبُواْ} يقاتلوا {مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا} يقاتلوا {أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله وَالله مَعَ الصابرين} معِين الصابرين فِي الْحَرْب بالنصرة(1/151)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} مَا يَنْبَغِي لنَبِيّ {أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} أُسَارَى من الْكفَّار {حَتَّى يُثْخِنَ} يغلب {فِي الأَرْض} بِالْقِتَالِ {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} بِفِدَاء أُسَارَى يَوْم بدر {وَالله يُرِيدُ الْآخِرَة وَالله عَزِيزٌ}(1/151)
بالنقمة من أعدائه {حَكِيمٌ} بالنصرة لأوليائه(1/152)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
{لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ} لَوْلَا حكم من الله بتحليل الْغَنَائِم لأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيُقَال بالسعادة لأهل بدر {لَمَسَّكُمْ} لأصابكم {فِيمَآ أَخَذْتُمْ} من الْفِدَاء {عَذَابٌ عَظِيمٌ} شَدِيد(1/152)
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
{فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} من الْغَنَائِم غَنَائِم بدر {حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقوا الله} اخشوا الله فِي الْغلُول {إِنَّ الله غَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} بِمَا كَانَ بَيْنكُم يَوْم بدر من الْفِدَاء(1/152)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
{يَا أَيهَا النَّبِي قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى} يَعْنِي عباساً {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} تَصْدِيقًا وإخلاصاً {يُؤْتِكُمْ} يعطكم {خَيْراً} أفضل {مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ} من الْفِدَاء {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم فِي الْجَاهِلِيَّة {وَالله غَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} لمن آمن بِهِ(1/152)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} بِالْإِيمَان يَا مُحَمَّد {فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} أَي من قبل هَذَا بترك الْإِيمَان وَالْمَعْصِيَة (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) أظهرك عَلَيْهِم يَوْم بدر {وَالله عَلِيمٌ} بِمَا فِي قُلُوبهم من الْخِيَانَة وَغَيرهَا {حَكِيمٌ} فِيمَا حكم عَلَيْهِم(1/152)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
{إِن الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {وَهَاجَرُواْ} من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة {وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله} فِي طَاعَة الله {وَالَّذين آووا} وطنوا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه بِالْمَدِينَةِ {ونصروا} مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَوْم بدر {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} فِي الْمِيرَاث {وَالَّذين آمنُوا} بِمُحَمد عيه الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {وَلَمْ يُهَاجِرُواْ} من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم} من ميراثهم {مِّن شَيْءٍ} وَمَا من ميراثكم لَهُم من شَيْء {حَتَّى يُهَاجِرُواْ} من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة {وَإِنِ استنصروكم فِي الدّين} استعانوكم على عدوهم فِي الدّين {فَعَلَيْكُمُ النَّصْر} على عدوهم {إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} فَلَا تعينوهم عَلَيْهِم وَلَكِن أصلحوا بَينهم {وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الصُّلْح وَغَيره {بَصِيرٌ}(1/152)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
{وَالَّذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} فِي الْمِيرَاث {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} قسْمَة الْمَوَارِيث كَمَا بيَّن لكم لِذَوي الْقَرَابَة {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْض} بالشرك والارتداد {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} بِالْقَتْلِ وَالْمَعْصِيَة(1/152)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
{وَالَّذين آمنُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {وَهَاجَرُواْ} من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة {وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله {وَالَّذين آووا} وطنوا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه بِالْمَدِينَةِ {ونصروا} مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَوْم بدر {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} صدقا يَقِينا {لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم فِي الدُّنْيَا {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ثَوَاب حسن فِي الْجنَّة(1/152)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
{وَالَّذين آمنُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {مِن بَعْدُ} من بعد الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين {وَهَاجَرُواْ} من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة {وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ} الْعَدو {فَأُولَئِك مِنكُمْ} مَعكُمْ فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة {وأولو الْأَرْحَام} ذَوُو الْقَرَابَة فِي النّسَب الأول فَالْأول(1/152)
{بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} فِي الْمِيرَاث {فِي كِتَابِ الله} فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ نسخ بِهَذِهِ الْآيَة الْآيَة الأولى {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ} من قسْمَة الْمَوَارِيث وصلاحكم وَغَيرهَا {عَلِيمٌ} يعلم نقض عهود الْمُشْركين وَالله أعلم بأسرار كِتَابه
وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا التوبه وَهِي كلهَا مَدَنِيَّة وَقد قيل إِلَّا الْآيَتَيْنِ آخرهَا فَإِنَّهُمَا مكيتان وكلماتها أَلفَانِ وَأَرْبَعمِائَة وَسبع وَسِتُّونَ وحروفها عشرَة آلَاف(1/153)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {بَرَآءَةٌ} هَذِه بَرَاءَة {مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْركين} ثمَّ نقضوا والبراءة هِيَ نقض الْعَهْد يَقُول من كَانَ بَينه وَبَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عهد فقد نقضه مِنْهُم فَمنهمْ من كَانَ عَهده أَرْبَعَة أشهر وَمِنْهُم من كَانَ عَهده فَوق أَرْبَعَة أشهر وَمِنْهُم من كَانَ عَهده دون أَرْبَعَة أشهر وَمِنْهُم من كَانَ عَهده تِسْعَة أشهر وَمِنْهُم من لم يكن بَينه وَبَين رَسُول الله عهد فنقضوا كلهم إِلَّا من كَانَ عَهده تِسْعَة أشهر وهم بَنو كنَانَة فَمن كَانَ عَهده فَوق أَرْبَعَة أشهر وَدون أَرْبَعَة أشهر جعل عَهده أَرْبَعَة أشهر بعد النَّقْض من يَوْم النَّحْر وَمن كَانَ عَهده أَرْبَعَة أشهر جعل عَهده بعد النَّقْض أَرْبَعَة أشهر من يَوْم النَّحْر وَمن كَانَ عَهده تِسْعَة أشهر ترك على ذَلِك وَمن لم يكن لَهُ عهد جعل عَهده خمسين يَوْمًا من يَوْم النَّحْر إِلَى خُرُوج الْمحرم(1/153)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
فَقَالَ لَهُم {فَسِيحُواْ فِي الأَرْض} فامضوا فِي الأَرْض من يَوْم النَّحْر {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} آمِنين من الْقَتْل بالعهد {وَاعْلَمُوا} يَا معشر الْكفَّار {أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} غير فائتين من عَذَاب الله بِالْقَتْلِ بعد أَرْبَعَة أشهر {وَأَنَّ الله مُخْزِي الْكَافرين} معذب الْكَافرين بعد أَرْبَعَة أشهر بِالْقَتْلِ(1/153)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
{وَأَذَانٌ مِّنَ الله} وَهَذَا إِعْلَام من الله {وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاس} للنَّاس {يَوْمَ الْحَج الْأَكْبَر} يَوْم النَّحْر {أَن الله بَرِيء مِّنَ الْمُشْركين} وَدينهمْ وَعَهْدهمْ الَّذِي نقضوا {وَرَسُولُهُ} أَيْضا بَرِيء من ذَلِك {فَإِن تُبْتُمْ} من الشّرك وآمنتم بِاللَّه وَبِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} من الشّرك {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عَن الْإِيمَان وَالتَّوْبَة {فاعلموا} يَا معشر الْمُشْركين {أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} غير فائتين من عَذَاب الله {وَبَشِّرِ الَّذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} يَعْنِي الْقَتْل بعد أَرْبَعَة أشهر(1/153)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
{إِلاَّ الَّذين عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْركين} يَعْنِي بني كنَانَة بعد عَام الْحُدَيْبِيَة {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} لم ينقضوا عَهدهم مِمَّن كَانَ لَهُم تِسْعَة أشهر {وَلَمْ يُظَاهِرُواْ} وَلم يعاونوا {عَلَيْكُمْ أَحَداً} من عَدوكُمْ {فَأتمُّوا إِلَيْهِمْ} لَهُم {عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} إِلَى وَقت أَجلهم تِسْعَة أشهر {إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} عَن نقض الْعَهْد(1/153)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم} فَإِذا خرج شهر الْمحرم من بعد يَوْم النَّحْر {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين} من كَانَ عَهدهم خمسين يَوْمًا {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} فِي الْحل وَالْحرم وَالْأَشْهر الْحرم {وَخُذُوهُمْ} اؤسروهم {واحصروهم} احبسوهم عَن الْمبيت {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} على كل طَرِيق يذهبون ويجيئون فِيهِ للتِّجَارَة {فَإِن تَابُواْ} من الشّرك وآمنوا بِاللَّه {وَأَقَامُواْ الصَّلَاة} أقرُّوا بالصلوات الْخمس {وَآتَوُاْ الزَّكَاة} أقرُّوا بأَدَاء الزَّكَاة {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} إِلَى الْبَيْت {إِنَّ الله غَفُورٌ} متجاوز لمن تَابَ مِنْهُم {رَّحِيمٌ} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/153)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْركين استجارك} استأمنك {فَأَجِرْهُ} فَأَمنهُ {حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} قراءتك لكَلَام الله {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وَطنه حَيْثُمَا جَاءَ إِن لم يُؤمن {ذَلِك} الَّذِي ذكرت {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} أَمر الله وتوحيده {كَيْفَ} على وَجه التَّعَجُّب(1/153)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
{يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذين عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِد الْحَرَام}(1/153)
بعد عَام الْحُدَيْبِيَة وهم بَنو كنَانَة {فَمَا استقاموا لَكُمْ} بِالْوَفَاءِ {فاستقيموا لَهُمْ} بالتمام {إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} عَن نقض الْعَهْد(1/154)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
{كَيْفَ} على وَجه التَّعَجُّب كَيفَ يكون بَيْنكُم وَبينهمْ عهد {وَإِن يَظْهَرُوا} يغلبوا {عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ} لَا يحفظوكم {إِلاًّ} لقبل الْقَرَابَة وَيُقَال لقبل الله {وَلاَ ذِمَّةً} لَا لقبل الْعَهْد {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} بألسنتهم {وتأبى} تنكر {قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ} كلهم {فَاسِقُونَ} ناقضون الْعَهْد(1/154)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
{اشْتَروا بآيَات الله} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {ثَمَناً قَلِيلاً} عوضا يَسِيرا {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} عَن دينه وطاعته {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بئس مَا كَانُوا يصنعون من الكتمان وَغَيره وَيُقَال نزلت هَذِه الْآيَة فِي شَأْن الْيَهُود(1/154)
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
{لاَ يَرْقُبُونَ} لَا يحفظون {فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ} قرَابَة وَيُقَال إلاًّ هُوَ الله {وَلاَ ذِمَّةً} لَا لقبل الْعَهْد {وَأُولَئِكَ هُمُ المعتدون} من الْحَلَال إِلَى الْحَرَام بِنَقْض الْعَهْد وَغَيره(1/154)
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
{فَإِن تَابُواْ} من الشّرك وآمنوا بِاللَّه {وَأَقَامُواْ الصَّلَاة} أقرُّوا بالصلوات {وَآتَوُاْ الزَّكَاة} أقرُّوا بِالزَّكَاةِ {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّين} فِي الْإِسْلَام {وَنُفَصِّلُ الْآيَات} نبين الْقُرْآن بِالْأَمر وَالنَّهْي {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ويصدقون(1/154)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
{وَإِن نكثوا} أهل مَكَّة {أَيْمَانَهُم} عهودهم الَّتِي بَيْنكُم وَبينهمْ (مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ) عابوكم فِي دين الْإِسْلَام {فَقَاتلُوا أَئِمَّةَ الْكفْر} قادة الْكفْر أَبَا سُفْيَان وَأَصْحَابه {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} لَا عهد لَهُم {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} لكَي ينْتَهوا عَن نقض الْعَهْد(1/154)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
{أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً} مَا لكم لَا تقاتلون قوما يَعْنِي أهل مَكَّة {نكثوا أَيْمَانَهُمْ} نقضوا عهودهم الَّتِي بَيْنكُم وَبينهمْ {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُول} أَرَادوا قتل الرَّسُول حَيْثُ دخلُوا دَار الندوة {وهم بدؤوكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} بِنَقْض الْعَهْد مِنْهُم حَيْثُ أعانوا بني بكر حلفاءهم على بني خُزَاعَة حلفاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أَتَخْشَوْنَهُمْ} يَا معشر الْمُؤمنِينَ أتخشون قِتَالهمْ {فَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} فِي ترك أمره {إِن كُنتُمْ} إِذْ كُنْتُم {مُّؤُمِنِينَ}(1/154)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} بسيوفكم بِالْقَتْلِ {وَيُخْزِهِمْ} يذلهم بالهزيمة {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} بالغلبة {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} يفرح قُلُوب بني خُزَاعَة عَلَيْهِم بِمَا أحل لَهُم الْقَتْل يَوْم فتح مَكَّة سَاعَة فِي الْحرم(1/154)
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} حنق قُلُوبهم {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ} على من تَابَ مِنْهُم {وَالله عَلِيمٌ} بِمن تَابَ وبمن لم يتب مِنْهُم {حَكِيمٌ} فِيمَا حكم عَلَيْهِم وَيُقَال حكم بِقَتْلِهِم وهزيمتهم(1/154)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
{أَمْ حَسِبْتُمْ} أظننتم يَا معشر الْمُؤمنِينَ {أَن تُتْرَكُواْ} أَن تهملوا وَأَن لَا تؤمروا بِالْجِهَادِ {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} وَلم ير الله {الَّذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ} فِي سَبِيل الله {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤمنِينَ} المخلصين {وَلِيجَةً} بطانة من الْكفَّار {وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر فِي الْجِهَاد وَغَيره(1/154)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} مَا يَنْبَغِي للْمُشْرِكين {أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنفُسِهِمْ} بتلبيتهم {بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطلت حسناتهم فِي الْكفْر {وَفِي النَّار هُمْ خَالِدُونَ} لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا(1/155)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله} الْمَسْجِد الْحَرَام {مَنْ آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {وَأَقَامَ الصَّلَاة} أتم الصَّلَوَات الْخمس {وَآتى الزَّكَاة} أدّى الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة {وَلَمْ يَخْشَ} وَلم يعبد {إِلاَّ الله فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} بدين الله وحجته وَعَسَى من الله وَاجِب(1/155)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
ثمَّ نزلت فِي رجل من الْمُشْركين أسر يَوْم بدر فافتخر على عَليّ أَو على رجل من أهل بدر فَقَالَ نَحن نسقي الْحَاج ونعمر الْمَسْجِد الْحَرَام ونفعل كَذَا فَقَالَ الله {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاج} أقلتم إِن سقِِي الْحَاج {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِد الْحَرَام كَمَنْ آمَنَ بِاللَّه} كَإِيمَانِ من آمن بِاللَّه يَعْنِي البدري {وَالْيَوْم الآخر} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {وَجَاهَدَ فِي سَبِيل الله} فِي طَاعَة الله يَوْم بدر {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله} فِي الطَّاعَة وَالثَّوَاب {وَالله لاَ يَهْدِي} لَا يرشد إِلَى دينه {الْقَوْم الظَّالِمين} الْمُشْركين من لم يكن أَهلا لذَلِك(1/155)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
{الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {وَهَاجَرُواْ} من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة {وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} بِنَفَقَة أَمْوَالهم وبخروج أنفسهم {أَعْظَمُ دَرَجَةً} فَضِيلَة {عِندَ الله} من غَيرهم {وَأُولَئِكَ هُمُ الفائزون} فازوا بِالْجنَّةِ ونجوا من النَّار(1/155)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)
{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ} بنجاة {مِّنْهُ} من الله من الْعَذَاب {وَرِضْوَانٍ} بِرِضا رَبهم عَنْهُم {وَجَنَّاتٍ} بجنات {لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} دَائِم لَا يَنْقَطِع(1/155)
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
{خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} لَا يموتون وَلَا يخرجُون {إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ثَوَاب وافر لمن آمن بِهِ(1/155)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ} الَّذين بِمَكَّة من الْكفَّار {أَوْلِيَآءَ} فِي الدّين {إِنِ استحبوا الْكفْر عَلَى الْإِيمَان} اخْتَارُوا الْكفْر على الْإِيمَان {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ} فِي الدّين {فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ} الْكَافِرُونَ مثلهم وَيُقَال يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ من الْمُؤمنِينَ الَّذين بِمَكَّة الَّذين منعوكم عَن الْهِجْرَة أَوْلِيَآءَ فِي العون والنصرة إِنِ استحبوا الْكفْر اخْتَارُوا دَار الْكفْر يَعْنِي مَكَّة عَلَى الْإِيمَان على دَار الْإِسْلَام يَعْنِي الْمَدِينَة وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فِي العون والنصرة فَأُولَئِك هُمُ الظَّالِمُونَ الضارون بِأَنْفسِهِم(1/155)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} قومكم الَّذين هم بِمَكَّة {وَأَمْوَالٌ اقترفتموها} اكتسبتموها {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} أَن لَا تنْفق بِالْمَدِينَةِ {وَمَسَاكِنُ} منَازِل {تَرْضَوْنَهَآ} تشتهون الْجُلُوس فِيهَا {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله} من طَاعَة الله {وَرَسُولِهِ} وَمن الْهِجْرَة إِلَى رَسُوله {وَجِهَادٍ} وَمن جِهَاد {فِي سَبِيلِهِ} فِي طَاعَته {فَتَرَبَّصُواْ} فانتظروا {حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} بعذابه يَعْنِي الْقَتْل يَوْم فتح مَكَّة ثمَّ هَاجرُوا بعد ذَلِك {وَالله لَا يهدي} يرشد إِلَى دينه(1/155)
{الْقَوْم الْفَاسِقين} الْكَافرين من لم يكن أَهلا لدينِهِ(1/156)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} فِي مشَاهد كَثِيرَة عِنْد الْقِتَال {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} خَاصَّة وَهُوَ وَاد بَين مَكَّة والطائف (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) كَثْرَة جموعكم وَكَانُوا عشرَة آلَاف رجل {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ} كثرتكم من الْهَزِيمَة {شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْض} من الْخَوْف {بِمَا رَحُبَتْ} بسعتها {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} منهزمين من الْعَدو وَكَانَ عَددهمْ أَرْبَعَة آلَاف رجل(1/156)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
{ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ} طمأنينته {على رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤمنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً} من السَّمَاء {لَّمْ تَرَوْهَا} يَعْنِي الْمَلَائِكَة بالنصرة لكم {وَعذَّبَ الَّذين كَفَرُواْ} بِالْقَتْلِ والهزيمة يَعْنِي قوم مَالك بن عَوْف الدهماني وَقوم كنَانَة ابْن عبد يَا ليل الثَّقَفِيّ {وَذَلِكَ جَزَآءُ الْكَافرين} فِي الدُّنْيَا(1/156)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
{ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذَلِك} الْقِتَال والهزيمة {على مَن يَشَآءُ} على من تَابَ مِنْهُم {وَالله غَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} لمن تَابَ(1/156)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نَجَسٌ} قذر {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِد الْحَرَام} بِالْحَجِّ وَالطّواف {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} عَام الْبَرَاءَة يَوْم النَّحْر {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} الْفقر وَالْحَاجة {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} من رزقه من وَجه آخر {إِن شَآءَ} حَيْثُ شَاءَ ويغنيكم عَن تِجَارَة بكر بن وَائِل {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بأرزاقكم {حَكِيمٌ} فِيمَا حكم عَلَيْكُم(1/156)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
{قَاتِلُواْ الَّذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر} وَلَا بنعيم الْجنَّة {وَلاَ يُحَرِّمُونَ} فِي التَّوْرَاة {مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحق} لَا يخضعون لله بِالتَّوْحِيدِ ثمَّ بيَّن من هم فَقَالَ {مِنَ الَّذين أُوتُواْ الْكتاب} أعْطوا الْكتاب يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة عَن يَدٍ} عَن قيام من يَد فِي يَد {وَهُمْ صَاغِرُونَ} ذليلون(1/156)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
{وَقَالَتِ الْيَهُود} يهود أهل الْمَدِينَة {عُزَيْرٌ ابْن الله وَقَالَتْ النَّصَارَى} نَصَارَى أهل نَجْرَان {الْمَسِيح ابْن الله ذَلِك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} بألسنتهم {يُضَاهِئُونَ} يشابهون {قَوْلَ الَّذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} من قبلهم يَعْنِي أهل مَكَّة لِأَن أهل مَكَّة قَالُوا اللات والعزى وَمَنَاة بَنَات الله وَكَذَلِكَ قَالَت الْيَهُود عَزِيز ابْن الله وَقَالَت النَّصَارَى قَالَ بَعضهم الْمَسِيح ابْن الله وَقَالَ بَعضهم شَرِيكه وَقَالَ بَعضهم هُوَ الله وَقَالَ بَعضهم ثَالِث ثَلَاثَة {قَاتَلَهُمُ الله} لعنهم الله {أَنى يُؤْفَكُونَ} من أَيْن يكذبُون(1/156)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
{اتَّخذُوا أَحْبَارَهُمْ} علماءهم يَعْنِي الْيَهُود {وَرُهْبَانَهُمْ} واتخذت النَّصَارَى أَصْحَاب الصوامع {أَرْبَاباً} أطاعوهم بالمعصية {مِّن دُونِ الله والمسيح ابْن مَرْيَمَ} وَاتَّخذُوا الْمَسِيح بن مَرْيَم إِلَهًا {وَمَآ أمروا} فِي جملَة الْكتب {إِلاَّ ليعبدوا} ليوحدوا {إِلَهًا وَاحِداً لاَّ إِلَه إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ} نزه نَفسه {عَمَّا يُشْرِكُونَ}(1/156)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ} يبطلوا {نُورَ الله} دين الله(1/156)
{بِأَفْوَاهِهِمْ} بتكذيبهم وَيُقَال بألسنتهم {ويأبى الله} لَا يتْرك الله {إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} إِلَّا أَن يظْهر دينه الْإِسْلَام {وَلَوْ كَرِهَ} وَإِن كره {الْكَافِرُونَ} أَن يكون ذَلِك(1/157)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
{هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله} مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {بِالْهدى} بِالْقُرْآنِ وَالْإِيمَان {وَدِينِ الْحق} دين الْإِسْلَام شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّين كُلِّهِ} ليظْهر دين الْإِسْلَام على الْأَدْيَان كلهَا من قبل أَن تقوم السَّاعَة {وَلَوْ كَرِهَ} وَإِن كره (الْمُشْركُونَ) أَن يكون ذَلِك(1/157)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْأَحْبَار} عُلَمَاء الْيَهُود {والرهبان} أَصْحَاب الصوامع {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاس بِالْبَاطِلِ} بالرشوة وَالْحرَام {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} عَن دين الله وطاعته {وَالَّذين يَكْنِزُونَ} يجمعُونَ {الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلاَ يُنفِقُونَهَا} يَعْنِي الْكُنُوز {فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله وَيُقَال وَلَا يؤدون زَكَاتهَا {فَبَشِّرْهُمْ} يَا مُحَمَّد {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وجيع(1/157)
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
{يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا} على الْكُنُوز وَيُقَال على النَّار {فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا} فَتضْرب بالكنوز {جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا} يُقَال لَهُم عُقُوبَة هَذَا {مَا كَنَزْتُمْ} بِمَا جمعتم من الْأَمْوَال {لأَنْفُسِكُمْ} فِي الدُّنْيَا {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ} بِمَا كُنْتُم {تَكْنِزُونَ} تجمعون(1/157)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُور عِندَ الله} يَقُول السّنة بالشهور عِنْد الله يَعْنِي شهور السّنة الَّتِي تُؤَدّى فِيهَا الزَّكَاة {اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله} فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ {يَوْمَ} من يَوْم {خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض مِنْهَآ} من الشُّهُور {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} رَجَب وَذُو الْقعدَة وَذُو الْحجَّة وَالْمحرم {ذَلِك الدّين الْقيم} الْحساب الْقَائِم لَا يزِيد وَلَا ينقص {فَلاَ تَظْلِمُواْ} فَلَا تضروا {فِيهِنَّ} فِي الشُّهُور {أَنْفُسَكُمْ} بالمعصية وَيُقَال فِي الْأَشْهر الْحرم {وَقَاتِلُواْ الْمُشْركين كَآفَّةً} جَمِيعًا فِي الْحل وَالْحرم {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} جَمِيعًا {وَاعْلَمُوا} يَا معشر الْمُؤمنِينَ {أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش وَنقض الْعَهْد والقتال فِي أشهر الْحرم(1/157)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
{إِنَّمَا النسيء زِيَادَةٌ فِي الْكفْر} يَقُول تَأْخِير الْمحرم إِلَى صفر مَعْصِيّة زِيَادَة مَعَ الْكفْر {يُضَلُّ بِهِ} يغلط بِتَأْخِير الْمحرم إِلَى صفر مَعْصِيّة زِيَادَة مَعَ الْكفْر {الَّذين كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ} يَعْنِي الْمحرم {عَاماً} فيقاتلون فِيهِ {وَيُحَرِّمُونَهُ} يَعْنِي الْمحرم {عَاماً} فَلَا يُقَاتلُون فِيهِ فَإِذا أحلُّوا الْمحرم حرمُوا صفر بدله {لِّيُوَاطِئُواْ} ليوافقوا {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} أَرْبعا بِالْعدَدِ {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} يَعْنِي الْمحرم {زين لَهُم} حسن لَهُم {سوء أَعْمَالِهِمْ} قبح أَعْمَالهم {وَالله لاَ يَهْدِي} لَا يرشد إِلَى دينه {الْقَوْم الْكَافرين} من لم يكن أَهلا لذَلِك وَكَانَ الَّذِي يفعل هَذَا رجلا يُقَال لَهُ نعيم بن ثَعْلَبَة(1/157)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا} اخْرُجُوا مَعَ نَبِيكُم {فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله فِي غَزْوَة تَبُوك {اثاقلتم إِلَى الأَرْض} اشتهيتم الْجُلُوس على الأَرْض {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} مَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا {مِنَ الْآخِرَة فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلاَّ قَلِيلٌ}(1/157)
يسير لَا يبْقى(1/158)
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
{إِلاَّ تَنفِرُواْ} إِن لم تخْرجُوا مَعَ نَبِيكُم إِلَى غَزْوَة تَبُوك {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وجيعاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} خيرا مِنْكُم وأطوع {وَلاَ تَضُرُّوهُ} أَي لَا يضر الله جلوسكم {شَيْئاً وَالله على كُلِّ شَيْءٍ} من الْعَذَاب وَالْبدل {قَدِيرٌ}(1/158)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
{إِلَّا تنصروه} إِن لم تنصرُوا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْخرُوجِ مَعَه إِلَى غَزْوَة تَبُوك {فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذين كَفَرُواْ} كفار مَكَّة {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} يَعْنِي رَسُول الله وَأَبا بكر {إِذْ هما} رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ {فِي الْغَار إِذْ يَقُول} رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {لِصَاحِبِهِ} أبي بكر {لاَ تَحْزَنْ} يَا أَبَا بكر {إِنَّ الله مَعَنَا} معيننا {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ} طمأنينته {عَلَيْهِ} على نبيه {وَأَيَّدَهُ} أَعَانَهُ يَوْم بدر وَيَوْم الْأَحْزَاب وَيَوْم حنين {بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} يَعْنِي الْمَلَائِكَة {وَجَعَلَ كَلِمَةَ} دين {الَّذين كَفَرُواْ السُّفْلى} المغلوبة المذمومة {وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعليا} الْغَالِبَة الممدوحة {وَالله عَزِيزٌ} بالنقمة من أعدائه {حَكِيمٌ} بالنصرة لأوليائه(1/158)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
{انفروا} اخْرُجُوا مَعَ نَبِيكُم إِلَى غَزْوَة تَبُوك {خِفَافاً وَثِقَالاً} شباناً وشيوخاً وَيُقَال نشاطاً وَغير نشاط وَيُقَال خفافاً من المَال والعيال وثقالاً بِالْمَالِ والعيال {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله {ذَلِكُم} الْجِهَاد {خَيْرٌ لَّكُمْ} من الْجُلُوس {إِن كُنتُمْ} إِذْ كُنْتُم {تَعْلَمُونَ} وتصدقون ذَلِك(1/158)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
{لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} غنيمَة قريبَة {وَسَفَراً قَاصِداً} هيناً {لاَّتَّبَعُوكَ} إِلَى غَزْوَة تَبُوك بِطيبَة الْأَنْفس {وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} السّفر إِلَى الشَّام {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّه} لكم إِذا رجعتم من غَزْوَة تَبُوك عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قُشَيْر وأصحابهم الَّذين تخلفوا عَن غَزْوَة تَبُوك {لَوِ استطعنا} بالزاد وَالرَّاحِلَة {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} إِلَى غَزْوَة تَبُوك {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} بِالْحلف الكاذبة {وَالله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} لأَنهم كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوج مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/158)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
{عَفَا الله عَنكَ} يَا مُحَمَّد {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} لِلْمُنَافِقين بِالْجُلُوسِ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذين صَدَقُواْ} فِي إِيمَانهم بِالْخرُوجِ مَعَك {وَتَعْلَمَ الْكَاذِبين} فِي إِيمَانهم بالتخلف عَن الْخُرُوج بِلَا إِذن(1/158)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
{لاَ يَسْتَأْذِنُكَ} بعد غَزْوَة تَبُوك {الَّذين يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة {أَن يُجَاهِدُواْ} أَن لَا يجاهدوا {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَالله عَلِيمٌ بالمتقين} الْكفْر والشرك(1/158)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} بِالْجُلُوسِ عَن الْخُرُوج {الَّذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} فِي السِّرّ {وارتابت} شكت {قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ} فِي شكهم {يَتَرَدَّدُونَ} يتحيرون(1/158)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
{وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوج} مَعَك إِلَى غَزْوَة تَبُوك {لأَعَدُّواْ لَهُ} لِلْخُرُوجِ(1/158)
{عُدَّةً} قُوَّة من السِّلَاح والزاد {وَلَكِن كَرِهَ الله انبعاثهم} خُرُوجهمْ مَعَك إِلَى غَزْوَة تَبُوك {فَثَبَّطَهُمْ} فحبسهم عَن الْخُرُوج {وَقِيلَ اقعدوا} تخلفوا {مَعَ القاعدين} مَعَ المتخلفين بِغَيْر عذر وَقع ذَلِك فِي قُلُوبهم(1/159)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم} مَعكُمْ {مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} شرا وَفَسَادًا {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} لساروا على الْإِبِل وسطكم {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة} يطْلبُونَ فِيكُم الشَّرّ وَالْفساد والذلة وَالْعَيْب {وَفِيكُمْ} مَعكُمْ {سَمَّاعُونَ لَهُمْ} جواسيس للْكفَّار {وَالله عَلِيمٌ بالظالمين} بالمنافقين عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه(1/159)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
{لَقَدِ ابْتَغوا الْفِتْنَة} بغوا لَك الغوائل يَعْنِي طلبُوا لَك الشَّرّ {من قبل} غَزْوَة تَبُوك {وَقَلَّبُواْ لَكَ الْأُمُور} ظهرا لبطن وبطناً لظهر {حَتَّى جَآءَ الْحق} كثر الْمُؤْمِنُونَ {وَظَهَرَ أَمْرُ الله} دين الله الْإِسْلَام {وَهُمْ كَارِهُونَ} ذَلِك(1/159)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
{وَمِنْهُمْ} من الْمُنَافِقين {مَّن يَقُولُ} وَهُوَ جد بن قيس {ائْذَنْ لِّي} بِالْجُلُوسِ {وَلاَ تَفْتِنِّي} فِي بَنَات الْأَصْفَر {أَلا فِي الْفِتْنَة} فِي الشّرك والنفاق {سَقَطُواْ} وَقَعُوا {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ} ستحيط {بالكافرين} يَوْم الْقِيَامَة(1/159)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
{إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} الْفَتْح وَالْغنيمَة مثل يَوْم بدر {تَسُؤْهُمْ} ساءهم ذَلِك يَعْنِي الْمُنَافِقين {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} الْقَتْل والهزيمة مثل يَوْم أحد {يَقُولُواْ} أَي يَقُول المُنَافِقُونَ عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} حذرنا بالتخلف عَنْهُم {مِن قَبْلُ} من قبل الْمُصِيبَة {وَيَتَوَلَّواْ} عَن الْجِهَاد {وَّهُمْ فَرِحُونَ} معجبون بِمَا أصَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه يَوْم أحد(1/159)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
{قُل} يَا مُحَمَّد لِلْمُنَافِقين {لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} قضى الله لنا {هُوَ مَوْلاَنَا} أولى بِنَا {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وعَلى الْمُؤمنِينَ أَن يتوكلوا على الله(1/159)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لِلْمُنَافِقين {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ} تنتظرون بِنَا {إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} الْفَتْح وَالْغنيمَة أَو الْقَتْل وَالشَّهَادَة {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} لهلاككم {أَوْ بِأَيْدِينَا} بسيوفنا لقتلكم {فتربصوا} فانتظروا بِنَا {إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} منتظرون لهلاككم(1/159)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لِلْمُنَافِقين {أَنفِقُواْ} أَمْوَالكُم {طَوْعاً} من قبل أَنفسكُم {أَوْ كَرْهاً} جبرا مَخَافَة الْقَتْل {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} ذَلِك {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ} منافقين(1/159)
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّه وَبِرَسُولِهِ} فِي السِّرّ {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَاة} إِلَى الصَّلَاة {إِلاَّ وَهُمْ كسَالَى} متثاقلون {وَلاَ يُنفِقُونَ} شَيْئا فِي سَبِيل الله {إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} ذَلِك(1/159)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
{فَلاَ تُعْجِبْكَ} يَا مُحَمَّد {أَمْوَالُهُمْ} كَثْرَة أَمْوَالهم {وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} كَثْرَة أَوْلَادهم {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ}(1/159)
تخرج أنفسهم {فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وتزهق أنفسهم وهم} مقدم ومؤخر(1/160)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّه} عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} مَعكُمْ فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة {وَمَا هُم مِّنكُمْ} مَعكُمْ فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة {وَلَكنهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يخَافُونَ من سُيُوفكُمْ(1/160)
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
{لَو يَجدونَ ملْجأ} حرْزا يلجئون إِلَيْهِ {أَوْ مَغَارَاتٍ} فِي الْجَبَل {أَوْ مُدَّخَلاً} سرباً فِي الأَرْض {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ} لذهبوا إِلَيْهِ {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يهرولون هرولة والجموح مشي بَين مشيين(1/160)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
{وَمِنْهُمْ} من الْمُنَافِقين أَبُو الْأَحْوَص وَأَصْحَابه {مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدقَات} يطعن عَلَيْك فِي قسْمَة الصَّدقَات يَقُولُونَ لم يقسم بَيْننَا بِالسَّوِيَّةِ {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا} من الصَّدقَات حظاً وافراً {رَضُواْ} بِالْقِسْمَةِ {وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا} من الصَّدقَات حظاً وافراً {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} بِالْقِسْمَةِ(1/160)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ} يَعْنِي الْمُنَافِقين {رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله} بِمَا أَعْطَاهُم الله من فَضله {وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} ثقتنا بِاللَّه {سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ} سيغنينا الله من فَضله برزقه {وَرَسُولُهُ} بِالْعَطِيَّةِ {إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ} رغبتنا إِلَى الله لَو قَالُوا هَكَذَا لَكَانَ خيرا لَهُم(1/160)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
ثمَّ بيَّن لمن الصَّدقَات فَقَالَ {إِنَّمَا الصَّدقَات لِلْفُقَرَآءِ} لأَصْحَاب الصّفة {وَالْمَسَاكِين} للطوافين {والعاملين عَلَيْهَا} لجابي الصَّدقَات {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} بِالْعَطِيَّةِ أبي سُفْيَان وَأَصْحَابه نَحْو خَمْسَة عشر رجلا {وَفِي الرّقاب} المكاتبين {والغارمين} لأَصْحَاب الدُّيُون فِي طَاعَة الله {وَفِي سَبِيلِ الله} وللمجاهدين فِي سَبِيل الله {وَابْن السَّبِيل} الضَّيْف النَّازِل الْمَار بِالطَّرِيقِ {فَرِيضَةً} قسْمَة {مِّنَ الله} لهَؤُلَاء {وَالله عَلِيمٌ} بهؤلاء {حَكِيمٌ} فِيمَا حكم لهَؤُلَاء(1/160)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
{وَمِنْهُمُ} من الْمُنَافِقين جذام بن خَالِد وَإيَاس بن قيس وَسماك بن يزِيد وَعبيد بن مَالك {الَّذين يُؤْذُونَ النَّبِي} بالطعن والشتم {وَيِقُولُونَ} بَعضهم لبَعض {هُوَ أُذُنٌ} يسمع منا ويصدقنا إِذا قُلْنَا لَهُ مَا قُلْنَا فِيك شَيْئا {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} لَا الشَّرّ أَي يسع مِنْكُم ويصدقكم بِالْخَيرِ لَا بِالْكَذِبِ وَيُقَال أذن خير إِن كَانَ أذنا فَهُوَ خير لكم {يُؤْمِنُ بِاللَّه} يصدق قَول الله {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} يصدق قَول الْمُؤمنِينَ المخلصين {وَرَحْمَةٌ} من الْعَذَاب {لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة {وَالَّذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله} بالتخلف عَنهُ فِي غَزْوَة تَبُوك جلاس بن سُوَيْد وَسماك بن عَمْرو ومخشي بن حمير وأصحابهم {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة(1/160)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
{يَحْلِفُونَ بِاللَّه لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} بالتخلف عَن الْغَزْو {وَالله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} لَو كَانُوا مُصدقين فِي إِيمَانهم(1/160)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
{أَلَمْ يعلمُوا} يَعْنِي جلاساً وَأَصْحَابه {أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله} يُخَالف الله {وَرَسُولَهُ} فِي السِّرّ {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِك الخزي الْعَظِيم} الْعَذَاب الشَّديد(1/160)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
{يَحْذَرُ المُنَافِقُونَ} عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} على نَبِيّهم {سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ} تخبرهم {بِمَا فِي قُلُوبِهِم} من النِّفَاق {قُلِ} يَا مُحَمَّد لوديعة بن جزام وجد بن قيس وجهير بن حمير {استهزؤوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {إِنَّ الله مُخْرِجٌ}(1/160)
مظهر {مَّا تَحْذَرُونَ} مَا تكتمون من مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه(1/161)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
{وَلَئِن سَأَلتهمْ} يَا مُحَمَّد عَمَّا ذَا ضحكتم {ليَقُولن إِنَّمَا كُنَّا نَخُوض} فَتحدث عَن الركب {وَنَلْعَبُ} نضحك فِيمَا بَيْننَا {قُلْ} يَا مُحَمَّد لَهُم {أبالله وَآيَاتِهِ} الْقُرْآن {وَرَسُولِهِ كُنْتُم تستهزؤون}(1/161)
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
{لاَ تَعْتَذِرُواْ} بقولكم {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ} جهير بن حمير لِأَنَّهُ لم يستهزىء مَعَهم وَلَكِن ضحك مَعَهم {نُعَذِّبْ طَآئِفَةً} وَدِيعَة بن جذام وجد بن قيس {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} مُشْرِكين فِي السِّرّ(1/161)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
{المُنَافِقُونَ} من الرِّجَال {والمنافقات} من النِّسَاء {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} على دين بعض فِي السِّرّ {يَأْمُرُونَ بالمنكر} بالْكفْر وَمُخَالفَة الرَّسُول {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوف} عَن الْإِيمَان وموافقة الرَّسُول {وَيَقْبِضُونَ} يمسكون {أَيْدِيَهُمْ} عَن النَّفَقَة فِي الْخَيْر {نَسُواْ الله} تركُوا طَاعَة الله فِي السِّرّ {فَنَسِيَهُمْ} خذلهم فِي الدُّنْيَا وتركهم فِي الْآخِرَة فِي النَّار {إِنَّ الْمُنَافِقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} الْكَافِرُونَ فِي السِّرّ(1/161)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
{وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ} من الرِّجَال {والمنافقات} من النِّسَاء {وَالْكفَّار نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} مقيمين فِي النَّار {هِيَ حَسْبُهُمْ} مصيرهم {وَلَعَنَهُمُ الله} عذبهم الله {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دَائِم(1/161)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
{كَالَّذِين} كعذاب الَّذين {مِن قَبْلِكُمْ} من الْمُنَافِقين {كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً} بِالْبدنِ {وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ} فَأَكَلُوا بنصيبهم من الْآخِرَة فِي الدُّنْيَا {فاستمتعتم بِخَلاَقِكُمْ} فأكلتم بنصيبكم من الْآخِرَة فِي الدُّنْيَا {كَمَا استمتع} كَمَا أكل {الَّذين مِن قَبْلِكُمْ} من الْمُنَافِقين {بِخَلاَقِهِمْ} بنصيبهم من الْآخِرَة فِي الدُّنْيَا {وَخُضْتُمْ} فِي الْبَاطِل {كَالَّذي خَاضُوا} وكذبتم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي السِّرّ كَالَّذِين خَاضُوا وكذبوا أنبياءه يَعْنِي أَنْبيَاء الله {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} بطلت حسناتهم {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأُولَئِكَ هُمُ الخاسرون} المغبونون بالعقوبة(1/161)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
{ألم يَأْتهمْ نبأ} خير {الَّذين مِن قَبْلِهِمْ} كَيفَ أهلكناهم {قَوْمِ نُوحٍ} أهلكناهم بِالْغَرَقِ {وَعَادٍ} قوم هود أهلكناهم بِالرِّيحِ {وَثَمُودَ} قوم صَالح أهلكناهم بالرجفة {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} أهلكناهم بالهدم {وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ} قوم شُعَيْب أهلكناهم بالرجفة {والمؤتفكات} المكذبات المنخسفات يَعْنِي قوم لوط أهلكناهم بالخسف وَالْحِجَارَة {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والعلامات فَلم يُؤمنُوا بهم فأهلكهم الله {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} بهلاكهم {وَلَكِن كَانُوا أنفسهم يظْلمُونَ} بالْكفْر وَتَكْذيب الْأَنْبِيَاء(1/161)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
{والمؤمنون} المصدقون من الرِّجَال {وَالْمُؤْمِنَات} المصدقات من النِّسَاء {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} على دين بعض فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بِالتَّوْحِيدِ وَاتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكر} عَن الْكفْر والشرك وَترك اتِّبَاع مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم(1/161)
{وَيُقِيمُونَ الصَّلَاة} يتمون الصَّلَوَات الْخمس {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة} يُعْطون زَكَاة أَمْوَالهم {وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ} فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله} لَا يعذبهم الله {إِنَّ الله عَزِيزٌ} فِي ملكه وسلطانه {حَكِيمٌ} فِي أمره وقضائه(1/162)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
{وَعَدَ الله الْمُؤمنِينَ} المصدقين من الرِّجَال {وَالْمُؤْمِنَات} المصدقات من النِّسَاء {جَنَّاتٍ} بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {خَالِدين فِيهَا} مقيمين فِي الْجنَّة {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} منَازِل حَسَنَة قد طيبها الله بالمسك وَالريحَان وَيُقَال جميلَة وَيُقَال طَاهِرَة وَيُقَال عامرة {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} دَرَجَة الْعليا {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} رضَا رَبهم أعظم مِمَّا هم فِيهِ {ذَلِك} الَّذِي ذكرت {هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} النجَاة الوافرة(1/162)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
{يَا أَيهَا النَّبِي جَاهِدِ الْكفَّار} بِالسَّيْفِ {وَالْمُنَافِقِينَ} بِاللِّسَانِ {وَاغْلُظْ} اشْدُد {عَلَيْهِمْ} على كلا الْفَرِيقَيْنِ بالْقَوْل وَالْفِعْل {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} مصيرهم جَهَنَّم {وَبِئْسَ الْمصير} صَارُوا إِلَيْهِ(1/162)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
{يَحْلِفُونَ بِاللَّه مَا قَالُواْ} حلف بِاللَّه جلاس بن سُوَيْد مَا قلت الَّذِي قَالَ على عَامر بن قيس {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكفْر} كلمة الْكفَّار لقَوْله حَيْثُ ذكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عيب الْمُنَافِقين وَمَا فيهم قَالَ وَالله لَئِن كَانَ مُحَمَّد صَادِقا فِيمَا يَقُول فِي إِخْوَاننَا لنَحْنُ أشر من الْحمير فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَامر بن قيس عَن قَوْله فَحلف بِاللَّه مَا قلت فكذبه الله وَقَالَ وَلَقَد قَالُوا كلمة الْكفْر {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} أَرَادوا قتل الرَّسُول وَإِخْرَاج الرَّسُول وَلم يقدروا على ذَلِك {وَمَا نقموا} وَمَا طعنوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه {إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} بِالْغَنِيمَةِ {فَإِن يَتُوبُواْ} من الْكفْر والنفاق {يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} من الْكفْر والنفاق {وَإِن يَتَوَلَّوْا} عَن التَّوْبَة {يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً} وجيعاً {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْض مِن وَلِيٍّ} حَافظ يحفظهم {وَلاَ نَصِيرٍ} مَانع يمنعهُم مِمَّا يُرَاد بهم(1/162)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
{وَمِنْهُمْ} من الْمُنَافِقين {مَّنْ عَاهَدَ الله} حلف بِاللَّه يَعْنِي ثَعْلَبَة بن حَاطِب بن أبي بلتعة {لَئِنْ آتَانَا} أَعْطَانَا {مِن فَضْلِهِ} المَال الَّذِي لَهُ بِالشَّام {لَنَصَّدَّقَنَّ} فِي سَبِيل الله لنؤدين مِنْهُ حق الله ولنصلن بِهِ الرَّحِم {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحين} من الحامدين(1/162)
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)
{فَلَمَّآ آتَاهُمْ} الله أَعْطَاهُم {مِّن فَضْلِهِ} المَال الَّذِي لَهُ بِالشَّام {بَخِلُواْ بِهِ} بِمَا وعدوا من حق الله {وَتَوَلَّواْ} عَن ذَلِك {وَّهُمْ معرضون} مكذبون(1/162)
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} فَجعل عاقبته على النِّفَاق {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} إِلَى يَوْم الْقِيَامَة {بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ} بِمَا أخلف وعده {وَبِمَا كَانُوا يكذبُون} ويكذبه بِمَا قَالَ(1/162)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
{أَلَمْ يَعْلَمُواْ} يَعْنِي الْمُنَافِقين {أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} فِيمَا بَينهم {وَنَجْوَاهُمْ} خلوتهم {وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب} مَا غَابَ عَن الْعباد(1/162)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
{الَّذين يَلْمِزُونَ الْمُطوِّعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} يطعنون على عبد الرَّحْمَن وَأَصْحَابه فِي الصَّدقَات يَقُولُونَ مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بالصدقات إِلَّا رِيَاء وَسُمْعَة {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ}(1/162)
ويطعنون على الَّذين لَا يَجدونَ إِلَّا طاقتهم وَكَانَ هَذَا أَبَا عقيل عبد الرَّحْمَن بن تيجان لم يجد إِلَّا صَاعا من تمر {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} بقلة الصَّدَقَة يَقُولُونَ مَا جَاءَ بِهِ إِلَّا ليذكر بِهِ وَيُعْطى من الصَّدَقَة أَكثر مِمَّا جَاءَ بِهِ {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} عَلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة فِي الْآخِرَة يفتح الله لَهُم بَابا إِلَى النَّار {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع فِي الْآخِرَة(1/163)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
{اسْتغْفر لَهُمْ} يَقُول إِن تستغفر لعبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قُشَيْر وأصحابهم نَحْو سبعين رجلا {أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} سَوَاء عَلَيْهِم {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ ذَلِك} الْعَذَاب {بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّه وَرَسُولِهِ} فِي السِّرّ {وَالله لاَ يَهْدِي} لَا يغْفر {الْقَوْم الْفَاسِقين} الْمُنَافِقين عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه(1/163)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
{فَرِحَ الْمُخَلفُونَ} رَضِي المُنَافِقُونَ {بِمَقْعَدِهِمْ} بتخلفهم عَن غَزْوَة تَبُوك {خِلاَفَ رَسُولِ الله} خلف رَسُول الله {وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} فِي طَاعَة الله {وَقَالُواْ} وَقَالَ بَعضهم لبَعض {لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحر} لَا تخْرجُوا مَعَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى غَزْوَة تَبُوك فِي الْحر الشَّديد {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} جمراً {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} يفهمون ويصدقون(1/163)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
{فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} فِي الدُّنْيَا {وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} فِي الْآخِرَة {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يَقُولُونَ ويعملون من الْمعاصِي(1/163)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
{فَإِن رَّجَعَكَ الله} من غَزْوَة تَبُوك {إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} من الْمُنَافِقين بِالْمَدِينَةِ {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} إِلَى غَزْوَة أُخْرَى {فَقُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً} بعد غَزْوَة تَبُوك {وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود} بِالْجُلُوسِ {أَوَّلَ مَرَّةٍ} فِي أول مرّة من غَزْوَة تَبُوك {فاقعدوا} عَن الْجِهَاد {مَعَ الخالفين} مَعَ النِّسَاء وَالصبيان(1/163)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
{وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم} من الْمُنَافِقين بعد عبد الله بن أبي {مَّاتَ أَبَداً} وَيُقَال على عبد الله بن أبي {وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} وَلَا تقف على قَبره {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّه وَرَسُولِهِ} فِي السِّرّ {وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} مُنَافِقُونَ(1/163)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
{وَلاَ تُعْجِبْكَ} يَا مُحَمَّد {أَمْوَالُهُمْ} كَثْرَة أَمْوَالهم {وَأَوْلاَدُهُمْ} وَلَا كَثْرَة أَوْلَادهم {إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا} وَفِي الْآخِرَة {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} تخرج أَرْوَاحهم {وَهُمْ كَافِرُونَ} مقدم ومؤخر(1/163)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
{وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} من الْقُرْآن وَأمرُوا فِيهَا {أَنْ آمِنُواْ بِاللَّه} صدقُوا بإيمانكم بِاللَّه {وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ استأذنك} يَا مُحَمَّد {أُوْلُواْ الطول} ذُو الْغنى {مِنْهُمْ} من الْمُنَافِقين عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قُشَيْر {وَقَالُواْ ذَرْنَا} يَا مُحَمَّد {نَكُنْ مَّعَ القاعدين} بِغَيْر عذر(1/163)
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
{رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِف} مَعَ النِّسَاء وَالصبيان(1/163)
{وَطُبِعَ} ختم {على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} لَا يصدقون أَمر الله(1/164)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
{لَكِن الرَّسُول} مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَالَّذين آمَنُواْ} فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة {مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} فِي سَبِيل الله {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخيرَات} الْحَسَنَات المقبولات فِي الدُّنْيَا وَيُقَال الْجَوَارِي الحسان فِي الْآخِرَة {وَأُولَئِكَ هُمُ المفلحون} الناجون من السخط وَالْعَذَاب(1/164)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
{أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ} بساتين {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} من تَحت شَجَرهَا ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {خَالِدين فِيهَا} مقيمين فِي الْجنَّة لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا {ذَلِك} الَّذِي ذكرت {الْفَوْز الْعَظِيم} النجَاة الوافرة فازوا بِالْجنَّةِ وَمَا فِيهَا ونجوا من النَّار وَمَا فِيهَا(1/164)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
{وَجَآءَ} إِلَيْك يَا مُحَمَّد {المعذرون} مُخَفّفَة من كَانَ لَهُ عذر {مِنَ الْأَعْرَاب} من بني غفار وَإِن قَرَأت المعذرون مُشَدّدَة يَعْنِي من لم يكن لَهُ عذر {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} لكَي يَأْذَن لَهُم رَسُول الله بالتخلف عَن غَزْوَة تَبُوك {وَقَعَدَ الَّذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ} فِي السِّرّ وَيُقَال خالفوا الله وَرَسُوله فِي السِّرّ فِي الْجِهَاد بِغَيْر إِذن {سَيُصِيبُ الَّذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} من الْمُنَافِقين عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع(1/164)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
{لَّيْسَ عَلَى الضعفآء} من الشُّيُوخ والزمنى {وَلاَ على المرضى} من الشَّبَاب {وَلاَ عَلَى الَّذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} فِي الْجِهَاد {حَرَجٌ} مأثم بالتخلف {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ} فِي الدّين {وَرَسُولِهِ} فِي السّنة {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} بالْقَوْل وَالْفِعْل {مِن سَبِيلٍ} من حرج {وَالله غَفُورٌ} متجاوز لمن تَابَ {رَّحِيمٌ} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/164)
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
{وَلاَ عَلَى الَّذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} إِلَى الْجِهَاد بِالنَّفَقَةِ عبد الله ابْن مُغفل بن يسَار الْمُزنِيّ وَسَالم بن عُمَيْر الْأنْصَارِيّ وأصحابهما {قُلْتَ} لَهُم {لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} إِلَى الْجِهَاد من النَّفَقَة {تَوَلَّوْا} خَرجُوا من عنْدك {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} تسيل {مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ} بِأَن لم يَجدوا {مَا يُنْفِقُونَ} فِي الْجِهَاد(1/164)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
{إِنَّمَا السَّبِيل} الْحَرج {عَلَى الَّذين يَسْتَأْذِنُونَكَ} بالتخلف {وَهُمْ أَغْنِيَآءُ} بِالْمَالِ عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قُشَيْر وأصحابهم نَحْو سبعين رجلا {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِف} مَعَ النِّسَاء وَالصبيان {وَطَبَعَ الله} ختم الله {على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أَمر الله وَلَا يصدقون(1/164)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ} من غَزْوَة تَبُوك {إِلَيْهِمْ} إِلَى الْمَدِينَة بِأَنا لم نقدر أَن نخرج مَعَك {قُل} يَا مُحَمَّد لَهُم {لاَّ تَعْتَذِرُواْ} بالتخلف {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} لن نصدقكم بِمَا تَقولُونَ من الْعِلَل {قَدْ نَبَّأَنَا الله} أخبرنَا الله {مِنْ أَخْبَارِكُمْ} من أسراركم ونفاقكم {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} بعد ذَلِك إِن تبتم {ثُمَّ تُرَدُّونَ} فِي الْآخِرَة {إِلَى عَالِمِ الْغَيْب} مَا غَابَ عَن الْعباد وَيُقَال الْغَيْب مَا لم يُعلمهُ الْعباد وَيُقَال مَا يكون {وَالشَّهَادَة} مَا علمه الْعباد وَيُقَال مَا كَانَ {فينبئكم} بخبركم {بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وتقولون من الْخَيْر وَالشَّر(1/164)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّه} عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {لَكُمْ إِذَا انقلبتم} إِذا رجعتم من غَزْوَة تَبُوك {إِلَيْهِم} بِالْمَدِينَةِ {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} لتصفحوا عَنْهُم وَلَا تعاقبوهم(1/164)
{فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} وَلَا تعاقبوهم {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} نجس قذر {وَمَأْوَاهُمْ} مصيرهم {جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يَقُولُونَ ويعملون من الشَّرّ(1/165)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} بِالْحلف {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} بِالْحلف الْكَاذِب {فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ الْقَوْم الْفَاسِقين} الْمُنَافِقين(1/165)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
{الْأَعْرَاب} أَسد وغَطَفَان {أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} هم أَشد على الْكفْر والنفاق من غَيرهم {وَأَجْدَرُ} أَحْرَى أَيْضا {أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله} فَرَائض مَا أنزل الله {على رَسُولِهِ} فِي الْكتاب {وَالله عَلِيمٌ} بالمنافقين {حَكِيمٌ} فِيمَا حكم عَلَيْهِم بالعقوبة وَيُقَال عليم بِجَهْل من ترك التَّعَلُّم حَكِيم حكم أَن من لَا يتَعَلَّم الْعلم يكون جَاهِلا(1/165)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
{وَمِنَ الْأَعْرَاب} يَعْنِي أَسد وغَطَفَان {مَن يَتَّخِذُ} يحْتَسب {مَا يُنفِقُ} فِي الْجِهَاد {مَغْرَماً} غرماً {وَيَتَرَبَّصُ} ينْتَظر {بِكُمُ الدَّوَائِر} الْمَوْت والهلاك {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} منقلبة السوء وعاقبة السوء {وَالله سَمِيعٌ} لمقالتهم {عَلِيمٌ} بعقوبتهم(1/165)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
{وَمِنَ الْأَعْرَاب} مزينة وجهينة وَأسلم {مَن يُؤْمِنُ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} فِي الْجِهَاد {قُرُبَاتٍ عِندَ الله} قربَة إِلَى الله فِي الدَّرَجَات {وَصَلَوَاتِ الرَّسُول} دُعَاء الرَّسُول {أَلا إِنَّهَا} يَعْنِي النَّفَقَة {قُرْبَةٌ لَّهُمْ} إِلَى الله فِي الدَّرَجَات {سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ} فِي جنته {إِنَّ الله غَفُورٌ} متجاوز {رَّحِيمٌ} لمن تَابَ(1/165)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
{وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ مِنَ الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار} بِالْإِيمَان الَّذين صلوا إِلَى قبلتين وشهدوا بَدْرًا {وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} بأَدَاء الْفَرَائِض وَاجْتنَاب الْمعاصِي إِلَى يَوْم الْقِيَامَة {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ} بإحسانهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} بالثواب والكرامة {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} بساتين {تَجْرِي تحتهَا} من تَحت أشجارها ومساكنها {الْأَنْهَار} أَنهَار المَاء وَالْخمر وَالْعَسَل وَاللَّبن {خَالِدِينَ فِيهَآ} مقيمين فِي الْجنَّة لَا يموتون وَلَا يخرجُون مِنْهَا {أَبَداً ذَلِك} الرضْوَان والجنان {الْفَوْز الْعَظِيم} النجَاة الوافرة(1/165)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الْأَعْرَاب} أَسد وغَطَفَان {مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَة} عبد الله بن أبي وَأَصْحَابه {مَرَدُواْ} ثبتوا وجمعوا {عَلَى النِّفَاق لاَ تَعْلَمُهُمْ} لَا تعلم نفاقهم {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} نعلم نفاقهم {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} مرّة عِنْد قبض أَرْوَاحهم وَمرَّة فِي الْقُبُور {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} عَذَاب جَهَنَّم(1/165)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
{وَآخَرُونَ} وَمن أهل الْمَدِينَة قوم آخَرُونَ وَدِيعَة بن جذام الْأنْصَارِيّ وَأَبُو لبَابَة ابْن عبد الْمُنْذر الْأنْصَارِيّ وَأَبُو ثَعْلَبَة {اعْتَرَفُوا} أقرُّوا {بِذُنُوبِهِمْ} بتخلفهم عَن غَزْوَة تَبُوك {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالحا} خَرجُوا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرّة {وَآخَرَ سَيِّئاً} تخلفوا مرّة {عَسَى الله} وَعَسَى من الله وَاجِب {أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أَن يتَجَاوَز عَنْهُم {إِنَّ الله غَفُورٌ} لمن تَابَ مِنْهُم {رَّحِيمٌ} لمن مَاتَ على التَّوْبَة(1/165)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
ثمَّ بَين للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يَأْخُذهُ من أَمْوَالهم لقَولهم خُذ منا أَمْوَالنَا لأَنا تخلفنا عَن غَزْوَة تَبُوك لقبل الْأَمْوَال فَلم يَأْخُذ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَين الله لَهُ فَقَالَ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} أَمْوَال المتخلفين {صَدَقَةً} ثلثا(1/165)
{تُطَهِّرُهُمْ} من الذُّنُوب {وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} تصلحهم بهَا {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} اسْتغْفر لَهُم وادع لَهُم {إِنَّ صَلاَتَكَ} استغفارك ودعاءك {سَكَنٌ لَّهُمْ} طمأنينة لقُلُوبِهِمْ بِأَن تقبل تَوْبَتهمْ {وَالله سَمِيعٌ} لمقالتهم خُذ منا أَمْوَالنَا {عَلِيمٌ} بتوبتهم ونيتهم(1/166)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
{أَلَمْ يعلمُوا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة عَنْ عِبَادِهِ} من عباده {وَيَأْخُذُ الصَّدقَات} وَيقبل الصَّدقَات {وَأَنَّ الله هُوَ التواب} المتجاوز {الرَّحِيم} لمن تَابَ(1/166)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{وَقُلِ} لَهُم يَا مُحَمَّد {اعْمَلُوا} خيرا بعد التَّوْبَة {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} وَيرى الله وَرَسُوله {والمؤمنون} وَيرى الْمُؤْمِنُونَ {وَسَتُرَدُّونَ} بعد الْمَوْت {إِلَى عَالِمِ الْغَيْب} مَا غَابَ عَن الْعباد وَيُقَال مَا يكون {وَالشَّهَادَة} مَا علمه الْعباد وَيُقَال مَا كَانَ {فينبئكم} يُخْبِركُمْ {بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وتقولون من الْخَيْر وَالشَّر(1/166)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
{وَآخَرُونَ} وَقوم آخَرُونَ من أهل الْمَدِينَة كَعْب بن مَالك ومرارة بن الرّبيع وهلال بن أُميَّة {مرجون لأمر الله} موقوفون محبوسون أنفسهم لأمر الله {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} بتخلفهم عَن غَزْوَة تَبُوك {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} يتَجَاوَز عَنْهُم بتخلفهم {وَالله عَلِيمٌ} بتوبتهم وتخلفهم {حَكِيمٌ} فِيمَا حكم عَلَيْهِم(1/166)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
{وَالَّذين اتَّخذُوا} بنوا {مَسْجِداً} عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قُشَيْر وأصحابهم نَحْو سَبْعَة عشر رجلا {ضِرَاراً} مضرَّة للْمُؤْمِنين {وَكُفْراً} فِي قُلُوبهم ثباتاً على كفرهم يَعْنِي النِّفَاق {وَتَفْرِيقًا بَين الْمُؤمنِينَ} لكَي يصل طَائِفَة فِي مَسْجِدهمْ وَطَائِفَة فِي مَسْجِد الرَّسُول {وَإِرْصَاداً} انتظاراً {لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} لمن كفر بِاللَّه وَرَسُوله {مِن قَبْلُ} من قبلهم أَبُو عَامر الراهب الَّذِي سَمَّاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاسِقًا {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا} مَا أردنَا بِبِنَاء الْمَسْجِد {إِلاَّ الْحسنى} إِلَّا الْإِحْسَان إِلَى الْمُؤمنِينَ لكَي يُصَلِّي فِيهِ من فَاتَتْهُ صلَاته فِي مَسْجِد قبَاء {وَالله يَشْهَدُ} يعلم {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فِي حلفهم(1/166)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
{لاَ تَقُمْ فِيهِ} لَا تصل فِي مَسْجِد الشقاق {أَبَداً لَّمَسْجِدٌ} وَهُوَ مَسْجِد قبَاء {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} بني على طَاعَة الله وَذكره {من أول يَوْم} دخل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وَيُقَال أول مَسْجِد بني بِالْمَدِينَةِ {أَحَقُّ} أصوب {أَن تَقُومَ} تصلي {فِيهِ} فِي مَسْجِد قبَاء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} أَن يغسلوا أدبارهم بِالْمَاءِ {وَالله يُحِبُّ المطهرين} بِالْمَاءِ من الأدناس(1/166)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} بني أساسه {على تقوى مِنَ اللَّهِ} على طَاعَة الله وَذكره {وَرِضْوَانٍ} بنوا إِرَادَة رضوَان رَبهم وَهُوَ مَسْجِد قبَاء {خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} بني أساسه وَهُوَ مَسْجِد الشقاق {على شَفَا جُرُفٍ} على طرف هوي وَلَيْسَ لَهُ أصل {هَارٍ} غَار {فانهار بِهِ} فغاربه يَعْنِي بانيه {فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمين} لَا يغْفر لِلْمُنَافِقين وَلَا ينجيهم(1/166)
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ} بَعْدَمَا هدمت {الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً} حسرة وندامة {فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} إِلَّا أَن يموتوا {وَالله عَلِيمٌ} ببنيانهم مَسْجِد الضرار وبنياتهم {حَكِيمٌ} فِيمَا حكم من هدم مَسْجِدهمْ وَحَرقه بعث إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد رُجُوعه من غَزْوَة تَبُوك عَامر بن قيس ووحشيا مولى مطعم ابْن عدي حَتَّى أحرقاه وَهَدَمَاهُ(1/166)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
{إِنَّ الله اشْترى مِنَ الْمُؤمنِينَ} المخلصين {أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجنَّة} بِالْجنَّةِ {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل الله}(1/166)
فِي طَاعَة الله {فَيَقْتُلُونَ} الْعَدو {وَيُقْتَلُونَ} ويقتلهم الْعَدو {وَعْداً عَلَيْهِ} على الله {حَقّاً} وَاجِبا أَن يوفيهم {فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالْقُرْآن وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} وَمن أوفر بوفاء عَهده من الله {فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} الله يَعْنِي الْجنَّة {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} النَّجَاء الوافر(1/167)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
ثمَّ بيَّن من هم فَقَالَ {التائبون} أَي هم التائبون من الذُّنُوب {العابدون} المطيعون {الحامدون} الشاكرون {السائحون} الصائمون {الراكعون الساجدون} فِي الصَّلَوَات الْخمس {الآمرون بِالْمَعْرُوفِ} بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِحْسَان {والناهون عَنِ الْمُنكر} عَن الْكفْر وَمَا لَا يعرف فِي شَرِيعَة وَلَا سنة {والحافظون لحدود الله} الْفَرَائِض الله {وَبَشِّرِ الْمُؤمنِينَ} بِالْجنَّةِ(1/167)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
{مَا كَانَ للنَّبِي} مَا جَازَ لمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {وَالَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {أَن يَسْتَغْفِرُواْ} أَن يدعوا {لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قربى} فِي الرَّحِم {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيم} أهل النَّار أَي مَاتُوا على الْكفْر(1/167)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَار إِبْرَاهِيمَ} أَي دُعَاء إِبْرَاهِيم {لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} أَن يسلم {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} أَي حِين مَاتَ على الْكفْر {تَبَرَّأَ مِنْهُ} وَمن دينه {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} دعّاء وَيُقَال رَحِيم وَيُقَال سيد وَيُقَال كَانَ يتأوه على نَفسه فَيَقُول أوه من النَّار قبل دُخُول النَّار {حَلِيمٌ} عَن الْجَهْل(1/167)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
{وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} ليترك قوما بِمَنْزِلَة الضلال وَيُقَال ليبطل عمل قوم {بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} للْإيمَان {حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} الْمَنْسُوخ بالناسخ {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ} من الْمَنْسُوخ والناسخ {عَلِيمٌ}(1/167)
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
{إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَات} خَزَائِن السَّمَوَات الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَغير ذَلِك {وَالْأَرْض} وخزائن الأَرْض مثل الشّجر وَالدَّوَاب وَالْجِبَال والبحار وَغير ذَلِك {يُحْيِي} للبعث {وَيُمِيتُ} فِي الدُّنْيَا {وَمَا لكم من دون الله} من عَذَاب الله {مِن وَلِيٍّ} قريب ينفعكم {وَلاَ نَصِيرٍ} مَانع(1/167)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
{لَقَدْ تَابَ الله على النَّبِي} تجَاوز الله عَن النَّبِي {والمهاجرين وَالْأَنْصَار} الَّذين صلوا إِلَى الْقبْلَتَيْنِ وشهدوا بَدْرًا ثمَّ بيَّنهم فَقَالَ {الَّذين اتَّبعُوهُ} اتبعُوا النَّبِي فِي غَزْوَة تَبُوك {فِي سَاعَةِ الْعسرَة} فِي حِين الْعسرَة والشدة وَكَانَت لَهُم عسرة من الزَّاد وعسرة من الظّهْر وعسرة من الْحر وعسرة من الْعَدو وعسرة من بعد الطَّرِيق {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ} يمِيل {قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} من الْمُؤمنِينَ المخلصين عَن الْخُرُوج مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} تجَاوز عَنْهُم وَثَبت قُلُوبهم حَتَّى خَرجُوا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {إِنَّه بهم رؤوف رَحِيم}(1/167)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
{وَعَلَى الثَّلَاثَة الَّذين خُلِّفُواْ} وَتجَاوز عَن الثَّلَاثَة الَّذين خلف تَوْبَتهمْ كَعْب بن مَالك وَأَصْحَابه {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْض بِمَا رَحُبَتْ} بسعتها {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ}(1/167)
قُلُوبهم بِتَأْخِير التَّوْبَة {وظنوا} علمُوا وأيقنوا {أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله} أَن لَا نجاة لَهُم من الله {إِلاَّ إِلَيْهِ} إِلَّا بِالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ من تخلفهم عَن غَزْوَة تَبُوك {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} تجَاوز عَنْهُم وَعَفا عَنْهُم {ليتوبوا} لكَي يتوبوا من تخلفهم {إِنَّ الله هُوَ التواب} المتجاوز {الرَّحِيم} لمن تَابَ(1/168)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
{يَا أَيهَا الَّذين آمَنُواْ} عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه وَغَيرهم من الْمُؤمنِينَ {اتَّقوا الله} أطِيعُوا الله فِيمَا أَمركُم {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقين} مَعَ أبي بكر وَعمر وأصحابهما فِي الْجُلُوس وَالْخُرُوج بِالْجِهَادِ(1/168)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
{مَا كَانَ} مَا جَازَ {لأَهْلِ الْمَدِينَة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الْأَعْرَاب} من مزينة وجهينة وَأسلم {أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله} فِي الْغَزْوَة {وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} لَا يَكُونُوا على أنفسهم أشق من نفس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيُقَال وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفسِهِم بِصُحْبَة أنفسهم عَن صُحْبَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجِهَاد {ذَلِك} الْخُرُوج {بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} عَطش فِي الذّهاب والمجيء {وَلاَ نَصَبٌ} وَلَا تَعب {وَلاَ مَخْمَصَةٌ} وَلَا مجاعَة {فِي سَبِيل الله} فِي الْجِهَاد {وَلَا يطؤون مَوْطِئاً} لَا يجوزون مَكَانا يظهرون عَلَيْهِم {يَغِيظُ الْكفَّار} بذلك {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً} قتلا وهزيمة {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} ثَوَاب عمل صَالح فِي الْجِهَاد {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ} لَا يبطل {أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ثَوَاب الْمُؤمنِينَ فِي الْجِهَاد(1/168)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
{وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} قَليلَة وَلَا كَثِيرَة فِي الذّهاب والمجيء {وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً} فِي طلب الْعَدو {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} ثَوَاب عمل صَالح {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فِي الْجِهَاد(1/168)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ} مَا جَازَ للْمُؤْمِنين {لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} يخرجُوا جَمِيعًا فِي السّريَّة ويتركوا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَدِينَة وَحده {فَلَوْلاَ نَفَرَ} فَهَلا خرج {مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} جمَاعَة {مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ} وَبَقِي طَائِفَة بِالْمَدِينَةِ {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدّين} لكَي يتعلموا أَمر الدّين من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {ولينذروا} ليخبروا وليعلموا {قَوْمَهُمْ إِذَا رجعُوا إِلَيْهِمْ} من غزوتهم {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} لكَي يعلمُوا مَا أمروا بِهِ وَمَا نهوا عَنهُ وَيُقَال نزلت هَذِه الْآيَة فِي بني آسد أَصَابَتْهُم سنة فَجَاءُوا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ فأغلوا أسعار الْمَدِينَة وأفسدوا طرقها بالعذرات فنهاهم الله عَن ذَلِك(1/168)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {قَاتِلُواْ الَّذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكفَّار} من بني قُرَيْظَة وَالنضير وفدك وخيبر {وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ} مِنْكُم {غِلْظَةً} شدَّة {وَاعْلَمُوا} يَا معشر الْمُؤمنِينَ {أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} معِين الْمُؤمنِينَ مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأَصْحَابه بالنصرة على أعدائهم(1/168)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} آيَة فَيقْرَأ عَلَيْهِم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فَمِنْهُمْ} من الْمُنَافِقين {مَّن يَقُولُ} أَي يَقُول بَعضهم لبَعض {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِه} السُّورَة وَالْآيَة {إِيمَاناً} خوفًا ورجاء ويقيناً بِمَا قَالَ مُحَمَّد {فَأَما الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأَصْحَابه {فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} خوفًا ورجاء ويقيناً {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} بِمَا أنزل الله من الْقُرْآن(1/168)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
{وَأَمَّا الَّذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شكّ ونفاق {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ}(1/168)
شكا إِلَى شكهم بِمَا أنزل من الْقُرْآن {وماتوا وهم كافرون} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن فِي السِّرّ(1/169)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
{أَو لَا يَرَوْنَ} يَعْنِي الْمُنَافِقين {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ} يبتلون بِإِظْهَار مَكْرهمْ وخيانتهم وَيُقَال بِنَقْض عَهدهم {فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ} من صنيعهم وَنقض عَهدهم {وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتعظون(1/169)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
{وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} نزل جِبْرِيل بِسُورَة فِيهَا عيب الْمُنَافِقين وَكَانَ يقْرَأ عَلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {نَّظَرَ} المُنَافِقُونَ {بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} من المخلصين {ثُمَّ انصرفوا} عَن الصَّلَاة وَالْخطْبَة وَالْحق وَالْهدى {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} عَن الْحق وَالْهدى وَيُقَال مالوا عَن الْحق وَالْهدى فأمال الله قُلُوبهم عَن ذَلِك الِانْصِرَاف {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أَمر الله وَلَا يصدقونه(1/169)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
{لَقَدْ جَآءَكُمْ} يَا أهل مَكَّة {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} عَرَبِيّ هاشمي مثلكُمْ {عَزِيزٌ عَلَيْهِ} شَدِيد عَلَيْهِ {مَا عنتم} مَا أتممتم {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} على إيمَانكُمْ {بِالْمُؤْمِنِينَ} بِجَمِيعِ الْمُؤمنِينَ {رؤوف رَحِيم}(1/169)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} عَن الْإِيمَان وَالتَّوْبَة وَمَا قلت لَهُم {فَقُلْ حَسْبِيَ الله} ثقتي بِاللَّه {لَا إِلَه إِلاَّ هُوَ} لَا حَافظ وَلَا نَاصِر إِلَّا هُوَ {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اتكلت ووثقت {وَهُوَ رب الْعَرْش} السرير {الْعَظِيم} الْكَبِير
وَمن السُّورَة الَّتِي يذكر فِيهَا يُونُس وَهِي كلهَا مَكِّيَّة إِلَّا آيَة وَاحِدَة عِنْد رَأس لأربعين فَإِنَّهَا نزلت فِي الْيَهُود فَهِيَ مَدَنِيَّة وَهِي قَول الله عز وَجل {وَمِنْهُم من يُؤمن بِهِ وَمِنْهُم من لَا يُؤمن بِهِ} الْآيَة وآياتها مائَة وتسع آيَات وكلماتها ألف وَثَمَانمِائَة وَاثْنَانِ وحروفها سِتَّة آلَاف وَخَمْسمِائة وَسَبْعَة وَسِتُّونَ
{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم}
tit/2 /tit(1/169)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
وبإسناده عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى {الر} يَقُول أَنا الله أرى وَيُقَال قسم أقسم بِهِ {تِلْكَ آيَات الْكتاب الْحَكِيم} إِن هَذِه السُّورَة آيَات الْقُرْآن الْمُحكم بالحلال وَالْحرَام(1/169)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
{أَكَانَ لِلنَّاسِ} لأهل مَكَّة {عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ} بِأَن أَوْحَينَا {إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} آدَمِيّ مثلهم {أَنْ أَنذِرِ النَّاس} أَن خوف أهل مَكَّة بِالْقُرْآنِ {وَبَشِّرِ الَّذين آمنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} ثَوَاب خير وَيُقَال إِيمَانهم فِي الدُّنْيَا قدمهم فِي الْآخِرَة عِنْد رَبهم وَيُقَال إِن لَهُم نَبِي صدق وَيُقَال شَفِيع صدق {عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ} كفار مَكَّة {إِنَّ هَذَا} الْقُرْآن {لَسَاحِرٌ} كذب {مُّبِينٌ}(1/169)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
{إِنَّ رَبَّكُمُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} من أَيَّام أول الدُّنْيَا أول يَوْم يَوْم الْأَحَد وَآخر يَوْم يَوْم الْجُمُعَة طول كل يَوْم ألف سنة {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} اسْتَقر وَيُقَال امْتَلَأَ بِهِ الْعَرْش {يُدَبِّرُ الْأَمر} أَمر الْعباد وَيُقَال ينظر فِي أَمر الْعباد وَيُقَال يبْعَث الْمَلَائِكَة بِالْوَحْي والتنزيل والمصيبة {مَا مِن شَفِيعٍ} مَا من ملك مقرب وَلَا نَبِي مُرْسل يشفع لأحد {إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} إِلَّا بِإِذن الله {ذَلِكُم الله رَبُّكُمْ} الَّذِي يفعل ذَلِك هُوَ ربكُم(1/169)
{فاعبدوه} فوحدوه {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أَفلا تتعظون(1/170)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} بعد الْمَوْت {جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً} صدقا كَائِنا {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخلق} من النُّطْفَة {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد الْمَوْت {لِيَجْزِيَ الَّذين آمَنُواْ} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {بِالْقِسْطِ} بِالْعَدْلِ الْجنَّة {وَالَّذين كفرُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} من مَاء حَار قد انْتهى حره {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} وجيع يخلص وَجَعه إِلَى قُلُوبهم (بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ) بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن(1/170)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْس ضِيَآءً} للْعَالمين بِالنَّهَارِ {وَالْقَمَر نُوراً} لَهُم بِاللَّيْلِ {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} جعل لَهُ منَازِل {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} حِسَاب الشُّهُور وَالْأَيَّام {مَا خَلَقَ الله ذَلِك إِلاَّ بِالْحَقِّ} لبَيَان الْحق وَالْبَاطِل {يُفَصِّلُ الْآيَات} يبين الْآيَات من الْقُرْآن لعلامات الوحدانية {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يصدقون(1/170)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
{إِنَّ فِي اخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار} فِي تقلب اللَّيْل وَالنَّهَار وزيادتهما ونقصانهما وذهابهما ومجيئهما {وَمَا خَلَقَ الله فِي السَّمَاوَات} وَفِيمَا خلق الله من الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَغير ذَلِك {وَالْأَرْض} من الشّجر وَالدَّوَاب وَالْجِبَال والبحار وَغير ذَلِك {لآيَاتٍ} لعلامات لوحدانية الرب {لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} يطيعون(1/170)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
{إِنَّ الَّذين لاَ يَرْجُونَ} لَا يخَافُونَ {لِقَآءَنَا} بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت وَيُقَال لَا يقرونَ بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت {وَرَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} اخْتَارُوا مَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة {واطمأنوا بِهَا} رَضوا بهَا {وَالَّذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا} عَن مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {غَافِلُونَ} جاحدون تاركون لَهَا(1/170)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
{أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ} مصيرهم {النَّار بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يَقُولُونَ ويعملون فِي الشّرك(1/170)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
{إِن الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} الطَّاعَات فِيمَا بَينهم وَبَين رَبهم {يَهْدِيهِمْ} يدخلهم {رَبُّهُمْ} الْجنَّة {بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ} من تَحت شجرهم ومساكنهم {الْأَنْهَار} أَنهَار الْخمر وَالْمَاء وَالْعَسَل وَاللَّبن {فِي جَنَّاتِ النَّعيم}(1/170)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
{دَعْوَاهُمْ} قَوْلهم {فِيهَا} فِي الْجنَّة إِن اشتهوا شَيْئا {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} فتأتي لَهُم الخدام بِمَا يشتهون {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} يحيي بَعضهم بَعْضًا بِالسَّلَامِ {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} قَوْلهم بعد الْأكل وَالشرب {أَنِ الْحَمد للَّهِ رَبِّ الْعَالمين}(1/170)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
{وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشَّرّ} دعاءهم بِالشَّرِّ {استعجالهم بِالْخَيرِ} كاستعجال دُعَائِهِمْ بِالْخَيرِ {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} لهلكوا {فَنَذَرُ الَّذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} لَا يخَافُونَ الْبَعْث بعد الْمَوْت {فِي طُغْيَانِهِمْ} فِي كفرهم وضلالتهم {يعمهون} يمضون عمهة لَا يبصرون(1/170)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَان الضّر} إِذا أصَاب الْكَافِر الشدَّة أَو الْمَرَض وَهُوَ هِشَام بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي {دَعَانَا لِجَنبِهِ} مُضْطَجعا {أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ}(1/170)
رفعنَا مَا كَانَ بِهِ من الشدَّة وَالْبَلَاء {مَرَّ} اسْتمرّ على ترك الدُّعَاء {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ} إِلَى شدَّة {مَّسَّهُ} أَصَابَهُ {كَذَلِك} هَكَذَا {زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} للْمُشْرِكين {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فِي الشّرك من الدُّعَاء فِي الشدَّة وَترك الدُّعَاء فِي الرخَاء(1/171)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} حِين كفرُوا {وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والعلامات {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} يَقُول لم يُؤمنُوا بِمَا كذبُوا بِهِ يَوْم الْمِيثَاق {كَذَلِك} هَكَذَا {نَجْزِي الْقَوْم الْمُجْرمين} الْمُشْركين بِالْهَلَاكِ(1/171)
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
{ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ} يَا أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {خَلاَئِفَ} استخلفناكم {فِي الأَرْض مِن بَعْدِهِم} من بعد هلاكهم {لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} مَاذَا تَعْمَلُونَ من الْخَيْر(1/171)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ} تقْرَأ على الْمُسْتَهْزِئِينَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وَأَصْحَابه {آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} مبينات بِالْأَمر وَالنَّهْي {قَالَ الَّذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} لَا يخَافُونَ الْبَعْث بعد الْمَوْت وهم مستهزئون {ائْتِ} يَا مُحَمَّد {بقرآن غير هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} غَيره فَاجْعَلْ آيَة الرَّحْمَة آيَة الْعَذَاب وَآيَة الْعَذَاب آيَة الرَّحْمَة {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {مَا يَكُونُ لي} مَا يجوز لي {أَنْ أُبَدِّلَهُ} أَن أغيره {مِن تِلْقَآءِ نَفسِي} من قبل نَفسِي {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ} مَا أَقُول وَمَا أعمل إِلَّا بِمَا يُوحى إِلَيّ فِي الْقُرْآن {إِنِّي أَخَافُ} أعلم {إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} فبدلته أَن يكون على {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} شَدِيد(1/171)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
{قُل} يَا مُحَمَّد {لَّوْ شَآءَ الله} أَن لَا أكون رَسُولا {مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} مَا قَرَأت الْقُرْآن عَلَيْكُم {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ} يَقُول وَلَا أعلمكُم بِهِ بِالْقُرْآنِ {فَقَدْ لَبِثْتُ} مكثت {فِيكُمْ عُمُراً} أَرْبَعِينَ سنة {مِّن قَبْلِهِ} من قبل الْقُرْآن وَلم أقل من هَذَا شَيْئا {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أفليس لكم ذهن الإنسانية أَنه لَيْسَ من تِلْقَاء نَفسِي(1/171)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
{فَمن أظلم} أَعْتَى وَأَجرا على الله {مِمَّن افترى} اختلق {عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بآياته} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} لَا ينجو وَلَا يَأْمَن {المجرمون} الْمُشْركُونَ من عَذَاب الله(1/171)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
{وَيَعْبُدُونَ} كفار مَكَّة {مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ} إِن لم يعبدوا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة {وَلاَ يَنفَعُهُمْ} إِن عبدُوا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَة {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ} يعنون الْأَوْثَان {شُفَعَاؤُنَا} يشفعون لنا {عِندَ الله قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {أَتُنَبِّئُونَ الله} أتخبرون الله {بِمَا لاَ يَعْلَمُ} أَن لَيْسَ {فِي السَّمَاوَات وَلاَ فِي الأَرْض} إِلَه ينفع أَو يضر غَيره {سُبْحَانَهُ} نزه نَفسه عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {وَتَعَالَى} ارْتَفع وتبرأ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} بِهِ من الْأَوْثَان(1/171)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
{وَمَا كَانَ النَّاس} فِي زمَان إِبْرَاهِيم وَيُقَال فِي زمن نوح {إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} على مِلَّة وَاحِدَة مِلَّة الْكفْر فَبعث الله النَّبِيين مبشرين ومنذرين {فَاخْتَلَفُوا} فصاروا مُؤمنين وكافرين {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ} بِتَأْخِير الْعَذَاب عَن هَذِه الْأمة {سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} وَجَبت من رَبك {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} لهلكوا {فِيمَا فِيهِ} فِي الدّين {يَخْتَلِفُونَ} يخالفون(1/171)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
{وَيَقُولُونَ} يَعْنِي كفار مَكَّة {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ} هلا أنزل على مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام {آيَة} عَلامَة(1/171)
{مِّن رَّبِّهِ} على مَا يَقُول {فَقُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنَّمَا الْغَيْب} بنزول الْآيَة {لِلَّهِ فانتظروا} هلاكي {إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} لهلاككم(1/172)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
{وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاس} أعطينا الْكفَّار {رَحْمَةً} نعْمَة {مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ} شدَّة {مَسَّتْهُمْ} أَصَابَتْهُم {إِذَا لَهُم مكر} تَكْذِيب {فِي آيَاتنَا} بِمُحَمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْقُرْآن {قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً} أَشد عُقُوبَة أهلكهم الله يَوْم بدر {إِنَّ رُسُلَنَا} الْحفظَة {يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} مَا تَقولُونَ من الْكَذِب وتعملون من الْمعاصِي(1/172)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ} يحفظكم إِذا سافرتم {فِي الْبر} على الدَّوَابّ {وَالْبَحْر} وَفِي الْبَحْر فِي السفن {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفلك} ركبتم فِي السفن {وَجَرَيْنَ بِهِم} جرت السفن بِأَهْلِهَا {بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} لينَة سَاكِنة {وَفَرِحُواْ بِهَا} أعجب الملاحون بِالرِّيحِ الساكنة {جَآءَتْهَا} أَي السفن {رِيحٌ عَاصِفٌ} قاصف شَدِيد {وَجَآءَهُمُ الموج} ركبهمْ الموج {مِن كُلِّ مَكَانٍ} نَاحيَة {وظنوا} علمُوا وأيقنوا {أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أهلكوا {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدّين} مفردين لَهُ بِالدُّعَاءِ {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِه} الرّيح والشدة {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} من الْمُؤمنِينَ المطيعين(1/172)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
{فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ} من الرّيح وَالْغَرق {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ} يتطاولون {فِي الأَرْض بِغَيْرِ الْحق} بِلَا حق {يَا أَيهَا النَّاس} يَا أهل مَكَّة {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ} ظلمكم وتطاولكم فِيمَا بَيْنكُم {على أَنفُسِكُمْ} جِنَايَته {مَّتَاعَ الْحَيَاة الدُّنْيَا} مَنَافِع الدُّنْيَا تفنى وَلَا تبقى {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ} بعد الْمَوْت {فَنُنَبِّئُكُمْ} نخبركم {بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وتقولون من الْخَيْر وَالشَّر(1/172)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاة الدُّنْيَا} فِي بَقَائِهَا وفنائها {كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء} يَعْنِي الْمَطَر {فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأَرْض} اخْتَلَط بنبات الأَرْض {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاس} الْحُبُوب وَالثِّمَار {والأنعام} العكوش من النَّبَات والحشيش {حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْض زُخْرُفَهَا} زينتها {وازينت} بالأحمر والأصفر والأخضر {وَظَنَّ أَهْلُهَآ} الحراثون {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ} على غلاتها {أَتَاهَآ أَمْرُنَا} عذابنا {لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} كَأَنَّمَا داست الْغنم فِي خفافها فأفسد زروع الزارعين {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} كحصيد الصَّيف {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالْأَمْس} لم تكن بالْأَمْس {كَذَلِك} هَكَذَا {نُفَصِّلُ الْآيَات} نبين الْقُرْآن فِي فنَاء الدُّنْيَا {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فِي أَمر الدُّنْيَا والاخرة(1/172)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{وَالله يَدْعُو} الْخلق بِالتَّوْحِيدِ {إِلَى دَارِ السَّلَام} وَالسَّلَام هُوَ الله وَالْجنَّة دَاره {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم} دين قَائِم يرضاه وَهُوَ الْإِسْلَام(1/172)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحسنى} وحدوا الْحسنى الْجنَّة {وَزِيَادَةٌ} يَعْنِي النّظر إِلَى وَجه الله وَيُقَال الزِّيَادَة فِي الثَّوَاب(1/172)
{وَلاَ يَرْهَقُ} لَا يَعْلُو {وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ} سَواد وَلَا كسوف {وَلاَ ذِلَّةٌ} وَلَا كآبة {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجنَّة} أهل الْجنَّة {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(1/173)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
{وَالَّذين كَسَبُواْ السَّيِّئَات} الشّرك بِاللَّه {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} يَقُول جَزَاء قصاص الشّرك بِاللَّه النَّار {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} تعلوهم كآبة وكسوف {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله} من عَذَاب الله {مِنْ عَاصِمٍ} من مَانع {كَأَنَّمَا} من الْحزن {أُغْشِيَتْ} ألبست {وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْل} من السوَاد {مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَاب النَّار} أهل النَّار {هم فِيهَا خَالدُونَ} دائمون(1/173)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} الْكفَّار وآلهتهم {جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ للَّذين أشركوا} بِاللَّه الْأَوْثَان {مَكَانكُمْ} قفوا {أَنْتُم وشركاؤكم} آلهكم {فَزَيَّلْنَا} فرقنا {بَيْنَهُمْ} وَبَين آلِهَتهم فَقَالَ الْكَافِرُونَ أمرنَا هَؤُلَاءِ أَن نعبدهم من دُونك {وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ} آلِهَتهم ردا عَلَيْهِم {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} بأمرنا فَقَالُوا بلَى أمرتمونا بعبادتكم(1/173)
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
فَقَالَت الْآلهَة {فَكفى بِاللَّه شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا} قد كُنَّا {عَنْ عِبَادَتِكُمْ} إيّانا {لَغَافِلِينَ} لجاهلين لم نعلم من ذَلِك شَيْئا(1/173)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
{هُنَالك} عِنْد ذَلِك {تبلو} تعلم وَإِن قَرَأت بِالتَّاءِ تَقول تقْرَأ {كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} مَا عملت من خير أَو شَرّ {وردوا إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الْحق} إلههم الْحق {وَضَلَّ عَنْهُمْ} بَطل عَنْهُم واشتغل عَنْهُم {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يعْبدُونَ بِالْكَذِبِ(1/173)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لكفار أهل مَكَّة {مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء} بالمطر {وَالْأَرْض} بالنبات وَالثِّمَار {أم من يَمْلِكُ السّمع والأبصار} يَقُول من يقدر أَن يخلق السّمع والأبصار {وَمَن يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيِّت} من يقدر أَن يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت يَعْنِي النَّسمَة وَالدَّوَاب من النُّطْفَة وَيُقَال الطير من الْبَيْضَة وَيُقَال السنبلة من الْحبّ {وَيُخْرِجُ الْمَيِّت مِنَ الْحَيّ} النُّطْفَة من النَّسمَة وَالدَّوَاب وَيُقَال الْبَيْضَة من الطير وَيُقَال الْحبَّة من السنبلة {وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمر} من يقدر أَن يدبر أَمر الْعباد وَينظر فِي أَمر الْعباد وَيبْعَث الْمَلَائِكَة بِالْوَحْي والتنزيل والمصيبة {فَسَيَقُولُونَ الله فَقُلْ} يَا مُحَمَّد {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} تطيعون الله(1/173)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
{فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ} فَالَّذِي يفعل ذَلِك هُوَ ربكُم {الْحق} هُوَ الْحق وعبادته الْحق {فَمَاذَا بَعْدَ الْحق إِلاَّ الضلال} فَمَاذَا عبادتكم بعد عبَادَة الله إِلَّا عبَادَة الشَّيْطَان {فَأنى تُصْرَفُونَ} من أَيْن تكذبون على الله(1/173)
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
{كَذَلِكَ} هَكَذَا {حَقَّتْ} وَجَبت {كَلِمَةُ رَبِّكَ} بِالْعَذَابِ {عَلَى الَّذين فسقوا} كفرُوا {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فِي علم الله(1/173)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ} من آلِهَتكُم {مَّن يَبْدَأُ الْخلق} من النُّطْفَة وَيجْعَل فِيهِ الرّوح {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد الْمَوْت يَوْم الْقِيَامَة فَإِن أجابوك وَإِلَّا ف {قُلِ الله يَبْدَأُ الْخلق} من النُّطْفَة {ثُمَّ يُعِيدُهُ} ثمَّ يحييه يَوْم الْقِيَامَة {فَأنى تُؤْفَكُونَ} فَمن أَيْن تكذبون وَيُقَال انْظُر يَا مُحَمَّد كَيفَ يصرفون بِالْكَذِبِ(1/173)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
{قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ} من آلِهَتكُم {مَّن يهدي إِلَى الْحق} وَالْهدى فَإِن أجابوك وَإِلَّا(1/173)
{قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} وَالْهدى {أَفَمَن يهدي إِلَى الْحق} وَالْهدى {أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ} أَن يعبد ويطاع {أم من لاَّ يهدي} إِلَى الْحق وَالْهدى {إِلاَّ أَن يهدى} يحمل فَيذْهب بِهِ حَيْثُ يَشَاء {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بئس مَا تقضون بِهِ لأنفسكم(1/174)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
{وَمَا يَتَّبِعُ} يعبد {أَكْثَرُهُمْ} آلِهَة {إِلاَّ ظَنّاً} إِلَّا بِالظَّنِّ {إِنَّ الظَّن} عِبَادَتهم بِالظَّنِّ {لاَ يُغْنِي مِنَ الْحق} من عَذَاب الله {شَيْئاً إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} فِي الشّرك من عبَادَة الْأَوْثَان وَغير ذَلِك(1/174)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآن} الَّذِي يقْرَأ عَلَيْكُم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {أَن يفترى} أَن يختلق {مِن دُونِ الله وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} مُوَافق للتوراة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور وَسَائِر الْكتب بِالتَّوْحِيدِ وَصفَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونعته {وَتَفْصِيلَ الْكتاب} تبيان الْقُرْآن بالحلال وَالْحرَام وَالْأَمر وَالنَّهْي {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لَا شكّ فِيهِ {مِن رَّبِّ الْعَالمين} من سيد الْعَالمين(1/174)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
{أَمْ يَقُولُونَ} بل يَقُولُونَ كفار مَكَّة {افتراه} اختلق مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُرْآن من تِلْقَاء نَفسه {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} مثل سُورَة الْقُرْآن {وَادعوا مَنِ اسْتَطَعْتُم} اسْتَعِينُوا على ذَلِك من عَبدْتُمْ {مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أَن مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يختلقه من تِلْقَاء نَفسه(1/174)
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} بِمَا لم يدْرك علمهمْ {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ} لم يَأْتهمْ {تَأْوِيلُهُ} عَاقِبَة مَا وعدهم فِي الْقُرْآن {كَذَلِكَ} كَمَا كَذبك قَوْمك بالكتب وَالرسل {كَذَّبَ الَّذين مِن قَبْلِهِمْ} بالكتب وَالرسل {فَانْظُر} يَا مُحَمَّد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمين} كَيفَ صَار آخر أَمر الْمُشْركين المكذبين بالكتب وَالرسل من عبَادَة الله شَيْئا وَيُقَال وَهَذَا تَعْزِيَة من الله عز وَجل لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كي يصبر على أذاهم(1/174)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
{وَمِنهُمْ} من الْيَهُود {مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن قبل مَوته {وَمِنْهُمْ} من الْيَهُود {مَّن لَا يُؤمن بِهِ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن وَيَمُوت على الْكفْر {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} باليهود بِمن يُؤمن وبمن لَا يُؤمن وَيُقَال نزلت هَذِه الْآيَة فِي الْمُشْركين(1/174)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
{وَإِن كَذَّبُوكَ} يَا مُحَمَّد قَوْمك بِمَا تَقول لَهُم {فَقُل لِّي عَمَلِي} وديني {وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} ودينكم {أَنْتُم بريئون مِمَّا أعمل} وأدين {وَأَنا بَرِيء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} وتدينون(1/174)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
{وَمِنْهُمْ} من الْيَهُود {مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} إِلَى كلامك وحديثك وَيُقَال من مُشْركي الْعَرَب من يستمع إِلَى كلامك وحديثك {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ} يَا مُحَمَّد {الصم} من كَأَنَّهُ أَصمّ {وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} وَمَعَ ذَلِك لَا يُرِيدُونَ أَن يعقلوا(1/174)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
{وَمِنهُمْ} من الْيَهُود وَيُقَال من الْمُشْركين {مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي} ترشد إِلَى الْهدى {الْعمي} من كَأَنَّهُ أعمى {وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} وَمَعَ ذَلِك لَا يُرِيدُونَ أَن يبصروا الْحق وَالْهدى(1/174)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
{إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ النَّاس شَيْئاً} لَا ينقص من حسناتهم وَلَا يزِيد على سيئاتهم {وَلَكِن النَّاس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالْكفْر والشرك والمعاصي(1/174)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} يَعْنِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكين {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا} فِي الْقُبُور {إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَار يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} يعرف بَعضهم بَعْضًا فِي بعض المواطن وَلَا يعرف بَعضهم بَعْضًا فِي بعض المواطن {قَدْ خَسِرَ} غبن {الَّذين كَذَّبُواْ بلقاء الله}(1/174)
بِالْبَعْثِ بعد الْمَوْت بذهاب الدُّنْيَا وَالْآخِرَة {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} من الْكفْر والضلالة(1/175)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} يَا مُحَمَّد {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} من الْعَذَاب {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل أَن نرينك يَا مُحَمَّد مَا نعدهم من الْعَذَاب {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} بعد الْمَوْت {ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} من الْخَيْر وَالشَّر(1/175)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} لكل أهل دين {رَّسُولٌ} يَدعُوهُم إِلَى الله وَإِلَى دينه {فَإِذَا جَآءَ} هم {رَسُولُهُمْ} فكذبوا {قُضِيَ بَيْنَهُمْ} وَبَين الرَّسُول {بِالْقِسْطِ} بِالْعَدْلِ بِهَلَاك الْقَوْم وَنَجَاة الرَّسُول {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لَا ينقص من حسناتهم وَلَا يُزَاد على سيئاتهم(1/175)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
{وَيَقُولُونَ} وَقَالَ كل أهل دين لرسولهم {مَتى هَذَا الْوَعْد} الَّذِي تعدنا {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} إِن كنت من الصَّادِقين(1/175)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
{قُل} لَهُم يَا مُحَمَّد {لاَّ أَمْلِكُ} لَا أقدر {لِنَفْسِي ضَرّاً} دفع الضّر {وَلاَ نَفْعاً} وَلَا جر النَّفْع {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} من الضّر والنفع {لِكُلِّ أُمَّةٍ} لكل أهل دين {أَجَلٌ} مهلة وَوقت {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} وَقت هلاكهم {فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} قدر سَاعَة بعد الْأَجَل {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} قبل الْأَجَل(1/175)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} عَذَاب الله {بَيَاتاً} لَيْلًا {أَوْ نَهَاراً} كَيفَ تَصْنَعُونَ {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ} بِمَاذَا يستعجل {مِنْهُ} من عَذَاب الله {المجرمون} الْمُشْركُونَ(1/175)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
قَالُوا نؤمن قُلْ لَهُم يَا مُحَمَّد {أَثُمَّ إِذا مَا وَقع} يَقُول إِذا مَا أنزل عَلَيْكُم الْعَذَاب {آمَنْتُمْ بِهِ} قَالُوا نعم قُلْ لَهُم يَا مُحَمَّد يُقَال لكم {الآنَ} تؤمنون بِالْعَذَابِ {وَقَدْ كُنتُم بِهِ} بِالْعَذَابِ {تَسْتَعْجِلُونَ} قبل هَذَا استهزاء بِهِ(1/175)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} أشركوا {ذُوقُواْ عَذَابَ الْخلد هَلْ تُجْزَوْنَ} فِي الْآخِرَة {إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} تَقولُونَ وتعملون فِي الدُّنْيَا(1/175)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} يستخبرونك يَا مُحَمَّد {أَحَقٌّ هُوَ} يَعْنِي الْعَذَاب وَالْقُرْآن {قُلْ إِي وربي} نعم وربي {إِنَّهُ لَحَقٌّ} صدق كَائِن يَعْنِي الْعَذَاب {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} بفائتين من عَذَاب الله(1/175)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} أشركت بِاللَّه {مَا فِي الأَرْض} لاَفْتَدَتْ بِهِ لفادت بِهِ نَفسهَا من عَذَاب الله {وَأَسَرُّواْ الندامة} أخفوا الندامة الرؤساء من السفلة {لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَاب} حِين رَأَوْا الْعَذَاب {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} وَبَين السفلة {بِالْقِسْطِ} وَالْعدْل {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لَا ينقص من حسناتهم شَيْء وَلَا يُزَاد على سيئاتهم(1/175)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)
{أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات وَالْأَرْض} من الْخلق والعجائب {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} كَائِن الْبَعْث بعد الْمَوْت {وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} لَا يصدقون(1/175)
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
{هُوَ يُحْيِي} للبعث {وَيُمِيتُ} فِي الدُّنْيَا {وَإِلَيْهِ ترجعون} بعد الْمَوْت(1/175)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
{يَا أَيُّهَا النَّاس} يَا أهل مَكَّة {قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ} نهي {مِّن رَّبِّكُمْ} مِمَّا أَنْتُم فِيهِ {وَشِفَآءٌ} بَيَان {لِّمَا فِي الصُّدُور} من الْعَمى {وَهُدًى} من الضَّلَالَة {وَرَحْمَةٌ} من الْعَذَاب {للْمُؤْمِنين}(1/175)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد لأصحابك {بِفَضْلِ الله} الْقُرْآن الَّذِي أكْرمكُم بِهِ {وَبِرَحْمَتِهِ} الْإِسْلَام الَّذِي وفقكم بِهِ {فَبِذَلِكَ} بِالْقُرْآنِ وَالْإِسْلَام {فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ} يَعْنِي الْقُرْآن وَالْإِسْلَام {مِّمَّا يَجْمَعُونَ} مِمَّا يجمع الْيَهُود وَالْمُشْرِكُونَ من الْأَمْوَال(1/176)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
{قل} يَا مُحَمَّد لأهل مَكَّة {أَرَأَيْتُم مآ أَنزَلَ الله لَكُمْ} مَا خلق الله لكم {مِّن رِّزْقٍ} من حرث وأنعام {فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ} فقلتم وفعلتم {حَرَاماً} على النِّسَاء مَنْفَعَتهَا يَعْنِي مَنْفَعَة الْبحيرَة والسائبة والحام {وَحَلاَلاً} للرِّجَال {قُلْ} لَهُم يَا مُحَمَّد {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} أَمر ربكُم بذلك {أَمْ عَلَى الله} بل على الله {تَفْتَرُونَ} تختلقون الْكَذِب(1/176)
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
{وَمَا ظَنُّ الَّذين يَفْتَرُونَ} يختلقون {عَلَى الله الْكَذِب} مَاذَا يفعل بهم {يَوْمَ الْقِيَامَة إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} منٍّ {عَلَى النَّاس} بِتَأْخِير الْعَذَاب {وَلَكِن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} بذلك وَلَا يُؤمنُونَ(1/176)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
{وَمَا تكون} {فِي شَأْن} فِي أَمر {وَمَا تتلو} عَلَيْهِم {مِنْهُ مِن قُرْآنٍ} سُورَة أَو آيَة {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} خير أَو شَرّ {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ} وعَلى أَمركُم وتلاوتكم وعملكم {شُهُوداً} عَالما {إِذْ تُفِيضُونَ} تخوضون {فِيهِ} فِي الْقُرْآن بالتكذيب {وَمَا يَعْزُبُ} مَا يغيب {عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ} وزن نملة حَمْرَاء من أَعمال الْعباد {فِي الأَرْض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِك} وَلَا أخف من ذَلِك {وَلَا أَكْبَرَ} وَلَا أثقل {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} مَكْتُوب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ(1/176)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله} الْمُؤمنِينَ {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِم} فِيمَا يستقبلهم من الْعَذَاب {وَلَا هم يَحْزَنُونَ} على مَا خلفوا من خَلفهم(1/176)
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
ثمَّ بَين من هم فَقَالَ {الَّذين آمنُوا} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الْكفْر والشرك وَالْفَوَاحِش(1/176)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} بالرؤيا الصَّالِحَة يرونها أَو ترى لَهُم {وَفِي الْآخِرَة} بِالْجنَّةِ {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله} بِالْجنَّةِ {ذَلِك} الْبُشْرَى {هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم} النجَاة الوافرة فازوا بِالْجنَّةِ وَمَا فِيهَا ونجوا من النَّار وَمَا فِيهَا(1/176)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
{وَلاَ يَحْزُنكَ} يَا مُحَمَّد {قَوْلُهُمْ} تكذيبهم إياك {إِنَّ الْعِزَّة} وَالْقُدْرَة والمنعة {لِلَّهِ جَمِيعاً} بهلاكهم {هُوَ السَّمِيع} لمقالتهم {الْعَلِيم} بفعلهم وعقوبتهم(1/176)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
{أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الأَرْض} من لخلق يحولهم كَيفَ يَشَاء {وَمَا يَتَّبِعُ} يعبد {الَّذين يَدْعُونَ} يعْبدُونَ {مِن دُونِ الله شُرَكَآءَ} آلِهَة من الْأَوْثَان {إِن يَتَّبِعُونَ} مَا يعْبدُونَ {إِلاَّ الظَّن} إِلَّا بِالظَّنِّ بِغَيْر يَقِين {وَإِنْ هُمْ} مَا هم يَعْنِي الرؤساء {إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يكذبُون للسفلة(1/176)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
{هُوَ الَّذِي} أَي إِلَهكُم هُوَ الَّذِي {جَعَلَ لَكُمُ} خلق لكم {اللَّيْل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} لتستقروا فِيهِ {وَالنَّهَار مُبْصِراً} مضيئاً للذهاب والمجيء {إِنَّ فِي ذَلِك} فِيمَا ذكرت {لآيَاتٍ} لعبرات {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} مواعظ الْقُرْآن ويطيعون(1/176)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
{قَالُواْ} كفار مَكَّة {اتخذ الله وَلَداً} من الْمَلَائِكَة الْإِنَاث {سُبْحَانَهُ} نزه نَفسه عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {هُوَ الْغَنِيّ} عَن الْوَلَد وَالشَّرِيك {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض} من الْخلق والعجائب {إِن عنْدكُمْ} ماعندكم {من سُلْطَان} من كتاب وَلَا حجَّة {بِهَذَا} بِمَا تَقولُونَ على الله من الْكَذِب {أَتقُولُونَ عَلَى الله} بل تَقولُونَ على الله {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ذَلِك من الْكَذِب(1/177)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
{قُلْ} يَا مُحَمَّد {إِنَّ الَّذين يَفْتَرُونَ} يَخْتَلِفُونَ {على الله الْكَذِب لَا يفلحون} لَا ينجون من عَذَاب الله وَلَا يأمنون(1/177)
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} يعيشون فِي الدُّنْيَا قَلِيلا {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} بعد الْمَوْت {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَاب الشَّديد} الغليظ {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن ويكذبون على الله(1/177)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
{واتل عَلَيْهِمْ} اقْرَأ عَلَيْهِم {نَبَأَ} خبر {نُوحٍ} بِالْقُرْآنِ {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ} عظم عَلَيْكُم {مَّقَامِي} طول مقَامي ومكاني {وَتَذْكِيرِي} وتحذيري إيَّاكُمْ {بِآيَاتِ الله} من عَذَاب الله {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} وثقت وفوضت أَمْرِي إِلَى الله {فَأَجْمعُوا أَمْرَكُمْ} فَاجْتمعُوا على قَول وَأمر وَاحِد {وَشُرَكَآءَكُمْ} اسْتَعِينُوا بآلهتكم {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} لَا تلبسوا أَمركُم وقولكم على أَنفسكُم {ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ} امضوا إِلَيّ {وَلاَ تُنظِرُونَ} وَلَا ترقبون(1/177)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عَن الْإِيمَان بِمَا جِئتُكُمْ بِهِ {فَمَا سَأَلْتُكُمْ} عَن الْإِيمَان {مِّنْ أَجْرٍ} من جعل {إِنْ أَجْرِيَ} مَا ثوابي بِمَا دعوتكم إِلَى الْإِيمَان {إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسلمين} مَعَ الْمُسلمين على دينهم(1/177)
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{فَكَذَّبُوهُ} يَعْنِي نوحًا بِمَا أَتَاهُم {فَنَجَّيْنَاهُ} من الْغَرق {وَمَن مَّعَهُ} من الْمُؤمنِينَ {فِي الْفلك} فِي السَّفِينَة {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} خلفاء وسكان الأَرْض {وأغرقنا الَّذين كذبُوا بآياتنآ} بكتابنا ورسولنا نوح {فَانْظُر} يَا مُحَمَّد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذرين} كَيفَ صَار آخر أَمر الَّذين أنذرتهم الرُّسُل فَلم يُؤمنُوا(1/177)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} من بعد هَلَاك قوم نوح {رسلًا إِلَى قَومهمْ فجاؤوهم بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْأَمر وَالنَّهْي والعلامات {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} ليصدقوا {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} من قبل يَوْم الْمِيثَاق {كَذَلِكَ} هَكَذَا {نَطْبَعُ} نختم {على قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ} من الْحَلَال وَالْحرَام(1/177)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ} من بعد هَؤُلَاءِ الرُّسُل {مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} رؤسائه {بِآيَاتِنَا} بكتابنا وَيُقَال بِآيَاتِنَا التسع الْيَد والعصا والطوفان وَالْجَرَاد وَالْقمل والضفادع وَالدَّم والسنين وَنقص من الثمرات وَيُقَال الطمس {فاستكبروا} عَن الْإِيمَان بِالْكتاب وَالرَّسُول والآيات {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} مُشْرِكين(1/177)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
{فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحق مِنْ عِندِنَا} الْكتاب وَالرَّسُول والآيات {قَالُوا إِنَّ هَذَا}(1/177)
الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى {لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} كذب بيِّن وَإِن قَرَأت بِالْألف أَرَادوا بِهِ مُوسَى ساحرا كذابا(1/178)
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
{قَالَ} لَهُم {مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ} الْكتاب وَالرَّسُول والآيات {لَمَّا جَآءَكُمْ} حِين جَاءَكُم {أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ} لَا ينجو وَلَا يَأْمَن {الساحرون} من عَذَاب الله(1/178)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
{قَالُوا} لمُوسَى {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} لتصرفنا {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} من عبَادَة الْأَوْثَان {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء} الْملك وَالسُّلْطَان {فِي الأَرْض} فِي أَرض مصر {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} بمصدقين(1/178)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} حاذق(1/178)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
{فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَة قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} من العصي والحبال(1/178)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
{فَلَمَّآ أَلْقُواْ} عصيهم وحبالهم {قَالَ} لَهُم {مُوسَى مَا جئْتُمْ بِهِ} مَا طرحتم {أَسحر} هُوَ السحر {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} سيهلكه {إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ} لَا يرضى {عَمَلَ المفسدين} الساحرين(1/178)
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
{وَيُحِقُّ الله} يظْهر الله لدينِهِ {الْحق بِكَلِمَاتِهِ} بتحقيقه {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} وَإِن كره الْمُشْركُونَ أَن يكون ذَلِك(1/178)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
{فَمَآ آمَنَ} فَمَا صدق {لمُوسَى} بِمَا جَاءَ بِهِ {إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} من قوم فِرْعَوْن كَانَ آباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إِسْرَائِيل فآمنوا بمُوسَى {على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ} رُؤَسَائِهِمْ {أَن يَفْتِنَهُمْ} أَن يقتلهُمْ {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ} لمخالف {فِي الأَرْض} لدين مُوسَى {وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} الْمُشْركين(1/178)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)
{وَقَالَ مُوسَى يَا قوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّه فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} إِذْ كُنْتُم مُسلمين(1/178)
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
{فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمين} الْمُشْركين أَي لَا تسلطهم علينا فيظنون أَنهم على الْحق وَنحن على الْبَاطِل(1/178)
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْم الْكَافرين} من فِرْعَوْن وَقَومه(1/178)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
{وأوحينا إِلَى مُوسَى وأخيه} هَارُون {أَن تبوآ} أَن اتخذا {لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} مَسَاجِد فِي جَوف فِي الْبَيْت {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ} مَسَاجِدكُمْ {قِبْلَةً} نَحْو الْقبْلَة {وَأَقِيمُواْ الصَّلَاة} أَتموا الصَّلَوَات الْخمس {وَبَشِّرِ الْمُؤمنِينَ} بالنصرة والنجاة وَالْجنَّة(1/178)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ} يَا رَبنَا {إِنَّكَ آتَيْتَ} أَعْطَيْت {فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ} رؤساءه {زِينَةً} زهرَة {وَأَمْوَالاً} كَثِيرَة {فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا رَبَّنَا} يَا رَبنَا {لِيُضِلُّواْ} بذلك عِبَادك {عَن سَبِيلِكَ} عَن دينك وطاعتك {رَبَّنَا اطْمِسْ على أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ على قُلُوبهم}(1/178)
واحفظ قُلُوبهم {فَلاَ يُؤْمِنُواْ} فَلَنْ يُؤمنُوا {حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَاب الْأَلِيم} الْغَرق(1/179)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
{قَالَ} الله لمُوسَى وهرون {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما} على الْإِيمَان وَالطَّاعَة لله وتبليغ الرسَالَة {وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ} دين {الَّذين لاَ يَعْلَمُونَ} تَوْحِيد الله لَا يصدقونه يَعْنِي فِرْعَوْن وَقَومه(1/179)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
{وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ} عبرنا {الْبَحْر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} فَذهب خَلفهم فِرْعَوْن وجموعه {بَغْياً} فِي الْمقَالة {وَعَدْواً} أَرَادوا قَتلهمْ {حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ} ألْجمهُ {الْغَرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنت بِهِ بَنو إِسْرَائِيلَ} مُوسَى وَأَصْحَابه {وَأَنَاْ مِنَ الْمُسلمين} مَعَ الْمُسلمين على دينهم(1/179)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل {آلآنَ} أَن تؤمن بعد الْغَرق {وَقَدْ عَصَيْتَ} كفرت بِاللَّه {قَبْلُ} أَي من قبل الْغَرق {وَكُنتَ مِنَ المفسدين} فِي أَرض مصر بِالْقَتْلِ والشرك وَالدُّعَاء إِلَى غير عبَادَة الله(1/179)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
{فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} نلقيك على النجَاة بدرعك {لِتَكُونَ} لكَي تكون {لِمَنْ خَلْفَكَ} من الْكفَّار {آيَةً} عِبْرَة لكَي لَا يقتدوا بمقالتك ويعلموا أَنَّك لست بإله {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاس} يَعْنِي الْكفَّار {عَنْ آيَاتِنَا} عَن كتَابنَا ورسولنا {لغافلون} لجاحدون(1/179)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا} أنزلنَا {بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} أَرضًا كَرِيمَة أردن وفلسطين {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَات} الْمَنّ والسلوى والغنائم {فَمَا اخْتلفُوا} الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن {حَتَّى جَآءَهُمُ الْعلم} الْبَيَان مَا فِي كِتَابهمْ فِي مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بنعته وَصفته {إِنَّ رَبَّكَ} يَا مُحَمَّد {يَقْضِي بَيْنَهُمْ} بَين الْيَهُود وَالنَّصَارَى {يَوْمَ الْقِيَامَة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ} فِي الدّين {يَخْتَلِفُونَ} يخالفون(1/179)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
{فَإِن كُنتَ} يَا مُحَمَّد {فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} مِمَّا أنزلنَا جِبْرِيل بِهِ يَعْنِي الْقُرْآن {فاسأل الَّذين يقرؤون الْكتاب} يَعْنِي التَّوْرَاة {مِن قَبْلِكَ} عبد الله بن سَلام وَأَصْحَابه فَلم يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن بذلك شاكاً إِنَّمَا أَرَادَ الله بِمَا قَالَ لِقَوْمِهِ {لَقَدْ جَآءَكَ} يَا مُحَمَّد {الْحق مِن رَّبِّكَ} يَعْنِي جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ من رَبك فِيهِ خبر الْأَوَّلين {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} الشاكين(1/179)
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
{وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} كتاب الله وَرَسُوله {فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين} من المغبونين بِنَفْسِك(1/179)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)
{إِنَّ الَّذين حَقَّتْ} وَجَبت {عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} بِالْعَذَابِ {لاَ يُؤْمِنُونَ} فِي علم الله(1/179)
وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
{وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} طلبُوا مِنْك فَلَا يُؤمنُوا {حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَاب الْأَلِيم} يَوْم بدر وَيَوْم أحد وَيَوْم الْأَحْزَاب(1/179)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
{فَلَوْلاَ كَانَتْ} هلا كَانَت {قَرْيَةٌ آمَنَتْ} أهل قَرْيَة آمَنت عِنْد نزُول الْعَذَاب {فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا} يَقُول لم ينفع إِيمَانهم عِنْد نزُول الْعَذَاب {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} نفع إِيمَانهم {لَمَّآ آمَنُواْ} حِين آمنُوا {كَشَفْنَا} صرفنَا {عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي}(1/179)
الشَّديد {فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} تركناهم بِلَا عَذَاب إِلَى حِين الْمَوْت(1/180)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ} يَا مُحَمَّد {لآمَنَ مَن فِي الأَرْض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} جَمِيع الْكفَّار {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاس} تجبر النَّاس {حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}(1/180)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ} كَافِرَة {أَن تُؤْمِنَ} بِاللَّه {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} بِإِرَادَة الله وتوفيقه {وَيَجْعَلُ الرجس} يتْرك التَّكْذِيب {عَلَى الَّذين} فِي قُلُوب الَّذين {لاَ يَعْقِلُونَ} تَوْحِيد الله نزلت هَذِه الْآيَة فِي شَأْن أبي طَالب حرص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على إيمَانه وَلم يرد الله أَن يُؤمن(1/180)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
{قُلِ} لَهُم يَا مُحَمَّد {انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَات} من الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم {وَالْأَرْض} وماذا فِي الأَرْض من الشّجر وَالدَّوَاب وَالْجِبَال والبحار كلهَا آيَة لكم ثمَّ قَالَ {وَمَا تُغْنِي الْآيَات وَالنّذر} الرُّسُل {عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} فِي علم الله(1/180)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
{فَهَلْ يَنتَظِرُونَ} فَهَل بَقِي لَهُم آيَة {إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذين خَلَوْاْ} عَذَاب الَّذين مضوا {مِن قَبْلِهِمْ} من الْكفَّار {قُلْ} يَا مُحَمَّد {فانتظروا} بنزول الْعَذَاب وبهلاكي {إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} بنزول الْعَذَاب عَلَيْكُم وبهلاككم(1/180)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
{ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذين آمَنُواْ} بالرسل بعد هَلَاك قَومهمْ {كَذَلِكَ} هَكَذَا {حَقّاً} وَاجِبا {عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤمنِينَ} مَعَ الرُّسُل(1/180)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
{قل} يَا مُحَمَّد {يَا أَيهَا النَّاس} يَا أهل مَكَّة {إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} الْإِسْلَام {فَلاَ أَعْبُدُ الَّذين تَعْبُدُونَ} تدعون {مِن دُونِ الله} من الْأَوْثَان {وَلَكِن أَعْبُدُ الله الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} يقبض أرواحكم ثمَّ يُحْيِيكُمْ بعد أَن يميتكم {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤمنِينَ} مَعَ الْمُؤمنِينَ على دينهم(1/180)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أخْلص دينك وعملك لله {حَنِيفاً} مُسلما {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْركين} مَعَ الْمُشْركين على دينهم(1/180)